الكتاب لسيبويه هذا باب المفعول
الذي تعداه فعله إلى مفعولٌ
وذلك قولُك: كُسِيَ عبدُ الله الثوب، وأُعْطَى عبدُ الله المالَ. رفعتَ
عبدَ الله ههنا كما رفعتَه في ضُرب حين قلتَ ضُرِبَ عبدُ الله، وشَغلتَ
(1/41)
به كُسِيَ وأُعْطِىَ كما شغلت به ضُرِب.
وانتصَب الثوبُ والمالُ لأنهما مفعولان تَعدّى إليهما مفعولٍ هو بمنزلة
الفاعل.
وإن شئتَ قدّمتَ وأخّرتَ فقلتَ كُسىَ الثوبَ زيدٌ، وأُعْطِىَ المالَ
عبدُ الله كما قلت ضرب زيداً عبدُ الله. فأمره في هذا كأمر الفاعل.
واعلم أنّ المفعولَ الذي لا يتعداهُ فعله إلى مفعول، يتعدى إلى كل شيء
تعدى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعداه فعلُه إلى مفعول، وذلك قولك:
ضرِبَ زيدٌ الضربَ الشديد، وضُرِبَ عبدُ الله اليومينِ الّلذينِ
تَعْلَمُ، لا تَجعلُه ظرفا، ولكن كما تقول: يا مضروبَ الليلةِ الضربَ
الشديدَ، وأُقْعِدَ عبدُ الله المُقْعَدَ الكريمَ.
فجميعُ ما تَعدَّى إليه فعل الفاعل الذي لا يتعداه فعله إلى مفعولٍ
يَتعدَّى إليه فِعْلُ المفعول الذي لا يَتعدَّاه فعلُه.
وأعلم أنَّ المفعولَ الذي لم يَتعَّد إليه فعلُ فاعل في التعدِّى
والاقتصار بمنزلة إذا تَعدَّى إليه فعلَ الفاعل؛ لأنَّ معناه متعدِّيا
إليه فعلُ الفاعلِ وغيرَ متعدَّ إليه فعلُه سَواءٌ. ألا ترى أنّك تقول
ضربتُ زيداً، فلا تُجاوِزُ هذا المفعولَ، وتقولُ ضُربِ زيدٌ فلا
يَتعدَّاه فعلُه، لأن المعنى واحدٌ.
(1/42)
وتقول: كَسَوْتُ زيداً ثوباً فتجاوِز إلى
مفعولٍ آخَر، وتقول: كِسىَ زيدٌ ثوباً، فلا تجاوِزُ الثوبَ، لأنَّ
الأوّل بمنزلة المنصوب، لأنّ المعنى واحدٌ وإن كان لفظُه لفظَ الفاعل.
هذا باب المفعول
الذي يَتعدَّاه فعلُه إلى مفعولين،
وليس لك أن تَقتصر على أحدهما دونَ الآخَر.
وذلك قولك: نُبّئتُ زيداً أبا فلان. لمَّا كان الفاعُل يَتعدَّى إلى
ثلاثةٍ تَعدَّى المفعوُل إلى اثنين. وتقول أُرَى عبدَ الله أبا فلان،
لأنّك لو أدخلتَ في هذا الفعل الفاعل وبنيته له لتَعدَّاه فعلُه إلى
ثلاثةِ مفعولينَ.
وأعلم أنَّ الأفعال إذا انتهتْ ههنا فلم تجاوِزْ، تَعَدَّتْ إلى جميع
ما تَعدَّى إليه الفعلُ الذي لا يَتعدَّى المفعولَ. وذلك قولك: أعطى
عبدُ الله الثوبَ إعطاءً جميلا، ونُبِّئْتُ زيدًا أبا فلان تنبيئاً
حسناً، وسُرق عبدُ الله الثوبَ الليلَةَ، لا تَجعلُه ظرفاً ولكن على
قولك يا مسروقَ الليلةِ الثوبَ، صُيَّر فعلُ المفعول والفاعلِ حيث
انتَهى فعلهما بمنزلة الفعل الذي لا يَتعدَّى فاعلَه ولا مفعولَه، ولم
يكونا ليكونا بأضعفَ من الفعل الذي لا يَتعدَّى.
(1/43)
هذا باب ما يَعْمَلُ فيه الفعلُ فيَنتصبُ
وهو حالٌ
وقع فيه الفعلُ وليس بمفعولٍ
كالثَّوب في قولك كسوتُ الثوبَ، وفي قولك كسوتُ زيداً الثوبَ، لأنَّ
الثوب ليس بحال وقع فيها الفعلُ ولكنّه مفعولٌ كالأوّل. ألاَ ترى أنّه
يكون معرفةً ويكون معناه ثانياً كمعناه أوّلاً إذا قلت كسوتُ الثوبَ،
وكمعناه إذا كان بمنزل الفاعلِ إذا قلتَ كُسِىَ الثوبُ.
وذلك قولك: ضربتُ عبدَ الله قائماً، وذهبَ زيدٌ راكباً. فلو كان بمنزلة
المفعول الذي يَتعدّى إليه فعلُ الفاعلِ نَحْوُ عبد الله وزيدٌ ما جاز
في ذهبتُ، ولجاز أن تقول ضربتُ زيداً أباك، وضربتُ زيداً القائمَ، لا
تريد بالأب ولا بالقائم الصفةَ " ولا البَدَلَ "، فالاسم الأول المفعول
في ضربتُ قد حالَ بينه وبين الفعل أن يكون فيه بمنزلته، كما حال
الفاعلُ بينه وبين الفِعل في ذهبَ أنْ يكون فاعلا، وكما حالتِ الأسماء
المجرورةُ بين ما بعدها وبين الجارّ في قَولك: لي مثلُه رَجُلاً، ولي
مِلؤُهُ عَسَلاً، وكذلك ويحهُ فارساً؛ وكما منعتِ النُّونُ في عشرين أن
يكونَ ما بعدها جرَّا إذا قلتَ: له عشرون درهما. فعَملُ الفعلِ هنا
فيما يكون حالاً كعمل مثلُه فيما بعده، ألا ترى أنه لا يكون إلاّ
نَكِرةً كما أنَّ هذا لا يكون
(1/44)
إلاّ نكرةً، ولو كان هذا بمنزلة الثوب
وزيدٍ في كسوتُ لما جاز ذهبتُ راكباً، لأنه لا يتعدى إلى مفعول كزيد
وعمرو. وإنما جاز هذا لأنه حالٌ، وليس معناه كمعنى الثوب وزيدٍ، فّعمِل
كعملِ غير الفعل ولم يكنْ أضْعَفَ منه، إذ كان يَتعدّى إلى ما ذكرتُ من
الأزمنة والمصادر ونحوه.
هذا باب
الفعل الذي يَتعدّى اسمَ الفاعل إلى اسم المفعول
واسمُ الفاعل والمفعولِ فيه لشيء واحدٍ
فمن ثَمَّ ذُكِرَ على حِدَته ولم يُذْكَرْ مع الأول، ولا يجوز فيه
الاقتصارُ على الفاعل كما لم يجز في ظَننتُ الاقتصارُ على المفعول
الأوَّل، لأن حالك في الاحتياج إلى الآخر ههنا كحالك في الاحتياج إليه
ثَمَّةَ. وسنبيَّن لك إن شاء الله.
وذلك قولك: كان ويكون، وصار، وما دام، وليسَ وما كان نحوهنَّ من الِفعل
مما لا يَستغني عن الخبر. تقول: كان عبدُ الله أخاك، فإنَّما أردْتَ أن
تُخْبِرَ عن الأُخوّة، وأدخلتَ كانَ لتَجعلَ ذلك فيما مضى. وذكرت الأول
كما ذكرت المفعول الأول في ظننت. وإن شئتَ قلتَ: كان أخاك عبدُ الله،
فقدّمتَ وأخّرتَ كما فعلتَ ذلك في ضَربَ لأنه فِعْلٌ مثلُه وحالُ
التقديم والتأخير فيه كحالِه في ضرَبَ، إلاّ أنّ اسمَ الفاعل والمفعول
فيه لشيءٍ واحد.
(1/45)
وتقول: كُنَّاهم، كما تقول ضربناهم وتقول:
إذا لم نكنْهم فمَن ذا يكونُهم، كما تقول إذَا لم نَضربُهم فمن يضربهم.
قال أبو الأسود الدُّؤَلىّ:
فإنْ لا يَكُنْها أو تَكُنْه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
فهو كائن ومكَونٌ، كما تقول ضاربٌ ومضروبٌ.
وقد يكون لكاَنَ موضعٌ آخَرُ يُقتصَرُ على الفاعل فيه تقول: قد كان
عبدُ الله، أي قَد خُلِق عبدُ الله. وقد كان الأمرُ، أي وقعَ الأمرُ.
وقد دام فلانٌ، أي ثبت. كما تقول رأيتُ زيداً تريد رؤْية العين، وكما
تقول أنا وَجَدتْهُ تريد وِجدان الضَّالَّة، وكما يكون أصبحَ وأَمسىَ
مرّةً بمنزلة كان، ومرّةً بمنزلة قولك أسْتَيْقَظُوا ونامُوا.
فأمْا ليس فإَّنه لا يكون فيها ذلك، لأنها وضعَتْ موضعاً واحدا، ومن ثم
لم تصرف تصَرُّفَ الفعلِ الآخَر.
فمَّما جاء على وَقَعَ قوله، وهو مقَّاسٌ العائِذِىُّ:
(1/46)
فِدّى لبنْى ذُهْلِ بن شَيْبانَ ناقتى ...
إذا كانَ يَوْمٌ ذو كواكِبَ أَشْهَبُ
" أي إذا وقع ". وقال الآخر، عمرو بنُ شَأْس:
بنى أَسَدٍ هل تَعْلَمُون بَلاءَنا ... إذا كان يَوْماً ذا كَواكب
أشْنَعا
إذا كانت الحُوُّ الطوالُ كأَنما ... كساها السلاحُ الأرجوانَ
المضلَّعا
أَضْمَرَ لعلم المخاطَبِ بما يَعْنى، وهو اليومُ. وسمعتُ بعض العرب
يقول أشنعا ويرفَعُ ما قبلَهُ، كأَنَّه قال: إذا وقعَ يوم ذو كواكبَ
أشنعَا.
واعلم أنه إذا وقع في هذا البابِ نكرةٌ ومعرفةٌ فالذي تَشْغَلُ به كان
المعرفةُ، لأنه حد الكلام، لأنهما شيء واحد، وليس بمنزلة قولك: ضرب رجل
زيداً لأنهما شيئان مختلفانِ، وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء إذا
قلت عبد الله منطلق. تبتدئ بالأعرف ثم تَذكر الخبرَ، وذلك قولك: كان
زيدٌ حليماً، وكان حليماً زيدٌ، لا عليك أقدمت أم أخَّرتَ، إلا أنه على
ما وصفتُ لك في قولك: ضربَ زيداً عبدُ الله. فإذا قلت: كان زيدٌ فقد
ابتدأتَ بما هو معروف
(1/47)
عنده مثلَه عندك فإنَّما ينتظر الخبر. فإذا
قلت: حليما فقد أعلمتَه مثلَ ما علمتَ. فإذا قلتَ كان حليماً فإنَّما
ينتِظُر أن تعرفه صاحب الصفة، فهو مبدوء به في الفعل وإنْ كان مؤخَّراً
في اللفظ. فإن قلتَ: كان حليم أو رجلٌ فقد بدأْتَ بنكرةٍ، ولا يستقيم
أن تُخبِرَ المخاطَبَ عن المنكور، وليس هذا بالذي يَنْزِلُ به
المخاطَبُ منزلتَك في المعرفة، فكرهوا أن يَقْرَبوا بابَ لبْسِ.
وقد تقول: كان زيدٌ الطويلٌ منطلقاً، إذا خفت التباسَ الزيدَيْنِ،
وتقول: أسفيها كانَ زيدٌ أم حليما، وأَرَجُلا كان زيدٌ أم صبيًّا،
تجعلها لزيد، لأنه إنما ينبغي لك أن تَسْأَلَه عن خبرِ مَن هو معروفٌ
عنده كما حدَّثته عن خبر من هو معروفٌ عندك فالمعروفُ هو المبدوءُ به.
ولا يبدأ بما يكون فيه اللبسُ، وهو النكرة. أَلا ترى أنَّك لو قلت: كان
إنسان حليماً أو كان رجل منطلقاً، كنتَ تُلْبسُ، لأنَّه لا يُستنكَرُ
أن يكونَ في الدنيا إنسانٌ هكذا، فكرهوا أن يَبْدَءوا بما فيه الَّلبس
ويَجعلوا المعرفة خبراً لما يكون فيه هذا اللبسُ.
وقد يجوز في الشعر وفي ضعْفٍ من الكلام. حَمَلَهم على ذلك أنه فِعْلٌ
بمنزلة ضَرَبَ، وأنّه قد يُعلَم إذا ذكرتَ زيداً وجعلته خبرا أنه صاحبُ
الصَّفة على ضعفٍ من الكلام، وذلك قول خِداش بن زُهير:
فإنّكَ لا تُبالي بعد حَوْلٍ ... أَظَبْىٌ كان أُمك أم حِمارُ
(1/48)
وقال حسان بن ثابت:
كأَن سَبِيئَةً من بَيْتِ رَأْسِ ... يَكونُ مِزاجَها عَسَلٌ ومَاءُ
وقال أبو قيس بن الأَسلت الأنصاريّ:
أَلاّ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عنّي ... أَسِحْرٌ كانَ طِبَّك أَمْ
جُنونُ
وقال الفرزدق:
أَسَكْرَانُ كانَ ابنَ المَرَاغِةِ إِذ هَجا ... تَمِيماً بجَوْفِ
الشامِ أَمْ مُتَساكِرُ
فهذا إنشاء بعضهم. وأكثرُهم يَنْصِبُ السكرانَ ويَرْفع الآخِر على قطع
وابتداء.
وإذا كان معرفةً فأنت بالخيار: أيُّهما ما جعلتَه فاعلا رفعته ونصبت
(1/49)
الآخَر، كما فعلتَ ذلك في ضربَ، وذلك قولك:
كان أخوك زيدا، وكان زيدٌ صاحبَك، وكان هذا زيدا، وكان المتكِلمُ أخاك.
وتقول: من كان أَخاك، ومن كان أخوك، كما تقول: مَن ضربَ أباك إذا جعلتَ
مَنْ الفاعلَ، ومن ضربَ أبُوك إذا جعلت الأبَ الفاعلَ. وكذلك أَيُّهم
كان أخاك وأيَّهم كان أخوك.
وتقول: ما كان أخاك إلاَّ زيدٌ كقولك ما ضربَ أخاك إلاَّ زيدٌ. ومثل
ذلك قوله عز وجل: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا ": " وما كان جواب قومه
إلا أن قالوا ". وقال الشاعر:
وقد عَلِمَ الأقوام ما كان داءها ... بثَهلانَ إلاّ الخِزْىُ مِمَّنْ
يَقودُها
وإن شئت رفعتَ الأوّل كما تقول: ما ضرب أخوك إلا زيداً. و " قد " قرأ
بعض القرّاء ما ذكرنا بالرفع.
ومثلُ قولهم: من كان أخاك، قولُ العرب ما جاءتْ حاجتَك، كأنّه قال: ما
صارت حاجتَك، ولكنّه أدخل التأنيث على ما، حيث كانت
(1/50)
الحاجَة، كما قال بعض العرب: من كانت
أُمَّك، حَيْثُ أَوقع مَنْ على مؤنَّث. وإنما صُيَّرَ جاء بمنزلة كان
في هذا الحرف وحده لأنه كان بمنزلة المثَل، كما جعلوا عَسَى بمنزلة كان
في قولهم: " عسى الغُوَيْرُ أَبْؤُساً "، ولا يقال: عَسَيْتَ أخانا.
وكما جعلوا لَدُنْ مع غُدْوَةَ منّونةً في قولهم لَدُنْ غُدْوَةً. ومن
كلامهم أن يجعلوا الشيء في موضعٍ على غير حاله في سائر الكلام، وسترى
مثل ذلك إن شاء الله.
ومن يقول من العرب: ما جاءتْ حاجتُك، كثيرٌ، كما يقول من كانتْ أمُّك.
ولم يقولوا ما جاء حاجتَك كما قالوا مَنْ كان أمَّك، لأنَّّه بمنزلة
المَثَل فألزموه التاءَ، كما اتفقوا على لعمر كان في اليمين.
وزعم يونسُ أنه سمع رُؤبة يقول: ما جاءتْ حاجتُك؛ فيرفَع.
ومثلُ قولهم ما جاءتْ حاجتَك إذ صارتْ تقَع على مؤنَّث، قراءةُ بعض
القرّاء: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا " و " تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَِةِ ". وربَّما قالوا في بعض الكلام: ذهبتْ بعض أصابعه،
وإنما أنث البعضَ لأنّه أضافه إلى مؤنّثٍ هو منه، ولو لم يكن منه لم
يُؤنَّثْه، لأنه لو قال: ذهبتْ عبدُ أمَّك لم يَحْسُنْ.
(1/51)
ومما جاء مثلُه في الشعر قول الشاعر،
الأعشى:
وتَشْرَق بالقول الّذي قد أذَعْتَهُ ... كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَناةِ
مِنَ الدَّمِ
لأن صدرَ القناة من مؤنثٍ. ومثله قول جرير:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبى اليَتيم
لأنَّ " بعضَ " ههنا سِنونَ. ومثله قول جريرٍ أيضاً:
لَمَّا أتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ المدينةِ
والجبالُ الخُشَّعُ
ومثله قول ذي الرمة:
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مَرُّ الرياحِ النّواسمِ
(1/52)
وقال العجّاج:
طُولُ الليالي أسْرعتْ في نَقْضِى
وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق به: اجتَمعتْ أهلُ اليمامِة، لأنَّه
يقول في كلامه: اجتمعتِ اليمامةُ، يعني أهل اليمامة، فأنّث الفِعْلَ في
اللفظ إذْ جعله في اللفظ لليمامة، فترك اللفظَ يكونُ على ما يكون عليه
في سعة الكلام.
ومثل " في هذا " يا طَلْحَةَ أَقْبِلْ، لأنَّ أكثَر ما يَدعُو طلحةَ
بالترخيم فَتَرَك الحاَء على حالها. ويا تيم تيم عدي أَقبِلْ. وقال
الشاعر جرير:
يا تَيْمَ تَيْمَ عَدِىًّ لا أبا لكمُ ... لا يُلْقِيَنَّكُمُ في سوءة
عمر
وسترى هذا مبيناً في مواضعه إن شاء الله.
وتركُ التاء في جميع هذا " الحدُّ والوجهُ. وسترى ما " إثباتُ التاء
فيه حسنٌ إن شاء الله " من هذا النحو، لكثرته في كلامهم. وسيبيَّن في
بابه ".
فإن قلت: مَنْ ضَرَبَتْ عبدُ أُمّك، أو هذه عبدُ زَيْنَبَ لم يجُز،
(1/53)
لأنه ليس منها ولا بها، ولا يجوز أن تلفظ
بها و " أنت " تريد العبد.
هذا باب تخبر فيه عن النّكرِة بنكرة
وذلك قولك: ما كان أحدٌ مثلَك، وما كان أحدٌ خيراً منك، وما كان أحدٌ
مجترِئا عليك.
وإنّما حَسُنَ الإخبارُ ههنا عن النكرة حيث أردت أن تَنفِىَ أنْ يكونَ
في مثل حاله شىءٌ أو فوقه، ولأن المخاطَبَ قد يحتاج إلى أن تُعْلِمهَ
مثلَ هذا.
وإذا قلت كان رجلٌ ذاهِباً فليس في هذا شيءٌ تُعِلمهُ كان جَهِلَه. ولو
قلت كان رجلٌ من آل فلانٍ فارساً حسن؛ لأنه قد يحتاج إلى أن تعلمه أن
ذاك في آل فلانٍ وقد يَجْهلَُه. ولو قلتَ كان رجلٌ في قومٍ عاقلا لم
يَحسنْ؛ لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا عاقل وأن يكونَ من قومٍ.
فعلى هذا النحوِ يَحْسُنُ ويَقْبُُحُ.
ولا يجوز لأحدٍ أن تَضعه في موضعِ واجبٍ، لو قلتَ كان أحد من
(1/54)
آل فلان لم يجز، لأنّه إنما وقع في كلامهم
نفْياً عاماً. يقول الرجلُ: أتاني رجلٌ، يريد واحداً في العدد لا اثنين
فيقال: ما أتاك رجلٌ، أي أتاك أكثرُ من ذلك، أو يقول أتاني رجلٌ لا
أمرأةٌ فيقال: ما أتاك رجل، أي امرأة أتتْك. ويقول: أتاني اليومَ رجلٌ،
أي في قوّته ونفاذه، فتقُول: ما أتاك رجلٌ، أي أتاك الضُّعفاءُ. فإذا
قال: ما أتاك أحدٌ صار نفياً " عامّا " لهذا كلَّه، فإنما مجراه في
الكلام هذا. ولو قال: ما كان مثلُك أحداً، أو ما كان زيدٌ أحداً كان
ناقضاً؛ لأنه قد عُلمَ أنه لا يكون زيدٌ ولا مثلُه إلاّ من الناس. ولو
قلتَ ما كان مثلَك اليومَ أحدٌ فإِنّه يكون أن لا يكون في اليوم إنسانٌ
على حاله، إلاَّ أن تقول: ما كان زيدٌ أحداً، أي من الأحَدِينَ. وما
كان مثلك أحد على وجه تصغيره، فَتصير كأنَّك قلت: ما ضَرَبَ زيدٌ أحداً
وما قَتلَ مثلُك أحداً.
والتقديمُ والتأخيرُ في هذا بمنزلته في المعرفة وما ذكرتُ لك من الفعل.
وحسنُتِ النّكرةُ " ههنا " في هذا الباب لأنّك لم تجعلِ الأعرفَ في
موضع الأنكرِ، وهما مُتكافِئان كما تكافأتِ المعرفتان، ولأنّ المخاطَبَ
قد يَحتاج إلى عِلم ما ذكرتُ لك وقد عَرَفَ من تَعْنِى بذلك كمعرفتك.
وتقول: ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك، وما كان أحدٌ مثلُك فيها، وليس أحدٌ
فيها خيرٌ منك، إذا جعلتَ فيها مستقَرَّا ولم تَجعلْه على قولك فيها
زيدٌ قائم، أَجريتَ الصفة على الاسم. فإن جعلتَه على قولك فيها زيدٌ
(1/55)
قائمٌ " نصبتَ "، تقول: ما كان فيها أحدٌ
خيراً منك، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها، إلاّ أنك إذا أردت الإلغاء
فكلّما أَخّرتَ الذي تلغيهِ كان أحسنَ. وإذا أردت أن يكون مستقراً
تكتفي به فكلما قدمته كان أحسن، لأنه إذا كان عاملاً في شيء قدمته كما
تقدم أظن وأحسب، وإذا أَلغيتَ أَخّرتَه كما تؤخَّرهما، لأنهما ليسا
يَعملانِ شيئاً.
والتقديمُ ههنا والتأخير " فيما يكون ظرفاً أو يكون اسماً، في العناية
والاهتمامِ، مثلُه فيما ذكرتُ لك في باب الفاعل والمفعول. وجميعُ ما
ذكرت لك من التقديم والتأخير " والإلغاء والاستقرار عربي جيّد كثير،
فمن ذلك قوله عزّ وجلّ: " ولم يكن له كفوا أحد ". وأهل الجَفاَء من
العرب يقولون: ولم يكن كفواً له أَحدٌ، كأنهم أخّروها حيث كانت غيرَ
مستقَرَّة. وقال الشاعر:
لَتَقْْرُبِنَّ قَرَباً جُلْذِياَّ ... ما دامَ فيهن فصل حياَّ
فقدْ دَجا اللَّيلُ فَهَِيَّا هِيَّا
(1/56)
هذا باب
ما أُجْرَى مَجْرى لَيْسَ في بعض المواضع
بلغة أهل الحجاز، ثم يَصيرُ إلى أصله وذلك الحرفُ " ما ". تقول: ما
عبدُ الله أخاك، وما زيدٌ منطلقاً.
وأمّا بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل، أي لا يعلمونها في شيء وهو
القياس، لأنه ليس بفعل وليس ما كليس، ولا يكون فيها إضمار.
وأما أهلُ الحجاز فيشبَهونها بلَيْسَ إذ كان معناها كمعناها، كما
شبّهوا بها لاتَ في بعض المواضع، وذلك مع الحِين خاصّةً، لا تكون لاتَ
إّلا مع الحين، تُضْمِرُ فيها مرفوعا وتَنْصِبُ الحين لأنّه مفعول به،
ولم تَمكَّنْ تمكُّنَها ولم تستعمل إلا مضَمراً فيها، لأنها ليس كليس
في المخاطَبة والإِخبار عن غائبٍ، تقول لستَ " ولستِ " وليسوا، وعبدُ
الله ليس ذاهبا، فتَبْنِى على المبتدإ وتُضْمِرُ فيه، ولا يكون هذا في
لات لا تقول: عبدُ الله لات منطلقاً، ولا قومك لاتوا منطلقين.
ونظير لاتَ في أنّه لا يكون إِلاَّ مضمرَا فيه: ليس ولا يكون في
الاستثنار، إذا قلت أتَوْني ليس زيداً ولا يكونُ بشراً.
(1/57)
وزعموا أنّ بعضَهم قرأ: " وَلاَتَ حِينُ
مناَص " وهي قليلة، كما قال بعضهم في قول سعد بن مالك القيسى:
مَنْ فَرَّ عن نِيرانِها ... فأنا ابْنُ قَيْسٍ لا بَراحُ
جَعلها بمنزلة ليس، فهي بمنزلة لاتَ في هذا الموضع في الرفع.
ولا يجاوَزُ بها هذا الحين رفعتَ أو نصبتَ، ولا تَمكَّنُ في الكلام
كتمكُّن ليس، وإنَّما هي مع الحين كما أن لَدُنْ إنّما يُنْصَبُ بها
(1/58)
مع غُدْوَةً، وكما أنّ التاء لا تَجرُّ في
القسم ولا في غيره إلاّ في الله، إذا قلت تاللهِ لأَفْعَلَنَّ.
ومثلُ ذلك قوله عزّ وجلّ: " ما هذا بشرا " في لغة أهل الحجاز. وبنو
تميم يَرْفعونها إلاَّ من دَرى كيف هي في المُصحَفِ. فإذا قلت: ما
منطلقٌ عبدُ الله، أو ما مُسِئٌ مَنْ أعْتَبَ، رفعتَ. ولا يجوز أن
يكونَ مقدّما مثلَه مؤخَّرا، كما أنَّه لا يجوز أن تقول: إنَّ أخوك
عبدَ الله على حدّ قولك: إنَّ عبدَ اللهِ أخوك، لأنَّها ليست بفعل،
وإنَّما جُعلتْ بمنزلته فكما لم تتصرَّف إنَّّ كالفعل كذلك لم يَجُزْ
فيها كلُّ ما يجوز فيه ولم تَقْوَ قوّتَه فكذلك ما.
وتقول: ما زيدٌ إلاّ منطلقٌ، تَستَوي فيه اللغتان. ومثله قوله عزّ وجل:
" ما أنتم إلا بشر مثلنا " لما تَقْوَ ما حيثُ نقضْتَ معنى ليس كما لو
تَقْوَ حين قدّمتَ الخبرَ. فمعنى ليس النفىُ كما أنّ معنى كان الواجبُ،
وكل واحدٍ منهما، يعني وكان وليس، إذا جرّدته فهذا معناه. فإن قلتَ ما
كان، أَدخلتَ عليها ما يُنْفَى به. فإن قلتَ ليس زيدٌ إلاّ ذاهبا
أَدخلتَ ما يوجِبُ كما أدخلتَ ما يَنْفِي. فلم تَقْوَ ما في بابِ
قَلْبِ المعنى كما لم تَقْوَ في تقديم الخبر.
(1/59)
وزعموا أنّ بعضَهم قال، وهو الفرزدق:
فأصبْحُوا قد أعادَ اللهُ نِعْمَتَهُمْ ... إذ هُمْ قْرَيْشٌ وإذا ما
مِثلَهُمْ بَشَرُ
وهذا لا يَكاد يُعْرَف، كما أنّ " لاتَ حينُ مَناصٍ " كذلك. ورُبَّ شيء
هكذا، وهو كقول بعضهم: هذه ملحفة جديدة، في القِلَّةِ.
وتقول: ما عبدُ الله خارجاً ولا مَعْنٌ ذاهبٌ، تَرفعه على أن لا
تُشَركَ الاسمَ الآخِرَ في ما ولكن تَبْتَدِئُهُ، كما تقول: ما كان
عبدُ الله منطلقا ولا زيدٌ ذاهبٌ، إذا لم تجعله على كانَ وجعلتَه غير
ذاهب الآن. وكذلك ليس. وإن شئت جعلتها لا التي يكون فيها الاشتراك
فتنصب كما تقوم في كان: ما كان زيدٌ ذاهبا ولا عمرو منطلقا. وذلك
قولُك: ليس زيدٌ ذاهبا ولا أخوك منطلقا، وكذلك ما زيدٌ ذاهبا ولا معنٌ
خارجا.
وليس قولُهم لا يكون في ما إلاّ الرفعُ بشيء، لأنَّهم يَحتجّون بأنّك
لا تستطيعُ أن تقول ولا ليس ولا ما، فأنت تقول ليس زيدٌ ولا أخوه
ذاهَبيْنِ وما عمرو ولا خالدٌ منطلقَيْنِ، فُتشْرِكُه مع الأوّل في ليس
وفي ما.
(1/60)
فما يجوز في كان، إلاَّ أنّك إن حملتَه على
الأوّل أو ابتدأتِ فالمعنى أنّك تَنْفِى شيئاً غيرَ كائن في حال
حديِثك. وكانَ " الابتداءُ " في كانَ أَوْضَحَ، لأنّ المعنى يكونُ على
ما مضى وعلى ما هو الآن. وليس يمتَنِع أن يراد به الأوّل كما أردتَ في
كان.
ومثلُ ذلك قولك إن زيداً ظريف وعمرو وعمراً، فالمعنى في الحديث واحدٌ
وما يراد من الإِعمال مختلِفٌ " في كان وليس وما ".
وتقول: ما زيدٌ كريما ولا عاقلا أبوه، تَجعلُه كأنّه للأوّل بمنزلةِ
كريمٍ لأنه ملتبسٌ به، إذا قلتَ أبوه تُجريه عليه كما أجريتَ عليه
الكريمَ، لأنّك لو قلت: ما زيدٌ عاقلا أبوه نصبتَ وكان كلاماً.
وتقول: ما زيد ذاهباً ولا عاقل عمرو، لأنك لو قلتَ ما زيدٌ عاقلاً عمرو
لم يكن كلاماً، لأنّه ليس من سببِه، فتَرفعُه على الابتداء والقطع من
الأوّلِ، كأنّك قلت: وما عاقل عمرو. ولو جعلتَه من سببِه لكانَ فيه له
إضمارٌ كالهاء في الأبِ ونحوِها، ولم يَجُزْ نصبهُ على ما، لأنّك لو
ذكرتَ ما ثُمَّ قدَّمتَ الخبرَ لم يكنْ إلاّ رفعاً. وإن شئت قلت: ما
زيد ذهباً ولا كريمٌ أخوه، إن ابتدأتَه ولم تجعله على ما، كما فعلت ذلك
حين بدأتَ بالاسم.
ولكنّ ليس وكان يجوز فيهما النصبُ وإن قدّمت الخبرَ ولم يكن ملتبساً
لأنّك لو ذكرتهما كان الخبرُ فيهما مقدَّما مثلَه مؤخَّرا، وذلك قولك:
ما كان زيدٌ ذاهبا ولا قائماً عمروٌ.
(1/61)
وتقول ما زيدٌ ذاهبا ولا مُحْسِنٌ زيدٌ،
الرفعُ أَجْوَدُ وإن كنت تريد الأوّلَ، لأنَّك لو قلتَ ما زيدٌ منطلقا
زيدٌ لم يكن حدَّ الكلام، وكان ههنا ضعيفا، ولم يكن كقولك ما زيدٌ
منطلقا هو، لأنّك قد استغنيتَ عن إظهاره وإنَّما ينبغي لك أن
تُضْمِرَه. ألاَ ترى أنّك لو قلتَ ما زيدٌ مُنْطلقاً أبو زيدٍ لم يكن
كقولك ما زيدٌ منطلقا أبوه، لأنّك قد استغنيتَ عن الإظهار، فلّما كان
هذا كذلك أُجرى مُجرى الأجْنَبىَّ واستُؤْنِفَ على حاله حيثُ كان هذا
ضعيفاً فيه. وقد يجوز أن تنصب. قال الشاعر، وهو سواد ابن عدي:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقِيرا
(1/62)
فأعاد الإظهارَ. وقال الجعدىّ:
إذا الوَحْشُ ضَمَّ الوَحْشَ في ظُلُلاتَهِا ... سَواقِطُ مِنْ حَرٍّ
وقد كانَ أظْهَراَ
والرفعُ الوجهُ. وقال الفرزدق:
لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتارِكِ حَقَّهِ ... ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا
مُتَيَسَّرُ
وإذا قلت: ما زيدٌ منطلقا أبو عمرو، وأبو عمرو أبوه، لم يجز، لأنّك لم
تُعرَّفْه به ولم تَذْكُرْ له إضماراً ولا إظهاراً فيه، فهذا لا يجوز
لأنك لم نجعل له فيه سبباً.
وتقول: ما أَبو زَيْنَبَ ذاهباً ولا مقيمةٌ أمُّها ترفع، لأنّك لو
قلتَ: ما أبو زَيْنَبَ مُقَيمة أمُّها لم يجزْ، لأنها ليست من سببه
وإنما عَمِلتْ ما فيه لا في زينبَ. ومن ذلك قول الشاعر، وهو الأعْوَرُ
الشَّنَّىّ:
(1/63)
هَوَّنْ عليكَ فإِنّ الأُمور ... بكَفَّ
الاِلهِ مَقاديُرها
فَليس بآتِيكَ مَنْهيِهُّا ... ولا قاصِرٌ عنك مأْموُرهُا
لأنه جعل المأمورَ من سبب الأُمور ولم يجعله من سبب المذكَّر وهو
المَنهىّ. وقد جره قوم فجعلوه المأمورَ للمنهىّ، والمنِهىُّ هو
الأُمورُ لأنّه من الأُمور وهو بعضُها، فأجراه وأَنّثه كما قال جرير:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فَقدَ أَبى اليَتِيمِ
ومثل ذلك قول الشاعر، النابغة الجعدىّ:
فلَيْسَ بِمَعْروفٍ لنا أنْ نَرُدَّها ... صِحاحاً ولا مُسْتَنْكَرٌ
أَنْ تعُقَّرَا
كأنّه قال: ليس بمعروف لنا رَدُّها صحاحا ولا مستَنْكَرٌ عَقرُها،
والعَقْر ليس للردّ. وقد يجوز أن يَجُرَّ ويَحملَه على الردّ ويؤنَّثَ
لأنَّه من الخيل، كما قال ذو الرُّمّة:
(1/64)
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها من
الرَياح النُّواسِمِ
كأنّه قال: تسفَّهَتْها الرّياحُ، وكأنه قال: ليس بآتِيَتَكَ
مَنْهِيُّها وليس بمعروفةٍ ردُّها، حين كان من الخيل والخيل مؤنثة
فأَنّث.
ومثل هذا قوله تعالى جدّه: " بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره
عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "، أَجْرَى الأوّلَ على لفظ
الواحد والآخِرَ على المعنى. هذا مثلُه في أنه تُكُلَّمَ به مذكّراً ثم
أُنَّثَ، كما جَمَعَ ههنا، وهو في قوله ليس بآتِيَتِكَ مَنْهِيُّها،
كأنّه قال: ليس بآتيتك الأُمورُ. وفي ليس بمعرفة ردها، كأنه قال: ليس
بمعرفة خيلُنا صِحاحاً.
وإن شئتَ نَصَبْتَ فقْلتَ: ولا مستنكَراً أن تُعَقَّرا ولا قاصراً عنك
مأمورها، على قولك: ليس زيد ذاهبا ولا عمرو ومنطلقاً، أو ولا منطلقا
عمرو.
وتقول: ما كلُّ سوداء تمرةً ولا بيضاءَ شحمةٌ، وإن شئت نصبتَ
(1/65)
شحمةً. وبيضاءُ في موضع جرٍّ، كأنك أظهرت
كلَّ فقلتَ ولا كلُّ بيضاءَ. قال الشاعر أبو داود:
أكُلَّ امرئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأَ ... ونارٍ تَوَقَّدُ باللَّيْلِ
نارَا
فاستغنيتَ عن تثنية كل لذكرك إِيَّاه في أوّل الكلام ولقلّة التباسِه
على المُخاطَبِ. وجاز كما جاز في قولك: ما مِثْلُ عبدِ الله يقول ذاك
ولا أخِيهِ، وإن شئتَ قلت: ولا مثلُ أخيه. فكما جاز في جمع الخبر كذلك
يجوز في تفريقه. وتفريقُه أن تقول: ما مثلُ عبد الله يقول ذاك ولا أخيه
يَكْرَهُ ذاك. ومثل ذلك ما مثلُ أخيك ولا أبيك يقولانِ ذاك. فلمّا جاز
في هذا جاز في ذلك.
هذا باب
ما يُجَرى على الموضع لا على الاسم الذي قبله
وذلك قولك: ليس زيدٌ بجبَانٍ ولا بَخيلا، وما زيد بأخيك ولا صاحبَك.
(1/66)
والوجهُ فيه الجرُّ لأنَّك تريد أن
تُشْرِكَ بين الخبرَيْنِ، وليس ينقض إجْرَاؤُهُ عليك المعنى. وأن يكونَ
آخِرهُ على أوّله أولى، ليكون حالُهما في الباء سواءً كحالهما في غير
الباء، مع قُربه منه.
وقد حَمَلَهم قُربُ الجِوارِ على أنْ جرُّوا: هذا جُحْرُ ضبٍ خربٍ،
ونحوَه، فكيف ما يصِحُّ معناه.
وممَّا جاء من الشعر في الإِجراءِ على الموضع قول عقيبة الأسدي:
معاوي إننا بَشَرٌ فأَسْجِحْ ... فلسنا بالجِبال ولا الحديداً
لأن الباء دخلت على شيء لو لم تَدخل عليه لم يُخِلَّ بالمعنى ولم
يُحْتَجْ إليها وكان نصبا. ألا ترى أنَّهم يقولون حسبُك هذا وبحسبِك
هذا، فلم تغير الباء
(1/67)
مَعنّى. وجرى هذا مَجْراهُ قبْلَ أن
تَدْخُلَ الباءُ، لأنّ بحسبِك في موضعِ ابتداءٍ. ومثلُ ذلك قول لبيد:
فإنْ لَمْ تَجِدْ مِن دونِ عَدْنانَ والِداً ... ودونَ معدٍ
فَلْتَزَعْكَ العَوَاذِلُ
والجَرُّ الوجهُ.
ولو قلت: ما زيدٌ على قومِنا ولا عندَنا كان النصبُ ليس غيرُ، لأنّه لا
يجوز حَمْلُه على على. ألا ترى أنك لو قلت: ولا علَى عندِنا لم يكن،
لأنّ عندّنا لا تُستَعْمَلُ إلاَّ ظرفاً، وإنما أزدت أن تُخْبِرَ أنه
ليس عندكم.
وتقول: أخذَتَنْا بالجَوْد وفَوْقَه، لأنّه ليس من كلامهم وبفَوْقِهِ.
ومثل ودُونَ معدٍ قول الشاعر، وهو كعبُ بن جُعَيْلٍ:
أَلاَ حَىَّ نَدْمَانىِ عُمَيْرِ بنِ عامرٍ ... إذا ما تلاَقَينا من
اليومِ أو غدا
(1/68)
وقال العجّاج:
كَشْحّا طَوَى مِنْ بَلَدَ مُخْتارَا ... مِنْ يَأْسِة اليائسِ أو
حِذارَا
وتقول: ما زيد كعمرو ولا شبيهاً به، وما عمرو كخالدٍ ولا مُفْلِحاً،
النصبُ في هذا جيّدٌ، لأنَّك إنما تريد ما هو مثلَ فلانٍ ولا
مُفْلِحاً. هذا وجه الكلام. فإن أردت أن تقول ولا بمنزلة من يشبهه
جررت، وذلك قولك ما أنت كزيد ولا شبيهٍ به، فإنما أردت ولا كشبيهٍ به.
وإذا قلت ما أنت بزيد ولا قريبا منه فإنه ليس ههنا معنى بالباء لم يكن
قبل أن تَجئ بها، وأنت إذا ذكرتَ الكافَ تُمَثَلُ. وتكون قريباً ههنا
إن شئتَ ظرفاً. فإِن لم تجعل قريباً ظرفا جاز فيه الجرُّ على الباء
والنصبُ على الموضع.
هذا باب
الإضمار في ليسَ وكانَ كالإِضمار في إن
إذا قلت: إنه من يأتينا نأْتِه، وإنّه أَمَةُ الله ذاهبةٌ.
(1/69)
فمن ذلك قولُ بعض العرب: ليس خَلَقَ اللهُ
مثلَه. فلولا أنّ فيه إضماراً لم يجز أن تَذْكُرَ الفعلَ ولم تُعْمِله
في اسم، ولكن فيه الإضمار مثلُ ما في إنَّهُ.
وسوف نبيَّنُ حالَ هذا في الإضمارِ وكيف هو إن شاء الله. قال الشاعر،
وهو حُمَيْدٌ الأرْقَطُ:
فأصْبَحُوا والنَّوىَ عالي مُعَرَّسِهِمْ ... وليسَ كلَّ النَّوَى
تُلْقِى المسَاكينُ
فلو كان كلّ على ليس ولا إضمارَ فيه لم يكن إلا الرفعُ في كل، ولكنه
انتصَب على تُلْقى. ولا يجوز أن تَحملَ المساكين على ليس وقد قدَّمت
فجعلتَ الذي يعْمَلُ فيه الفعلُ الآخِرُ يَلِى الأوّلَ، وهذا لا
يَحْسُن. لو قلتَ كانتْ زيداً الحُمىَّ تَأْخُذُ أو تَأخذ الحُمَّى لم
يجز، وكان قبيحاً.
(1/70)
ومثلُ ذلك في الإضمار قولُ بعض الشعراء،
العجَيْر، سمعناه ممّن يوثَقُ بعربّيته:
إذا مِتُّ كانَ الناسُ صِنفانِ: شامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنِ بالّذى كنتُ
أصْنَعُ
أضمرَ فيها. وقال بعضهم: كانَ أنت خير منه كأنّه قالَ إنّه أنت خيرٌ
منه. ومثله: كادَ تَزِيغُ قُلوُبُ فَرِيقٍ منْهُمْ، وجاز هذا التفسيرُ
لأنَّ معناه كادتْ قلوبُ فريق منهم تزيغ، كما قلت: ما كان الطّيبُ إلاّ
المسكُ على إعمالِ ما كان الأمرُ الطيبُ إلاّ المسكُ، فجاز هذا إذ كان
معناه ما الطيبُ إلاَّ المسكُ.
وقال هشامٌ أخو ذى الرمة:
هي الشفاء لدائى لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداء مبذول
ولا يجوز ذا في ما في لغة أهل الحجاز؛ لأنَّه لا يكون فيه إضمارٌ.
ولا يجوز أن تقول: ما زيداً عبدُ الله إضماراً، وما زيداً أنا قاتلاً،
لأنَّه لا يَستقيم كما لم يَستقيم في كان وليس، أن تقدَّم ما يَعْمَلُ
فيه الآخِرُ. فإِن رفعتَ الخبرَ حَسُنَ حملُه على اللغة التَّميمية،
كما قلت: أمّا زيداً فأنا ضاربٌ،
(1/71)
كأنّك لم تذكر أمّا وكأنّك لم تذكر ما،
وكأنّك قلت: زيداً أنا ضاربٌ.
وقال مزاحم العقيلى:
وقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافى منى أنا عارف
وقال بعضهم:
وما كلُّ مَنْ وافَى مِنّى أنا عارِفُ
لزِمَ اللغةَ الحجازِيَّة فرفعَ، كأنّه قال: ليس عبدُ الله أنا عارِفٌ،
فأضمرَ الهاء في عارفٍ. وكان الوجهُ عارفهُ حيث لم يُعْمَلْ عارفٌ في
كلٍّ، وكان هذا أحسنَ من التقديم والتأخير، لأنَّهم قد يَدَعُون هذه
الهاء في كلامهم وفي الشعرِ كثيراً، وذلك ليس في شيء من كلامهم ولا
يكاد يكون في شعرٍ. وستَرى ذلك إن شاء الله.
هذا باب
ما يَعْمَلُ عَمَلَ الفعل ولم يَجْرِ مَجرى الفعل
ولم يَتمكَّن تمكُّنَه
وذلك قولك ما أحْسَنَ عبدَ الله. زعم الخليلٌ أنه بمنزلة قولك: شيء
أحسنَ عبدَ اللهِ، ودَخَلَه معنى التعجُّب. وهذا تمثيل ولم يُتَكلَّم
به.
(1/72)
ولا يجوز أن تُقَدَّمَ عبدَ الله وتؤخَّرَ
ما ولا تزيلَ شيئاً عن موضعه، ولا تقول فيه ما يُحْسِنُ، ولا شيئاً مما
يكون في الأفعال سوى هذا.
وبناؤه أبدا من فَعَلَ وَفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، هذا؛ لأنهم لم
يريدوا أن يتَصرَّف، فجعلوا له مثالاً واحدا يَجرى عليه، فشُبَّهَ هذا
بما ليس من الفعل نحو لاتَ وما. وإن كان من حَسُنَ وكَرُمَ وأَعْطَى،
كما قالوا أَجْدَلٌ فجعلوه اسماً وإن كان من الجَدْل وأْجرى مُجْرَى
أَفْكلٍ.
ونظير جعلِهم ما وحدها اسماً قولُ العرب: إنَّى ممّا أنْ أصنعَ، أي من
الأمر أن أَصنعَ، فجُعل ما وحدهَا اسماً.
ومثلُ ذلك غَسَلْتُه غَسْلاً نِعِمَّا، أى نِعْمَ الغسلُ.
وتقول: ما كان أحسنَ زيداً، فتَذْكر كان لتدلّ أَنه فيما مضى.
هذا باب الفاعلَيْنِ والمفعولَيْن
اللذين كلُّ واحد منهما يَفْعَلُ بفاعله مثل الذى يَفْعَلُ به وما كان
نحو ذلك
وهو قولك: ضربتُ وضَربَنَى زيدٌ، وضربَنى وضربتُ زيداً، تَحمل الاسمَ
على الفعل الذى يَليه. فالعاملُ في اللفظ أحدُ الفعلينِ، وأمّا في
المعنى
(1/73)
فقد يُعْلم أنَّ الأوّل قد وقع إلاّ أنّه
لا يُعْمَلُ في اسمٍ واحدٍ نصبٌ ورفعٌ.
وإنّما كان الذى يليه أوْلَى لقُربِ جِواره وأنه لا ينقُضُ معنىً، وأنّ
المخاطَبَ قد عَرَفَ أنَّ الأوّلَ قد وقع بزَيْدٍ، كما كان خَشَّنْتُ
بصدرِه وصدرِ زيدٍ، وجهَ الكلاِم، حيث كان الجرُّ في الأول وكانتِ
الباءُ أقربَ إلى الاسم من الفعل ولا تَنقض معنّى، سَوَّوْا بيْنهما في
الجرّ كما يَسْتَوِيان في النصب.
ومما يقوَّى تركَ نحوِ هذا لعلم المخاطَب، قولُه عزّ وجلّ: " والحافظين
فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات " فلم يُعْمِل
الآخِرَ فيما عمل فيه الأوّلُ استغناءً عنه ومثلُ ذلك: ونَخْلَعُ
ونَتْرُكُ من يَفْجُرك.
وجاء في الشعر من الاستغناء أشدُّ من هذا، وذلك قول قيسِ بن الخَطيم:
(1/74)
نَحْنُ بِما عِنْدنا وأنتَ بِما ...
عِنْدَكَ راضٍ والرأي مختلف
وقال ضابيء البرجمي:
فمن يك أمسى بالمدينة رَحْلُهُ ... فإِنّى وقَيّاراً بها لَغَرِيبُ
وقال ابن أَحمرَ:
رَمانى بأمرٍ كنتُ منه ووالِدِى ... بَرِيئاً ومن أَجْلِ الطوِىَّ
رَمانِى
(1/75)
فوَضع في موضع الخبر لفظَ الواحد لأنّه قد
عَلِم أنَّ المخاطَبَ سيَستدلّ به على أن الآخَرِين في هذه الصفة.
والأولُ أجودُ لأنّه لم يَضَعْ واحداً في موضع جمعٍ، ولا جمعاً في موضع
واحدٍ.
ومثله قولُ الفرزدق:
إنَّى ضَمِنْتُ لمنْ أَتانِى ما جَنَى ... وأَبَى فكانَ وكنتُ غيرَ
غَدُورِ
تركَ أن يكون للأول خبرٌ حين استغنى بالآخِر لعِلم المخاطَب أنَّ
الأوّلَ قد دخل في ذلك. ولو تَحْمِل الكلامَ على الآخِرِ لقلتَ: ضربتُ
وضربوني قومَك، وإنّما كلامُهم: ضربتُ وضربَنى قومُك. وإذا قلت
ضربَنىِ، لم يكنَ سبيلٌ للأوّلَ، لأنّك لا تقول ضربَنى وأنت تَجعْلُ
المُضْمَر جميعاً، ولو أعملتَ الأوّلَ لقلتَ مررتُ ومرَّ بي بزيدٍ.
وإنَّما قُبح هذا أَنَّهم قد جعلوا الأقربَ أولى إذا لم يَنْقُضْ
معنًى. قال الشاعر، وهو الفرزدق:
(1/76)
ولكِنّ نِصفاً لو سبَبَْتُ وسبَنَّى ...
بَنُو عَبْدِ شَمْسِ من مَنافٍ وهاشم
وقال طُفيلٌ الغنوىّ:
وكمْتاً مُدَمّاةً كأنّ مُتونَها ... جَرَى فوقَها واسْتَشْعَرَتْ
لَوْنَ مُذْهَبِ
وقال رجل من باهلةَ:
ولَقَدْ أَرَى تَغْنَى به سَيْفانَة ... تُصْبِى الحَلِيمَ ومثلُها
أَصْبَاهُ
فالفعلُ الأوّل في كل هذا مُعْمَلٌ في المعنى وغيرُ مُعْمَلِ في اللفظ،
والآخِرُ مُعْمَلٌ في اللفظ والمعنى.
(1/77)
فإِن قلتَ: ضربتُ وضربوني قومَك نصبتَ، إلا
في قول من قال: أَكَلُونى البراغيثُ، أو تَحملُه على البَدَل فتجعله
بدلاً من المضمَر، كأنّك قلت: ضربتُ وضربنى ناسٌ بنو فلان.
وعلى هذا الحدَّ تقول: ضربتُ وضربنى عبدَ الله، تُضْمِرُ فى ضربَنْى
كما أضمرتَ فى ضربونى.
فإن قلت: ضربَنى وضربَتُهم قومُك رفعتَ لأنَّك شغلتَ الآخِر فأضمرتَ
فيه، كأنّك قلت ضربَنْى قومُك وضربتهم على التقديم والتأخير، إلاّ أن
تَجعل ههنا البدل كما جعلته فى الرفَع. فإن فعلت ذلك لم يكن بدٌّ من
ضربونى لأنّك تضْمِرُ فيه الجمعَ. قال عُمَرُ بنُ أبى ربيعةَ:
إذا هى لم تَسْتَكْ بِعُودِ أراكَةٍ ... تُنُخَّلَ، فاسْتَاكتْ به،
عُودُ إسْحِلِ
لأنه أضمرَ فى آخر الكلام. وقال المرار الأسدي:
فرد على الفُؤاد هَوًى عَميداً ... وسُوئلَ لو يُبينُ لنا سؤالاَ
وقد نَغْنَى بها ونرى عُصوراً ... بها يَقْتَدْنَنَا الخُرُدَ
الخِدالاَ
(1/78)
حدّثنا به أبو الخَطَّاب عن شاعرِه.
وإذا قلت: ضربونى وضربتُهم قومَك جعلتَ القومَ بدلا من هُمْ؛ لأنَّ
الفعل لا بد له من فاعلٍ، والفاعلُ ههنا جماعةٌ وضميرُ الجماعة الواوُ.
وكذلك تقول: ضربوني وضربتُ قومَك، إذا أَعْمَلْتَ الآخِر فلا بدَّ فى
الأّوّل من ضمير الفاعلِ لئلاَّ يَخْلُوَ من فاعلٍ. وإنَّما قلت: ضربتُ
وضربَنى قومُك فلم تَجعل في الأوّل الهاءَ والميمَ، لأنّ الفعل قد يكون
بغير مفعول ولا يكون الفعلُ بغير فاعل.
وقال امرؤ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفانِى ولم أطْلُبْ قليلٌ مِنَ المَالِ
فإنَّما رفعَ لأنَّه لم يَجعل القليلَ مطلوباً، وإنَّما كانَ المطلوبُ
عندهَ المُلْكَ وجعل القليل كافياً، ولو لم يرد ونصبَ فَسَدَ المعنى.
وقد يجوز ضربتُ وضربَنى زيدا؛ لأنَّ بعضَهم قد يقول: متى رأيتَ أو قلتَ
زيداً منطلقاً، والوجهُ متى رأيتَ أو قلتَ زيدٌ منطلقٌ.
ومثلُ ذلك فى الجوازِ ضربَنى وضربتُ قومُك، والوجهُ أن تقولَ: ضربونى
وضربتُ قومَك، فتحملَه على الآخِر. فإن قلت: ضربَنى وضربتُ قومَك
(1/79)
فجائز وهو قبيحٌ، أَنْ تَجعل اللفظ كالواحد كما تقول: هو أَحسنُ
الفِتيانِ وأجملُه وأَكرمُ بَنِيه وأَنبَلُه.
ولا بد من هذا، لأنّه لا يَخلو الفعلُ من مضمَرٍ أو مظهَرٍ مرفوعٍ من
الأسماء، كأنّك قلت إذا مثّلتَه: ضربَنى مَن ثَمَّ وضربتُ قومَك. وتركُ
ذلك أجود وأحسن، للتبيان الذي يجيء بعده، فأُضمر مَنْ لذلك.
قال الأخفش: فهذا رديء في القياس يَدخل فيه أنْ تقول: أَصحابُك جلس،
تضمر شيئاً يكون في اللفظ واحداً. فقولهم: هو أَظْرَفُ الفِتيانِ
وأجملُه لا يُقاس عليه، ألا ترى أنَّك لو قلت وأنت تريد الجماعةَ: هذا
غلامُ القومِ وصاحبهُ لم يَحسن. |