الفصول المفيدة في الواو المزيدة

29 - فصل - النَّوْع الرَّابِع من أَقسَام الْوَاو

الْوَاو الَّتِي ينْتَصب الْفِعْل الْمُضَارع بعْدهَا

وَذَلِكَ على وَجْهَيْن
الْوَجْه الأول فِي جَوَاب الْأَمر وَالدُّعَاء وَالنَّهْي وَالنَّفْي والاستفهام وَالْعرض والتحضيض وَالتَّمَنِّي وَزَاد ابْن مَالك وَغَيره الترجي أَيْضا وَبَعْضهمْ لَا يعدها إِلَّا سِتَّة فَيجْعَل الدُّعَاء دَاخِلا فِي الْأَمر والترجي فِي التَّمَنِّي والتحضيض دَاخِلا فِي الْعرض والبسط على وَجه الايضاح وَقد ينْتَصب الْفِعْل بعد الْوَاو أَيْضا فِي غير هَذِه فَألْحق بهَا وَسَيَأْتِي فِي الْوَجْه الثَّانِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَذكر أَئِمَّة العربة أَن الْفِعْل ينْتَصب بعد الْوَاو فِي جَوَاب هَذِه الْأُمُور إِذا كَانَت الْوَاو بِمَعْنى الْجمع وَلَيْسَ مُرَادهم بذلك الْجمع الَّذِي يُرَاد فِي بَاب الْعَطف من أَن الْوَاو تشرك الثَّانِي فِي معنى الأول وَلَكِن الْمَقْصُود بِهِ معنى الِاجْتِمَاع بَين الْأَمريْنِ مَعَ قطع النّظر عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا وَتَكون الْوَاو بِمَعْنى مَعَ فَإِن كَانَ مَا قبل الْوَاو طلبا أَو مَا فِي مَعْنَاهُ فَالْمُرَاد بِالْوَاو أَن يجْتَمع مَا قبلهَا مَعَ مَا بعْدهَا وَإِن كَانَ نفيا أَو مَا فِي مَعْنَاهُ فَالْمُرَاد أَلا يجْتَمع مَا قبلهَا مَعَ مَا بعْدهَا

(1/207)


وَضبط ابْن عُصْفُور وَغَيره ذَلِك بِأَن يتَعَذَّر الْعَطف بِالْوَاو لمُخَالفَة الْفِعْل الَّذِي بعْدهَا للْفِعْل الَّذِي قبلهَا فِي الْمَعْنى وَهَذَا يتَبَيَّن ببسط الْأَمْثِلَة على الْأَنْوَاع الَّتِي ذَكرنَاهَا
فمثال الْأَمر قَوْلك زرني وأزورك بِالنّصب إِذا أردْت لتجتمع الزيارتان مني ومنك قَالَ الشَّاعِر
(فَقلت أَدعِي وأدعو إِن أندى ... لصوت أَن يُنَادي داعيان)
بِنصب أَدْعُو لِأَن مُرَاده ليجتمع الدعاءان وَالْبَيْت أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ وَعَزاهُ إِلَى ربيعَة بن جشم وَقيل للأعشى وَقيل لغيره وَمعنى أندى أبعد صَوتا والنداء بعد الصَّوْت
ومثاله من الدُّعَاء اللَّهُمَّ ارزقني مَالا وتوفقني لعمل الْخَيْر فِيهِ أَي اجْمَعْ لي بَينهمَا وَهُوَ كالأمرسواء
وَلَا فرق فِي الدُّعَاء بَين أَن يكون بِصِيغَة افْعَل أَو بِالْفِعْلِ الْمَاضِي أَو الْمُضَارع إِذا أُرِيد بِهِ الدُّعَاء مثل غفر الله لزيد ويدخله الْجنَّة إِذا أُرِيد الْجمع بَينهمَا وَلِهَذَا قَالَ ابْن مَالك فِي التسهيل أَو دُعَاء بِفعل أصيل فِي ذَلِك ليشْمل الْقسمَيْنِ
وَشرط ابْن عُصْفُور أَلا يكون الدُّعَاء مناقضا مثل ليغفر الله لزيد وَيقطع

(1/208)


يَده قَالَ لِأَن الأول دُعَاء لَهُ وَالثَّانِي دُعَاء عَلَيْهِ فَلم يجز النصب
وَمِثَال النَّهْي قَوْلهم لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن بِنصب تشرب لِأَنَّك نهيته عَن الْجمع بَينهمَا وَله أَن يفعل كل وَاحِد على انْفِرَاده وَأَن لَا يفعل شَيْئا أصلا وَلَو أردْت النَّهْي عَن كل مِنْهُمَا بمفرده لعطفت وجزمت الثَّانِي وَلَو رفعت تشرب لَكَانَ الْوَاو وَاو الْحَال وَيكون الْمَعْنى قَرِيبا من النصب لَكِن فِيهِ قدر زَائِد عَن النصب لِأَن مُقْتَضى الْحَال التَّلَبُّس بالفعلين فِي آن وَاحِد وَالنَّهْي عَن الْجمع إِذا نصبت أَعم من أَن يكون تناولهما مَعًا أَو يتعاقبا لما فِي ذَلِك من الْفساد وَالضَّرَر وَمِنْه مَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ للأخطل
(لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله ... عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم)
قَالَ سِيبَوَيْهٍ فَلَو دخلت الْفَاء هَا هُنَا لأفسدت الْمَعْنى وَإِنَّمَا أَرَادَ لَا يجمع النَّهْي والاتيان
وَذكر غَيره عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ لم أسمع هَذَا الْبَيْت إِلَّا وَتَأْتِي بِإِسْكَان الْيَاء

(1/209)


فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون الْوَاو للْحَال وَتَقْدِيره وَأَنت تَأتي مثله لِأَن وَاو الْحَال يطْلب الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَالْمعْنَى فِي الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِد فَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى {أتأمرون النَّاس بِالْبرِّ وتنسون أَنفسكُم}
وَلَا يلْزم على هَذَا قَول الْمُعْتَزلَة إِن النَّهْي عَن الْمُنكر إِنَّمَا يُخَاطب بِهِ من هُوَ غير متلبس بِمَعْصِيَة وَكَذَلِكَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْي هُنَا عَن الْجمع بَين النَّهْي عَن الشَّيْء وإتيان مثله إِنَّمَا هُوَ لبشاعة ذَلِك وَغلظ العتاب عَلَيْهِ لقِيَام الْحجَّة على ذَلِك الْفَاعِل فِي كَونه ينْهَى عَن الشَّيْء ثمَّ هُوَ يَأْتِي مثله كَمَا قَالَ شُعَيْب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم عَنهُ} لِأَن ذَلِك لَا يَصح إِلَّا من منته عَن ذَلِك الْمنْهِي عَنهُ
وَيحْتَمل أَن لَا يقدر مُبْتَدأ على رِوَايَة الرّفْع بل يكون ذَلِك على مَا تقدم من الِاكْتِفَاء فِي الْفِعْل الْمُضَارع الْمُثبت إِذا وَقع حَالا بِالْوَاو وَحدهَا كَمَا فِي الْبَيْت الْمُتَقَدّم
(نجوت وأرهنهم مَالِكًا ... )
لكنه شَاذ كَمَا تقدم فتقدير الْمُبْتَدَأ أولى
أَو يحْتَمل إسكان الْيَاء على ضَرُورَة الشّعْر مَعَ أَن رِوَايَة النصب صَحِيحَة لنقل سِيبَوَيْهٍ إِيَّاهَا وَهَذَا الْبَيْت نسبه أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام إِلَى أبي

(1/210)


المتَوَكل الْكِنَانِي وَقَالَ جمَاعَة إِن الصَّحِيح نسبه إِلَى أبي الْأسود الدؤَلِي واسْمه ظَالِم بن عَمْرو وَهُوَ من جملَة قصيدة لَهُ مَشْهُورَة أَولهَا
(تلقى اللبيب محسدا لم يجترم ... عرض الرِّجَال وَعرضه مثلوم)
(حسدوا الْفَتى إِذْ لم ينالوا سَعْيه ... فالقوم أَعدَاء لَهُ وخصوم)
(كضرائر الْحَسْنَاء قُلْنَ لوجهها ... حسدا وبغيا إِنَّه لذميم)
(وَإِذا عتبت على الصّديق ولمته ... فِي مثل مَا تَأتي فَأَنت مليم)
(وابدأ بِنَفْسِك وانهها عَن غيها ... فَإِذا انْتَهَت عَنهُ فَأَنت حَكِيم)

(1/211)


(فهناك يسمع مَا تَقول ويقتدى ... بالْقَوْل مِنْك وينفع التَّعْلِيم)
(لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله ... عَار عَلَيْك إِذا فعلت عَظِيم)
(وَإِذا طلبت إِلَى كريم حَاجَة ... فلقاؤه وَيَكْفِيك وَالتَّسْلِيم)
(وَإِذا طلبت إِلَى لئيم حَاجَة ... فألح فِي رزق وَأَنت مديم)
(والزم قبالة بَابه وخبائه ... بأشد مَا لزم الْغَرِيم غَرِيم)
(وَعَجِبت للدنيا وحرقة أَهلهَا ... والرزق فِيهَا بَينهم مقسوم)
(ثمَّ انْقَضى عجبي لعلمي أَنه ... رزق مواف وقته مَعْلُوم)
وَأما النَّفْي فقد مثله سِيبَوَيْهٍ بقَوْلهمْ لَا يسعني شَيْء ويعجز عَنْك وَيَقُول دُرَيْد بن الصمَّة
(قتلت بِعَبْد الله خير لداته ... ذؤابا فَلم أَفْخَر بِذَاكَ وأجزعا)
أَي لم يجْتَمع الْفَخر مَعَ الْجزع وَلَا يجْتَمع فِي شَيْء وَاحِد أَنه يسعني مَعَ أَنه عَاجز عَنْك وَكثير من مسَائِل نصب الْفِعْل بعد الْوَاو فِي هَذِه الْأَنْوَاع يجوز رَفعه على إِرَادَة الْعَطف أَو الْقطع والاستئناف وَلَا يجوز شَيْء من ذَلِك هُنَا فِي

(1/212)


قَوْلهم لَا يسعني شَيْء ويعجز عَنْك لِأَنَّك إِذا رفعت يكون التَّقْدِير لَا يسعني شَيْء وَلَا يعجز عَنْك شَيْء وَفَسَاد هَذَا مَعْلُوم وَأما على الْقطع والاستئناف فَيكون التَّقْدِير لَا يسعني شَيْء وَهُوَ يعجز عَنْك وَهُوَ أَيْضا فَاسد لِأَن معنى الْكَلَام لَا يسعني شَيْء مَعَ أَنه يعجز عَنْك بل يسعنى ويسعك مَقْصُوده بَيَان أَنَّهُمَا كَالرّجلِ الْوَاحِد
قَالَ سِيبَوَيْهٍ وَسَمعنَا من ينشد هَذَا الْبَيْت وَهُوَ لكعب الغنوي
(وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي لَيْسَ نافعي ... ويغضب مِنْهُ صَاحِبي بقؤول)
يَعْنِي بِنصب يغْضب قَالَ وَالرَّفْع أَيْضا جَائِز حسن كَمَا قَالَ قيس بن زُهَيْر
(فَلَا يدعني قومِي صَرِيحًا لحرة ... لَئِن كنت مقتولا وَيسلم عَامر)

(1/213)


وَقد اعْترض الْمبرد وَجَمَاعَة كَثِيرُونَ بعده على سِيبَوَيْهٍ فِي تَجْوِيز النصب فِي ويغضب فِي الْبَيْت الأول لِأَنَّهُ صلَة الَّذِي وَهُوَ مَعْطُوف على مَوضِع لَيْسَ فَالْوَجْه فِيهِ الرّفْع وَتَقْدِيره وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي يغْضب مِنْهُ صَاحِبي بقؤول قَالُوا وَالْمرَاد بالشَّيْء القَوْل وَإِذا نصب يكون فِي حكم الْمَعْطُوف على الشَّيْء وَلَيْسَ الشَّيْء بمصدر ظَاهر فيسهل عطفه عَلَيْهِ فَيصير التَّقْدِير وَمَا أَنا للشَّيْء وَالْغَضَب بقؤول وَالْغَضَب لَيْسَ بمقول وَمن وَجه قَول سِيبَوَيْهٍ أول الشَّيْء هُنَا بِمَعْنى القَوْل وَهُوَ مصدر وَنصب الْفِعْل بعد الْوَاو فِي هَذِه الْأَنْوَاع كلهَا تَقْدِير أَن عِنْد سِيبَوَيْهٍ والمحققين كَمَا سَيَأْتِي تَقْدِيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأَن وَالْفِعْل بِتَأْوِيل الْمصدر فَيكون قد عطف مصدرا على مصدر فَيرد هُنَا شَيْء آخر وَهُوَ أَن لنصب هُنَا إِنَّمَا يكون بعد وَاو الْجمع وَقد أول الشَّيْء بِمَعْنى القَوْل وَالْجمع بَين الْغَضَب وَالْقَوْل هُنَا مُتَعَذر لِأَن الْغَضَب لَا يُقَال
فأجبت عَن هَذَا بِأَن الْغَضَب وَأَن لم يقل وَلَكِن هُنَا شَيْء مَحْذُوف هُوَ الَّذِي يَقع القَوْل عَلَيْهِ وَهُوَ سَبَب الْغَضَب فَحذف لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ وَتَقْدِيره وَمَا أَنا للشَّيْء الَّذِي لَيْسَ نافعي وللقول الَّذِي يُوجب غضب صَاحِبي بقؤول وَالشَّيْء هُنَا قَول وَلَا شكّ أَن فِي هَذَا التَّأْوِيل تكلفا كثيرا فَالْوَجْه الرّفْع كَمَا قَالَ الْجَمَاعَة
وَقد اعتذر السيرافي عَن سِيبَوَيْهٍ أَنه إِنَّمَا قدم النصب على الرّفْع فِي هَذَا الْبَيْت لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْبَاب فقصد إِلَى ذكره لِأَن النصب هُوَ الْمُخْتَار عِنْده لِأَنَّهُ لم يُصَرح بذلك

(1/214)


وَأما الِاسْتِفْهَام فَمثل قَوْلك هَل تَأْتِينَا وتحدثنا أَي هَل يجْتَمع الْأَمْرَانِ الْإِتْيَان والْحَدِيث وَمِنْه قَول الحطيئة أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ
(ألم أك جاركم وَيكون بيني ... وَبَيْنكُم الْمَوَدَّة والإخاء) قَالَ أَرَادَ ألم يجْتَمع لي الْجوَار والمودة وقصده يُؤَكد الْحُرْمَة بَينه وَبينهمْ والوسيلة إِلَيْهِم
وَمِثَال الْعرض أَلا تنزل عندنَا ونكرمك أَي يجْتَمع مِنْك وَمنا الْأَمْرَانِ
وَكَذَلِكَ التحضيض مثل هلا أَتَيْتنَا ونكرمك
وَمِثَال التَّمَنِّي قَوْلك ليتك تَزُورنَا وتحدثنا أَي لَيْت الْأَمريْنِ الزِّيَارَة والْحَدِيث يَجْتَمِعَانِ مِنْك وَمِنْه قَوْله تَعَالَى (يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ) على قِرَاءَة حَمْزَة وَحَفْص عَن عَاصِم بِنصب نكذب و

(1/215)


نَكُون على أَنهم تمنوا الْجمع بَين هَذِه الْأُمُور وفيهَا أَيْضا قراءات آخر سَيَأْتِي ذكرهَا فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما قَول وَرْقَاء بن زُهَيْر الْعَبْسِي
(فشلت يَمِيني يَوْم أضْرب خَالِدا ... ويمنعه مني الْحَدِيد الْمظَاهر) فَحَمله بَعضهم على الدُّعَاء وَالْأَكْثَرُونَ حملوه على التَّمَنِّي أَي ليتها شلت لِأَن الدُّعَاء إِنَّمَا يكون لأمر مُسْتَأْنف وَهَذَا تمنى لَو كَانَ مَا وَقع على مَا تمنى فَهُوَ بِهِ أشبه وَالَّذِي يظْهر لي تَرْجِيح كَونه دُعَاء وَأَنه مُتَعَلق بالمستقبل ومقصوده أَنه إِذا ضربه تُؤثر ضَربته وَلَا يمْنَع لبس الْحَدِيد من تأثيرها وَأَنه يَدْعُو على نَفسه بالشلل إِذا لم تُؤثر ضَربته وعَلى ذَلِك يَجِيء النصب لقصده الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ وَالله أعلم

(1/216)


30 - فصل الناصب للْفِعْل الْمُضَارع بعد الْوَاو

ذهب الْجرْمِي إِلَى أَن الناصب للْفِعْل فِي هَذِه الْأَمْثِلَة كلهَا الْوَاو نَفسهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ غَيرهَا وَالتَّقْدِير والاضمار على خلاف الأَصْل
وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْخَلِيل وسيبويه وَجُمْهُور أصحابهما أَن النصب فِيهَا بِأَن مقدرَة بعد الْوَاو وَأَن وَالْفِعْل فِي تَأْوِيل الْمصدر وَذَلِكَ أَن الْمصدر فِي مَوضِع رفع بالْعَطْف على مصدر متوهم من الْفِعْل الَّذِي قبلهَا وَلَا ينْتَصب الْفِعْل بعْدهَا إِلَّا بِشَرْط أَن يكون مُخَالفا فِي الْمَعْنى للْفِعْل الْمُتَقَدّم وَأَن يكون الْوَاو بِمَعْنى الْجمع على الْوَجْه الْمُتَقَدّم فَحِينَئِذٍ يَصح تَقْدِير أَن بعد الْوَاو وَقبل الْفِعْل
وَوجه هَذَا القَوْل أَن الْوَاو قد ثَبت لَهَا الْعَطف بالِاتِّفَاقِ وحروف الْعَطف لَا تخْتَص بالأسماء وَلَا بالأفعال بل هلي دَاخِلَة عَلَيْهِمَا وأصل عمل الْحُرُوف إِنَّمَا هُوَ بالاختصاص فَوَجَبَ أَن لَا تعْمل كَبَقِيَّة أخواتها وَأَن يكون نصب الْفِعْل

(1/217)


بِحرف من حُرُوف النصب مُقَدرا بعْدهَا وَذَلِكَ الْحَرْف هُوَ أَن إِذْ لَا يقدر شَيْء من نواصب الْفِعْل غَيره كَمَا فِي حَتَّى وَلَام الْجُحُود وَلَام كي وَأَيْضًا لَو كَانَت الْوَاو هِيَ العاملة لجَاز دُخُول حرف الْعَطف عَلَيْهَا كَمَا يدْخل على سَائِر النواصب وعَلى وَاو الْقسم الَّتِي هِيَ عاملة وَفِي امْتنَاع ذَلِك دَلِيل على أَنَّهَا بَاقِيَة على حَالهَا من الْعَطف وَأَن النصب بعْدهَا وَإِن لم يكن ظَاهرا
وَقَول الْجرْمِي إِن التَّقْدِير والإضمار على خلاف الأَصْل مُسلم وَلَكِن مُقْتَضى الأَصْل يعدل عَنهُ عِنْد معَارض رَاجِح يمْنَع مِنْهُ وعندما يقوم دَلِيل على الْخلاف وَقد تبين إبِْطَال عمل الْوَاو هُنَا فَتعين الرُّجُوع إِلَى مُقَدّر وَوجدنَا أَن يقدر بعد اللامين فَكَذَلِك هُنَا
وَذهب الْكُوفِيُّونَ وَمن تَبِعَهُمْ من البغداديين إِلَى أَن النصب فِي هَذِه الْأَمَاكِن بِالْخِلَافِ ويسمونه الصّرْف وَتسَمى هَذِه الْوَاو عِنْدهم وَاو الصّرْف وَذَلِكَ أَن معنى الثَّانِي لما كَانَ مُخَالفا لِمَعْنى الأول فَإِن الثَّانِي وَاجِب وَالْأول غير وَاجِب خُولِفَ بَينهمَا فِي الْإِعْرَاب فصرف إِعْرَاب الثَّانِي عَن إِعْرَاب الأول فنصب الثَّانِي على الْخلاف
وَقد تقدم مثله فِي الْمَفْعُول مَعَه وَبينا هُنَاكَ أَن الْخلاف لَا يَقْتَضِي إعرابا وَلَو كَانَ كَذَلِك لاطرد وانتصب مَا بعد لَا العاطفة وَلَكِن العاطفة وَغَيرهمَا لما فِي ذَلِك من الْخلاف وَكَون االمخالفة هُنَا شرطا لَا يلْزم أَن تكون هِيَ العاملة وَإِذا أمكن تَقْدِير الْعَامِل مَعَ الجري على الْقَوَاعِد فَهُوَ أولى من تقعيد قَاعِدَة فِي عَامل لَا يقوم دَلِيل على إعماله وَلَا يطرد فِي جَمِيع محاله وَذَلِكَ ظَاهر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق

(1/218)


31 - فصل إِضْمَار أَن وجوبا وجوازا بعد وَاو الْمَعِيَّة

لَا يجوز إِظْهَار أَن فِي شَيْء من هَذِه الْمَوَاضِع بالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا يجوز ذَلِك فِي الْوَجْه الثَّانِي من وَجْهي نصب الْفِعْل الْمُضَارع بعد الْوَاو وَهُوَ مَا إِذا عطف فعل على اسْم ملفوظ بِهِ فَلَا يُمكن ذَلِك لما فِيهِ من الْمُخَالفَة وَلِأَن الْمَقْصُود بِالْوَاو الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ لَا مُجَرّد الْعَطف كَمَا تقدم فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع فينتصب الْفِعْل بإضمار أَن لينسبك بذلك مصدر يَصح عطفه على الِاسْم الْمصدر الملفوظ بِهِ كَقَوْل مَيْسُونُ بنت بَحْدَل الْكَلْبِيَّة وَكَانَت تَحت مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ فَدخل عَلَيْهَا يَوْمًا وَهِي تَقول
(للبس عباءة وتقر عَيْني ... أحب إِلَيّ من لبس الشفوف)

(1/219)


فَإِن النصب هُنَا بإضمار أَن كَمَا تقدم وَلَو قَالَت وَأَن تقر عَيْني لجَاز لتقدم الْمصدر أَولا وَأَن وَالْفِعْل فِي تَأْوِيل الْمصدر فَلَا يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى بشاعة فِي اللَّفْظ بِخِلَاف مَا تقدم إِذْ الْفِعْل الأول هُنَاكَ مؤول بِالْمَصْدَرِ وَلَا يُمكن سبكه فِيهِ
والمعني من الْبَيْت إِن لبس الخشن من الملبوس مَعَ قُرَّة الْعين أحب إِلَيّ من لبس الشفوف وَهُوَ الرَّقِيق من الملبوس فالتفضيل إِنَّمَا هُوَ لَهما مُجْتَمعين على لبس الشفوف وَلَو انْفَرد أَحدهمَا لبطل الْمَعْنى المُرَاد فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنى ضم تقر عَيْني إِلَى لبس عباءة اضْطر إِلَى إِضْمَار أَن وَالنّصب بهَا
وَمثله قَول الآخر
(لقد كَانَ فِي حول ثواء ثويته ... تقضي لبانات ويسأم سائم)
على رِوَايَة من يروي ويسأم مَنْصُوبًا
وَمِنْه قَول الْأُخَر
وَلَوْلَا رجال من رزام أعزة ... وَآل سبيع أَو أسوءك علقما)

(1/220)


فَكَأَنَّهُ قَالَ أَو إساءتك علقما وَلَا فرق بَين الْوَاو وأو فِي مثل هَذَا
وَمِمَّا يلْتَحق بِهَذَا الْبَاب وينتصب الْفِعْل فِيهِ بعد الْوَاو بِتَقْدِير أَن وَإِن لم يكن من الْأَنْوَاع الْمُتَقَدّم ذكرهَا مَا إِذا وَقع الْفِعْل بعد الْوَاو بَين مجزومي أَدَاة شَرط أَو بعدهمَا وَقصد بِالْوَاو الْجمع مثل إِن تزرني وتحدثني أكرمك وَإِن تزرني أطعمك وأكسوك لِأَن مَقْصُوده فِي الأول تَرْتِيب الْإِكْرَام على الْجمع بَين الزِّيَارَة والْحَدِيث وَفِي الثَّانِي الْجمع فِي الْجَزَاء بَين الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة فَلَمَّا كَانَت الْوَاو بِمَعْنى مَعَ انتصب الْفِعْل بعْدهَا على الْوَجْه الْمُتَقَدّم وَكَذَلِكَ إِذا وَقع الْفِعْل الْمُضَارع مَعْطُوفًا بعد الْحصْر بإنما مثل إِنَّمَا هِيَ ضَرْبَة فِي الْأسد وتحطم ظَهره لِأَن الْمَقْصُود الْجمع بَين الضَّرْبَة وحطم ظَهره وَهَذِه النُّكْتَة ذكرهَا الشَّيْخ جمال الدّين بن مَالك رَحمَه الله فِي كِتَابه التسهيل وَجعلهَا قياسية وَالله أعلم

(1/221)