الكتاب لسيبويه هذا باب
ما يكون فيه الاسمُ مبنياً على الفعل قُدَّمَ أو أُخَّرَ
وما يكون فيه الفعلُ مبنيّا على الاسم
فإذا بنيتَ الاسمَ عليه قلتَ: ضربتُ زيدا، وهو الحدُّ، لأنّك تريد أن
تُعْمِلَه وتَحملَ عليه الاسمَ، كما كان الحدُّ ضَربَ زيدٌ عمراً، حيث
كان زيدٌ أوّلَ ما تشغَل به الفعل. وكذلك هذا إذا كان يَعْمَلُ فيه.
وإن قدمتَ الاسمَ فهو عربيٌ جيّد كما كان ذلك عربيّا جيّدا، وذلك قولك:
زيداً ضربتُ، والاهتمام
(1/80)
والعناية هنا فى التقديم والتأخير سَواءٌ،
مثلُه في ضرب زيد عمراً وضرب عمراً وزيد.
فإذا بنيتَ الفعلَ على الاسم قلتَ: زيدٌ ضربته، فلزمته الهاء. وإنما
تريد بقولك مبنى عليه الفعل أنّه فى موضع منطلقٍ إذا قلتَ: عبدُ الله
منطلقٌ، فهو فى موضع هذا الذى بُنى على الأول وارتَفع به، فإنّما قلت
عبدُ الله فنسبته له ثمّ بنيتَ عليه الفعلَ ورفعتهَ بالابتداء.
ومثلُ ذلك قولُه جلّ ثناؤه: " وأما ثمود فهديناهم " وإنما حَسُنَ أن
يُبْنَى الفعلُ على الاسم حيث كان مُعْمَلاً فى المُضْمَرِ وشَغَلْتَه
به، ولولا ذلك لم يحسن؛ لأنك لم تشغله بشيء.
وإن شئت قلت: زيداً ضربتُه، وإنَّما نصبهُ على إضمار فعلٍ هذا يفَّسره،
كأنّك قلتَ: ضربتُ زيدأً ضربتُه، إلاّ أنّهم لا يُظهِرون هذا الفعلَ
هنا للاستغناءِ بتفسيره. فالاسمُ ها هنا مبني على هذا المضمَرِ.
ومثلُ ترك إظهار الفعل ها هنا تركُ الإظهار فى الموضع الذى تَقَدَّمَ
فيه الإضمارُ، وستراه إن شاء الله.
(1/81)
وقد قرأ بعضُهم: " وأما ثمود فهديناهم ".
وأنشدوا هذا البيتَ على وجهينِ: على النصب والرفع، قال بِشْرُ بنُ أبى
خَازِمٍ:
فأمّا تميمٌ تميمُ بنُ مُرٍّ ... فأَلفاهُم القومُ رَوْبَى نِيامَا
ومنه قول ذى الرمّة:
إذا ابْنُ أبي مُوسَى بِلالٌ بَلَغْتِهِ ... فقامَ بَفأسٍ بينَ
وِصْلَيْكِ جازر
فالنصب عربيٌ كثيرٌ والرفْعُ أَجودُ، لأنّه إذا أراد الإِعمال فأقرب
(1/82)
إلى ذلك أن يَقولَ: ضربتُ زيدا وزيداً
ضربتُ، ولا يُعمِل الفعلَ في مضمَر، ولا يَتناولَ به هذا المتناوَلَ
البعيدَ. وكلُّ هذا من كلامهم. ومثل هذا: زيدا أُعطيتُ وأُعطيت زيدا
وزيدٌ أُعطيتُه؛ لأن أُعطيتُ بمنزلة ضُربتُ. وقد بُيّن المفعولُ الذى
هو بمنزلة الفاعل فى أول الكتاب.
فإن قلت: زيدٌ مررتُ به فهو من النصب أَبْعَدُ من ذلك، لأنَّ المضمَر
قد خَرَجَ من الفعل وأُضيفَ الفعلُ إليه بالباء، ولم يوصَلْ إليه
الفعلُ فى اللفظ، فصار كقولك: زيدٌ لقيتُ أخاه. وإن شئت قلتَ: زيداً
مررتُ به تريد أن تُفَسَّرَ به مضمَرا، كأنّك قلت إذا مثّلتَ ذلك:
جعلتُ زيدا على طريقى مررتُ به، ولكنَّك لا تُظهر هذا الأوّلَ لما
ذكرتُ لك.
وإذا قلت: زيدٌ لقيتُ أخاه فهو كذلك، وإن شئتَ نصبتَ، لأنّه إذا وقع
على شيء من سببه فكأنّه قد وقع به. والدليلُ على ذلك أنّ الرجل يقول
أهَنْتَ زيداً بِإهانتك أخاه وأكرمتَه بإِكرامك أخاه. وهذا النحوُ فى
الكلام كثيرٌ، يقول الرجلُ إنْما أعطيتُ زيداً، وإنما يريد لمكان زيد
أَعطيتُ فلانا. وإذا نصبتَ زيداً لقيتُ أخاه، فكأنّه قال: لا بست زيدا
لَقِيتُ أخاه. وهذا تمثيلٌ ولا يُتكلَّم به، فجرى هذا على ما جرى عليه
قولك أَكرمتُ زيدا، وإِنَّما وصلت الأُثرةُ إلى غيره.
(1/83)
والرفع فى هذا أحسنُ وأجود، لأنّ أقربَ إلى
ذلك أن تقول: مررتُ بزيد ولقيتُ أخا عمرو.
ومثلُ هذا فى البناء على الفعل وبناء الفعل عليه أَيُّهم وذلك قولهم:
أَيَّهم تَر يأتِك، وأَيُّهم تَرَهُ يأْتِك. والنصبُ على ما ذكرتُ لك،
لأنه كأنه قال: أيَّهم تَرَ تَرَهُ يأتِك، فهو مثلُ زيدٍ فى هذا الباب.
وقد يفارِقهُ فى أشياءَ كثيرةٍ ستُبَيّنُ إن شاء الله.
هذا باب ما يَجْرِى ممّا يكون ظرفاً هذا المجرَى وذلك قولك يومُ
الجُمعة أَلقاك فيه، وأقلُّ يومٍ لا أَلقاك فيه، وأَقلُّ يومٍ لا أصومُ
فيه، وخَطيئُة يومٍ لا أَصيدُ فيه، ومكانُكم قمتُ فيه. فصارت هذه
الأَحرفُ تَرتفع بالابتداء كارتفاع عبِد الله، وصار ما بعدها مبنيَّا
عليها كبناء الفعل على الاسم الأوّل، فكأنّك قلتَ: يومُ الجمعةُ
مبارَكٌ ومكانُكم حسنٌ، وصار الفعُل فى موضع هذا.
وإنَّما صار هذا كهذا حين صار فى الآخِرِ إضمارُ اليوم والمكانِ، فخرج
مِنْ أنْ يكونَ ظرفا كما يخُرجُ إِذا قلتَ: يومُ الجمعةِ مبارَكٌ،
فإِذا قلت: يومُ الجمعة صُمتْهُ فصُمتهُ فى موضع مباركٍ حيثُ كان
المُضْمَرُ هو الأوَّلَ كما كان المبارَكُ هو الأوّلَ.
(1/84)
ويدَخل النصبُ فيه كما دخل فى الاسم
الأوّل، ويجوز فى ذلك يومَ الجمعةِ آتيك فيه وأَصومُ فيه، كما جاز فى
قولك: عبدَ الله مررتُ به كأنه قال: أَلقاك يومَ الجمعةِ، فنصبَه لأنّه
ظرفٌ ثم فسَّر فقال أَلقاكَ فيه. وإن شاء نصبه على الفعل نفسِه كما
أَعمل فيه الفعلَ الذى لا يتعدى إلى مفعول، كل ذلك عربي جيّد. أوْ
نَصبهَ لأنّه ظرفٌ لفعلٍ أَضْمَرَه، وكأنّه قال: يومَ الجمعةِ أَلقاك.
والنصبُ فى: يومَ الجمعة صُمْته ويومَ الجمعة سِرْتُه، مثلُه فى قولِك:
عبدَ الله ضربتُه، إِلاّ أنّه إِن شاء نصبَهَ بأنّه ظرفٌ، وإِن شاء
أَعمَلَ فيه الفعلَ كما أَعملَهُ فى عبد الله، لأنّه يكونُ ظرفاً وغيرَ
ظرفٍ.
ولا يحسُنُ فى الكلام أن يَجْعَلَ الفعلَ مبنيَّا على الاسم ولا
يَذْكُرَ علامةَ إِضمارِ الأوّل حتى يَخرج من لفظِ الإِعمال فى الأوّل
ومن حالِ بناء الاسم عليه ويَشْغَلَه بغير الأوّل حتى يمتنِعَ من أن
يكونَ يَعْمَلُ فيه، ولكنّه قد يجوز فى الشعر، وهو ضعيفٌ فى الكلام.
قال الشاعر، وهو أبو النجم العِجْلىّ:
قد أَصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعى ... علّى ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ
فهذا ضعيفٌ، وهو بمنزلته فى غير الشَّعر؛ لأنّ النصب لا يسكر البيتَ
ولا يُخِلُّ به تركُ إِظهار الهاء. وكأنه قال: كلُّه غيرُ مصنوع. وقال
امرُؤُ القيس:
(1/85)
فأَقْبَلتُ زَحْفاً علَى الرُّكْبَتَيْنِ
... فثَوْبٌ لبست وثَوْبٌ أَجُرّْ
وقال النَّمِرُ بن تَوْلَبٍ:
فَيْومٌ عَلينا ويوم لنا ... ويومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسَرّْ
سمعناه من العرب ينشدونه. يريدون: نُساءُ فيه ونُسَرّْ فيه.
وزعموا أنّ بعض العرب يقول: شهرٌ ثَرى، وشهرٌ تَرى، وشهرٌ مرْعَى.
يُريد: تَرى فيه. وقال:
ثَلاثُ كلّهُنّ قَتلتُ عَمْدا ... فاَخْزَى الله رابعة تَعُودُ
فهذا ضعيفٌ، والوجهُ الأكثرُ الأعرفُ النصبُ، وإنَّما شبّهوه بقولهم:
(1/86)
الذى رأيتُ فلانٌ، حيث لم يَذكروا الهاء.
وهو فى هذا أحسن، لأن رأيتُ تمامُ الاسم، به يتم، وليس بخبرٍ ولا صفةٍ،
فكَرهوا طولَه حيث كان بمنزلة اسمٍ واحدٍ، كما كرِهوا طولَ اشْهِيبابٍ
فقالوا: اشْهِباب. وهو فى الوصف أمثلُ منه فى الخبر وهو على ذلك ضعيفٌ،
ليس كحُسنْه بالهاء، لأنّه فى موضع ما هو من الاسم وما يَجْرِى عليه،
وليس بمنقطعٍ منه خبرا مبنيًّا عليه ولا مبتدأً، فضارَعَ ما يكون من
تَمامِ الاسم وإن لم يكن تماماً له ولا منه فى البناء. وذلك قولُك: هذا
رجلٌ ضربتهُ، والناسُ رجلانِ: رجلٌ أكرمته ورجلٌ أهنتهُ، كأنّه قال:
هذا رجلٌ مضروبٌ، والناسُ رجلانِ: رجلٌ مُكْرَمٌ ورجلٌ مْهان. فإن
حذفتَ الهاء جاز وكان أَقْوَى ممّا يكون خبراً. وممّا جاء فى الشعر من
ذلك قولُ جرير:
أَبَحْتَ حمَى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح
(1/87)
يريد الهاء. وقال الشاعر، الحرث بن
كَلَدَةَ:
فما أَدْرِى أَغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ ... وطُولُ العَهْدِ أَمْ مالٌ
أَصَابُوا
يريد: أصابوه، ولا سبيلَ إلى النصب وإن تركَتَ الهاء لأنَّه وصفٌ، كما
لم يكن النصبُ فيما أَتممتَ به الاسم، يعنى الصلةَ. فمن ثمَّ كان أقوى
مما يكون فى موضع المبنىّ على المبتدإ، لأنه لا يُنْصَبُ به. وإنّما
مَنَعَهم أن يَنْصِبُوا بالفعل الاسمَ إذا كان صفةً له أن الصفة تمامُ
الاسم، ألا ترى أنّ قولَك مررتُ بزيدٍ الأَحمرِ كقولك مررتُ بزيد، وذلك
أنكّ لو احتجتَ إلى أن تَنعت فقلتَ: مررتُ بزيد وأنت تريد الأحمرَ وهو
لا يُعْرَفُ حتّى تقول الأَحمر، لم يكن تَمَّ الاسمُ، فهو يَجرِى
منعوتا مَجْرى مررت بزيد إذا كان يُعْرَف وحدَه، فصار الأَحمر كأنّه من
صلته.
باب ما يُختار فيه إعمالُ الفعل مما
يكون فى المبتدإ مبنياً عليه الفعلُ وذلك قولك: رأيتُ زيدا وعمراً
كلَّمتهُ ورأيتُ عبد الله وزيداً مررتُ به، ولقيتُ قيسا وبكراً أخذْتُ
أباه، ولقيتُ خالدا وزيدا اشتريتُ له ثوبا.
وإنَّما اختيرَ النصبُ ههنا لأنّ الاسم الأوّلَ مبنىٌّ على الفعل، فكان
بناءُ الآخِرِ على الفعل أحسنَ عندهم إذ كان يُبْنَى على الفعل وليس
قبله اسمٌ مبنىٌّ على الفعل، لَيجرىَ الآخِرُ على ما جَرَى عليه الذي
يليه قبله، إذ كان
(1/88)
لا ينقض المعنى لو بنيتهَ على الفعل. وهذا
أولى أن يُحمَلَ عليه ما قَرُبَ جِوارهُ منه، إذ كانوا يقولون: ضربونى
وضربتُ قومَك، لأنّه يليه، فكان أن يكونَ الكلامُ على وجهٍ واحدٍ - إذا
كان لا يمتَنِعُ الآِخرُ من أن يكونَ مبنياً على ما بُنى عليه الأولُ -
أقربَ فى المأْخَذ.
ومثلُ ذلك قوله عزَّ وجلَّ: " يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم
عذابا أليما ". وقوله عزَّ وجلَّ: " وَعَاداً وَثَمُوداً وَأَصْحَابَ
الرَّسَّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً. وكُلاَّ ضَرَبْنَا لهُ
اْلأَمثَالَ ". ومثلُه: " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ". وهذا
فى القرآن كثير.
ومثل ذلك: كنتُ أخاك وزيدا كنتُ له أخاً، لأنّ كنتُ أخاك بمنزلة ضربتُ
أخاك. وتقول: لستُ أخاك وزيدا أعنتُك عليه، لأنها فعلّ وتَصَرَّفُ فى
معناها كتصرُّف كانَ. وقال الشاعر، وهو الربيعُ بن ضَبُعٍ الفَزارِىُّ:
أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السّلاحَ ولا ... أَملك رَأْسَ البعَيرِ إن
نَفَرَا
(1/89)
والذّئْبَ أَخْشاه إن مررتُ به ... وَحْدِى
وأَخْشَى الرياح والمطرا
وقد يبتد أفيحمل على مثل ما يُحْمَلُ عليه وليس قبله منصوبَّ، وهو عربى
جيدَّ. وذلك قولك: لَقيتُ زيدا وعمروٌ كلَّمته، كأنَّك قلت: لقيتُ زيدا
وعمروٌ أفضلُ منه. فهذا لا يكون فيه إلا الرفع، لأنك لم تذكر فعلا.
فإذا جاز أن يكون فى المبتدإ بهذه المنزلة جاز أن يكون بين الكلامين.
وأقربُ منه إلى الرفع: عبد الله لقيت وعمرو لقيت أخاه، وخالدا رأيت
وزيدٌ كلَّمت أباه. هو ها هنا إلى الرفع أقربُ، كما كان فى الابتداء من
النصب أَبعدَ.
وأما قوله عزَّ وجلَّ: " يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم "،
فإنما وجهوه على أنه يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ فى هذه الحال، كأنه قال:
إذ طائفةٌ فى هذه الحال، فإنَّما جَعَلَه وقتاً ولم يُرِدْ أن يجعلها
واوَ عطفٍ، وإنما هى واوُ الابتداء.
ومما يُختار فيه النصب لنصب الأوّل قوله: ما لقيتُ زيداً ولكن عمرا
مررتُ به، وما رأيتُ زيدا بل خالدا لقيتُ اباه، تُجرِيه على قولك: لقيت
زيداً وعمرا لم أَلْقَهُ، يَكون الآخِرُ فى أنه يُدْخِلُه فى الفعل
بمنزلة هذا حيث
(1/90)
لم يُدخِله، لأن بل ولكن لا تَعملانِ شيئاً
وتشركانِ الآِخرَ مع الأوّل، لأنّهما كالواو وثُمَّ والفاء، فأَجرهما
مُجراهنّ فيما كان النصبُ فيه الوجهَ وفيما جاز فيه الرفعُ.
هذا باب يُحْمَلُ فيه الاسمُ
على اسمٍ بُنِىَ عليه الفعلُ مَرَّةً ويُحْمَلُ مَرَّةً أُخْرَى على
اسمٍ مبنيّ على الفعل أىَّ ذلك فعلتَ جاز. فإِن حمَلتَه على الاسم الذى
بُنى عليه الفعلُ كان بمنزلته إذا بنيتَ عليه الفعل مبتدأ، يجوز فيه ما
يجوز فيه، إذا قلتَ: زيدٌ لقيتهُ، وإن حَملته على الذى بُنَى على الفعل
اختيرَ فيه النصبُ كما اختير فيما قبله، وجاز فيه ما جاز فى الذى قبله.
وذلك قولك: عمرو ولقيته وزيد كلمته، إن حملت الكلام على الأول. وإن
حملته على الآخر قلت: عمرو لقيته وزيداً كلمته.
ومثل ذلك قولك: زيد لقيت أباه وعمرا مررت به، إن حملته على الأب. وإن
حملته على الأول رفعت.
والدليلُ على أنّ الرفع والنصب جائز كلاهما، أنَّك تقول: زيدٌ لقيتُ
أباه وعمراً، إن أردت أنَّك لقيتَ عمراً والأبَ. وإن زعمتَ أنّك لقيتَ
أبا عمرو ولم تَلْقَهُ رفعتَ.
ومثل ذلك: زيدٌ لقيتهُ وعمروٌ، إنْ شئت رفعتَ وإنْ شئتَ قلت: زيدٌ
لقيتهُ وعمراً. وتقول أيضاً: زيد ألقاه وعمراً وعمر. فهذا يُقَوَّى
أنكّ بالخيار فى الوجهَيْنِ.
(1/91)
وتقول: زيد ضربني وعمرو مررت به، إن حملتَه
على زيد فهو مرفوعٌ لأنّه مبتدأ والفعلُ مبنىٌّ عليه، وإن حملتَه على
المنصوب قلت زيدٌ ضربَنى وعمراً مررت به لأن هذا الإضمار بمنزلة الهاء
فى ضربته. فإِن قلت: ضربنى زيدٌ وعمراً مررت به، فالوجهُ النصبُ لأنّ
زيدا ليس مبنياَّ عليه الفعل مبتدأ، وإنما هو ههنا بمنزلة التاء فى
ضربتُه، وذكرتَ المفعولَ الذى يجوز فيه النصب فى الابتداء، فحملتَه على
مثل ما حملت ما قبله وكان الوجهَ، إذ كان ذلك يكون فيه فى الابتداء.
وإذا قلتَ: مررتُ يزيد وعمراً مررتُ به، نصبتَ وكان الوجهَ، لأنّك بدأت
بالفعل ولم تَبتدئ اسما تَبنيه عليه، ولكنّك قلت: فعلتُ ثم بنيتَ عليه
المفعول وإن كان الفعلُ لا يَصِلُ إليه إلاَّ بحرف الإِضافة، فكأَنّك
قلت: مررتُ زيدا. ولولا أنّه كذلك ما كان وجهُ الكلام زيدا مررتَ به،
وقمتُ وعمراً مررتُ به. ونحوُ ذلك قولك: خَشّنْتُ بصدره فالصدرُ فى
موضع نصب وقد عملت الباء. و " كَفَى باِلله شَهِيداً بَيْنِى
وبَيْنَكُمْ " إنّما هى كفى اللهُ، ولكنَّك لمّا أَدخلتَ الباءَ
عَمِلَتْ، والموضُع موضعُ نصب وفى معنى النصب. وهذا قولُ الخليل رحمه
الله.
(1/92)
وإذا قلت: عبدُ الله مررتُ به أَجريتَ
الاسم بعدَه مُجراه بَعْدَ: زيدٌ لقيتهُ، لأنّ مررتُ بعبدِ الله يُجرى
مُجْرَى لقيتُ عبدَ الله. وتقول: هذا ضاربٌ عبدَ الله وزيداً يَمُرُّ
به إن حملتَه على المنصوب، فإِن حملته على المبتدإ وهو هذا رفعتَ. فإِن
أَلقيتَ النونَ وأنت تُريدُ معناها فهو بتلك المنزلة، وذلك قولك: هذا
ضاربُ زيدٍ غداً وعمراً سيَضْرِبهُ. ولولا أنّه كذلك لما قلتَ: أَزيداً
أنت ضاربُه وما زيدا أنا ضاربهُ. فهذا نحُو مررتُ بزيد، لأنًَّ معناه
منَّوناً وغيرَ منوَّن سواءٌ، كما أنَّك إذا قلت: مررتُ بزيد فكأَنّك
قلت: مررتُ زيدا.
وتقول: ضربتُ زيدا وعمراً أنا ضَاربُه، يُختارُ هذا كما يُختارُ فى
الاستفهام.
وممّا يُختار فيه النصبُ قولُ الرجل: مَنْ رأَيتَ وأَيَّهم رأيتَ،
فتقول: زيدا رأيتُه، تُنْزِله منزلة قولك: كلّمتُ عمرا وزيداً لقيتُه.
ألا ترى أن الرَّجُلَ يقول: مَنْْ رأيتَ فتقولُ: زيداً على كلامه
فيَصيرُ هذا بمنزلة قولك رأيتُ زيدا وعمرا، يجرى على الفعل كما يجرى
الآخِر على الأوّل بالواو. ومثل ذلك قولك: أرأيتَ زيدا، فتقولُ لا
ولكنْ عمراً مررتُ به. ألاَ ترى أنّه لو قال لا ولكن عمراً، لَجَرى على
أرأيتَ. فإِن قال: من رأيتَه وأيُّهم رأيتَه فأجَبْْتَه قلتَ زيدٌ
رأيتُه، إلاّ فى قول من قال زيدا رأيتُه فى الابتداء، لأنّ هذا كقولك:
أيُّهم منطلقٌ ومَنْ رسولٌ؟ فيقول فلانٌ. وإن قال: أعبدَ اللهِ مررتَ
به أمْ زيداً قلت: زيداً مررتُ به، كما فعلتَ ذلك فى الأوّل. فإِن قلت
لا بل زيداً فانْصِبْ أيضاً كما تقول زيداً إذا قال من رأيت؟ لأنّ
مررتُ به تفسيرهُ لقيتُه ونحوُها.
(1/93)
فإِنّما تَحْمِل الاسمَ على ما يَحْمِلُ
السائلُ، كأنّهم قالوا: أيَّهم أَتَيْتَ؟ فقلتَ زيداً.
ولو قلت: مررتُ بعمروٍ وزيدا لكانَ عربيا، فكيف هذا؟ لأنّه فعِلٌ
والمجرورُ فى موضع مفعولٍ منصوبٍ، ومعناه أتيتُ ونحوُها، تحمل الاسمُ
إذا كان العاملُ الأوّلُ فعلا وكان المجرورُ فى موضع المنصوب على فعلٍ
لا ينقض المعنى. كما قال جرير:
جِئْنِى بِمثلِ بنى بَدْرٍ لقومهم ... أو مثل أسرة منظورة بن سَيَّارِ
ومثله قول العجّاج:
يَذْهَبْنَ فى نَجْدٍ وغَوْراً غائراَ
كأنه قال: ويَسلكن غورا غائرا، لأنّ معنى يَذْهَبْنَ فيه يسلكُن.
ولا يجوز أن تُضْمِرَ فعلاً لا يَصلُ إلاّ بحرف جرّ، لأنّ حرف الجرّ لا
يُضْمَرُ، وسترى بيان ذلك. ولو جاز ذلك لقلت زيدٍ تريد مُرَّ بزيد.
(1/94)
ومثل هذا وحوراً عيناً في قراءة أُبَىَّ بن
كعبِ.
فإِنْ قلتَ: لقيتُ زيدا وأَماَّ عمروٌ فقد مررتُ به، ولقيتُ زيدا وإذا
عبدُ الله يَضربهُ عمروٌ فالرفعُ، إلاّ فى قول من قال: زيداً رأيتهُ
وزيدا مررتُ به، لأنَّ أَمَّا وإذا يُقطَعُ بهما الكلامُ، وهما من حروف
الابتداء يَصرفانِ الكلامَ إلى الابتداء إلاّ أن يَدْخُلَ عليهما ما
يَنْصِب، ولا يُحْمَلُ بواحدٍ منهما آخِرٌ على أوّلَ كما يُحْمَل
بثُمَّ والفاءِ، ألا ترى أنهّم قرءُوا: " وأما ثمود فهديناهم " وقبله
نصبٌ، وذلك لأنها تَصرِفُ الكلامَ إلى الابتداءِ، إلاّ أن يُوقَع
بعدَها فعلٌ، نحو أمّا زيداً فضربتُ.
ولو قلت: إنَّ زيداً فيها أو إنّ فيها زيدا وعمروٌ أَدخلتُه أو دخلتُ
به، رفعتهَ إلاَّ فى قول من قال: زيداً أدخلته وزيداً دخلت به، لأنّ
إنّ ليس بفعل وإنّما هو مشبَّهٌ به. ألا ترى أنّه لا يُضْمَرُ فيه
فاعلٌ ولا يؤّخَّرُ فيه الاسمُ، وإنّما هو بمنزلة الفعل كما أن عشرين
درهما وثلاثين رجلا بمنزلة ضارِبينَ عبدَ الله وليس بفعل ولا فاعل.
(1/95)
وكذلك ما أحسنَ عبدَ الله وزيدٌ قد رأيناه،
فإِنما أجريتهَ - يُعنَى أحسن - فى الموضع مُجرَى الفعل في عمِله، وليس
كالفعل ولم يجيء على أمثلته ولا على إضمارِه، ولا تقديمهِ ولا تأخيره
ولا تصرُّفِه، وإنّما هو بمنزلة لَدُنْ غُدْوَةً وكمْ رَجُلاً، فقد
عَمِلاَ عَمَلَ الفعل وليسا بفعل ولا فاعلٍ.
ومما يُختَار فيه النصبُ لنصبِ الأوّل ويكون الحرفُ الذى بين الأول
والآخر بمنزلة الواو والفاءِ وثُمَّ قولك: لقيتُ القومَ كلَّهم حتَّى
عبدَ الله لقيتُه، وضربتُ القوم حتّى زيداً ضربت أباه، وأتيت القوم
أجمعين حتى زيدا مررت به، ومررت بالقوم حتى زيداً مررتُ به. فحتّى
تَجْرِى مَجْرى الواو وثُمّ، وليست بمنزلة أمّا لأنّها إنَّما تكون على
الكلام الذى قبلها ولا تُبْتَدَأُ وتقول: رأيتُ القومَ حتّى عبدَ الله،
وتسكتُ، فإِنّما معناه أنّك قد رأيت عبدَ الله مع القوم كما كان رأيتُ
القومَ وعبدَ الله على ذلك. وكذلك ضربتُ القومَ حتّى زيداً أنا ضاربُه.
وتقول: هذا ضاربُ القومِ حتّى زيدا يَضربه، إذا أردتَ معنى التنوين،
فهى كالواو إلاّ أنّك تَجرّ بها إذا كانت غايةً والمجرورُ مفعولٌ كما
أنَّك إذا قلت هذا ضاربُ زيدٍ غداً تجر بكفّ التنوين. وهو مفعولٌ
بمنزلته منصوباً منوّنا ما قبله.
ولو قلت: هَلَك القومُ حتّى زيداً أَهلكتهُ، أخْتِير النصبُ، ليُبنَى
على الفعل كما بُنى ما قبله مرفوعا كان أو منصوبا، كما فُعِل ذلك بعد
ما بُنى على الفعل وهو مجرور.
(1/96)
فإن قلت: إنما هو لنصب اللفظ، فلا تنصبْ
بعد مررتْ بزيد وانصِبْ بعد إنَّ فيها زيدا. وإن كان الأوّل لأنّه فى
معنى الحديث مفعولٌ، فلا ترفَعْ بعد عبِد الله إذا قلت عبدُ الله
ضربتُه إذا كان بعده: وزيداً مررت به.
وقد يحسُنُ الجرُّ فى هذا كلَّه، وهو عربىّ. وذلك قولك لقيت القوم حتى
عبد الله لقيته، فإِنَّما جاء بلقيتهُ توكيداً بعد أنْ جعله غايةً، كما
تقول مررتُ بزيدٍ وعبدِ الله مررتُ به. قال الشاعر وهو ابن مروان
النحوى:
أُلْقَى الصَّحِيفةَ كَىْ يُخَفَّفَ رَحْلَهُ ... والزَّادَ حتّى
نَعْلِهِ، أَلقَاهَا
والرفعُ جائزٌ كما جاز فى الواو وثّم، وذلك قولُك لقيتُ القومَ حتى عبد
الله لقيته، كأنك لقيتُ القومَ حتّى زيدٌ مَلْقِىٌّ، وسَرّحتُ القومَ
حتّى زيدٌ مسرَّحٌ، وهذا لا يكون فيه إلا الرفع، لأنك لم تذكر فعلا،
فإذا كان فى الابتداء زيدٌ لقيتُه بمنزلة زيدٌ منطلق جاز ههنا الرفع.
(1/97)
بابُ ما يخُتارُ فيه النصبُ وليس قبلَه
منصوبٌ
بُنىَ على الفعل، وهو بابُ الاستفهام وذلك أنّ من الحُروفِ حُروفاً لا
يُذْكَرُ بعدها إلاّ الفعلُ ولا يكون الذى يَليها غيره، مظهراً أو
مضمراً.
فما لا يليه الفعلُ إلاّ مظهراً: قَدْ، وسَوْفَ، ولَمَّا، ونحوُهنَّ.
فإِن اضطُرّ شاعرٌ فقَدّم الاسمَ وقد أوقع الفعل على شيء من سببه لم
يكن حدُّ الإِعراب إلاَّ النَّصبَ، وذلك نحوُ لم زَيدا أَضرِبْهُ، "
إذا اضطُرّ شاعرٌ فقدَّم لم يكن إلاّ النصبُ في زيد ليس غير، ولو كان
فى شعرٍ "، لأنّه يُضمِرُ الفعلَ إذا كان ليس ممّا يليه الاسمُ، كما
فعلوا ذلك فى مواضع ستراها إن شاء الله.
وأمّا ما يجوز فيه الفعلُ مضمرا ومظهرا، مقدّما ومؤخَّرا، ولا يستقيم
أن يُبْتَدَأ بعده الأسماء، فهَلاَّ ولوْلا ولَوْمَا وأَلاّ، لو قلت:
هَلاَّ زيداً ضربتَ ولولا زيداً ضربتَ وألاّ زيداً قتلتَ جاز. ولو
قلتَ: ألاّ زيدا وهلا زيدا على إضمار الفعل ولا تذكُره جاز. وإنّما جاز
ذلك لأنَّ فيه معنى التحضيض والأمر، فجاز فيه ما يجوز فى ذلك.
ولو قلتَ: سَوْفَ زيدا أضربُ لم يحسُنْ، أو قد زيدا لقيتُ لم يحسُنْ،
لأنّها إنما وُضِعَتْ للأفعال، إلاّ أنّه جاز فى تلك الأحرف التأْخيرُ
والإضمارُ، لما
(1/98)
فابتدءوا بعدها الأسماء والأصلُ غيرُ ذلك،
ألا ترى أنّهم يقولون: هَلْ زيدٌ منطلقٌ، وهل زيدٌ فى الدار، " وكيف
زيدٌ آخِذٌ ". فإِن قلت: هل زيداً رأيتَ وهل زيدٌ ذهب قَبُحَ ولم يجُزْ
إلاّ فى الشعر، لأنّه لمّا اجتمع الاسمٌ والفعلُ حملوه على الأصل فإِن
اضطُرَّ شاعرٌ فقدّم الاسمَ نصبَ كما كنتَ فاعلاً ذلك بقَدْ ونحوِها.
وهو فى هذه أحسنُ، لأنّهُ يبتدأُ بعدها الأسماءُ. وإنَّما فعلوا ذلك
بالاستفهام لأنه كالأمر فى أَنّه غيّرْ واجبٍ، وأنه يريد " به " من
المخاطّبِ أمراً لم يَسْْتقِرَّ عند السائل. ألا ترى أن جوابه جزم
فلهذا اختير النصبُ وكَرِهُوا تقديمَ الاسم، لأنّها حروفٌ ضارَعَتْ بما
بعدها ما بعد حروف الجزاء، وجوابُها كجوابه وقد يَصير معنى حديثها
إليه. وهى غيرُ واجبهٍ كالجزاء، فقَبُحَ تقديمُ الاسم " لهذا ". ألا
ترى أنّك إذا قلت: أَيْنَ عبدُ الله آتهِ، فكأَنكّ قلتَ: حيثُما يَكُنُ
آتِه.
وأمّا الألفُ فتقديمُ الاسم فيها قبل الفعل جائزٌ كما جاز ذلك فى
هَلاّ، " وذلك " لأنّها حرفُ الاستفهام الذى لا يزول " عنه " إلى غيره،
وليس للاستفهام فى الأصل غيُره. وإنّما تركوا الألفُ فى مَنْ، ومتَى،
وهَلْ، وهنحوهن حيث أمنوا الالتباس، ألا ترى أنك تدخلهاعلى مَنْ إذا
تمَّتْ بصلتها، كقول الله عزّ وجلّ: " أَفَمَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ
خَيْرٌ أَمَّنْ يَاتِى آمِناً يَوْمَ الْقِيَامِة ". وتقول:
(1/99)
أَمْ هَلْ، فإِنّما هى بمنزلة قد، ولكنّهم
تركوا الألفَ استغناء، إذ كان هذا " الكلامُ " لا يقَعُ إلاّ فى
الاستفهام. وسوف تراه إن شاء الله متبيّنا أيضاً. فهى ههنا بمنزلة إن
فى باب الجزاء، فجاز تقديمُ الاسمِ فيها، كما جاز فى قولك: إنِ شاء
اللهُ أَمْكَنَنى من فلانٍ فعلتُ " كذا وكذا ". ويُختار فيها النصبُ،
لأنّك تُضْمِرُ الفعلَ فيها، لأنّ الفعَل أولَى إذا اجتمع هو والاسمُ.
وكذلك كنت فاعلاً فى إن، لأنّها إنّما هى للفِعْلِ. وسترى بيان ذلك إن
شاء الله.
فالألفُ إذا كان معها فعلٌ، بمنزلة لولا وهلاّ، إلاّ أنَّك إن شئت
رفعتَ فيها، وهو فى الألِف أمثلُ منه فى متى ونحوها، لأنه ق صار فيها
مع أنك تبتدي بعدها الأسماء أنّك تُقَدَّمُ الاسمَ قبل الفعل، والرفُع
فيها على الجواز.
ولا يجوز ذلك فى هَلاّ ولولا، لأنّه لا يُبتدأُ بعدهما الأسماءُ. وليس
جوازُ الرفع فى الألف مثلَ جواز الرفع فى ضربتُ زيدا وعمراً كلمتهُ،
لأنه ليس هاهنا حرف هو بالفعل أولى، وإنما اختير هذا على الجواز،
وليكونَ معنىً واحداً،
(1/100)
فهذا أقوى. والذى يُشْبِههُ من حروف
الاستفهام الألف.
" واعلم أ، حروف الاستفهام كلَّها يقبح أن يصيرّ بعدها الاسمُ إذا كان
الفعل بعد الاسم: لو قلت: هل زيدٌ قام وأينَ زيدٌ ضربتَه، لم يجز إلاَّ
فى الشعر، فإذا جاء فى الشعر نصبتَه، إلاَّ الألفَ فإِنه يجوز فيها
الرفع والنصب، لأن الألف قد يُبتدأ بعدها الاسمُ. فإِن جئت فى سائر
حروف الاستفهام باسم وبعد ذلك الاسمِ اسمٌ من فِعْلٍ نحُو ضارب، جاز فى
الكلام، ولا يجوز فيه النصب إلاّ فى الشعر، لو قلت: هل زيدٌ أنا ضاربُه
لكان جيَّدا فى الكلام، لأن ضارباً اسمٌ وإن كان فى معنى الفعل. ويجوز
النصب فى الشعر ".
هذا باب ما ينصب فى الألف
تقول: أَعبدَ الله ضربتَه، وأزيداً مررتَ به، وأعمرا قتلتَ أخاه،
وأعمراً اشتريتَ له ثوبا. ففى كلّ هذا قد أضمرتَ بين الألف والاسم فعلا
هذا تفسيرُه، كما فعلتَ ذلك فيما نصبتَه فى هذه الأحرف فى غير
الاستفهام. قال جرير:
(1/101)
أَثَعْلَبةَ الفَوارِسَ أم رِيَاحاً ...
عدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا
فإِذا أوقعتَ عليه " الفعلَ " أو على شيء من سببه نصبتهَ، وتفسيرُه
ههنا هو التفسيرُ الذى فُسَّرَ فى الابتداء: أنّك تُضمِر فِعلاً هذا
تفسيرهُ. إلاَّ أنّ النصب هو الذى يُختار ههنا، وهو حدُّ الكلام. وأمّا
الانتصابُ ثَمَّ وها هنا فمن وجهٍ واحدٍ. ومثلُ ذلك أَعبدَ الله كنتَ
مِثلَه، لأنَّ كنتَ فعلٌ والِمثلُ مضافٌ إليه وهو منصوبٌ. ومثلُه
أزيداً لستَ مثلَه، لأنّه فعلٌ، فصار بمنزلة قولك أزيداً لقيتَ أخاه.
وهو قول الخليل.
ومثلُ ذلك: ما أَدْرِى أَزيداً مررتُ به أم عمراً، وما أُبالِى أعبدَ
الله لقيتُ أخاه أم عمراً، لأنه حرفُ الاستفهام، وهى تلك الألفُ التى
فى قولك أزيداً لقيتَه أم عمرا.
وتقول: أعبدُ الله ضَرَبَ أخوه زيداً، لا يكون إلاّ الرفعُ، لأنَّ الذى
من سبب عبِد الله " مرفوعٌ " فاعِل، والذى ليس من سببه مفعولٌ، فيرَتفع
إذا ارتَفع الذى من سببه، كما ينتَصب إذا انتصَب، ويكون المضمرُ ما
يَرْفَعُ كما
(1/102)
أضمرتَ فى الأوّل ما يَنْصِب، فإِنما
جُعِلَ هذا المظهر بينا ما هو مثلُه. فإِن جعلتَ زيدا الفاعِلَ قلت:
أعبدَ الله ضربَ أخاه زيدٌ.
وتقول: أَعبدُ الله ضرب أخوه غلامَه إذا جعلت الغلامَ فى موضع زيد حين
قلت أعبدُ الله ضرب أخوه زيدا، فيصيرُ هذا تفسيرا لشيء رَفَعَ عبدَ
الله لأنّه يكون مُوقِعا الفعلَ بما يكون من سببه كما يوقِعُه بما ليس
من سببه، كأنّه قال فى التمثيل وإن كان لا يُتكلَّمُ به: أَعبدُ الله
أَهانَ غلامَه أو عاقبَ غلامَه، أو صار فى هذه الحال " عند السائل وإن
لم يكن " ثُم فسَّر.
وإن جعلتَ الغلامَ فى موضع زيدٍ حين رفعتَ زيداً نصبتَ فقلت: أعبدَ
الله ضَرَبَ أخاه غلامُه، كأنه جعله تفسيراً لفعلٍ غلامُهُ أوقعَهُ
عليه، لأنّه قد يوُقع الفعلَ عليه ما هو من سببه كما يوقِعُه هو على ما
هو من سببه، وذلك قولك: أعبدُ الله ضربَ أباه، وأعبدَ الله ضَرَبَهُ
أبوه، فجرى مجرى أعبدُ الله هو ضرب زيداً، وأعبد ضَرَبه زيدٌ، كأنه فى
التمثيل تفسيرٌ لقوله: أعبدَ الله أهانَ أباهُ غلامُه، وأعبدَ الله
ضربَ أخاه غلامُه. ولا عليك أقدّمتَ الأخَ أمْ أخَّرتَه، أمْ قدّمت
الغلام أمْ أخَّرته، أيهما ما جعلتَه كزيدٍ مفعولا فالأوّل رفعٌ. وإن
جعلتَه كزيد فاعِلا فالأوّلُ نصبٌ.
وتقول: آلسَّوْطَ ضُرِبَ به زيدٌ، وهو كقولك: آلسّْوطَ ضُربتَ به.
وكذلك آلخِوانَ أُكِلَ اللحمُ عليه، و " كذلك " أزيداً سُمّيتَ به أو
سُمَّى به
(1/103)
عمروٌ، لأنّ هذا فى موضع نصب، وإنّما
تعتَبره أنك لو قلت: آلّسّوْطَ ضُربْتَ فكان هذا كلاماً، أو آلِخوانَ
أُكِلْتَ، لم يكن إلاَّ نصبا، " كما أنك لو قلت: أزيداً مررتَ فكان
كلاماً لم يكن إلاَّ نصبا ". فمن ثُّمَّ جُعِل هذا الفعلُ الذى لا
يَظهر تفسيُره تفسيرَ ما يَنْصِب.
فاعتَبِرْ ما أشْكَلَ عليك من هذا بذا. فإِن قلت: أزيدٌ ذهب به أو أزيد
انطلِقَ به، لم يكن إلاّ رفعاً، لأنك لو لم تقل " به " فكان كلاماً لم
يكن إلا رفعا، كما قلت: أزيد ذهب أخوه، لأنك لو قلت: أزيد ذهب لم يكن
إلا رفعا.
وتقول: أزيداً ضَربتَ أخاه، لأنكَ لو ألقيت الأخَ قلت: أزيداً ضربتَ.
فاعتبِرْ هذا بهذا، ثم اجعَلْ كلَّ واحدٍ جئتَ به تفسيرَ " ما هو "
مثلُه.
واليومُ والظروفُ بمنزلة زيدٍ وعبدِ الله، إذا لم يكنَّ ظروفا، وذلك "
قولك ": أَيَوْمَ الجُمُعَةِ يَنطلِقُ فيه عبدُ الله، كقولك: أعمراً
تكلَّمَ فيه عبدُ الله، وأيومُ الجمعة يُنْطَلَقُ فيه، كقولك: أزيدٌ
يُذْهَبُ به.
وتقول: أَأَنت عبدُ الله ضربتَه، تُجْرِيه هاهنا مُجرى أنا زيدٌ
ضربتُه، لأنّ الذى يَلِى حرفَ الاستفهام أَنْتَ ثمّ ابتدأتَ هذا وليس
قبله حرف استفهام ولا شيء هو بالفعل وتقديمِه أَوْلى. إلاّ أنك إن شئت
نصبته كما تنصب زيداً ضربتُه، فهو عربىٌّ جَيّدٌ، وأمرهُ " ها " هنا
على قولك: زيدٌ ضربتهُ.
فإِن قلت: أَكُلَّ يوم زيدا تَضرِبُه فهو نصبٌ، كقولك: أزيداً تضربه
(1/104)
كلَّ يوم، لأنَّ الظرف لا يَفصلِ فى قولك:
ما اليومَ زيدٌ ذاهباً، وإنّ اليومَ عمراً منطلق، فلا يحجز هاهنا كما
لا يحَجُزُ ثَمَّةََ.
وتقول: أعبدُ الله أخوه تَضربه، كما تقول: أَأَنت زيدٌ ضربتَه، لأن
الاسم هاهنا بمنزلة مبتدأ ليس قبله شيء. وإن نصبته على قولك: زيدا
تضربه قلت: أزيداً أخاه تضربُه، لأنك نصبت الذى من سببه بفعل هذا
تفسيره.
ومن " قال: زيدا ضربته " قال: أزيداً أخاه تضربه، فإِنما نصب زيداً
لأنَّ ألف الاستفهام وقعت عليه، والذى من سببه منصوبٌ. وقد يجوز الرفع
فى أعبدُ الله مررتَ به، على ما ذكرت لك، وأعبدُ الله ضربتَ أخاه. "
وأما قولك: أزيدا مررتبه فبمنزلة قولك: أزيدا ضربتَهُ ". والرفع فى هذا
أقوى منه فى أعبدُ الله ضربتَه، وهو أيضاً قد يجوز إذا جاز هذا كما كان
" ذلك فيما " قبله من الابتداء، وما جاء بعدَ ما بُنى على الفعل. وذلك
أنه ابتدأَ عبدَ الله وجعل الفعلَ فى موضع
(1/105)
المبنىّ عليه، فكأَنه قال: أعبدُ الله
أخوك. فمن زعم أنّه إذا قال: أزيداً مررت به إنما ينصبه بهذا الفعل فهو
ينبغى له أن يَجَّره، لأنّه لا يَصل إلا بحرف إضافة.
وإذا أعملتِ العربُ شيئاً مضمراً لم يَخرج عن عمله مظهراً فى الجر
والنصب والرفع؛ تقول: وبلدٍ، تريد: ورُبَّ بلدٍ. وتقول: زيدا تريد:
عليك زيدا. وتقول: الهلالُ، تريد: هذا الهلال، فكلُّه يَعمل عملَه
مظهرا.
ومما يقبح بعده ابتداءُ الأسماء ويكون الاسم بعده إذا أوقعت الفعل على
شيء من سببه نصباً فى القياس: إذَا، وحَيْثُ. تقول: إذا عب الله
تلَقْاه فأكرمه،
(1/106)
وحيث زيدا تجدهُ فأَكرمْه؛ لأنّهما يكونانِ
فى معنى حروف المجازاة. ويقبح إن ابتدأت الاسم بعدهما إذا كان بعده
الفعل. لو قلت: اجلسْ حيث زيدٌ جَلَسَ وإذا زيدٌ يجلسُ كان أقبحَ من
قولك: إذا جلس زيدٌ وإذا يجلسُ، وحيث " يجلسُ، وحيث " جلس. والرفع
بعدهما جائز، لأنك قد تبتدئ الأسماء بعدهما فتقول: اجلسْ حيث عبد الله
جالسٌ، واجلس إذا عبد الله جلس.
ولإذا مواضع آخر يحسن ابتداءُ الاسم بعدها فيه. تقول: نظرت فإذا زيد
يضربه عمرو، لأنك لو قلت: نظرتُ فإِذا زيدٌ يذهبُ، لَحُسنَ. وأَمَّا
إِذْ فيَحسن ابتداء الاسم بعدها. تقول: جئت إذ عبد الله قائم، و " جئت
" إذ عبدُ الله يقوم، إلاّ أنها فى فَعَلَ قبيحة، نحو قولك: جئت إذ
عبدُ الله قام. ولكنّ " إذْ " إنما يقع فى الكلام الواجب، فاجتمع فيها
هذا وأنك تبتدئ الاسمَ بعدها، فحسن الرفعُ.
ومما ينتصب أوّلُه لأن آخِره ملتبِس بالأول، قوله: أزيدا ضربتَ عمراً
وأخاه، وازيداً ضربت رجلاً يحبه، وأزيدا ضربتَ جاريتينِ يحبّهما، فإنما
نصبت الأوّل لأنّ الآخِرَ ملتبِس به، إذ كانت صفتُه ملتبسة به. وإذا
أردت أن تَعْلَم التباسه به فأَدخلْه فى الباب الذى تقدَم فيه الصفَة،
فما حسنُ تقديمُ صفته فهو ملتبس بالأول، وما لا يحسن فليس ملتبسا به.
ألا ترى أنكَّ تقول: مررت برجل منطلقةٍ جاريتان يحبّهما، ومررت برجل
منطلقٍ زيدٌ وأخوه؛ لأنَّك لما أشركت
(1/107)
بينهما فى الفعل صار زيدٌ ملتبسا بالأخ
فالتَبس برجل، ولو قلت: أزيدا ضربتَ عمرا وضربت أخاه لم يكن كلاما،
لأنَّ عمرا ليس فيه من سبب الأول شيء ولا ملتبسا به. ألا ترى أنّك لو
قلت: مررت برجل قائم عمرو وقائم أخوه لم يجز، لأنَّ أحدهما ملتبس
بالأول والآخَر ليس ملتبسا.
هذا باب ما جَرَى فى الاستفهام..
من أَسماءِ الفاعلينَ والمفعولينَ مَجرَى الفعل كما يَجرى فى غيره
مَجرى الفعل وذلك قولك: أزيداً أنت ضاربُه، وأزيدا أنت ضاربٌ له،
وأعمراَ أنت مُكرِمٌ أخاه، وأزيدا أنت نازلٌ عليه. كأَنّك قلت: أنت
ضاربٌ، وأنت مُكْرِمٌ، وأنت نازل، كما كان ذلك فى الفعل، لأنّه يَجرى
مَجراه ويَعْمَلُ فى المعرفة كلَّها والنكرةِ، مقدَّما ومؤخَّرا،
ومظْهَرا ومضْمرا.
(1/108)
وكذلك: آلدّارَ أنت نازلٌ فيها.
وتقول: أعمراً أنت واجدٌ عليه، وأخالداً أنت عالم به، وأزيدا أنت راغبٌ
فيه، لأنك لو ألقيت عليه وبه وفيه مما ها هنا لتعتبِرَ، لم يكن ليكون
إلاّ مما ينتصب، كأَنّه قال: أعبدَ الله أنت ترغَبُ فيه، وأعبدَ الله
أنت تعلَمُ به، وأعبدَ الله أنت تجِدُ عليه، فإِنما استفهمتَه عن علمه
به ورغْبَتِه فيه فى حال مسألتك.
ولو قال: آلدَّارُ أنت نازلٌ فيها، فجَعَل نازلاً اسماً رفَع، كأنّه
قال: آلدارُ أنت رجل فيها.
ولو قال: ازيدٌ أنت ضاربةُ فجعله بمنزلة قولك: " أزيداً " أنت أخوه
جاز. ومثل ذلك فى النصب: أزيدا أنت محبوسٌ عليه، وأزيداً أنت مُكابَرٌ
عليه. وإن لم يرد به الفعلَ وأراد به وجهَ الاسم رَفَع.
وكذلك جميعُ هذا، فمفعولٌ مثلُ يُفعَلُ، وفاعِلُ مثلُ يَفعَلُ.
وممّا يُجرىَ مجرى فاعلٍ من أسماء الفاعلين فَواعِلُ، أَجْروَه مُجرى
فاعِلَةٍ حيث كانوا جمعوه وكسَّروه عليه، كما فعلوا ذلك بفاعلينَ
وفاعِلاتٍ. فمن ذلك قولهم: هنّ حَواجٌّ بيتَ الله. وقال أبو كبير
الهذلي:
مما حَمَلنَ به وهنّ عَواقِدٌ ... حُبُكَ النَّطاقِ فعاشَ غير مهبل
(1/109)
وقال العجّاج:
أَوَالِفاً مَكّةَ مِنْ وُرْقِ الحَمِى
وقد جعل بعضهم فعالاً بمنزلة فواعل، فقالوا: قُطّانٌ مكّةَ، وسُكّانٌ
البلدَ الحرامَ، لأنه جمعٌ كفواعِلَ.
وأجروا اسمَ الفاعل، إذا أرادوا أن يبالِغوا فى الأمر، مُجراه إذا كان
على بناء فاعلٍ، لأنّه يريد به ما أراد بفاعل من إيقاع الفعل، إلاّ
أنّه يريد أن يُحدَّثَ عن المبالغة. فمَا هو الأصلُ الذى عليه أكثُر
هذا المعنى: فَعولٌ، وفعّال ومفعال، وفَعِلٌ. وقد جاء: فَعيلٌ كَرحيمٍ
وعَليم وقَدير وسَميع وبَصير، يجوز فيهنّ ما جاز فى فاعِلٍ من التقديم
والتأخير، والإِضمار والإظهار. لو قلت: هذا ضروب رؤوس الرجال وسوقَ
الإِبل، على: وضروبٌ سوقَ الإِبل جاز، كما تقول: " هذا " ضارِبُ زيدٍ
وعمرا، تُضمِر وضاربٌ عمرا.
ومما جاز فيه مقدَّما ومؤخَّرا على نحو ما جاء فى فاعِلٍ، قول ذى
الرُّمّة:
هَجُومٌ عليها نَفسَه غيرَ أَنّه ... متى يُرْمَ فى عينَيه بالشَّبْحِ
يَنْهَضِ
(1/110)
وقال أبو ذُؤيْبٍ الهذلىُّ:
قَلَى دِينَه وأهتاجَ للشَّوْقِ إنّها ... عَلَى الشَّوقِ إخْوانَ
العَزاءِ هَيوجُ
وقال القلاُخُ:
أَخا الحَرْبِ لَبّاساً إليها جِلالَها ... وليس بولاّجِ الخَوالفِ
أَعْقَلاَ
وسمعنا من يقول: " أمّا العَسَلَ فأنا شَرّابٌ ". وقال:
بكيتُ أخا اللأواء يحمد يومه ... كريم، رؤوس الدَّارِعينَ ضَروبُ
وقال أبو طالب بن عبد المطّلب:
ضَروبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها ... إذا عَدِموُا زاداً
فإنّكَ عاقِرُ
(1/111)
وقد جاء فى فَعِل وليس فى كثَرة ذلك، قال،
وهو عمرو بن أحمر:
أو مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادةَ سَمْحَجٍ ... بسَرَاته نَدَبٌ لها وكلوم
وقل: " إنّه لَمِنحارٌ بوَائكَها ".
وفَعِلٌ أقلُّ من فَعيلٍ بكثير.
وأجروه حين بنوه للجمع كما أُجرىَ فى الواحد ليكونَ كفَواعِلَ حين
أُجرىَ مثل فاعلٍ، من ذلك قول طرفة:
(1/112)
ثم زادوا أنّهمْ في قومِهمْ ... غُفُرٌ
ذنَبهُمُ غيرُ فجُرْ
ومما جاء على فَعِل قوله:
حَذِرٌ أُمورا لا تُخافُ وآمِنٌ ... ما ليس مُنْجِيهُ من الأقدارِ
ومن هذا الباب قولُ رؤبة:
برأس دماغ رؤوس العز
ومنه قول ساعدة بن جوية:
(1/113)
حتى شآها كليل موهنا عمل ... باتتْ طِراباً
وباتَ الليلَ لم يَنَمِ
وقال الكُميت:
شُمًّ مَهاويِنَ أبْدَانَ الجَزُورِ مَخا ... مِيصِ العَشِيّاتِ لا
خُورٍ ولا قَزَمِ
(1/114)
ومنه قَدِيرٌ وَعليم ورَحيم، لأنه يريد
المبالغة " فى الفعل ".
وليس " هذا " بمنزلة قولك حسنٌ وجهَ الأخ، لأن هذا لا يُقلَبُ ولا
يضمر، وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام أو نكرةً، ولا تعْنِى به
أنك أوقعت فِعْلاً سلفَ منك إلى أحدٍ.
ولا يَحْسُنُ أن تَفصل بينهما فَتقولَ: هو كريمٌ فيها حَسَبَ الأب.
ومما أُجرى مُجرى الفعل من المصادر قول الشاعر:
يمرون بالدَّهْنا خِفافاً عِيابُهمْ ... ويَخْرُجن من دارِينَ بُجْرَ
الحقائب
(1/115)
على حِينَ أَلْهَى الناسَ جُلُّ أُمورِهْم
... فنَدْلاً زُرَيقُ المالَ نَدلَ الثَّعالِبِ
كأنّه قال: أندلْ. وقال المرّار الأسدىّ:
أَعَلاقةً أُمَّ الولَيَّدِ بعد ما ... أَفْنانُ رأْسِكَ كالثَّغامِ
المُخْلِسِ
وقال:
بضَرْبٍ بالسيوف رؤوس قَوْمٍ ... أزَلنا هامَهنّ عَنِ المَقِيلِ
(1/116)
وتقول: أَعبدُ الله أنت رسولٌ له ورسولُه،
لأنّك لا تريد بفَعولِ ههنا ما تريد به فى ضَروبٍ، لأنك لا تريد أن
تُوقِعَ منه فِعلاً عليه، فإنما هو بمنزلة " قولك ": أَعبدُ الله أنتِ
عَجوزٌ له. وتقول: أعبدُ الله أنتَ له عديلٌ وأعبدُ الله أنت لَه
جليسٌ، لأنك لا تريد به مبالغةً فى فِعْلٍ، ولم تقل: مُجالِسٌ فيكونُ
كفاعِلٍ، فإنما هذا اسمٌ بمنزلة قولك: أزيدٌ أنت وَصِيفٌ له أو غُلامٌ
له. وكذلك: آلبَصرةُ أنتَ عليها أميرٌ.
فأمّا الأصلُ الأكثُر الذي جرى مجرى الفعل في من الأسماء ففاعِلٌ.
وإِنَّما جاز فى التى بُنيتْ للمبالغة لأنَّها بُنِيَتْ للفاعِلِ من
لفظِه والمعنى واحدٌ، وليستْ بالأبنيِة التى هى فى الأصل أن تَجْرِىَ
مجرى الفعل، يَدلّك على ذلك أنَّها قليلة. فإذا لم يكن فيها مبالغةُ
الفِعل فإِنّما هى بمنزلة غلامٍ وعبدٍ، لأنَّ الاسم على فَعَلَ
يَفْعَلُ فاعِلٌ، وعلى فُعِلَ يُفْعَلُ مَفْعولٌ. فإِذا لم يكن واحدٌ
منهما ولا الذى لمبالغة الفاعل لم يكن فيه إلاّ الرفعُ.
وتقول: أكلُّ يومٍ أنت فيه أميرٌ، ترفعه لأنَّه ليس بفاعلٍ، وقد خرج "
كلُّ " من أن يكونَ ظرفاً، فصار بمنزلة عبدُ اللهِ ألا ترى أنّك إذا
قلت: أكلُّ يومٍ يُنطَلقُ فيه، صار كقولك: أزيدٌ يُذهَبُ به ولو جاز أن
تَنصبَ كلَّ يوم وأنت تريد بالأمير الاسمَ لقُلتَ: أعَبْدَ اللهِ عليه
ثوبٌ لأَنك تقول: أكلَّ يوم لك
(1/117)
ثوب، فيكونُ نصباً. فإِن قلت: أكلَّ يوم لك
فيه ثوب فنصبت، وقد جعلته خارجاً من أن يكون ظرفاً، فإِنه ينبغى أن
تنصب: أعبد الله عليه ثوب. وهذا لا يكون، لأن الظرف هنا لم ينصبه فعل،
إنما عليه ظرف للثوب، وكذلك فيه.
هذا باب الأفعال التي تستعمل وتلغى
فهي ظننت، وحَسِبتُ، وخِلتُ، وأُريتُ ورأَيتُ، وزعمتُ، وما يتصرفّ من
أفعالهن.
(1/118)
فإِذا جاءتْ مستعمَلةً فهى بمنزلة رأيت
وضربتُ وأََعطيتُ فى الإِعمال والبناءِ على الأوَّل، فى الخبر
والاستفهام وفي كل شيء. وذلك قولك: أظُنُّ زيدا منطلقا، وأظنّ عمراً
ذاهباً، وزيدا أظنُّ أخاك، وعمرا زعمتُ أباك.
وتقول: زيدٌ أظنّه ذاهبا. ومن قال: عبدَ الله ضربتُه نصَبَ " فقال ":
عبدَ الله أظنّه ذاهبا.
وتقول: أظنُّ عمراً منطلقا وبكرا أظنّه خارجاً، كما قلت: ضربت زيداً
وعمراً كلمه، وإن شئتَ رفعتَ على الرفع فى هذا.
فإِن ألغيتَ قلت: عبدُ الله أظنُّ ذاهبٌ، وهذا إخالُ أخوك، وفيها أُرَى
أبوك. وكلَّما أردتَ الإِلغاء فالتأخيرُ أقوى. وكلٌّ عربىٌّ " جيدّ ".
وقال اللَّعين يهجو العجَّاج:
(1/119)
أَبِالأراجيزِ يا ابنَ اللُّؤْمِ توعدُِنُي
... وفى الأراجيز خِلْتُ اللُّؤْمُ والخَوَرُ
أنشدَنَاه يونسُ مرفوعا عنهم. وإنما كان التأخير أقوى لأنه " إنما "
يجيء بالشكّ بعدما يَمْضِى كلامُه على اليقين، أو بعدما ما بتبدئ وهو
يريد اليقينَ ثم يُدْرِكُه الشكُّ، كما تقول: عبدُ الله صاحبُ ذاك
بلغَنى، وكما قال: من يقول ذاك تَدرِى، فأَخّرَ ما لم يَعمَلْ فيأوله
كلامه. وإنما جعل ذلك فيما بلغه بعدما مَضى كلامُه على اليقين، وفيما
يَدرى.
فإذا ابتدأ كلامَه على ما فى نيّته من الشكَ أَعْملَ الفعلَ قدّم أوْ
أخَّر، كما قال: زيداً رأيتُ، ورأَيتُ زيدا.
وكلَّما طال الكلامُ ضعُفَ التأخيرُ إذا أعملتَ، وذلك قولك: زيداً أخاك
أظنُّ، فهذا ضعيفً كما يضعُفُ زيداً قائماً ضربتُ؛ لأنّ الحدَّ أن
يكونَ الفعلُ مبتدأً إذا عَمِلَ.
(1/120)
وممّا جاء فى الشعر معمّلا فى زعمتُ زعمتُ
قول أبى ذؤيب:
فإِن تَزْعُمينى كنتُ أجل فيكم ... فإني شربت الحِلَم بعدكِ بالجَهلِ
وقال النابغة الجعدىّ:
عَددتَ قُشَيْراً إذ عَددتَ فلم أُسَأْ ... بذاك ولم أَزْعمْكَ عن ذاك
مَعْزِلاَ
وتقول: أين تُرَى عبدَ الله قائما، وهل تُرَى زيداً ذاهبا، لأنَّ هل
وأين كأَنَّك لم تذكرهما، لأنّ ما بعدهما ابتداءٌ، كأَنك قلت: أَتُرَى
زيداً ذاهبا، وأتَظُنُّ عمرا منطلقا.
فإِن قلت: أين، وأنت تريد أن تجعلها بمنزلة " فيها " إذا استغنَى بها
الابتداءُ، قلت: أين ترى زيدٌ، وأين تُرَى زيدا.
(1/121)
واعلم أن " قلت " إنما وقعت في كلام العرب
على أن يُحْكى بها، وإنما تَحْكِى بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً،
نحو قلتُ: زيدٌ منطلقٌ لأنه يَحسن أن تقول: زيدٌ منطلقٌ، ولا تدخل "
قلت ". وما لم يكن هكذا أسقط القول عنه.
وتقول: قال زيدٌ إنّ عمراً خيرُ الناس. وتصديق ذلك قوله جل ثناؤه: "
وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك "، ولولا ذلك لقال: " أَنّ
" الله " ".
وكذلك " جميع " ما تصرَّفَ من فعله، إلاّ " تَقولُ " فى الاستفهام،
شبهوها بتظن، ولم يجعلوا كيظن وأظنّ في الاستفهام، لأنّه لا يَكادُ
يُستفهَمُ المخاطَبُ عن ظنَّ غيره ولا يُستفَهم هو إلاّ عن ظنَّه،
فإِنما جُعلتْ كتَظنّ، كما أنّ ما كَليسَ فى لغة أهل الحجاز ما دامت فى
معناها، وإذا تَغّيرت عن ذلك أو قُدّم الخبرُ رجعتْ إلى القياس، وصارت
اللُّغاتُ فيها كلغة تميمٍ.
ولم تُجْعَلْ " قلتُ " كظننتُ لأنَّها إنّما أصلُها عندهم أن يكون ما
بعدها محكياً، فلم تُدْخَلْ فى باب ظننتُ بأكثرَ من هذا، كما أنّ " ما
" لم تَقْوَ قوّةَ
(1/122)
ليس، ولم تقع فى كلّ مواضعها؛ لأنّ أصلها "
عندهم " أن يكون ما بعدها مبتدأ.
وسأفسَّر لك إن شاء الله ما يكون بمنزلة الحرف فى شيء ثم لا يكون معه
على أكثر أحواله، وقد بُيّن بعضُه فيما مضى.
وذلك قولك: متى تقول زيداً منطلقا، وأتقول عمراً ذاهبا، وأكلَّ يوم
تقول عمراً منطلقاً، لا يفصل بها كما لا يُفْصَلْ بها فى: أكلَّ يوم
زيدا تضربه. فإِن قلت: أََأَنت تقول زيدٌ منطلقٌ رفعتَ، لأنه فُصِلَ
بينه وبين حرف الاستفهام، كما فصل فى قولك: أَأَنت زيدٌ مررتَ به،
فصارت بمنزِلة أخواتها، وصارت على الأصل. قال الكميت:
أَجُهّالاً تَقول بنى لُؤَيٍّ ... لَعَمْرُ أَبيكَ أم متجاهلينا
(1/123)
وقال عُمَرُ بن أبى ربيعة:
أمّا الرَّحيلُ فدونَ بَعْدِ غَدٍ ... فَمتى تقولُ الدارَ تَجْمَعُنا
وإن شئتَ رفعتَ بما نصبتَ فجعلته حكاية.
وزعم أبو الخطّاب - وسألتُه عنه غير مرّة - أنا ناساً من العرب يوقف
بعربيّتهم، وهم بنو سُلَيْمٍ، يجعلون بابَ قلتُ أجْمَعَ مثلَ ظننتُ.
واعلم أنَّ المصدر قد يُلْغَى كما يُلْغَى الفعلُ، وذلك قولُك: متى
زيدٌ ظَنُّك ذاهبَّ، وزيدٌ ظنىَّ أخوك، وزيدٌ ذاهب ظني. فإن ابتدأ
فقلت: ظنى زيدٌ ذاهبٌ كان قبيحاً، " لا يجوز البتّة، كما ضَعُفَ
أَظُنُّ زيدٌ ذاهبٌ. وهو فى متى وأين أَحسنُ، إذا قلت: متى ظَنُّك زيدٌ
ذاهبٌ "، ومتى تَظنُّ عمرو منطلقٌ؛ لأنَّ قبله كلاماً. وإنَّما ضعف هذا
فى الابتداء كما يَضْعُفُ: غيرَ شكٍّ زيدٌ ذاهبٌ، وحقاَّ عمروٌ منطلقٌ.
(1/124)
وإن شئتَ قلتَ: متى ظنُّك زيداً أميراً،
كقولك: متى ضربُك عمراً.
وقد يجوز أن تقول: عبدُ الله أظنُّه منطلقٌ، تجعلُ هذه الهاء على ذاك،
كأَنَّك قلت: زيدٌ منطلقٌ أظنُّ ذاك، لا تجعل الهاء لعبد الله، ولكنّك
تجعلُها ذاك المصدرَ، كأَنه قال: أظنُّ ذاك الظنَّ، أو أظنُّ ظنّى.
فإِنّما يَضعُف هذا إذا ألغيتَ، لأنَّ الظنَّ يُلْغَى فى مواضعِ أَظنُّ
حتى يكونَ بدلاً من اللفظ به، فكرِهَ إظهارُ المصدرِ ههنا، كما قَبُحَ
أ، يظهر ما انتصب عليه سَقْياً. " وسترى ذلك إن شاء الله مبيَّنا ".
ولفظك بذاك أحسن من لفظ بظني. فإذا قلت: أظنُّ ذاك عاقلٌ، كان أحسنَ من
قولك: زيدٌ أظنُّ ظنىَّ عاقل ذاك أحسن، لأنه ليس بمصدر، وهو اسمٌ
مُبْهَمٌ يقع على كل شيء. ألا ترى أنَّك لو قلت: زيدٌ ظنىَّ منطلقٌ، لم
يحسُن ولم يجز أن تضع ذاك موضع ظنّى. وتَرْكُ ذاك فى أظنُّ إذا كان
لَغْواً أقوى منه إذا وقع على المصدر " لأنَّ ذاك إذا كان مصدراً فإنك
لا تجيء به، لأن المصدر يقبح أن تجيء به ههنا، فإِذا قَبُحَ المصدرُ
فمجيئُك بذاك أقبحُ لأنّه مصدر ". وإذا ألغيت فقلت: عبد الله أظنُّ
منطلق، فهذا أجمل من قولك: أظنّه. وأظنّ بغير هاءٍ أحسن لئلا يلتبس
بالاسم، وليكون أبْينَ فى أنه ليس يَعْمَلُ.
فأمّا ظننت أنّه منطلقٌ فاستُغْنى بخبر أنَّ، تقولُ: أظنُّ أّنّه فاعلٌ
كذا
(1/125)
وكذا، فتستغنى. وإنّما يُقْتصَرُ على هذا
إذا علم أنه مستغن بخبر أنه.
وقد يجوز أن تقول: ظننتُ زيداً، إذا قال: من تظنُّ، أى من تَتهمُ؟
فتقول: ظننتُ زيداً، كأَنه قال: أتَّهَمْتُ زيدا. وعَلَى هذا قيل:
ظَنينٌ " أى مُتَّهَمٌ ". ولم يَجْعَلوا ذاك فى حَسِبتُ وخِلْتُ
وأُرَى؛ لأنّ من كلامهم أن يدخلوا المعنى في الشيء لا يَدْخل فى مثله.
وسألتُه عن أيُّهم، لِمَ لَمْ يقولوا: أَيَّهم مررتَ به؟ فقال: لأن
أَيَّهم " هو " حرف الاستفهام، لا تَدخل عليه الألفُ وإِنما تُرِكَتِ
الألفُ استغناءً فصارت بمنزلة الابتداء. ألا ترى أنّ حَدّ الكلام أن
تؤخَّرَ الفعلَ فتقولَ: أَيَّهم رأيتَ، كما تَفْعَلُ ذلك بالألف، فهى
نفسُها بمنزلة الابتداء.
وإن قلت: أَيُّهم زيداً ضَرَبَ قَبُح، كما يقبح فى متى ونحوها، وصار
أَن يَلِيَهَا الفعلَ هو الأصلُ، لأنّها من حروف الاستفهام، ولا
يُحتاجُ إلى الألف،
(1/126)
فصارت كأََينَ.
وكذلك مَنْ وما، لأنَّهما يَجريان معها ولا يُفارِقانها. تقول: مَنْ
أَمَةَ الله ضَرَبَها، وما أَمَةَ الله أَتاها، نَصْبٌ فى كلَّ ذا،
لأنّه أَنْ يَلِىَ هذه الحروفَ الفعلُ أولى، كما أنه لو اضطُرَّ شاعرٌ
فى متى وأخواتها نصبَ. فقال: متى زيداً رأيته.
باب منَ الاستفهام يكون الاسمُ فيه رَفعاً
لأنّك تبتدئه لتُنبَّهَ المخاطَبَ، ثم تَستفهم بعدَ ذلك وذلك قولك:
زيدٌ كَمْ مَرّةً رأيتَه، وعبدُ الله هل لقيتَه، وعمروٌ هلاّ لِقيتَه،
وكذلك سائرُ حروف الاستفهام؛ فالعاملُ فيه الابتداءُ، كما أنّك لو قلت:
أَرأيتَ زيداً هل لقيتَه، كان علمتُ هو العامل، فكذلك هذا. فما بعد
المبتدإ من هذا الكلام فى موضع خبره.
فإن قلت: زيد كم مرة رأيتَ، فهو ضعيفٌ، إلاّ أن تُدْخِلَ الهاءَ، كما
ضعَُفَ فى قوله: " كلُّه لم أَصنْعِ ".
ولا يجوز أن تقول: زيدا هل رأيتَ، إلا أن تردي معنى الهاء مع ضعفه
فَترفَعُ، لأنّك قد فَصَلت بين المبتدإ وبين الفعل، فصار الاسمُ مبتدأَ
والفعلُ بعد حرف الاستفهام. ولو حَسُنَ هذا أو جاز لقلتَ: " قد علمتُ
زيدٌ كم ضرب،
(1/127)
ولقلت: أرأيتَ زيدٌ كم مّرةً ضُربَ على
الفعل الآخِر. فكما لا تَجِدُ بُدّاً من إعمال الفعل " الأوّل " كذلك
لا تجد بدًّا من إعمال الابتداء، لأنك إنما تجيء بالاستفهام بعدما
تَفْرُغُ من الابتداء. ولو أرادوا الإعمالَ لمَا ابتدءوا بالاسم، ألا
تَرى أنَّك تقول: زيدٌ هذا أعمروٌ ضَرَبَه أم بِشرٌ، ولا تقول: عمراً
أَضَرَبْتَ. فكما لا يجوز هذا لا يجوز ذلك. فحرفُ الاستفهام لا
يُفْصَلُ به بين العامل والمعمولِ، ثمّ يكون على حاله إذا جاءت الألفُ
أوّلاً، وإنّما يَدخل على الخَبَر.
وممّا لا يكون إلاّ رفعاً قولُك: أَأخَواك اللّذانِ رأيتُ؛ لأنّ رأيتُ
صلَةٌ للّذَينِ وبه يتُّم اسماً، فكأَنّك قلت: أَأخَواك صاحبَانا. ولو
كان شيء من هذا يَنْصِبُ شيئاً فى الاستفهام لقلت فى الخَبَر: زيداً
الذى رأيتُ، فنصبتَ كما تقول: زيدا رأيتُ.
وإذا كان الفعلُ فى موضعِ الصَّفة فهو كذلك، وذلك قولك: أزيدٌ أنت رجلٌ
تضربه، وأكلَّ يومٍ ثوبٌ تَلْبَسُه. فإِذا كان وصفاً فأحسنُه أَنْ يكون
فيه الهاءُ، لأنّه ليس بموضعِ إعمالٍ، ولكنّه يجوز فيه كما جاز فى
الوَصْل، لأنّه فى موضع ما يكون من الاسم. ولم تكن لتقول: أزيداً أنت
رجلٌ تضربه، وأنت إذا جعلتَه وصفا للمفعول لم تنصبه، لأنّه ليس بمبنىّ
على الفعل، ولكن
(1/128)
الفعل فى موضع الوصف كما كان فى موضع
الخبر.
فمن ذلك قول الشاعر:
أكُلَّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهْ ... يُلْقِحُه قَوْمٌ وتَنْتِجونَهْ
وقال زيد الخَيْر:
أفي كلَّ عامٍ مَأْتَمٌ تَبعثونه ... على مِحْمَرٍ ثَوَّبْتُمُوه وما
رُضَا
(1/129)
وقال جريرٌ فيما ليس فيه الهاءُ:
أَبَحتَ حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حَمَيْتَ بمُستَباحِ
وقال آخر:
فما أَدْرِى أَغَيَّرهْم تَناءٍ ... وطُولُ العَهْدِ أم مالٌ أَصابُوا
وممّا لا يكون فيه إلا الرفعُ قوله: أَعبدُ الله أنت الضاربُه؛ لأنّك
إنما تريد معنَى أنت الذى ضَرَبَه. وهذا لا يجرى مجرى يَفْعَلُ. ألا
ترى أنه لا يجوز أن تقول: ما زيداً أنا الضاربُ ولا زيداً أنت الضاربُ،
" وإنّما تقولُ: الضاربُ زيداً، على مثل قولك الحسنُ وجها ". ألا ترى
أنّك لا تقول: أنت المائةَ الواهبُ كما تقول: أنت زيداً ضاربٌ.
وتقول: هذا ضاربٌ كما ترى، فيجيء على معنى هذا يضْرِبُ وهو يَعمل فى
حال حديثك، وتقول: هذا ضارب فيجيء على مغنى هذا سيَضْربُ. وإذا قلت:
هذا الضاربُ فإِنّما تعرَّفُه على معنى الذى ضَرب فلا يكون إلاَّ رفعا،
كما أنك لو قلت: أزيدٌ أنت ضاربهُ إذا لم تُرِدْ بضاربُه الفعلَ وصار
(1/130)
معرفة " رفعت "، فكذلك هذا الذي لا يجيء
إلاَّ على هذا المعنى فإِنّما يكون بمنزلة الفعل نكرةً.
وأصلُ وقوع الفعل صفةً للنكرة، كما لا يكون الاسمُ كالفعل إلا نكرةً.
ألا ترى انكّ لو قلت: أكلَّ يوم زيدا تَضربُه لم يكن إلاّ نصباً،
لأنَّه ليس بوصف. فإِذا كان وصفاً فليس بمبنىّ عليه الأوَّلُ، كما أنّه
لا يكون الاسمُ مبنياً عليه فى الخبر، فلا يكون ضاربٌ بمنزلة يَفْعَل
وتفعل إلاّ نكرَةً.
وتقول: أَذَكَرٌ أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى، كأنّه قال: أَذَكَرٌ
نتِاجُها أحَبُّ إليك أم أُنْثَى. فأَن تَلِدَ اسمٌ، وتَلِدُ به يَتمُّ
الاسمُ كما يتمُّ الذى بالفعل، فلا عَمَلَ له " هنا " كما ليس يكون
لصلةِ الذى عمل.
وتقول: أزيد أني ضربه عمرو أَمثَلُ أم بِشْرٌ، كأنه قال: أزيدٌ ضرب
عمرو إياه أمثلُ أم بشرٌ، فالمصدر مبتدأ وأمثلُ مبنىٌّ عليه، ولم
يُنْزَلْ منزلة يَفْعلُ، فكأَنّه قال: أزيد ضاربُه خيرٌ أم بشر. وذلك
لأنك ابتدأْته وبنيت عليه فجعلته اسماً، ولم يَلتبس زيدٌ بالفعل إذ كان
صلةً له، كما لم يلتبس به الضاربُه حين قلت: زيدٌ أنت الضاربُه، إلاّ
أنّ الضاربُه فى معنى الذى ضَرَبه، والفعل تمَامُ هذه الأسماء، "
فالفعل لا يلتبس بالأول إذا كان هكذا ".
وتقول: أَأَن تلد ناقُتك ذكراً أحبُّ إليك أم أُنْثَى، لأنَّك حملته
على الفعل الذى هو صلةُ أَنْ، فصار فى صلته، فصار كقولك: الذى رأيتُ
أخاه
(1/131)
زيدٌ. ولا يجوز أن تبتدئَ بالأخ قبل الذى
وتُعْمِلَ فيه رأيتُ " أخاه زيد ". فكذلك لا يجوز النصب فى قولك:
أذَكَرٌ أَنْ تَلِدَ ناقتُك أحب إليك أم أنثى. وذلك أنك لو قلت: أخاه
الذى رأيتُ زيدٌ لم يجز، وأنت تريد: الذى رأيتُ أخاه زيدٌ.
وممَّا لا يكون فى الاستفهام إلاّ رفعاً " قولك ": أَعبدُ الله أنت
أكرمُ عليه أم زيدٌ، وأعبدُ الله أنت له أصدقُ أم بِشرٌ، كأنّك قلت:
أعبدُ الله أنت أخوه أم بشر، لأنّ أَفْعَلَ ليس بفعلٍ، ولا اسمٍ يَجرى
مجرى الفعل، وإنّما هو بمنزلة حسَنٍ وشديد ونحوِ ذلك. ومثلُه: أَعبدُ
الله أنتَ له خيرٌ أم بشرٌ.
وتقول: أزيدٌ أنت له أشدُّ ضَرْباً أم عمرو، فإِنَّما انتصابُ
الضَّرْبِ كانتصاب زيد فى قولك: ما أحْسَنَ زيداً، وانتصابِ وجهٍ فى
قولك: حَسَنٌ وجهَ الأخِ. فالمصدرُ هنا كغيره من الأسماء، كقولك: أزيدٌ
أنت له أطْلَقُ وجهاً أم فلانٌ. وليس له سبيلٌ إلى الإِعمال، وليس له
وجهٌ فى ذلك.
ومَّما لا يكون فى الاستفهام إلا رفعا قولك: أعبد الله إنْ تَرَهُ
تضربْه، وكذلك إنْ طرحتَ الهاء مع قبحه فقلت: أبعد الله إنْ تَرَ
تضربْ، فليس للآخِر سبيل على الاسم، لأنَّه مجزوم، وهو جوابُ الفعل
الأوّل، وليس للفعل الأوّل سبيلٌ، لأنّه مع إن بمنزلة قولك: أعبد الله
حين يأتيني أضرب فليس
(1/132)
لعبد الله فى يأتينى حَظٌّ، لأنّه بمنزلة
قولك: أعبدَ الله يومَ الجمعة أضرِبُ. ومثل ذلك: زيدٌ حين أَضْربُ
يَأْتينى؛ لأنَّ المعَتمِدَ على زيدٍ آخِرُ الكلام وهو يَأْتينى. وكذلك
إذا قلت: زيدا إذا أتانى أضرِبُ، وإنما هو بمنزلة حينَ.
فإِن لم تَجْزِمِ الآخِرَ نصبتَ، وذلك قولك: أزيداً إنْ رأيتَ تضربُ.
وأحْسنُه أن تُدْخِلَ فى رأيتَ الهاءَ، لأنّه غيرُ مُسْتَعْمَلٍ، فصارت
حروفُ الجزاء فى هذا بمنزلة قولك: زيدٌ كم مرّةً رأيْتَه. فإِذا قلتَ:
إنْ تَرَ زيدا تضربْ، فليس إلاّ هذا، صار بمنزلة قولك: حين ترى زيدا
يأْتيك، لأنّه صار فى موضع المُضْمْرَ حين قلت: زيدٌ حين تَضْرِبُه
يكون كذا وكذا. ولو جاز أن تجعل زيداً مبتدأَ على هذا الفعل لقلتَ:
القِتالُ زيداً حين تأتى، تريد القتالُ حين تأتى زيداً.
(1/133)
وتقول فى الخبر وغيره: إنْ زيدا تَرَه
تضربْ، تَنصبُ زيدا، لأن الفعل أنْ يَلِىَ إنْ أولى، كما كان ذلك فى
حروف الاستفهام، وهى أبعدُ من الرفع لأنه لا يُبْنَى فيها الاسم على
مبتدإ.
وإنّما أجازوا تقديمَ الاسم فى إنْ لأنّها أمُّ الجزاء ولا تزول عنه،
فصار ذلك فيها كما صار فى ألف الاستفهام ما لم يجز فى الحروف الأُخَرِ.
وقال النَّمِرُ بنُ تَوْلَبٍ:
لا تَجْزَعِى إنْ مُنْفِساً أَهْلكتُهُ ... وإذا هلكتُ فعند ذلكِ
فاجْزَعىِ
وإن اضطَّر شاعرٌ فأجرى إذا مجرى إنْ فجازَى بها قال: أَزَيدٌ إذا تَرَ
تَضْرِبْ، إن جعلَ تضربْ جَوَاباً. وإنْ رفعَها نصبَ، لأنّه لم يجعلها
جواباً. وتَرَفعُ الجوابَ حين يَذهب الجزمُ من الأوّل فى اللفظ.
والاسمُ ههنا مبتدأٌ إذا جزمتَ، نحو قولهم: أيُّهم يأْتِكَ تضْربْ، إذا
جزمتَ، لأنَّك جئت بتضرب مجزوما بعد أن عَمِلَ الابتداءُ فى أيُّهم ولا
سبيل له عليه. وكذلك هذا حيث جئتَ به مجزوما بعد أن عَمِلَ فيه
الابتداءُ. وأمّا الفعل الأوّل فصار مع ما قبله بمنزلة
(1/134)
حينَ وسائرِ الظروف.
وإن قلتَ: زيد إذا يأْتينى أَضرْبُ، تريد معنى الهاء ولا تريد زيداً
أضربُ إذا يأتينى، ولكنكّ تضع أَضربُ ههنا مثلَ أضربْ إذا جزمت وإن لم
يكن مجزوماً؛ لأنّ المعنى معنى المجازاة فى قولك: أزيدٌ إِنْ يأْتِك
أضربْ ولا تريد به أضربُ زيداً، فيكونَ على أوّل الكلام، كما لم تُرِدْ
بهذا أوّل الكلام، رفعتَ. وكذلك حينَ، إذا قلت: أزيدٌ حين يأتيك تضربُ.
وإنما رفعتَ الأوّل فى هذا كلَّه لأنَّك جعلت تضربُ وأَضربُ جواباً،
فصار كأنه من صلته إذ كان من تمامه، ولم يَرجع إلى الأوّل. وإنّما
تَرُدّه إلى الأوّل فيمن قال: إن تَأْتِنى آتيك، وهو قبيحٌ وإنّما يجوز
فى الشعر.
وإذا قلت: أَزيدٌ إن يأتك تضرب فليس تكون الهاءُ إلاّ لزيد، ويكونُ
الفعلُ الآخِرُ جواباً للأوّل. ويدلّك على أنّها لا تكون إلاّ لزيد أنك
لو قلت: أزيدٌ إن تَأْتكَ أَمَةُ الله تضربْها لم يجز، لأنك ابتدأ
زيداً ولا بد من خبرٍ، ولا يكون ما بعده خبراً له حتّى يكون فيه
ضميرهُ.
وإذا قلت: زيداٌ لَمْ أضربْ، أو زيداً لن أضربَ، لم يكن فيه إلاّ
النصبُ، لأنك لم توقِع بعد لَمْ ولَنْ شيئاً يجوز لك أن تقدَّمَه
قبلهما فيكون على غير حاله بعدهما " كما كان ذلك فى الجزاء ". ولن
أَضْرِبَ نفىٌ لقوله:
(1/135)
سَأَضْرِبُ، كما أنّ " لا تَضْرِبْ نفى
لقولِه: اضْرِبْ "، ولم أَضرب نفىٌ لِضربتُ.
وتقول: كلَّ رجلٍ يأْتيك فاضربْ، " نصبٌ " لأنَّ يأتيك ههنا صفةٌ،
فكأَنكّ قلت: كلَّ رجل صالحٍ اضربْ.
فإِنْ قلت: أيُّهم جاءك فاضرِبْ، رفعتَه لأنه جَعل جاءك فى موضع الخبر،
وذلك لأنّ قوله: فاضربْ فى موضع الجواب، وأىٌّ من حروف المجازاة وكلُّ
رجل ليستْ من حروف المجازاة. ومثله: زيدٌ إنْْ أتاك فاضرِبْ، إلاّ أن
تريد أوّلَ الكلام، فتنصبُ ويكونُ على حدّ قولك: زيدا إن أتاك
تَضْرِبْ، وأيَّهم يأتك تضرب، إذا كان بمنزلة الذى.
وتقول: زيداً إذا أتاك فاضرب. فإن وضعته في موضع زيد عن يأتك تضربْ
رفعتَ، فارفعْ إذا كانت تضربْ جواباً ليأتك، وكذلك حينَ. والنصبُ فى
زيد أحسنُ إذا كانت الهاءُ يَضْعُفُ تركُها ويَقبُحُ.
فأعمِلْه فى الأوّل، وليس هذا فى القياس لأنَّها تكون بمنزلة حينَ،
وإذا وحينَ لا يكون واحداً منهما خبراً لزيد. ألاّ ترى أنَّك لا تقول:
زيدٌ حينَ يأتينى؛ لأنَّ حينَ لا تكون ظرفاً لزيد.
وتقول: الحَرُّ حينَ تأتينى، فيكون ظرفاً، لما فيه من معنى الفعل.
وجميعُ ظروف الزَّمان لا تكون ظروفاً للجُثَثِ.
(1/136)
فإن قلت: زيداً يومَ الجمعة أَضربُ، لم يكن
فيه إلاّ النصبُ، لأنَّه ليس ههنا معنى جزاء، ولا يجوز الرفع إلاّ على
قوله:
كلُّه لم أصْنَعِ
ألا تَرى أنك لو قلت: زيدٌ يومَ الجمعة فأنا أضربُهُ لم يكن، " ولو
قلت: زيدٌ إذا جاءنى فأنا أضربُه كان جيَّداً ". فهذا يدلّك على أنّه
يكون على غير قوله زيداً أضرب حين يأتيك.
هذا باب الأمر والنهى
والأمرُ والنهىُ يُختار فيهما النصبُ فى الاسم الذى يُبْنَى عليه
الفعلُ ويُبْنَى على الفعل، كما اختير ذلك فى باب الاستفهام؛ لأن الأمر
والنهى إنما هما للفعل، كما أنّ حروف الاستفهام بالفعل أولى، وكان
الأصل فيها أن يبتدأ بالفعل قبل الاسم، فهكذا الأمرُ والنَّهى، لأنهما
لا يقعان إلاَّ بالفعل، مظهراً أو مضمرا.
وهما أقوى فى هذا من الاستفهام؛ لأنّ حروف الاستفهام قد يُستفهم بها
(1/137)
وليس بعدها إلا الأسماءُ نحو قولك: أزيدٌ
أخوك، ومتى زيدٌ منطلق، وهل عمروٌ ظريفٌ. والأمرُ والنهىُ لا يكونان
إلاّ بفعلٍ، وذلك قولك: زيداً اضربْه، وعمراً أمرُرْ به، وخالداً اضربْ
أباه، وزيداً اشترِ له ثوبا. ومثلُ ذلك: أَمَّا زيداً فاقتُلْه،
وأَمَّا عمراً فاشترِ له ثوباً، وأَمّا خالداً فلا تَشْتِمْ أباه،
وأَمّا بكراً فلا تمرر به. ومنه: زيداً ليضربه عمرو، وبشراً ليقتل أباه
بكر، لأنّه أَمْرٌ للغائب بمنزلة افعَلْ للمخاطَب.
وقد يكون فى الأمر والنهى أن يُبْنَى الفعل على الاسم، وذلك قولك: عبدُ
الله اضربْه، ابتدأْتَ عبدَ الله فرفعته بالابتداء، ونبَّهتَ المخاطَبَ
له لتُعرَّفَه باسمه، ثم بنيتَ الفعلَ عليه كما فعلت ذلك فى الخبر.
ومثل ذلك: أمّا زيد فاقتْله. فإِذا قلت: زيدٌ فاضربْه، لم يَستقم أَنْ
تَحملَه على الابتداء. ألاَ ترى أنّك لو قلت: زيدٌ فمنطلقٌ لم يستقم،
فهو دليلٌ على أنّه لا يجوز أن يكون مبتدأ. فإِنْ شئتَ نصبته على شيء
هذا تفسيرُه، كما كان ذلك فى الاستفهام، وإن شئت على عليك، كأَنك قلت:
عليكَ زيدا فاقتلْه.
وقد يَحْسُنُ ويستقيمُ أنْ تقولَ: عبد الله فاضربه، إذا كان مبيناً على
مبتدإ مُظْهَرٍ أو مُضْمَرٍ. فأمّا فى المظهر فقولُك: هذا زيدٌ
فاضربْه، وإن شئت لم تُظْهِرْ " هذا " ويَعمل كعمله إذا أظهرته، وذلك
قولك: الهلالُ واللهِ فانظْر إليه، كأنّك قلت: هذا الهلالُ، ثم جئتَ
بالأمر.
وممّا يَدُلُّك على حُسنِ الفاء ههنا أنّك لو قلت: هذا زيدٌ فحَسَنٌ
جميلٌ،
(1/138)
كان " كلاماً " جيّداً. ومن ذلك قول
الشاعر:
وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهمْ ... وأُكرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ
كما هِيَا
هكذا سُمِعَ من العرب تُنْشِدُه.
وتقول: هذا الرجلَ فاضربْه، إذا جعلته وصفاً ولم تجعله خبراً. وكذلك:
هذا زيد فاضربْه، إذا كان معطوفا على " هذا " أو بدَلا.
وتقول: الَّلِذينِ يأتيانِك فاضربْهما، تنصبُه كما تنصب زيدا، وإن شئت
رفعتَه على أَنْ يكون مبنياً على مظهر أو مضمر. وإن شئت كان مبتدأَ،
لأنّه يستقيم أن تجعلَ خبرهَ من غير الأَفعال بالفاء. ألاَ ترى أنّك لو
قلت: الذى يأْتينى فله درهمٌ، والذي يأتيني فمكرم محموم، كان حسناً.
ولو قلت: زيدٌ فله درهمٌ لم يجز. وإنَّما جاز ذلك لأنّ قوله: الذى
يأَتينى فله درهمٌ، فى
(1/139)
معنى الجزاءِ، فدخلت الفاءُ فى خبره كما
تدخل فى خبر الجزاءِ.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ
والنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبَّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ".
ومن ذلك قولهم: كلُّ رجل يأْتيك فهو صالحٌ، وكلُّ رجل جاءَ فله
درهمانِ؛ لأنّ معنى الحديث الجزاءُ.
وأمَّا قول عَدِىَّ بن زيد:
أَرَواحٌ مُوَدَّعٌ أم بُكورُ ... أنتَ فانظُرْ لأىَّ ذاكَ تصير
(1/140)
فإنّه على أن يكون فى الذى يَرْفَعُ على
حالة المنصوب فى النصب. يعنى أن الذى من سببه مرفوع فترفعه بفعلٍ هذا
يفسَّره، كما كان المنصوبُ ما هو من سببه ينتصب، فيكون ما سقط على
سببيَّهِ تفسيره في الذي ينصب على أنه شيء هذا تفسيره. يقول: ترفع "
أنت " على فعل مضمر، لأن الذى من سببه مرفوع، وهو الاسم المضمر الذى فى
انظْر.
وقد يجوز " أن يكون " أنت على قوله: أنت الهالِكُ، كما يقال: إذا
ذُكِرَ إنسان لشيء، قال الناسُ: زيدٌ. وقال الناس: أنت. ولا يكون على
أن تضمِرَ هذا، لأنَّك لا تُشيرُ للمخاطَب إلى نفسه ولا تحتاج إلى ذلك
وإنما تُشير له إلى غيره. ألا ترى أنَّك لو أشرت له إلى شخصه فقلت: هذا
أنت، لم يستقم.
ويجوز هذا أيضاً على قولك: شاهِداك، أى ما ثبت لك شاهِداكَ. قال الله
تعالى جدّه: " طاعة وقول معروف ". فهو مثله. فإمّا أَن يكونَ أَضْمَرَ
الاسمَ وجَعل هذا خبرَه كأنّه قال: أمرى طاعة " وقولٌ معروف "، أو يكون
أَضْمر الخبَر فقال: طاعةٌ وقولٌ معروف أمثلُ.
(1/141)
واعلم أَنّ الدعاءَ بمنزلة الأمر والنهى،
وإنما قيل: " دعاءٌ " لأنه استُعْظِمَ أَنْ يقال: أمرٌ أو نَهْىٌ. وذلك
قولُك: اللهمَّ زيداً فاغفرْ ذنبَه، وزيدا فأَصلحْ شأنَه، وعَمْراً
لِيَجْزِه اللهُ خيراً. وتقول: زيداً قَطعَ اللهُ يدَه، وزيداً أَمَرَّ
اللهُ عليه العيشَ، لأن " معناه معنى " زيداً لِيَقطعِ اللهُ يده.
وقال أبو الأسود الدُّؤَلِىُّ:
أَميرانِ كَانَا آخَيَانِى كِلاهما ... فكلاَّ جزاه اللهُ عَنِّى بما
فَعَلْ
ويجوز فيه من الرفع ما جاز فى الأمر والنهى، ويَقبح فيه ما يقبح فى
الأمر والنهى.
وتقول: أَمّا زيداً فَجدْعاً له، وأَمّا عمراً فسَقْياً له؛ لأنّك لو
أظهرتَ الذى انتَصَبَ عليه سَقياً وجَدعا لنصبتَ زيداً وعمراً،
فإِضمارُه بمنزلة إظهاره، كما تقول: أَمّا زيداً فضرباً.
وتقول: أمّا زيدٌ فسلامٌ عليه، وأَمّا الكافرُ فلعنةُ الله عليه؛ لأنَّ
هذا ارتَفَعَ بالابتداء.
وأمّا قوله عزّ وجلّ: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
جلدة ". وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما "، فإِن
(1/142)
هذا لم يُبْنَ على الفعل، ولكنه جاء على
مثل قوله تعالى: " مَثَلُ الجَنَّة اَّلِتى وُعِدَ المُتَّقُونَ ".
ثمَّ قال بَعْدُ: " فيها أنهار من ماء "، فيها كذا وكذا. فغنما وُضِعَ
المَثَلُ للحديث الذى بعده، فذكر أخباراً وأحاديثَ، فكأَنه قال: ومن
القَصَص مَثَلُ الجنّة، أو مما يقص عليهكم مَثَلُ الجنّة، فهو محمول
على هذا الإِضمارِ " ونحوِه ". والله تعالى أعلم.
وكذلك " الزانية والزاني "، " كأنه " لمّا قال جلّ ثناؤُه: " سورة
أنزلناها فرضناها ". قال: فى الفراِئض الزَّانِيَةُ والزَّانِى، " أو
الزانيةُ والزانِى فى الفرائض ". ثم قال: فاجْلِدُوا، فجاءَ بالفعل بعد
أن مَضَى فيهما الرفعُ، كما قال:
وقائلة: خَوْلانُ، فانْكِحْ فتاتَهم
فجاء بالفعل بعد أنْ عَمل فيه المضمَرُ. وكذلك: " والسارق والسارقة " "
كأنه قال: و " فيما فرض عليكم " السارقُ والسارقةُ، أو السَّارق
والسارقة فيما فرض عليكم ". فإِنَّما دخلت هذه الأسماءُ بعد قصَص
وأحاديثَ. ويحمل على نحوٍ من هذا " ومثلِ ذلك ": " واللذان يأتيانها
منكم فآذوهما ".
(1/143)
وقد يَجْرِى هذا فى زيدٍ وعمرو على هذا
الحدّ، إذا كنتَ تُخبِرُ " بأشياء " أو توصي. ثم تقول: زيدٌ، فيمن
أُوِصى به فأَحْسِنْ إليه وأَكرْمْه.
وقد قرأ أناس: " والسارق والسارقة " و " الزانية والزانِىَ "، وهو فى
العربيّة على ما ذكرت لك من القوَّة. ولكن أَبَتِ العامَّةُ إلاّ
القراءةَ بالرفع.
وإنَّما كان الوجهُ في الأمر والنَّهى النصبَ لأنّ حدَّ الكلام تقديمُ
الفعل، وهو فيه أوجبُ، إذ كان ذلك يكون فى ألف الاستفهام، لأنّهما لا
يكونان إلا بفعل.
وقَبُحَ تقديمُ الاسم فى سائر الحروف، لأنّها حروفٌ تَحْدُثُ قبل
الفعل. وقد يصير معنى حديثهن إلى الجزاء، والجزاء لا يكون إلاّ خبراً،
وقد يكون فيهنّ الجزاءُ فى الخبر، وهى غيرُ واجبة كحروف الجزاء
فأُجْرِيَتْ مُجراها. والأمر ليس يَحْدُثُ له حرفٌ سوى الفعل، فيُضارِع
حروفََ الجزاء، فيقبُح حذفُ الفعل منه كما يَقبح حذفُ الفعل بعد حروف
الجزاء. وإنّما يقبح حذفُ الفعل وإضمارُه بعد حروف الاستفهام لمضارعتها
حروفَ الجزاء.
وإنما قلت: زيداً اضربْه، واضربْه مشغولةٌ بالهاء، لأنَّ الأمرَ والنهى
لا يكونان إلاّ بالفعل، فلا يستغنى عن الإضمار إن لم يظهَرْ.
(1/144)
باب حروفٍ أُجريتْ مُجرى حروف الاستفهام
وحروفِ الأمر والنهى وهى حروف النَّفى، شبّهوها بحروف الاستفهام حيث
قُدّم الاسمُ قبل الفعل، لأنَّهنَّ غيرُ واجبات، كما أنّ الألف وحروف
الجزاء غير واجبة، وكما أنَّ الأمر والنهى غير واجبَيْنِ.
وسَهُل تقديم الأسماء فيها لأنّها نفىٌ لواجبٍ، وليست كحروف الاستفهام
والجزاء، وإنّما هى مضارعة، وإنما تجيء لخلاف قوله: قد كان.
وذلك قولك: ما زيداً ضربتُه ولا زيداً قتلتُه، وما عَمْراً لقيتُ أباه
ولا عمراً مررتُ به ولا بِشرا اشتريتُ له ثوبا. وكذلك إذا قلت: ما
زيداً أنا ضاربُه، إذا لم تجعله اسماً معروفا. قال هُدْبةُ بن
الخَشْرَمْ العُذْرىّ:
فلا ذا جلال هبنه لجلاله ... ولا ذاع ضيَاعٍ هنَّ يَتركْنَ للفَقْرِ
وقال زُهير:
لا الدَّارَ غَيَّرَها بَعْدِى الأَنيسُ ولا ... بالدّارِ لو كَلَّمَتْ
ذا حاجةٍ صَمَمُ
(1/145)
وقال جرير:
فَلا حَسَباً فَخَرْتَ به لتَيْمٍ ... ولا جَدّاً إذا ازدَحَمَ
الجُدودُ
وإن شئت رفعتَ، والرَّفعُ فيه أقوى إذْ كان يكون فى ألف الاستفهام،
لأنَّهنَّ نفىُ واجبٍ يُبتدأ بعدهنّ ويُبنَى على المبتدإ بعدهنّ، ولم
يَبلغنَ أَن يكنَّ مثل ما شُبَّهْنَ به.
فإِنْ جعلتَ " ما " بمنزلة ليس فى لغة أهل الحجاز لم يكن إلا الرفع،
لأنك تجيء بالفعل بعد أن يَعمل فيه ما هو بمنزلة فِعلٍ يَرفع، كأنَّك
قلت: ليس زيدٌ ضربتُه.
وقد أَنشد بعضهم هذا البيتَ رَفعاً، " قول مزاحم العقيلى ":
وقالوا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من وافى منى أنا عارف
فإِن شئت حملتَه على ليس، وإن شئت حملته على " كُلُّهُ لم أَصنعِ ".
فهذا أبعدُ الوجهين.
(1/146)
وقد زعم بعضهم أنّ ليس تجعل كما، وذلك قليل
لا يَكادُ يُعْرَفُ، فهذا يجوز أن يكون منه: ليس خَلَقَ اللهُ أَشْعَرَ
منه، وليس قالها زيد. قال حُمَيْدٌ الأرْقَطُ:
فأصْبَحُوا والنَّوىَ عالي مُعَرَّسِهِمْ ... وليسَ كل النوى يلقي
المساكين
وقال هشام أخو ذى الرمة:
هي الشفاء لدائى لو ظفرت بها ... وليس منها شفاء الداءِ مَبْذولُ
هذا كلُّه سُمِعَ من العرب. والوجه والحدّ أن تَحْمِلَه على أَنّ فى
ليس إضماراً وهذا مبتدأٌ، كقوله: إنَّه أمةُ الله ذاهبةٌ. إلاَّ أنَّهم
زعموا أنَّ بعضهم قال: ليس الطَيبُ إلاّ المِسكُ، وما كانَ الطيبُ إلا
المسكُ.
فإِن قلت: ما أنا زيدٌ لقيتُه، رفعتَ إلاّ فى قول من نَصَبَ زيداً
لقيتُه لأنَّك قد فصَلتَ كما فصلت فى قولك: أنت زيدٌ لقيتَه. " وإن
كانتْ ما التى هى بمنزلة ليس، فكذلك، كأنّك قلت: لستُ زيدٌ لقيتُه "،
لأنّك شغلت الفعل " بأنا "، وهذا مبتدأٌ بعد اسم، وهذا الكلام فى موضع
خبره، وهو فيه أقوى لأنَّه عاملٌ فى الاسم الذى بعده. وألفُ الاستفهام،
وما فى لغة بنى تميم، يفصلنَ فلا يَعْمَلنَ. فإِذا اجتمع أَنك تَفصِلُ
وتعمل الحرفَ فهو أقوى.
(1/147)
وكذلك: إنَّى زيدٌ لقيتُه، وأنا عمرو
ضربتُه، ولَيْتَنِى عبدُ الله مررتُ به، لأنّه إنما هو اسمٌ مبتدأُ "
ثم ابْتُدِئَ بعده "، أو اسمٌ قد عَمِلَ فيه عاملٌ ثم ابتُدئ بعده
الكلام فى موضع خبره.
فأما قوله عزّ وجلّ: " إنا كل شيء خَلِقْنَاهُ بِقَدَرٍ "، فإِنّما هو
على قوله: زيداً ضربتُه، وهو عربىٌّ كثير. وقد قرأَ بعضهم: " وأما ثمود
فهديناهم "، إلاَّ أنّ القراءة لا تُخالَفُ؛ لأنّ القراءة السُّنَّةُ.
وتقول: كنتُ عبدُ الله لقيتُه، لأنَّه ليس من الحروف التى يُنْصَبُ ما
بعدها كحروف الاستفهام وحروفِ الجزاء ولا ما شُبّه بها، وليس بفعلٍ
ذكرتَه ليعمل في شيء فيَنْصِبَه أو يَرفعَه، ثم يُضَمَّ إلى الكلام
الأوّل الاسمُ بما يُشْرَكُ " به "، كقولك: زيدا ضربت وعمراً مررت به،
ولكنه شيء عَمِلَ فى الاسم، ثم وضعتَ هذا فى موضع خبره، مانعاً له أن
ينصبَ، كقولك: كان عبدُ الله أبوه منطلقٌ. ولو قلت: كنتُ أخاك وزيدا
مررتُ به نصبتَ، لأنَّه قد أُنفذ إلى مفعول ونُصبَ ثم ضممتَ إليه اسما
وفعلا.
(1/148)
وإذا قلت: كنتُ زيدٌ مررتُ به، فقد صار هذا
فى موضع أخاك ومَنَعَ الفعَل أن يَعْمَلَ.
وكذلك: حَسِبْتُنى عبدُ الله مررتُ به، لأنّ هذا المضمَرَ المنصوبَ
بمنزلة المرفوع فى كنتُ؛ لأنّه يَحتاج إلى الخبر كاحتياج الاسم فى
كنتُ، وكاحتياجِ المبتدإ، فإِنَّما هذا فى موضع خبره، كما كان فى موضع
خبرِ كان، فإِنَّما أراد أن يقولَ: كنتُ هذه حالى، وحَسِبتُنى هذه
حالى، كما قال: لقيتُ عبدَ الله وزيد يضربه عمرو، فإنما قال: لقيت عبد
الله وزيد هذه حالُه، ولم يَعْطِفه على الحديث الأوَّل ليكون في مثل
معناه، ولم يُرِدْ أن يقول: فعلتُ وفَعَلَ، وكذلك لم يُرِدْه فى
الأوّل. ألا ترى أنّه لم يُنْفِذِ الفعلَ فى كنتُ إلى المفعول الذى به
يَسْتَغنىِ الكلامُ كاستغناء كنتُ بمفعوله. فإِنَّما هذه فى موضع
الإِخبارِ، وبها يَسْتَغنِى الكلامُ.
وإذا قلتَ: زيدا ضربتُ وعمراً مررتُ به، فليس الثانى فى موضع خبر، ولا
تريد أن يستغنى به شيء لا يتم غلا به، فإِنّما حالُه كحال الأول " فى
أنه مفعولٌ "، وهذا " الثانى " لا يَمْنَعُ الأوّلَ مفعوله أَنْ
يَنْصِبَهُ لأنّه ليس فى موضع خبره، فكيف يُختار فيه النّصبُ، وقد حال
بينه وبين مفعوله، وكان فى موضعه، إلاّ أن تَنصبه على قولك: زيداً
ضربتُه.
ومثل ذلك: قد علمتُ لَعَبْدُ الله تضربه، فدخولُ اللام يدلُّك أنَّه
إنَّما
(1/149)
أراد به ما أراد إذا لم يكن قبله شيء،
لأنها ليست مما يضم به الشيء إلى الشيء كحروف الاشتراك، فكذلك تركُ
الواو فى الأول هو كدخول اللام هنا. وإن شاءَ نصبَ، كما قال الشاعر،
وهو المَرَّار الأسدى:
فلو أنّها إياكَ عَضَّتْكَ مِثْلُها ... جَرَْرتَ على ما شئتَ نَحْراً
وكَلْكَلاَ
هذا بابٌ من الفعل يستعمَلُ فى الاسم
ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسمٌ آخَرَ فيَعْمَلُ فيه كما عَمِلَ فى الأوّل
وذلك قولك: رأيتُ قومَك أكثرَهم، ورأيتُ بنى زيد ثُلُثَيْهم، ورأيتُ
بنى عمّك ناساً منهم، ورأيتُ عبدَ الله شخصهَ، وصَرفْتُ وجوهها أولها.
فهذا يجيء على وجهينِ: على أنَّه أراد: رأيتُ أكثرَ قومك، و " رأيت "
ثُلُثَى قومك، وصرفتُ وجوهَ أوّلِها، ولكنَّه ثَنَّى الاسمَ توكيداً،
كما قال جلّ ثناؤه: " فَسَجَدَ الملائكة كلهم
(1/150)
أجْمَعُونَ " وأشباه ذلك. فمن ذلك قوله عزّ
وجل: " يسألونك عن الشر الحرام قتال فيه ". وقال الشاعر:
وذكر تَقْتُدَ بَرْدَ مائها ... وعَتَكُ البَوْلِ على أنسائِها
ويكون على الوجه الآخرَ الذى أذكره لك، وهو أن يَتكلّمَ فيقولَ: رأيتُ
قومَك، ثم يَبْدوَ له أن يبيَّنَ ما الذى رأى منهم، فيقولَ: ثُلُثَيْهم
أَو ناساً منهم.
ولا يجوز أن تقول: رأيتُ زيدا أباه، والأبُ غيرُ زيد، لأنّك لا تبينَّه
بغيره ولا بشيء ليس منه. وكذلك لا تثنَّى الاسم توكيداً وليس بالأول
ولا شيء منه، فإِنَّما تثنَّيه وتُؤكَّدُهُ مُثَنًّى بما هو منه أو هو
هو. وإنّما يجوز رأيتُ زيداً أباه
(1/151)
ورأيت عمراً، أَن يكون أراد أن يقول: رأيتُ
عمرا أو رأيتُ ابا زيد، فَغَلِطَ أو نَسِىَ، ثم استَدرك كلامَه بعدُ؛ "
وإمّا أن يكون أَضْرَبَ عن ذلك فنَحَّاه وجعل عمراً مكانَه ".
فأَمّا الأوّل فجيّدٌ عربى، مثلُه قوله عزّ وجلّ: " ولله على الناس حج
البيت من استطاع عليه سبيلا " لأنهم من الناس. ومثلُه إلاَّ أنَّهم
أعادوا حرفَ الجرّ: " قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين اشتضعفوا
لمن آمن منهم ".
ومن هذا الباب " قولك ": بعت متاعك أسفله قبل أَعلاه، واشتريتُ متاعَك
أسفلَه أسَرعَ من اشترائى أَعلاه، واشتريتُ متاعَك بعضَه أعجلَ من بعض،
وسقيت إبلك صغارها أحسن من سقي كِبارَها، وضربت الناسَ بعضَهم قائما
وبعضَهم قاعداً، فهذا لا يكون فيه إلاَّ النصبُ؛ لأنَّ ما ذكرتَ بعده
ليس مبنيّا عليه فيكونَ مبتدأ، وإنَّما هو من نعتِ الفعل، زعمتَ أنّ
بَيْعَه أسفلَه كان قبل بيعه أعلاه، وأنّ الشَّراءَ كان فى بعضٍ أعجلَ
من بعض، وسَقْيَه الصغارَ كان أحسنَ من سَقيه الكبار، ولم تَجعله خبراً
لما قبله.
ومن ذلك قولك: مررتُ بمتاعك بعضِه مرفوعاً وبعضِه مطروحاًن فهذا
(1/152)
لا يكون مرفوعاً؛ لأنك حملت النعتَ على
المرور فجعلته حالاً " للمرور " ولم تجعلْه مبنياًّ على المبتدأ. وإن
لم تجعله حالاً للمرور جاز الرفع.
ومن هذا الباب: أَلزمتُ الناسَ بعضَهم بعضاً، وخَوّفتُ الناس ضعيفَهم
قَوِيَّهم. فهذا معناه في الحديث المعنى " الذي " في قولك: خاف الناس
ضعيفهم قويهم، ولَزِمَ الناسُ بعضُهم بعضاً، فلما قلت: أزلمت وخوّفتُ
صار مفعولا، وأجريتَ الثانىَ على ما جرى عليه الأوّلُ وهو فاعلٌ، فصار
فِعْلا تعدّى إلى مفعولينِ.
وعلى ذلك دَفعتُ الناسَ بعضَهم ببعضٍ، على قولك: دَفَعَ الناسُ بعضُهم
بعضاً. ودخولُ الباء ههنا بمنزلة قولك: ألزمتُ، كأنَّك قلت فى التمثيل:
أَدْفَعْتُ، كما أنكَ تقول: ذهبتَ به " من عندنا " وأَذهبتَه من عندنا،
وأخرجتَه " معك " وخرجتَ به معك. وكذلك مَيَّزتُ متاعَك بعضَه من بعضٍ،
وأَوصلتُ القومَ بعضَهم إلى بعضٍ، فجعلتَه مفعولا على حدّ ما جَعلتَ
الذى قبله وصار قوله إلى بعض ومن بعض، فى موضع مفعولٍ منصوبٍ.
ومن ذلك: فضَّلتُ متاعَك أسفلَه على أعلاه، " فإنَّما جعله مفعولا من
قوله: خَرَجَ متاعُك أسفُله على أعلاه "، كأنه قال فى التمثيل: فضَلَ
متاعُك أسفلُه على أعلاه، " فعلى أعلاه فى موضع نصب ".
ومثل ذلك: صَكَكتُ الحَجَريْنِ أَحَدَهما بالآخَر، على أنَّه مفعول، من
أصْطَكَّ الحجرانِ أحدُهما بالآخَر. ومثل ذلك " قوله عزّ وجلّ ": "
وَلَوْلاَ دِفَاعُ
(1/153)
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ".
وهذا ما يَجرى منه مجرورا كما يجرى منصوبا، وذلك قولك: عجبتُ من دَفْعِ
الناسِ بعضِهم ببعضٍ، إذا جعلت الناسَ مفعولِينَ كان بمنزلة قولك:
عَجِبْتُ من إذهابِ الناسِ بعضِهم بعضاً، لأنَّك إذا قلت: أَفعلتُ،
استغنيتَ عن الباء، وإذا قلت: فَعلتُ احتجتَ إليها، وجرى فى الجرّ على
قولك: دفعتُ الناسَ بعضَهم ببعضٍ. وإن جعلت الناسَ فاعِلينَ قلت: عجبتُ
من دفعِ الناسِ بعضِهم بعضاً، جرى فى الجرَّ على حدَّ مجراه فى الرفع،
كما جرى فى الأوَّل على مجراه فى النَّصب، وهو قولك: دفعَ الناسُ
بعضُهم بعضاً.
وكذلك جميعُ ما ذكرنا إذا أَعملتَ فيه المصدرَ فجرى مجراه فى الفعل.
و" من " ذلك قولك: عَجِبْتُ من موافقةِ الناسِ أسودِهم أَحمرَهم، جرى
على قولك: وافَقَ الناسُ أَسودُهم أَحمرَهم. وتقول: سمعتُ وَقعَ
أَنْيابِه بعضِها فوقَ بعض، جرى على قولك: أَنْيابُه بعضُها فوق بعض.
وتقول: عجبت من إيقاع أنيابه فوق بعض، على حد قولك: أوقعت أنيابه بعضها
فوق بعض.
هذا وجهُ اتّفاقِ الرفعِ والنصبِ فى هذا الباب، واختيارِ النصب،
واختيار الرفع.
(1/154)
تقول: رأيتُ متاعَك بعضُه فوقَ بعضٍ، إذا
جعلتَ فوقاً فى موضع الاسم المبنىّ على المبتدإ وجعلتَ الأوّل مبتدأَ،
كأنك قلت: رأيتُ متاعَك بعضُه أَحسنُ من بعض، ففوق فى موضع أحسَنُ.
وإن جعلتَه حالاً بمنزلة قولك: مررتُ بمتاعك بعضِه مطروحا وبعضِه
مرفوعا، نصبتَه لأنه لم تَبْنِ عليه شيئاً فتَبتدِئَه. وإن شئت قلت:
رأيت متاعك بعضه أحسن من بعض، فيكون بمنزلة قولك: رأيتُ بعضَ متاعِك
الجيَّد، فوصلتَه إلى مفعولين لأنَّك أَبدلت، فصرتَ كأنّك قلت: رأيتُ
بعضَ متاعك. والرفعُ فى هذا أَعْرَفُ، لأنّهم شبَّهوه بقولك: رأيتُ
زيداً أبوه أَفضلُ منه، لأنّه اسمٌ هو للأوّل ومن سببه، " كما أن هذا
له ومن سببه "، والآخِرُ هو المبتدأ الأول، كما أن الآخِر ههنا هو
المبتدأُ الأوّل. وإن نصبتَ فهو عربىّ جيدّ.
ومما جاء فى الرفع قوله تعالى: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على
الله وجوههم مسودة ".
وممَّا جاء فى النصب أنّا سمعنا من يُوثَق بعربيّته يقول: خَلَقَ الله
الزرافة يديها طول من رِجْلَيْها.
وحدّثنا يونسُ أنَّ العرب تُنْشِدُ هذا البيت، وهو لعَبْدةَ بن
الطَّبيب:
(1/155)
فما كانَ قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحِدٍ ...
ولكنّه بُنيانُ قومٍ تَهَدَّمَا
وقال رجل من بَجيلَة أو خَثْعَمٍ:
ذَرِينى إنّ أَمْرَكِ لَنْ يُطاعَا ... وما أَلفَيْتِنِى حلِْمى
مُضاعَا
وقال آخر فى البدل:
إن علي الله أن تبايعا ... تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعَا
فهذا عربىٌّ حسَن، والأوّل أَعرف وأَكثر.
وتقول: جعلتُ متاعَك بعضَه فوقَ بعض، فله ثلاثةُ أَوجُهٍ فى النصب: إن
شئتَ جعلتَ فَوْقَ فى موضع الحال، كأنه قال: علمت متاعَك وهو بعضُه على
بعض أى فى هذه الحال، كما جعلت ذلك فى رأيتُ في رؤية
(1/156)
العين. وإن شئت نصبتَه على ما نصبتَ عليه
رأيته زيدا وجهَه أَحسَنَ من وجه فلان، " تريد رؤية القلب ".
وإن شئت نصبتَه على أنّك إذا قلت: جَعَلتُ متاعَك يدخله معنى أَلقيتُ،
فيصيرُ كأَنّك قلت: أَلقيتُ متاعَك بعضَه فوقَ بعض؛ لأنّ أَلقيتُ
كقولك: أَسقطتُ متاعَك بعضَه على بعضٍ، وهو مفعولٌ من قولك: سَقَط
متاعُك بعضُه على بعضٍ، فجرى كما جرى صَكَكْتُ الحَجَرَينِ أحدَهما
بالآخَر. فقولك " بالآخر " ليس فى موضع اسمٍ هو الأوّلُ، ولكنّه فى
موضعِ الاسم الآخِر فى قولك: صَكَّ الحَجَرَانِ أحدُهما الآخَرَ،
ولكَّنك أَوصلتَ الفعلَ بالباء، كما أنّ مررتُ بزيدٍ الاسمُ منه في
موضع اسمٍ منصوبٍ.
ومثل هذا: طرحتُ المتاعَ بعضَه على بعضٍ، لأن معناه أَسقطتُ فأُجرى
مُجراه وإن لم يكن من لفظه فاعلٌ. وتصديقُ ذلك قولُه عزّ وجلّ: " ويجعل
الخبيث بعضه على بعض ".
والوجه الثالث: أن تجعله مثل: ظننتُ متاعَك بعضَه أحسنَ من بعض.
والرفعُ فيه أيضاً عربىّ كثير. تقول: جعلتُ متاعَك بعضُه على بعض،
فوجهُ الرفع فيه على ما كان فى رأيتُ.
وتقول: أَبكيتُ قومَك بعضَهم على بعض، وحَزَّنتُ قومَك بعضَهم على بعض،
فأَجريتَ هذا على حدّ الفاعل إذا قلت: بَكى قومُك بعضُهم على بعض، "
وحَزِن قومُك بعضُهم على بعض "، فالوجه هنا النصب؛ لأنك
(1/157)
إذا قلت: أَحزنتُ قومَك بعضَهم على بعض،
وأَبكيتُ قومَك بعضهم على بعض، لم ترد أن تقول: بعضُهم على بعض فى
عَونٍ، ولا أَنّ أَجسادَهم بعضُها على بعض، فيكونَ الرفعُ الوَجْهَ؛
ولكنَّك أَجريته على قولك: بَكى قومك بعضها بعضاً، فإِنَّما أَوصلتَ
الفعلَ إلى الاسم بحرف جرّ، والكلامُ فى موضع اسم منصوب، كما تقول:
مررتُ على زيد ومعناه مررت زيداً.
فإِنْ قيل: حزَّنتُ قومَك بعضُهم أَفضلُ من بعضٍ، " وأَبكيتُ قومَك
بعضُهم أكرمُ من بعضٍ "، كان الرفعة الوجهَ؛ لأنَّ الآخِر هو الأوّل
ولم تجعله فى موضع مفعولٍ هو غيرُ الأوّل. وإن شئت نصبته على قولك:
حزنت قومك بعضهم قائماً وبعضَهم قاعداً على الحال، لأنك قد تقول: رأيت
قومك أكثرهم وحزنت قومك بعضَهم، فإِذا جاز هذا أَتْبَعتَهُ ما يكون
حالاً. وإن كان مما يَتعدَّى إلى مفعولينِ أَنفذتَه إليه، لأنَّه كأَنه
لم تذكر قبله شيئاً كأنه رأيتُ قومَك، وحزّنت قومك. إلاّ أَنَّ أَعربَه
وأكثرَه إذا كان الآخِرُ هو الأوّلَ أن يُبْتَدَأَ. وإنْ أَجريتَه على
النَّصب فهو عربىٌّ جيّد.
هذا باب من الفعل
يُبْدَلُ فيه الآخِرُ من الأوّل ويُجْرَى على الاسم
كما يُجْرَى أَجْمعُونَ على الاسم، وَيُنْصَبُ بالفعل لأنه مفعول
فالبَدَلُ أن تقول: ضرِبَ عبدُ الله ظهرُه وبطنهُ، وضُرِبَ زيدٌ
الظَّهرُ والبطنُ، وقُلِبَ عمروٌ ظهرهُ وبطنهُ، ومُطِرْنَا سَهْلُنا
وجَبَلُنا، ومُطِرنا السَّهْلُ والجبل. ون شئتَ كان على الاسم بمنزلة
أَجمعين توكيداً.
(1/158)
وإنْ شئت نصبت، تقول: ضُرِبَ زَيدٌ
الظَّهرَ والبطنَ، ومُطِرْنا السَّهلَ والجبلَ، وقُلِبَ زيدٌ ظهرَه
وبطنَه. فالمعنى أنَّهم مُطِرُوا فى السَّهل والجبل، وقُلِبَ على
الظَّهرِ والبطنِ. ولكنّهم أجازوا هذا، كما أجازوا " قولَهم ": دَخَلتُ
البيتَ، وإنَّما معناه دخلتُ فى البيت. والعامل فيه الفعلُ، وليس
المنتصبُ ههنا بمنزلة الظرف؛ لأنّك لو قلت: " قُلِبَ " هو ظهرُه وبطنُه
وأنت تعنى على ظهره لم يجز.
ولم يُجيزوه فى غير السَّهل والجبل، والظَّهر والبطن، كما لم يَجز دخلت
عبد الله، فجاز هذا في هذا وحده، كما لم يجز حذف حرف الجرّ إلاّ فى
الأماكن، فى مثل: دخلتُ البيتَ. واختُصَّت بهذا، كما أنَّ لَدُنْ مع
غُدْوَةً لها حالٌ ليستْ فى غيرها من الأسماء، وكما أنَ عَسَى لها فى
قولهم: " عَسَى الغُوَيرُ أَبؤساً " حالٌ لا تكون فى سائر الأشياء.
ونظير هذا أيضاً فى أنَّهم حذفوا حرف الجرّ ليس إلاّ، قولُهم:
نُبَّئْتُ زيداً قال ذاك، إنَّما يريد عن زيد، إلاَّ أنّ معنى الأوّل
معنى الأَماكن.
وزعم الخليل رحمه الله أنّهم يقولون: مُطِرْنا الزَّرْعَ والضرع.
(1/159)
وإن شئت رفعتَ على البدل وعلى أن تصيَّره
بمنزلة أجمعين تأكيداً.
فإن قلت: ضُرِبَ زَيدٌ اليَدُ والرِّجْلُ، جاز " على " أن يكون بدلا،
وأَن يكون توكيدا. وإنْ نصبته لم يحسن؛ لأن الفعل إنما أنفذ في هذه
الأسماء خاصة إلى المنصوب إذا حذفتَ منهُ حرف الجرّ، إلاّ أن تَسمعَ
العربَ تقول فى غيره، وقد سَمعناهم يقولون: مَطَرَتهُمْ ظهراً وبطنا.
وتقول: مُطِرَ قومُك اللَّيلَ والنهارَ، على الظَّرف وعلى الوجه
الآخَر. وإن شئت رفعته على سَعَةِ الكلام، كما قال: صِيدَ عليه
اللَّيلُ والنهارُ، وهو نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ، وكما قال جرير:
لقد لُمْتِنا يا أُمَّ غَيْلانَ فى السُّرَى ... ونمْتِ وما لَيْلُ
الْمَطِىَّ بنائمِ
فكأنَّه فى كلَّ هذا جَعل الليلَ بعضَ الاسمِ. وقال آخر:
(1/160)
أَمَّا النَّهارُ ففى قَيدٍ وسِلْسِلَةٍ
... والليلُ فى قَعْرِ مَنْحُوتٍ من السَّاج
فكأَنه جَعل النَّهارَ فى قيدٍ والليلَ فى بطن منحوتٍ، أو جعلَه الاسمَ
أو بعضَه.
وإن شئت قلت: ضُرِبَ عبدُ الله ظهرُه، ومُطِرَ قومُك سهلهم، على قولك:
رأَيتُ القومَ أَكثَرهم، ورأَيتُ عمراً شخصه، كما قال:
فكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبِيَهْ مُعَيَّنٌ بسَوادِ
" يريد: كأنَّ حاجبيِْه، فأَبدل حاجبيه من الهاء التى فى كأنّه، وما
زائدة ".
وقال الجَعْدىّ:
مَلَكَ الخَوَرْنَقَ والسَّدِيرَ وداته ... ما بين حمير أهلها وأوال
(1/161)
" يريد: ما بين أهل حمير، فأَبدلَ الأهل من
حمير ".
ومثل ذلك قولهم: صَرفتُ وجوهَها أولها. و " مثله ": ما لي بهم عِلمٌ
أمرِهم.
وأمّا قولُ جرير:
مَشَقَ الهواجر لحمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلا كلاً وصدورا
فإنما هو على قوله: ذهب قُدُماً، وذَهَبَ أُخُراً.
وقال عمرو بن عمَّارٍ النَّهدىّ:
طويلُ مِتَلَّ العُنْقِ أشْرَف كاهِلاً ... أَشَقُ رَحيبَ الجَوْفِ
مُعْتَدِلُ الجِرْمِ
(1/162)
كأنه قال: ذهَبَ صُعُداً، فإِنَّما خبَّر
أنّ الذهاب كان على هذه الحال.
ومثله: " قول رجل من عُمانَ ":
إذا أَكلتُ سمَكاً وفَرْضَا ... ذَهَبْتُ طولاً وذَهبتُ عَرْضاَ
فإِنَّما شبَّه هذا الضَّربَ من المصادر.
وليس هذا مثلَ قول عامرِ بن الطُّفيل:
فَلأَبَغِيَنّكُمُ قَناً وعُوارِضاً ... وَلأُقْبِلنَّ الخَيْلَ لابَةَ
ضَرْغَدِ
لأنَّ قناً وعُوارضَ مكانان، وإنَّما يريد: بقناً وعُوارضَ، ولكن
الشاعر شبّهه بدخلتُ البيتَ، وقُلِبَ زيدٌ الظهرَ والبطنَ.
(1/163)
هذا باب من
اسم الفاعل " الذى " جَرَى مَجرى الفِعل المضارعِ
فى المفعول فى المعنى، فإذا أردت فيه من المعنى ما أردت فى يَفعَلُ كان
نكرةً منوّنا وذلك قولك: هذا ضارب زيداً غداً. فمعنا وعملُه مثلُ هذا
يَضْرِبُ زيداً " غداً ". فإِذا حدّثت عنِ فعلٍ فى حينِ وقوعِه غيرِ
منقطعٍ كان كذلك. وتقول: هذا ضاربٌ عبدَ الله الساعةَ، فمعناه وعملُه
مثلُ " هذا " يَضرب زيداً الساعةَ. وكان " زيدٌ " ضارباً أباك،
فإِنَّما تُحدَّث أيضاً عن اتَّصال فعلٍ فى حال وقوعه. وكان مُوَافقاً
زيداً، فمعناه وعملُه كقولك: كان يَضرب أباك، ويوافِقُ زيدا. فهذا جرى
مجرى الفعِل المضارعِ فى العمل والمعنى منوَّنا.
ومما جاء فى الشعر: منوَّنا " من هذا الباب قوله ":
إنّى بحَبْلِكَ واصِلٌ حَبلِى ... وبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائشٌ نَبلِى
وقال " عُمَرُ " بن أبى ربيعة:
(1/164)
ومن مالي عينيه من شيء غيرهِ ... إذا راحَ
نحوَ الجمرَةِ البِيضُ كالدُّمَى
وقال زُهير:
بَدَا لِىَ أَنَّى لستُ مُدْرِكَ ما مضَى ... ولا سابِقاً شيئاً إذا
كان جائيا
وقالَ الأَخْوَصُ الرَّياحُّى:
مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحِينَ عَشِيرًة ... ولا ناعِباً إلاّ ببَْينٍ
غُرابُها
واعلم أنَّ العرب يَستخفّون فيحذفون التنوينَ والنون، ولا يتغير من
المعنى،
(1/165)
ولا يَجعلُه معرفةً. فمن ذلك " قوله عزّ
وجلّ ": " كل نفس ذائقة الموت " و " إنَّا مرسلو النَّاقَةِ " و " لَوْ
تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رؤوسهم " و " غير محلي الصيد ".
فالمعنى معنى " ولا آمين البيت الحرام ".
" و " يزيد هذا عندك بياناً قولُه تعالى جَدُّه: " هديا بالغ الكعبة "
و " عارض ممطرنا ". فلو لم يكن هذا فى معنى النَّكرة والتنوين لم
توصَفْ به النّكرةُ.
وستراه مفصَّلاً أيضاً فى بابه، مع غير هذا من الحجج إن شاء الله.
وقال الخليل: هو كائنُ أَخِيك، على الاستخفاف، والمعنى: هو كائنٌ
أَخاك.
وممّا جاء فى الشَّعر غيرَ منَّونٍ قول الفرزدق:
(1/166)
أتانى على القَعْساءِ عادِلَ وَطْبِه ...
برِجْلَىْ لِئيمٍ واسْتِ عبدٍ تُعاِدلُهْ
يريد: عادِلاً وَطْبَه. وقال الزِّبْرِقانُ بن بدر:
مُسْتَحْقِبى حَلَقِ الماذِىَّ يَحْفِزُه ... بالْمَشْرَفيِّ وغابٌ
فوقَه حَصِدُ
وقال السُّلَيكُ بن السلكة:
تراها من يبيس الماء شهباً ... مخالظ درة منها غرار
(1/167)
" يريد: عرف الخيل ".
وممَّا يَزيدُ هذا البابَ إيضاحا " أَنّه " على معنى المنَّون قول
النابغة:
احْكُمْ كحُكْم فَتاةِ الحَىَّ إذْ نظرتْ ... إلى حَمَامٍ شِراعٍ
وارِدِ الثَّمَدِ
" فوصَف به النكرةَ ". وقال المّرار الأَسدىّ:
سَلَّ الهُمومَ بكلَّ مُعْطِى رأْسِه ... ناجٍ مخالِطِ صُهْبَةٍ
مُتَعيَّسِ
فهو على المعنى لا على الأصل، والأصلُ التنوين؛ لأنّ هذا الموضع لا يقع
فيه معرفة. ولو كان الأصلُ ههنا تَرْكَ التنوين لَمَا دخلَه التنوينُ
ولا كان ذلك نكرةً، وذلك أَنّه لا يَجرى مجرى المضارع فيما ذكرت لك.
(1/168)
وزعم عيسى أَن بعض العرب يُنشد هذا البيت،
" لأبي الأسود الدؤلي ":
فألفيته غير مستعب ... ولا ذاكِرِ اللهِ إلاّ قَلِيلاً
لم يَحذف التنوينَ استخفافاً ليُعاقِبَ المجرورَ، ولكنه حَذَفَه
لالتقاء الساكنينِ، " كما قال: رَمَى القومُ ". وهذا اضطرارٌ، وهو
مشبَّهٌ بذلك الذى ذكرتُ " لك ".
وتقول في هذا الباب: هذا ضاربُ زيدٍ وعمرو، إذا أَشركتَ بين الآخِر
والأوّل فى الجارّ؛ لأنه ليس فى العربية شيء يَعْمَلُ فى حرف فيَمتنع
أن يُشْرَكَ بينه وبين مثلِه. وإن شئت نصبت على المعنى وتُضمِرُ له
ناصِباً، فتقولُ: هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً، كأنّه قال: ويَضرِبُ عمراً،
أو وضارِبٌ عمراً.
وممّا جاءَ على المعنى قول جَريرٍ:
(1/169)
جئنى بمثل بنى بدر لقومهم ... أو مثل
أُسْرَةِ مَنْظورِ بنِ سَيَّارِ
وقال كعبُ بن جُعْيلٍ " التَّغلبُّى ":
أَعِنَّى بخَوّارِ العِنانِ تَخالُهُ ... إذَا راحَ يَرْدِى
بالمُدَجَّجِ أَحردَاَ
وَأبْيَضَ مَصقولَ السَّطامِ مُهَنَّداً ... وذا حَلَقٍ من نَسْجِ
داوُدَ مُسْرَدَا
فَحَمَلَه على المعنى، كأنه قال: وأَعْطِنِى أَبيضَ مصقولَ السَّطام،
وقال: هاتِ مثلَ أُسرِة منظورِ " بنِ سيَّارٍ ".
والنَّصبُ فى الأوّل أقوى وأحسنُ، لأنَّكَ أَدخلت الجرَّ على الحرف
الناصب ولم تجيء ههنا إلاّ بما أصله الجرُّ ولم تُدْخِلْه على ناصبٍ
ولا رافعٍ. وهو على ذلك عربىٌ جيد. والجُّر أجودُ. وقال " رجل من قيس
عيلان ":
(1/170)
بينا نحن نَطلُبه أَتانا ... مُعَلَّقَ
وَفْضةٍ وزِنادَ راعِ
وزعم عيسى أنَّهم يُنشِدون هذا البيت:
هل أنتَ باعثُ دينارٍ لحاجِتنا ... أو عبدَ رب أخا عون بنِ مِخراقِ
فإِذا أَخْبَرَ أَنّ الفعل قد وقع وانقطع فهو بغير تنوين ألبَتَّةَ،
لأنَّه إنما أُجْرِىَ مُجرى الفِعل المضارِع له، كما أَشبَهه الفعلُ
المضارعُ فى الإِعراب، فكلُّ واحد منهما داخل على صاحبه، فلما أَراد
سِوى ذلك المعنى جرى مجرى الأسماء التى من غير ذلك الفعل، لأنَّه إنما
شُبِّهَ بما ضارعه من الفعل كما شبه به فى الإعراب. وذلك قولك: هذا
ضاربُ عبدِ الله وأخيه. وجهُ الكلام وحدُّه الجرُّ، لأنَّه ليس موضعاً
للتنوين. وكذلك قولك: هذا ضارِبُ زيدٍ فيها وأخيه، وهذا قاتلُ عمروٍ
أَمسِ وعبدِ الله، وهذا ضاربُ عبدِ الله ضَربْا شديدا وعمروٍ.
ولو قلت: هذا ضاربُ عبدِ الله وزيداً، جاز على إضمارِ فِعل،
(1/171)
أى وضَرَبَ زيداً. وإنما جاز هذا الإِضمارُ
لأنّ معنى الحديث فى قولك هذا ضاربُ زيدٍ: هذا ضَرَبَ زيدا، وإن كان لا
يَعمْلُ عملَه، فحُمِلَ على المعنى، كما قال جلّ ثناؤه: " ولحم طير مما
يشتهون. وحور عين " لمّا كان المعنى فى الحديث على قوله: لهم فيها،
حمله على شيء لا يَنْقُضُ الأوّلَ فى المعنى. وقد قرأه الحسن. ومثله
قول الشاعر:
يهْدِى الخَمِيس نِجاداً فى مَطالِعها ... إمَّا المِصَاعَ وإمّا
ضَرْبَةٌ رُغُبُ
حمله على شيء لو كان عليه الأوّلُ لم يَنقُض المعنى.
(1/172)
ومثله قول كعب بن زهير:
فلم يجد إلا مناخ مطية ... تجافى بَها زَورٌ نَبِيلٌ وكَلْكلُ
ومُفْحَصهَا عنها الحَصىَ بجرانها ... ومثنى نواج لم يخنهن مفصل
ومسر ظماء واترتهن بعدما ... مضتْ هَجْعَةٌ من آخِرِ الليلِ ذُبَّلُ
كأنّه قال: وثَمّ سُمْرٌ " ظِماءٌ ". وقال:
بادتْ وغَيَّرَ آيَهنّ مع البلَى ... إلاّ رَواكِدَ جَمْرُهنّ هَباءُ
(1/173)
ومُشَجَّجٌ أَمّا سَواءُ قَذالهِ ... فَبدا
وغيَّرَ سارَهُ المَعْزاءُ
لأنّ قولَه " إلاّ رَواكَد " هى فى معنى الحديث: بها رواكد، فحمله على
شيء لو كان عليه الأول لن ينَقض الحديثَ. والجرُّ فى هذا أَقوى، يعنى
هذا ضاربُ زيدٍ وعمروٍ وعمراً بالنصب. وقد فَعل لأنّه اسمٌ وإن كان قد
جرى مجرى الفعل بعينه. والنصبُ فى الفصل أَقوى، إذا قلت: هذا ضاربُ
زيدٍ فيها وعمراً، وكلما طال الكلامُ كان أَقوى؛ وذلك أَنّكَ لا تَفصل
بين الجارّ وبين ما يَعْملُ فيه، فكذلك صار هذا أَقوى.
فمن ذلك قوله جلّ ثناؤه: " وَجاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً والشّمسَ
والْقَمَرَ حسباناً ".
(1/174)
وكذلك إنْ جئت باسم الفاعل الذى تَعدَّى فعلُه إلى مفعولَيْنِ وذلك
قولك: هذا مُعْطِى زيدٍ درهما وعمروٍ، إذا لم تُجرِه على الدَّرهم،
والنصب على ما نصبتَ عليه ما قبله. وتقول: هذا مُعْطِى زيدٍ وعبدَ
الله. والنصبُ إذا ذكرتَ الدرهمَ أقوى، لأنك " قد " فصلت بينهما.
وإن لم ترد بالاسم الذى يَتعدّى فعلُه إلى مفعولينِ أَن يكون الفعلُ قد
وقع أَجريتَه مُجرى الفعلِ الذى يَتعدّى إلى مفعولٍ في التنوين وتَرْكِ
التنوين وأنت تريد معناه، و " في " النصب والجرّ وجميعِ أَحواله، فإِذا
نوّنتَ فقلت: هذا معط زيداً درهماً لا تبالي أيَّهما قدّمتَ، لأنَّه
يَعمَلُ عَمَلَ الفعل. وإن لم تنوَّن لم يجز هذا مُعْطِى درهماً زيدٍ،
لأنك لا تَفصل بين الجارّ والمجرور، لأنه داخلٌ فى الاسم فإِذا نوّنتَ
انفَصَل كانفصاله فى الفعل. فلا يجوز إلاّ " فى قوله " هذا معطى زيداً،
كما قال تعالى جدُّه: " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ". |