الكتاب لسيبويه باب إجراء الصفة فيه
على الاسم
في بعض المواضع أحسن وقد يَستوى فيه إجراء الصفة على الاسم، وأن تجعله
خبرا فتنصبه فأما ما استويا فيه فقوله: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدٍ به،
إن جعلته وصفا. وإن لم تحمله على الرجل وحملتَه على الاسم المضمَر
المعروف نصبتَه فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدا به، كأنه قال: معه
بازٌ صائدا به، حين لم يرد أن يحمله على الأول.
وكما تقول: أتيتُ على رجلٍ ومررتُ به قائم، إن حملتَه على الرجل؛ وإن
حملته على مررت به نصبته، كأنك قلت: مررتُ به قائما.
ومثله: نحن قومٌ ننطلق عامدون إلى بلد كذا، إن جعلتَه وصفا. وإن لم
تجعله وصفا نصبتَ، كأنه قال: نحن ننطلق عامدين.
ومنه: مررتُ برجلٍ معه بازٌ قابضٍ على آخَر، ومررت برجلٍ معه
(2/49)
جُبّةٌ لابسٍ غيرَها. وإن حملتَه على
الإضمار الذي معه نصبتَ. وكذلك مررت برجلٍ عنده صقرٌ صائدٍ ببازٍ. إن
حملتَه على الوصف فهو هكذا. وإن حملتَه على ما فى عنده من الإضمار
نصبت، كأنك قلت: عنده صقر صائدا ببازٍ.
وكذلك: مررت برجلٍ معه الفرسُ راكب بِرذَوْناً، إن لم ترد الصفة نصبتَ،
كأنك قلت: معه الفرسُ راكبا برذونا. فهذا لا يكون فيه وصفٌ ولا يكون
إلا خبرا. ولو كان هذا على القلب كما يقول النحويون لفَسَدَ كلامٌ
كثير، ولكان الوجه: مررتُ برجل جميلِه حسنِ الوجه. ولقال مررتُ بعبد
الله معه بازك الصائدَ به، فتنصب. فهذا لا يكون فيه إلا الوصف لأنه لا
يجوز أن تجعل المعرفة حالا يقع فيه شيء. ولم تقل جميلَه لأنك لم ترد أن
تقول إنه حسنُ الوجه في هذه الحال، ولا أنه حسنٌ وجهه جميلا، أى في هذه
الحال حسنَ وجهه. فلم يرد هذا المعنى ولكنه أراد أن يقول: هذا
(2/50)
رجلٌ جميلُ الوجه، كما يقال. هذا رجلٌ حسنُ
الوجه. فهذا الغالب في كلام الناس.
وإن أردتَ الوجه الآخرَ فنصبت فهو جائزٌ لا بأس به، وإن كان ليس له قوة
الوصف فى هذا. فهذا الذي الوصفُ فيه أحسنُ وأقوى.
ومثله في أن الوصف أحسن: هذا رجلٌ عاقلٌ لبيب، لم يجعل الآخرَ حالا وقع
فيه الأول، ولكنه أثنى عليه وجعلهما شرعا سواء، وسوى بينهما في الإجراء
على الاسم. والنصبُ فيه جائز على ما ذكرت لك. وإنما ضَعُفَ لأنه لم يرد
أن الأول وقع وهو في هذه الحال، ولكنه أراد أنهما فيه ثابتان، لم يكن
واحدٌ منهما قبل صاحبه، كما تقول: هذا رجلٌ سائرٌ راكبا دابة. وقد يجوز
في سعة الكلام على هذا، ولا ينقُض المعنى في أنهما شَرْعٌ سواء فيه.
وسترى هذا النحو في كلامهم.
فأما القلب فباطلٌ. لو كان ذلك لكان الحدُّ والوجه في قوله: مررتُ
بامرأة آخذةٍ عبدَها فضاربته النصبَ، لأن القلب لا يصلح، ولقلت: مررت
برجلٍ عاقلةٍ أمُّه لبيبة؛ لأنه لا يصلح أن تقدم لبيبة فتضمر فيها
الأمَّ ثم تقول عاقلةٍ أمُّه.
وسمعناهم يقولون: هذه شاةٌ ذات حَملٍ مُثقلةٌ. وقال الشاعر، وهو حسان
بن ثابت:
ظننتُمْ بأَنْ يَخفى الذي قد صنعتُمُ ... وفينا نبيٌّ عنده الْوَحْى
واضِعُهْ
(2/51)
ومما يُبطِل القلبَ قوله: زيدٌ أخو عبد
الله مجنون به، إذا جعلتَ الأخ صفة والجنون من زيدٍ بأخيه، لأنه لا
يستقيم زيدٌ مجنون به أخو عبد الله.
وتقول: مررت برجل معه كيسٌ مختوم عليه، الرفع الوجهُ لأنه صفة الكيس.
والنصب جائز على قوله: فيها رجلٌ قائما، وهذا رجلٌ ذاهبا.
واعلم أنك إذا نصبتَ في هذا الباب فقلت: مررتُ برجلٍ معه صقرٌ صائدا به
غدا، فالنصبُ على حاله، لأن هذا ليس بابتداء، ولا يُشبه: فيها عبدُ
الله قائمٌ غدا؛ لأن الظروف تُلغى حتى يكون المتكلم كأنه لم يذكرها في
هذا الموضع، فإذا صار الاسم مجرورا أو عاملا فيه فعلٌ أو مبتدأ، لم
تُلغِه لأنه ليس يرفعه الابتداء، وفي الظروف إذا قلت: فيها أخواك
قائمان يرفعه الابتداء.
وتقول: مررتُ برجلٍ معه امرأةٌ ضاربتُه، فهذا بمنزلة قوله: معه كيسٌ
مختومٌ عليه. فإن قلت: مررت برجل معه امرأةٌ ضاربِها، جررتَ ونصبت على
ما فسّرتُ لك. وإن شئت قلت ضاربَها هو فنصبت، وإن شئت جررتَ ويكون هو
وصفَ المضمَر في ضاربها حتى يكون كأنك لم تذكرها. وإن شئت جعلتَ هو
منفصلا، فيصير بمنزلة اسمٍ ليس من علامات المضمَر.
(2/52)
وتقول: مررتُ برجل معه امرأةٌ ضاربُها هو،
فكأنك قلت: معه امرأةٌ ضاربُها زيدٌ. ومثل قولك ضاربُها هو قوله: مررتُ
برجل معه امرأة ضاربُها أبوه، إذا جعلتَ الأب مثل زيد، فإن لم تُنزل هو
والأبَ منزلة زيد وما ليس من سببه ولم يلتبس به قلت: مررتُ برجل معه
امرأةٌ ضاربِها أبوه أو هو. وإن شئت نصبت، تُجرى الصفة على الرجل ولا
تُجريها على المرأة، كأنك قلت: ضاربِها وضاربَها، وخصَصتَه بالفعل،
فيجرى مجرى مررتُ برجلٍ ضاربِها أبوه، ومررت بزيد ضاربَها أخوه. ولا
يجوز هذا في زيد، كما أنه لا يجوز مررتُ برجلٍ ضاربِها زيدٌ، ولا مررتُ
بعبد الله ضاربَها خالدٌ، وكما كان لم يجز يا ذا الجاريةِ الواطئَها
زيدٌ، فتحملَه على النداء. ولكن الجر جيد؛ ألا ترى أنك لو قلت: مررتُ
بالذي وطئها أبوه جاز، ولو قلت بالذي وطئها زيد لم يكن. فإن قلت: يا ذا
الجارية الواطئِها أبوه، جررتَ كما تجر في زيد حين قلت: يا ذا الجارية
الواطئِها زيد. وتقول: يا ذا الجارية الواطئَها أبوه، تجعل الواطئَها
من صفة المنادى، ولا يجوز أن تقول: يا ذا الجارية الواطئَها زيد، من
قبل أن الواطئَها من صفة المنادى، فلا يجوز كما لا يجوز أن تقول: مررتُ
بالرجل الحَسن زيدٌ، وقد يجوز أن تقول بالحَسن أبوه.
وكذلك إن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها هو، وجعلت هو منفصلا. وإن شئت
نصبتَه كما تقول: يا ذا الجارية الواطئَها، فتُجريه على المنادى ولا
تُجريه على الجارية.
(2/53)
وإن قلت: يا ذا الجارية الواطئِها، وأن
تريد الواطئِها هو لم يجز، كما لا يجوز مررتُ بالجارية الواطئِها تريد
هو أو أنت، كما لا يجوز هذا وأنت تريد الأبَ أو زيدا. وليس هذا كقولك:
مررتُ بالجارية التي وطئَها زيد أو التي وطئَها، لأن الفعل يضمَر فيه
وتقع فيه علامة الإضمار، والاسم لا تقع فيه علامةُ الإضمار، فلو جاز
ذلك لجاز أن يوصَف ذلك المضمَر بهو، فإنما يقع في هذا إضمار الاسم رفعا
إذا لم يوصف به شيء غيرُ الأول، وذلك قولك يا ذا الجارية الواطئَها،
ففي هذا إضمار هو، وهو اسمُ المنادى، والصفة إنما هي للأول المنادى.
ولو جاز هذا لجاز مررتُ بالرجل الآخِذِ به، تريد أنت، ولجاز مررتُ
بجاريتك راضيا عنها، تريد أنت. ولو قلت مررت بجاريةٍ رضيت عنها، ومررت
بجاريتك راضيا عنها، أو مررتُ بجاريتك قد رضيتَ عنها، كان جيدا، لأنك
تضمِر في الفعل وتكون فيه علامة الإضمار ولا يكون ذلك في الاسم إلا أن
تضمِر اسمَ الذي هو وصفة، ولا يوصف به شيء غيره مما يكون من سببه
ويلتبس به.
وأما رُبَّ رجلٍ وأخيه منطلقَين، ففيها قبحٌ حتى تقول: وأخٍ له.
والمنطلقان عندنا مجروران من قبل أن قوله وأخيه في موضع نكرة، لأن
المعنى إنما هو وأخٍ له.
(2/54)
فإن قيل: أمضافة إلى معرفة أو نكرة؟ فإنك
قائلا إلى معرفة، ولكنها أجريت مُجرى النكرة، كما أن مثلك مضافة إلى
معرفة وهي توصف بها النكرة، وتقع مواقعَها. ألا ترى أنك تقول رب مثلِك.
ويدلك على أنها نكرة أنه لا يجوز لك أن تقول: رب رجلٍ وزيدٍ، ولا يجوز
لك أن تقول: رب اخيه حتى تكون قد ذكرت قبل ذلك نكرة.
ومثل ذلك قول بعض العرب: " كل شاةٍ وسَخلتِها "، أي وسخلةٍ لها، ولا
يجوز حتى تذكر قبله نكرة فيُعلَم أنك لا تريد شيئاً بعينه، وأنك تريد
شيئاً من أمة كلُّ واحد منهم رجل، وضممتَ إليه شيئا من أمة كلهم يقال
له أخٌ. ولو قلت: وأخيه وأنت تريد به شيئا بعينه كان مُحالاً. وقال:
أَيُّ فَتَى هَيْجاءَ أنت وجارِها ... إذا ما رجالٌ بالرجالِ استقلّتِ
فالجار لا يكون فيه أبدا ههنا إلا الجر، لأنه لا يريد أن يجعله جار شيء
آخر فتى هيجاء، ولكنه جعله فتى هيجاء جار هيجاء، ولم يردْ
(2/55)
أن يعنى إنسانا بعينه، لأنه لو قال: أيُّ
فتى هيجاءَ أنت وزيدٌ لجعل زيدا شريكه في المدح. ولو رفعه على أنت، لو
قال: أيُّ فتى هيجاء أنت وجارُها، لم يكن فيه معنى أى جارها، الذي هو
فيه معنى التعجب.
وقال الأعشى:
وكَمْ دون بيتكَ من صفصَفٍ ... ودَكداكِ رَملٍ وأعقادِها
ووضْعِ سِقاءٍ وإحقابِه ... وحَلِّ حُلوسٍ وإغمادِها
هذا حجةٌ لقوله: رُبّ رجلٍ وأخيه. فهذا الاسم الذي لم يكن ليكون نكرة
وحدَه، ولا يوصف به نكرة، ولم يحتمل عندهم أن يكون نكرة، ولا يقع في
موضع لا يكون فيه إلا نكرة حتى يكون أول ما يَشغلُ به العاملَ نكرة، ثم
يُعطف عليه ما أضيف إلى النكرة، ويصير بمنزلة مثلك ونحوه.
(2/56)
ولم يُبتدأ به كما يُبتدأ بمثلك لأنه لا
يجري مجراه وحدَه. ولم يَصر هذا نكرة إلا على هذا الوجه، كما أن أجمعين
لا يجوز في الكلام إلا وصفا، وكما أن أيُّ تكون في النداء كقولك: يا
هذا، ولا يجوز إلا موصوفا. وليس هذا حالَ الوصف والموصوف في الكلام،
كما أنه ليس حالُ النكرة كحال هذا الذي ذكرتُ لك. وفيه على جوازه
وكلامِ العرب به ضَعفٌ.
هذا باب ما يُنصب فيه الاسمُ لأنه
لا سبيل له إلى أن يكون صفة
وذلك قولك: هذا رجلٌ معه رجلٌ قائمين. فهذا ينتصب لأن الهاء التي في
معه معرفة فأشركَ بينهما وكأنه قال: معه امرأةٌ قائمين.
ومثله: مررت برجلٍ مع امرأة ملتزمين، فله إضمارٌ في مع كما كان له
إضمار في معه، إلا أن للمضمَر في معه علَما وليس له في مع امرأة علَم
إلا بالنية. ويدلك على أنه مضمَرٌ في النية قولُك: مررت بقومٍ مع فلان
أجمعون.
ومما لا يجوز فيه الصفة: فوق الدار رجلٌ وقد جئتك برجل آخَر عاقلَين
مسلمين.
وتقول: اصنعْ ما سَرّ أخاك وأحبَّ أبوك الرجلان الصالحان، على
الابتداء؛ وتنصبه على المدح والتعظيم، كقول الخِرْنق من قيس بن ثعلبة:
لا يَبعَدنْ قومى الذين هُمُ ... سَمُّ العُداةِ وآفةُ الجُزْرِ
(2/57)
النازلين بكل معترَكٍ ... والطيبون معاقدَ
الأزْرِ
ولا يكون نصبُ هذا كنصب الحال، وإن كان ليس فيه الألف واللام، لأنك لم
تجعل في الدار رجل وقد جئتك بآخر، في حال تنبيهٍ يكونان فيه لإشارة،
ولا في حال عمَلٍ يكونان فيه، لأنه إذا قال: هذا رجلٌ مع امرأة، أو
مررت برجلٍ مع امرأة فقد دخل الآخرُ مع الأول في التنبيه والإشارة
وجعلتَ الآخِرَ في مرورك، فكأنك قلت: هذا رجلٌ وامرأة، ومررت برجلٍ
وامرأةٍ. واما الألف واللام فلا يكونان حالا ألبتة، لو قلت: مررت بزيدٍ
القائمَ، كان قبيحا إذا أردت قائما.
وإن شئت نصبتَ على الشتم، وذلك قولك: اصنعْ ما ساء أباك وكرِه أخوك
الفاسقين الخبيثين. وإن شاء ابتدأ. ولا سبيل إلى الصفة في هذا ولا في
قولك: عندي غُلام وقد أتيتُ بجارية فارهين، لأنك لا تستطيع أن تجعل
فارهين صفة للأول والآخِر، ولا سبيل إلى أن يكون بعض الاسم جرا وبعضه
رفعا، فلما كان كذلك صار بمنزلة ما كان معه معرفة من النكرات، لأنه لا
سبيل إلى وصف هذا كما أنه لا سبيل إلى وصف ذلك، فجُعل نصبا كأنه قال:
عندي عبد الله وقد أتيت بأخيه فارهين، جعل الفارهين ينتصبان على:
النازلينَ بكلِّ معترَكٍ وفروا من الإحالة في عندي غلامٌ وأُتيتُ
بجارية، الى الصب، كما فروا إليه في قولهم: فيها قائما رجلٌ.
(2/58)
واعلم أنه لا يجوز أن تصف النكرة والمعرفة،
كما لا يجوز وصفُ المختلفين، وذلك قولك: هذه ناقة وفصيلها الراتعان.
فهذا محال، لأن الراتعان لا يكونان صفة للفصيل ولا للناقة، ولا تستطيع
أن تجعل بعضَها نكرة وبعضَها معرفة. وهذا قول الخليل رحمه الله.
وزعم الخليل أن الجرين أو الرفعين إذا اختلفا فهما بمنزلة الجر والرفع،
وذلك قولك: هذا رجلٌ وفي الدار آخَرُ كريمين. وقد أتاني رجلٌ وهذا
آخَرُ كريمين، لأنهما لم يرتفعا من وجهٍ واحد. وقبحه بقوله: هذا لابن
إنسانَين عندنا كِراماً، فقال: الجر ههنا مختلفٌ ولم يُشرَك الآخِرُ
فيما جر الأول.
ومثل ذلك: هذه جارية أخَوَي ابنين لفلان كِراماً؛ لأن أخَوَي ابنين
اسمٌ واحدٌ والمضاف إليه الآخِرُ منتهاه، ولم يُشركِ الآخِرَ بشيء من
حروف الإشراك فيما جر الاسم الأول.
ومثل ذلك: هذا فرسُ أخَوَي ابنَيْك العُقلاء الحُلَماء، لأن هذا
(2/59)
في المعرفة مثل ذاك في النكرة، فلا يكون
الكرام والعقلاء صفة للأخوين والابنين، ولا يجوز أن يُجرى وصفاً لما
انجرّ من وجهين كما لم يجز فيما اختلف إعرابُه.
ومما لا تجري الصفةُ عليه نحوُ هذان أخواك وقد تولى أبواك الرجالُ
الصالحون، إلا أن ترفعه على الابتداء، أو تنصبه على المَدْح والتعظيم.
وسألتُ الخليل رحمه الله عن: مررت بزيدٍ وأتاني أخوه أنفسهما، فقال:
الرفع على هما صاحباى أنفسهما، والنصب على أعنيهما، ولا مدح فيه لأنه
ليس مما يُمدح به.
وتقول: هذا رجلٌ وامرأتُه منطلقان، وهذا عبد الله وذاك أخوك الصالحان،
لأنهما ارتفعا من وجهٍ واحد، وهما اسمان بُنيا على مبتدأين، وانطلق عبد
الله ومضى أخوك الصالحان، لأنهما ارتفعا بفعلين، وذهب أخوك وقَدِم عمرو
الرجلان الحليمان.
واعلم أنه لا يجوز: مَن عبد الله وهذا زيدٌ الرجلين الصالحين، رفعتَ أو
نصبتَ؛ لأنك لا تُثني إلا على من أثبته وعلمتَه، ولا يجوز أن تَخلِط من
تعلم ومن لا تعلم فتجعلهما بمنزلة واحدة، وإنما الصفة علَمٌ فيمن قد
علمتَه.
؟
هذا باب ما ينتصب لأنه حالٌ
صار فيها المسئول والمسئول عنه وذلك قولك: ما شأنُك قائما، وما شأن
زيدٍ قائما، وما لأخيك قائما. فهذا حالٌ قد صار فيه، وانتصب بقولك: ما
شأنُك كما ينتصب
(2/60)
قائما في قولك: هذا عبد الله قائما، بما
قبله. وسنبين هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفيه معنى لِمَ قمتَ في ما شأنُك وما لكَ. قال الله تعالى: " فما لَهُم
عَنِ التّذكِرَة مُعرضين ".
ومثل ذلك مَن ذا قائما بالباب، على الحال، أي مَن ذا الذي هو قائمٌ
بالباب. هذا المعنى تريد. وأما العامل فيه فبمنزلة هذا عبدُ الله، لأن
مَن مبتدأ قد بُني عليه اسم. وكذلك: لمن الدارُ مفتوحاً بابُها.
أما قولهم: مَن ذا خيرٌ منك، فهو على قوله: من الذي هو خيرٌ منك، لأنك
لم ترد أن تشير أو تومِئ إلى إنسان قد استبان لك فضلُه على المسئول
فيُعلِمَكه، ولكنك أردت مَن ذا الذي هو أفضل منك. فإن أومأتَ إلى إنسان
قد استبان لك فضلُه عليه، فأردتَ أن يُعلِمَكَه نصبتَ خيراً منك، كما
قلت: مَن ذا قائما، كأنك قلت: إنما أريد أن أسألك عن هذا الذي قد صار
في حالٍ قد فَضَلَك بها. ونصبُه كنصب ما شأنُك قائماً.
(2/61)
؟
باب ما ينتصب على التعظيم والمدح
وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعتَه فابتدأتَه. وذلك
قولك: الحمد لله الحميد هو، والحمد لله أهلَ الحمد، والمُلك لله أهلَ
المُلك. ولو ابتدأته فرفعتَه كان حسنا، كما قال الأخطل:
نفسي فداءُ أميرِ المؤمنين إذا ... أبْدَى النواجذَ يومٌ باسلٌ ذكَرُ
الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائرُه ... خليفةُ الله يُستسقى به المطرُ
وأما الصفة فإن كثيرا من العرب يجعلونه صفة، فيُتبعونه الأولَ
(2/62)
فيقولون: أهلِ الحمد والحميد هو، وكذلك
الحمد لله أهلِه: إن شئت جررت، وإن شئت نصبت. وإن شئت ابتدأت كما قال
مُهلهِل:
ولقد خبطن بيوتَ يشكُرَ خبطة ... أخوالنا وهمُ بنو الأعمامِ
وسمعنا بعض العرب يقول: " الحمد لله ربَّ العالمين "، فسألت عنها يونس
فزعم أنها عربية.
ومثل ذلك قول الله عز وجل: " لكِنِ الراسخون في العلم منهم والمؤمنون
يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلكَ والمقيمينَ الصلاةَ والمؤتون
الزكاة ". فلو كان كله رفعاً كان جيداً. فأما المؤمنون فمحمولٌ على
الابتداء.
وقال جل ثناؤه: " وَلَكِنَّ البرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَالمَلائِكةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المالَ
عَلَى حُبه ذَوِى القُربى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينَ وابنَ
السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفىِ الرِّقَابِ وَأَقاَمَ الصَّلاَةَ
وَآتى الزكاةَ والموفونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاَهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِى البأساءِ
(2/63)
وَالضّرَّاءِ وَحِينَ البأسِ ". ولو رفع
الصابرين على أول الكلام كان جيدا. ولو ابتدأتَه فرفعته على الابتداء
كان جيدا كما ابتدأتَ في قوله: " والْمُؤْتُونَ الزكاةَ ".
ونظير هذا النصب من الشعر قول الخِرنِق:
لا يبعَدَنْ قومي الذي همُ ... سمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكل مُعترَكٍ ... والطَّيِّبون معاقدَ الأَزْرِ
فرفعُ الطيبين كرفع المؤتين.
ومثل هذا في هذا الابتداء قول ابن خياط العُكلي:
وكلُّ قوِم أطاعوا أمرَ مُرشدهم ... إلا نُمَيراً أمرَ غاوِيهاَ
الظّاعنينَ ولمِّا يُظعنوا أَحَداً ... والقائلونَ لمنْ دارٌ نُخلّيها
(2/64)
وزعم يونس أن من العرب من يقول: " النازلون
بكل معترك والطيبين " فهذا مثل " والصابرين ". ومن العرب من يقول:
الظاعنون والقائلين، فنصبُه كنصب الطيبين إلا أن هذا شتمٌ لهم وذمٌّ
كما أن الطيبين مدحٌ لهم وتعظيم. وإن شئت أجريتَ هذا كله على الاسم
الأول، وإن شئت ابتدأتَه جميعا فكان مرفوعا على الابتداء. كل هذا جائز
في ذين البيتين وما أشبههما، كلُّ ذلك واسع.
وزعم عيسى أنه سمع ذا الرمة يُنشد هذا البيت نصباً:
لقد حملتْ قيسُ بن عَيلانَ حربَها ... على مستقلّ للنَّوائبِ والحربِ
أخاها إذا كانتْ عِضاضاً سما لَها ... على كلِّ حالٍ من ذَلول ومن صعبِ
زعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدث الناس ولا مَن تخاطب
بأمرٍ جهلوه، ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ، فجعله ثناء وتعظيماً
(2/65)
ونصبه على الفعل، كأنه قال: أذكرُ أهلَ
ذاك، وأذكر المقيمين، ولكنه فعلٌ لا يستعمل إظهارُه.
وهذا شبيهٌ بقوله: إنا بنى فلانٍ نفعل كذا، لأنه لا يريد أن يخبر مَن
لا يدرى أنه من بنى فلان، ولكنه ذكر ذلك افتخارا وابتهاء. إلا أن هذا
يجرى على حرف النداء، وستراه إن شاء الله عز وجل في بابه في باب النداء
مبيناً. وتُرك إظهار الفعل فيه حيث ضارع هذا وأشباهه، لأن إنا بنى فلان
ونحوه بمنزلة النداء. وقد ضارعه هذا الباب.
ومن هذا الباب في النكرة قول أميةَ بن أبى عائذ:
ويَأْوِى إلى نِسوة عُطّلٍ ... وشُعثاً مراضيعَ مِثْلِ السَّعالِى
كأنه حيث قال: إلى نسوة عُطّل صِرنَ عنده ممن عُلم أنهن شُعثٌ، ولكنه،
ذكر ذلك تشنيعا لهن وتشويها. قال الخليل: كأنه قال: وأذكرهن شُعثاً،
إلا أن هذا فعلٌ لا يُستعمل إظهارُه. وإن شئت جررت على الصفة.
(2/66)
وزعم يونس أنك تقول: مررت بزيد أخيك
وصاحبك، كقول الراجز:
بأعيُن منها مَليحاتِ النُّقَبْ ... شكلِ التِّجارِ وحلالِ المكتسَبْ
كذلك سمعناه من العرب. وكذلك قال مالك بن خويلد الخُناعي:
يا ميَّ لا يُعجز الأيامَ ذو حِيَدٍ ... فى حَومةِ الموتِ رزّامٌ
وفرّاسُ
(2/67)
يَحمى الصريمةَ أُحدانُ الرِّجالِ، له ...
صيدٌ، ومجترئٌ بالليل همّاسُ
وإن شئت حملته على الابتداء كما قال:
فَتي الناس لا يَخْفى عليهمْ مكانُه ... وضِرغامةٌ إنْ هَمَّ بالحَرْب
أَوْقَعا
وقال آخر:
إذا لَقَى الأعداءَ كان خلاتَهم ... وكلبٌ على الأَدَْنْينَ والجارِ
نابحُ
(2/68)
كذلك سمعناهما من الشاعرين اللذين قالاهما.
واعلم أنه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم، ولا كل صفة يحسن أن يعظَّم
بها. لو قلت: مررت بعبد الله أخيك صاحبَ الثياب أو البزّاز، لم يكن هذا
مما يعظَّم به الرجل عند الناس ولا يفخَّم به. وأما الموضع الذي لا
يجوز فيه التعظيم فأن تذكر رجلاً بنبيهٍ عند الناس، ولا معروفٍ
بالتعظيم ثم تعظمه كما تعظم النبيه. وذلك قولك: مررت بعبد الله الصالح.
فإن قلت مررت بقومك الكرام الصالحين ثم قلت المُطعِمين في المَحل، جاز
لأنه إذا وصفهم صاروا بمنزلة من قد عُرف منهم ذلك، وجاز له أن يجعلهم
كأنه قد عُلموا. فاستحسن من هذا ما استحسن العربُ، وأجِزْه كما أجازته.
وليس كل شيء من الكلام يكون تعظيما لله عز وجل يكون تعظيما لغيره من
المخلوقين: لو قلت: الحمدُ لزيد تريد العظمةَ لم يجز، وكان عظيماً.
(2/69)
وقد يجوز أن تقول: مررت بقومك الكرام، إذا
جعلت المخاطَب كأنه قد عرفهم، كما قال مررت برجلٍ زيدٌ، فتُنزله منزلةَ
من قال لك من هو وإن لم يتكلم به. فكذلك هذا تُنزله هذه المنزلة وإن
كان لم يعرفهم.
؟
باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم
وما أشبهه
تقول: أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيث: لم يرد أن يكرره ولا يعرفك شيئا
تُنكره، ولكنه شتمه بذلك.
وبلغنا أن بعضهم قرأ هذا الحرف نصبا: " وامرأتُه حمّالةَ الحطب " لم
يجعل الحمالة خبرا للمرأة، ولكنه كأنه قال: أذكرُ حمّالةَ الحطب، شتما
لها، وإن كان فعلاً لا يُستعمل إظهاره.
وقال عروة الصعاليك العبسي:
سقَوْني الخمرَ ثمَّ تَكنَّفوني ... عُداةَ الله من كَذِبٍ وزورِ
إنما شتمهم بشيء قد استقر عند المخاطَبين. وقال النابغة:
لَعمري وما عَمري علىَّ بهيّنٍ ... لقد نطقتْ بُطلاً عليّ الأقارعُ
(2/70)
أقارعُ عَوفٍ لا أُحاوِلُ غيرَها ... وجوهَ
قرودٍ تبتغي من تُجاذع
وزعم يونس أنك إن شئت رفعتَ البيتين جميعا على الابتداء، تُضمر في نفسك
شيئا لو أظهرته لم يكن ما بعده إلا رفعا. ومثل ذلك:
متىَ ترَ عينيْ مالكٍ وجِرانَه ... وجَنبَيْه تعلمْ أنه غيرُ ثائرِ
حِضْجَرٌ كأُمِّ التوأمَين توكّأَتْ ... على مِرفقيها مستهلةَ عاشرِ
وزعموا أن أبا عمرو كان ينشد هذا البيت نصبا، وهذا الشعرُ لرجل معروف
من أزْدِ السّراة:
(2/71)
قُبّح من يزني بعو ... فٍ من ذوات الخُمُرْ
الآكلَ الأشداء لا ... يحفِلُ ضَوْء القَمَرْ
وإن شاء جعله صفة فجره على الاسم.
وزعم يونس أنه سمع الفرزدق يُنشد:
كم عمةٍ لكَ يا جريرُ وخالةٍ ... فَدْعاءَ قد حلبتْ على عِشاري
شَغَّارةً تَقِذُ الفصيلَ برِجْلها فَطّارةٌ لقوادمِ الأبكارِ
(2/72)
جعله شتما، وكأنه حين ذكر الحلب صار من
يخاطَب عنده عالماً بذلك. ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان ذلك جائزا
عربيا. وقال:
طليقُ الله لم يمنُنْ عليه ... أبو داودَ وابنُ أبي كثيرِ
ولا الحجاجُ عينيْ بنتِ ماءٍ ... تقلّبُ طَرفها حَذَرَ الصُّقورِ
فهذا بمنزلة وجوه قرودٍ.
وأما قول حسان بن ثابت:
حارِ بنَ كَعْب ألا أحلامَ تزجُركم ... عَنِّي وأنتم من الجُوف
الجماخيرِ
(2/73)
لا بأسَ بالقوم من طُولٍ ومن عِظمٍ ...
جسمُ البِغال وأحلامُ العصافيرِ
فلم يردْ أن يجعله شتما، ولكنه أراد أن يعدد صفاتهم ويفسرها، فكأنه
قال: أما أجسامهم فكذا وأما أحلامهم فكذا.
وقال الخليل رحمه الله: لو جعله شتما فنصبه على الفعل كان جائزا.
وقد يجوز أن ينصب ما كان صفة على معنى الفعل ولا يريد مدحا ولا ذما ولا
شيئا مما ذكرت لك. وقال:
وما غرّني حوزُ الرِّزاميّ مِحصَناً ... عَواشِيَها بالجَوّ وهو خصيبُ
ومِحصن: اسم الرزامى، فنصبه على أعني، وهو فعل يظهر، لأنه لم يرد أكثر
من أن يعرفه بعينه، ولم يرد افتخارا ولا مدحا ولا ذما. وكذلك سُمع هذا
البيت من أفواه العرب، وزعموا أن اسمه مِحصَنٌ.
ومن هذا الترحم، والترحم يكون بالمسكين والبائس ونحوه، ولا يكون
(2/74)
بكل صفة ولا كل اسم، ولكن ترحم بما ترحم به
العرب.
وزعم الخليل أنه يقول: مررت به المسكين، على البدل، وفيه معنى الترحم،
وبدله كبدل مررت به أخيك. وقال:
فأصبحتْ بقَرْقَرى كَوانِساً ... فلا تلُمه أنْ يَنامَ البائِسا
وكان الخليل يقول: إن شئت رفعته من وجهين فقلت: مررت به البائس، كأنه
لما قال مررت به قال المسكين هو، كما يقول مبتدئا: المسكين هو، والبائس
أنت. وإن شاء قال: مررت به المسكين هو، والبائس أنت. وإن شاء قال: مررت
به المسكين، كما قال: بنا تماماً يُكشَف الضّبابْ
(2/75)
وفيه معنى الترحم، كما كان في قوله رحمةُ
الله عليه معنى رحمه الله. فما يُترحّم به يجوز فيه هذان الوجهان، وهو
قول الخليل رحمه الله. وقال أيضا: يكون مررت به المسكين على: المسكين
مررت به، وهذا بمنزلة لقيته عبد الله، إذا أراد عبد الله لقيتُه. وهذا
في الشعر كثير.
وأما يونس فيقول: مررت به المسكينَ على قوله: مررت به مسكينا.
وهذا لا يجوز لأنه لا ينبغي أن يجعله حالا ويدخل فيه الألف واللام، ولو
جاز هذا لجاز مررت بعبد الله الظريف، تريد ظريفا. ولكنك إن شئت حملته
على أحسنَ من هذا، كأنه قال: لقيت المسكينَ، لأنه إذا قال مررت بعبد
الله فهو عملٌ، كأنه أضمر عملا. وكأن الذين حملوه على هذا إنما حملوه
عليه فِراراً من أن يصفوا المضمَر، فكان حملهم إياه على الفعل أحسن.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يقول إنه المسكين أحمق، على الإضمار الذي
جاز فى مررت، كأنه قال: إنه هو المسكين أحمق. وهو ضعيف. وجاز هذا أن
يكون فصلا بين الاسم والخبر لأن فيه معنى المنصوب الذي أجريته مجرى:
إنا تميما ذاهبون. فإذا قلت: بى المسكينَ كان الأمر، أو بك المسكينَ
مررت، فلا يحسن فيه البدل، لأنك إذا عنيت المخاطَب أو نفسَك فلا يجوز
أن يكون لا يدرى من تعنى، لأنك لست تحدث عن غائب،
(2/76)
ولكنك تنصبه على قولك: بنا تميما، وإن شئت
رفعته على ما رفعت عليه ما قبله. فهذا المعنى يجري على هذين الوجهين
والمعنى واحد، كما اختلف اللفظان في أشياء كثيرة والمعنى واحد.
واما يونس فزعم أنه ليس يرفع شيئا من الترحم على إضمار شيء يرفع، ولكنه
إن قال ضربته لم يقل أبدا إلا المسكين، يحمله على الفعل. وإن قال
ضربانى قال المسكينان، حمله أيضا على الفعل. وكذلك مررت به المسكين،
يحمل الرفعَ على الرفع، والجرَّ على الجر، والنصب على النصب. ويزعم أن
الرفع الذي فسرنا خطأ. وهو قول الخليل رحمه الله وابن أبي إسحاق.
؟
باب ما ينتصب لأنه خبر للمعروف المبني
على ما هو قبله من الأسماء المبهمة
والأسماء المبهَمة: هذا، وهذان، وهذه، وهاتان، وهؤلاء، وذلك
(2/77)
وذانك، وتلك وتانك، وتيك، وأولئك، وهو وهي،
وهما، وهم وهن، وما أشبه هذه الأسماء، وما ينتصب لأنه خبر للمعروف
المبني على الأسماء غير المبهمة.
فأما المبني على الأسماء المبهمة فقولك: هذا عبد الله منطلقا، وهؤلاء
قومك منطلقين، وذاك عبد الله ذاهبا، وهذا عبد الله معروفاً. فهذا اسمٌ
مبتدأ يبنى عليه ما بعده وهو عبد الله. ولم يكن ليكون هذا كلاما حتى
يُبنى عليه أو يبنى على ما قبله. فالمبتدأ مُسند والمبنى عليه مسند
إليه، فقد عمل هذا فيما بعده كما يعمل الجار والفعل فيما بعده. والمعنى
أنك تريد أن تنبهه له منطلقا، لا تريد أن تعرفه عبد الله؛ لأنك ظننت
أنه يجهله، فكأنك قلت: انظر إليه منطلقا، فمنطلقٌ حالٌ قد صار فيها عبد
الله وحالَ بين منطلق وهذا، كما حال بين راكب والفعل حين قلت: جاء عبد
الله راكبا، صار لعبد الله وصار الراكب حالا. فكذلك هذا.
وذاك بمنزلة هذا. إلا أنك إذا قلت ذاك فأنت تنبهه لشيء مُتراخ.
وهؤلاء بمنزلة هذا، وأولئك بمنزلة ذاك، وتلك بمنزلة ذاك. فكذلك هذه
الأسماء المبهمة التي توصَف بالأسماء التي فيها الألف واللام.
وأما هو فعلامة مضمَر، وهو مبتدأ، وحال ما بعده كحاله بعد هذا. وذلك
قولك: هو زيد معروفا، فصار المعروف حالا. وذلك أنك ذكرت للمخاطَب
إنسانا كان يجهله أو ظننت أنه يجهله، فكأنك قلت: أثبتْه
(2/78)
أو الزَمْه معروفا، فصار المعروف حالا، كما
كان المنطلق حالا حين قلت: هذا زيد منطلقا. والمعنى أنك أردت أن توضح
أن المذكور زيد حين قلت معروفا، ولا يجوز أن تذكر في هذا الموضع إلا ما
أشبه المعروف، لأنه يعرف ويؤكد، فلو ذكر هنا الانطلاق كان غير جائز،
لأن الانطلاق لا يوضح أنه زيد ولا يؤكده. ومعنى قوله معروفا: لا شك؛
وليس ذا فى منطلق. وكذلك هو الحق بينا، ومعلوما، لأن ذا مما يوضَّح
ويؤكَّد به الحق.
وكذلك هى وهما وهم وهن، وأنا وأنت وإنه. قال ابن دارة:
أنا ابن دارةَ معروفاً بها نسبي ... وهل بدارةَ يا للناس من عارِ
(2/79)
وقد يكون هذا وصواحبه بمنزلة هو، يعرَّف
به، تقول: هذا عبد الله فاعرفْه؛ إلا أن هذا علامة للمضمَر، ولكنك أردت
أن تعرف شيئا بحضرتك.
وقد تقول: هو عبد الله، وأنا عبد الله، فاخرا أو مُوعداً. أى اعرِفْني
بما كنتَ تعرف وبما كان بلغك عني، يم يفسر الحال التي كان يعلمه عليها
أو تبلغه فيقول: أنا عبد الله كريما جوادا، وهو عبد الله شجاعا بطلا.
وتقول: إني عبد الله؛ مصغِّراً نفسه لربه، ثم تفسر حال العبيد فتقول:
آكِلاً كما تأكل العبيد.
وإذا ذكرت شيئا من هذه الأسماء التي هي علامة للمضمَر فإنه مُحال أن
يظهر بعدها الاسم إذا كنت تُخبر عن عمل، أو صفة غير عمل، ولا تريد أن
تعرفه بأنه زيدٌ أو عمرو. وكذلك إذا لم توعد ولم تفخر أو تصغر نفسك؛
لأنك في هذه الأحوال تعرف ما تُرى أنه قد جُهل، او تُنزل المخاطَب
منزلة من يجهل فخرا أو تهدُّداً او وعيدا، فصار هذا كتعريفك إياه
باسمه.
وإنما ذكر الخليل رحمه الله هذا لنعرف ما يُحال منه وما يَحسن، فإن
النحويين مما يتهاونون بالخلفْ إذا عرفوا الإعراب. وذلك أن رجلا من
(2/80)
إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يخبرك عن نفسه
أو عن غيره بأمر فقال: أنا عبد الله منطلقا، وهو زيد منطلقا كان
مُحالاً؛ لأنه إنما أراد أن يخبرك بالانطلاق ولم يقل هو ولا أنا حتى
استغنيت أنت عن التسمية، لأن هو وأنا علامتان للمضمَر، وإنما يضمِر إذا
علم أنك عرفت من يعنى. إلا أن رجلا لو كان خلفَ حائط، أو فى موضع تجهله
فيه فقلت من أنت؟ فقال: أنا عبد الله منطلقا في حاجتك، كان حسنا.
واما ما ينتصب لأنه خبر مبنى على اسم غير مبهم، فقولك: أخوك عبد الله
معروفا. هذا يجوز فيه جميع ما جاز في الاسم الذي بعد هو وأخواتها.
؟
هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة
وذلك قولك: هذان رجلان وعبد الله منطلقين. وإنما نصبت للمنطلقين لأنه
لا سبيل إلى أن يكون صفة لعبد الله، ولا أن يكون صفة للاثنين، فلما كان
ذلك مُحالاً جعلته حالا صاروا فيها، كأنك قلت: هذا عبد الله منطلقا.
وهذا شبيه بقولك: هذا رجل مع امرأةٍ قائمَيْن.
وإن شئت قلت: هذان رجلان وعبد الله منطلقان، لأن المنطلقين في هذا
الموضع من اسم الرجلين، فجريا عليه.
(2/81)
وتقول: هؤلاء ناسٌ وعبد الله منطلقين، إذا
خلطتَهم. ومن قال: هذان رجلان وعبد الله منطلقان قال: هؤلاء ناس وعبد
الله منطلقون؛ لأنه لم يُشرك بين عبد الله وبين ناسٍ في الانطلاق.
وتقول: هذه ناقة وفصيلها راتعين. وقد يقول بعضهم: هذه ناقة وفصيلها
راتعان. وهذا شبيه بقول من قال: كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، إنما يريد كل
شاةٍ وسخلة لها بدرهم. ومن قال كل شاةٍ وسخلتها، فجعله يمنزلة كل رجل
وعبد الله منطلقا لم يقل في الراتعين إلا النصب، لأنه إنما يريد حينئذ
المعرفة، ولا يريد أن يُدخل السخلة في الكل لأن كل لا يدخل في هذا
الموضع إلا على النكرة. والوجه كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة
وفصيلها راتعين، لأن هذا أكثر في كلامهم، وهو القياس. والوجه الآخر قد
قاله بعض العرب.
(2/82)
؟ هذا باب
ما يجوز فيه الرفع مما ينتصب في المعرفة
وذلك قولك: هذا عبد الله منطلقٌ، حدثنا بذلك يونس وأبو الخطاب عمن يوثق
به من العرب.
وزعم الخليل رحمه الله أن رفعه يكون على وجهين:
فوجهٌ أنك حين قلت: هذا عبد الله أضمرت هذا أو هو، كأنك قلت هذا منطلق
أو هو منطلق. والوجه الآخر: أن تجعلهما جميعا خبرا لهذا، كقولك: هذا
حلوٌ حامضٌ، لا تريد أن تنقض الحلاوة، ولكنك تزعم أنه جمع الطعمين.
وقال الله عز واجلّ: " كلا إنها لظى. نزاعة للشوى ". وزعموا أنها في
قراءة أبى عبد الله. " هذا بعلى شيخٌ ".
(2/83)
قال: سمعنا ممن يروى هذا الشعر من العرب
يرفعه:
من يكُ ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظٌ مصيّفٌ مُشَتِّى
وأما قول الأخطل:
ولقد أبيتُ من الفتاة بمنزل ... فأبيتُ لا حرجٌ ولا محرومُ
فزعم الخليل رحمه الله أن هذا ليس على إضمار أنا. ولو جاز هذا على
(2/84)
إضمار أنا لجاز: كان عبد الله لا مسلمٌ ولا
صالح على إضمار هو. ولكنه فيما زعم الخليل رحمه الله: فأبيت بمنزلة
الذي يقال لا حرجٌ ولا محروم. ويقويه في ذلك قوله، وهو الربيع الأسدى:
على حين أنْ كانتْ عُقَيلٌ وشائِظا ... وكانتْ كلابٌ خامِرِى أمَّ
عامرِ
فإنما أراد: كانت كلاب التي يقال لها خامرى أم عامر.
وقد زعم بعضهم أن رفعه على النفى، كأنه قال: فأبيتُ لا حرج ولا محروم
بالمكان الذي أنا به. وقال الخليل رحمه الله: كأنه حكاية لما كان
يُتكلّم به قبل ذلك، فكأنه حكى ذلك اللفظ، كما قال:
كذَبْتُم وبيتِ الله لا تنكحونَها ... بني شابَ قرناها تصُرُّ وتحلُبُ
(2/85)
أى بنى من يقال له ذلك.
والتفسير الآخر الذي على النفى كأنه أسهل.
وقد يكون رفعه على أن تجعل عبد الله معطوفا على هذا كالوصف، فيصير كأنه
قال: عبد الله منطلقٌ. وتقول: هذا زيدٌ رجلٌ منطلقٌ على البدل، كما قال
تعالى جدُّه: " بالناصية. ناصيةٍ كاذبةٍ ". فهذه أربعة أوجه فى الرفع.
؟
هذا باب
ما يرتفع فيه الخبر لأنه مبنى على مبتدإ
أو ينتصب فيه الخبر لأنه حال لمعروفٍ مبنى على مبتدإ فأما الرفع فقولك:
هذا الرجل منطلقٌ، فالرجل صفة لهذا، وهما بمنزلة اسم واحد، كأنك قلت:
هذا منطلقٌ. قال النابغة:
توهّمتُ آياتٍ لها فعرفتُها ... لِستّةِ أَعْوامٍ وذا العامُ سابعُ
كأنه قال: وهذا سابعٌ.
وأما النصب فقولك: هذا الرجل منطلقا، جعلتَ الرجل مبنيا على هذا،
(2/86)
وجعلت الخبر حالا له قد صار فيها، فصار
كقولك: هذا عبد الله منطلقا. وإنما يريد في هذا الموضع أن يُذكَر
المخاطَب برجلٍ قد عرفه قبل ذلك، وهو في الرفع لا يريد أن يُذكره بأحد،
وإنما أشار فقال هذا منطلقٌ، فكأن ما ينتصب من أخبار المعرفة ينتصب على
أنه حالٌ مفعول فيها، لأن المبتدأ يعمل فيما بعده كعمل الفعل فيما يكون
بعده، ويكن فيه معنى التنبيه والتعريف، ويحولُ بين الخبر والاسم
المبتدإ كما يحول الفاعل بين الفعل والخبر، فيصير الخبر حالا قد ثبت
فيها وصار فيها كما كان الظرف موضعا قد صِيرَ فيه بالنية وإن لم يذكر
فعلا. وذلك أنك إذا قلت فيها زيدٌ فكأنك قلت استقر فيها زيد وإن لم
تذكر فعلاً؛ والنصب بالذى هو فيه كانتصاب الدرهم بالعشرين لأنه ليس من
صفته ولا محمولا على ما حُمل عليه، فأشبه عندهم ضاربٌ زيدا.
وكذلك هذا عمل فيما بعده عمل الفعل، وصار منطلقٌ حالا، فانتصب بهذا
الكلام انتصابَ راكب بقول: مرّ زيد راكبا.
وأما قوله عز وجل " هو الحقُّ مصدقا " فإن الحق لا يكون صفة
(2/87)
لهو، من قبل أن هو اسم مضمَر والمضمر لا
يوصَف بالمظهر أبدا؛ لأنه قد استغنى عن الصفة. وإنما تُضمِر الاسم حين
يستغنى بالمعرفة، فمن ثم لم يكن في هذا الرفع كما كان في هذا الرجلُ.
ألا ترى أنك لو قلت: مررت بهو الرجل، لم يجز ولم يَحسن، ولو قلت: مررت
بهذا الرجل، كان حسناً جميلاً.
؟
باب ما ينتصب فيه الخبر
لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء، قدمته أو أخرته وذلك قولك: فيها
عبد الله قائما، وعبد الله فيها قائما. فعبد الله ارتفع بالابتداء لأن
الذي ذكرت قبله وبعده ليس به، وإنما هو موضعٌ له، ولكنه يجرى مجرى
الاسم المبني على ما قبله. ألا ترى أنك لو قلت: فيها عبد الله حسُن
السكوت وكان كلاما مستقيما، كما حسن واستُغنى في قولك: هذا عبد الله.
وتقول: عبد الله فيها، فيصير كقولك عبد الله أخوك. إلا أن عبد الله
يرتفع مقدَّماً كان أو مؤخرا بالابتداء.
ويدلك على ذلك أنك تقول: إن فيها زيدا، فيصير بمنزلة قولك: إن زيدا
فيها؛ لأن فيها لما صارت مستقَراً لزيد يستغنى به السكوت وقعَ
(2/88)
موقع الأسماء، كما أن قولك: عبد الله
لقيتُه يصير لقيتُه فيه بمنزلة الاسم، كأنك قلت: عبد الله منطلق، فصار
قولك فيها كقولك: استقر عبد الله، ثم أردت أن تُخبِر على أية حالٍ
استقر فقلت قائما، فقائم حال مستقَرٌّ فيها. وإن شئت ألغيت فيها فقلت:
فيها عبد الله قائمٌ. قال النابغة:
فبتُّ كأنّى ساورتْني ضئيلةٌ ... من الرُقشِ فى أَنيابِها السمُ ناقعُ
وقال الهذلى:
لا درَّ درّيَ إنْ أطعمتُ نازلَكم ... قِرفَ الحَتىِّ وعندى البُرُّ
مكنوزُ
(2/89)
كأنك قلت: البرُّ مكنوزٌ عندي، وعبد الله
قائمٌ فيها.
فإذا نصبت القائم ففيها قد حالت بين المبتدإ والقائم واستُغني بها،
فعمل المبتدإ حين لم يكن القائم مبنيا عليه، عمل هذا زيدٌ قائما، وإنما
تجعل فيها، إذا رفعت القائم، مستقرَّاً للقيام وموضعا له، وكأنك لو
قلت: فيها عبد الله، لم يجز عليه السكوت. وهذا يدلك على أن فيها لا
يُحدث الرفع أيضا في عبد الله؛ لأنها لو كانت بمنزلة هذا لم تكن
لتُلغى، ولو كان عبد الله يرتفع بفيها لارتفع بقولك عبد الله مأخوذٌ؛
لأن الذي يرفع وينصب ما يستغني عليه السكوت وما لا يستغنى، بمنزلة
واحدة. ألا ترى أن كان تعمل عمل ضرب، ولو قلت كان عبد الله لم يكن
كلاما، ولو قلت ضرب عبد الله كان كلاما.
ومما جاء فى الشعر أيضا مرفوعا قوله، لابن مقبل:
لا سافِرُ النّيّ مدخولٌ ولا هَبِجٌ ... عاري العِظامِ عليه الودْع
منظومُ
(2/90)
فجميع ما يكون ظرفا تلغيه إن شئت، لأنه لا
يكون آخِراً إلا على ما كان عليه أولا قبل الظرف، ويكون موضع الخبر دون
الاسم، فجرى في أحد الوجهين مجرى ما لا يستغنى عليه السكوت، كقولك: فيك
زيدٌ راغبٌ فرغبتُه فيه.
ومثل قولك فيها عبد الله قائما: هو لك خالصا، وهو لك خالصٌ؛ كأن قولك
هو لك بمنزلة أهبُه لك ثم قلت خالصا. ومن قال فيها عبد الله قائم، قال
هو لك خالص، فيصير خالص مبنيا على هو كما كان قائم مبنيا على عبد الله،
وفيها لَغوٌ، إلا أنك ذكرت فيها لتبين أين القيام، وكذلك لك إنما أردت
أن تبين لمن الخالصُ.
وقد قُرئ هذا الحرف على وجهين: " قُل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا
خالصةٌ يوم القيامة "، بالرفع والنصب.
وبعض العرب يقول: هو لك الجماء الغفيرُ، يرفع كما يرفع الخالص.
(2/91)
والنصبُ أكثر، لأن لجمّاء الغفير بمنزلة
المصدر، فكأنه قال هو لك خُلوصاً. فهذا تمثيلٌ ولا يُتكلم به.
ومما جاء في الشعر قد انتصب خبرُه وهو مقدَّم قبل الظرف، قوله:
إنّ لكمْ أصلَ البِلادِ وفرعَها ... فالخَيْرُ فيكمْ ثابِتا مَبذولاَ
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول: أتكلم بهذا وأنت ههنا قاعدا.
ومما ينتصب لأنه حال وقع فيه أمر قول العرب: هو رجلُ صدقٍ معلوما ذاك،
وهو رجل صدق معروفا ذاك، وهو رجل صدق بينا ذاك، كأنه قال: هذا رجل صدق
معروفا صلاحُه، فصار حالا وقع فيه أمر، لأنك إذا قلت: هو رجل صدقٍ فقد
أخبرتَ بأمر واقع، ثم جعلتَ ذلك الوقوع على هذه الحال. ولو رفعتَ كان
جائزا على أن تجعله صفة، كأنك قلت: هو رجل معروفُ صلاحُه.
ومثل ذلك: مررت برجل حسنةٍ أمه كريما أبوها، زعم الخليل أنه أخبر عن
الحُسن أنه وجبَ لها في هذه الحال. وهو كقولك: مررت برجلٍ ذاهبةٍ فرسُه
مكسورا سرجُها، والأول كقولك: هو رجل صدق معروفا صدقه، وإن شئت قلت
معروفٌ ذلك ومعلوم ذلك، على قولك: ذاك معروفٌ وذاك معلوم. سمعتُه من
الخليل.
(2/92)
؟ هذا بابٌ من المعرفة
يكون فيه الاسم الخاص شائعا في الأمة
ليس واحدٌ منها أولى به من الآخر، ولا يُتوهّم به واحدٌ دون آخر له
اسمٌ غيره، نحو قولك للأسد: أبو الحارث وأسامة، وللثعلب: ثُعالة وأبو
الحُصَين وسَمسَم، وللذئب: دأَلان وأبو جَعدة، وللضّبُع: أم عامر
وحَضاجر وجَعار وجيْأل وأم عنثل وقَثام، ويقال للضِّبعان قُثَم.
ومن ذلك قولهم للغراب: ابن بَريح.
فكل هذا يجرى خبره مجرى خبر عبد الله. ومعناه إذا قلت هذا أبو الحارث
أو هذا ثُعالة أنك تريد هذا الأسد وهذا الثعلب؛ وليس معناه كمعنى زيد
وإن كانا معرفة. وكان خبرهما نصبا من قبل أنك إذا قلت هذا زيدٌ فزيد
اسم لمعنى قولك هذا الرجل إذا أردتَ شيئا بعينه قد عرفه المخاطَب
بحلْيته أو بأمر قد بلغه عنه قد اختُص به دون من يعرف. فكأنك إذا قلت
هذا زيد قلت: هذا الرجل الذى من حِليته ومن أمره كذا وكذا بعينه،
فاختُصّ هذا المعنى باسم عَلَم يلزم هذا المعنى، ليُحذف
(2/93)
الكلام وليُخرَج من الاسم الذى قد يكون
نكرة ويكون لغير شيء بعينه. لأنك إذا قلت هذا الرجل فقد يكون أن تعنى
كماله، ويكون أن تقول هذا الرجل وأن تريد كل ذكَر تكلم ومشى على رجلين
فهو رجل. فإذا أراد أن يُخلِص ذلك المعنى ويختصه ليُعرَف من يُعنى
بعينه وأمره قال زيد ونحوه.
وإذا قلت: هذا أبو الحارث فأنت تريد هنا الأسد، أى هذا الذى سمعتَ
باسمه، أو هذا الذى قد عرفتَ أشباهه، ولا تريد أن تشير الى شيء قد عرفه
بعينه قبل ذلك، كمعرفته زيدا، ولكنه أراد هذا الذى كل واحد من أمته له
هذا الاسم، فاختُصّ هذا المعنى باسم كما اختُص الذي ذكرنا بزيد لأن
الأسد يتصرف تصرف الرجل ويكون نكرة، فأرادوا أسماء لا تكون إلا معرفة
وتلزم ذلك المعنى.
وإنما منع الأسد وما أشبهه أن يكون له اسمٌ معناه معنى زيد، أن الأسد
وما أشبهها ليست بأشياء ثابتة مقيمة مع الناس فيحتاجوا إلى أسماء
يعرفون بها بعضا من بعض، ولا تحفَظ حُلاها كحفظ ما يَثبت مع الناس
ويقتنونه ويتخذونه. ألا تراهم قد اختصوا الخيل والإبل والغنم والكلاب
وما تثبت معهم واتخذوه، بأسماء كزيد وعمرو.
ومنه أبو جُخادب، وهو شيء يشبه الجندُب غير أنه أعظم منه،
(2/94)
وهو ضربٌ من الجنادب كما أن بنات أوبَر
ضربٌ من الكمأة، وهى معرفة.
ومن ذلك ابنُ قِتْرة، وهو ضربٌ من الحيات، فكأنهم إذا قالوا هذا ابن
قتْرة فقد قالوا هذا الحية الذى من أمره كذا وكذا.
وإذا قالوا بنات أوبَر فكأنهم قالوا هذا الضرب الذى من أمره كذا وكذا
من الكمأة، وإذا قالوا أبو جُخادب فكأنهم قالوا هذا الضرب الذى سمعتَ
به من الجنادب أو رأيته. ومثل ذلك ابنُ آوى كأنه قال هذا الضرب الذى
سمعته أو رأيته من السباع؛ فهو ضرب من السباع كما أن بنات أوبر ضربٌ من
الكمأة. ويدلك على أنه معرفة أن أوى غير مصروف وليس بصفة. ومثل ذلك
ابنُ عِرس وأم حُبَين وسام أبرص. وبعض العرب يقول أبو بُريص وحمار
قبان، كأنه قال فى كل واحد من هذا الضرب الذى يعرَف من أحناش الأرض
بصورة كذا. وكأنه قال فى المؤنث نحو أم حُبين هذه التى تعرَف من أحناش
الأرض بصورة كذا.
واختصت العرب لكل ضرب من هذه الضروب اسما على معنى الذى تعرفها به لا
تدخله النكرة كما أن الذى تعرف لا تدخله النكرة، كما فعلوا ذلك بزيد
والأسد. إلا أن هذه الضروب ليس لكل واحد منها اسم يقع
(2/95)
على كل واحد من أمته يدخله المعرفة
والنكرة، بمنزلة الأسد يكون معرفة ونكرة، ثم اختُص باسم معروف كما
اختُص الرجل بزيد وعمرو، وهو أبو الحارث، ولكنها لزمت اسما معروفا،
وتركوا الاسم الذى تدخله المعانى المعرفة والنكرة، ويدخله التعجب،
وتوصَف به الأسماء المبهمة كمعرفته بالألف واللام نحو الرجل.
والتعجب كقولك: هذا الرجل وأنت تريد أن ترفع شأنه.
ووصفُ الأسماء المبهمة نحو قولك: هذا الرجل قائم. فكأن هذا اسمٌ جامع
لمعان.
وابن عِرس يراد به معنى واحد، كما أريد بأبى الحارث وبزيد معني واحد
واستُغني به.
ومثَل هذا فى بابه مثَل رجل كانت كُنيته هى الاسم وهى الكنية.
ومثَل الأسد وأبى الحارث كرجل كانت له كنية واسمٌ.
ويدلك على أن ابن عرس وأم حُبين وسامَّ أبرص وابن مَطَر معرفة، أنك لا
تدخل في الذي أُضِفن إليه الألف واللام، فصار بمنزلة زيد وعمرو. ألا
ترى أنك لا تقول أبو الجُخادب.
وهو قول أبى عمرو، حدثنا به يونس عن أبى عمرو.
وأما ابن قترة وحمار قبان وما أشبههما، فيدلك على معرفتهن ترك صرف ما
أُضفن إليه.
(2/96)
وقد زعموا أن بعض العرب يقول: هذا ابنُ عرس
مُقبلٌ، فرفعه على وجهين: فوجهٌ مثل: هذا زيد مقبل، ووجه على أنه جعل
ما بعده نكرة فصار مضافا إلى نكرة، بمنزلة قولك هذا رجلٌ منطلق.
ونظير ذلك هذا قيسُ قُفّةٍ آخر منطلق. وقيسُ قُفة لقب، والألقاب
والكُنى بمنزلة الأسماء نحو زيد وعمرو، ولكنه أراد في قيس قُفة ما أراد
في قوله هذا عُثمان آخر، فلم يكن له بد من أن يُجعل ما بعده نكرة حتى
يصير نكرة، لأنه لا يكون الاسم نكرة وهو مضاف إلى معرفة.
وعلى هذا الحد تقول: هذا زيد منطلق، كأنك قلت هذا رجل منطلق، فإنما
دخلت النكرة على هذا العلَم الذي إنما وُضع للمعرفة ولهذا جيء به،
فالمعرفة هنا الأوْلى.
وأما ابن لَبون وابن مَخاض فنكرة، لأنها تدخلها الألف واللام. وكذلك
ابن ماء. قال جرير، فيما دخل فيه الألف واللام:
وابنُ اللَبون إذا ما لُزّ فى قَرَن ... لمَ يستطعْ صولةَ البُزْلِ
القناعيسِ
(2/97)
وقال أبو عطاء السِّندي:
مفدَّمةً قَزَا كأنّ رِقابها ... رِقاب بناتِ الماءِ أفزَعها الرّعدُ
وقال الفرزدق:
وَجَدْنا نهشَلاً فضلَتْ فقيْماً ... كفَضْلِ ابنِ المَخاض على الفصيلِ
(2/98)
فإذا أخرجتَ الألف واللام صار الاسم نكرة.
قال ذو الرمة:
ورَدتُ اعتِسافاً والثرّيَّا كأنّها ... على قِمّةِ الرأس ابنُ ماءٍ
مُحلّقُ
وكذلك ابن أفعلَ إذا كان أفعل ليس باسمٍ لشيء.
وقال ناسٌ: كلُ ابن أفعلَ معرفة لأنه لا ينصرف. وهذا خطأ؛ لأن أفعل لا
ينصرف وهو نكرة، ألا ترى أنك تقول هذا أحمرُ قُمُذٌ فترفعه إذا جعلته
صفة للأحمر، ولو كان معرفة كان نصبا، فالمضاف إليه بمنزلته. قال ذو
الرمة:
كأنَّا على أولادِ أحقَبَ لاحَها ... ورمْيُ السّفا أنفاسَها بِسَهامِ
(2/99)
جَنوبٌ ذَوَتْ عنها التَّناهى وأنزلتْ ... بها يومَ ذبّابِ السَّبيبِ
صيامِ
كأنه قال: على أولاد أحقبَ صيامٍ. |