الكتاب لسيبويه بابٌ يختار فيه الرفعُ والنصبُ، لقُبْحِه
أَن يكونَ صفة
وذلك قولك: مررتُ ببُرًّ قبلُ قَفيزٌ بدرهم قَفيزٌ بدرهم. وسمعنا
العربَ الموثوقَ بهم يَنصبونه، سمعناهم يقولون: العَجَبُ من بُرًّ
مررنا به قبلُ قَفيزاً بدرهم " قفيزا بدرهم "، فحملوه على المعرفة
وتركوا النَّكرة، لقبح النكرة أن تكون موصوفةً بما ليس صفةً، وإنّما هو
اسمٌ كالدرهم والحديد. ألاَ ترى أنّك تقول: هذا مالُك درهما، وهذا
خاتَمُكَ حديدا ولا يَحسن أن تَجعلَه صفةً، فقد يكون الشيء حَسنًا إذا
كان خبرا وقبيحاً إذا كان صفةً. وأمَّا الّذين رفعوه فقالوا:
(1/396)
مررتُ ببُرّ قبلُ قَفيزٌ بدرهم، فجعلوا
القفيزَ مبتدأ. وقولك بدرهم مبنياً عليه.
باب ما ينتصب من الصفات كانتصاب الأسماء
فى الباب الأوّل وذلك قولك: أبيعكَه الساعةَ ناجِزا بناجِزٍ، وسادُوكَ
كابراً عن كابرٍ. فهذا كقولك: بعته رأساً برأس.
باب ما يَنتصب فيه الصفةُ لأنّه حالٌ
وقع فيه الألفُ واللام
شبّهوه بما يشبَّه من الأسماء بالمصادر، نحوَ قولك: فاهُ إلى فىَّ،
وليس بالفاعل ولا المفعول. فكما شبّهوا هذا بقولك عَوْدَه على بَدْئه
وليس بمصدر، كذلك شبّهوا الصفة بالمصدر، وشذّ هذا كما شذّتِ المصادرُ
فى بابها حيث كانت حالاً وهى معرفةٌ، وكما شذّت الأسماءُ التى وُضعت
موضعَ المصدر.
وما يشبه بالشيء فى كلامهم وليس مثلَه فى جميع أحواله كثيرٌ، وقد بُيّن
فيما مضى وستراه أيضا إن شاء الله.
(1/397)
وهو قولك: دخلوا الأول فالأول، وجرى على
قولك واحداً فواحداً ودخلوا رجُلا رَجُلا.
وإن شئت رفعتَ فقلت: دخَلوا الأوّلُ فالأوّلُ، جعله بدلا وحمله على
الفعل، كأنه قال: دخل الأوّلُ فالأوّلُ.
وإن شئت قلت: دخلوا رجلٌ فرجلٌ، تجعله بدلاً كما قال عزّ وجلّ: "
بالناصية. ناصية كاذبة ".
فإِن قلتَ: ادْخُلوا، فأمرتَ فالنَّصبُ الوجهُ، ولا يكون بدلاً؛ لأنك
لو قلت: ادْخُلِ الأوّلُ فالأوّلُ أو رجلٌ رجلٌ، لم يجز، ولا يكون
صفةً، لأنه ليس معنى الأوّلِ فالأوّلِ أَنّك تريد أن تعرفه بشيء
تحلَّيه به. لو قلت: قومُك الأوّلُ فالأوّلُ أَتَوْنا لم يَستقم، وليس
معناه معنى كلَّهم فأُجرىَ مجرى خمستَهم ووحدَه.
ولا يجوز فى غير الأول هذا، كما لا يجوز أن تقول: مررتُ به واحِدَه ولا
بهما اثْنَيْهما.
وكان عيسى يقول: ادْخُلوا الأَوّلُ فالأوّلُ؛ لأنّ معناه ليَدخل، فحمله
على المعنى، وليس بأَبعدَ من: " ليُبْكَ يَزيدُ ضارِعٌ لخصُومةٍ "
(1/398)
فإِذا قلت: ادْخُلوا الأوّلُ والآخِرُ
والصغيرُ والكبيرُ، فالرفع؛ لأن معناه معنى كلهم، كأنه قالك ليَدْخلوا
كلُّهم.
وإذا أردتَ بالكلام أن تُجريه على الاسم كما تُجرى النعتَ لم يجز أن
تُدْخِلَ الفاءً؛ لأنَّك لو قلت: مررتُ بزيد أخيك وصاحبك، كان حسنا،
ولو قلت: مررتُ بزيدٍ أخيك فصاحِبك، والصاحبُ زيدٌ، لم يجز. وكذلك لو
قلت: زيد أخزك فصاحبُك ذاهبٌ، لم يجزْ. ولو قلتَها بالواو حَسُنتْ، كما
أنشد كثيرٌ من العرب، والبيت لأمّيهَ بن أبى عائذٍ:
ويَأْوِى إلى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثٍ مَراضِيعَ مِثْلِ
السَّعالِى
ولو قلتَ " فشعث " قبح.
(1/399)
" وقال الخليل: ادخلوا الأول فالأول والوسط
والآخِرُ. لا يكون فيه غيرُه وقال: يكونُ على جواز كلُّكم، حملَه على
البدل ".
هذا باب
ما يَنتصب من الأسماءِ والصفات لأنَّها أَحوالٌ
تقع فيها الأمورُ وذلك قولك: هذا بُسراً أَطْيَبُ منه رُطَباً. فإِنْ
شئت جعلتَه حيناً قد مضى، وإن شئتَ جعلتَه حينًا مستقبَلا. وإنَّما قال
الناسُ هذا منصوبٌ على إضمارِ إذَا كانَ فيما يُستقبل، وإذْ كانَ فيما
مضى، لأن هذا لمّا كان ذا معناه أَشْبَهَ عندهم أن يَنتصب على إذَا
كانَ. " ولو كان على إضمارٍ كانَ لقلت: هذا التَّمْرَ أطيبُ منه
البُسْرَ؛ لأنّ كانَ قد يَنصب المعرفةَ كما يَنصب النكرةَ، فليس هو على
كانَ ولكنَّه حال ".
ومنه: مررتُ برَجُلٍ أَخْبَثَ ما يكونُ أَخْبَثَ منك أَخْبَثَ ما
تكونُ، وبرجل خيرَ ما يكون خيرٍ منك خيرَ ما تكونُ، وهو أخْبَثَ ما
يكون
(1/400)
أخبث منك أخبث ما تكون. فهذا كلُّه محمولٌ
على مثل ما حملت عليه ما قبله.
وإنْ شئت قلتَ: مررتُ برجلٍ خيرُ ما يكون خيرٌ منك، كأَنّه يريد برجلٍ
خيرُ أَحوالهِ خيرٌ منك، أى خيرٌ من أَحوالك. وجاز لهُ أن يقول: خيرٌ
منك، وهو يريد: " خير " من أَحوالك، كما جاز أن تقول: نهارُك صائمٌٍ
وليلُكَ قائم.
وتقول: البُرُّ أَرخصُ ما يكون قَفيزانِ، أى البرُّ أَرخصُ أَحوالِه
التى يكون عليها قَفيزانِ، كأَنّك قلت: البرُّ أَرخصُه قَفيزان.
ومن ذلك هذا البيتُ تُنشِده العربُ على أَوْجُهٍ، بعضُهم يقول، وهو قول
عمرو بن مَعْدِ يكَرِبَ:
الحَرْبُ أوّل ما تكونْ فتية ... تسعى ببزتها لكل جهول
(1/401)
أي أعرب أوّلُها فتيَّة ولكنّه أنَّث
الأوّلَ، كما تقول: ذهبتْ بعضُ أصابعه. وبعضُهم يقول:
" الحربُ أوّلَ ما تكون فُتَيَّةٌ "
أى إذا كانت فى ذلك الحينِ. وبعضهم يقول:
" الحربُ أوّلُ ما تكون فُتَيَّةً "
كأَنّه قال: الحربُ أوّلُ أَحوالِها إذا كانتْ فتَيَّةً، كما تقول:
عبدُ الله أحسنُ ما يكون قائما. ومن رَفَعَ الفُتَيَّة ونَصَب الأوّل
على الحال قال: البُرُّ أَرْخَصَ ما يكون قَفيزانِ. ومن نَصَبَ
الفُتَيَّة ورَفَعَ الأوّل قال: البُرُّ أَرْخَصُ ما يكون قَفيزَيْن.
وأمَّا عبدُ الله أحسنُ ما يكونُ قائماً فلا يكون فيه إلاّ النصبُ؛
لأنه لا يجوز لك أن تَجعل أحسنَ أَحوالِه قائماً على وجهٍ من الوجوه.
وتقول: عبدُ الله أَخْطَبُ ما يكون يومَ الجمعة، والبَداوة أطيبُ ما
تكون شهرَىْ ربيع، كأَنّك قلت: أخطبُ ما يكون عبدُ الله فى يوم الجمعة،
وأطيبُ ما تكون البَداوةُ فى شهرى ربيع.
(1/402)
ومن العرب من يقول: أخطبُ ما يكون الأميرُ
يومُ الجمعة، وأطيبُ ما تكون البَداوةُ شهرَا ربيع، كأنّه قال: أَخطبُ
أيّام الأمير يومُ الجمعة، وأطيبُ أَزمنِة البداوة شهرا ربيع. وجاز
أخطبُ أيّامه يومُ الجمعة على سعة الكلام، وكأنّه قال: أطيبُ الأزمنة
التى تكون فيها البداوةُ شهرا ربيع، وأخطبُ الأيّام التى يكون فيها
الأمير خَطيبًا يومُ الجمعة.
وتقول: آتيك يوم الجمعة أبطوه، على معنى ذاك أبطؤه. كأنّه قيل له أىُّ
غاية هذه عندك وأىُّ إتيان ذا عندك، أسريع أم بطيء؟ فقال: أبطوه، على
معنى: ذاك أَبْطَؤُه.
وتقول: آتيك يومَ الجمعة أَو يومَ السبت أبطؤُه أو يومُ السَّبتِ
أبطؤه، وأَعطُيته درهما أو درهمين أكثرَ ما أعيته، " وأعطيتهُ درهما أو
درهمان أكثرُ ما أعطيتُه ". وإن شَاء نصب الدرهمين وقال: أكثر ما
أعطيته. وإن شاء نصب أكثرَ أيضاً على أنّه حالٌ وقعت فيه العطيةُ. وإن
شاء قال: آتيك يومَ الجمعة أبطأه، أي أبطأ الإتيان يوم الجمعة.
باب ما ينتصب من الأماكن والوقت
وذلك لأنها ظروف تقع فيها الأشياءُ، وتكون فيها، فانتَصب لأنّه
(1/403)
موقوعٌ فيها ومَكون فيها، وعَمِلَ فيها ما
قبلها، كما أَنَّ العِلْم إذا قلتَ أنت الرَّجُلُ عِلْماً عَمِلَ فيه
ما قبله، وكما عَمِلَ فى الدرهمِ عشرون إذا قلت: عشرون درهما. وكذلك
يَعمل فيها ما بعدها وما قبلها.
فالمكانُ قولُك هو خَلْفَك، وهو قُدّامَك وأَمامَك، وهو تَحْتَكَ
وقُبالَتَك، وما أِشبه ذلك.
ومن ذلك قولك أيضاً: هو ناحيةً من الدار، " وهو ناحيةَ الدارِ، وهو
ناحيتَك وهو نَحْوَك "، وهو مكاناً صالحاً، ودارُه ذات اليمين،
وشرقِىَّ كذا قال الشاعر، وهو جرير:
هَبَّتْ جنوبا فذكرى ما ذكرتكم ... عند الصفاة التى شَرْقِىَّ
حَوْرانَا
وقالوا: منازلهم يميناً " ويَساراً " وشِمالا. قال الشاعر، وهو عمرو
ابن كلثوم:
(1/404)
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأْسُ
مَجْراها اليَمينَا
أى على ذاتِ اليمينِ، حدّثنا بذلك يونس عن أبى عمرو، وهو رأيُه. وتقول:
هو قَصْدَك، كما قال الشاعر، وسمعنا بعضَ العرب يُنشِده كذا:
سَرَى بعدما غارَ الثُّرَيَّا وبعدما ... كأنّ الثُّريَّا حِلَّةَ
الغَوْرِ مُنْخلُ
أى قَصْدَه، يقال هو حِلَّةَ الغور أى قَصْدَه، سمعنا ذلك ممن يوثق به
من العرب.
ويقال: هما خَطَّانِ جَنابَتَىْ أنفِها يعنى الخطَّيْن اللّذَيْنِ
اكتَنفا جنَبْى أنف الظبية. وقال الشاعر، وهو الأعشى:
(1/405)
نحن الفوارِسُ يومَ الِحنْوِ ضاحِيةً ...
جَنبَى فُطَيْمةَ لا مِيلٌ ولا عُزُلُ
فهذا كلُّه انتَصب على ما هو فيه وهو غيرُه، وصار بمنزلة المنوَّن الذى
يعمل فيما بعده نحو العشرين، ونحو قوله: " هو " خَيْرٌ منك عَمَلاً،
فصار " هو " خَلفَك، وزيدٌ خلفَك بمنزلة ذلك. والعاملُ فى خَلْفٍ الذى
هو مَوضعٌ له والذى هو فى موضع خبرِه، كما أنَّك إذا قلت: عبدُ الله
أخوك فالآخِرُ قد رَفَعَه الأوّلُ وعَمِلَ فيه، وبه استَغنى الكلامُ،
وهو منفصِلٌ منه.
ومن ذلك قول العرب: هو موضعَه، وهو مكانَه، وهذا مكانَ هذا، وهذا رجلٌ
مكانك، إذا أردتَ البَدَلَ. كأنَّك قلت: هذا فى مكان ذا، وهذا رجلٌ فى
مكانكِ. ويقال للرجل: اذهبْ معك بفلان، فيقول: معي رجل
(1/406)
مكانَ فلان، أى معى رجلٌ يكونُ بدلاً منه
ويُغنِى غَناءه، ويكون فى مكانه.
واعلم أنَّ هذه الأشياء كلّها انتصابُها من وجه واحد.
ومثلُ ذلك: هو صَدَدك، وهو سَقَبَكَ، وهو قُرْبَك.
واعلم أنَّ هذه الأشياءَ كلَّها قد تكون أسماءً غيرَ ظروف، بمنزلة زيد
وعمرِو. سمعنا من العرب من يقول: دارُك ذاتُ اليمينِ. وقال الشاعر، وهو
لبيد:
فَغَدَتْ، كِلاَ الفَرْجَينِ تَحْسَبُِ أنَّه ... مَوْلَى المخَافة
خَلْفُها وأَمامُها
ومن ذلك أيضاً: هذا سَواءَك، وهذا رجلٌ سَواءَك فهذا بمنزلة مكانَك إذا
جعلتَه في معنى بذلك. ولا يكون اسماً إلاّ فى الشعر. قال بعض العرب،
لما اضطُرَّ فى الشَّعر جعله منزلة غيرٍ، قال الشاعرُ وهو رجل من
الأنصار:
(1/407)
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا
قعدوا مِنّا ولا من سَوائنَا
وقال الآخَر، وهو الأعشى:
تَجانَفُ عن جَوّ اليَمامةِ ناقتى ... وما قصدت من أهلِها لِسَوائكاَ
ومثل ذلك: أنت كعبْدِ الله، كأَنّه يقول: أنت كعبد الله، أى أنت فى حال
كعبد الله، فأُجرى مُجرى بعبدِ الله. إلاّ أنَّ ناسا من العرب إذا
اضطُرُّوا فى الشعر جعلوها بمنزلة مِثْلٍ. قال الراجز " وهو حُمَيْدٌ
الأَرقطُ ":
فصُيَّرُوا مِثلَ كَعَصْفٍ مَأْكولْ
وقال خِطامٌ المُجاشِعى:
وصالياتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنْ
(1/408)
ويدلك على أن سواءك وكزيد يمنزلة الظروف،
أنَّك تقول: مررتُ بمن سَواءَك وعلى من سواءك، والذى كزيدٍ، فحَسُنَ
هذا كحُسْن مَنْ فيها والذى فيها، ولا تَحسن الأسماءُ ههنا ولا تَكثُر
فى الكلام. لو قلتَ: مررتُ بمن فاضِلٌ، أو الذى صالحٌ، كان قبيحا.
فهكذا مَجْرَى كزَيْدٍ وسَواءَك.
وتقول: كيفَ أنت إذا أُقبل قُبْلُك ونُحِىَ نَحْوك، كأَنّه قال: كيف
أنت إذا أُريدت ناحيتُك وإذا أُريد ما عندك حين قال: إذا نُحِىَ
نَحْوك، وأمّا حين قال: أُقبل قُبْلُك فكأَنّه قال: كيف أنت إذا أُقبلَ
النَّقْبَ الرَّكابُ، جعلهما اسمَينِ.
وزعم الخليل رحمه الله أن النصب جيّدٌ إذا جعله ظرفا، وهو بمنزلة قول
العرب: هو قَريبٌ منك، وهو قَريباً منك، أى مكانًا قريبا منك.
حدّثنا يونسُ أنَّ العربَ تقول فى كلامها: هَلْ قريباً منك أحدٌ،
كقولهم: هل قُرْبَك أحدٌ.
وأمّا دونَك فإِنه لا يُرْفَعُ أبداً، وإن قلت: هو دونَك فى الشَّرَف؛
لأنَّ هذا إنَّما هو مَثَلٌ كما كانَ هذا مكانَ ذا فى البدل مثلا،
ولكنَّه على
(1/409)
السَّعة. وإنما الأصلُ فى الظروف الموضعُ
والمستقَرُّ من الأرض ولكنّه جاز هذا كما تقول: إنّه لَصُلبُ القَناةِ،
وإنّه لمِنْ شجرةٍ صالحةٍ، ولكنه على السعة. وأمّا قُصِدَ قصدُك فمثُل
نُحِىَ نحوُك، وأُقبل قبُلُك، يَرتفع كما يَرتفعان ويَنتصب كما
ينتصبان. وإن شئت قلت: هو دونُك، إذا جعلتَ الأوّلَ الآخِرَ ولم تَجعله
رجُلا. وقد يقولون: هو دُونٌ، فى غير الإِضافة، أى هو دُونٌ من القوم،
وهذا ثَوبٌ دُون، إذا كان رَديئاً.
واعلم أنّه ليس كل موضع و " لا " كلُّ مكان يَحسُن أن يكون ظرفاً
فممَّا لا يحسن أن يكون ظرفاً أنّ العربَ لاتقول هو جَوفَ المسجد ولا
هو داخِلَ الدار ولا هو خارِجَ الدار، حتى تقول: هو فى جوفها، وفى داخل
الدار، ومن خارجها. وإنَّما فُرّق بين خلَف وما أِشبهها وبين هذه
الحروف، لأن
(1/410)
خَلفَ وما أِشبهها للأماكن التى تَلى
الأسماءَ من أَقطارها. على هذا جرتْ عندهم، والجَوْفُ والخارج عندهم
بمنزلة الظهْرِ والبطن والرأٍس واليد، وصارتْ خلف وما أشبهها تَدخل على
كلّ اسم فتصير أمكنةً تَلى الاسمَ من نواحيه وأقطاره، ومن أعلاه
وأسفلِه، وتكونُ ظروفا كما وصفتُ لك، وتكون أسماءَ كقولك: هو ناحيةُ
الدارِ إذا أردتَ الناحيةَ بعينها، وهو فى ناحيةِ الدار، فتصير بمنزلة
قولك: هو فى بيتك وفى دارك.
ويدلُّك على أنَّ المجرورَ بمنزلة الاسم غيرِ الظَّرف أنّك تقول: زيدٌ
وَسْطَ الدار وضربتُ وَسَطَه، وتقول: فى وَسَطِ الدار، فيصيرُ بمنزلة
قولك: ضربتُ وَسَطَه مفتوحا مثلَه.
واعلم أنَّ الظروفَ بعضُها أَشَدُّ تمكّنا من بعضٍ فى الأسماءِ، نحوَ
القُبْل والقَصد والنَّاحية. وأمّا الخَلف والأَمام والتَّحْت فهنّ
أقلُّ استعمالاً فى الكلام أن تُجْعَل أسماءً. وقد جاءت على ذلك فى
الكلام والأشعار.
وهذه حروف تَجرى مَجرى خَلْفك وأَمامك، ولكنَّا عزلناها لنفسَّر
معانيَها، لأنَّها غَرائبُ.
فمن ذلك حرفانَ ذكرناهما في الباب الأول ثم لم نفسَّر معناهما، وهما
صَدَدَكَ ومعناه القَصْد، وسقَبَكَ ومعناه القُرب، ومنه قول العرب: هو
وَزْنَ الجبلِ أى ناحيةً منه، وهم زِنةَ الجبل أى حِذاءَه.
ومن ذلك قول العرب: هم قُرابَتك أى قُرْبَك، يعنى المكانَ.
(1/411)
وهم قُرابَتك فى العلم، أى قَريباً منك فى
العلم. وكان هذا بمنزلة قول العرب: هو حِذاءَه وإزاءَه، وحَوالَيْةِ
بنو فلانٍ، وقومُك أَقطارَ البلاد.
ومن ذلك قول الشاعر، وهو أبو حَيَّةَ النُّمَيرىّ:
إذا ما نَعَشْناه على الرَّحْلِ يَنْثَنِى ... مُسالَيهِ عنه من وراءٍ
ومُقْدَمِ
ومسالاه: عطفاه، فصار بمنزلة " جنبي فطيمة ":
باب ما شُبّه من الأماكن المختصّةِ
بالمكِان غيرِ المختصَّ شُبّهت به إذ كانتْ تَقع على الأماكن وذلك قول
العرب، سمعناه منهم: هو مِنَّى منزلةَ الشَّغافِ، وهو منّى منْزلةَ
الوَلَدِ.
ويدلك على أنه ظرفٌ قولك: هو منّى بمنزلة الولد فإنما أردتَ أن
(1/412)
تَجعله فى ذلك الموضع، فصار كقولك: مَنزلى
مكانَ كذا وكذا وهو منّى مَزْجَرَ الكَلْبِ، وأنتَ منّى مَقعَدَ
القابلةِ، وذلك إذا دنا فَلَزِقَ بك من بين يَدَيك. قال الشاعر، وهو
أبو ذُؤَيبٍ:
فَورَدْنَ والعَيُّوقُ مَقعَدَ رابِئ ال ... ضرباء خلفَ النَّجْمِ لا
يتتلَّعُ
وهو منك مَناطَ الثُّرَيَّا.
وقال الأحوَص:
وإنّ بنى حَربٍ كما قد عَلِمْتُمُ ... مَناطَ الثُّرَيَّا قد تَعَلَّتْ
نُجومُهَا
(1/413)
وقال: هو منَّى مَعْقِدَ الإِزَارِ، فأجرىَ
هذا مجرى قولك: هو منّى مكانَ السارية، وذلك لأنّها أماكنُ، ومعناها هو
منّى فى المكان الذي يقعد فيه الضرباءُ، وفى المكان الذى نيطَ به
الثُّريَّا، وبالمكان الذى يَنزل به الولدُ، وأنت منى فى المكان الذى
تَقعد فيه القابلةُ، وبالمكان الذى يُعْقَدُ عليه الإِزارُ، فإِنَّما
أراد هذا المعنى ولكنه حَذف الكلامَ. وجاز ذلك كما جاز دخلتُ البيتَ
وذهبتُ الشأمَ؛ لأنَّها أماكنُ وإن لم تكنْ كالمكان.
وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت: هو منّى مَجْلِسَكَ أو مُتَّكأََ
زيدٍ، أو مَربِطَ الفرسِ، لم يجز. فاستَعملْ من هذا ما استَعملتِ
العربُ، وأَجِزْ منه ما أجازوا.
ومن ذلك قول العرب: هو منّى دَرَجَ السَّيْلٍ، أى مكانَ درجِ السيل من
السيل. قال الشاعر، وهو ابن هَرْمةَ:
(1/414)
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالى أم هم درج
السُّيولِ
ويقال رَجَعَ أَدْراجَه، أى رَجع فى الطريق الذى جاء فيه. هذا معناه
فأُجرى مجرى ما قبله، كما أَجروا ذلك المجرى دَرَجَ السيول.
وأمّا ما يَرتفع من هذا الباب فقولك: هو منّى فَرْسَخَانَ، وهو منّى
عَدْوةُ الفَرسِ، ودَعْوةُ الرجُل، " وغَلْوةُ السهمِ "، وهو منّى
يومانٍ، وهو منّى فَوْتُ اليد. فإِنَّما فارَقَ هذا البابَ الأوّلَ
لأنَّ معنى هذا أنه يخبر أن بينه وبينه فرسخين ويومين، ودعوة الرجل،
وفوتاً. ومعنى فوت اليد أنه يريد أن يقرَّبَ ما بينه وبينه. فهذا على
هذا المعنى، وجرى على الكلام الأوّل، كأنَّه هو لسَعة الكلام، كما
قالوا: أَخْطَبُ ما يكون الأميرُ يومُ الجمعة.
وأمّا قول العرب: أنت منّى مَرْأَى ومَسْمَعٌ، فإِنما رفعوه لأنّهم
جعلوه هو الأوّلَ، حتى صار بمنزلة قولهم: أنت مني قريب.
(1/415)
وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون:
أنصب للمنية تعتريهم ... رجالى أم هم درج السُّيولِ
فجعَلَهُم هم الدّرَجَ، كما تقول: زيدٌ قَصْدُك، إذا جعلتَ القصدَ
زيداً، وكما يجوز لك أن تقول: عبدُ الله خَلْفُك، إذا جعلتَه هو
الخَلْفَ.
واعلمْ أنّ هذه الحروف بعضُها أشدُّ تمكُّنًا فى أن يكون اسماً من بعض،
كالقصد والنجو، والقُبْل والناحية، وأمّا الخَلْفُ والأمام والتّحْت
والدُّونُ فتكون أسماءً، وكينونةُ " تلك " أسماءً أكثرُ وأَجرى في
كلامهم. وكذلك مرأى ومسمع كينونتهما أسماء أكثرُ، ومع ذلك إنّهم جعلوه
اسماً خاصاً، بمنزلة المجلس والمُتَّكأَ وما أِشبه ذلك، فكرهوا أنْ
يَجعلوه ظرفا. وقد زعموا أنّ بعض الناس يَنصبه، يَجعله بمنزلة دَرَجَ
السُّيول، فينصبُه، وهو قليل، كأَنّهم لمّا قالوا: بمرأى ومسمعٍ فصار
غيرَ الاسم الأوَّل فى المعنى واللفظ، شبهوه بقوله: هو مني يمنزلة
الولد.
وقد زعم يونسُ أنّ ناسا يقولون: هو منّى مَزْجَرُ الكلب، يجعلونه
بمنزلة مَرْأًى ومسمع. وكذلك مَقْعَدٌ ومَناطٌ، يجعلونه هو الأوّلَ
فيُجرَى، كقول الشاعر:
(1/416)
وأنتَ مَكانُك من وائِلٍ ... مَكانُ
القرادِ مِنِ أستِ الجَمَلْ
وإنما حسن الرفعُ ههنا لأنَّه جَعَل الآخِرَ هو الأوّلَ، كقولك: له
رأسٌ رأسُ الحِمار. ولو جَعل الآخِرَ ظرفًا جاز، ولكنّ الشاعر أراد أن
يشبَّهَ مكانَه بذلك المكان.
وأمَّا قولهم: دارى خَلْفَ دارك فرسَخاً، فانتَصب لأنَّ خَلْفَ خَبَرٌ
للدار، وهو كلامٌ قد عَمِلَ بعضُه فى بعض واستَغنى، فلمَّا قال: دارى
خلف دارك أَبْهَمَ، فلم يُدْرَ ما قدرُ ذاك، فقال: فرسَخاً وذِراعا
ومِيلا، أراد أن يبيَّنَ. فيَعملُ هذا الكلامُ فى هذه الغايات بالنَّصب
كما عَمل: له عِشْرون درهماً في الدرهم، كأن هذا الكلام شيء منَّونٌ
يَعمل فيما ليس من اسمه ولا هو هو، كما كان: أفضلُهم رَجُلا، بتلك
المنزلة.
وإنْ شئت قلت: دارى خلفَ دارك فرسخانِ، تُلْغِى خلفَ كما تُلغِى فيها
إذا قلت: فيها زيدٌ قائمٌ.
وزعم يونسُ أنّ أبا عمرو كان يقول: دارى من خَلْفِ دارك فرسخانِ،
فشبَّهه بقولك: دارُك منّى فرسخانِ، لأنَّ خلفَ ههنا اسمٌ، وجَعَل مِنْ
فيها بمزلتها فى الاسم. وهذا مذهبٌ قوىٌّ.
وأما العربُ فتَجعلُه بمنزلة قولك: خَلْفَ، فتَنصبُ وتَرفعُ، لأنك
تقول: أنت من خَلْفى، ومعناه أنت خَلْفى، ولكنّ الكلام حَذْف. ألاَ ترى
أنَّك تقول: دارُك من خلفِ دارى، فيَستغنى الكلامُ.
وتقول: أنت منّى فرسخَينِ، أى أنت منّى ما دُمْنَا نَسيرُ فرسخَينِ،
فيكون ظرفاً كما كان ما قبله مما شُبّه بالمكان.
(1/417)
وأما الوَقت والساعاتُ والأيّام والشُّهور
والسَّنون، وما أشبه ذلك من الأزمنة والأحيان التى تكون فى الدهر، فهو
قولك: " القِتالُ يومَ الجمعة "، إذا جعلت يوم الجمعة ظرفاً، و "
الهلال الليلة ". وإنَّما انتَصبا لأنك جعلتهما ظرفًا وجعلتَ القتال في
يوم الجمعة، والهلالَ فى الليلة.
وإن قلت: الليلةَ الهلالُ، واليومَ القِتالُ نصبتَ، التقديمُ والتأخيرُ
فى ذلك سَواءٌ. وإن شئت رفعتَ فجعلتَ الآخِرَ الأوّلَ.
وكذلك: اليومَ الجمعةُ واليومَ السبتُ، وإن شئت رفعتَ. فأمّا اليومُ
الأحَدُ، واليومُ الاثنانِ، فإِنّه لا يكون إلاّ رفعاً، وكذلك إلى
الخميس، لأنه ليس يعمل فيه كأَنّك أردت أن تقول: اليومُ الخامسُ
والرابعُ. وكذلك: اليومُ خَمسةَ عَشَرَ من الشهر، إنَّما أردت هذا
اليومُ تمامُ خَمْسةَ عَشَرَ من الشهر،
(1/418)
ويومان من الشهر رُفع كلُّه، فصار بمنزلة
قولك: العامُ عامُها.
ومن العرب من يقول: اليومَ يومْك، فيَجعلُ اليومَ الأوّلَ بمنزلة
الآنَ، لأنّ الرجل قد يقول: أنا اليومَ أَفعل ذاك، ولا يريد يومًا
بعينه.
وتقول: عَهْدى به قَريبًا وحَديثًا، إذا لم تَجعلِ الآخِرَ هو الأوّلَ.
فإِن جعلتْ الآخِر هو الأوّلَ رفعتَ. وإذا نصبتَ جعلتَ الحديثَ
والقريبَ من الدهر. وتقول: عَهْدى به قائمًا وعِلْمى به ذا مالٍ،
فتَنصبُ على أنَّه حال وليس بالعهد ولا العلم، وليسا هنا ظرفَيْنِ.
وتقول: ضَربى عبدَ الله قائماً، على هذا الذى ذكرتُ لك.
واعلم أنَّ ظروفَ الدهرِ أشدُّ تمكّنا فى الأسماء، لأنها تكون فاعِلةً
ومفعولةً. تقول: أَهْلَكَك الليلُ والنهارُ، واستَوفيتَ أيّامَك،
فأُجرِىَ الدهرُ هذا المجرى. فأَجْرِ الأشياءَ كما أَجروها.
هذا باب الجَرّ
والجرُّ إنما يكون فى كلّ اسمٍ مضافٍ إليه. واعلم أنّ المضاف إليه ينجر
بثلاثة أشياء: بشيء ليس باسم ولا ظرف، وبشيء يكون ظرفا، وباسم لا يكون
ظرفا.
فأمّا الذى ليس باسم ولا ظرف فقولك: مررتُ بعبدِ الله، وهذا لعبدِ
الله، وما أنت كزيدٍ، ويالَبَكْرٍ، وتَاللهِ لا أفعلُ ذاك ومِنْ وفي
(1/419)
ومُذْ، وعنْ ورُب وما أشبه ذلك، وكذلك
أخذتُه عن زيدٍ، وإلى زيدٍ.
وأمّا الحروفُ التى تكون ظرفاً فنحو خَلفَ وأَمامَ، وقدام ووراء، وفوق
وتحت، وعند وقبل، ومع وعلى، لأنك تقول: من عليك، كما تقول: من فوقك،
وذهب من معه.
وعن أيضاً ظرف بمنزلة ذات اليمين والناحية. ألا ترى أنك تقول: من عن
يمينك، كما تقول: من ناحية كذا وكذا.
وقبالة، ومكانك، ودون، وقبل، وبعد، وإزاء، وحذاء، وما أشبه هذا من
الأمكنة والأزمنة. وذلك قولك: أنت خلف عبد الله، وأمام زيد، وقُدّام
أخيك، وكذلك سائُر هذه الحروف.
وهذه الظروفُ أسماءٌ، ولكنها صارت مواضعَ للأشياءِ.
وأمّا الأسماءُ فنحوُ: مِثلٍ، وغَيرٍ، وكُلَّ، وبَعْضٍ. ومثلُ ذلك
أيضاً الأسماءُ المختصَّةُ نحوُ: حِمارٍ، وجِدارٍ، ومالٍ، وأَفعَلَ
نحوَ قولك: هذا أَعْمَلُ الناس، وما أشبه هذا من الأسماء كلَّها، وذلك
قولك: هذا مِثْلُ عبدِ الله، وهذا كل مالك وبعض، وهذا حمار زيد وجدار
أخيك، ومال عمرو. وهذا أَشَدُّ الناسِ.
وأمَّا الباء وما أشبهها فليست بظروف ولا أسماءٍ، ولكنَّها يضاف بها
(1/420)
إلى الاسم ما قبله أو ما بعده. فإِذا قلتَ: يا لَبَكْرٍ فإِنَّما أردت
أن تَجعل ما يَعمل فى المُنادَى من الفعل المضمر مُضافا إلى بكرٍ
باللام.
وإذا قلتَ: مررتُ بزيدٍ، فإِنَّما أضفتَ المرورَ إلى زيد بالباء، وكذلك
هذا لِعبدِ الله. وإذا قلت: أنت كعبدِ الله، فقد أضفتَ إلى عبد الله
الشبَهَ بالكاف. وإذا قلت: أخذتُه من عبدِ الله فقد أضفتَ الأَخذَ إلى
عبد الله بِمن. وإذا قلت: مُذْ زمانٍ فقد أضفتَ الأمرَ إلى وقتٍ من
الزمان " بمُذ ". وإذا قلت: أنت فى الدارِ فقد أضفت كينونتَك فى الدار
إلى الدار بِفى. وإذا قلت: فيك خصلة سوء، فقد أضفت إليه الرَّداءَةَ
بفِى. وإذا قلت: رب رجل يقول ذاك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب. وإذا
قلت: بالله والله وتالله فإِنما أضفتَ الحَلْفَ إلى الله سبحانه. كما
أضفتَ النداءَ باللام إلى بكرٍ حينَ قلت: يالَبَكْرٍ. وكذلك رَوَيتُه
عن زيدٍ، أضفتَ الرواية إلى زيد بعن. |