الكتاب لسيبويه باب مَجرى النعتِ على المنعوتِ..
والشَّريكِ على الشَّريكِ والبَدَلِ على المُبْدِلَ منه وما أشبه ذلك
فأما النَّعت الذى جرى على المنعوت فقولك: مررتُ برجُلٍ ظَريفٍ قَبْلُ،
فصار النعتُ مّجروراً مثلَ المنعوت لأنّهما كالاسم الواحدِ. " وإنما
(1/421)
صارا كالاسم الواحد " من قِبَلِ أنَّك لم
تُرِدِ الواحدَ من الرجال الَّذين كل واحدٍ منهم رجُلٌ، ولكنَّك أردت
الواحدَ من الرجال الَّذين كلُّ واحد منهم رجُلٌ ظريفٌ، فهو نكرةٌ،
وإنَّما كان نكرةً لأنه من أُمّةٍ كلُّها له مثلُ اسمه. وذلك أَنَّ
الرجالَ كلُّ واحدٍ منهم رجلٌ، والرَّجالُ الظرفاءُ كلُّ واحد منهم
رجلٌ ظريفٌ، فاسمُه يَخِلطه بأُمّته حتَّى لا يُعْرَفَ منها.
فإِنْ أَطلتَ النعتَ فقلتَ: مررتُ برجل عاقِلٍ كَريمٍ مُسْلمٍ،
فأَجْرِه على أوّله.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ أَيَّما رجلٍ، فأَيُّما نعتٌ للرجل فى
كماله وبَذَّه غيرَه، كأَنه قال: مررتُ برجلٍ كاملٍ.
ومنه: مررتُ برجُلٍ حَسْبِك من رجُلٍ. فهذا نعت للرجل بإِحسابهِ إيّاك
من كلّ رجلٍ. وكذلك: كافيك من رجلٍ، وهَمَّك من رجلٍ، " وناهيك من رجلٍ
"، ومررتُ برجلٍ ما شئتَ من رجلٍ، ومررتُ برجلٍ شَرْعِك من رجلٍ،
ومررتُ برجلٍ هَدَّك من رجلٍ، " وبامرأةٍ هَدَّك من امرأةٍ ". فهذا
كلُّه على معنىً واحدٍ، وما كان منه يَجرى فيه الإِعرابُ فصار نعتاً
لأوّله جرى على أوّله.
(1/422)
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: مررتُ
برجلٍ هَدَّك من رجلٍ، ومررتُ بامرأةٍ هدَّتْك من امرأةٍ؛ فجعله فعلا "
مفتوحاً، كأَنه قال: فَعَلَ وفَعَلَتْ "، بمنزلة كَفاك وكَفَتْك.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ مِثْلِك. فمِثْلُك نعتٌ على أنك قلت هو
رجل كما أنك رجل، ويكون نعتاً أيضاً على أنه لم يَزِدْ عليك ولم ينقص
عنك في شيء من الأمور. ومثلُه: مررتُ برجلٍ مِثْلِك، أى صُورتُه
شَبيهةٌ بصورتِك، وكذلك: مررتُ برجلٍ ضَرْبِك وشِبْهِكَ. وكذلك
نَحْوِك، يُجْرَيْنَ فى المعنى والإِعرابِ مُجْرًى واحدا، وهنّ مضافاتٌ
إلى معرفةٍ صفاتٌ لنكرةٍ.
" ويونسُ يقول: هذا مِثلُكَ مُقبِلا، وهذا زيدٌ مِثْلَك، إذا قدَّمه
جعله معرفة وإذا أخَّره جعله نكرة. ومن العرب من يوافِقُه على ذلك ".
ومنه: مررتُ برجلٍ شَرًّ منك، فهو نعتٌ على أنه نقصَ أَنْ يكون مثَله.
ومنه: مررتُ برجلٍ خيرٍ منك، فهو نعتٌ له بأنَّه قد زاد على أن يكون
مثلَه.
ومنه: مررتُ برجلٍ غَيْرِك، فغيرُك نعتٌ يُفصَل به بين مَنْ نَعَتَّه
بغَيْرٍ وبين من أضَفتَها إليه حتَّى لا يكون مثلَه أو يكونَ مَرَّ
باثنين.
ومنه: مررتُ برجلٍ آخَرَ، " فآخر " نعتٌ على نحو غَيْرِ.
(1/423)
ومنه: مررتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهِ، نعتَّ
الرجلَ بحسن وجهه ولم تجعل فيه الهاء هى إضمارُ الرجلِ، كما تقول:
حَسَنٌ وجههُ، لأنَّه إذا قيل حَسَنُ الوجهِ عُلم أنه لا يَعنى من
الوجوه إلاَّ وجهَه.
ومثل ذلك: مررت بامرأة حسنة الوجهِ، إنَّما أَدخلتَ الهاءَ فى
الحسَنَةِ لأَِنّ الحسَنَة إنَّما وقعتْ نعتاً لها ثم بلغتَ به بعد ما
صار نعتاً لها حيث أردتَ، فمن ثم صارتْ فيها الهاءُ. وليست بمنزلة
حَسَن وجههُ فى اللفظ وإن كان المعنى واحداً؛ لأنّ الحُسْنَ ههنا
للأوَّل ثم تضيفه إلى من تريد، وحَسَن الوجه مضافٌ إلى معرفةٍ صفةٌ
للنكرة، فلمَّا كانت صفةً للنكرة أُجريت مُجراها كما جرت مجراها
أخواتُها مِثْلٌ وما أِشبهها.
وممَّا يكون نعتاً للنكرة وهو مضافٌ إلى معرفةٍ قول الشاعر، امرؤ
القيس:
بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ لاحَهُ ... طِرادُ الهَوادِى كلَّ شأ
ومغرب
ومنه أيضاً: مررتُ على ناقةٍ عُبْر الهَواجِرِ.
(1/424)
وممّا يكون مضافاً إلى المعرفة ويكون نعتاً
للنكرة الأسماءُ التى أُخذت من الفعلِ فأُريدَ بها معنى التنوين. من
ذلك: مررتُ برجلٍ ضاربك، فهو نعت على أنه سيَضربه، كأَنك قلت: مررتُ
برجلٍ ضارِبٍ زيداً، ولكن حُذف التنوينُ استخفافا. وإن أظهرتَ الاسمَ
وأردتَ التخفيف والمعنى معنى التنوين، جرى مجراه حين كان الاسمُ
مضمَراً، وذلك قولُك: مررتُ برجلٍ ضاربه رجل؛ فإنْ شئت حملتَه على أنّه
سيفَعل، وإن شئتَ على أنَّك مررت به وهو فى حالِ عملٍ، وذلك قوله عزّ
وجلّ: " هذا عارض ممطرنا ". فالرفعُ ههنا كالجرّ فى باب الجرّ.
واعلم أنَّ كل مضافٍ إلى معرفةٍ وكان للنكرة صفةً فإِنّه إذا كان
موصوفاً أو وَصْفا أو خَبَراً أو مبتدأَ، بمنزلة النكرة المُفرَدةِ.
ويدلّك على ذلك قول " الشاعر، وهو " جرير:
ظَلِلنا بمُسْتَنَ الحَرورِ كأَنّنا ... لَدَى فَرَسٍ مُسْتَقْبِل
الريح صائم
(1/425)
كأَنه قال: لدى مستقبل صائمٍ.
وقال المَرّار الأَسدىّ:
سَلَّ الهُمومَ بكلَّ مُعْطِى رأْسِه ... ناجٍ مُخالِطِ صُهْبةٍ
متَعيَّسِ
مُغتالِ أَحْبُلِهِ مُبينٍ عُنْقُه ... فى مَنْكِبٍ زَبَنَ المَطَّى
عَرَنْدسِ
سمعناه ممّن يَرويه من العرب يُنشِدُه هكذا. ومنه أيضاً قول ذى
الرُّمّة:
سَرَتْ تَخْبِطُ الظلْمَاءَ من جانِبَىْ قَساً ... وحُبّ بها من خابِطِ
اللَّيْلِ زائِرِ
فكأَنّهم قالوا: بكلَّ مُعْطٍ " رأسَه "، ومن خابط " الليل ". ومثله
قول جرير:
(1/426)
يارب غابطِنا لو كان يَعرفُكْم ... لاقَى
مُباعدةً منكْم وحِرْمانَا
وقال أبو مِحْجَنِ الثَّقَفّى:
يا رُبّ مثلك فى النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطَلاقٍ
فرُبّ لا يقع بعدها إلاّ نكرةٌ، فذلك يدلّك على أنّ " غابطنا " " ومثلك
" نكرةٌ.
ومن ذلك قول العرب: لى عِشْرون مِثْلَه ومائةُ مثلِه، فأَجروا ذلك
بمنزلة عشرين درهما ومائة درهمٍ. فالمِثْلُ وأخَواتُه كأَنّه كالذى
حُذف منه التنوينُ فى قوله مِثْلٌ زيدا وقَيدٌ الأوابد. وهذا تمثيل،
ولكنها كمائة وعشرين، فلزمها شيء واحد وهو الإِضافة. يريد أنَّك أردت
معنى التنوين. فمثلُ ذلك قولهم: مائةُ درهمٍ.
(1/427)
وزعم يونس أنه يقول: عشرونَ غَيرَك، على
قوله عشرون مثلكَ.
وزعم يونس والخليل رحمهما الله، أنّ الدّرهم ليست نكرة؛ لأنّهم يقولون:
مائةُ الدرهمِ التى تَعلم، فهى بمنزلة عبد الله.
وزعم يونس والخليل أنّ هذه الصفاتِ المضافةَ إلى المعرفة، التى صارت
صفةً للنكرة، قد يجوز فيهن كلهن أن يكون معرفةً، وذلك معروفٌ فى كلام
العرب. يدلّك على ذلك أَنّه يجوز لك أن تقول: مررتُ بعبد الله ضاربِك،
فجعلتَ ضاربك بمنزلة صاحبك.
وزعم يونس أنه يقول: مررتُ بزيدٍ مثلك، إذا أرادوا مررت بزيد المعروف
بشبهك، فتجعل مثلك معرفة. ويدلك على ذلك قوله: هذا
(1/428)
مثلك قائما، كأنه قال هذا أخوك قائما. إلا
حسن الوجه فإنه بمنزلة رجل، لا يكون معرفة. وذاك أنه يجوز لك أن تقول:
هذا الحسن الوجه، فيصير معرفة بالألف واللام، كما يصير الرجل معرفة
بالألف واللام ولا يكون معرفة إلا بهما.
ومن النعت أيضا: مررت برجلٍ إمّا قائمٍ وإمّا قاعدٍ، فقد أَعلمهم أنه
ليس بمُضْطَجِعٍ " ولكنه " شكّ فى القيام والقعودِ، وأَعلمهم أنّه على
أحدهما.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ لا قائمٍ ولا قاعدٍ، جُرّ لأنّه نعتٌ،
كأَنك قلت: مررتُ برجلٍ قائمٍ، وكأَنّك تحدَّثُ مَن فى قلبه أَنَّ ذاك
الرجلَ قائمٌ أو قاعدٌ، فقلتَ: لا قائم ولا قاعد، لتُخْرِجَ ذلك من
قلبه.
ومنه: مررتُ برجلٍ راكبٍ وذاهبٍ، واستحقهما لا لأن الرُّكوب قبل
الذَّهاب. ومنه: مررْت برجل راكبٍ فذاهبٍ استحقَّهما إلا أنه بَيَّنَ
أَنَّ الذهابَ بعد الركوب وأَنّه لا مُهلة بينهما وجعله متَّصلا به.
ومنه: مررتُ برجلٍ راكب ثمّ ذاهبٍ، فبيَّن أنَّ الذهاب بعده، وأنّ
بينهما مُهلةً، وجعله غيرَ متّصلِ به فصيَّره على حِدةٍ.
ومنه: مررتُ برجلٍ راكعٍ أو ساجد، فإنما هي بمنزلة إما وإما، إلاّ أَنّ
إمّا يُجاءُ بها ليُعْلَمَ أنّه يريد أحدَ الأمرينِ، وإذا قال " أو "
ساجدٍ فقد يجوز أن يُقتصر عليه.
(1/429)
ومنه: مررتُ برجلٍ راكعٍ لا ساجِدٍ،
لإِخراجِ الشكَّ أو لتأكيد العِلم فيهما.
ومنه: مررت: برجلٍ راكع بل ساجد، إما غلط فاستدرك، وإما نسىَ فذكر.
ومنه: مررتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهِ جَميِلة، جُرَّ لأنَّه حَسنُ
الخاصَّةِ جَميلُها، والوجهُ ونحوُه خاصٌّ، ولو كان حَسَنَ العامّةِ
لقال حَسَنٍ جميل.
ومنه: مررتُ برجلٍ ذى مالٍ، أى صاحبِ مالٍ.
ومنه: مررتُ برجلٍ رجلِ صِدْقٍ، منسوبٍ إلى الصَّلاح. كأنّك قلت: مررتُ
برجلٍ صالحٍ. وكذلك: مررتُ برجلٍ رجلِ سَوءٍ، كأَنّك قلت: مررتُ برجلٍ
فاسدٍ؛ لأنَّ الصَّدقَ صلاحٌ والسَّوءَ فَسادٌ. وليس الصدقُ ههنا بصدقِ
اللسان، لو كان كذلك لم يجز لك أن تقول هذا ثَوبُ صِدْقٍ وحِمارُ
صِدْقٍ، وكذلك السَّوْءُ ليس فى معنى سُؤْتُه.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلينِ مِثْلَيْنِ، فتفسيرُ المثلينِ أنَّ كلّ
واحد منهما مِثلُ صاحبه. ومثل ذلك سِيّانِ، وسَواءٌ.
ومنه: مررتُ برجلينِ مِثْلِكَ، أى كلُّ واحد منهما مِثلُك، ووجهٌ آخَرُ
على أنّهما جميعاً مِثْلُك. وكلُّ ذلك جر.
(1/430)
ومنه: مررتُ برجلينِ غيرِك، فإِنْ شئت
حملتَه على أنَّهما غيرُه فى الخِصال وفى الأمور، وإن شئت على قوله:
مررتُ برجلينِ آخَرَينِ إذا أردت أنَّه قد ضَمّ معك فى المرور سِواك،
فيصيرُ كقولك: برجلٍ آخَرَ، إذا ثَنَّى به.
ومنه: مررت برجلين سواء، على أنهما لي يزيدا على رجلين ولي يَنقصَا من
رجلِين. وكذلك مررتُ بدرهمٍ سَواءٍ.
ومنه أيضاً: مررتُ برجلينِ مُسْلِمٍ وكافرٍ، جمعت الاسمَ وفرّقتَ
النعتَ. وإن شئت كان المسلمُ والكافر بدلاً، كأَنّه أجاب من قال:
بأَىَّ ضربٍ مررتَ؟ وإن شاءَ رَفَعَ كأَنّه أجاب مَنْ قال: فما هما؟
فالكلامُ على هذا وإن لمَ يلفظ به المخاطَبُ؛ لأنّه إنما يَجرى كلامُه
على قدر مسألتك عنده لو سألتَهِ.
وكذلك: مررتُ برجلِين رجلٍ صالحٍ ورجلٍ طالح، إن شئت صيَّرته تفسيراً
لنعتٍ، وصار إعادتك الرجل توكيداً. وإن شئت جعلتَه بدلاً، كأَنّه جوابٌ
لمن قال: بأَىَّ رجل مررتَ. فتركتَ الأوّلَ واستَقبلتَ الرجلَ بالصفة.
وإن شئت رفعتَ على قوله فما هما؟ ومما جاء في الشعر قد جمع فيه الاسم
وفُرّق النعتُ وصار مجروراً قوله، " وهو رجل من باهِلَة ":
بَكَْيتُ وما بُكَا رَجُلٍ حَلِيمٍ ... على رَبْعيِن مسلوبٍ وبالٍ
(1/431)
كذا سمعنا العرب تنشده، والقوافي مجرورة.
ومنه أيضاً: مررتُ بثلاثةِ نَفَرٍ: رجلينِ مسلمينِ ورجلٍ كافرٍ، جَمعتَ
الاسمَ وفصَّلتَ العدّةَ ثم نعتَّه وفسّرتَه. وإن شئت أَجريتَه مُجْرى
الأوّل فى الابتداء فترفعُه، وفى البدلِ فتجرُّه. قال " الرجز، وهو "
العجاج:
خَوَّى على مُسْتَوِياتٍ خَمسِ ... كِرْكَرِةٍ وثَفِناتٍ مُلْسِ
وهذا يكون على وجهينِ: على البدل، وعلى الصفة.
ومثال ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة والبدل، قوله عزّ
وجلّ: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى
كافرة ". ومن الناس من يَجرّ والجَرُّ على وجهين: على الصفة، وعلى
البدل. ومنه قول كُثَيَّرِ عَزّةَ:
(1/432)
وكنت كذى رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى
فيها الزمانُ فشَلَّتِ
فأَمّا مررتُ برَجُلٍ راكعٍ وساجدٍ، ومررتُ برجلٍ رجلٍ صالحٍ، فليس
الوجهُ فيه إلاّ الصفةَ، وليس هذا بمنزلة مررتُ برجلينِ مُسلمٍ وكافر
ولا ما أشبهه، من قبل أنك ثم تُبعَّض، كأنَّك قلت: أحدُهما كذا والآخر
كذا، ومنهم كذا " ومنهم كذا ".
وإذا قلت: مررتُ برجلٍ قائمٍ، ومررتُ برجلٍ قاعدٍ، فهذا اسمٌ واحدٌ.
ولو قلت: مررتُ برجلٍ مسلمٍ وثلاثةِ رِجالٍ مسلمينَ لم يَحسن فيه إلاّ
الجرُّ لأنك جعلت الكلامَ اسماً واحداً حتّى صار كأنك قلت: مررتُ
بقائمٍ ومررتُ برجالٍ مسلمينَ.
وهذا قولُ يونسَ: ولو جاز الرفعُ لقلت: كان عبدُ الله راكعٌ؛ لأنّك إن
شبّهتَه بالتبعيض فالتبعيضُ ههنا رفعٌ، إذا قلت: كان أَخواك راكع
وساجد.
(1/433)
ومثل ذلك: مرت برجل وامرأة وحمار قيام،
فرقت الأسماء وجمعت النعت، فصارجمع النعت ههنا بمنزلة قولك: مررتُ
برَجلينِ مسلمَينِ، لأن النعت ههنا ليس مبعَّضا، ولو جاز فى هذا الرفعُ
لجاز مررتُ بأخيك وعبدِ الله وزيدٍ قيامٌ، فصار النعتُ ههنا مع الأسماء
بمنزلة اسمٍ واحد.
وتقول: مررتُ بأََربعة صَريعٌ وجَريحٌ، لأنّ الصَّريع والجريح غيرُ
الأربعة، فصار على قولك: منهم صريع ومنهم جريحُ.
ومن النعت أيضاً: مررتُ برجلٍ مِثلِ رَجُلَين، وذلك فى الغَناء "
والجَزْءِ ". وهذا مثلُ قولك: مررتُ بُبَّر مِلء قَدَحَين، فالذى يضاف
إليه المِلْءُ مِقْيَاسٌ ومِكْيَالٌ ومِثقَالٌ ونحوُه، والأوّلُ
مَوْزُونٌ ومَقيسٌ ومكِيلٌ. وكذلك: مررتُ برَجلين مِثْلِ رجلٍ في
الغناء، كقولك: ببرين ملء قدح. وتقول: مررتُ بَرَجُلٍ مثل رجلٍ، وتقول:
مررت برجلٍ أَسَدٍ شِدّةً وجُرأةً، إنّما تريد مِثْلَ الأسِد. وهذا
ضعيفٌ قبيح، لأنَّه اسمٌ لم يُجْعَلْ صفةً، وإنَّما قاله النحويُّون،
شبَّه بقولهم: مررتُ بزيدٍ أَسداً شِدّةً.
وقد يكون خَبَراً ما لا يكون صفةً. " ومثله: مررتُ برَجُلٍ نارٍ
حُمْرةً ".
ومنه أيضاً: مررت برجل صالح بل طالح، وما مررتُ برجلٍ كَريمٍ بل لئيمٍ،
أَبدلتَ الصفةَ الآخِرَةَ من الصفة الأولى وأَشركَتْ بينهما بَلْ فى
الإِجراءِ على المنعوت. وكذلك: مررتُ برجل صالح بل طالح، ولكنه يجيء
على النَّسيان أو الغَلطِ، فيَتداركُ كلامَه؛ لأنه ابتدأ بواجب.
(1/434)
ومثله: ما مررتُ برجلٍ صالحٍ لكنْ طالحٍ،
أَبدلتَ الآخِرَ من الأوّل فجرى مجراه فى بَلْ.
فإِن قلتَ: مررتُ برجلٍ صالحٍ ولكنْ طالحٍ، فهو مُحالٌ، لأنّ لكنْ لا
يُتدارك بها بعد إيجاب، ولكنّها يُثْبتُ بها بعد النفى. وإن شئت رفعتَ
فابتدأتَ على هُوَ فقلتَ: ما مررتُ برجلٍ صالحٍ ولكنْ طالحٌ، وما مررتُ
برجلٍ صالحٍ بل طالحٌ، ومررتُ برجلٍ صالح بل طالحٌ؛ لأنَّها من الحروف
التى يُبْتَدأُ بها.
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد
مكرمون ". فالرفعُ ههنا بعد النصب كالرفع بعد الجرّ. وإن شئت كان
الجرُّ على أن يكون بدلاً على الباء.
واعلم أنّ بَلْ، ولا بَلْ، ولكِنْ، يُشرِكْنَ بين النعتينِ فيُجْرَيانِ
على المنعوت، كما أشركَتْ بينهما الواوُ والفاءُ، وثمّ وأَوْ، ولا،
وإمّا وما أشبه ذلك.
وتقول: ما مررتُ برجلٍ مسلمٍ فكيفَ رجلٌ راغبٌ فى الصّدَقة، بمنزلة:
فأَينَ راغبٌ في الصدقة.
وزعم يونسُ أن الجرّ خطأ؛ لأنّ أَيْنَ ونَحْوَها يبتدأ بهن ولا يضمر
بعدهن شيء، " كقولك: فهَّلا دينارا، إلاّ أنَّهما مما يكون بعدهما
الفعل ".
(1/435)
ألا ترى أنّك لو قلت: رَأيتُ زيداً فأَيْنَ
عمراً، أو فهَلْ بشراً لم يجز. وقد بُيَّن تركُ إضمارِ الفعلِ فيما
مضى. ولكنْ وبَلْ لا يُبتدآنِ ولا يكونانِ إلاّ على كلامٍ، فشُبَّهْن
بَإِمّا وأَوْ ونحوهما.
وممّا جرى نعتاً على غير وجه الكلام: " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ "،
فالوجهُ الرفعُ، وهو كلامُ أكثرِ العربِ وأفصحهِم. وهو القياسُ، لأنّ
الخَرِبَ نعتُ الجُحْرِ والجحرُ رفعٌ، ولكنّ بعض العرب يجُرُّه. وليس
بنعتٍ للضبّ، ولكنّه نعتٌ للذى أُضيف إلى الضبّ، فجرّوه لأنه نكرةٌ
كالضبّ، ولأنَّه فى موضعٍ يقع فيه نعتُ الضبّ، ولأنه صار هو والضب
بمنزلة اسم واحدٍ. ألا ترى أنّك تقول: هذا حَبُّ رُمّانٍ. فإِذا كان لك
قلت: هذا حَبُّ رُمّانى، فأَضفتَ الرمّانَ إليك، وليس لك الرمّانُ
إنَّما لك الحَبُّ.
ومثلُ ذلك: هذه ثلاثةُ أَثوابِك. فكذلك يقع على جُحْرِ ضبّ ما يقع على
حَبَّ رُمّانٍ، تقول: هذا جُحْرُ ضَبَّى، وليس لك الضبُّ إِنَّما لك
جُحْرُ ضبَّ، فلم يَمنعك ذلك من أَنْ قلتَ جحرُ ضبّى، والجحرُ والضبُّ
بمنزلة اسم مفرَدٍ، فانجرَّ الخَرِبُ على الضبَّ كما أضفتَ الجحرَ
إِليك مع إضافة الضبَّ. ومع هذا أنّهم أَتبعوا الجرَّ كما أَتبعوا
الكَسْرَ الكسرَ، نحوَ قولهم: بهم وبدارِهِم، وما أِشبه هذا.
(1/436)
وكِلا التفسيرَيْنِ تفسيرُ الخليل، وكان
كلُّ واحد منهما عنده وجهاً من التفسير.
وقال الخليل رحمه الله: لا يقولون إِلاَّ هذانِ جُحْرَا ضَبَّ
خَرِبانِ، من قِبَل أنّ الضبّ واحدٌ والجحر جحران، وإنما بغلطون إذا
كان الآخِرُ بعدّة الأوّل وكان مذكَّراً مثلَه أو مؤنَّثًا، وقالوا:
هذه جِحرَةُ ضِبابٍ خربة، لأن الضباب مؤنثة ولأن الجحرة مؤنثهة،
والعدّة واحدة، فغَلِطوا.
وهذا قولُ الخليل رحمه الله، ولا نُرَى هذا والأوَّلَ إلاّ سَواءً،
لأنّه إذا قال: هذا جُحْرُ ضبَّ مُتَهَدمٍ، ففيه من البيان أنّه ليس
بالضبَّ، مثلُ ما فى التثنية من البيان أنّه ليس بالضب. وقال العجاج:
كأن نسج العنكبوت المرمل
فالنسج مذكر والعنكبوت أنثى.
باب ما أَشْرَكَ بين الاسمْينِ فى الحرف الجارّ
فَجَرَيا عليه كما أَشرك بينهما فى النَّعْت فَجَرَيا على المنعوت
وذلك قولك: مررتُ برجل وحمار قبل. قالوا وأشركت بينهما فى الباءِ فجريا
عليه، ولم تَجعلْ للرَّجل منزلةً بتقديمك إيّاه يكون بها أَوْلَى من
الحمار،
(1/437)
كأنك قلت مررتُ بهما. فالنفىُ فى هذا أن
تقولَ: ما مررتُ برجلٍ وحمار، أي ما مررت بهما، وليس في هذا دليل على
أنه بدأ بشيء قبل شيء، ولا بشيء مع شيء، لأن يجوز أن تقول: مررت بزيد
وعمرو والمبدوء به في المرور عمرو، " ويجوز أن يكون زيداً "، ويجوز أن
يكون المرورُ وَقَعَ عليهما فى حالةٍ واحدة.
فالواوُ تَجمع هذه الأشياءَ على هذه المعانى. فإذا سمعتَ المتكلَّمَ
يَتكلّم بهذا أَجبتَه على أيَّها شئتَ؛ لأنها قد جَمعتْ هذه الأشياءَ.
وقد تقول: مررت بزيد وعمرو، على أنّك مررت بهما مُرُورَيْن، وليس فى
ذلك " دليلٌ " على المرور المبدوء به، كأنّه يقول: ومررت أيضاً بعمرو.
فنفْىُ هذا: ما مررتُ بزيد وما مررتُ بعمرو.
وسنبَّين النفىَ بحروفه فى موضعه إنْ شاء الله.
ومن ذلك " قولك ": مررت بزيد فعمرو، ومررت برجل فامرأة. فالفاء أشركت
بينهما فى المرور، وجَعلتِ الأوّلَ مبدوءاً به. ومن ذلك: مررتُ برجلٍ
ثُمّ امرأَةٍ، فالمرورُ ههنا مُرورانِ، وجَعلَتْ ثُمّ الأوّلَ مبدوءاً
به وأَشركتْ بينهما فى الجرّ.
ومن ذلك " قولك ": مررتُ برجلٍ أَوِ امْرأةٍ، فأَوْ أَشْركتْ بينهما فى
الجرّ، وأثبتِت المرورَ لأَحَدِهما دون الآخَرِ، وسَوّتْ بينهما فى
الدعْوَى. فَجوابُ الفاءِ: ما مررت بزيد فعمرو. وجوابُ ثُمّ: ما مررتُ
بزيدٍ
(1/438)
ثمّ عمرو. وجوابُ أَوْ إن نَفيتَ الاسمينِ:
ما مررتُ بواحدٍ منهما، وإن أَثْبَتّ أحدَهما قلتَ: ما مررتُ بفلان.
ومن ذلك: مررتُ برجل لا امرأََة، أشركَتْ بينهما لاَ فى الباءِ
وأحقَّتِ المرورَ للأوّل وفصلَتْ بينهما عند من التَبَساَ عليه فلم
يَدْرِ بأيّهما مررتَ.
هذا باب المُبْدَل من المُبدَل منه
والمبدل يشرك المبدل منه فى الجر وذلك قولك: مررتُ برجلٍ حِمارٍ. فهو
على وجهٍ محالٌ، وعلى وجهٍ حَسَنٌ.
فأَمَّا المحُالُ فأَن تَعنَى أنَّ الرجلَ حِمارٌ. وأَما الذى يَحسُن
فهو أن تقول: مررتُ برجلٍ، ثم تُبْدِلَ الحِمارَ مَكَانَ الرجل فتقولَ:
حِمارٍ، إمَّا أن تكونَ غلِطتَ أو نَسِيتَ فاستَدركتَ، وإمّا أن
يَبْدُوَ لك أَن تُضربَ عن مرورك بالرجل وتَجعلَ مكانه مرورَك بالحمار
بعد ما كنتَ أردتَ غيْرَ ذلك.
ومثل ذلك قولك: لا بَلْ حِمارٍ.
ومن ذلك قولك مررتُ برجلٍ بَلْ حمار، وهو على تفسير: مررتُ برجلٍ
حِمارٍ.
ومن ذلك: ما مررتُ برجلٍ بَلْ حِمارٍ، وما مررتُ برجلٍ ولكن حمار،
أبدلت الآخر من لأول وجعلتَه مكانَه. وقد يكونُ فيه الرفُع على أن
يُذْكَرَ الرجُل فيقال: مِن أمِره ومن أمره، فتقولُ أنت: قد مررت به،
فما مررت برجل بل حمار ولكن حِمارٌ، أى بل هو حمارٌ ولكنْ هو حمار.
(1/439)
ولو ابتَدأتَ كلاماً فقلتَ: ما مررتُ برجلٍ
ولكنْ حِمارٌ، تريد: ولكنْ هو حمارٌ، كان عربيَّا؛ أو بلْ حمارٌ، أو لا
بل حمارٌ، كان كذلك، كأنّه قال: ولكنِ الذى مررتُ به حمارٌ.
وإذا كان قبل ذلك منعوتٌ فأَضمرتَه، أو اسم فأضمرتَه أو أَظهرتَه، فهو
أَقْوَى؛ لأنك تُضْمرُ ما ذكرتَ وأنت هنا تُضْمرُ ما لم تَذكر. وهو
جائزٌ عربي، لأن معناه ما مررت بشيء هو رجل؛ فجاز هذا كما جاز المنعوتُ
المذكورُ نحُو قولك: " ما " مررتُ برجلٍ صالحٍ بل طالحٌ.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد
مكرمون ". فهذا على أنَّهم قد كانوا ذكروا الملائكةَ قبل ذلك بهذا،
وعلى الوجه الآخرِ. والمعرفةُ والنكرة فى لكنْ وبَلْ ولا بلْ سَواءٌ.
ومن المبدَلِ أيضاً قولك: قد مررتُ برجلٍ أو امرأَةٍ، إنَّما ابتَدأَ
بيقينٍ ثمّ جعل مكانَه شكّا أَبدلَه منه، فصار الأوّلُ والآخِرُ
الادَّعاءُ فيهما سَواءٌ، فهذا شبيهٌ بقوله: ما مررت بزيد ولكن عمرو،
ابتدأ بنفىٍ ثم أَبدل مكانَه يقينًا.
وأمّا قولهم: أَمررتَ برجل أَمِ امرأةٍ؟ إذا أردتَ معنى أيُّهما مررتَ
به، فإِنَّ أَمْ تُشْرِك بينهما كما أَشركتْ بينهما أَوْ.
(1/440)
وأمّا: ما مررتُ برجلٍ فكيف امرأةٌ، فزعم
يونسُ أنّ الجرَّ خطأ، وقال: هو بمنزلة أَيْنَ. ومَنْ جَرَّ هذا فهو
يَنبغى له أن يقول: ما مررتَ بعبد الله فلِمَ أخيه، وما لَقيِتَ زيداً
مرّة فكَمْ أبا عمرو؟ تريد: فلِمَ مررتَ بأخيه؟ وفَكَمْ لقيتَ أبا
عمرو؟ واعلم أنّ المعرفة والنكرة فى باب الشَّريكِ والبدلِ سواءٌ.
واعلم أنّ المنصوب والمرفوع في الشركة والبدل كالمجرور.
(1/441)
|