الكتاب لسيبويه

؟ باب ما يكون فيه الشيء غالبا عليه اسم
يكون لكل من كان من أمته، أو كان في صفته، من الأسماء التي يدخلها الألف واللام، وتكون نكرتُه الجامعة لما ذكرتُ لك من المعاني.
وذلك قولك فلان بنُ الصَّعِق. والصعقُ في الأصل صفة تقع

(2/100)


على كل من أصابه الصعق، ولكنه غلب عليه حتى صار عَلَماً بمنزلة زيد وعمرو.
وقولهم النجمُ، صار علَماً للثريا.
وكابن الصّعِق قولُهم: ابن رالان، وابنُ كُراع، صار علما لإنسان واحد، وليس كل من كان ابنا لرألان وابنا لكُراع غلب عليه هذا الاسم. فإن أخرجت الألف واللام من النجم والصعق لم يكن معرفة، من قبل أنك صيرته معرفة بالألف واللام، كما صار ابنُ رألان معرفة برألان، فلو ألقيتَ رألان لم يكن معرفة.
وليس هذا بمنزلة زيد وعمرو وسَلْم، لأنها أعلامٌ جمعت ما ذكرنا من التطويل وحذفوا.
وزعم الخليل رحمه الله أنه إنما منعهم أن يُدخلوا في هذه الأسماء الألف واللام أنهم لم يجعلوا الرجل الذي سُمّي بزيد من أمةٍ كلُّ واحد منها يلزمه هذا الاسم، ولكنهم جعلوه سُمّي به خاصا.
وزعم الخليل رحمه الله أن الذين قالوا الحارث والحَسَن والعباس، إنما أرادوا أن يجعلوا الرجل هو الشيء بعينه، ولم يجعلوه سُمّي به، ولكنهم جعلوه كأنه وصفٌ له غلَب عليه. ومن قال حارثٌ وعباس فهو يُجريه مُجرى زيد.
وأما ما لزمته الألف واللام فلم يسقُطا منه، فإنما جُعل الشيء الذي يلزمه ما يلزم كل واحد من أمته.

(2/101)


وأما الدّبَران والسِّماك والعيوق وهذا النحو، فإنما يُلزَم الألفَ واللام من قبل أنه عندهم الشيء بعينه.
فإن قال قائل: أيقال لكل شيء صار خلف شيء دَبَران، ولكل شيء عاق عن شيء عيّوق، ولكل شيء سمك وارتفع سِماك، فإنك قائل له: لا، ولكن هذا بمنزلة العِدل والعَديل. والعديل: ما عادَلك من الناس، والعِدل لا يكون إلا للمتاع، ولكنهم فرقوا بين البناءين ليفصلوا بين المتاع وغيره.
ومثل ذلك بناء حصين وامرأة حصان، فرقوا بين البناء والمرأة، فإنما أرادوا أن يُخبروا أن البناء مُحرز لمن لجأ إليه، وأن المرأة محرزة لفرجها.
ومثل ذلك الرزين من الحجارة والحديد، والمرأة رزان، فرقوا بين ما يُحمَل وبين ما ثقُل في مجلسه فلم يخف.
وهذا أكثر من أن أصفه لك في كلام العرب؛ فقد يكون الاسمان مشتقّين من شيء والمعنى فيهما واحد، وبناؤهما مختلف، فيكون أحد البناءين مختصاً به شيء دون شيء ليفرق بينهما. فكذلك هذه النجوم اختُصّت بهذه الأبنية.
وكل شيء جاء قد لزم الألف واللام فهو بهذه المنزلة. فإن كان عربيا نعرفه ولا نعرف الذي اشتُق منه فإنما ذاك لأنا جهلنا ما علم غيرُنا،

(2/102)


أو يكون الآخِر لم يصل إليه علم وصل إلى الأول المسمى.
وبمنزلة هذه النجوم الأربعاء والثلاثاء، إنما يرايد الرابع والثالث. وكلها أخبارها كأخبار زيد وعمرو.
فإن قلت: هذان زيدان منطلقان، وهذان عَمران منطلقان، لم يكن هذا الكلام إلا نكرة، من قبل أنك جعلته من أمة كل رجل منها زيد وعمرو، وليس واحد منها أولى به من الآخَر. وعلى هذا الحد تقول: هذا زيد منطلق. ألا ترى أنك تقول: هذا زيد من الزيدين، أي هذا واحد من الزيدين، فصار كقولك: هذا رجل من الرجال.
وتقول: هؤلاء عَرَفات حسنة، وهذان أبانان بينين. وإنما فرقوا بين أبانين وعرفات، وبين زيدَين وزيدِين، من قبل أنهم لم يجعلوا التثنية والجمع علما لرجلين ولا لرجال بأعيانهم، وجعلوا الاسم الواحد علماً لشيء بعينه، كأنهم قالوا، إذا قلت ائتِ بزيد إنما تريد: هاتِ هذا الشخص الذي نشير لك إليه. ولم يقولوا إذا قلنا جاء زيدانِ فإنما نعني شخصين بأعيانهما قد عُرفا قبل ذلك وأُثبتا، ولكنهم قالوا إذا قلنا قد جاء زيد فلان وزيدُ بن فلان فإنما نعني شيئين بأعيانهما فهكذا تقول إذا أردت أن تُخبر عن معروفين.

(2/103)


وإذا قالوا هذان أبانان وهؤلاء عرفات فإنما أرادوا شيئا أو شيئين بأعيانهما اللذين نشير إليهما. وكأنهم قالوا إذا قلت ائت أبانين، فإنما نعني هذين الجيلين بأعيانهما اللذين نشير لك إليهما. ألا ترى أنهم لم يقولوا: امرر بأبان كذا وأبن كذا، لم يفرقوا بينهما لأنهما جعلوا أبانين اسماً لهما يُعرفان به بأعيانهما.
وليس هذا في الأناسى ولا في الدواب، إنما يكون هذا في الأماكن والجبال وما أشبه ذلك، من قبل أن الأماكن والجبال أشياء لا تزول، فيصير كل واحد من الجبلين داخلا عندهم في مثل ما دخل فيه صاحبُه من الحال في الثبات والخِصب والقحط، ولا يشار إلى واحد منهما بتعريف دون الآخر، فصارا كالواحد الذي لا يزايله منه شيء حيث كان في الأناسى وفي الدواب. والإنسانان والدابتان لا يثبتان أبدا بأنهما يزولان ويتصرفان، ويشار إلى أحدهما والآخر عنه غائب.
واما قولهم: أعطِكم سُنّة العُمَرين فإنما أُدخلت الألف واللام على عُمَرين وهما نكرة فصارا معرفة بالألف واللام كما صار الصّعِق معرفة بهما، واختُصا به كما اختُص النجم بهذا الاسم، فكأنهما جُعلا من آمة

(2/104)


كل واحد منهم عُمر، ثم عُرّفا بالألف واللام فصارا بمنزلة الغرِيَّيْن المشهورين بالكوفة، وبمنزلة النَّسرين، إذا كنتَ تعني النجمين.
؟

باب
ما يكون الاسم فيه بمنزلة الذي في المعرفة
إذا بُني على ما قبله، وبمنزلته في الاحتياج إلى الحشو، ويكون نكرة بمنزلة رجل. وذلك قولك: هذا مَن أعرف منطلقا، وهذا مَن لا أعرف منطلقا، أي هذا الذي علمتُ أني لا أعرفه منطلقا. وهذا ما عندي مَهيناً، وأعرف ولا أعرف وعندي حشوٌ لهما يتمان به، فيصيران اسما كما كان الذي لا يتم إلا بحشوه.
وقال الخليل رحمه الله: إن شئت جعلتَ مَن بمنزلة إنسان وجعلت ما بمنزلة شيء نكرتين، ويصير منطلقٌ صفة لمن ومَهينٌ صفة لمَا. وزعم أن هذا البيت عنده مثل ذلك، وهو قول الأنصارى:
فكَفَى بنا فَضْلاً على مَن غيرِنا ... حبُّ النبيّ محمَّدٍ إيّاناَ.

(2/105)


ومثل ذلك قول الفرزدق:
إنَّي وإيّاكَ إذْ حَلَّتْ بأرحُلنا ... كَمنْ بِوادِيهِ بَعْدَ المَحْلِ ممطورِ
وأما هذا ما لديّ عنيد فرفعُه على وجهين: على شيء لدى عنيد، وعلى هذا بعلى شيخٌ.
وقد أدخلوا في قول من قال إنها نكرة فقالوا: هل رأيتم شيئا يكون موصوفا لا يُسكَت عليه؟ فقيل لهم: نعم، يا أيها الرجل. الرجل وصفٌ لقوله يا أيها، ولا يجوز أن يُسكَت على يا أيها. فرُب اسم لا يحسن عليه عندهم السكوت حتى يصفوه وحتى يصير وصفُه عندهم كأنه به يتم الاسم، لأنهم إنما جاءوا بيا أيها ليصلوا إلى نداء الذي فيه الألف واللام، فلذلك جيء به. وكذلك مَن وما إنما يُذكران لحشوهما ولوصفهما، ولم يُرَد بهما خِلوَين شيء، فلزمه الوصف كما لزمه الحشو، وليس لهما بغير حشو ولا وصف معنى، فمن ثم كان الوصف والحشو واحدا.

(2/106)


فالوصف كقولك: مررت بمَن صالحٍ، فصالحٍ وصف. وإن أردتَ الحشو قلت مررت ممن صالحٌ. والحشو لا يكون أبدا لمن وما إلا وهما معرفة. وذلك من قبل أن الحشو إذا صار فيهما أشبهتا الذي، فكما أن الذي لا يكون إلا معرفة لا يكون ما ومَن إذا كان الذي بعدهما حشوا، وهو الصلة، إلا معرفة.
وتقول: هذا مَن أعرف منطلقٌ، فتجعل أعرف صفة. وتقول: هذا مَن أعرف منطلقا، تجعل أعرف صلة. وقد يجوز منطلقٌ على قولك: هذا عبد الله منطلق.
ومثل ذلك الجماء الغفير، فالغفير وصفٌ لازم، وهو توكيد لأن الجماء الغفير مَثَل، فلزم الغفيرُ كما لزم ما في قولك إنك ما وخَيراً.
واعلم أن كفى بنا فضلا على مَن غيرُنا أجود وفيه ضعفٌ إلا أن يكون فيه هو، لأن هو من بعض الصلة، وهو نحو مررت بأيُّهم أفضلُ،

(2/107)


وكما قرأ بعض الناس هذه الآية: " تماما على الذي أحسَنُ ".
واعلم أنه يقبح أن تقول هذا مَن منطلق إذا جعلتَ المنطلق حشوا أو وصفا، فإن أطلتَ الكلام فقلت مَن خيرٌ منك، حسُن في الوصف والحشو.
زعم الخليل رحمه الله أنه سمع من العرب رجلا يقول: ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءا، وما أنا بالذي قائل لك قبيحا. فالوصف بمنزلة الحشو المَحشو لأنه يَحسن بما بعده كما أن الحشو المحشوَّ إنما يتم بما بعده.
ويقوى أيضا أن مَن نكرة، قول عمرو بن قَميئة:
يا رُبَّ مَن يُبغض أذوادَنا ... رُحنَ على بغْضائه واغتدَيْنْ
ورُبّ لا يكون ما بعدها إلا نكرة. وقال أمية بن أبي الصلت:

(2/108)


رُبّ ما تكره النفوس من الأمر ... له فَرْجةٌ كحَلّ العِقالِ
وقال آخر:
أَلا رُبّ مَن تغتَشَّهُ لكَ ناصحٍ ... ومؤتَمن بالغَيب غيرِ أمينِ
وقال آخر:
ألا رُبّ مَن قَلْبِي له اللهَ ناصحٌ ... ومَن هو عندي في الظباء السوانحِ

(2/109)


؟

باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة
وذلك قولك هذا أول فارسٍ مُقبلٌ، وهذا كلُّ متاعٍ عندك موضوعٌ، وهذا خيرٌ منك مقبلٌ.
ومما يدلك على أنهن نكرة أنهن مضافات إلى نكرة، وتوصَف بهن النكرة. وذلك أنك تقول فيما كان وصفاً: هذا رجل خيرٌ منك، وهذا فارسٌ أول فارسٍ، وهذا مالٌ كلُّ مالٍ عندك.
ويُستدلُّ على أنهن مضافات إلى نكرة أنك تصف ما بعدهن بما توصَف به النكرة ولا تصفه بما توصَف به المعرفة، وذلك قولك: هذا اول فارس شُجاع مقبلٌ.
وحدثنا الخليل أنه سمع من العرب من يوثق بعربيته يُنشد هذا البيت، وهو قول الشماخ:
وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ... لوصلِ خليلٍ صارمٌ أو معازِرُ

(2/110)


فجعله صفة لكل.
وحدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت:
كأنّا يومَ قُرّى إ ... نّما نقتلُ إيّانا
قبَلنا منهمُ كلَّ ... فَتًى أبيضَ حُسّانا
فجعله وصفا لكل.
ومثل ذلك: هذا أيما رجل منطلقٌ، وهذا حسبُك من رجل منطلقٌ.
ويدلك على أنه نكرة أنك تصف به النكرة فتقول: هذا رجل حسبُك من رجل، فهو بمنزلة مثلك وضاربك إذا أردت النكرة.
ومما يوصَف به كلٌّ قول ابن أحمر:
وَلِهَت عليه كلُّ معصِفة ... هوجاء ليس للُبّها زَبرُ

(2/111)


سمعناه ممن يرويه من العرب.
ومن قال هذا أول فارسٍ مقبلا، من قبل أنه لا يستطيع أن يقول هذا أولُ الفارس، فيُدخل عليه الألف واللام فصار عنده بمنزلة المعرفة، فلا ينبغي له أن يصفه بالنكرة، وينبغي له أن يزعم أن درهما في قولك عشرون درهماً معرفة، فليس هذا بشيء، وإنما أرادوا من الفرسان، فحذفوا الكلام استخفافا، وجعلوا هذا يُجزِئُهم من ذلك. وقد يجوز نصبُه على نصب: هذا رجلٌ منطلقا، وهو قول عيسى.
وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبُه كنصبه في المعرفة، جعله حالا ولم يجعله وصفا.
ومثل ذلك: مررتُ برجل قائما، إذا جعلتَ الممرورَ به في حال قيامٍ. وقد يجوز على هذا: فيها رجلٌ قائما، وهو قول الخليل رحمه الله.
ومثل ذلك: عليه مائةٌ بيضا؛ والرفعُ الوجهُ. وعليه مائةٌ عينا؛ والرفعُ الوجه.
وزعم يونس أن ناسا من العرب يقولون: مررتُ بماءٍ قِعدةَ رجلٍ؛ والجر الوجهُ. وإنما كان النصب هنا بعيدا من قبل أن هذا يكون من صفة الأول، فكرهوا أن يجعلوه حالا كما كرهوا أن يجعلوا الطويل والأخ حالا حين قالوا: هذا زيد الطويل، وهذا عمرو أخوك، وألزموا

(2/112)


صفة النكرة، كما ألزموا صفة المعرفة المعرفةَ؛ وأرادوا أن يجعلوا حالَ النكرة فيما يكون من اسمها كحال المعرفة فيما يكون من اسمها.
وزعم مَن نثق به أنه سمع رؤبةَ يقول: هذا غلامٌ لك مُقبلاً، جعله حالا ولم يجعله من اسم الأول.
واعلم أن ما كان صفة للمعرفة لا يكون حالا ينتصب انتصابَ النكرة، وذلك أنه لا يَحسُن لك أن تقول: هذا زيدٌ الطويلَ، ولا هذا زيدٌ أخاك، من قبل أنه من قال هذا فينبغي له أن يجعله صفة للنكرة، فيقول: هذا رجلٌ أخوك.
ومثل ذلك في القبح: هذا زيدٌ أسودَ الناس، وهذا زيدٌ سيدَ الناس، حدثنا بذلك يونس عن أبي عمرو.
ولو حسُن أن يكون هذا خبرا للمعرفة لجاز أن يكون خبرا للنكرة، فتقول هذا رجلٌ سيدَ الناس، من قبل أن نصب هذا رجلٌ منطلقا كنصب هذا زيد منطلقا، فينبغي لما كان حالا للمعرفة أن يكون حالا للنكرة. فليس هكذا، ولكن ما كان صفة للنكرة جاز أن يكون حالاً

(2/113)


للنكرة كما جاز حالا للمعرفة. ولا يجوز للمعرفة أن تكون حالا كما تكون النكرة، فتلتبس بالنكرة. ولو جاز ذلك لقلت: هذا أخوك عبد الله، إذا كان عبد الله اسمه الذي يُعرف به. وهذا كلامٌ خبيث يوضع في غير موضعه. إنما تكون المعرفة مبنيا عليها أو مبنية على اسم أو غير اسم، وتكون صفة لمعروف لتبينه وتؤكده أن تقطعه من غيره. فإذا أردت الخبر الذي يكون حالا وقع فيه الأمر فلا تضع في موضعه الاسم الذي جُعل ليوضح المعرفة أو تبين به. فالنكرة تكون حالا وليست تكون شيئا بعينه قد عرفه المخاطَب قبل ذلك.
فهذا أمر النكرة، وهذا أمر المعرفة، فأجرِه كما أجروه، وضعْ كل شيء موضعه.
؟

باب ما ينتصب خبره لأنه معرفة
وهي معرفة لا توصَف ولا تكون وصفا وذلك قولك: مررت بكلٍّ قائما، ومررتُ ببعضٍ قائما وببعضٍ جالسا. وإنما خروجهما من أن يكونا وصفين أو موصوفين، لأنه لا يحسن لك أن تقول: مررت بكلٍّ الصالحين ولا ببعضٍ الصالحين. قبُح الوصف حين حذفوا ما أضافوا إليه، لأنه مخالف لما يضاف، شاذ منه،

(2/114)


فلم يجرِ في الوصف مجراه. كما أنهم حين قالوا يا أللهُ، فخالفوا ما فيه الألف واللام، لم يصلوا ألفَه وأثبتوها.
وصار معرفة لأنه مضاف إلى معرفة، كأنك قلت: مررت بكلهم وببعضهم، ولكنك حذفت ذلك المضاف إليه، فجاز ذلك كما جاز: لاهِ أبوك، تريد: لله أبوك، حذفوا الألف واللامين. وليس هذا طريقةَ الكلام، ولا سبيله؛ لأنه ليس من كلامهم أن يُضمروا الجار.
ومثله في الحذف: لا عليك، فحذفوا الاسم. وقال: ما فيهم يفضلك في شيء، يريد ما فيهم أحد يفضلك كما أراد لا بأس عليك أو نحوه. والشواذ في كلامهم كثيرةٌ.
ولا يكونان وصفا كما لم يكونا موصوفين، وإنما ينضعان في الابتداء أو يُبنَيان على اسم أو غير اسم.
فالابتداء نحو قوله عز وجل: " وكلٌّ أتوه داخرين ". فأما جميعٌ فيجري مجرى رجلٍ ونحوه في هذا الموضع. قال الله عز وجل: " وإنْ كلٌّ

(2/115)


لَماَ جميعٌ لَدَيْناَ مُحضَرون "، وقال: أتيته والقومُ جميعٌ؛ وسمعته من العرب، أي مجتمعون.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستضعف أن يكون كلهم مبنيا على اسم أو على غير اسم، ولكنه يكون مبتدأ أو يكون كلهم صفة. فقلت: ولمَ استضعفت أن يكون مبنيا؟ فقال: لأن موضعه في الكلام أن يُعمّ به غيره من الأسماء بعدما يُذكر فيكون كلهم صفة أو مبادأ. فالمبتدأ قولك إن قومك كلهم ذاهبٌ، أو ذكر قوم فقلت: كلهم ذاهبٌ. فالمبتدأ بمنزلة الوصف؛ لأنك إنما ابتدأت بعدما ذكرت ولم تبنه على شيء فعممت به.
وقال: أكلتُ شاة كلَّ شاةٍ حسن، وأكلت كلَّ شاةٍ ضعيف؛ لأنهم لا يعمون هكذا فيما زعم الخليل رحمه الله. وذلك أن كلهم إذا وقع موقعا يكون الاسم فيه مبنيا على غيره، شُبّه بأجمعين وأنفسهم ونفسه، فألحق بهذه الحروف، لأنها إنما توصَف بها الأسماء ولا تُبنى على شيء. وذاك أن موضعها من الكلام أن يُعمّ ببعضها، ويؤكد ببعضها بعد ما يُذكر الاسم؛ إلا أن كلهم قد يجوز فيها أن تُبنى على ما قبلها، وإن كان فيها بعض الضعف؛ لأنه قد يُبتدأ به، فهو يشبه الأسماء التي تُبنى على غيرها. وكلاهما وكلتاهما وكلهن يجرين مجرى كلهم، وأما جميعهم فقد يكون على وجهين: يوصَف به المضمَر والمظهر كما يوصَف بكلهم، ويُجرى في الوصف مجراه، ويكون في سائر ذلك بمنزلة عامتهم وجماعتهم، يُبتدأ ويُبنى على غيره؛ لأنه يكون نكرة تدخله الألف واللام، وأما كل شيء

(2/116)


وكل رجل فإنما يبنيان على غيرهما؛ لأنه لا يوصَف بهما.
والذي ذكرتُ لك قول الخليل، ورأينا العرب توافقه بعد ما يمعناه.
؟

باب ما ينتصب لأنه قبيح أن يكون صفة
وذلك قولك: هذا راقودٌ خَلاّ، وعليه نِحيٌ سَمناً. وإن شئت قلت راقودُ خل وراقودٌ من خل.
وإنما فررتَ إلى النصب في هذا الباب، كما فررت إلى الرفع في قولك: بصحيفةٍ طينٌ خاتَمها؛ لأن الطين اسم وليس مما يوصَف به، ولكنه جوهرٌ يضاف إليه ما كان منه. فهكذا مجرى هذا وما أشبهه.
ومن قال: مررتُ بصحيفة طينٍ خاتَمها قال: هذا راقودٌ خلٌّ، وهذه صفّةٌ خزّ.

(2/117)


وهذا قبيح أجرى على غير وجهه، ولكنه حسن أن يُبنى على المبتدأ ويكون حالا. فالحال قولك: هذه جُبّتك خَزاً. والمبنى على المبتدأ قولك: جُبتك خزّ. ولا يكون صفةًفيشبه الأسماء التي أخذت من الفعل، ولكنهم جعلوه يلي ما ينصب ويرفع وما يجر. فأجره كما أجروه، فإنما فعلوا به ما يُفعل بالأسماء، والحال مفعولٌ فيها. والمبنى على المبتدإ بمنزلة ما ارتفع بالفعل، والجار بتلك المنزلة، يجري في الاسم مجرى الرافع والناصب.
؟

باب ما ينتصب لأنه ليس من اسم ما قبله
ولا هو هو
وذلك قولك هو ابنُ عمى دِنْياً، وهو جارى بيتَ بيتَ. فهذه أحوال قد وقع في كل واحد منها شيء. وانتصب لأن هذا الكلام قد عمل فيها كما عمل الرجل في العلم حين قلت: أنت الرجل عِلْماً. فالعلمُ منتصبٌ على ما فسرت لك، وعمل فيه ما قبله كما عمل عشرون في الدرهم، حين قلت عشرون درهما؛ لأن الدرهم ليس من اسم العشرين ولا هو هي.
ومثل ذلك: هذا درهم وزنا. ومثل ذلك: هذا حسيب جدا. ومثل ذلك هذا عربي حسبَه. حدثنا بذلك أبو الخطاب عمن نثق به من العرب. جعله بمنزلة الدِّنْي والوزن، كأنه قال هو عربي اكتفاءً. فهذا تمثيل ولا يتكلّ به، ولزمته الإضافة كما لزمت جَهده وطاقته.
وما لم يُضَف من هذا ولم تدخله الألف واللام، فهو بمنزلة ما لم يُضَف

(2/118)


فيما ذكرنا من المصادر، نحو لقيتُه كفاحا، وأتيته جهارا.
ومثل ذلك هذه عشرون مِراراً، وهذه عشرون أضعافا.
وزعم يونس أن قوما يقولون: هذه عشرون أضعافُها وهذه عشرون أضعافٌ، أي مضاعفةٌ. والنصب أكثر.
ومثل ذلك: هذا درهمٌ سواء. كأنه قال هذا درهم استواء. فهذا تمثيل وإن لم يتكلم به. قال عز وجل: " في أربعة أيامٍ سَواءً للسائلين ". وقد قرأ ناسٌ: " في أربعةِ أيامٍ سواءٍ ". قال الخليل: جعله بمنزلة مستويات.
وتقول: هذا درهمٌ سواءٌ، كأنك قلت: هذا درهمٌ تام.

(2/119)


؟

وهذا شيء ينتصب على أنه
ليس من اسم الأول ولا هو هو
وذلك قولك: هذا عربي محضا، وهذا عربي قلبا، فصار بمنزلة دِنياً وما أشبهه من المصادر وغيرها.
والرفع فيه وجه الكلام، وزعم يونس ذلك. وذلك قولك: هذا عربي محضٌ، وهذا عربي قلبٌ، كما قلت هذا عربيٌّ قُحٌّ، ولا يكون القحُّ إلا صفة.
ومما ينتصب على أنه ليس من اسم الأول ولا هو هو، قولك: هذه مائلةٌ وزنَ سبعةٍ ونقدَ الناس، وهذه مائة ضربَ الأمير، وهذا ثوبٌ نسجَ اليمن، كأنه قال: نسجا وضربا ووزنا. وإن شئت قلت وزنُ سبعة.
قال الخليل رحمه الله: إذا جعلتَ وزنَ مصدرا نصبت، وإن جعلته اسما وصفتَ به، وشبه ذلك بالخَلق، قال: قد يكون الخلق المصدر ويكون الخلقُ المخلوق، وقد يكون الحلَب الفعل والحلَب المحلوب، فكأن الوزن ههنا اسمٌ، وكأن الضرب اسم، كما تقول رجلٌ رِضاً وامرأة عدلٌ ويومٌ غمٌّ، فيصيرُ هذا الكلام صفة. وقال: أستقبح أن أقول هذه مائة ضربُ الأمير، فأجعلَ الضرب صفة فيكون نكرةً وُصفت

(2/120)


بمعرفة، ولكن أرفعه على الابتداء، كأنه قيل له ما هي؟ فقال: ضربُ الأمير. فإن قال: ضربُ أمير حَسنت الصفة؛ لأن النكرة توصف بالنكرة.
واعلم أن جميع ما ينتصب في هذا الباب ينتصب على انه ليس من اسم الأول ولا هو هو. والدليل على ذلك أنك لو ابتدأت اسما لم تستطع أن تبنى عليه شيئا مما انتصب في هذا الباب؛ لأنه جرى في كلام العرب أنه ليس منه ولا هو هو. لو قلتَ ابنُ عمي دنْيٌ وعربيٌ جِدٌ، لم يجز ذلك، فإذا لم يجز أن يُبنى على المبتدإ فهو من الصفة أبعد؛ لأن هذه الأجناس التي يضاف إليها ما هو منها ومن جوهرها ولا تكون صفة، وقد تُبنى على المبتدإ كقولك: خاتمك فضة، ولا تكون صفة.
فما انتصب في هذا الباب فهو مصدر أو غير مصدر قد جُعل بمنزلة المصدر، وانتصب من وجهٍ واحد.
واعلم أن الشيء يوصَف بالشيء الذي هو هو وهو من اسمه، وذلك قولك: هذا زيدٌ الطويل. ويكون هو هو وليس من اسمه كقولك: هذا زيدٌ ذاهبا. ويوصَف بالشيء الذي ليس به ولا من اسمه، كقولك: هذا درهم وزنا، لا يكون إلا نصبا.

(2/121)


؟

هذا باب
ما ينتصب لأنه قبيح أن يوصف بما بعده
ويبنى على ما قبله
وذلك قولك هذا قائما رجل، وفيها قائما رجلٌ. لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقُبح أن تقول: فيها قائمٌ، فتضع الصفة موضع الاسم، كما قبح مررت بقائم وأتاني قائم، جعلت القائم حالا وكان المبني على الكلام الأول ما بعده.
ولو حسُن أن تقول: فيها قائم لجاز فيها قائم رجلٌ، لا على الصفة، ولكنه كأنه لما قال فيها قائم، قيل له مَن هو؟ وما هو؟ فقال: رجل أو عبد الله. وقد يجوز على ضعفه.
وحُمل هذا النصب على جواز فيها رجلٌ قائما، وصار حين أخر وجه الكلام، فرارا من القبح. قال ذون الرمة:

(2/122)


وتَحْتَ العّوالِى في القَناَ مستِظلةً ... ظِباءٌ أعارتُها العيونَ الجآذرُ
وقال الآخر:
وبالجِسْم مِنِّي بَيِّناً لو علمْتِه ... شُحوبٌ وإنْ تَستشهِدِى العينَ تشهدِ
وقال كُثيّر: لمَيَّةَ موحِشاً طللُ

(2/123)


وهذا كلامٌ أكثر ما يكون في الشعر وأقل ما يكون في الكلام.
واعلم أنه لا يقال قائما فيها رجلٌ. فإن قال قائل: أجعله بمنزلة راكبا مر زيدٌ، وراكبا مر الرجلُ، قيل له: فإنه مثله في القياس، لأن فيها بمنزلة مر، ولكنهم كرهوا ذلك فيما لم يكن من الفعل، لأن فيها وأخواتها لا يتصرفن تصرف الفعل، وليس بفعل، ولكنهن أنزلن منزلة ما يستغنى به الاسم من الفعل. فأجرِه كما أجرته العرب واستحسنتْ.
ومن ثم صار مررت قائما برجل لا يجوز، لأنه صار قبل العامل في الاسم، وليس بفعل، والعامل الباء. ولو حسن هذا لحسن قائما هذا رجل.
فإن قال: أقول مررت بقائما رجل، فهذا أخبث، من قبل أنه لا يُفصل بين الجار والمجرور، ومن ثم أُسقط رُبّ قائما رجلٍ. فهذا كلام قبيح ضعيف؛ فاعرفْ قبحه، فإن إعرابه يسير. ولو استحسناه لقلنا هو بمنزلة فيها قائما رجل، ولكن معرفة قبحه أمثل من إعرابه.
وأما بك مأخوذٌ زيد فإنه لا يكون إلا رفعا، من قبل أن بك لا تكون مستقرا لرجل. ويدلك على ذلك أنه لا يستغنى عليه السكوت. ولو نصبت هذا لنصبت اليوم منطلقٌ زيدٌ، واليومَ قائمٌ زيد.
وإنما ارتفع هذا لأنه بمنزلة مأخوذ زيد. وتأخير الخبر على الابتداء أقوى، لأنه عاملٌ فيه.
ومثل ذلك: عليك نازلٌ زيد؛ لأنك لو قلت: عليك زيد، وأنت تريد النزول، لم يكن كلاماً.

(2/124)


وتقول: عليك أميرا زيد، لأنه لو قال عليك زيد وهو يريد الإمرةَ كان حسنا. وهذا قليل في الكلام كثير في الشعر، لأنه ليس بفعل. وكلما تقدم كان أضعف له وأبعد، فمن ثم لم يقولوا قائما فيها رجل، ولم يحسن حُسن: فيها قائما رجلٌ.

؟ باب ما يثنى فيه المستقر توكيدا
وليست تثنيته بالتي تمنع الرفع حاله قبل التثنية، ولا النصب ما كان عليه قبل أن يثنى.
وذلك قولك: فيها زيد قائما فيها. فإنما انتصب قائم باستغناء زيد بفيها. وإن زعمتَ أنه انتصب بالآخِر فكأنك قلت: زيد قائما فيها. فإنما هذا كقولك قد ثبت زيد أميرا قد ثبت، فأعدتَ قد ثبت توكيدا، وقد عمل الأول في زيد وفي الأمير.
ومثله في التوكيد والتثنية: لقيتُ عمرا عمرا.
فإن أردتَ أن تُلغي فيها قلت فيها زيدٌ قائم فيها، كأنه قال زيد قائم فيها فيها، فيصير بمنزلة قولك فيك زيدٌ راغبٌ فيك.

(2/125)


وتقول في النكرة: في دارك رجلٌ قائم فيها، فتجرى قائم على الصفة.
وإن شئت قلت: فيها رجل قائما فيها على الجواز، كما يجوز فيها رجلٌ قائما. وإن شئت قلت أخوك في الدار ساكنٌ فيها، فتجعل فيها صفة للساكن.
ولو كانت التثنية تنصب لنصبتْ في قولك: عليك زيدٌ حريص عليك، ونحو هذا مما لا يُستغنى به.
فإن قلت: قد جاء: " وأَمَّا الَّذِينَ سَعِدوا ففي الجثّة خالدِينَ فِيهَا " فهو مثل " إن المتقين في جنات وعُيون. آخذين " وفي آية أخر: " فاكهين ".
؟

هذا باب الابتداء
فالمبتدأ كل اسم ابتُدى ليُبنى عليه كلامٌ. والمبتدأ والمبنى عليه رفعٌ. فالابتداء لا يكون إلا بمبنى عليه. فالمبتدأ الأول والمبنى ما بعده عليه فهو مسنَد ومسنَد إليه.

(2/126)


واعلم أن المبتدأ لابد له من أن يكون المبنى عليه شيئا هو هو، أو يكون في مكان أو زمان. وهذه الثلاثة يُذكر كل واحدٍ منها بعد ما يُبتدأ.
فأما الذي يُبنى عليه شيء هو هو فإن المبنى عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء، وذلك قولك: عبد الله منطلق؛ ارتفع عبد الله لأنه ذُكر ليُبنى عليه المنطلق، وارتفع المنطلق لأن المبنى على المبتدأ بمنزلته.
وزعم الخليل رحمه الله أنه يستقبح أن يقول قائم زيد، وذاك إذا لم تجعل قائما مقدَّماً مبنيا على المبتدإ، كما تؤخر وتقدم فتقول: ضرب زيدا عمرٌو، وعمرٌو على ضرب مرتفع. وكان الحد أن يكون مقدَّماً ويكون زيد مؤخرا. وكذلك هذا، الحد فيه أن يكون الابتداء فيه مقدَّماً. وهذا عربي جيد. وذلك قولك تميميٌّ أنا، ومَشنوءٌ مَن يشنَؤك، ورجلٌ عبدُ الله، وخزٌّ صُفّتك.
فإذا لم يريدوا هذا المعنى وأرادوا أن يجعلوه فعلا كقوله يقوم زيدٌ وقام زيد قبح، لأنه اسم. وإنما حسن عندهم أن يجرى مجرى الفعل إذا كان صفة جرى على موصوف أو جرى على اسم قد عمل فيه؛ كما أنه لا يكون مفعولا في ضارب حتى يكون محمولا على غيره فتقول: هذا ضاربٌ زيدا وأنا ضارب زيدا ولا يكون ضاربٌ زيدا على ضربتُ زيدا وضربت عمرا.

(2/127)


فكما لم يجز هذا كذلك استقبحوا أن يجرى مجرى الفعل المبتدإ، وليكون بين الفعل والاسم فصيل وإن كان موافقا له في مواضع كثيرة؛ فقد يوافق الشيء الشيءَ ثم يخالفه، لأنه ليس مثله.
وقد كتبنا ذلك فيما مضى، وسنراه فيما يُستقبل إن شاء الله.
؟

باب ما يقع موقع الاسم المبتدإ ويسد مسده
لأنه مستقَرٌّ لما بعد وموضع، والذي عمل فيما بعده حتى رفعه هو الذي عمل فيه حين كان قبله؛ ولكن كلُّ واحد منهما لا يُستغنى به عن صاحبه، فلما جُمعا استغنى عليهما السكوت، حتى صارا في الاستغناء كقولك: هذا عبد الله.
وذلك قولك: فيها عبد الله. ومثله: ثمَّ زيدٌ، وههنا عمرٌو، وأين زيدٌ، وكيف عبد الله، وما أشبه ذلك.
فمعنى أين في: أي مكان، وكيف: على أية حال. وهذا لا يكون إلا مبدوءا به قبل الاسم؛ لأنها من حروف الاستفهام، فشُبّهت بهل وألف الاستفهام؛ لأنهن يستغنين عن الألف، ولا يكنَّ كذا إلا استفهاماً.

(2/128)


؟ باب من الابتداء يُضمَر فيه
ما يُبنى على الابتداء وذلك قولك: لولا عبد الله لكان كذا وكذا.
أما لكان كذا وكذا فحديثٌ معلّقٌ بحديث لولا. وأما عبد الله فإنه منحديث لولا، وارتفع بالابتداء كما يرتفع بالابتداء بعد ألف الاستفهام، كقولك: أزيدٌ أخوك، إنما رفعتَه على ما رفعتَ عليه زيدٌ أخوك. غير أن ذلك استخبارٌ وهذا خبرٌ. وكأن المبنى عليه الذي في الإضمار كان في مكان كذا وكذا، فكأنه قال: لولا عبد الله كان بذلك المكان، ولوا القتال كان في زمان كذا وكذا، ولكن هذا حُذف حين كثُر استعمالُهم إياه في الكلام كما حُذف الكلام من إمالا، زعم الخليل رحمه الله أنهم أرادوا إن كنت لا تفعل غيره فافعلْ كذا وكذا إمالا، ولكنهم حذفوه لكثرته في الكلام.
ومثل ذلك حينئذ، الآن، إنما تريد: واسمع الآن. وما أغفلَه عنك، شيئاً، أي دعِ الشكّ عنه؛ فحُذف هذا لكثرة استعمالهم.

(2/129)


وما حُذف في الكلام لكثرة استعمالهم كثير. ومن ذلك: هل من طعام؟ أي هل من طعام في زمان أو مكان، وإنما يريد: هل طعامٌ، فمِن طعامٍ في موضع طعامٌ، كما كان ما أتاني من رجل في موضع ما أتاني رجلٌ. ومثله جوابه: ما من طعام.

؟ بابٌ يكون المبتدأ فيه مُضمَراً
ويكون المبنى عليه مظهَراً وذلك أنك رأيت صورة شخص فصار آية لك على معرفة الشخص فقلت: عبد الله وربي، كأنك قلت: ذاك عبد الله، أو هذا عبد الله. أو سمعتَ صوتا فعرفتَ صاحبَ الصوت فصار آية لك على معرفته فقلت: زيد وربى. أو مسِسْتَ جسدا أو شممت ريحا فقلت: زيد، أو المِسك. أو ذقتَ طعاما فقلت: العسل.
ولو حُدِّثتَ عن شمائل رجلٍ فصار آية لك على معرفته لقلت: عبد الله. كأن رجلا قال: مررتُ برجل راحم للمساكين بارٍّ بوالديه، فقلت: فلان واللهِ.

(2/130)