اللباب في علل البناء والإعراب

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
عونك اللَّهُمَّ
الْحَمد لله أهل الْحَمد ومستحقه وَأشْهد أَن لَا إِلَه لَا الله وَحده لَا شريك لَهُ فِي إبداع خلقه وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى اله أَصْحَابه والشاهدين بصدقه مَا سح سَحَاب بوابله وودقه
أما بعد فَإِن علم الْعَرَبيَّة من أجل الْعُلُوم وَفَائِدَة وأفضلها عَائِدَة وَحِكْمَة وافرة جمة ومعرفته تُفْضِي إِلَى معرفَة الْعُلُوم المهمة والكتب الْمُؤَلّفَة فِيهِ تفوت الإحصاء عدا وَتخرج عَن الضَّبْط جدا وأنفعها أوسطها حجما وأكثرها علما
وَهَذَا مُخْتَصر أذكر فِيهِ من أصُول النَّحْو مَا تمس الْحَاجة إِلَيْهِ وَمن علل كل بَاب مَا يعرفك أَكثر فروعه الْمرتبَة عَلَيْهِ وَقد بذلت الوسع فِي إيجاز أَلْفَاظه وإيضاح مَعَانِيه وَصِحَّة أقسامه وإحكام مبانيه وَمن الله سُبْحَانَهُ أَسْتَمدّ الْإِعَانَة على تَحْقِيق مَا ضمنت وإياه أسأَل الْإِصَابَة فِيمَا أبنت

(1/39)


بَاب بَيَان النَّحْو وأصل وَضعه

اعْلَم أَن النَّحْو فِي الأَصْل مصدر (نحا ينحو) إِذا قصد وَيُقَال نحا لَهُ وأنحى لَهُ وَإِنَّمَا سمي الْعلم بكيفية كَلَام الْعَرَب فِي أعرابه وبنائه (نَحوا) لِأَن الْغَرَض بِهِ أَن يتحَرَّى الْإِنْسَان فِي كَلَامه إعرابا وَبِنَاء طَريقَة الْعَرَب فِي ذَلِك
فصل

وَحده عِنْدهم أَنه علم مستنبط بِالْقِيَاسِ والاستقراء من كَلَام الْعَرَب وَالْقِيَاس أَلا يثنى وَلَا يجمع لِأَنَّهُ مصدر وَلكنه ثني وَجمع لما تقل وَسمي بِهِ وَيجمع على (أنحاء وَنَحْو)

(1/40)


بَاب القَوْل فِي الْكَلَام

الْكَلَام عبارَة عَن الْجُمْلَة المفيدة فَائِدَة يسوغ السُّكُوت عَلَيْهَا عِنْد الْمُحَقِّقين لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه مُشْتَقّ من (الْكَلم) وَهُوَ الْجرْح وَالْجرْح مُؤثر فِي نفس الْمَجْرُوح فليزم أَن يكون الْكَلَام مؤثرا فِي نفس السَّامع
وَالثَّانِي أَن الْكَلَام يُؤَكد بِهِ (تَكَلَّمت) كَقَوْلِك تَكَلَّمت كلَاما والمصدر الْمُؤَكّد نَائِب عَن الْفِعْل وَالْفَاعِل وكما أَن الْفِعْل وَالْفَاعِل جملَة مفيدة كَذَلِك مَا يَنُوب عَنهُ الْكَلَام

(1/41)


الثَّالِث أَن الْكَلَام يَنُوب عَن التكليم والتكلم وَكِلَاهُمَا مشدد الْعين وَالتَّشْدِيد للتكثير وَأدنى درجاته أَن يدل على جملَة تَامَّة
فصل

وَإِنَّمَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ إِن الْكَلَام اسْم للمصدر وَلَيْسَ بمصدر حَقِيقَة لِأَن المصادر تبنى على الْأَفْعَال الْمَأْخُوذَة مِنْهَا وَالْأَفْعَال الْمَأْخُوذَة من هَذَا الأَصْل (كلمت) ومصدره التكليم و (تَكَلَّمت) ومصدره (التَّكَلُّم) و (كالمت) ومصدره (المكالمة) و (الْكَلَام) وَالْكَلَام لَيْسَ بِوَاحِد مِنْهَا إِلَّا أَنه يعْمل عمل الْمصدر كَمَا عمل (الْعَطاء) عمل (الْإِعْطَاء)
فصل

وَأما القَوْل فَيَقَع على الْمُفِيد لِأَن مَعْنَاهُ التحرك والتقلقل فَكل مَا يمذل بِهِ اللِّسَان ويتحرك يُسمى (قولا) وَهَذَا مَا يتركب من (ق ول) فِي جَمِيع تصاريفها وتقلب حروفها نَحْو القَوْل والقلو والتوقل وَغير ذَلِك

(1/42)


بَاب أَقسَام الْكَلم

إِنَّمَا علم كَون الْكَلم ثَلَاثًا فَقَط من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن الْكَلَام وضع للتعبير عَن الْمعَانِي والمعاني ثَلَاثَة معنى يخبر بِهِ وَمعنى يخبر عَنهُ وَمعنى يرْبط أَحدهمَا بِالْآخرِ فَكَانَت الْعبارَات عَنْهَا كَذَلِك
الثَّانِي أَنهم وجدوا هَذِه الْأَقْسَام تعبر عَن كل معنى يخْطر فِي النَّفس وَلَو كَانَ هُنَاكَ قسم آخر لم يُوقف عَلَيْهِ لَكَانَ لَهُ معنى لَا يُمكن التَّعْبِير عَنهُ

(1/43)


فصل

وَإِنَّمَا فرق بَين هَذِه الْعبارَات فِي التَّسْمِيَة لاخْتِلَاف الْمعبر عَنهُ
فصل

وَإِنَّمَا خص كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالِاسْمِ الَّذِي وضعوعه لَهُ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا ان المُرَاد الْفرق بَين الاسماء ليحصل الْعلم بالمسميات وَأي لفظ حصل بِهَذَا الْمَعْنى جَازَ
وَالثَّانِي أَنهم خصوا الْمخبر عَنهُ وَبِه بِالِاسْمِ لِأَنَّهُ أَي علا الْقسمَيْنِ الآخرين إِذْ كَانَ أَحدهمَا يخبر بِهِ فَقَط وَالْآخر لَا يخبر بِهِ وَلَا عَنهُ وَسموا مَا يخبر بِهِ فعلا لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من الْمصدر الَّذِي هُوَ فعل حَقِيقَة وَلم يسموه زَمَانا وَإِن دلّ على الزَّمَان لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن دلَالَته على الْمصدر أقوى إِذْ دلَالَته على الزَّمَان تخْتَلف وَيصِح أَن تبطل دلَالَته عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَأما دللاته على الْمصدر فَلَا يَصح ذَلِك فِيهَا
وَالثَّانِي أَنه لَو سمي زَمَانا لم يدل على الْحَدث بِحَال وَإِنَّمَا سمي فعلا لِأَنَّهُ دلّ على الْحَدث لفظا وعَلى الزَّمَان من طَرِيق الْمُلَازمَة إِذْ يَسْتَحِيل فعل الْمَخْلُوق إِلَّا فِي زمَان وَلم يسم عملا لِأَن الْفِعْل من الْعَمَل وَكَانَ يَقع على كل حَرَكَة

(1/44)


وعزم وَلِهَذَا يَقُول من بنى حَائِطا قد عملت وَقد فعلت وَإِذا تكلم قَالَ قد فعلت وَلَا يُقَال عملت
وَسمي الْقسم الثَّالِث (حرفا) لِأَن حرف كل شَيْء طرفه والأدوات بِهَذِهِ الْمنزلَة لِأَن مَعَانِيهَا فِي غَيرهَا فَهِيَ طرف لما مَعْنَاهَا فِيهِ
فصل

وللاسم حد عِنْد الْمُحَقِّقين لِأَنَّهُ لفظ يَقع فِيهِ اشْتِرَاك وَالْقَصْد من الْحَد تَمْيِيز الْمَحْدُود عَمَّا يُشَارِكهُ
فصل

وَمن أقرب حد حد بِهِ أَنه كل لفظ دلّ على معنى مُفْرد فِي نَفسه وَقَالَ قوم هُوَ كل لفظ دلّ على معنى فِي نَفسه غير مقترن بِزَمَان مُحَصل دلَالَة الْوَضع

(1/45)


فصل

واشتقاقه عِنْد الْبَصرِيين من (سما يسمو) إِذا علا فالمحذوف مِنْهُ (لامه) لِأَن الْمَحْذُوف يرجع إِلَى مَوضِع اللَّام فِي جَمِيع تصاريفه نَحْو سميت وأسميت وسمى وَسمي وَأَسْمَاء وأسام وَلِأَن الْهمزَة فِيهِ عوض من الْمَحْذُوف وَقد ألف من عاداتهم أَن يعوضوا فِي غير مَوضِع الْحَذف
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ هُوَ من السمة فالمحذوف (فاؤه) وَهُوَ خطأ فِي الِاشْتِقَاق وَفِيه الْخلاف وَهُوَ صَحِيح فِي الْمَعْنى
فصل

وَإِنَّمَا سمي هَذَا اللَّفْظ (اسْما) من معنى الْعُلُوّ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنه سما على صَاحِبيهِ فِي الْإِخْبَار كَمَا تقدم وَالثَّانِي أَنه يُنَوّه بِالْمُسَمّى لِأَن الشَّيْء قبل التَّسْمِيَة خَفِي عَن الذِّهْن فَهُوَ كالشيء المنخفض فَإِذا سمي ارْتَفع للأذهان كارتفاع المبصر للعين
فصل

وَالْألف وَاللَّام من خَصَائِص الْأَسْمَاء لِأَنَّهُمَا وضعا للتعريف والتخصيص بعد الشياع وَلَا يَصح هَذَا الْمَعْنى فِي الْفِعْل والحرف أَلا ترى أَن قَوْلك (ضرب

(1/46)


يضْرب) يقعان على كل نوع من أَنْوَاع الضَّرْب وَلَا يَصح تخصيصهما بضربة وَاحِدَة كَمَا يكون ذَلِك قَوْلك (الرجل) فَإِنَّهُ يصير بهما وَاحِدًا بِعَيْنِه
فصل

وحروف الْجَرّ تخْتَص بالأسماء لَان الْغَرَض مِنْهَا إِيصَال الْفِعْل الْقَاصِر عَن الْوُصُول إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ وَالْفِعْل لَا يقتضى إِلَّا الِاسْم فَصَارَ الْحَرْف وصلَة بَين الْفِعْل وَمَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ
فصل

وتنوين الصّرْف والتنوين الْفَارِق بَين الْمعرفَة والنكرة نَحْو (صه) من خَصَائِص الْأَسْمَاء لِأَن مَا دخلا لَهُ يخْتَص بالأسماء وَهُوَ الصّرْف وتمييز الْمعرفَة من النكرَة
فصل

وَمن خَصَائِص الِاسْم كَونه فَاعِلا أَو مَفْعُولا أَو مُضَافا أَو مثنى أَو مجموعا أَو مُصَغرًا أومنادى وَسَنذكر عِلّة تَخْصِيص الِاسْم بِكُل وَاحِد من ذَلِك فِي بَابه إِن شَاءَ الله

(1/47)


فصل

وحد الْفِعْل مَا اسند إِلَى غَيره وَلم يسند غَيره إِلَيْهِ وَذكر الْإِسْنَاد هَهُنَا أولى من الْإِخْبَار لَان الْإِسْنَاد أَعم إِذْ كَانَ يَقع على الِاسْتِفْهَام وَالْأَمر غَيرهمَا وَلَيْسَ الْإِخْبَار كَذَلِك بل هُوَ مَخْصُوص بِمَا صَحَّ أَن يُقَابل بالتصديق والتكذيب فَكل إِخْبَار إِسْنَاد وَلَيْسَ كل إِسْنَاد إِخْبَارًا
وَلَا ينْتَقض هَذَا الْحَد بقَوْلهمْ (تسمع بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ) لِأَن (خيرا) هُنَا لَيْسَ بِخَبَر عَن (تسمع) بل عَن الْمصدر الَّذِي هُوَ (سماعك) وَتَقْدِيره (أَن تسمع) وَحذف (أَن) وَهِي مُرَاد جَائِز كَمَا قَالَ 1 -
(أَلا ايهذا الزاجرى أحضر الوغى ... ) أَي عَن أَن أحضر وَدلّ على حذفه قَوْله وَأَن أشهد اللَّذَّات وَقيل حَده مَا دلّ على معنى فِي نَفسه مقترن بِزَمَان مُحَصل دلَالَة الْوَضع

(1/48)


فصل

وَإِنَّمَا اخْتصّت (قد) بِالْفِعْلِ لِأَنَّهَا وضعت لِمَعْنى لَا يَصح إِلَّا فِيهِ وَهُوَ تقريب الْمَاضِي من الْحَال وتقليل الْمُسْتَقْبل كَقَوْلِك قد قَامَ زيد أَي عَن قريب وَزيد قد يُعْطي أَي يقل ذَلِك مِنْهُ فَأَما قَوْله تَعَالَى {قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ} فَمَعْنَاه قد علمنَا
فصل

وَإِنَّمَا اخْتصّت (السِّين) بِالْفِعْلِ لِأَن مَعْنَاهَا جَوَاب (لن يفعل) وَكَذَلِكَ (سَوف) إِلَّا أَن (سَوف) تدل على بعد الْمُسْتَقْبل من الْحَال و (السِّين) أقرب إِلَى ذَلِك مِنْهَا وَلما كَانَت (لن) لَا معنى إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبل كَانَ جوابها كَذَلِك
فصل

إِنَّمَا دلّت تَاء التَّأْنِيث الساكنة على الْفِعْل لِأَن الْغَرَض مِنْهَا الدّلَالَة على تَأْنِيث الْفَاعِل فَقَط لَا الدّلَالَة على تَأْنِيث الْفِعْل إِذْ الْفِعْل لَا يؤنث وَلَا تَجِد تَاء تَأْنِيث

(1/49)


متحركة مُتَّصِلَة بآخر الْفِعْل وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْأَسْمَاء مثل (قَائِمَة) والحروف مثل (ربت) و (ثمت)
فصل

وَإِنَّمَا دلّ اتِّصَال الضَّمِير الْمَرْفُوع الْموضع بِالْكَلِمَةِ على أَنَّهَا فعل لِأَن الضَّمِير الْمُتَّصِل الْمَرْفُوع لَا يكون إِلَّا فَاعِلا وَالْفَاعِل لَا يتَّصل بِغَيْر الْفِعْل
فصل

وحدٌ الْحَرْف مَا دلّ على معنى فِي غَيره فَقَط وَلَفظ (دلّ) أوْلى من قَوْلك (جَاءَ) لِأَن الْحُدُود الْحَقِيقِيَّة دَالَّة على ذَات الْمَحْدُود بهَا وَقَوْلنَا (مَا جَاءَ لِمَعْنى) بَيَان الْعلَّة الَّتِى لأَجلهَا جَاءَ وَعلة الشَّيْء غيرُه وَلَا ينْتَقض ب (أَيْن) و (كَيفَ) لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنَّهُمَا - مَعَ دلالتهما على معنى فِي غَيرهمَا - دالان على معنى فِي أَنفسهمَا وَهُوَ الْمَكَان وَالْحَال وَقد حصل الِاحْتِرَاز عَن ذَلِك بقولنَا فَقَط
وَالثَّانِي أَن دلالتهما على معنى فِي غَيرهمَا من جِهَة تضمنها معنى الْحَرْف وَذَلِكَ عَارض فيهمَا

(1/50)


فصل

وَمن عَلَامَات الْحَرْف امتناعُه من دُخُول عَلَامَات صَاحِبيهِ لِأَن مَعَانِيهَا لَا تصُح فِيهِ
فصل

وَمن علاماته أَنه لاينعقد مِنْهُ وَمن الِاسْم وَحده وَلَا من الْفِعْل وَحده فَائِدَة وَهُوَ معنى قَوْلهم الْحَرْف مَا لم يكن أحد جزئي الْجُمْلَة فَأَما حُصُول الْفَائِدَة بِهِ وبالاسم فِي النداء فلنيابته عَن الْفِعْل وَلذَلِك دَلَائِل تذكر فِي بَاب النداء إِن شَاءَ الله

(1/51)


بَاب الْإِعْرَاب وَالْبناء

الْإِعْرَاب عِنْد النَّحْوِيين هُوَ اخْتِلَاف آخر الْكَلِمَة لاخْتِلَاف الْعَامِل فِيهَا لفظا أَو تَقْديرا وَيدخل فِي هَذَا إِعْرَاب الِاسْم الصَّحِيح والمعتل فالمقصور يقدر على أَلفه الْإِعْرَاب كاللفظ وَلَيْسَ كَذَلِك آخر الْمَبْنِيّ فَإِن آخِره إِذا كَانَ ألفا لَا تقدر عَلَيْهِ حَرَكَة إِلَّا أَن يكون مِمَّا يسْتَحق الْبناء على الْحَرَكَة
فصل

وَفِي أَصله الَّذِي نقل مِنْهُ أَرْبَعَة أوجه أَحدهَا أَنه من قَوْلهم أعرب الرجل إِذا أبان عَمَّا قي نَفسه والحركات فِي الْكَلَام كَذَلِك لِأَنَّهَا تبين الْفَاعِل من الْمَفْعُول وتفرق بَين الْمعَانِي كَمَا فِي قَوْلهم ماأحسن

(1/52)


زيدا فَإِنَّهُ إِذا عري عَن الحركات احْتمل النَّفْي والاستفهام والتعجُب وَكَذَلِكَ قَوْلك ضرب زيدٌ عمرا لَو عرَيته من الْإِعْرَاب لم تعرف الْفَاعِل من الْمَفْعُول وَالثَّانِي أَنه من قَوْلك أعرب الرجل إِذا تكلم بالعربيَة كَقَوْلِهِم أعرب الرجل إِذا كَانَ لَهُ خيل عراب فالمتكلَم بِالرَّفْع وَالنّصب والجرَ متكلّم كَلَام الْعَرَب وَلَيْسَ الْبناء كَذَلِك لأنَّه لَا يخصَّ الْعَرَب دون غَيرهم وَالثَّالِث أنَّه من قَوْلهم أعْرَبْتُ مَعِدةَ الفصيل إِذا عربت أيْ فَسدتْ من شرب اللَّبن فأصْلحتها وازلت فَسَادهَا فالهمزةُ فِيهِ همزَة السَّلب كَقَوْلِك عتب عليَّ فأعتبته وشكا فأشكيته وَالرَّابِع أنُّه مَأْخُوذ من قَوْلهم امْرَأَة عروب أَي متحبّبة إِلَى زَوجهَا بتحسُّنها فالإعراب يجبّب الْكَلَام إِلَى المستمع
فصل

وَالْإِعْرَاب معنى لَا لفظ لأربعة أوجه

(1/53)


أحدُها أنَّ الْإِعْرَاب هُوَ الِاخْتِلَاف على مَا سبق فِي حدّه وَالِاخْتِلَاف معنى لالفظ والثانى أنَّه فاصل بَين الْمعَانِي والفصل والتمييز معنى لالفظ وَالثَّالِث أنَّ الحركات تُضَاف إِلَى الْإِعْرَاب فَيُقَال حركات الْإِعْرَاب وضمَّه إِعْرَاب وَالشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفسه وَالرَّابِع أنَّ الْحَرَكَة والحرف يكونَانِ فِي المبنيّ وَقد تَزُول حَرَكَة المعرب بِالْوَقْفِ مَعَ الحكم بإعرابه وَقد يكون السّكُون إعراباً وَهَذَا كلّه دَلِيل على أنَّ الْإِعْرَاب معنى
فصل

وَالْأَصْل فِي عَلَامَات الْإِعْرَاب الحركات دون الْحُرُوف لثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّ الْإِعْرَاب دالٌّ على معنى عَارض فِي الْكَلِمَة فَكَانَت علامته حَرَكَة عارضة فِي الْكَلِمَة لما بَينهمَا من التناسب والثانى أنَّ الْحَرَكَة أيسر من الْحَرْف وَهِي كَافِيَة فِي الدّلَالَة على الْإِعْرَاب وَإِذا حصل الْغَرَض بالأخصر لم يصر إِلَى غَيره وَالثَّالِث أنَّ الْحَرْف من جملَة الصِّيغَة الداَّلة على معنى الْكَلِمَة اللَّازِم لَهَا فَلَو جعل

(1/54)


الْحَرْف دَلِيلا على الْإِعْرَاب لادَّى ذَلِك إِلَى أَن يدلَّ الشَّيْء الْوَاحِد على معنيَيْن وَفِي ذَلِك اشْتِرَاك وَالْأَصْل أنْ يُخصَّ كلُّ معنى بِدَلِيل
فصل

فأمَّا الْإِعْرَاب بالحروف فلتعذُّر الْإِعْرَاب بالحركة وسترى ذَلِك فِي موَاضعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل

وإنَّما كَانَت ألقاب الْإِعْرَاب أَرْبَعَة ضَرُورَة إِذْ لَا خَامِس لَهَا وَذَلِكَ أنَّ الْأَعْرَاض إمَّا حَرَكَة وإمَّا سُكُون والسكون نوع وَاحِد والحركات ثَلَاث فَمن هُنَا انقسمت إِلَى هَذِه العدَّة
فصل

وَالْإِعْرَاب دخل الْأَسْمَاء لمسيس الْحَاجة إِلَى الْفَصْل بَين الْمعَانِي على مَا سبق وَقَالَ قُطْرُب دخل الْكَلَام اسْتِحْسَانًا لأنَّ المتكلَّم يصل بعض كَلَامه بِبَعْض وَفِي

(1/55)


تسكين أَوَاخِر الْكَلم فِي الْوَصْل كُلْفة فحرَّك تسهيلا على الْمُتَكَلّم وَلَو المكتلّم لَو كَانَ الْإِعْرَاب لحَاجَة الْفَصْل وللفرق لَا ستغني عَنهُ بِتَقْدِيم الْفَاعِل على الْمَفْعُول ولكان الاَّتفاق فِي الْإِعْرَاب يُوجب الأتفاق فِي الْمعَانِي وَلَيْسَ كَذَلِك أَلا ترى أنَّ قَوْلك زيد قَائِم مثل قَوْلك هَل زيدٌ قَائِم وقولك إنَّ زيدا قَائِم مثل قَوْلك زيد قَائِم فِي الْمَعْنى وَالْجَوَاب عَّما قَالَه من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السّكُون أسهل على المتكلَّم من الْحَرَكَة والثانى أنَّ الْغَرَض لَو كَانَ مَا ذكر لَكَانَ المتكلَّم بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ حرَّك بِأَيّ حَرَكَة شَاءَ وأنَّ شَاءَ سكَّن وَأما التَّقْدِيم فَجَوَابه من وَجْهَيْن أَحدهمَا أنَّه لَا يُمكن فِي كلَّ مَكَان أَلا ترى أنَّ التَّقْدِيم فِي قَوْلك ماأحسن زيدا غيرُ مُمكن والثانى أنَّ فِي لُزُوم التَّقْدِيم تضييقاً على المتكلَّم مَعَ حَاجته إِلَى التسجيع وَإِقَامَة القافية

(1/56)


وأمَّا اخْتِلَاف الْإِعْرَاب مَعَ اتَّفاق الْمَعْنى وَعَكسه فشيء عَارض جَازَ لضرب من التَّشْبِيه بالأصول فَلَا يُنَاقض بِهِ
فصل

وَاخْتلفُوا هَل الْإِعْرَاب سَابق على الْبناء أم الْعَكْس فالمحقَّقون على أنَّ الْإِعْرَاب سَابق لأنَّ وَاضع اللُّغَة حَكِيم يعلم أنَّ الْكَلَام عِنْد التَّرْكِيب لَا بدّ أَن يعرض فِيهِ لَبْس فحكمته تَقْتَضِي أَن يضع الْإِعْرَاب مُقَارنًا للْكَلَام
وَقَالَ الْآخرُونَ تكلَّمت الْعَرَب بالْكلَام عَارِيا من الْإِعْرَاب فلمَّا عرض لَهُم اللبْس أزالوه بالإعراب وَهَذَا لَا يَلِيق بحكمتهم
فصل

وَاخْتلفُوا فِي حركات الْإِعْرَاب هَل هِيَ أصلٌ لحركات الْبناء أم بِالْعَكْسِ أم كلُّ وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَوْضِعه أصل فَذهب قوم إِلَى الأوَّل وعلته أَن حركات الْإِعْرَاب دوالٌّ على معَان حَادِثَة بعلَّة بِخِلَاف حركات الْبناء وَمَا ثَبت بعلَّة أصل لغيره

(1/57)


وَذهب قوم إِلَى الثَّانِي وعلَّته أَن حَرَكَة الْبناء لَازِمَة وحركة الْإِعْرَاب منتقلة وَاللَّازِم أصلٌ للمتزلزل إذْ كَانَ أقوى مِنْهُ وَهَذَا ضَعِيف لِأَن نقل حركات الْإِعْرَاب كَانَ لِمَعْنى وَلُزُوم حَرَكَة الْبناء لغيره معنى
وَذهب قوم إِلَى الثَّالِث لأنَّ الْعَرَب تكلًّمت بالإعراب وَالْبناء فِي أول وضع الْكَلَام وكلّ وَاحِد مِنْهُمَا لَهُ علَّة غير علَّة الآخر فَلَا معنى لبِنَاء أَحدهمَا على الآخر
فصل

وإنَّما كَانَ مَوضِع حَرَكَة الْإِعْرَاب آخر الْكَلِمَة لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أنَّ الْإِعْرَاب جِيءَ بِهِ لِمَعْنى طَارِئ على الْكَلِمَة بعد تَمام مَعْنَاهَا وَهُوَ الفاعلية والمفعوليَّة فَكَانَ مَوضِع الدالّ عَلَيْهِ بعد اسْتِيفَاء الصِّيغَة الداَّلة على الْمَعْنى اللَّازِم لَهَا وَلَيْسَ كَذَلِك لَام التَّعْرِيف وَألف التكسير وياء التصغير لأنَّ التَّعْرِيف والتكسير والتصغير كالأوصاف اللَّازِمَة للكلمة بِخِلَاف مَدْلُول الْإِعْرَاب

(1/58)


والثانى أنَّ حَرَكَة الْإِعْرَاب تثبت وصلا وتحذف وَقفا وإنَّما يُمكن هَذَا فِي آخر الْكَلِمَة إِذْ هُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَالثَّالِث أنَّ أوَّل الْكَلِمَة لَا يُمكن إعرابُه لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَن َّمن الْإِعْرَاب السّكُون والابتداُء بالساكن مُمْتَنع والثانى أنَّ أوَّل الْكَلِمَة متحرَّك ضَرُورَة وحركة الْإِعْرَاب تحدث بعامل والحرف الْوَاحِد لَا يحْتَمل حركتين وَالثَّالِث أنَّ تحرُّك الأوَّل بحركة الْإِعْرَاب فأمَّا يُفْضِي إِلَى اخْتِلَاط الْأَبْنِيَة وَلَا يُمكن أَن يجُعل الْإِعْرَاب فِي وسط الْكَلِمَة لأربعة أوجه أَحدهَا مَا تقدَّم من الْوَجْه الْأَخير فِي منع تَحْرِيك الأول وَالثَّانِي أنَّه يُفْضِي إِلَى الْجمع بَين ساكنين فِي بعض الْمَوَاضِع وَالثَّالِث أَنه يُفْضِي إِلَى توالي أَربع متحركات فِي كلمة وَاحِدَة ك (مدحرج) إِذا تحرَّكت الْحَاء إِذْ لَيْسَ مَعَك مَا يُمكن تحريكُهُ من الحشو غَيره

(1/59)


وَالرَّابِع أنَّ حَشْو الْكَلِمَة قد يكون حروفاً كَثِيرَة وَتَعْيِين وَاحِد مِنْهَا بحركة الْإِعْرَاب لَا دَلِيل عَلَيْهِ
فصل

وألقاب الْإِعْرَاب أَرْبَعَة رفع وَنصب وجرٌّ وَجزم وألقاب الْبناء ضمٌّ وفتحّ وَكسر ووقف وَتَسْمِيَة كلّ وَاحِد مِنْهَا باسم الآخر تجوز وإنَّما فرَّقوا بَينهَا فِي التَّسْمِيَة لافتراقها قي الْمَعْنى وَذَلِكَ أنَّ حَرَكَة الْإِعْرَاب تحدث عَن عَامل وحركة الْبناء لَا تحدث عَن عَامل وَإِذا اخْتلفت الْمعَانِي اخْتلفت الْأَسْمَاء الداَّلة عَلَيْهَا ليَكُون كلّ اسْم دالاًّ على معنى من غير اشْتِرَاك وَهُوَ أقرب إِلَى الأفهام

(1/60)


فصل

وإنَّما خصّوا الْإِعْرَاب بِالرَّفْع لأنَّ الرّفْع ضمَّة مخصومة وَالنّصب فَتْحة مخصومة وَكَذَلِكَ الجرَّ والجزم وحركة الْبناء حَرَكَة مُطلقَة وَالْوَاحد الْمَخْصُوص من الْجِنْس لَا يُسمى باسم الْجِنْس كالواحد من الْآدَمِيّين إِذا أردْت تَعْرِيفه علَّقت عَلَيْهِ علما كزيد وَعَمْرو وَلَا تسمَّيه رجلا لَا اشْتِرَاك الْجِنْس فِي ذَلِك فضَّمة الْإِعْرَاب كالشخص الْمَخْصُوص وضمة الْبناء كالواحد الْمُطلق
فصل

وَالْحَرَكَة مَعَ الْحَرْف لَا بعده وَلَا قبله وَقَالَ قومٌ مِنْهُم ابْن جني هِيَ بعده وَالدَّلِيل على الأوَّل من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن الْحَرْف يُوصف بالحركة فَكَانَت مَعَه كالمدَّ والجهر والشدَّة وَنَحْو ذَلِك وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لأنَّ صفة الشَّيْء كالعرض وَالصّفة العرضية لَا تتقدَّم الْمَوْصُوف وَلَا تتأخر عَنهُ إِذْ فِي ذَلِك قيامُها بِنَفسِهَا

(1/61)


وَالثَّانِي أنَّ الْحَرَكَة لَو لم تكن مَعَ الْحَرْف لم تقلب الْألف إِذا حرَّكتها همزَة وَلم تخرج النُّون من طرف اللِّسَان إِذا حركتها بل كنت تخرجها من الخيشوم وَفِي الْعُدُول عَن ذَلِك دَلِيل على أَن الْحَرَكَة مَعهَا
واحتجَّ من قَالَ هِيَ بعد الْحَرْف بِوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّك لَمَّ لمْ تُدْغَم الْحَرْف المتحرك فِيمَا بعده نَحْو (طلل) دلّ على أَن بَينهمَا حاجزاً وَلَيْسَ إلاَّ الْحَرَكَة
وَالثَّانِي أنَّك إِذا أشبعت الْحَرَكَة نَشأ مِنْهَا حرف والحرف لَا ينشأ مِنْهُ حرف آخر فَكَذَلِك مَا قاربه

(1/62)


وَالْجَوَاب عَن الأوَّل أنَّ الْإِدْغَام امْتنع لتحصنُّ الأوَّل بتحرُّكه لَا لحاجز بينهماكما يتحصَّن بحركته عَن الْقلب نَحْو (عوض)
وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَّ حُدُوث الْحَرْف عَن الْحَرَكَة كَانَ لأنَّها تجانس الْحَرْف الْحَادِث فهى شَرط لحدوثه وَلَيْسَت بَعْضًا لَهُ وَلِهَذَا إِذا حُذف الْحَرْف بقيت الْحَرَكَة بِحَالِهَا وَلَو كَانَ الْحَادِث تَمامًا للحركة لم تبْق الْحَرَكَة وَمن سمَّى الْحَرَكَة بعض الْحَرْف أَو حرفا صَغِيرا فقد تجوّز وَلِهَذَا لَا يصحُّ النُّطْق بالحركة وَحدهَا والثانى لَو قدَّرنا أنَّ الْحَرَكَة بعض الْحَرْف الْحَادِث لم يمْتَنع أَن يقارن الْحَرْف الأوَّل كَمَا أنَّه ينْطق بالحرف المشدَّد حرفا وَاحِدًا وَإِن كَانَا حرفين فِي التَّحْقِيق إلاَّ أنَّ الأوَّل لَمَّا ضعف عَن الثَّانِي أمكن أَن يصاحبه وَالْحَرَكَة أَضْعَف من الْحَرْف السَّاكِن فَلم يمْتَنع أَن يصاحب الْحَرْف
فصل

ويتعلَّق بِهَذَا الِاخْتِلَاف مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي أنَّ الْحَرْف غير مُجْتَمع من الحركات عِنْد الْمُحَقِّقين لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّ الْحَرْف أَصله السّكُون ومحالٌ اجْتِمَاع سَاكن من حركات وَالثَّانِي أنَّ الْحَرْف لَهُ مخرج مَخْصُوص وَالْحَرَكَة لَا تختصُّ بمخرج وَلَا معنى لقَوْل

(1/63)


من قَالَ إِنَّه يجْتَمع من حركتين لأنَّ الْحَرَكَة إِذا أشبعت نَشأ الْحَرْف المجانس لَهَا لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا مَا سبق من أنَّ الْحَرَكَة لَيست بعض الْحَرْف
وَالثَّانِي أنَّك إِذا أشبعت الْحَرَكَة نَشأ مِنْهَا حرف تامّ وَتبقى الْحَرَكَة قبله بكمالها فَلَو كَانَ الْحَرْف حركتين لم تبْق الْحَرَكَة قبل الْحَرْف

(1/64)


فصل

وَقد سبق أنَّ المعرب بحقَّ الأَصْل الإسمُ المتمكَّن فأمَّا الْفِعْل الْمُضَارع فَفِيهِ اخْتِلَاف يُذكر فِي بَاب الْأَفْعَال
فصل

فِيمَا يستحقّه الإسم وَهُوَ الرّفْع وَالنّصب والجرّ لأنَّه يَقع على ثلاثةِ مَعان الفاعليَّة والمفعوليَّة وَالْإِضَافَة فَخُصَّ كل معنى مِنْهَا بإعراب يدلُّ عَلَيْهِ فأمَّا مَا يخصّص كلّ وَاحِد مِنْهَا بِمَا خُصَّ بِهِ فيذكر فِي بَابه
فصل

وَلم يدْخل الْجَزْم الْأَسْمَاء لستَّة أوجه
أَحدهَا أنَّ الْإِعْرَاب دخل الْأَسْمَاء لِمَعْنى على مَا سبق وَقد وفت الحركات بذلك الْمَعْنى وَهُوَ الْفرق بَين الْفَاعِل وَالْمَفْعُول والمضاف إِلَيْهِ وَلَيْسَ ثَمَّ معنى رَابِع يدلُّ عَلَيْهِ الْجَزْم
والثانى أنَّ الْجَزْم لَيْسَ بِأَصْل فِي الْإِعْرَاب لأنَّه سُكُون فِي الأَصْل والسكون عَلامَة المبنيّ اصلّ فِي الْبناء بِشَهَادَة الحسّ والوجدان إلاَّ أنَّه جُعل إعرابا فرعا فَخُصَّ بِمَا إعرابه فرع وَهُوَ الْفِعْل
وَالثَّالِث أنَّ الْجَزْم دخل عوضا من الجرَّ فِي الْأَسْمَاء فَلَو دخل الْأَسْمَاء لجمع لَهَا بَين الْعِوَض والمعَّوض

(1/65)


بَاب الْبناء

حدُّ الْبناء لُزُوم آخر الْكَلِمَة سكوناً أَو حَرَكَة وَهُوَ ضدُّ الْإِعْرَاب وَالْبناء بأوَّل الْكَلِمَة وحشوها أشْبَه للزومه إلاَّ أنَّ آخر الْكَلِمَة إِذا لزم طَريقَة وَاحِدَة صَار كحشوها
فصل

وَالْبناء فِي الأَصْل وضع الشَّيْء على الشَّيْء على وصف يثبت كبناء الْحَائِط وَمِنْه سُمّي كلّ مُرْتَفع ثَابت بِنَاء كالسَّماء وَبِهَذَا الْمَعْنى اسْتَعْملهُ النحويُّون على مَا سبق
فصل

وَالْأَصْل فِي الْبناء السّكُون لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّه ضدُّ الْإِعْرَاب وَالْإِعْرَاب يكون بالحركات فضدَّه يكون بِالسُّكُونِ
وَالثَّانِي أنَّ الْحَرَكَة زيدت على المعرب للْحَاجة إِلَيْهَا وَلَا حَاجَة إِلَى الْحَرَكَة فِي المبنيّ إِذْ لَا تدل على معنى

(1/66)


بَاب المعرب والمبنيّ
إنَّما أُخَّرا عَن الْإِعْرَاب وَالْبناء لأنَّهما مشتقان مِنْهُ إِذْ كَانَ الْإِعْرَاب وَالْبناء مصدرين والمشتق مِنْهُ أصلُ للمشتق
فصل

وَلَيْسَ فِي الْكَلَام كلمة معربة لَا مُعْربه وَلَا مَبْنِيَّة هـ عِنْد المحَّققين لأنَّ حدَّ المعرب ضدّ حدّ الْمَبْنِيّ على مَا سبق وَلَيْسَ بَين الضّدَّين هُنَا وَاسِطَة
وَذهب قوم إِلَى أنَّ الْمُضَاف إِلَى يَاء المتكلَّم غير مبنيّ إِذْ لَا علَّة فِيهِ توجب الْبناء وَغير مُعرب إِذْ لَا يُمكن ظُهُور الْإِعْرَاب فِيهِ مَعَ صحَّة حرف إعرابه وسمَّوْه (خصيّاً) وَالَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ فَاسد لأنَّه مُعرب عِنْد قوم مبنيٌّ عِنْد آخَرين وسنبين ذَلِك على أنًّ تسميتهم إيَّاه (خصيّاً) خطأ لِأَن الخصيَّ ذكر حَقِيقَة وَأَحْكَام الذُّكُور ثَابِتَة لَهُ وَكَانَ الْأَشْبَه بِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَن يسمُّوه (خُنْثَى مُشكلا)

(1/67)


وَالرَّابِع أنَّ الْجَزْم حذف وَذَلِكَ تَخْفيف فيليق بِالْفِعْلِ لثقله أما الِاسْم فخفيف فجزمه يحذف مِنْهُ التَّنْوِين وَالْحَرَكَة وَذَلِكَ إجحاف بِهِ
وَالْخَامِس أنَّ الْجَزْم فِي الْأَسْمَاء يسْقط التَّنْوِين وَهُوَ دَلِيل الصّرْف وَالْحَرَكَة الَّتِى هِيَ دَلِيل الْمَعْنى وَلَيْسَ كَذَلِك جزم الْأَفْعَال
وَالسَّادِس أنَّ الْجَزْم يحدث بعوامل لَا يصحٌّ مَعْنَاهَا فِي الْأَسْمَاء
فصل

وَلم تُجرَّ الأفعالُ لستَّة أوجه أَحدهَا أنَّ الجرَّ فِي الْأَسْمَاء لَيْسَ بِأَصْل إِذْ كَانَ الأصلُ الرّفْع للْفَاعِل وَمَا حُمل عَلَيْهِ وَالنّصب للْمَفْعُول وَمَا حمل عَلَيْهِ وأمَّا الجرُّ فبالحرف وَمَا قَامَ مقَامه وَمَوْضِع الجارّ وَالْمَجْرُور رفع وَنصب فَحمل الْفِعْل على الِاسْم فِيمَا هُوَ أصلٌ فِيهِ
وَالثَّانِي أنَّ الْفِعْل مَحْمُول على الِاسْم فِي الْإِعْرَاب فَيَنْبَغِي أَن يحمل عَلَيْهِ فِي أَضْعَف أَحْوَاله وعامل الرّفْع فِي الْأَسْمَاء قويّ وَهُوَ اللفظيّ وَضَعِيف وَهُوَ الْمَعْنَوِيّ فَحمل

(1/68)


الْفِعْل فِي الرّفْع على الْعَامِل الضَّعِيف فارتفع الْفِعْل لوُقُوعه موقع الِاسْم وَكَذَلِكَ عَامل النصب فِي الْأَسْمَاء قويّ وَهُوَ الْفِعْل وَضَعِيف وَهُوَ الْحَرْف فَحمل الْفِعْل عَلَيْهِ فِي الْعَامِل الضَّعِيف فَلم يفعل فِي الْفِعْل إلاّ الْحَرْف وأمَّا الجُّر فَلَيْسَ لَهُ إلاَّ عَامل وَاحِد وَهُوَ الْحَرْف وأمَّا الْإِضَافَة فمقدَّرة بِحرف الجرِّ فَلَيْسَ للجرِّ إلاَّ عَامل وَاحِد فَلم يكن حمل الْفِعْل عَلَيْهِ إِذْ يلْزم مساواته لَهُ
وَالْوَجْه الثَّالِث أنَّ إِعْرَاب الْفِعْل فرع على إِعْرَاب الِاسْم وَلَو أعرب بالجرِّ وَقد أعرب بِالرَّفْع وَالنّصب لَكَانَ الْفَرْع مُسَاوِيا للْأَصْل
وَالرَّابِع أنَّ الْجَزْم دخل الْأَفْعَال وتعذَّر دُخُوله على الْأَسْمَاء لما تقدَّم فَلَو جُرَّت الْأَفْعَال لزادت على الْأَسْمَاء فِي الْأَعْرَاب
الْخَامِس أنَّ الجرّ يكون بِالْإِضَافَة وَالْإِضَافَة توجب أَن يكون الْمُضَاف إِلَيْهِ دَاخِلا فِي الْمُضَاف معاقباً للتنوين وَلَيْسَ من قوَّةِ التَّنْوِين أَن يَقع موقعه الْفِعْل وَالْفَاعِل وَفِي امْتنَاع الْإِضَافَة إِلَى الْأَفْعَال أوجهٌ يطول ذكرهَا وسنذكرها فِي بَاب الْإِضَافَة إِن شَاءَ الله
وَالسَّادِس أنَّ الجرَّ يكون بعامل لَا يصحُّ مَعْنَاهُ فِي الْفِعْل

(1/69)


فصل

وألقاب الْبناء أَرْبَعَة على عدَّة ألقابِ الْإِعْرَاب فالضمُّ فِي الْبناء كالرفع فِي المعرب والفتحُ كالنَّصب والكسرُ كالجرّ وَالْوَقْف كالجزم فأمَّا مَا يبْنى على هَذِه الْأَشْيَاء من الْكَلَام فسنذكره بعد الْفَرَاغ من المعرب إِن شَاءَ الله تَعَالَى

(1/70)


بَاب

الِاسْم الصَّحِيح

فصل

الصَّحِيح والمعتلُّ فِي الْأَسْمَاء من صِفَات الْأَسْمَاء المعربة المفردة وَمَا كَانَ فِي حكمهَا من جمع التكسير وَلَا يُقَال فِي (حيثُ وَأَيْنَ وأمس) هِيَ أَسمَاء صَحِيحَة وَلَا فِي (إِذا وَمَتى) معتلّ لِأَن حد الِاسْم الصَّحِيح هُوَ الَّذِي يتعاقب على الْحَرْف الْأَخير مِنْهُ حركات الْإِعْرَاب الثَّلَاث وَهُوَ أَوْلى من قَوْلك الصَّحِيح مَا لم يكن حرف إعرابه ألفا وَلَا يَاء قبلهَا كسرة لأنَّ المثنَّى قد يكون بِهَذِهِ الصّفة وَلَا يسمَّى صَحِيحا ولأنَّ الحدَّ الأوَّل إِثْبَات مَحْض وَالثَّانِي نفي والحدُّ الْحَقِيقِيّ لَا يكون نفيا لأنَّ الحدَّ الحقيقيَّ مَا أبان عَن حَقِيقَة الْمَحْدُود وَالنَّفْي لَا يبين عَن حَقِيقَة الْمَحْدُود
فصل

وَفِي اشتقاق الصّرْف هُنَا وَجْهَان أَحدهمَا هُوَ من صريف الناب والبكرة والقلم وهوالصوت الَّذِي يكون من هَذِه الْأَشْيَاء وعَلى هَذَا يكون الصّرْف هُوَ التَّنْوِين وَحده لأنَّه صَوت يلْحق آخر الِاسْم

(1/71)


وَالثَّانِي هُوَ من صرفت الشَّيْء وصرَّفته إِذا ردَّدته وقلَّبته فِي الْجِهَات وعَلى هَذَا يكون الجرُّ من الصّرْف إِذْ بِهِ يزِيد تقليب الْكَلِمَة والأوَّل هُوَ الْوَجْه
فصل
وَاخْتلف النحويُّون فِي الصّرْف فمذهب المحقَّقين أنَّه التَّنْوِين وَحده وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الجرُّ مَعَ التَّنْوِين وَالدَّلِيل على الأوًّل من أَرْبَعَة أوجه
أَحدهَا أنَّه مُطَابق لاشتقاق اسْم الصّرْف على مَا تقدَّم
وَالثَّانِي أنَّ الِاسْم الَّذِي لَا ينْصَرف يدْخلهُ الجرَّ مَعَ الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة مَعَ وجود العلَّة الْمَانِعَة من الصّرْف
الثَّالِث أنَّ الشَّاعِر إِذا اضْطر إِلَى تَنْوِين الْمَرْفُوع والمنصوب قيل قد صرف للضَّرُورَة وَلَا جرَّ هُنَاكَ

(1/72)


وَالرَّابِع أنَّه إِذا اضْطر إِلَى التَّنْوِين فِي الجرَّ جرَّ ونوَّن وَلَو كَانَ الجرَّ من الصّرْف لفتح ونوَّن لِأَن ضَرُورَته لَا تَدْعُو إِلَى الْكسر
واحتجَّ الْآخرُونَ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أنَّ الصّرْف من التصريف وَهُوَ التقليب والجرُّ زِيَادَة تَغْيِير فِي الِاسْم فَكَانَ من الصّرْف وَالثَّانِي أنَّ التَّنْوِين مُنع مِنْهُ هَذَا الِاسْم لشبهه بِالْفِعْلِ لكَونه من خَصَائِص الْأَسْمَاء والجرّ بِهَذِهِ الصّفة فَيكون من جملَة الصّرْف وَالْجَوَاب عَن الأوَّل من وَجْهَيْن أحُدهما أنَّ مَا ذَكرُوهُ لوصحَّ لم يكن التَّنْوِين من الصّرْف لِأَنَّهُ لَيْسَ من وُجُوه تقليب الْكَلِمَة بل هُوَ تَابع لما هُوَ تقليب وَالثَّانِي أنَّ الرّفْع وَالنّصب تقليب وَلَيْسَ من الصّرْف وَأما الثَّانِي فَلَا يصحُّ أَيْضا لأنَّ الْألف اللَّام وَغَيرهَا من خَصَائِص الِاسْم لَا تُمَّسى صرفا وَكَذَلِكَ الْجَرّ

(1/73)


فصل

إنَّما زادوا التَّنْوِين فِي المنصرف دون غَيره من الْحُرُوف لأنَّ حُرُوف المدَّ تعدَّدت زيادتها لما فِيهَا من الثّقل وَمَا يلْحقهَا من التَّغْيِير بِحَسب مَا قبلهَا من الحركات وَالنُّون أشبه بحروف المدَّ لما فِيهَا من الغنَّة ويؤمن فِيهَا مَا خيف من حُرُوف المدَّ
فصل

والتنوين مصدر (نوَّنت) وَحَقِيقَته نون سَاكِنة تزاد فِي آخر الِاسْم المعرب وَيثبت فِي الْوَصْل دون الْوَقْف وإنَّما سميَّ تنوينا لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّه حَادث بِفعل النَّاطِق بِهِ وَلَيْسَ من سنخ الْكَلِمَة
وَالثَّانِي أنَّهم فرَّقوا بَين النُّون الثَّابِتَة وصلا ووقفاً وَبَين هَذِه النُّون
فصل

وَاخْتلفُوا فِي علَّة زِيَادَة التَّنْوِين على أَرْبَعَة أَقْوَال

(1/74)


أحدُها أنَّه زيد عَلامَة على خفَّة الِاسْم وتمكّنُه فِي بَاب الاسمَّية وَهُوَ قَول سِيبَوَيْهٍ وَذَلِكَ أنَّ مَا يشبه الْفِعْل من الْأَسْمَاء يثقل وَلَا يحْتَمل الزِّيَادَة وَمَا يشبه الْحَرْف يبْنى وَمَا عري من شبههما يَأْتِي على خفَّته فَالزِّيَادَة عَلَيْهِ تشعر بذلك إِذْ الثقيل لَا يثقّل
وَالْقَوْل الثَّانِي أنَّه فرَّق بَين المنصرف وَغير المنصرف وَهُوَ قَول الفرَّاء وَهَذَا يرجع إِلَى قَول سِيبَوَيْهٍ إلاَّ انَّ الْعبارَة مضطربة لأنَّ مَعْنَاهَا أنَّ النُّون فُرَّق بهَا بَين مَا ينوَّن وَبَين مَا لَا ينون وَذَا تَعْلِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ
وَالْقَوْل الثَّالِث أنَّ التَّنْوِين فُرَّق بِهِ بَين الِاسْم وَالْفِعْل وَهَذَا فَاسد لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ مَا لَا ينْصَرف اسْم وَمَعَ هَذَا لَا ينوَّن وَالثَّانِي أنَّ الفوراق بَين الِاسْم وَالْفِعْل كَثِيرَة كالألف وَاللَّام وحروف الجرَّ وَالْإِضَافَة فَلم يُحْتَجْ إِلَى التَّنْوِين

(1/75)


وَالْقَوْل الرَّابِع أنَّه فرَّق بَين الْمُفْرد والمضاف وَهَذَا أَيْضا فَاسد من ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَن غير المنصرف يكون مُفردا وَلَا ينوَّن
وَالثَّانِي أَن الْمُفْرد مفارق للمضاف لِأَنَّهُ يَصح السُّكُوت عَلَيْهِ والمضاف إِلَيْهِ كجزء من الْمُضَاف وَالثَّالِث أَن مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام مُفْرد وَلَا ينون
فصل

والمستحق للتنوين الِاسْم النكرَة المذكَّر لِأَن الْغَرَض من زِيَادَة التَّنْوِين التَّنْبِيه على خفَّة الإسم وأخفَّ الأسم النكرَة الْمُذكر فَأَما الِاسْم الْعلم مثل (زيد) والنكرة المؤنثة مثل (شَجَرَة) فَدَخلَهَا التَّنْوِين لثَلَاثَة أوجه

(1/76)


أَحدهَا أنَّهما أشبها الْفِعْل من وَجه وَاحِد وَالِاسْم أصلٌ للْفِعْل ومشابهة الْفَرْع للْأَصْل من وَجه وَاحِد ضَعِيفَة فَلَا تجذبه إِلَى حكمه بل غَايَة مَا فِيهِ أَن يصير الْوَجْه الْوَاحِد من الشّبَه مُعَارضا بِأَصْل الِاسْم إلاَّ أنَّه لَا يرجَّح الْفِعْل عَلَيْهِ حتَّى يلْحق الِاسْم بِهِ
وَالثَّانِي أنَّ تَعْرِيف الْعلم بِالْوَضْعِ فامَّا اللَّفْظ فَمثل لفظ النكرَة وَلِهَذَا يتنكر الْعلم كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد وَزيد آخر وَلَيْسَ كَذَلِك الْألف وَاللَّام
وَالثَّالِث أنَّ الْعلم متوسَّط بَين مَا أشبه الْفِعْل من وَجْهَيْن وَبَين مَا لم يشبْه البتَّة وإلحاقه بِمَا لم يشبه الْفِعْل أولى لِأَنَّهُ أصلٌ للأفعال وإلحاق الْفُرُوع بالأصول أوْلى
فصل

وإنَّما لم يجْتَمع التَّنْوِين وَالْألف وَاللَّام لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّ الِاسْم ثقل بِالْألف وَاللَّام فَلم يحْتَمل زِيَادَة أُخْرَى
وَالثَّانِي أنَّ الْألف وَاللَّام يعرَّف الِاسْم فَيصير متناولاً لشيْ بِعَيْنِه فيثقل بذلك بِخِلَاف النكرَة فَإِنَّهَا أخف الْأَسْمَاء

(1/77)


فصل

ويتعلَّق بِهَذَا الْكَلَام بَيَان خفَّة النكرَة وَثقل الْفِعْل أمَّا النكرَة فَإِنَّهَا أخف إِذا كَانَ مدلولها معنى وَاحِدًا كَقَوْلِك (رجلٌ) وَالسَّامِع يدْرك معنى هَذَا اللَّفْظ بِغَيْر فكرة وأمَّا (زيد) وَنَحْوه من الْأَعْلَام فَيتَنَاوَل وَاحِدًا معينَّاً يَقع فِيهِ الأشتراك فَيحْتَاج إِلَى فواصل تميزَّه
فصل

وأمَّا ثقل الْفِعْل فَظَاهر وَذَلِكَ أنَّ لَفظه يلْزمه الْفَاعِل والمفاعيل من الظرفين وَغَيرهمَا والمصدر وَالْحَال ويدلُّ على حدث وزمان ويتصرَّف تصرَّفاً تخْتَلف بِهِ الْمعَانِي بِخِلَاف الِاسْم فإنَّه لَا يدُّل إلأَّ على معنى وَاحِد
فصل

وإنَّما لم يجْتَمع التَّنْوِين وَالْإِضَافَة لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّ التَّنْوِين فِي الأَصْل دَلِيل التنكير وَالْإِضَافَة تعرَّف أَو تخصَّص فَلم يجمع بَينهمَا لتنافي معنييهما

(1/78)


وَالثَّانِي أنَّ التَّنْوِين جعل دَلِيلا على أنتهاء الِاسْم والمضاف إِلَيْهِ من تَمام الْمُضَاف فَلَو نوَّن الأوَّل لَكَانَ كإلحاق التَّنْوِين قبل مُنْتَهى الِاسْم وَهَذَا معنى قَوْلهم التَّنْوِين يُؤذن بالانفصال وَالْإِضَافَة تؤذن بالأتِّصال فَلم يجتمعا
فصل

وَالْكَلَام فِي غير المنصرف يسْتَوْفى بِجَمِيعِ أَحْكَامه فِي بَاب مَا لَا ينْصَرف إِن شَاءَ الله

(1/79)


بَاب الِاسْم المعتلّ

الِاسْم المعتلّ مَا آخِره ألف أَو يَاء قبلهَا كسرة وسُمَّي (مُعْتَلًّا) لأنَّ حرف إعرابه حرف علَّة وحروف العلَّة الْألف وَالْوَاو وَالْيَاء غير أنَّ الْوَاو المضموم مَا قبلهَا لم تقع فِي آخر الِاسْم بِحَال
وانَّما سميت (حُرُوف علَّة) لأنَّ العلَّة هِيَ الْمَعْنى المغيّر للشَّيْء وَهَذِه الْحُرُوف يكثر تغييرها وَوصف الاسمُ بِكَمَالِهِ بالاعتلال وإنْ كَانَ حرف العلَّة جُزْء اً مِنْهُ كَمَا وصف بالإعراب وَهُوَ فِي حرف مِنْهُ
وَمذهب التصريفيين أَن يُقَال معتلّ اللَّام كَمَا يقالُ معتلّ الْفَاء ومعتلّ الْعين وَلم يحْتَج النحويّ إِلَى ذَلِك لأنَّ عنايته بالإعراب وَالْبناء الواقِعَيْن آخرا
فصل

والمنقوص مَا كَانَ آخِره يَاء قبلهَا كسرة وَلَا حَاجَة إِلَى قَوْلك يَاء خَفِيفَة لأنَّ الْيَاء المشدَّدة ياءان الاولى مِنْهُمَا سَاكِنة

(1/80)


فصل

وسُمَّي (منقوصاً) لأنَّه نُقِص فِي إعرابه الضمّ وَالْكَسْر وَبَقِي لَهُ النصب
فصل

وإنَّما لم تضم الْيَاء اليا هَهُنَا وَلم تكسر لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ الْيَاء مقدَّرة بكسرتين فَإِذا كَانَت قبلهَا كسرة ضَمَمتْها أَو كسرتها جمعت بَين أَربع حركات مستثقلة
وَالثَّانِي أنَّ الْيَاء خفيّة وتحريكها تكلُّف لإبانتها بِمَا هُوَ أَضْعَف مِنْهَا وَذَلِكَ شاق وَلِهَذَا قَالَ الْأَخْفَش ضمُّها أَو كسرهَا كالكتابة فِي السوَاد
فصل

إنَّما احتملت الفتحة لخفتُّها لأنَّها بعض الْألف وَالْألف أخفُّ حُرُوف المدِّ

(1/81)


وَبَعض الأخفِّ فِي غَايَة الخفَّة فإنْ قيل لَو كَانَ كَذَلِك لصحَّت الْوَاو وَالْيَاء فِي (دَار) و (بَاعَ) لانفتاحهما قيل الفتحة هُنَاكَ لَازِمَة بِخِلَاف فَتْحة الْمَنْصُوب هُنَا
فصل

وَإِذا كَانَت لَام الْكَلِمَة واواً مثل (غَازِي) فإنَّها سكنت وانكسر مَا قبلهَا فَانْقَلَبت يَاء فَإِذا نصبت فَقلت رَأَيْت غازياً لم تعد الْوَاو لئلاّ يخْتَلف حكمهَا فِي اسْم وَاحِد لأمر عَارض وَهَذَا أقرب من حملهمْ (أعد ونعد وتعد) فِي الْحَذف على (يعد)
فصل

إِذا كَانَ المنقوص منصرفاً حذفت ياؤه الساكنة وَبَقِي التَّنْوِين لأنَّهما ساكنان والجميع بَينهمَا متعذّر وتحريك الْيَاء لَا يجوز لوجهَيْن
أَحدهمَا الثّقل المهروب مِنْهُ

(1/82)


وَالثَّانِي أنَّه تَحْرِيك أوَّل الساكنين فِي كلمة وَاحِدَة وَذَلِكَ لَا يجوز لما نبيّنه فِي بَاب المبنيَّات وتحريك التَّنْوِين يثقله فَيتَعَيَّن الْحَذف وَحذف الْيَاء أوْلى لثَلَاثَة أوجه
أَحدهمَا أنَّ حذف أوَّل الساكنين فِي كلمة وَاحِدَة هُوَ الْقيَاس نَحْو لم يكن وَلم يبع لَا سِيمَا وَالْيَاء من حُرُوف العلّة وَالنُّون حرف صَحِيح
وَالثَّانِي أنَّ الْيَاء على حذفهَا دَلِيل
وَالثَّالِث أنَّ التَّنْوِين دخل لِمَعْنى فَحَذفهُ يخلُّ لَهُ بِخِلَاف الْيَاء
فصل

وَقد جَاءَ فِي ضَرُورَة الشّعْر ضمَّ الْيَاء وكسرُها فِي الرّفْع والجرِّ على الأَصْل وَقد سكنت الْيَاء أَيْضا فِي الشّعْر من الْمَنْصُوب قَالَ أَبُو العبَّاس وَهُوَ من أحسن الضَّرُورَة وَإِذ كَانَ تحريكها ثقيلاً بكلَّ حَال
فصل

وأمَّا الْمَقْصُور فكلّ اسْم آخِره ألف وَهَذَا يدْخل فِيهِ المذكَّر والمؤنث نَحْو

(1/83)


(الْقَفَا) و (الْعَصَا) و (ذكرى) و (حُبْلَى) وإنْ شِئْت قلت كلّ اسْم حرفُ إعرابه ألفٌ وَلَا تحْتَاج أَن تَقول ألف مُفْردَة إِذْ قَوْلك آخِره ألف يُغني عَن ذَلِك
فصل

والمقصور من قَوْلك قصرته أَي حَبسته وَمِنْه {حوٌر مقصوراتٌ فِي الْخيام} وَامْرَأَة قَصِيرَة ومقصورة أَي محبوسة فِي خدرها وَمِنْه قَول كثيَّر 2 -
(وأنْتِ الَّتِي حبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ وَمَا يَدْري بِذَاكَ القصايُر) -
(عَنَيْتُ قصيراتِ الحجالِ وَلم أُرِدْ ... قِصَارَ الْخطَا شرُّ النساءِ البحاتُر)
فصل

وَفِي معنى تَسْمِيَته (مَقْصُورا) أَرْبَعَة أوجه
أَحدهَا أنَّ الْإِعْرَاب قُصر فِيهِ فَيكون تَقْدِيره الْمَقْصُور فِيهِ الْإِعْرَاب ثمَّ حذف وَجعل اسْما للاسم الَّذِي هَذِه صفته
وَالثَّانِي أنَّه قُصر عَن الْإِعْرَاب أَي حبس عَن ظُهُور الْإِعْرَاب فِي لَفظه

(1/84)


وَالثَّالِث أنَّ صَوت الْألف المفردة أقصر من صَوتهَا إِذا وَقعت بعْدهَا همزَة فَكَانَ صَوتهَا مَحْبُوسًا عَن صَوت الْألف الَّتِي بعْدهَا همزَة وَالرَّابِع أنَّه نقيض الْمَمْدُود
فصل

وإنَّما لم تظهر فِي الْألف الْحَرَكَة لِأَنَّهَا هوائية تجْرِي مَعَ النَّفس لَا اعْتِمَاد لَهَا فِي الْفَم وَالْحَرَكَة تمنع الْحَرْف من الجري وتقطعه عَن استطاعته فَلم تجتمعا وَلِهَذَا إِذا حرّكت الْألف انقلبت همزَة
فصل

وَإِذا نوَّن الْمَقْصُور حذفت أَلفه لسكونها وَسُكُون التَّنْوِين بعْدهَا والعله فِي ذَلِك كالعلّة فِي حذف الْيَاء من المنقوص وَقد تقدَّم ذكره
فصل

وَألف التَّأْنِيث فِي نَحْو (حُبْلَى وبشرى) لَا أصل لَهَا فِي الْحَرَكَة ولايمكن تَقْدِير

(1/85)


الْحَرَكَة عَلَيْهَا تَقْديرا يُمكن تحقيقة لأنَّها غير منقلبة عَن حرف يتحرَّك وَلَكِن لَمَّا وَقعت خَبرا جعلت إِعْرَاب إِذْ كَانَت فِي مَوضِع ألف (عَصا ورحى) وَفِي مَوضِع الْهمزَة فِي (حَمْرَاء) وَالتَّاء فِي (شَجَرَة)
فصل

والممدود متصرَّف بِوُجُوه الْإِعْرَاب لأنَّ حرف إعرابه همزَة وَهِي حرف صَحِيح يثبت فِي الْجَزْم
فصل

وَإِذا سكن مَا قبل الْيَاء جَرَتْ بِوُجُوه الْإِعْرَاب لثلاثةِ أوجهِ
أَحدهَا أنَّ المنقوص منع من ضم الْيَاء وَكسرهَا للثقل الْحَاصِل بحركتها وحركة مَا قبلهَا وَقد زَالَ ذَلِك
وَالثَّانِي أنَّك لَو سكنت الْيَاء لجمعت بَين ساكنين
وَالثَّالِث أنَّ مَا قبل الْيَاء إِذا سكِّن أشبه الْحَرْف الْمَوْقُوف عَلَيْهِ فِي سكونه فَتكون الْيَاء كالحرف المبدوء بِهِ والابتداء بالساكن مُمْتَنع

(1/86)


فصل

وَالْيَاء المشدَّدة يَاء ان الأولى مِنْهَا سَاكِنة فَيصير كظَبْيٍ ولَحْي

(1/87)


بَاب الْأَسْمَاء السِّتَّة

فصل

(أبٌ وأخٌ وحَمٌ وهَنٌ) محذوفات اللامات ولامُها وَاو فِي الأَصْل وسنرى ذَلِك فِي التصريف إِن شَاءَ الله تَعَالَى وفيهَا لُغَة أُخْرَى وَهِي أَبَا وأخاً وحما وَهنا مثل عَصا فأمَّا فِي الْإِضَافَة فاللغة الجيَّدة ردّ اللَّام نَحْو أَبوك وَأَبُو زيد وَفِيه لُغَة أُخْرَى حذف اللَّام مَعَ الْإِضَافَة نَحْو أبُك وأبُ زيد
فصل

وأمَّا فوك فأصله (فَوْهٌ) فحذفت الْهَاء اعتباطاً وأبدل من الْوَاو ميمٌ لأنَّهم لَو أبقوها لتحرَّكت فِي الْإِعْرَاب فَانْقَلَبت ألفا وحذفت بِالتَّنْوِينِ وَبَقِي الِاسْم المعرب على حرف وَاحِد وَالْمِيم تشبه الْوَاو وتحتمل الْحَرَكَة فَإِذا أضفته رددت الْوَاو

(1/88)


فصل

وأمَّا (ذُو) فمحذوفة اللَّام وَهل هِيَ وَاو أَو يَاء فِيهِ خلاف يذكر فِي التصريف وَمَعْنَاهَا (صَاحب) وَلَا تسْتَعْمل إلاَّ مُضَافَة إِلَى جنس لأنَّ الْغَرَض مِنْهَا التوصُّل إِلَى الْوَصْف بالأجناس إِذْ كَانَ يتعذَّر الْوَصْف بهَا بِدُونِ (ذُو) أَلا ترى أنَّك لَا تَقول زيدٌ مَال وَلَا طول حَتَّى تَقول ذُو مَال وَذُو طول وَهَهُنَا لم يجز إضافتها إِلَى الْمُضمر لأنَّه لَيْسَ بِجِنْس وَمَا جَاءَ من ذَلِك فشاذٌ أَو من كَلَام الْمُحدثين وإنَّما عدلوا عَن (صَاحب) إِلَى (ذُو) وَإِن كَانَت بمعناها لأنَّ صاحباً تُضَاف إِلَى الْجِنْس وَالْعلم وَغير ذَلِك فخصَّصوا (ذُو) بِالْإِضَافَة إِلَى الْجِنْس لما ذَكرْنَاهُ

(1/89)


فصل

وَهَذِه الْأَسْمَاء معربة فِي حَال الْإِضَافَة وَلها حُرُوف إِعْرَاب وَاخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَذهب سِيبَوَيْهٍ إِلَى أنَّ حُرُوف العلَّة فِيهَا حُرُوف إِعْرَاب وَالْإِعْرَاب مقدَّر فِيهَا وَاخْتلف أَصْحَابه فِي الحركات الَّتِي قبلهَا
فَقَالَ الربعيّ الأَصْل فِي الرّفْع وَاو مَضْمُومَة لَكِن نقلت الضمَّة إِلَى الْحَرْف الَّذِي قبلهَا فَفِي هَذَا نقل فَقَط وَفِي النصب تحرَّكت الْوَاو وَانْفَتح مَا قبلهَا فَانْقَلَبت ألفا فَفِيهَا قلبٌ فَقَط وَفِي الجرَّ تنقل كسرة الْوَاو إِلَى مَا قبلهَا فقلبت لسكونها وكَسْر مَا قبلهَا يَاء فَفِيهَا هُنَا نقل وقلب وَهَذَا ضَعِيف لأنَّه يؤدَّي إِلَى أَن تكون الْحَرَكَة المنقولة حَرَكَة إِعْرَاب فَيكون الْإِعْرَاب فِي وسط الْكَلِمَة وَلَا يصحُّ تَقْدِير الْإِعْرَاب فِي حُرُوف العلّة على قَوْله لأنَّ الْمَنْقُول ملفوظٌ بِهِ فَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير إِعْرَاب آخر
وَقَالَ بعض أَصْحَاب سِيبَوَيْهٍ لم ينْقل شَيْء بل حركات مَا قبلهَا حُرُوف العلَّة تَابِعَة لَهَا تَنْبِيها على أنَّ هَذِه الْأَسْمَاء قبل الْإِضَافَة إعرابُها فِي عيناتها وَأَن ردَّ اللَّام عَارض فِي الْإِضَافَة

(1/90)


وَالدَّلِيل على أنَّ حُرُوف العلَّة هُنَا حروفٌ الْإِعْرَاب لَا إعرابٌ أَرْبَعَة أوجه
أَحدهَا أنَّ الأَصْل فِي كلّ مُعرب أَن يكون لَهُ حرف إِعْرَاب وَأَن يعرب بالحركة لَا بالحرف وَقد أمكن ذَلِك هُنَا إلاَّ أنَّ الْحَرَكَة امْتنع ظُهُورهَا لثقلها على حُرُوف العلّة كَمَا كَانَ ذَلِك فِي المنقوص والمقصور
وَالثَّانِي أنَّ هَذِه الْأَسْمَاء معربة فِي الْإِفْرَاد على مَا ذكرنَا فَكَانَت فِي الْإِضَافَة كَذَلِك كَغَيْرِهَا من الْأَسْمَاء
وَالثَّالِث أنَّ هَذِه الْحُرُوف لَو كَانَت إعراباً لما اختلَّت الْكَلِمَة بحذفها كَمَا لَا تختلُّ الْكَلِمَة الصَّحِيحَة بِحَذْف الْإِعْرَاب
وَالرَّابِع أنَّ هَذِه الْأَسْمَاء لَو خرجت على أَصْلهَا من قَلبهَا ألفات لكَانَتْ حُرُوف إِعْرَاب وَالْحَرَكَة مقدَّرة فِيهَا فَكَذَلِك لَمَّا رُدَّتْ فِي الْإِضَافَة
فصل

وَقَالَ الْأَخْفَش هِيَ زَوَائِد دوالُّ على الْإِعْرَاب كالحركات وَهَذَا لَا يصحَّ لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ الْإِعْرَاب الَّذِي يدلُّ عَلَيْهِ لَا يصحُّ أَن يكون فِيهَا إِذْ كَانَت زَوَائِد على المعرب كزيادة الْحَرَكَة وَلَا يصحُّ أَن يكون فِي غَيرهَا لتراخيها عَنهُ

(1/91)


وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّها لَو كَانَت زَوَائِد لَكَانَ (فوك وَذُو مَال) اسْما معرباً على حرف وَاحِد وَذَا لَا نَظِير لَهُ
فصل

وَقَالَ الْجرْمِي انقلابها هُوَ الْإِعْرَاب وَهُوَ فَاسد لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَن الرّفْع لَا انقلاب فِيهِ مَعَ أَنه مُعرب
وَالثَّانِي أنَّ الانقلاب لَو كَانَ إعراباً لاكتفى بانقلاب وَاحِد كَمَا قَالَ فِي التَّثْنِيَة
وَالثَّالِث أنَّ الأنقلاب فِي الْمَقْصُور لَيْسَ بإعراب فَكَذَلِك هَهُنَا
فصل

قَالَ الْمَازِني هَذِه الْحُرُوف ناشئة عَن إشباع الحركات والإعرابُ قبلهَا كَمَا كَانَت فِي الْأَفْرَاد وَهَذَا فَاسد لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَن الأشباع على هَذَا من أَحْكَام ضَرُورَة الشّعْر دون الِاخْتِيَار
وَالثَّانِي أَن مَا حدث للإشباع يسوغ حذفه وَحذف هَذِه الْحُرُوف غير جَائِز فِي اللُّغَة الْعَالِيَة

(1/92)


وَالثَّالِث أنَّ يُفْضِي إِلَى أَن يكون (فوك وَذُو مَال) اسْما معرباً على حرف وَاحِد
فصل

وَقَالَ الْفراء هِيَ معربة من مكانين فالضمَّة وَالْوَاو إِعْرَاب فَكَذَلِك الْآخرَانِ وَهَذَا فَاسد لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّ الْإِعْرَاب دخل الْكَلَام ليفصل بَين الْمعَانِي وَذَلِكَ يحصل بإعراب وَاحِد فَلَا حَاجَة إِلَى آخر
وَالثَّانِي مَا ذهب إِلَيْهِ لَا نَظِير لَهُ وَلَا يصحُّ قِيَاسه على (امْرِئ) و (ابنم) لأنَّ الحركات هُنَا تَابِعَة لحروف العلّة وَهَذَا يثبت الْحَرَكَة فِي الْوَقْف مَعَ أنَّ الْإِعْرَاب يحذف فِي الْوَقْف
وَالثَّالِث أنَّ (فوك) و (ذُو مَال) حرفان وَيُؤَدِّي قولُه إِلَى أَن يكون الْإِعْرَاب فِي جَمِيع الْكَلِمَة

(1/93)


وَقَالَ قطرب وَأَبُو إِسْحَق الزياديّ هَذِه الْحُرُوف إِعْرَاب كالحركة وَقد أفْسَدْنا ذَلِك بِمَا تقدَّم
وَقَالَ أَبُو عليّ وَجَمَاعَة من أَصْحَابه هَذِه حُرُوف إِعْرَاب دوال على الْإِعْرَاب فَجمعُوا بَين قَول الْأَخْفَش وَقَول سِيبَوَيْهٍ إلاَّ أنَّهم لم يقدِّروا فِيهَا إعراباً وَهَذَا مَذْهَب مُسْتَقِيم كَمَا فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أقوى لِخُرُوجِهِ على الْقيَاس وموافقته لِلْأُصُولِ
فصل

وَإِذا أضفت (أَبَا وأخاً وحماً وَهنا) إِلَى يَاء المتكلَّم كَانَت بياء سَاكِنة مخفًّفة وَفِي ذَلِك وَجْهَان
أَحدهمَا أَنهم لم يُعِيدُوا الْمَحْذُوف هُنَا لئلاَّ يُفْضِي إِلَى يَاء مشدَّدة قبلهَا كسرة مَعَ كَثْرَة اسْتِعْمَال هَذِه الْأَسْمَاء فحذفوها تَخْفِيفًا

(1/94)


وَالثَّانِي أنَّ الْمُضَاف هُنَا مبنيٌ وَهَذِه الْحُرُوف دوالُّ على الْإِعْرَاب وقائمة مُقامه فَلم يجتمعا وأمَّا (فِي) فرُدَّ فِيهِ الْمَحْذُوف لئلاَّ يبْقى على حرف وَاحِد وَكَانَ يشبه حرف الجرَّ
فصل

وإنَّما أعربت هَذِه الْأَسْمَاء بالحروف لِأَنَّهَا مُفْردَة تحْتَاج فِي قِيَاس التَّثْنِيَة وَالْجمع إِلَيْهَا إِذْ كَانَت التَّثْنِيَة وَالْجمع معربة بالحروف ضَرُورَة وَهِي فروع والأسماء المفردة أصُول فَجعلُوا ضربا من الْمُفْردَات معرباً بالحروف ليؤنس ذَلِك بالتثنية وَالْجمع وإنَّما اخْتَارُوا من الْمُفْردَات هَذِه الْأَسْمَاء لِأَنَّهَا تلزمها الْإِضَافَة فِي الْمَعْنى إذْ لَا أَب الا وَله ابْن وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا وَلُزُوم الْإِضَافَة لَهَا يشبهها بالتثنية إِذْ كَانَ كلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَكثر من اسْم وَاحِد

(1/95)


بَاب

التَّثْنِيَة وَالْجمع

أصل التَّثْنِيَة الْعَطف [مِنْ] قَوْلك ثنيت الْعود إِذا عطفته وَكَانَ الأَصْل أَن يعْطف اسْم على اسْم وَقد جَاءَ [مِنْ] ذَلِك فِي الشّعْر كثير لكِنهمْ اكتفوْا باسم وَاحِد وحرف وجعلوه عوضا من الْأَسْمَاء المعطوفة اختصاراً
فصل

وإنَّما زادوا الْحَرْف دون الْحَرَكَة لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ الْحَرَكَة كَانَت فِي آخر الْوَاحِد إعرابا فَلَو أبقوها لم يكن على التَّثْنِيَة دَلِيل
وَالثَّانِي أنَّ الِاسْم الْمَعْطُوف مساوٍ للمعطوف عَلَيْهِ فَكَمَا كَانَ الأوَّل حروفاً كَانَ الدَّلِيل عَلَيْهِ حرفا
فصل

وإنَّما لم تُثَنَّ الْأَفْعَال لخمسة أوجه
أَحدهَا أَن لفظ الْفِعْل جنس يَقع بِلَفْظِهِ على كل أَنْوَاعه وَالْغَرَض من التَّثْنِيَة تعدُّد المسمَّيات وَالْجِنْس لَا تعدد فِيهِ

(1/96)


وَالثَّانِي أنَّ الْفِعْل وضع دَلِيلا على الْحَدث وَالزَّمَان فَلَو ثُنِّي لدلَّ على حدثين وزمانين وَهَذَا محَال
وَالثَّالِث أنَّ الْفِعْل لَا بدَّ لَهُ من فَاعل فَيكون جملَة وتثنية الْجمل محَال وَلِهَذَا لَا يثنَّى لفظ (تأبَّط شرا) و (ذرَّى حبّاً) وَالرَّابِع أَن الْفِعْل لَو ثنَيَّ لَكُنْت تَقول فِي رجل وَاحِد قَامَ مرَّتَيْنِ أَو مرَارًا (قاما زيد) أَو (قَامُوا زيد) وَهَذَا محَال
وَالْخَامِس أنَّ التَّثْنِيَة عطف فِي الأَصْل استغني فِيهَا بالحروف عَن الْمَعْطُوف فيفضي ذَلِك إِلَى أنَّ يقوم حرف التَّثْنِيَة مَقام الْفِعْل وَالْفَاعِل وَذَلِكَ الْفِعْل دالُّ على حدث وزمان وَلَيْسَ فِي لفظ حرف التَّثْنِيَة دلَالَة على أَكثر من الكِّميِّة
فصل

وإنَّما لم تُثَنُ الْحُرُوف لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّها نائبة عَن الْأَفْعَال وَإِذا تعذًّر ذَلِك فِي الأَصْل فَفِي النَّائِب أَوْلى
وَالثَّانِي أنَّ الْحَرْف جنس وَاحِد كالفعل
وَالثَّالِث أنَّ معنى الْحَرْف فِي غَيره فَلَو ثنَّيت الْحَرْف لأثبت لَهُ مَعْنيين فِيمَا مَعْنَاهُ فِيهِ وَذَلِكَ مُمْتَنع لأنَّ معنى الْحَرْف غير متعدَّد
فصل

وكلُّ مَا تنكَّرت مَعْرفَته أَو تعرَّفت نكرته صحَّت تثنيته لأنَّ أصل المثنىَّ الْعَطف وَإِذا اسْتَوَى لفظ الاسمين وَقع الِاشْتِرَاك بَينهمَا فصارا نكرتين وَلِهَذَا يدْخل

(1/97)


الْألف وَاللَّام على الْمثنى وَإِن كَانَ معرفَة قبل ذَلِك نَحْو (الزيدان) فأمَّا (اللَّذَان) فَلَيْسَ بتثنية صناعيّة لأنَّه لَا يتمَّ إلاَّ بالصلة والتثنية الصناعيَّة لَا تكون إلاَّ بعد تَمام الِاسْم وَإِنَّمَا هِيَ صِيغَة للدلالة على التَّثْنِيَة وَكَذَلِكَ (هَذَانِ) لأنَّ (هَذَا) يقرب من الْمُضمر والمضمر لَا يثَّنى بل يصاغ مِنْهُ لفظ يدلُّ على الِاثْنَيْنِ وَلَيْسَ (أَنْتُمَا) تَثْنِيَة (أَنْت) فِي اللَّفْظ وَمن هُنَا بَقِي على تَعْرِيفه بعد التَّثْنِيَة
فصل

وَإِذا اردت تَثْنِيَة الْجُمَل قلت (هَذَانِ ذَوا تأبَّط شرا) أَو اللَّذَان يُقَال لكلِّ واحدٍ مِنْهُمَا تأبَّط شرا لما تقدَّم من اسْتِحَالَة تَثْنِيَة الْجُمْلَة وَكَذَلِكَ الْأَصْوَات وَالْعلم الْمُضَاف إِلَى اللقب نَحْو (قيس قفّه) و (ثَابت قطنة)
فصل

فِي مجَاز التَّثْنِيَة من ذَلِك قَوْلهم (مَاتَ حتف أنفيه) أَي مَنْخرَيْهِ و (هُوَ يؤامر نفسيه) أَي نَفسه تَأمره بأَشْيَاء متضادَّة كالبخل والجود وَنَحْوهمَا فكأنَّ لَهُ نفسين وَمِنْه (القمران) للشمس وَالْقَمَر فسُمِّي الشَّمْس قمراً عِنْد التَّثْنِيَة لأنَّ الْقَمَر

(1/98)


مذكَّر وَمِنْه (العُمران) فِي أبي بكر وَعمر فغُلَّب عمر لأنَّه اسْم مَشْهُور وَأَبُو بكر كنية وَالِاسْم أخفّ و (الأذانان) للأذان وَالْإِقَامَة وَمِنْه ذكر الْمثنى بِلَفْظ الْجمع كَقَوْلِك (ضُربت رؤوسهما) لِأَن التَّثْنِيَة فِي الْحَقِيقَة جمع وَقد أُمن اللَّبْسُ هَهُنَا إِذْ لَيْسَ للْوَاحِد إلاَّ رَأس وَاحِد وَيجوز (رأساهما) على الْقيَاس
فصل

وإنَّما زادوا حُرُوف المدَّ إِذْ كَانَت كالحركات لخفَّتها بسكونها وامتداد صَوتهَا وأنَّ الْكَلَام لَا يخلوا مِنْهَا أَو من أبعاضها وَهِي الحركات وأنَّهم لَو زادوا غَيرهَا لتُوِهَّم أنَّ الْحَرْف الزَّائِد من أصل الْكَلِمَة
فصل

وَإِنَّمَا جعلت الْوَاو للْجمع لقوَّتها وخروجها من عضوين وأنَّها دلَّت على الْجمع فِي الْإِضْمَار نَحْو (قَامُوا) وأنَّ مَعْنَاهَا فِي الْعَطف الْجمع وخُصَّ بهَا الرّفْع لأنَّها من جنس الضَّمة وأمَّا (الْيَاء) فخُصَّ بهَا الجرَّ ولأنهَّا من جنس الكسرة وأمَّا (الْألف) فَجعلت فِي التَّثْنِيَة لأربعة أوجه أَحدهَا أنَّ الْجمع خُصَّ بِالْوَاو وَالْيَاء لِمَعْنى يَقْتَضِيهِ فَلم يبْق للألف غير التَّثْنِيَة
وَالثَّانِي أنَّ الْألف أخف من أختيها والتثنية أَكثر من الْجمع لدخولها فِي كلِّ اسْم وجَعْلُ الأخفِّ للْأَكْثَر هُوَ الأَصْل

(1/99)


وَالثَّالِث أنَّ الْألف أسبق من أختيها فِي الْمخْرج والتثنية أسبق من الْجمع فَجُعِلَ الأسبق للأسبق
وَالرَّابِع أَن الْألف جعلت ضميراً لأثنين فِي نَحْو (قاما) فَكَذَلِك تكون فِي الْأَسْمَاء
فإنْ قيل لِمَ لَمْ تجْعَل الْوَاو فِي البنائين وَيفتح مَا قبلهَا فِي أَحدهمَا ويضمُّ فِي الآخر قيل لَا يصحُّ لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ فِي الْأَسْمَاء الْمَجْمُوعَة مَا قبله وَاو مَفْتُوح وَهُوَ (مصطَفْون) وبابُه فَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى اللّبْس
وَالثَّانِي أنَّ الْوَاو تناسب الضمَّة والفتحة تناسب الْألف فَجعل مَعَ كلَّ واحدٍ مِنْهُمَا مَا يُنَاسِبه
فصل

وإنَّما جعلت الْألف فِي الرّفْع لأربعة أوجه
أحدهُا أنَّها لَمَّا كَانَت أتمّ حُرُوف المدَّ مدّاً كَانَت أصلا لأختيها وَلِهَذَا لم تقبل الْحَرَكَة والرفعُ هُوَ الأَصْل فَجعل الأصْل للْأَصْل
وَالثَّانِي أنَّ الرّفْع أسبق من أَخَوَيْهِ وَالْألف أسبق من أختيها فًجُعِلَ الأسبق للأسبق

(1/100)


وَالثَّالِث أَن الْألف فِي الْإِضْمَار ضمير مَرْفُوع وَذَلِكَ يُنَاسب جعلهَا عَلامَة رفع
وَالرَّابِع انَّه إنَّما وَجَبت الْوَاو لرفع الْجمع وَالْيَاء لجرِّ التَّثْنِيَة وَالْجمع وبقيتْ الْألف فَلم يجز أَن تكون للنصب لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنهَّا لَو كَانَت كَذَلِك لَحُمِلَ الْمَرْفُوع على غَيره إِذْ لم تبْق لَهُ عَلامَة تخصُّه
وَالثَّانِي أنَّ الْمَنْصُوب قد قَامَ الدَّلِيل على أنَّه مَحْمُول على غَيره فَلم يَجْعَل أصلا
فصل

وإنَّما حُمل الْمَنْصُوب على الْمَجْرُور هُنَا لثمانية أوجه
أَحدهَا أنَّ الجرَّ أصلٌ ينْفَرد بِهِ الِاسْم وَالرَّفْع يشْتَرك فِيهِ القبيلان فَكَانَ حمل النصب على المختصَّ أولى
وَالثَّانِي أنَّ الجرَّ أقلُّ فِي الْكَلَام من الرّفْع وَالْحمل على الْأَقَل أخفُّ وَالثَّالِث أنَّ الْمَنْصُوب وَالْمَجْرُور فضلتان فِي الْكَلَام وَحمل الفضلة على الفضلة أشبه
وَالرَّابِع أنَّهم سوَّوْا بَين ضمير الْمَنْصُوب وَالْمَجْرُور نَحْو (إنَّك) و (بك) وإنَّه) و (لَهُ) فَكَانَ فِي الظَّاهِر كَذَلِك

(1/101)


الْخَامِس أنَّ الْمَجْرُور بِحرف الجرِّ حقُّه النصب فِي الأَصْل فكأنَّه الْمَنْصُوب
السَّادِس أَن الْمَجْرُور لَمَّا حمل على الْمَنْصُوب فِيمَا لَا ينْصَرف عكس ذَلِك هَهُنَا السَّابِع أنَّ الجرَّ بِالْيَاءِ وَهِي أخفُّ من الْوَاو وَالْحمل على الأخفِّ أولى وَالثَّامِن أنَّ النصب من الحلْق وَهُوَ أقربُ إِلَى الْيَاء إِذْ كَانَت من وسط الْفَم
فصل

وأنَّما فتح مَا قبل يَاء التَّثْنِيَة وَكسر فِي الْجمع لأربعة أوجه أحدُها أنَّ الفتحة أخف والتثنية أَكثر فَجعل الأخف للْأَكْثَر تعديلاً الثَّانِي أنَّ الْألف لّما اخْتصّت بالتثنية وَلم يكن مَا قبلهَا إلاَّ مَفْتُوحًا حمل النصب والجرَّ عَلَيْهِ طرداً للباب وَلم يُمكن ذَلِك فِي الْجمع وَالثَّالِث أنَّ نون التَّثْنِيَة مَكْسُورَة لما نبينَّه فَكَانَ فتح مَا قبل الْيَاء تعديلاً
الرَّابِع أَن حرف التَّثْنِيَة يدلُّ على معنى فِي الْكَلِمَة فَفتح مَا قبله كحرف التَّأْنِيث

(1/102)


فصل

والأسماء المثنَّاه والمجموعة معربة وَحكي عَن الزجَّاح أنَّها مبنيَّة وكلامة فِي الْمعَانِي يُخَالف هَذَا وَالدَّلِيل على أنَّها معربة وجود حدّ المعرب / وَهُوَ اخْتِلَاف آخرهَا لاخْتِلَاف الْعَامِل وأنَّها لم تشبه الْحُرُوف وَلَا يُقال إنَّها تضمنَّت معنى وَاو الْعَطف لأنَّ تضمُّن الإسم معنى الْحَرْف لَا يغيِّر لَفظه ك (أَيْن) و (خَمْسَة عشر) وَلَفظ التَّثْنِيَة غيَّر لفظ الْوَاحِد بِحَيْثُ لَا يصحُّ إِظْهَار الْوَاو فِيهِ
فصل

وحروف المدَّ هَهُنَا حُرُوف إِعْرَاب عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَاخْتلف أَصْحَابه فَقَالَ بَعضهم فِيهَا إِعْرَاب مقدَّر وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ فِيهَا تَقْدِير إِعْرَاب وَقَالَ الْأَخْفَش والمازنيّ والمبردِّ لَيست حُرُوف إِعْرَاب بل دالَّة عَلَيْهِ وَقَالَ الجرميّ انقلابها هُوَ الْأَعْرَاب وَقَالَ قطرب والفرّاء هِيَ نفس الْإِعْرَاب
وَالدَّلِيل على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ من خَمْسَة أوجه
أَحدهَا أنَّ حرف الْإِعْرَاب مَا إِذا سقط يختلُّ بِهِ معنى الْكَلِمَة وَهَذِه الْحُرُوف كَذَلِك وَلَو كَانَت إعراباً لم يختلّ مَعْنَاهَا بسقوطه

(1/103)


وَالثَّانِي أنَّ هَذِه الْحُرُوف مزيدة فِي آخر الِاسْم فَكَانَت حُرُوف إِعْرَاب كتاء التَّأْنِيث وألفه وحرف النّسَب
وَالثَّالِث أنَّك لَو سمّيت رجلا ب (مسلمان) ثمَّ رخمتَّه حذفت مِنْهُ الْألف وَالنُّون وَالنُّون لَيست حرف إِعْرَاب عِنْد الْجَمِيع فَكَانَت الْألف كالثاء فِي (حَارِث)
وَالرَّابِع أنَّ الْعَرَب قَالُوا (مذروان) و (عقلته بثنايين) فصحّحوا الْوَاو وَالْيَاء كَمَا صححَّوهما قبل التَّأْنِيث نَحْو (شقاوة) و (عَبَايَة) وَلَوْلَا أنَّها حُرُوف إِعْرَاب لم تكن كَذَلِك
وَالْخَامِس أنَّ هَذِه الْأَسْمَاء معربة وَالْأَصْل فِي كلَّ مُعرب أَن يكون لَهُ حرف إِعْرَاب لِأَن الْإِعْرَاب كالعرض الْمُحْتَاج إِلَى محلّ والحرف محلُّه
وأمَّا الْأَمْثِلَة الْخَمْسَة فَتعذر أَن يكون لَهَا حرف إِعْرَاب لما نبنيَّه فِي بَاب الْأَفْعَال إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقد بيَّنّا فِي الْأَسْمَاء الستَّة بُطْلان مَذْهَب الْأَخْفَش والجرميّ والفرَّاء وَهُوَ فِي معنى التَّثْنِيَة وَالْجمع ونزيده هَهُنَا أنَّ الْيَاء هَهُنَا لَا تسْتَحقّ الْحَرَكَة إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لَا نقلبت ألفا كَمَا فِي الْمَقْصُور

(1/104)


ويُبْطِل مذهبَ الفرَّاء أَيْضا أنَّ هَذِه الْحُرُوف تدلُّ على معَان لَا تدُّل عَلَيْهَا الحركات من التَّثْنِيَة وَالْجمع وإنَّما دلَّت على الْإِعْرَاب تبعا لَا أصلا فَإِن قيل لَو كَانَت حُرُوف إِعْرَاب لم تقع تَاء التَّأْنِيث قبلهَا فِي نَحْو (شجرتان) قيل لَمَّا كَانَت هَذِه الْحُرُوف داَّلة على الْإِعْرَاب من وَجه وحرف إِعْرَاب من وَجه جَازَ وُقُوع تَاء التَّأْنِيث قبلهَا من حَيْثُ هِيَ دالَّة على الْإِعْرَاب لَا من حَيْثُ هِيَ حُرُوف إِعْرَاب وإنَّما روعي ذَلِك لأنَّ التَّأْنِيث معنى نحافظ عَلَيْهِ كَمَا أنَّ التَّثْنِيَة كَذَلِك
فصل

وَاخْتلف النحويَّون فِي زِيَادَة النُّون فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع لماذا زيدت فمذهب سبيويه وَجُمْهُور البصريَّين أنَّها عوض من الْحَرَكَة والتنوين
وَمن البصريَّين من قَالَ تكون عوضا مِنْهُمَا فِي نَحْو (رجلَانِ) وَمن الْحَرَكَة فِي نَحْو (الرّجلَانِ) وَمن التَّنْوِين فِي نَحْو (غُلَاما زيد) وَمِنْهُم من قَالَ

(1/105)


هِيَ بدل من الْحَرَكَة فِي كل مَوضِع وَمِنْهُم من قَالَ من التَّنْوِين فِي كلّ مَوضِع
وَقَالَ الفرَّاء فرَّق بهَا بَين التَّثْنِيَة وَبَين الْمَنْصُوب المنوَّن فِي الْوَقْف
وَالدّلَالَة على الأوَّل من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَّ الِاسْم مستحقٌّ الْحَرَكَة والتنوين وَقد تعذَّرا فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع والتعويض مِنْهُمَا مُمكن وَالنُّون صَالِحَة لذَلِك ورأينا الْعَرَب أثبتَتْها فيهمَا فَفُهِم أنَّهم قصدُوا التعويض رِعَايَة للْأَصْل وَمثل ذَلِك ثُبُوت النُّون فِي الْأَمْثِلَة الْخَمْسَة عوضا من الضمَّ
وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ النُّون تثبت فِي النكرَة المنصرفة وَتسقط فِي الْإِضَافَة كَمَا يسْقط التَّنْوِين فأمَّا ثُبُوتهَا مَعَ الْألف وَاللَّام فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أنَّ الِاسْم تثبت فِيهِ النُّون قبل الْألف وَاللَّام فلَمَّا دخلا لم يحذفاه لقوَّته بحركته بِخِلَاف الْإِضَافَة
وَالثَّانِي أنَّهما هُنَاكَ بدٌل من الْحَرَكَة وَحدهَا وتعذَّر أَن يكون بَدَلا من التَّنْوِين وكلّ حرف دلَّ على شَيْئَيْنِ وَتعذر دلَالَته على أَحدهمَا وَجب أَن يبْقى دالاًّ على

(1/106)


الآخر وَهَذَا كالفعل فإنَّه يدَّل على حدث وزمان ثمَّ إنَّ (كَانَ وَأَخَوَاتهَا) أَفعَال خلعت دلالتها على الْحَدث وَبقيت دلالتها على الزَّمَان وَكَذَلِكَ الْعِوَض عَن شئيين إِذا تعذر قِيَامه عَن أَحدهمَا بَقِي عوضا عَن الآخر
أما سُقُوطهَا مَعَ الْإِضَافَة فَمن حَيْثُ هِيَ بدلٌ من التَّنْوِين وَمن الْحَرَكَة وَلم يعكس فتحذف مَعَ الْألف وَاللَّام وَتثبت فِي الْإِضَافَة لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ الْمُضَاف إِلَيْهِ عوض من التَّنْوِين فِي مَوْضِعه وَلِهَذَا كَانَ من تَمام الْمُضَاف وَثُبُوت التَّنْوِين يُؤَدِّي إِلَى الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض وَإِلَى قطع الأوَّل عَن الثَّانِي
وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ النُّون لَمَّا ثبتَتْ مَعَ الْألف وَاللَّام بَدَلا من الْحَرَكَة وَحدهَا أردوا أَن يبيِّنوا أنَّها بدلٌ من التَّنْوِين أَيْضا فحذفوها مَعَ الْإِضَافَة عوضا من حذفهَا مَعَ الْألف وَاللَّام
وأمَّا ثُبُوتهَا فِي (أحمدان) و (أَحْمَرَانِ) فَفِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا مَا تقدَّم فِي الْألف وَاللَّام
وَالثَّانِي أنَّ الِاسْم مستحقٌّ للتنوين فِي الأَصْل وإنَّما سقط لشبهه بِالْفِعْلِ وبالتثنية بَّعد من الْفِعْل فَعَاد إِلَى حقَّه

(1/107)


وأمَّا ثُبُوتهَا فِي (عصوان) و (فتيَان) فلأنَّ الْحَرَكَة ظَهرت لَّمَّا عَاد الْحَرْف إِلَى أَصله وأمَّا ثُبُوتهَا فِي (هَذَانِ) فَفِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا أنَّها صِيغَة وضعت للتثنية لَا أنَّها تَثْنِيَة (هَذَا) على التَّحْقِيق وَقد بيَّنا علَّته فِي أوَّل الْبَاب وَكَذَلِكَ (اللَّذَان)
وَالثَّانِي أنَّ (هَذَانِ) و (اللَّذَان) بُنيا فِي الْإِفْرَاد لشبههما بالحرف وبالتثنية زَالَ ذَلِك إِذْ الْحَرْف لَا يثنى وَإِذا استحقّا أعربا استقّا الْحَرَكَة والتنوين
وَذهب قوم إِلَى أنَّ النُّون فيهمَا عوض من الْحَرْف الْمَحْذُوف وهما الْألف فِي (هَذَا) وَالْيَاء فِي (الَّذِي) فإنْ قيل حرف المدِّ عنْدكُمْ عوض من الْحَرَكَة فَكيف يعوَّض مِنْهَا النُّون أَيْضا فَفِيهِ وَجْهَان

(1/108)


أَحدهَا أنَّ حُرُوف المدَّ لَيست عوضا من الْحَرَكَة بل دالَّة على الرّفْع الَّذِي تدَّل عَلَيْهِ الْحَرَكَة وَالنُّون عوض من لفظ الْحَرَكَة المستحقّة وَبَين لفظ الْحَرَكَة واستحقاقها فرق بيِّن أَلا ترى أنكَّ لَو سميت امْرَأَة ب (قَدَم) لم تصرفها لتحرُّك أوسطها وَلَو سمَّيْتها ب (دَار) و (فيل) لصرفت بِلَا خلاف وإنْ كَانَت الْحَرَكَة مستحقَّة لكنَّها مَعْدُومَة لفظا
وَالثَّانِي أنَّ حُرُوف المدَّ ضعفت نيابتها عَن الْحَرَكَة إِذْ كَانَت حُرُوف إِعْرَاب وأدلَّة على التَّثْنِيَة وَالْجمع فجبروا ضعف نيابتها عَنْهَا بِأَن جعلوها عوضا من الْحَرَكَة من وَجه وعوضاً من التَّنْوِين من وَجه
وَأما مَذْهَب الفرَّاء فَيبْطل من أوجه
أَحدهمَا أنَّ الْألف تثبت فِي الرّفْع خاصَّة وَالْعَامِل يميّز
وَالثَّانِي أنَّه لَو كَانَ كَمَا قَالَ لم تثبت النُّون بعد الْيَاء وَالثَّالِث أنَّها تثبت فِي الْجمع وَلَا لَبْس هُنَاكَ
وَالرَّابِع أنَّ الْألف وَاللَّام تمنع من الْألف فِي نصب الْوَاحِد وَتثبت فِي التَّثْنِيَة
فصل

وإنَّما كسرت النُّون فِي التَّثْنِيَة وَفتحت فِي الْجمع لأربعة أوجه

(1/109)


أَحدهَا أنَّ تحريكها مُضْطَر إِلَيْهِ لئلاَّ يلتقي ساكنان وَالْأَصْل فِيهَا السّكُون والتثنية قبل الْجمع وَالْأَصْل فِي حَرَكَة التقاء الساكنين الْكسر فَكَانَت التَّثْنِيَة بهَا أولى وَفتحت فِي الْجمع لتخالف التَّثْنِيَة
وَالثَّانِي أنَّ مَا قبل حرف المدّ فِي التَّثْنِيَة مَفْتُوح فَجعلُوا مَا بعده مكسوراً تعديلاً وعكسوه فِي الْجمع
وَالثَّالِث أنَّ التَّثْنِيَة تكون بِالْألف فِي الرّفْع وَهِي أخفّ من الْوَاو وَالْيَاء فَجعلُوا الْكسر مَعَ الأخفّ وَالْفَتْح مَعَ الأثقل
وَالرَّابِع أنَّهم لَو فتحُوا فِي الْمَوْضِعَيْنِ لوقع اللّبْس فِي بعض الْمَوَاضِع أَلا ترى أنَّك تَقول مررتُ بالْمُصْطَفَيْنَ فِي الْجمع بِفَتْح مَا قبل الْيَاء وَمَا بعْدهَا فَلَو فعلت ذَلِك فِي التَّثْنِيَة لالتبسا
فصل

وَقد شذَّ فِي التَّثْنِيَة شَيْئَانِ
أَحدهمَا جعل المثنَّى بِالْألف فِي كلَّ حَال وَهِي لُغَة قَليلَة

(1/110)


وَالثَّانِي فتح النُّون فِيهَا وَكسر النُّون فِي الْجمع وَهُوَ قَلِيل أَيْضا وبابه الشّعْر

(1/111)


بَاب الْجمع

الْجمع الَّذِي هُوَ نَظِير التَّثْنِيَة يسمَّى (جمع السَّلامَة) و (جمع التَّصْحِيح) لأنَّه صحَّ فِيهِ لفظ الْوَاحِد بِعَيْنِه و (جمعا على حدَّ التَّثْنِيَة) و (جمعا على هجائين)
وحدَّه مَا سلم فِيهِ نظمُ الْوَاحِد وبناؤه فأمَّا (بنُون) فَقَالَ عبد القاهر رَحمَه الله لَيْسَ بسالم لسُقُوط الهمزه مِنْهُ وَقَالَ غَيره هُوَ سَالم وإنَّما سَقَطت الْهمزَة إِذْ كَانَت زَائِدَة توصُّلاً إِلَى النُّطْق بالساكن وَقد استغني عَنْهَا وأمّا (أرَضون) فحرِّكت راؤها لما نبيَّه من بعد فَإِن قلت ف (صِنْوان) جمع (صِنْو) وَقد سلم فِيهِ لفظ الْوَاحِد وَلَيْسَ بِجمع صَحِيح قيل سَلَامَته أمرُ اتَّفاقي وأنَّما هُوَ مكسّر على (فِعْلان) وَالتَّحْقِيق أنَّ الكسرة فِي أوَّله وَسُكُون ثَانِيَة فِي الْجمع غيرُهما فِي الْوَاحِد لأنَّ هَذَا الْجمع قد يكون واحده على غير زنة (فِعْل) نَحْو غراب وغربان وقضيب وقضبان
فصل

وإنَّما أختضَّ هَذَا الْجمع بالأعلام لكثرتها فِيمَن يعقل واختضَّ بالمذكرَّ مِنْهَا لأنَّ مُسَمَّاهُ أفضل المسميَّات وَجمع السَّلامَة لَمَّا صين عَن التَّغْيِير كَانَ ذَلِك فَضِيلَة لَهُ

(1/112)


ومطابقه اللَّفْظ للمعنى مستحسنة فأمَّا صِفَات من يعقل فَجمعت جمع السَّلامَة لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّها جَارِيَة على أفعالها فَكَمَا تَقول (يسلمُونَ) تَقول (مُسلمُونَ)
وَالثَّانِي أنَّ هَذِه الصِّفَات لَمَّا اختصَّت بالعقلاء خصَّت بِأَفْضَل الجموع وأمَّا قَوْله تَعَالَى {رأيتُهم لي ساجدِينَ} فإنَّه لَمَّا وصفهَا بِالسُّجُود الَّذِي هُوَ من صِفَات من يعقل أجراها مُجرى من يعقل وَكَذَلِكَ قَوْله {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وإنَّما ثُنّيَّ (قَالَتَا) وجُمِعَ (طائعين) لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّ السَّمَوَات وَالْأَرْض جمع فِي الْمَعْنى فجَاء بِالْحَال على ذَلِك
وَالثَّانِي أنَّ المُرَاد {قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين} وغُلَّب المذكَّر
وَالثَّالِث أنَّ المُرَاد أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض
وأمَّا (الْعشْرُونَ) وَإِلَى (التسعين) فَجُمَع جَمْعَ السَّلامَة لوُقُوعه على من يعقل وَمَا لَا يعقل وغُلِّب فِيهِ من يعقل وَلَيْسَ بِجمع (عِشْر) على التَّحْقِيق لأنَّ الْعشْر من أظماء الْإِبِل وَهَذَا الْعدَد لَا يخصُّ الأظماء وإنَّما هُوَ لفظ مرتجل للعدد

(1/113)


وأمَّا (قُلَة) و (بُرَة) فَجمعت جمع السَّلامَة جبرا لَهَا من الوهن الدَّاخِل عَلَيْهَا بِحَذْف لاماتها وَهَذِه علّة مجوّزة لَا مُوجبَة أَلا ترى أنَّهم لم يَقُولُوا فِي (دم) (دمون) وغيَّروا بَعْضهَا نَحْو كسر السِّين من (سِنِين) تَنْبِيها على أنَّ ذَلِك لَيْسَ بِأَصْل فِيهَا
وأمَّا (أرضون) فجمعوها جمع السَّلامَة جبرا لما دَخلهَا من حذف تَاء التأتيث الراجعة فِي التصغير وفتحوا الرَّاء لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا التَّنْبِيه على مُخَالفَة الأَصْل
وَالثَّانِي أنَّها الفتحة الَّتِى تستحقّها فِي جمعهَا الْأَصْلِيّ وَهُوَ (أرَضات) وَهَذِه العلَّة استحسانَّية لَا مُوجبَة فَعِنْدَ ذَلِك لَا تنْتَقض (بشمس) و (قدر) وَنَحْوهمَا
وأمَّا (عليوّن) فَقيل إنَّه جمع (عِلَّي) وَهُوَ الْملك وَقيل اسْم مَكَان مرتجل كعشرين

(1/114)


وأمَّا (قنّسرين) و (يبرين) فَمن الْعَرَب من يُجْريه مُجْرَى عشْرين وَمِنْهُم من يَجعله بِالْيَاءِ فِي كلّ حَال وَيجْعَل النُّون حرف الْإِعْرَاب
وأمَّا (الَّذين) فصيغة مُرْتجًلة للْجمع فِي كلّ حَال وَمن الْعَرَب من يَجْعَلهَا بِالْوَاو فِي الرّفْع وبالياء فِي الجرِّ وَالنّصب وَهِي مرتجلة أَيْضا مبنيَّة
وَقد جَاءَ فى الشّعْر كسرُ نون الْجمع لالتقاء الساكنين كَمَا جَاءَ فتح نون التَّثْنِيَة

(1/115)


بَاب جمع التَّأْنِيث

إنَّما زيد فِي الْوَاحِد هُنَا الْحَرْف دون الْحَرَكَة لما ذَكرْنَاهُ فِي التَّثْنِيَة وَزيد حرفان لأنَّ فِيهِ مَعْنيين التَّأْنِيث والجمعَ وهما فرعان فاحتاجا إِلَى زيادتين وَلَيْسَ كَذَلِك التَّثْنِيَة وَالْجمع لأنَّه معنى وَاحِد
فصل

وإنَّما اختيرت الْألف دون الْوَاو وَالْيَاء لخفَّتها وَثقل التَّأْنِيث وَالْجمع وَوُقُوع ذَلِك فِيمَن يعقل وَمَا لَا يعقل وأختيرت التَّاء مَعهَا لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّها تشبه الْوَاو الَّتِى هِيَ أُخْت الالف
وَالثَّانِي أنَّها تدلُّ على التَّأْنِيث وكلا الحرفين دالُّ على كلا الْمَعْنيين من غير تَفْرِيع وَقَالَ قوم الْألف تدلُّ على الْجمع وَالتَّاء على التَّأْنِيث وَعكس هَذَا قوم وَالْجُمْهُور على الأوَّل وَهُوَ أصح لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّك لَو حذفت الْألف لم تدلّ التَّاء على الْجمع وَلَا على التَّأْنِيث مقترناً بِالْجمعِ وَكَذَلِكَ لَو حذفت التَّاء
وَالثَّانِي أنَّ التَّأْنِيث وَالْجمع زيادتان ملتبستان متصلتان فَكَانَ الدالُّ عَلَيْهِمَا

(1/116)


حرفين ملتبسين من غير تَفْرِيع أَلا ترى أنَّ عَلامَة النّسَب حرفان وَهُوَ معنى وَاحِد فكون الْعَلامَة هُنَا حرفين أوْلى
فصل

وإنَّما حمل الْمَنْصُوب هُنَا على الْمَجْرُور لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّه جمع تَصْحِيح فَحُمِلَ النصب فِيهِ على الجرَّ كجمع المذكَّر لأنَّ المؤنَّث فرع على المذكَّر وَالْفُرُوع تُحْمَلُ على الْأُصُول فَلَو جعل النصب أصلا لَكَانَ الْفَرْع أوسع من أَصله وَهَذَا اسْتِحْسَان من الْعَرَب لَا أنَّ النصب متعذَّر
وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ المؤنَّث بِالتَّاءِ فِي الْوَاحِد تقُلب تاؤه هَاء فِي الْوَقْف وَلَا يُمكن ذَلِك فِي الْجمع فَكَمَا غُيَّر فِي الْوَاحِد غُيّر فِي الْجمع فَحمل النصب على غَيره إِذْ كَانَ تغييراً والتغيير يؤُنِسُ بالتغيير
فصل

وكسْرَتُه فِي النصب إِعْرَاب وَقَالَ الأخفشُ بِنَاء وَهَذَا ضَعِيف إِذْ لَا علَّة توجب الْبناء وَلَو صحَّ مَا قَالَ لَكَانَ فتح الْمَجْرُور فِيمَا لَا ينْصَرف والتثنية وَالْجمع فِي النصب بِنَاء

(1/117)


فصل

والتنوين الدَّاخِل هَذَا الجمعَ لَيْسَ تَنْوِين الصّرْف
وَقَالَ الربعيُّ هُوَ تَنْوِين الصّرْف وَمَا قَالَه ضَعِيف بِدَلِيل ثُبُوته فِيمَا لَا ينْصَرف كَقَوْلِه تَعَالَى {أفضتُم من عرفاتٍ} وَقَوْلهمْ (هَذِه عرفاتٌ مُبَارَكًا فِيهَا) فنَصْبُ الحالُ عَنْهَا يدُلُّ على أنَّها معرفَة وَهِي مؤنَّثة وإنَّما هَذَا التَّنْوِين نَظِير النُّون فِي (مُسلمُونَ) إِذْ كَانَ هَذَا الْجمع فرعا على ذَلِك الْجمع
وَقيل التنوينُ هُنَا عوضٌ ممَّا مُنِعَ هَذَا الِاسْم من الفتحة فِي النصب كَمَا عُوِّضَتْ النُّون من الْحَرَكَة فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع ولَمَّا كَانَ المعوَّض مِنْهُ حَرَكَة وَاحِدَة جعلت هَذِه النُّون كتنوين الصّرْف فِي أنَّها لَا تثبت وَقفا وخطّاً وَلَا مَعَ الْألف وَاللَّام
فصل

وإنَّما حذفت التَّاء الأولى فِي نَحْو (مسلمات) لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أَن الْغَرَض مِنْهَا التَّأْنِيث وَقد حصل بتاء الْجمع

(1/118)


وَالثَّانِي أنَّ تَاء التَّأْنِيث لم تقع حَشْوًا وَلِهَذَا لم تثبت فِي النّسَب فَلَا يُقال (بصرتيّ) وَقيل امتناعها فِي النّسَب لئلاّ يُقَال (بصرتية) فتجمتع علامتان
وَإِنَّمَا كَانَ حذف الأُولى أوْلى لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّ التَّثْنِيَة تدلُّ على التَّأْنِيث وَالْجمع مَعَ الْألف فَلَو حذفت لبطلت دلَالَة الْجمع وَالثَّانِي أنَّ الأولى حَشْو
فصل

وإنمَّا لم تحذف ألف التَّأْنِيث فِي الْجمع كَمَا حذفت التَّاء لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّها لَو حُذِفَتْ لالتبس ذَلِك الْجمع بِجمع لَيْسَ فِي واحده عَلامَة أَو بِمَا علامته تَاء وَالثَّانِي أنَّ الْألف لَّما أُبدِلتْ حرفا آخر لم تكن جمعا بَين علامتين
فصل
وإنَّما قلبت (يَاء) لَا واواً لثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّها فِي الْوَاحِد تمال إِلَى الْيَاء

(1/119)


وَالثَّانِي أنَّ الْيَاء أشبه بِالْألف مِنْهَا بِالْوَاو لقربها مِنْهَا وخفَّتها وخفائها
وَالثَّالِث أنَّهم قد أثَّنوا بِالْيَاءِ نَحْو أَنْت تقومين وبالكسرة الَّتِي هِيَ أُخْت الْيَاء نَحْو ضربتِ وأنتِ
فصل

وإنَّما قلبت همزَة التَّأْنِيث (واواً) لأنَّها تشبه الْألف إِذْ هِيَ من مخرجها وتخفّف إِلَيْهَا وتصوّر فِي الخطّ ألفا فَلَو بقيت لتوالى فِي التَّقْدِير ثَلَاث ألفات وَلَو حذفت لحذفت ألف أُخْرَى لالتقائهما
فصل

وإنَّما قلبت (واواً) لَا يَاء لثَلَاثَة أوجه أَحدهمَا أنَّ الْهمزَة تشبه الْوَاو فِي النَّقْل ومُقابِلَتُها فِي مخرجها وَلِهَذَا أبدلت مِنْهَا فِي (وُقّتت) و (وُجُوه) فأبدلت الْوَاو مِنْهَا تعويضاً
وَالثَّانِي أنَّها لَو ابدلت يَاء - وَالْيَاء أشبه بِالْألف - لم يحصل الْغَرَض من إبدالها لأنَّ الْيَاء كالألف
وَالثَّالِث أنَّهم فرَّقوا بذلك بَين جمع الْمَقْصُور والممدود
فصل

وَلم تجمع الصِّفَات بِالْألف وَالتَّاء نَحْو (حَمْرَاء) و (صفراء) لأنَّ هَذَا الْجمع فرع

(1/120)


على جمع المذكَّر ولمّا لم يَقُولُوا (أحمرون) (اصفرون) فِي المذكَّر لم يَقُولُوا (حمراوات) والعّلةَّ فِي ذَلِك أنَّ الصّفة مُشْتَقَّة من الْفِعْل فَفِيهَا ضرب من الثّقل وَلِهَذَا كَانَت إِحْدَى علل منع الصّرْف وَالْجمع والتأنيث ثقيلان فتزداد ثقلاً فأمَّا قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((لَيْسَ فِي الخضراوات زَكَاة)) فإنَّه جعُل كالاسم إِذْ كَانَ صفة غالبة لَا يذكر مَعهَا الْمَوْصُوف (كالأبطح) و (الأبرق)
فصل

إِذا سمِّيت مذكَّراً بمؤنَّث بِالتَّاءِ نَحْو (طَلْحَة) جمعته بألالف وَالتَّاء وَلَا يجوز بِالْوَاو وَالنُّون وَقَالَ الكوفيَّون تسكن عينه وتحذف تاؤه وَيجمع بِالْوَاو وَالنُّون فَيُقَال فِي (طَلْحة) (طَلْحون)
وَقَالَ ابْن كيسَان كَذَلِك إلاَّ أنَّه فتح الْعين

(1/121)


وَالدَّلِيل على فَسَاد مَذْهَبهم أنَّ الْعَرَب جمعته بِالْألف وَالتَّاء فَقَالُوا 3 - طَلْحة الطَّلحاتِ لأنَّ هَذَا الِاسْم مؤنث بِالتَّاءِ وَهِي من خَصَائِص التَّأْنِيث وَالْوَاو من خَصَائِص المذكَّر فَلم يجمع بَينهمَا
فأمَّا المؤنَّث بِالْألف والهمزة فَيجمع بِالْوَاو وَالنُّون إِذا سُمَّي بِهِ فَيُقَال (سكراوون) و (حمراوون) لأنَّ الْألف صيغت مَعَ الْكَلِمَة من أوَّل أمرهَا وَثبتت فِي التكسير نَحْو (سكارى) وقلبت فِي الْجمع نَحْو (سعديات) فَصَارَت كالحرف الأصليّ
وأمَّا التَّاء فَفِي حكم الْمُنْفَصِل وَلِهَذَا قَالُوا تحذف فِي هَذَا الْجمع فإنْ قيل المسمَّى مذكَّر وعلامة التَّأْنِيث تحذف هَهُنَا فَلم يبْق مَانع من هَذَا الْجمع قيل الْعبْرَة فِي هَذَا الْجمع بِاللَّفْظِ وَهُوَ مؤنث وَالتَّاء وَإِن حذفت فَهِيَ مقدَّرة أَلا ترى أنَّك

(1/122)


لَو سميت مؤنثاً بمذكر لجَاز وَلم يسْتَحل الْمَعْنى وَكَذَا لَو سمَّيت مذكَّرا بمؤنَّث جَازَ وَلم تقل هَذَا جمع بَين الضدَّين فَعلم أنَّ تذكير الْمَعْنى لَا يمْنَع من تَأْنِيث اللَّفْظ وأمَّا تَحْرِيك الْعين فضعيف جدّا لأنَّ ذَلِك من خَصَائِص الْجمع بِالْألف وَالتَّاء

(1/123)


بَاب ذكر الْأَسْمَاء المرفوعة

إنَّما بُدِئَ بالأسماء لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّها أصُول الْأَفْعَال
وَالثَّانِي أنَّ إعرابها أصلٌ لإعراب الْأَفْعَال
وإنَّما بُدِئَ بالمرفوع لأنَّ الْجُمْلَة المفيدة تتمُّ بالمرفوع وَلَا مَنْصُوب مَعَه وَلَا مجرور وَلَا تَجِد مَنْصُوبًا وَلَا مجروراً الا وَمَعَهُ مَرْفُوع لفظا أَو تَقْديرا
فصل

وإنَّما بَدَأَ من بَدَأَ بالمبتدأ قبل الْفَاعِل لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّه اسْم تُصَدَّرُ الجملةُ بِهِ وَالْفَاعِل يتَأَخَّر عَن الصَّدْر وَالثَّانِي أنَّ الْمُبْتَدَأ لَا يبطل كَونه مُبْتَدأ بِتَأْخِيرِهِ وَالْفَاعِل إِذا تقدَّم على الْفِعْل صَار مُبْتَدأ لَا غير
فصل

والمبتدأ هُوَ الِاسْم المجرَّد من العوامل اللفظية لفظا وتقديراً المُسْنَدُ إِلَيْهِ خبرٌ أَو مَا يسدُّ مسدَّه وَفِيه احْتِرَاز من قَوْلك أنَّ زيدٌ خرج حرجت فإنَّ (زيدا) مجرَّد من العوامل لفظا لَا تَقْديرا إِذْ التَّقْدِير إنْ خرج زيد فَهُوَ فَاعل

(1/124)


وإنَّما وَجب أَن يكون اسْما لأنّه مخبر عَنهُ وَلَا يصحُّ الْإِخْبَار عَن غير الِاسْم وأمَّا قَوْلهم (تسمع بالمعيديّ خير من أَن ترَاهُ) فتقديره أَن تسمع فَلم يخبر عَن الْفِعْل إِذن وإنَّما شَرط فِيهِ التجَّرد من الْعَامِل اللفظيّ لأنَّ الْعَامِل اللفظيّ إِذا تقدَّم عَلَيْهِ عمل فِيهِ ينْسب إِلَيْهِ أَكَانَ فَاعِلا أَو مَا أشبهه وَأما قَوْلهم بحسبك قولُ السوء فالباء زَائِدَة وَقد علمت فِي لفظ الِاسْم والموضع مَرْفُوع وَشرط فِيهِ الْإِسْنَاد لتحصل الْفَائِدَة
وَقد قَالَ النحويُّون الْمُبْتَدَأ معَتمدُ الْبَيَان وَالْخَبَر مُعْتَمد الْفَائِدَة وَمن هَهُنَا شَرط فِي الْمُبْتَدَأ أَن يكون معرفَة أَو قَرِيبا مِنْهَا ليُفِيد الْإِخْبَار عَنهُ إِذْ الْخَبَر عَّما لَا يعرف غير مُفِيد وَقد جَاءَت نكرات أَفَادَ الإخبارُ عَنْهَا وسنراها إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فصل

وَاخْتلفُوا فِي الْعَامِل فِي الْمُبْتَدَأ على خَمْسَة أَقْوَال أحدُها أنَّه الِابْتِدَاء وَهُوَ كَون الِاسْم أوَّلاً مقتضياً ثَانِيًا وَهَذَا هُوَ القَوْل المحقَّق وَإِلَيْهِ ذهب جُمْهُور الْبَصرِيين

(1/125)


وَالْقَوْل الثَّانِي أنَّ الْعَامِل فِيهِ تجردّه عَن العوامل اللفظيَّة وَإسْنَاد الْخَبَر إِلَيْهِ رُوِيَ عَن المبرِّد وَغَيره
وَالثَّالِث أنَّ الْعَامِل فِيهِ مَا فِي النَّفس من معنى الْإِخْبَار رُوِيَ عَن الزجَّاج
وَالرَّابِع أنَّ الْعَامِل فِيهِ الْخَبَر
وَالْخَامِس أنَّ الْعَامِل فِيهِ العائدُ من الْخَبَر وَالْقَوْلَان الأخيران مَذْهَب الْكُوفِيّين وَالدَّلِيل على أَن الْعَامِل فِيهِ أوَّليتَّه واقتضاؤه ثَانِيًا من وَجْهَيْن أَحدهمَا أنَّ هَذِه الصّفة مختَّصة بِالِاسْمِ والمختصُّ من الْأَلْفَاظ عَامل فَكَذَلِك من الْمعَانِي
وَالثَّانِي أنَّ الْمُبْتَدَأ مَعْمُول ولابدَّ لَهُ من عَامل وَلَا يجوز أَن يعْمل فِي نَفسه لِامْتِنَاع كَون الْمَعْمُول عَاملا فِي نَفسه كَمَا يمْتَنع أَن يكون الشَّيْء علَّة لنَفسِهِ وَلَا يجوز أَن يكون تعرِّية من العوامل اللفظيَّة عَاملا لِأَن ذَلِك عدم الْعَامِل وَعدم الْعَامِل لَا يكون عَاملا فإنْ قيل الْعَدَم يكون أَمارَة لَا علّة قيل الأمارة يستدلُّ بهَا على أنَّ ثَمَّ عَاملا غَيرهَا وَقد اتَّفقوا على أنَّه لَا عَامل يستدُّل عَلَيْهِ بِالْعدمِ

(1/126)


فَإِن قيل التعرَّي من العوامل لَيْسَ هُوَ الْعَامِل بل صَلَاحِية الِاسْم للعوامل اللفظيَّة هوالعامل قيل هَذَا يرجع إِلَى الْمَذْهَب الأوَّل وَلَا يجوز أَن يكون إِسْنَاد الْخَبَر عَاملا لِأَن الْإِسْنَاد يكون بعد الْمُبْتَدَأ وَمن شَرط الْعَامِل أَن يتقدَّم على الْمَعْمُول لفظا أَو تَقْديرا
وَلَا يجوز أَن يكون الْعَامِل مَا فِي النَّفس من معنى الْخَبَر لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ تصوُّر معنى الأبتداء سَابق على تصوُّر معنى الْخَبَر وَالسَّابِق أوْلى أَن يكون عَاملا وَالثَّانِي أنَّ رتبه الْخَبَر بعد الْمُبْتَدَأ ورتبةُ الْعَامِل قبل الْمَعْمُول فيتنافيان وَالثَّالِث أنَّ الْخَبَر قد يكون فعلا فَلَو عمل فِي الْمُبْتَدَأ لَكَانَ فَاعِلا وَالرَّابِع أنَّ الْخَبَر يكون من الْمَوْصُول والصلة فَلَو عمل لعملت الصِّلَة فِيمَا قبلهَا وَالْخَامِس أنَّ الْخَبَر كالصفة وكما لَا تعْمل الصّفة فِي الْمَوْصُوف كَذَلِك الْخَبَر وَالسَّادِس أنَّ (إنَّ) و (كَانَ) إِذا دخلا على الْمُبْتَدَأ أزالا الرّفْع وَالْخَبَر لفظيُّ وَالْعَامِل اللفظيُّ لَا يبطل الْعَامِل اللفظيَّ وَلَا يجوز أنَّ يكون الضَّمِير الْعَائِد عَاملا لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ الْمُضمر فرع الْمظهر فَإِذا لم يعْمل الأَصْل فالفرع أوْلى وَالثَّانِي أنَّ الضَّمِير قد يكون فِي الصِّلَة فَلَو عمل لعمل فِيمَا قبل الْمَوْصُول وَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْوَال تعيَّن القولُ الأوَّل

(1/127)


فصل

وأمَّا عَامل الْخَبَر فَفِيهِ خَمْسَة أَقْوَال أحدُهما الِابْتِدَاء وَهُوَ قَول ابْن السراج لأنَّه عمل فِي الْمُبْتَدَأ فَعمل فِي الْخَبَر ك (كَانَ) و (ظَنَنْت) و (إنَّ) وَالْقَوْل الثَّانِي أنَّ الْمُبْتَدَأ هُوَ الْعَامِل فِي الْخَبَر وَهُوَ قَول أبي عليّ وَهَذَا ضَعِيف لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ الْمُبْتَدَأ كالخبر فِي الجمود والجامد لَا يعْمل وَالثَّانِي أنَّ الْمُبْتَدَأ لَو عمل فِي الْخَبَر لم يبطل بِدُخُول الْعَامِل اللفظيّ لِأَنَّهُ لَفْظِي أَيْضا وَمن مذْهبه أنَّ الْعَامِل اللفظيّ لَا يعْمل فِي الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَالْقَوْل الثَّالِث أنَّ الِابْتِدَاء والمبتدأ جَمِيعًا يعملان فِي الْخَبَر وَقد بيَّنا أنَّ الْمُبْتَدَأ

(1/128)


لَا يصلح للْعَمَل فَلَا يصلح لَهُ مَعَ غَيره وأمّا الْعَامِل فِي الشَّرْط وَالْجَزَاء فسنبينَّه فِي مَوْضِعه
وَالْقَوْل الرَّابِع أنَّ الْعَامِل فِي الْخَبَر التعرَّي من العوامل وَقد أفسدناه
وَالْقَوْل الْخَامِس أنَّ الْعَامِل هُوَ الْمُبْتَدَأ وَهُوَ قولَّ الفرَّاء وسمَّوْهما المترافعين وشبَّهوهما بأسماء الشَّرْط وإنَّما تعْمل فِي الْفِعْل وَيعْمل الْفِعْل فِيهَا وَهَذَا قَول ضَعِيف لما بيَّنا أَن الْمُبْتَدَأ لَا يصلح للْعَمَل وتشبيهه بأسماء الشَّرْط لَا يصحُّ لخمسة أوجه
أَحدهَا أنَّهم بنوه على أنَّ الْخَبَر عَامل فِي الْمُبْتَدَأ وَقد أفسدناه وَالثَّانِي أنَّ اسْم الشَّرْط لَا يعْمل بل الْعَامِل حرف الشَّرْط مضمراً وَلَا يجوز إِظْهَاره كَمَا لَا يجوز إِظْهَار (أنْ) مَعَ (حَتَّى) وَالثَّالِث أنَّ عمل اسْم الشَّرْط بالنيابة عَن الْحَرْف وَعَمله فِي الْفِعْل ضَعِيف هُوَ الْجَزْم بِخِلَاف الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَالرَّابِع أَن عمل اسْم الشَّرْط فِي الْفِعْل من حَيْثُ نَاب عَن الْحَرْف وَعمل الْفِعْل فِيهِ من حَيْثُ هُوَ اسْم والأسماء معمولة الْأَفْعَال فجهة الْعَمَل مُخْتَلفَة بِخِلَاف الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر

(1/129)


وَالْخَامِس أنَّ عمل أَحدهمَا فِي الآخر مُخَالف لعمل الآخر فِيهِ وَالْعَمَل فِي مَسْأَلَتنَا وَاحِد فَهُوَ كالآخذ مَا يُعْطي وَذَلِكَ كالعبث هَذَا تَعْلِيل جمَاعَة من النحويِّين وَفِيه نظر وَالصَّحِيح أَن يُقَال الْعَمَل تَأْثِير والمؤثر أقوى من المؤثَّر فِيهِ فيفضي مَذْهَبهم إِلَى أَن يكون الشَّيْء قويّاً ضَعِيفا من وَجه وَاحِد إِذْ كَانَ مؤثراً فِيمَا أثَّر فِيهِ
فصل

وإنَّما عمل الِابْتِدَاء الرّفْع لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّه قوي بأوَّليته وَالرَّفْع أقوى الحركات فَكَانَ ملائما لَهُ وَالثَّانِي أنَّ الْمُبْتَدَأ يشبه الْفَاعِل فِي أنَّه لَا يكون إلاَّ اسْما مخبرا عَنهُ سَابِقًا فِي الْوُجُود على الْخَبَر
فصل
وإنَّما كَانَ الْمُبْتَدَأ معرفَة فِي الْأَمر العامّ لِأَن الْفَائِدَة لَا تحصل بالإخبار عَّما لَا يعرف

(1/130)


فأمَّا إِذا وُصِفتْ النكرَة فالإخبار عَنْهَا مُفِيد لتخصُّصها وأمّا قَوْلهم {سَلام عَلَيْكُم} فالاسم وَاقع موقع الْفِعْل أيْ (سلَّم الله عَلَيْكُم وأمَّا إِذا تقدَّم الخبرَ وَكَانَ ظرفا فلتخصَّص الْمُبْتَدَأ بالظرف الْمَخْصُوص وأمّا قَوْلهم مَا أحدٌ فِي الدَّار فَجَاز لما فِي أحد من معنى الِاسْتِغْرَاق
وأمَّا قَوْلهم شرٌّ أهرَ ذَا نَاب ومأربٌ دعَاك إِلَيْنَا لَا حفاوة فَفِي معنى النَّفْي أَي مَا أهرَّ ذَا نَاب إلاَّ شرّ وأمَّا قَوْلهم أقائم زيد فَجَائِز لاعتماد النكرَة على الِاسْتِفْهَام ونيابتها عَن الْفِعْل وَأما (مَا) فِي التعجُّب فَلَمَّا فِيهَا من الْإِبْهَام والعموم
فصل

الِاسْم الْوَاقِع بعد (لَوْلَا) الَّتِي يمْتَنع بهَا الشَّيْء لوُجُود غَيره مُبْتَدأ

(1/131)


وَقَالَ الكوفيٌّون هُوَ فَاعل فعل مَحْذُوف وَمِنْهُم من يرفعهُ بِنَفس (لَوْلَا) وَقَالُوا (لَا) فِيهِ بِمَعْنى (لم) وَالدَّلِيل على أنَّه مُبْتَدأ من وَجْهَيْن أحدهمَّا أنَّ (لَوْلَا) هَذِه تَقْتَضِي اسْمَيْنِ الثَّانِي مِنْهُمَا خبر بِدَلِيل جَوَاز ظُهُوره فِي اللَّفْظ وَإِن لم يسْتَعْمل وَلَو كَانَت (لَوْلَا) عاملة أَو الْعَامِل مقدَّراً بعْدهَا لم يصحّ ذَلِك وَالثَّانِي أنَّ (لَوْلَا) لَا تختصُّ بالأسماء بل تدخل عَلَيْهَا وعَلى الْأَفْعَال بِدَلِيل قَول الْهُذلِيّ // الطَّوِيل // 4 -
(أَلا زعمت أسماءُ أنْ لَا أحبهُّا ... فقلتُ بلَى لَوْلَا يُنَازعنِي شغلي) وَقَالَ جرير // الْبَسِيط //

(1/132)


5 -
(أَنْت الْمُبَارك والميمون سيرتُه ... لَوْلَا تقوِّمُ دَرْءَ النَّاس لاختلفوا) وَقَالَ آخر // الْبَسِيط // ((6 -
(قَالَت أميمةُ لَمَّا جِئْت زائرَها ... هلاّ رميْتَ بِبَعْض الأسهم السودِ)
(لادرَّ درُّكِ إنَّي قد رَمَيْتُهُم ... لَوْلَا حُدِدْتُ وَلَا عذرى لمحدود) // الْبَسِيط // فإنْ قيل لَو كَانَ مَا بعْدهَا مُبْتَدأ لم تقع موقعه (أنَّ) الْمَفْتُوحَة وَقد وَقعت كَقَوْلِه تَعَالَى {فلولا أنَّه كانَ من المسبّحين} وَوُقُوع الْمُفْرد بعْدهَا دَلِيل على ارتفاعه بِفعل مَحْذُوف أَو بهَا قيل جَوَابه من ثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّ (أنَّ) الْمَفْتُوحَة تكون فِي مَوضِع الْمُبْتَدَأ فِي كلّ مَوضِع لَا يصحُّ فِيهِ دُخُول (إنَّ) الْمَكْسُورَة عَلَيْهَا لئلاَّ يتوالى حرفان بِمَعْنى وَاحِد وَقد أَمن هَذَا فِي (لَوْلَا)

(1/133)


وَالثَّانِي أنَّ خبر الْمُبْتَدَأ هَهُنَا لَمَّا لم يظْهر بِحَال صَار الْكَلَام كالمفرد وَالثَّالِث أنَّ الْكَلَام لَا يصحُّ إلاَّ بشيئين أَحدهمَا جعل (لَا) بِمَعْنى (لم) وَالثَّانِي تَقْدِير فعل رَافع والأوَّل بَاطِل لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ وضع (لَا) مَوضِع (لم) لَا يصحّ لأنَّ (لم) تختصُّ بالأفعال الْمُسْتَقْبلَة لفظا و (لَا) تختصُّ
وَالثَّانِي أنَّ (لَوْلَا) هُنَا تختصُّ بالاسماء أَو تكْثر فِيهَا و (لم) لَا يَقع بعْدهَا الْأَسْمَاء وأمَّا تَقْدِير الْفِعْل فَلَا يصحّ لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ الْفِعْل لايحذف عَن الْفَاعِل إلاَّ إِذا كَانَ هُنَاكَ فعل يفسرَّ الْمَحْذُوف وَلَيْسَ ذَلِك هَهُنَا
وَالثَّانِي أنَّه لَو كَانَ الْأَمر على مَا قَالُوا لصحَّ الْعَطف عَلَيْهِ بِإِعَادَة (لَا) كَقَوْلِك لَوْلَا زيدٌ وَلَا عَمْرو كَقَوْلِك لَو يقم زيدٌ وَلَا عَمْرو
فصل

وَإِذا اعْتمد اسْم الْفَاعِل على الِاسْتِفْهَام أَو حرف النَّفْي أَو كَانَ صفة

(1/134)


أَو صلَة أَو حَالا أوخبراً أَو مُبْتَدأ بعد مُبْتَدأ جَازَ رَفعه بِالِابْتِدَاءِ وَكَانَ مَا بعده فَاعِلا لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء تقوّي شبهه بِالْفِعْلِ وارتفع بِالِابْتِدَاءِ لِأَن شُرُوط الِابْتِدَاء مَوْجُودَة فِيهِ وَلَا يحْتَاج إِلَى خبر لأنَّه نَاب الْفِعْل الَّذِي هُوَ خبر
فَإِن لم يعْتَمد على شَيْء كَانَ خَبرا مقدَّماً فِيهِ ضمير ويثنَّى وَيجمع عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَقَالَ الْأَخْفَش يكون مُبْتَدأ كَمَا لَو اعْتمد وَيعْمل فِيمَا بعده وَهَذَا ضَعِيف لأنَّ اسْم الْفَاعِل فرعٌ فِي الْعَمَل على الْفِعْل فَلم يعْمل إلاَّ بِمَا يقوِّيه
فصل

وَحَقِيقَة الْخَبَر مَا صحَّ أنْ يُقَال فِي جَوَابه صدق أَو كذب فأمَّا الْأَمر وَالنَّهْي فضعيف جَعلهمَا خَبرا للمبتدأ لأنَّهما ضدُّ الْخَبَر فِي الْمَعْنى وَمَا جَاءَ مِنْهُ فَهُوَ متأوَّل تَقْدِيره زيدٌ أَقُول أضْربْهُ وَحذف القَوْل كثير أَو يكون التَّقْدِير زيد وَاجِب عَلَيْك ضربه ثمَّ قَامَ الْأَمر مقَام هَذَا القَوْل كَقَوْلِه تَعَالَى {قل من كَانَ فِي الضَّلالة فليمدُدْ لهُ الرحمنُ مدّاً} أَي فليمدّنّ لَهُ

(1/135)


فصل

وَالْخَبَر الْمُفْرد هُوَ الْمُبْتَدَأ فِي الْمَعْنى إِذْ لَوْلَا ذَلِك لم يكن بَينهمَا علقَة ترْبط أحدَهما بِالْآخرِ وَلِهَذَا جَازَ أَن يخلوا من ضمير يعود على الْمُبْتَدَأ كَقَوْلِك زيد غلامك وإنَّما وَجب أَن يكون فِي الْخَبَر الْمُفْرد المشتقّ ضميرّ لِأَنَّهُ يعْمل عمل الْفِعْل كَقَوْلِك زيدٌ ضَارب أَبوهُ عمرا وَإِذا لم يكن ظَاهرا كَانَ مضمراً وَلِهَذَا قَالُوا مَرَرْت بقاع عرفج كلّه خشن أَي كلّه ومررت بِقوم عرب أَجْمَعُونَ أَي تعرَّبوا كلّهم أَجْمَعُونَ
فصل

فَإِن لم يكن الْخَبَر الْمُفْرد مشتقّاً لم يكن فِيهِ ضمير وَقَالَ الرُّماني والكوفيُّن فِيهِ ضمير وَمَا قَالُوا فاسدٌ لثَلَاثَة أوجه

(1/136)


أَحدهَا أنَّ قَوْلك هَذَا زيدٌ مُبْتَدأ وَخبر فزيدٌ لَا يصحُّ تحمُّله الضَّمِير كَمَا لَا يعْمل فِي الظَّاهِر
وَالثَّانِي أنَّه لَا يَقع صفة فَلم يكن فِيهِ ضمير
وَالثَّالِث أنَّه قد يُخَالف الْمُبْتَدَأ فِي الْعدَد كَقَوْلِك زيد الْعمرَان أَخَوَاهُ وَالضَّمِير أبدا يكون على وفْق الْمظهر وَلَيْسَ كَذَلِك اسْم الْفَاعِل لما تقدَّم
وَلَا يُقَال قَوْلك زيد أَخُوك فِي معنى مناسبك لأنَّه لَو كَانَ كَذَلِك لعمل فِي الِاسْم الظَّاهِر ولوقع وَصفا وإنَّما هَذَا فِي الْمَعْنى صَحِيح وَالضَّمِير يعْتَمد الْفِعْل أَو مَا كَانَ مشتقاً مِنْهُ أَلا ترى أنَّ قَوْلك مروري بزيد حسن وَهُوَ بِعَمْرو قَبِيح وضربي زيدا حسن وَهُوَ عمرا قَبِيح جَائِز أَن تعُمل الْمصدر وَلَا تعْمل ضَمِيره لأنَّ ضمير الْمصدر لَيْسَ فِيهِ ضمير لفظ الْفِعْل وَإِن كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا
فصل

اسْم الْفَاعِل إِذا جرى على غير من هُوَ لزم إبراز ضمير فَاعله كَقَوْلِك زيد عمروٌ ضاربه هُوَ وَقَالَ الكوفُّيون لَا يلْزم

(1/137)


وَالدَّلِيل على لُزُومه من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّ إبرازه يزِيل اللّبْس فِي كثير من الْمَوَاضِع كهذه الْمَسْأَلَة فَيجب أَن يلْزم فِي الْجَمِيع ليطّرد الْبَاب كَمَا فِي بَاب (يعد) بل هَذَا ألزم
وَالثَّانِي أَن اسْم الْفَاعِل فرع على الْفِعْل فِي تحمُّل الضَّمِير وَلِهَذَا لَا يَجْعَل اسْم الْفَاعِل مَعَ ضَمِيره جملَة بِخِلَاف الْفِعْل وَلَا يبرز ضمير التَّثْنِيَة وَالْجمع فِي اسْم الْفَاعِل كَمَا يبرز فِي الْفِعْل وَهَذَا مقتصر على الْفِعْل فَإِذا انضمَّ إِلَى ذَلِك جَرَيَانه على غير من هُوَ لَهُ وَجب إبراز الضَّمِير ليظْهر أثر قصوره وفرعيتَّه وَلَيْسَ كَذَلِك الْفِعْل فإنَّ الضَّمِير المتَّصل لفظا قد يفصل ويزيل اللّبْس كَقَوْلِك زيد أَنا ضربت وَلَا يظْهر ذَلِك فِي اسْم الْفَاعِل كَقَوْلِك زيد أَنا ضَارب وَإِن جَاءَ شَيْء من هَذَا لم يبرز فِيهِ الضَّمِير فِي الشّعْر فضرورة أَو يكون هُنَاكَ حذفُ جارّ ومجرور
فصل

وَالْجُمْلَة هِيَ الْكَلَام الَّذِي تحصل مِنْهُ فَائِدَة تامَّة واشتقاقها من أجملت الشَّيْء إِذا جمعته وكلَّ مُحْتَمل للتفصيل جملَة والمبتدأ وَالْخَبَر وَالْفِعْل وَالْفَاعِل بِهَذِهِ الصّفة إلاَّ أنَّه قد يعرض فِي الْجُمْلَة يُحْوجُها إِلَى مَا قبلهَا
وأنَّما أُخْبِرنا بِالْجُمْلَةِ مَكَان الْمُفْرد لثَلَاثَة أَشْيَاء
أَحدهَا الْحَاجة إِلَى توسيع الْعبارَة فِي النّظم والنثر

(1/138)


وَالثَّانِي أنَّ ذَلِك قد يزِيل اللّبْس فِي بعض الْمَوَاضِع كَقَوْلِك زيد قَامَ أَبوهُ لَو قلت قَامَ أَبُو زيد لجَاز أَن يُظن أنَّ هَذِه كنية لَهُ لَا أنَّ لَهُ ولدا فَإِذا قدمت بَطل كَونه كنية
وَالثَّالِث أنَّ فِي ذكر الشَّيْء مظْهرا ومضمراً تفخيماً
وإنَّما وَجب أَن يكون فِي الْجُمْلَة ضمير الْمُبْتَدَأ لِأَن الْخَبَر فيهمَا على التَّحْقِيق هُوَ المتبدأ الْأَخير وَالْأول أجنبيٌّ مِنْهُ وَالضَّمِير يرْبط الْجُمْلَة بالأوَّل حتَّى يصير لَهُ بهَا تعلُّق وإنَّما يسوغ حذف هَذَا الضَّمِير فِي مَوضِع يعلم أنَّه مُرَاد من غير لبس كَقَوْلِهِم السمنُ منوان بدرهم وَكَقَوْلِه تَعَالَى {وَلمن صَبر وَغفر إنَّ ذَلِك لمن عزم الْأُمُور} أَي إنَّ ذَلِك مِنْهُ ولهذه العلَّة جَازَ حذف الْخَبَر تَارَة والمبتدأ أُخْرَى وَحذف الْجُمْلَة بأسرها
فصل

والظرف الْوَاقِع خَبرا مقدَّر بِالْجُمْلَةِ عِنْد جُمْهُور الْبَصرِيين وَقَالَ بعضهُم هُوَ مقدرَّ بالمفرد

(1/139)


وَالدَّلِيل على أَنه مقدرَّ بِالْجُمْلَةِ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَّه كالجملة فِي الصِّلَة كَقَوْلِك الَّذِي خَلفك زيد فَكَذَلِك فِي الْخَبَر
وَالثَّانِي أنَّ الظّرْف مَعْمُول لغيره
وَالْأَصْل فِي الْعَمَل للأفعال والأسماء نائبة عَنْهَا وَجعل الْعَمَل هُنَا للْفِعْل أوْلى وَإِذا أنيب الظّرْف مُناب الْفِعْل دلَّ عَلَيْهِ واحتجَّ الْآخرُونَ من وَجْهَيْن أَحدهمَا أنَّ الأَصْل فِي الْخَبَر أَن يكون مُفردا وَحمل الْفُرُوع على الْأُصُول أولى وَالثَّانِي أَن الظّرْف إِذا تقدم على الْمُبْتَدَأ لم يبطل الِابْتِدَاء وَلَو كَانَ مقدَّراً بِالْفِعْلِ لأبطله وَالْجَوَاب أنَّ الأَصْل فِي الْخَبَر لَا يُمكن تَقْدِيره هَهُنَا لما بيَّنا من أنَّ الْمُفْرد هُوَ الْمُبْتَدَأ فِي الْمَعْنى والظرف لَيْسَ هوالمبتدأ فَعِنْدَ ذَلِك نجْعَل الْعَامِل فِي الظّرْف مَا هُوَ الأَصْل فِي الْعَمَل لئلاَّ تقع الْمُخَالفَة من وَجْهَيْن وأمَّا إِذا تقدم الظّرْف وَلم يعْتَمد فَلَا يبطل الِابْتِدَاء بِهِ لأنَّه لَيْسَ بِفعل على التَّحْقِيق بل هُوَ نَائِب عَنهُ ويصحُّ ان يقدَّر بعده الْمُبْتَدَأ بِخِلَاف الْفِعْل
فصل

وإنَّما لم يجز الْإِخْبَار بِالزَّمَانِ عَن الجثَّة لعدم الْفَائِدَة إِذْ كَانَت الجثَّة غير مختصَّة بِزَمَان دون زمَان أَلا ترى أنَّ قَوْلك زيدٌ غَدا إِذا أردْت مستقرُّ غَدا لَا يُفِيد إِذْ

(1/140)


هُوَ مستقرَّ فِي كلَّ زمَان وَعلم السَّامع بذلك ثَابت فَلَو قلت يُقدَّرُ الْخَبَر بِمَا هُوَ يختصُّ بِهِ نَحْو قَوْلك حيٌ أَو غنيٌ أَو قادم قيل إنَّما يُضمر مَا عَلَيْهِ دَلِيل وَلَا دَلِيل على وَاحِد من هَذِه بِخِلَاف قَوْلك زيد خَلفك والرحيل غَدا فإنَّ الْمَحْذُوف مِنْهُ الِاسْتِقْرَار والكونُ والحصول الْمُطلق والظرف يدلُّ عَلَيْهِ قطعا
فأمَّا قَوْلهم اللَّيْلَة الهلالُ فيروى بِالرَّفْع على تَقْدِير الليلةُ ليلةُ الْهلَال وَبِالنَّصبِ على تَقْدِير اللَّيْلَة طلوعُ الْهلَال أَو على أَن تجْعَل الْهلَال بِمَعْنى الاستهلال وَهُوَ من إِقَامَة الجثة مُقام الْمصدر وإنَّما يكون فِيمَا ينْتَظر وَيجوز أَن يكون وَيجوز ألاَّ يكون فَلَو قلت فِي انْتِهَاء الشَّهْر اللَّيْلَة الْقَمَر لم يجز وَقد يجوز أَن تَقول زيدٌ غَدا إِذا كَانَ غَائِبا وخاطبت من ينْتَظر قدومه
فصل

وَلَا يجوز إِظْهَار الْعَامِل فِي الظّرْف إِذا كَانَ خَبرا لأنَّ ذكر الظّرْف نَائِب عَنهُ فَلم يجمع بَينهمَا للْعلم بِهِ فأمَّا قَوْله تَعَالَى {فلَمَّا رَآهُ مستقرّاً عِنْده} فمستقرٌّ فِيهِ بِمَعْنى السَّاكِن بعد الْحَرَكَة لَا الِاسْتِقْرَار الَّذِي هُوَ مُطلق الْكَوْن

(1/141)


فصل

يجوز تَقْدِيم الْخَبَر على الْمُبْتَدَأ مُفردا كَانَ أَو جملَة وَمنعه الكوفَّيوُّن وَالدَّلِيل على جَوَازه السماع وَالْقِيَاس أمَّا السماعُ فَقَوْل الشَّاعِر // الوافر //
(فَتى مَا ابْن الأغرّ إِذا شتونا ... وجُبَّ الزادُ فى شَهْري قُماح) وَقَوْلهمْ تميميّ أَنا ومشنوء من يشنؤك وأمَّا الْقيَاس فَمن وَجْهَيْن
أحدُهما أَن الْخَبَر يشبه الْفِعْل وَالْفِعْل يتَقَدَّم ويتأخر
وَالثَّانِي أنَّ الْخَبَر يشبه الْمَفْعُول لأنَّه قد يصيُر مَفْعُولا فِي قَوْلك ظَنَنْت زيدا قَائِما وَالْمَفْعُول يجوز تَقْدِيمه وَكَذَلِكَ خبر (كَانَ) يتقدَّم على اسْمهَا وَخبر (إنَّ) يتقدَّم على اسْمهَا إِذا كَانَ ظرفا فَكَذَلِك هَهُنَا واحتجَّ الْآخرُونَ بأنَّ تَقْدِيم الْخَبَر إِضْمَار قبل الذّكر وَهَذَا غير مَانع من التَّقْدِيم لأنَّه مُؤخر تَقْديرا فَهُوَ كَقَوْلِهِم (فِي بَيته يُؤْتى الحكم) وكقولك ضرب غلامَه زيدٌ إِذا جعلته مَفْعُولا لأنَّ النيَّة بِهِ التَّأْخِير

(1/142)


فصل

إِذا تقدم الظّرْف على الِاسْم وَاعْتمد على أحد سَبْعَة أَشْيَاء مُبْتَدأ على أَن يكون هُوَ خَبرا أَو صفةٍ أَو صلَة أَو حالٍ أَو كَانَ مَعَه اسْتِفْهَام أَو حرف نفي أَو كَانَ عَاملا فِي (أنَّ) وَالْفِعْل كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمن آيَاته أَن تقوم السماءُ وَالْأَرْض بأَمْره} جَازَ أَن يعْمل فِيمَا بعده عمل الْفِعْل فِي الْفَاعِل لقوَّته بِمَا اعْتمد عَلَيْهِ وَجَاز أَن يكون خَبرا مقدَّماً فإنَّ لم يعْتَمد على شَيْء لم يعْمل عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَعمل عِنْد الْأَخْفَش والكوفيين والمبرَّد وَالدَّلِيل على أَنه لَا يعْمل من أَرْبَعَة أوجه
أحدُهما أنَّ الْعَامِل يتخّطَّى الظّرْف فَيعْمل فِيمَا كَانَ مُبْتَدأ كَقَوْلِك إنَّ خَلفك زيدا وَلَو كَانَ عَاملا لم يُبطلهُ عَامل خر وَالثَّانِي أنَّك تضمر الْمُبْتَدَأ فِي الظّرْف وَهُوَ مقَّدم كَقَوْلِك فِي دراه زيد وَلَو كَانَ عَاملا لَكَانَ وَاقعا فِي رتبته وَلزِمَ فِيهِ الإضمارَ قبل الذّكر لفظا وتقديراً
وَالثَّالِث أنَّ مَعْمُول الْخَبَر يجوز أَن يتقدَّم على الْمُبْتَدَأ كَقَوْل الشمَّاخ // الوافر //

(1/143)


8 -
(كلا يوميْ طُوالةَ وَصلُ أروى ... ظَنونٌ آنَ مُطرح الظُنونِ) و (كلا) مَنْصُوب الْخَبَر وَهُوَ ظنون والمعمول تَابع الْعَامِل وَالتَّابِع لَا يَقع موقعاً لَا يَقع فِيهِ الْمَتْبُوع
وَالرَّابِع أنَّ الظّرْف وحرف الجرَّ غير مشتقَّين وَلَا معتمدين فَلم يعملا كَقَوْلِك هَذَا زيدٌ فَإِن قَالُوا الظريف نَائِب عَن الْفِعْل فَيعْمل عمله فقد أجبنا عَنهُ فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة
فصل

فَإِن كَانَ الْخَبَر استفهاماً لزم تَقْدِيمه لأنَّ الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام إِذْ كَانَ مَعْنَاهُ فِيمَا بعده وَلَو قدمت المستفهم عَنهُ على الِاسْتِفْهَام لعكست الْمَعْنى فأمَّا قَوْلهم صنعت مَاذَا ف (مَا) غير معمولة ل (صنعت) هَذِه وَالتَّقْدِير أصنعت ثمَّ حذفت همزَة الِاسْتِفْهَام ثمَّ أتيت ب (مَا) دالَّة عَلَيْهَا و (مَا) مَنْصُوبَة بِفعل آخر استُغني عَنهُ بالمذكور

(1/144)


فصل

وإنَّما لزم تَقْدِيم الْخَبَر إِذا كَانَ ظرفا أَو حرف جرَّ على النكرَة كَقَوْلِك لَهُ مَال لأنَّه لوَ أُخرَّ لجَاز أَن يُعتقد صفة وأنَّ الْخَبَر منتظر وبالتقديم ثَمَّ يَزُول هَذَا الظنّ
فصل

فِيمَا يسدُّ مسدَّ الْخَبَر
فَمن ذَلِك (جَوَاب لَوْلَا) فِي قَوْلك لَوْلَا زيدٌ لأتيتك وَالتَّقْدِير لَوْلَا زيدٌ حَاضر وموجود فَصَارَ طول الْكَلَام بِالْجَوَابِ دَالا على الْمَحْذُوف ومغنياً عَنهُ
وَمن ذَلِك (لعمرك) فِي الْقسم وَالتَّقْدِير قسمي وَالْجَوَاب دالٌّ على الْمَحْذُوف
وَمن ذَلِك قولُهم ضربي زيدا قَائِما ف (قَائِما) حَال من ضمير مَحْذُوف تَقْدِير ضربي زيدا إِذا كَانَ قَائِما فحذفت (إِذا) لأنَّها زمَان وَاسم الْفَاعِل يدلُّ على الزَّمَان و (كَانَ) هَذِه التامَّة ضميرها فَاعل وَالْحَال مِنْهُ فإنْ قلت لم لَا تكون النَّاقِصَة و (قَائِما خَبَرهَا قيل لَا يصحُّ لوَجْهَيْنِ

(1/145)


أَحدهمَا أنَّ (قَائِما) لم تقع فِي مثل هَذِه إلاَّ نكرَة وَخبر (كَانَ) يجوز أَن يكون معرفَة
وَالثَّانِي أنَّ الْغَرَض من (كَانَ) تعْيين زمَان الْخَبَر فَإِذا حذفت لم يبْق على زَمَانه دَلِيل
وَمثل هَذِه الْمَسْأَلَة أَكثر شربي السويق ملتوتاً وأخطبُ مَا يكون الْأَمِير قَائِما فأمَّا قولُهم أخطبُ مَا يكون الْأَمِير يوُم الْجُمُعَة فيروى بِالنّصب على تَقْدِير أَخطب أكوان الْأَمِير يومَ الْجُمُعَة ف (يَوْمًا) هَهُنَا خبر وَفِي الْكَلَام مجَاز وَهُوَ جعل الْكَوْن خاطباً ويُروى بِالرَّفْع على تَقْدِير أَخطب أيامِ كونِ الْأَمِير فَفِيهِ على هَذَا حذف ومجاز
وَمن ذَلِك كلّ رجل وضيعته فَالْخَبَر فِيهِ مَحْذُوف أَي مقرونان أغْنى عَن الْخَبَر كونُ الْوَاو بِمَعْنى (مَعَ) والضيعة هَهُنَا الحرفة
وأمَّا قَوْلهم أَنْت أعلم وربُّك فتقديره ربُّك مكافئك أَو مجازيك

(1/146)


فصل

وأمَّا قَوْلهم أمَّا زيد فمنطلق ف (زيد) مُبْتَدأ و (منطلق) خَبره وإنَّما دخلت الْفَاء لما فِي (أمَّا) من معنى الشَّرْط فَكَانَ موضعهَا الْمُبْتَدَأ لكَونهَا تكون فِي أوَّل لجملة الْمجازى بهَا لكنَّهم أخرَّوها إِلَى الْخَبَر لِئَلَّا تلِي الْفَاء مَا فِي تَقْدِير حرف الشَّرْط وَجعلُوا الْمُبْتَدَأ كالعوض من فعل الشَّرْط وَلَا تدخل الْفَاء على الْخَبَر فِي غير ذَلِك إلاَّ فِي خبر (الَّذِي) إِذا وصل بِفعل أَو ظرف فِيهِ مَا يُؤذِنُ بأنَّ مَا فِي الْخَبَر مستحقّ الصِّلَة
وَكَذَلِكَ صفة النكرَة كَقَوْلِهِم كلُّ رجل يأتيني فَلهُ دِرْهَم فإنْ أدخلت على (الَّذِي) (إنَّ) جَازَ أَن تدخل الْفَاء فِي الْخَبَر وَقَالَ الْأَخْفَش لَا يجوز وَوجه جَوَازه أنَّ (إنَّ) لَا تغيَّر معنى الْكَلَام بل تؤكَّد الْخَبَر بِخِلَاف أخواتها فإنَّها تغيَّر معنى الْكَلَام والأخفش يحكم بِزِيَادَة الْفَاء إِذا وجدهَا فِي شَيْء من ذَلِك

(1/147)


بَاب الْفَاعِل

الْفَاعِل عِنْد النحويَّين الِاسْم الْمسند إِلَيْهِ الْفِعْل أَو مَا قَامَ مقَامه مقدَّما عَلَيْهِ سَوَاء وجد مِنْهُ حَقِيقَة أَو لم يُوجد
وَقَالَ بعض النحويَّين الْفَاعِل من وجد مِنْهُ الْفِعْل وَغَيره مَحْمُول عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيف لأربعة أوجه
أَحدهَا أنَّ قَوْلهم رخص السّعر وَمَات زيد فَاعل عِنْدهم وَلم يصدر مِنْهُ فعل حَقِيقَة
وَالثَّانِي أنَّه إِذا كَانَ فَاعِلا لصدور الْفِعْل لم يجز بَقَاء هَذَا الِاسْم عَلَيْهِ مَعَ نَفْيه لأنَّ الْمَعْلُول لَا يثبت بِدُونِ علَّة
وَالثَّالِث أنَّ قَوْلك مَا قَامَ زيد يصحُّ أَن تَقول فِيهِ مَا فعل الْقيام فتنفي الْفِعْل عَنهُ فَكيف يشتق لَهُ مِنْهُ اسْم مُثبت
وَالرَّابِع أنَّ الِاسْم إِذا تقدَّم على الْفِعْل بَطل أَن يكون فَاعِلا مَعَ صُدُور الْفِعْل مِنْهُ
فصل

وإنَّما شَرط فِيهِ أَن يتقدَّم الْفِعْل عَلَيْهِ لأربعة أوجه

(1/148)


أحدُها أنَّ الْفَاعِل كجزء من الْفِعْل لما نذكرهُ من بعدُ ومحالٌ تقدُّم جُزْء الشَّيْء عَلَيْهِ وَالثَّانِي أنَّ كَونه فَاعِلا لَا يتصوَّر حَقِيقَة إلاَّ بعد صُدُور الْفِعْل مِنْهُ كَكَوْنِهِ كَاتبا وبانياً فَجعل فِي اللَّفْظ كَذَلِك
وَالثَّالِث أَن الِاسْم إِذا تقدَّم على الْفِعْل جَازَ أَن يسند إِلَى غَيره كَقَوْلِك زيدٌ قَامَ أَبوهُ وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا تقدَّم عَلَيْهِ
وَالرَّابِع أنَّ الْفَاعِل لَو جَازَ أَن يتقدَّم على الْفِعْل لم يحْتَج إِلَى ضمير تَثْنِيَة وَلَا جمع والضميرُ لَازم لَهُ كَقَوْلِك الزيدان قاما والزيدون قَامُوا وَلَيْسَ كَذَلِك إِذا تقدَّم
فصل

والدُليل على أَن الْفَاعِل كجزء من أَجزَاء الْفِعْل اثْنَا عشر وَجها أحدُها أنَّ آخر الْفِعْل يسكَّن لضمير الْفَاعِل لئلاَّ يتوالى أَرْبَعَة متحرّكات ك (ضربت) و (ضربنا) وَلم نسكَّنه مَعَ ضمير الْمَفْعُول نَحْو (ضَرَبَنا) لأنَّه فِي حكم الْمُنْفَصِل وَالثَّانِي أنَّهم جعلُوا النُّون فِي الْأَمْثِلَة الْخَمْسَة عَلامَة رفع الْفِعْل مَعَ حيلولة الْفَاعِل بَينهمَا وَلَوْلَا أنَّه كجزء من الْفِعْل لم يكن كَذَلِك وَالثَّالِث أنَّهم لم يعطفوا على الضَّمِير المتَّصل الْمَرْفُوع من غير توكيد لجريانه مجْرى الْحَرْف من الْفِعْل واختلاطه بِهِ

(1/149)


وَالرَّابِع أنَّهم وصلوا تَاء التَّأْنِيث بِالْفِعْلِ دلَالَة على تَأْنِيث الْفَاعِل فَكَانَ كالجزء مِنْهُ الْخَامِس أنَّهم قَالُوا (ألقيا) و (قفا) مَكَان (ألقِ ألقِ) وَلَوْلَا أنَّ ضمير الْفَاعِل كجزء من الْفِعْل لما أنيب مَنَابه السَّادِس أنَّهم نسبوا إِلَى (كنت) (كنتي) وَلَوْلَا جعلهم التَّاء كجزء من الْفِعْل لم يبْق مَعَ النّسَب السَّابِع أنَّهم ألغوا (ظَنَنْت) إِذا توسَّطت أَو تأخَّرت وَلَا وَجه لذَلِك إِلَّا جعل الْفَاعِل كجزء من الْفِعْل الَّذِي لَا فَاعل لَهُ وَمثل ذَلِك لَا يعْمل الثَّامِن أمتناعهم من تَقْدِيم الْفَاعِل على الْفِعْل كامتناعهم من تَقْدِيم بعض حُرُوفه
وَالتَّاسِع أنَّهم جعلُوا (حبَّذا) بِمَنْزِلَة جُزْء وَاحِد لَا يُفِيد مَعَ أنَّه فعل وفاعل
والعاشر أنَّ من النحويَّين من حعل (حبَّذا) فِي مَوضِع رفع بِالِابْتِدَاءِ وَأخْبر عَنهُ وَالْجُمْلَة لَا يصحُّ فِيهَا ذَلِك إلاَّ إِذا سُمِّي بهَا
وَالْحَادِي عشر أنَّهم جعلُوا (ذَا) فِي (حبذَّا) بِلَفْظ وَاحِد فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع والتأنيث كَمَا يفعل ذَلِك فِي الْحَرْف الْوَاحِد

(1/150)


وَالثَّانِي عشر أنَّهم قَالُوا فِي تَصْغِير (حبَّذا) (مَا أحيبذه) فصغروا الْفِعْل وحذفوا مِنْهُ إِحْدَى البائين وَمن الِاسْم الْألف والعربُ تَقول لَا تحبَّذه عَلَيْهِ فاشتقَّ مِنْهُمَا
فصل

وَالْعَامِل فى الْفَاعِل الفعلُ الْمسند إِلَيْهِ وَهَذَا أسدُّ من قَوْلهم الْعَامِل إِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهِ لأنَّ الْإِسْنَاد معنى وَالْعَامِل هُنَا لفظيّ وَالَّذِي ذكرته هُوَ الَّذِي أرادوه لأنَّ الْفِعْل لَا يعْمل إِلَّا إِذا كَانَ لَهُ نِسْبَة إِلَى الِاسْم فلَمّا كَانَ من شُرُوط عمل الْفِعْل الإسنادُ وَالنِّسْبَة تجوَّزوا بِمَا قَالُوا والحقيقة مَا قلت
وَقَالَ خلف الكوفيّ الْعَامِل فِي الْفَاعِل الفاعليَّة وَالدَّلِيل على فَسَاد قَوْله من أَرْبَعَة أوجه أحدُها أنَّ (إنَّ) عاملة بِنَفسِهَا وَهِي نائبة عَن الْفِعْل فَعمل الْفِعْل بِنَفسِهِ أوْلى وَالثَّانِي أنَّ الْفِعْل لفظ مختضٌّ بِالِاسْمِ والاختصاصُ مؤثَّر فِي الْمَعْنى فَوَجَبَ أَن يؤثِّر فِي اللَّفْظ كعوامل الْفِعْل وَالثَّالِث أَن الْمُوجب لِمَعْنى الفاعلية هوالفعل فَكَانَ هُوَ الْمُوجب للْعَمَل فِي اللَّفْظ

(1/151)


وَالرَّابِع أنَّ الِاسْم قد يكون فِي اللَّفْظ فَاعِلا وَفِي الْمَعْنى مَفْعُولا بِهِ كَقَوْلِك مَاتَ زيدٌ ومفعولا فِي اللَّفْظ وَهُوَ فِي الْمَعْنى فَاعل كَقَوْلِك تصبَّب زيدٌ عرقاً وَلَو كَانَ الْعَامِل هُوَ الْمَعْنى لانعكست هَذِه الْمسَائِل
فصل

وإنَّما أعرب الْفَاعِل بِالرَّفْع لأربعة أوجه أَحدهَا أنَّ الْغَرَض الْفرق بَين الْفَاعِل وَالْمَفْعُول فبأيِّ شيْ حصل جَازَ
وَالثَّانِي أنَّ الْفَاعِل أقلُّ من الْمَفْعُول والضمُّ أثقل من الْفَتْح فَجعل الأثقل للأقلِّ والأخف للْأَكْثَر تعديلاً وَالثَّالِث أنَّ الْفَاعِل أقوى من الْمَفْعُول إِذا كَانَ لَازِما لَا يسوغ حذفه والضَّمة أقوى الحركات فَجعل لَهُ مَا يُنَاسِبه
وَالرَّابِع أنَّ الْفَاعِل قبل الْمَفْعُول لفظا وَمعنى لأنَّ الْفِعْل يصدر مِنْهُ قبل وُصُوله إِلَى الْمَفْعُول فَجعل لَهُ أوَّل الحركات وَهُوَ الضَّمّة
فصل

وإنَّما لم يجز أَن تكون الْجُمْلَة فاعلاُ لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّ الْفَاعِل كجزء من الْفِعْل وَلَا يُمكن جعل الْجُمْلَة كالجزء لاستقلالها

(1/152)


وَالثَّانِي أنَّ الْفَاعِل قد يكون مضمراً وَمَعْرِفَة بِالْألف وَاللَّام وإضمار الْجُمْلَة لَا يصحُّ وَالْألف وَاللَّام لَا تدخل عَلَيْهَا
وَالثَّالِث أنَّ الْجُمْلَة قد عمل بعضُها فِي بعض فَلَا يصحُّ أنْ يعْمل فِيهَا الْفِعْل لَا فِي جُمْلَتهَا وَلَا فِي أبعاضها إِذْ لَا يُمكن تقديرها بالمفرد هُنَا
فصل

وَالْأَصْل تَقْدِيم الْفَاعِل على الْمَفْعُول لأنَّه لَازم فِي الْجُمْلَة جَار مجْرى جُزْء من الْفِعْل وَالْمَفْعُول قد يسْتَغْنى عَنهُ وَالْفَاعِل يصدر مِنْهُ الْفِعْل ثَّم يُفْضِي إِلَى الْمَفْعُول بِهِ بعد ذَلِك إلاَّ أنّ تَقْدِيم الْمَفْعُول جَائِز لقوَّة الْفِعْل بتصرفَّه وَالْحَاجة إِلَى اتساع الْأَلْفَاظ فإنْ خيفّ اللّبْس لم يجز التَّقْدِيم مثل أَن يكون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول لَا يتبيَّن فيهمَا إِعْرَاب فإنْ وصف أحدُهما أَو عطف عَلَيْهِ مَا يفصل بَينهمَا جَازَ التَّقْدِيم
فصل

وأوْلى الْفِعْلَيْنِ بِالْعَمَلِ الْأَخير مِنْهُمَا وَقَالَ الكوفيَّون الأوَّل أوْلى واتَّفقوا على أنَّ كلا الْأَمريْنِ جَائِز إِذا صحَّ الْمَعْنى وأنَّه لَا يُخيَّر فِي إِعْمَال أيّهما شَاءَ إِذا لم يصحَّ الْمَعْنى وَإِذا تقدَّم الْفِعْل الَّذِي يحْتَاج إِلَى فَاعل أضمر فِيهِ كَقَوْلِك ضربوني وَضربت الزيدين وَقَالَ الكسائيُّ لَا يُضمر

(1/153)


وَالدَّلِيل على أنَّ إِعْمَال الثَّانِي أوْلى السماعُ والقياسُ فَمن السماع قولُه تَعَالَى {يستفتونك قلِ الله يفتيكم فِي الكلالةِ} وَلَو أعْمَلَ الأول لقَالَ (فِيهَا) وَقَوله تَعَالَى {قَالَ آتوني أفرغ عليهِ قطِراً} وَلم يقل (أفرغه) وَقَوله تَعَالَى {هاؤمُ اقرؤوا كتابَيْه} وَلم يقل (اقرؤوه) وَمِمَّا جَاءَ فِي الشّعْر قولُ الفرزدق // الطَّوِيل // 9 -
(ولكنَّ نصفا لَو سببْتُ وسبَّني ... بَنو عبد شمس مِنْ مُناف وهاشمِ) وَلم يقل سبُّوني وَهُوَ كثير فِي الشّعْر
وأمَّا القياسُ فَهُوَ أنَّ الثَّانِي أقرب إِلَى الِاسْم وإعماُله فِيهِ لَا يُغير معنى فَكَانَ

(1/154)


أوْلى كَقَوْلِهِم خشَّنت بصدره وَصدر زيد بحرِّ الْمَعْطُوف وَكَذَا قَوْلهم مَرَرْت ومرَّ بِي زيد أَكثر من قَوْلهم مر بِي ومررت بزيد والعلَّة فِيهِ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَّ الْعَامِل فِي الشَّيْء كالعلَّة الْعَقْلِيَّة وَتلك لَا يفصل بَينهَا وَبَين معمولها
وَالثَّانِي أنَّ الْفَصْل بَين الْعَامِل والمعمول بالأجنبيّ لَا يجوز كَقَوْلِهِم كَانَت زيدا الحَّمى تَأْخُذ والمعطوف هُنَا كَالْأَجْنَبِيِّ فاحسن أَحْوَاله أَن يضعف عمل الأوَّل ويدلُّ على ذَلِك أنَّ الْفِعْل إِذا تَأَخّر عَن الْمَفْعُول جَازَ دُخُول اللَّام عَلَيْهِ كَقَوْلِك لزيدٍ ضربُت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {لرِّبهم يرهبون} وَلَا يجوز ذَلِك مَعَ تَقْدِيم الْفِعْل / وَكَذَلِكَ أَيْضا إِذا جَاوز الْفِعْل الْفَاعِل المؤسنث الْحَقِيقِيّ لَزِمت فِيهِ التَّاء وَإِن فصل بَينهمَا لم يلْزم كلُّ ذَلِك اهتمامٌ بالأقرب وَكَانَ أَبُو عليّ يتمثَّل عِنْد ذَلِك بقول الْهُذلِيّ 10 -
(وإنَّما ... نوكّل بالأدنى وَإِن جلَّ مَا يمْضِي)

(1/155)


واحتجَّ الْآخرُونَ بِأَبْيَات عمل فِيهَا الأوَّل وَلَيْسَ فِيهَا حجَّة على الأوْلى بل الْجَوَاز فأمَّا قَول أمرئ الْقَيْس 11
(فَلَو أنَّ مَا أسعى لأدنى معيشةٍ ... كفاني _ ولَمْ أطلبْ - قليلٌ من المَال) فإنَّما أعمل الأوَّل فِيهِ لأنَّ الْمَعْنى عَلَيْهِ أَي لَو كنت أسعى لأمر حقير كفاني الْقَلِيل وَلَو نصب على هَذَا لتناقض الْمَعْنى فإنْ قَالُوا الأوَّل أهُّم للبدء بِهِ قُلْنَا لَو اشتدَّ الاهتمام بِهِ لّجُعل معمولُه إِلَى جَانِبه على الاهتمام بالأقرب أشدّ على مَا بيَّنا

(1/156)


بَاب مَا لم يُسمَّ فَاعله

إنَّما حذف الْفَاعِل لخمسة أوجه
أَحدهَا ألاَّ يكون للمتكلمِّ فِي ذكره غَرَض
وَالثَّانِي أنْ يُترك ذكره تَعْظِيمًا لَهُ واحتقاراً
وَالثَّالِث أَن يكون الْمُخَاطب قد عرفه
وَالرَّابِع أَن يخَاف عَلَيْهِ من ذكره وَالْخَامِس ألاَّ يكون المتكلَّم يعرفهُ
فصل

وإنَّما غُيِّرَ لفظ الْفِعْل ليدلَّ تَغْيِيره على حذف الْفَاعِل وإنَّما ضُمَّ أوَّله وكُّسِر مَا قبل آخِره فِي الْمَاضِي وَفتح الْمُسْتَقْبل لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّه خُصَّ بِصِيغَة لَا يكون مثلهَا فِي الْأَسْمَاء وَلَا فِي الْأَفْعَال الَّتِي سمُيِّي فاعلها لئلاَّ يلتبس فإنْ قلت كَانَ يجب أَن يُكسر أوَّلُه ويضَّم مَا قبل آخِره إِذْ لَا نَظِير لَهُ قيل الْخُرُوج من كسر إِلَى ضمّ مستثقل جدّاً بِخِلَاف الْخُرُوج من ضمّ إِلَى

(1/157)


كسر فأمَّا (دُئِل) فَلَا يُعتدُّ بِهِ لقلَّته وشذوذه وإنَّما فتح قبل الْأَخير فِي الْمُسْتَقْبل لئلاَّ يلتبس بِمَا سُمَّي فَاعله
وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّهم ضمُّوه عوضا من ضمَّ الْفَاعِل الْمَحْذُوف وَهَذَا ضَعِيف لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّهم غيَّروا مِنْهُ موضعا آخر بِغَيْر الضمِّ وَالثَّانِي أنَّ الْمَحْذُوف قد أقيم الْمَفْعُول مُقامه
فصل

وإنَّما أقيم الْمَفْعُول مُقام الْفَاعِل ليَكُون الْفِعْل حَدِيثا عَنهُ إِذْ الْفِعْل خبر وَلَا بدَّ لَهُ من مخبر عَنهُ ولّمَّا أقيم مقَامه فِي الأسناد إِلَيْهِ رفُع كَمَا رفع الرافع لَهُ الْفِعْل الْمسند إِلَيْهِ
فصل

وإنَّما لم يجز بِنَاء الْفِعْل اللَّازِم لما يسمَّ فَاعله لأنَّه يبْقى خَبرا بِغَيْر مخبر عَنهُ كَقَوْلِك جُلس وَقد ذهب قوم إِلَى جَوَازه على أَن يكون الْمصدر الْمَحْذُوف مضمراً فِيهِ وساغ حذفه بِدلَالَة الْفِعْل عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيف جدّاً لأنَّ الْمصدر الْمَحْذُوف لَا يُفِيد

(1/158)


إِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهِ إِذا كَانَ الْفِعْل يُغني عَنهُ وَلَا يصحّ تَقْدِير مصدر مَوْصُوف وَلَا دالّ على عدد إِذْ لَيْسَ فِي الْفِعْل دلَالَة على الصّفة وَالْعدَد
فصل

وَإِذا كَانَ فِي الْكَلَام مفعول بِهِ صَحِيح جُعل القائَم مَقامَ الْفَاعِل دون الظّرْف وحرف الجرّ لأربعة أوجه
أحدُها أنَّ الْفِعْل يصل إِلَيْهِ بِنَفسِهِ كَمَا يصل إِلَى الْفَاعِل بِخِلَاف الظّرْف
وَالثَّانِي أنَّ الْمَفْعُول بِهِ شريك الْفَاعِل لأنَّ الْفَاعِل يوجِد الْفِعْل وَالْمَفْعُول بِهِ يحفظه
وَالثَّالِث أنَّ الْمَفْعُول فِي الْمَعْنى قد جعل فَاعِلا فِي اللَّفْظ كَقَوْلِك مَاتَ زيد وطلعت الشَّمْس وهما فِي الْمَعْنى مفعول بهما بِخِلَاف الظّرْف
وَالرَّابِع أنَّ من الْأَفْعَال مَا لم يُسمَّ فَاعله بِحَال نَحْو عُنيت بحاجتك وبابه وَلم يسند إلاَّ إِلَى مفعول بِهِ صَحِيح فدلَّ على أنّه أشبه بالفاعل
وَقَالَ الكوفيَّون يجوز إِقَامَة الظّرْف مقَام الْفَاعِل وَإِن كَانَ مَعَه مفعول صَحِيح لِأَنَّهُ يصير مَفْعُولا بِهِ على السعَة وَهَذَا ضَعِيف لما ذكرنَا
فصل

وأمَّا إِقَامَة الْمصدر مقَام الْفَاعِل مَعَ الْمَفْعُول بِهِ فللبصريَّين فِيهِ مذهبان

(1/159)


أَحدهمَا لَا يجوز لأنَّ الْمصدر يصل إِلَيْهِ فِي الْمَعْنى فَهُوَ غير لَازم بِخِلَاف الْمَفْعُول بِهِ
وَالْآخر يجوز لِأَن الْفِعْل يصل إِلَيْهِ بِنَفسِهِ واحتجُّوا على ذَلِك بقرأءة أبي جَعْفَر المدنيّ {ليُجْزَى قوما} أَي ليُجْزَى الجزاءُ قوما وبقراءة عَاصِم {وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ} أَي نجي النَّجَاء وَبقول جرير
(فَلَو وَلَدت فُقَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ ... لَسُبَّ بذلك الكلْبِ الكلابا)

(1/160)


وَهَذَا ضَعِيف لما ذكرنَا والقراءتان ضعيفتان على أنَّ قِرَاءَة عَاصِم فِيهَا وَجه آخر يُخرجهَا من هَذَا الْبَاب وَهُوَ يكون أَن الأَصْل (ننجي) ثَّم أبدل النُّون الثَّانِيَة جيماً وأدغمها وأمَّا قِرَاءَة أبي جَعْفَر فعلى تَقْدِير (لنجزي الْخَيْر قوما) فالخير مفعول بِهِ وَهَذَا الْفِعْل يتعّدىَّ إِلَى مفعولين وأضمر الأوَّل لدلَالَة الثَّانِي عَلَيْهِ وأمَّا الْبَيْت فقد حُمل على مَا قَالُوا وَحمل على وَجه آخر وَهُوَ أَن يكون التَّقْدِير فَلَو ولدت قفيرة الْكلاب ياجرو كلب لسبّ أَي جنس الْكلاب
فصل

وإنَّما جَازَ إِقَامَة حرف الجرَّ والظرف والمصدر - أيَّها شِئْت _ مُقام الْفَاعِل لتساويها فِي ضعفها عَن الْمَفْعُول بِهِ وإنَّما يُقَام الظّرْف مقَام الْفَاعِل إِذا جعل مَفْعُولا على السعَة لأنَّه إذْ كَانَ ظرفا كَانَ حرف الجرِّ مقدَّراُ مَعَه وَهُوَ (فِي) و (فِي) يَقع فِيهَا الْفِعْل لَا بهَا ولأنَّ الْفِعْل يصل إِلَى الْفَاعِل بِغَيْر وَاسِطَة فَلم يُشبههُ الظّرْف ولأنَّ

(1/161)


الْمَفْعُول بِهِ يصحّ أسناد الْفِعْل إِلَيْهِ وَإِذا قدَّر مَعَ الظّرْف (فِي) لم يصحّ إِسْنَاد الْفِعْل إِلَيْهِ
قإنْ قلت فَكيف يصحّ إِقَامَة (الْبَاء) مقَام الْفَاعِل قيل إِن (الْبَاء) لم يُؤْت بهَا إلاّ لتقوّي الْفِعْل و (فِي) هِيَ الدالَّة على الظرفيَّة وإقامتها مقَام الْفَاعِل تسلبها هَذَا الْمَعْنى وَلَا يُقَام الْمصدر مقَام الْفَاعِل إلاَّ إِذا وصف أَو دلَّ على الْمرة أَو المرَّات لِأَنَّهُ حينئذٍ يُفِيد مَالا يدلُّ الْفِعْل عَلَيْهِ
فصل

وَلَا يجوز إِقَامَة الْحَال مقَام الْفَاعِل لأربعة أوجه أَحدهَا أنَّ الْفَاعِل يكون مظْهرا ومضمراً وَمَعْرِفَة ونكرة وَالْحَال لَا تكون إلاَّ نكرَة
وَالثَّانِي أنَّ الْحَال تقدّر ب (فِي) وَلَا يصحّ تَقْدِير إِسْقَاطهَا
وَالثَّالِث أنَّ الْحَال كالخبر على مَا نبيَّنه فِي بَابه وَخبر الْمُبْتَدَأ لَا يصحّ قيامُه مقَام الْفَاعِل لِأَنَّهُ مُسْند إِلَى غَيره وَالرَّابِع أنَّ الْحَال كالصفة فِي الْمَعْنى لِأَنَّهَا هِيَ صَاحب الْحَال وإنَّما يُقَام مقَام الْفَاعِل غَيره

(1/162)


فصل

وإنَّما لم يقم الميزَّ مقَام الْفَاعِل لثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّه لَا يكون ألاَّ نكرَة وَالثَّانِي أنَّ حرف الجرّ مَعَه مُرَاد وَالثَّالِث أنَّه لَو اسقط المميّز لمك يبْق عَلَيْهِ دَلِيل وَلِهَذَا الْوَجْه لن يَجْعَل الْمُسْتَثْنى مقَام الْفَاعِل
فصل

وأمَّا الْمَفْعُول لَهُ فَلَا يُقَام مقَام الْفَاعِل لوَجْهَيْنِ د أَحدهمَا أنَّ اللَّام مُرَادة وَالثَّانِي أنَّه غَرَض الْفَاعِل فَلَو أقيم مقَامه لبطل هَذَا الْمَعْنى
فصل

وأنَّما لم يقم خبر كَانَ مقَام أسمها لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّه هُوَ الِاسْم فِي الْمَعْنى وَالثَّانِي أنَّ الْخَبَر مسندٌ إِلَى غَيره فَلَا يسند إِلَيْهِ

(1/163)


بَاب كَانَ وَأَخَوَاتهَا

ذهب الْجُمْهُور إِلَى أنَّها أَفعَال لتصُّرفها وأتِّصال الضمائر وتاء التَّأْنِيث بهَا ودلالتها على معنى فِي نَفسهَا وَهُوَ الزَّمَان
فصل

وإنَّما لم تدلّ على حدث وَلَا أكّدت بِالْمَصْدَرِ لأنَّهم اشتقوها من المصادر ثّم خلعوا عَنْهَا دلالتها على الْحَدث لتدلَّ على زمن خبر الْمُبْتَدَأ حتَّى صَارَت مَعَ الْخَبَر بِمَنْزِلَة الْفِعْل الدالّ على الْحَدث وَالزَّمَان
وَمن عبَّر من البصريَّين عَنْهَا بالحروف فقد تجوَّز لأنَّه وجدهَا تشبه الْحُرُوف فِي أنَّها لَا تدلّ على الْحَدث وإنَّما هِيَ أَفعَال لفظيَّة أَو يكون عنَىَ بالحروف

(1/164)


الطَّرِيقَة إِذْ كَانَ لهَذِهِ الْأَفْعَال فِي النَّحْو طَريقَة تخَالف فِيهَا بقيَّة الْأَفْعَال ولهذه العلَّة خصّوها من بَين الْأَفْعَال بِالدُّخُولِ على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر
وأمَّا (لَيْسَ) فَمن البصريَّين من قَالَ هِيَ حرف وإنَّ الضَّمِير اتَّصل بهَا لشبهها بالأفعال كَمَا اتَّصل الضَّمِير ب (هَا) على لُغَة من قَالَ فِي التَّثْنِيَة (هاءا) وَفِي الْجمع (هاؤوا) وَأَبُو عليّ يُشِير إِلَيْهِ فِي كتبه كثيرا ويقوِّي ذَلِك أنَّها لَا تدلُّ على زمَان وأنَّها تَنْفِي كَمَا تَنْفِي (مَا) وأنَّهم شبَّهوها ب (مَا) فِي إبِْطَال عَملهَا بِدُخُول (إلاَّ) على الْخَبَر فِي قَوْلهم لَيْسَ إلاَّ الطّيب الْمسك بِالرَّفْع فيهمَا
وَمن قَالَ هِيَ فعلٌ لفظيٌّ فقد احتجَّ بِمَا ذكرنَا وسلبت التصرُّف لشبهها بهَا ويدلُّ على أنَّها فعلٌ جَوَاز تَقْدِيم خَبَرهَا على اسْمهَا عِنْد الْجَمِيع وتقديمه عَلَيْهَا عِنْد كثير مِنْهُم بِخِلَاف (مَا)
فصل

وإنَّما كَانَت (كَانَ) أمّ هَذِه الْأَفْعَال لخمسة أوجه
أَحدهَا سَعَة أقسامها

(1/165)


وَالثَّانِي أنَّ (كَانَ) التامَّة دَالَّة على الْكَوْن وكلُّ شَيْء دَاخل تَحت الْكَوْن
وَالثَّالِث أنَّ (كَانَ) دالَّة على مُطلق الزَّمَان الْمَاضِي و (يكون) دالَّة على مُطلق الزَّمَان الْمُسْتَقْبل بِخِلَاف غَيرهَا فإنَّها تدل على زمَان مَخْصُوص كالصباح والمساء
وَالرَّابِع أنَّها أَكثر فِي كَلَامهم وَلِهَذَا حذفوا مِنْهَا النُّون إِذا كَانَت نَاقِصَة فِي قَوْلهم لم يَك
وَالْخَامِس أنَّ بقيَّة أخواتها تصلح أَن تقع أَخْبَارًا لَهَا كَقَوْلِك كَانَ زيد أصبح مُنْطَلقًا وَلَا يحسنُ أصبح زيد كَانَ مُنْطَلقًا
فصل

وإنَّما اقْتَضَت النَّاقِصَة اسْمَيْنِ لأنّها دخلت على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر للدلالة على زمن الْخَبَر وإنمَّا عملت لأنَّها أَفعَال متصرِّفة مُؤثرَة فِي معنى الْجُمْلَة فَأَشْبَهت (ظَنَنْت) وإنَّما رفعت ونصبت لأنَّها تفْتَقر إِلَى اسْم تسند إِلَيْهِ كَسَائِر الْأَفْعَال فَمَا تسند إِلَيْهِ مشبَّه بالفاعل الْحَقِيقِيّ

(1/166)


وأمَّا الْخَبَر فمنصوب ب (كَانَ) عِنْد البصريَّين وَقَالَ الكوفيُّون ينْتَصب على الْقطع يعنون الْحَال وَالدَّلِيل على انتصابه ب (كَانَ) أنَّه اسْم بعد الْفِعْل وَالْفَاعِل وَلَيْسَ بتابع لَهُ فَأشبه الْمَفْعُول بِهِ وَلَا يصحّ جعله حَالا لأنَّ الْحَال لَا يكون معرفَة وَلَا مضمراً وليصحُّ حذفه وَلَيْسَ كَذَلِك خبر كَانَ لأنَّه مَقْصُود الْجُمْلَة أَلا ترى أنَّه لَو قَالَ كَانَ زيٌد قَائِما فَقَالَ قَائِل لَا كَانَ النَّفْي عَائِدًا إِلَى الْقيام لَا إِلَى كَانَ
فصل

وإنَّما لم يكن منصوبها مَفْعُولا بِهِ على التَّحْقِيق لأنَّ الْمَفْعُول بِهِ يسوغ حذفه وَلَا يلْزم أَن تكون عدَّته على عدَّة الْفَاعِل وَلَا أَن يكون الْمَفْعُول بِهِ هُوَ الْفَاعِل وَخبر كَانَ يلْزم فِيهِ ذَلِك
فصل

وإنَّما جَازَ تَقْدِيم أَخْبَارهَا على أسمائها لتصرُّفها فأمَّا تَقْدِيم خبر (مَا زَالَ وَأَخَوَاتهَا) عَلَيْهَا فَمَنعه البصريُّون والفرَّاء لِأَن (مَا) أمّ حُرُوف النَّفْي وَمَا فِي صلَة النَّفْي لَا يتقدَّم عَلَيْهِ لأنَّ النَّفْي لَهُ صدر الْكَلَام إِذْ كَانَ يحدث فِيمَا بعده معنى لَا يفهم بالتقديم فَيُشبه حُرُوف الْجَزَاء والاستفهام والنداء

(1/167)


فأمَّا (لَا يزَال) و (لن يزَال) و (لم يزل) فَيجوز تَقْدِيم الْخَبَر عَلَيْهَا لأنهَّا فروع على (مَا) إِذْ كَانَت تردّ إِلَيْهَا وتستعمل فِي مَوَاضِع لَا يصحّ فِيهَا (مَا) وَلِهَذَا عملت فِي الْأَفْعَال للزومها إِيَّاهَا فمفعول فعلهَا يتقدَّم عَلَيْهَا كَمَا يتقدَّم على نفس الْفِعْل العرّي عَن حرف النَّفْي بِخِلَاف (مَا)
وَقَالَ ابْن كيسَان وبقيَّة الكوفيَّين يجوز تَقْدِيم الْخَبَر عَلَيْهَا لأنَّ (مَا وَالْفِعْل) صَارا فِي معنى الْإِثْبَات وَهَذَا ضَعِيف لأنَّ لفظ النَّفْي بَاقٍ وَالِاعْتِبَار بِهِ لَا بِالْمَعْنَى أَلا ترى أنَّ قَوْلك (لَا تفعل) يسمَّى (نهيا) وَلَو جعلت مَكَانَهُ (اترك الْفِعْل) كَانَ الْمَعْنى وَاحِدًا وَيُسمى الثَّانِي (أمرا)
وأمَّا خبر (مَا دَامَ) فَلَا يتقدَّم عَلَيْهَا عِنْد الْجَمِيع لأنّها مصدريَّة ومعمول الْمصدر لَا يتقدَّم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ (مَا كَانَ) لأنَّ الْكَلَام نفيٌ لفظا وَمعنى
فأمَّا (لَيْسَ) فاتفقوا على جَوَاز تَقْدِيم خَبَرهَا على اسْمهَا وأمَّا تَقْدِيمه عَلَيْهَا فَيجوز عِنْد الكوفيَّين وَبَعض البصريَّين وحجَّة مَنْ منع أنَّ (لَيْسَ) فعل لَفْظِي

(1/168)


جامدٌ قويٌّ الشّبَه بالحرف فَلم يقْوَ قوَّة أخواته وَجَاز تَقْدِيم الْخَبَر فِيهِ على الِاسْم إِذْ كَانَ فعلا فِي الْجُمْلَة فحاله متوسَّطة بَين (كَانَ) وَبَين (مَا)
واحتجَّ من أجَاز تَقْدِيم خبر (لَيْسَ) بقوله {أَلا يَوْم يَأْتِيهم لَيْسَ مصروفاً عَنْهُم} فنصب (يَوْم) بالْخبر وَلَا يَقع الْمَعْمُول إلاَّ حَيْثُ يَقع الْعَامِل ولأنَّ (لَيْسَ) فعلٌ يتقدَّم خَبره على اسْمه فَكَذَلِك يتقدَّم عَلَيْهِ ك (كَانَ) وَقد أُجِيب عَن الْآيَة من وَجْهَيْن أحدُهما أنّه مَنْصُوب بِفعل آخر يفسّره الْخَبَر
وَالثَّانِي أنّ الظروف تعْمل فِيهَا رَوَائِح الْفِعْل
فصل

وإنَّما لم يجز الفصلُ بَين (كَانَ) وَغَيرهَا من العوامل بِمَا لم تعْمل فِيهِ لأنَّه أجنبيّ غير مُسْند للْكَلَام وَالْعَامِل يطْلب معموله فالفصل بَينهمَا يقطعهُ عَنهُ فَإِن جعلت فِي (كَانَ) ضمير الشَّأْن جَازَ تَقْدِيم مَعْمُول الْخَبَر لاتّصال (كَانَ) بِأحد معموليها وَكَون الْفَاصِل كالجزء من جنسهما

(1/169)


فصل

وإنَّما كَانَ الْأَحْسَن فِي خبر (كَانَ) إِذا وَقع ضميراً أَن يكون مُنْفَصِلا لأنّه فِي الأَصْل خبر الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر لَا يكون متّصّلاً وإنّما سَاغَ فِي (كَانَ) أنْ يكون متّصّلاً لأنّه مشبّه بالمفعول فعلى هَذَا (كنت إيّاه) أَحْسَنُ من (كنته)
فصل

وإنَّما لم يجز دُخُول (إلاّ) فِي خبر (مَا زَالَ) وَأَخَوَاتهَا لِأَن مَعْنَاهَا الْإِثْبَات فَيصير ك (كَانَ) فأمَّا قَول ذِي الرّمة // الطَّوِيل // 13 -
(حراجيجُ مَا تنفكُّ إلاّ مُناخةً ... على الْخَسْفِ أَو نرمي بهَا بَلَدا قَفْرا) فيروى بِالرَّفْع على أنّه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَمَوْضِع الْجُمْلَة حَال وَبِالنَّصبِ على الْحَال وَتَكون (تنفك) تَامَّة و (على الْخَسْف) حَال أُخْرَى وَيجوز أَن تكون النَّاقِصَة وَتَكون (على الْخَسْف) الْخَبَر أَي مَا تنفكُّ على الْخَسْف إلاَّ إِذا أنيخت وَعَلِيهِ الْمَعْنى

(1/170)


فصل

لَا يجوز أَن تبنى (كَانَ) لما لم يُسمَّ فَاعله لما ذكر فِي الْبَاب الَّذِي قبله وَقَالَ الفرَّاء يجوز وَهُوَ فاسدٌ لما تقدَّم
فصل

وَلَا تؤكّد (كَانَ) بِالْمَصْدَرِ لأنَّ الْمصدر دالٌّ على الْحَدث والناقصة لَا تدلُّ عَلَيْهِ وَأَجَازَهُ قوم على أَن يكون الْمصدر لفظيّاً كالفعل المؤكّد وَقَوْلهمْ يُعجبنِي كونُ زيد قَائِما فَهُوَ مصدر التامَّة و (قَائِما) مَنْصُوب على الْحَال
فصل

وحرف الجرّ الدَّاخِل على الْخَبَر لَا يعلَّق بِهَذِهِ الْأَفْعَال لأنَّه زَائِد وإنمّا يتعلَّق الْحَرْف بِالْفِعْلِ الَّذِي يعدّيه
فصل

وَلَا تدخل (لَام كي) على خبر كَانَ لأنَّها تدلُّ على الْمَفْعُول لَهُ وَهَذَا يجوز وَالْخَبَر لَا يجوز حذفه ولأنَّ خبر كَانَ يعَّلل بِغَيْرِهِ لَا بِنَفسِهِ وأمَّا قَوْله تَعَالَى

(1/171)


{مَا كَانَ الله ليذرَ الْمُؤمنِينَ} فَالْخَبَر فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره مَا كَانَ الله مرِيدا وَنَحْوه وَقَالَ الكوفيّون هُوَ الْخَبَر وسنشبع القَوْل فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي بَاب الْأَفْعَال
فصل

وإنَّما سَاغَ أَن تزاد (كَانَ) لأنَّها أشبهت الْحُرُوف فِي أنَّ مَعْنَاهَا فِي غَيرهَا ول (كَانَ) الزَّائِدَة فَاعل مُضَمرٌ فِيهَا تَقْدِيره كَانَ الْكَوْن على قَول أبي سعيد السيرافي وَلَا فَاعل لَهَا عِنْد أبي عليّ وَمعنى زيادتها عِنْد السيرافي فِي إِلْغَاء عَملهَا لَا أنَّها تَخْلُو من فَاعل وإنَّما لم يظْهر ضمير فاعلها لِأَن الضَّمِير يرجع إِلَى مَذْكُور فَيلْزم أَن يكون لَهَا اسْم وَإِذا كَانَ لَهَا اسْم كَانَ لَهَا خبر وَلِهَذَا تبيَّن فسادُ قولِ من قَالَ فِي قَول الفرزدق // الوافر // 14 -
( ... وجيرانٍ لنا كَانُوا كرامِ)

(1/172)


إنَّ (كَانَ) زَائِدَة وَالصَّحِيح أنَّ خَبَرهَا (لنا) و (كرام) صفة لجيران وإنَّما لم تقع الزَّائِدَة فِي أوَّل الْكَلَام لأنَّ الزَّائِدَة فرع ومؤكّد وتقدَّمه يخلٌّ بِهَذَا الْمَعْنى
فصل

وإنَّما أكّد خبر (لَيْسَ) بِالْبَاء لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أنَّ الْكَلَام إِذا زيد فِيهِ قوي وَلِهَذَا زيدت (من) فِي قَوْلك مَا جَاءَنِي من أحد وَالثَّانِي أنَّها بِإِزَاءِ (اللَّام) فِي خبر (إنّ) وَالثَّالِث أنَّ دُخُول حرف الجّر يُؤذن بتعُّلُّق الْكَلِمَة بِمَا قبلهَا من فعل أَو مَا قَامَ مقَامه وَلَو حذفه لَكَانَ مَرْفُوعا أَو مَنْصُوبًا وَكِلَاهُمَا قد يحذف عَامله وَيبقى هُوَ بِخِلَاف حرف الجرّ
فصل

وإنَّما اختيرت (الْبَاء) دون غَيرهَا لثَلَاثَة أوجه

(1/173)


أحدُها أنَّ أَصْلهَا الإلصاق والإلصاق يُوجب شدَّة اتِّصَال أحد الشَّيْئَيْنِ بِالْآخرِ وَالثَّانِي أنَّها من حُرُوف الشفتين فَهِيَ أقوى من اللَّام وَغَيرهَا من حُرُوف الجرّ وَالثَّالِث أنَّ حُرُوف الجرّ كلَّها توجب مَعَ تعديتها الْفِعْل معنى كالتبعيض وَالْملك والتشبيه وَغير ذَلِك وَالْبَاء لَا توجب أَكثر من تَعديَة الْفِعْل وَلذَلِك اسْتعْملت فِي القَسَم وَهُوَ بَاب التوكيد

(1/174)


بَاب مَا

الْقيَاس ألاَّ تعْمل (مَا) لأنَّها غير مختَّصة فَهِيَ كحرف الِاسْتِفْهَام والعطف وَغَيرهمَا وَلِهَذَا لم يعملها بَنو تَمِيم وإنَّما أعملها أهل الْحجاز لشبهها ب (لَيْسَ) وَهِي تشبهها فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء النَّفْي وَنفي مَا فِي الْحَال ودخولها على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَدخُول الْبَاء فِي خَبَرهَا وَقد تقرَّر أنَّ الشَّيْء إِذا أشبه غَيره من وَجْهَيْن فَصَاعِدا حُمل عَلَيْهِ مَا لم يفْسد الْمَعْنى وَمِنْه بَاب مَا لَا ينْصَرف ولَمّا أشبهتها عملت فِي الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر ك (لَيْسَ) وَقَالَ الكوفيٌّون خَبَرهَا مَنْصُوب بِحَذْف حرف الجرّ وَهَذَا فاسدٌ لثَلَاثَة أوجه أحُدها أنَّ هَذَا يَقْتَضِي أنَّ حرف الجرَّ فِيهِ أصل وَلَيْسَ كَذَلِك وَالثَّانِي أنَّ هَذَا هَذَا إِيجَاب الْعَمَل بِالْعدمِ والثالثُ أنَّ حرف الجرَّ تحذف فِي مَوَاضِع وَلَا يجب النصب كَقَوْلِك بحسبك قولُ السوء وَكفى بِاللَّه شَهِيدا وَمَا جَاءَنِي من أحد
فصل

وإنَّما بَطل عَملهَا بِدُخُول (إلاَّ) لزوَال شبهها ب (لَيْسَ) إِذا كَانَ الْكَلَام يعود إِلَى الْإِثْبَات وَلم يبطل عمل (لَيْسَ) بإلاَّ لأنَّها أصل فأمَّا قَول الشَّاعِر [من الطَّوِيل]

(1/175)


15 -
(وَمَا الدَّهْر إلاَّ منجنوناً بأَهْله ... وَمَا صَاحب الْحَاجَات إلاَّ معذَّبا) // الطَّوِيل // فَفِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا أنَّ الْمَنْصُوب مفعول بِهِ وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره إِلَّا يشبه منجنوناً وَهُوَ الدولاب فِي دورانه وإلاَّ يشبه معذّباً وَالثَّانِي أنَّ (منجنونا) و (معذّبا) منصوبان نصب المصادر ونائبان عَن فعل تَقْدِيره إلاَّ يَدُور دوراناً وإلاَّ يعذب تعذيباً
فصل

وإنَّما بَطل عَملهَا بِتَقْدِيم الْخَبَر لِأَن التَّقْدِيم تصرُّف وَلَا تصرُّف لِ (مَا) ولأنَّ التَّقْدِيم فرع عمل و (مَا) فرع فَلَا يجمع بَين فرعين فأمَّا قَول الفرزدق 16 -
(فَأَصْبحُوا قَدْ أعادَ اللهُ نِعْمَتَهُمْ ... إذْ قريشٌ وإذْ هم مَا مثْلَهم بشَرُ) // الْبَسِيط // (بِنصب مثلَ فَفِيهِ أَرْبَعَة أوجه

(1/176)


أَحدهَا أنَّه غلط من الفررزدق لأنَّ لغته تميميَّة وهم لَا ينصوبه بِحَال لكّنه ظنَّ أنَّ أهل الْحجاز ينصبون خَبَرهَا مؤخرَّاً ومقدَّماً وَالثَّانِي أنَّها لُغَة ضَعِيفَة وَالثَّالِث أنَّه حَال تَقْدِيره (إِذْ مَا فِي الدُّنْيَا بشرٌ مثلُهم) فلَمَّا قدَّم صفة النكرَة نصبها وَهَذَا ضَعِيف لأنَّ الْعَامِل فِي الْحَال إِذا كَانَ معنى لَا يحذف وَيبقى عمله إلاَّ أنَّهُ سوّغه شبه (مثل) بالظرف وَالرَّابِع أنَّه ظرف تَقْدِيره (وَإِذ مَا مكانهم بشر) أَي فِي مثل حَالهم إلاّ أنّه سوَّغه شبه مثل بالظرف
فصل

وَيبْطل عَملهَا بِتَقْدِيم مَعْمُول الْخَبَر كَقَوْلِك مَا طعامَكَ زيدٌ آكل لأنَّ مَعْمُول الْخَبَر لَا يَقع إلاَّ حَيْثُ يَقع الْعَامِل فتقديمه كتقديم الْعَامِل وَلَو تقدَّم الْعَامِل لَكَانَ مَرْفُوعا فَكَذَلِك إِذا تقدَّم معمولُه وكلُّ مَوضِع لَا ينْتَصب فِيهِ خبر (مَا) لَا تدخل عَلَيْهِ الْبَاء كَمَا لَا يدْخل على خبر الْمُبْتَدَأ فإنْ قلت طعامَكَ مَا زيدٌ آكلاً لم يجز نصبت الْخَبَر أَو رفعته لأنَّ (مَا) لَهَا صدر الْكَلَام وَأَجَازَ ذَلِك الكوفيُّون وقاسوه على (لَا) و (لم)

(1/177)


و (لن) وَقد بيَّنا فِيمَا تقدَّم أنَّ (مَا) أصل حُرُوف النَّفْي فَلَا يسوَّى بَينهمَا
فصل
فإنْ قلت مَا إنْ زيد قَائِم بَطل عَملهَا لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ (مَا) كفَّت (إنَّ) عَن الْعَمَل فتكفّها عَن عَملهَا اقتصاصاً وَالثَّانِي أنَّ (مَا) للنَّفْي و (إنْ) تكون للنَّفْي وَالنَّفْي إِذا دخل على النَّفْي صَار إِثْبَاتًا فَكَذَلِك لفظ النَّفْي وَإِن لم تُرٍدْ بِهِ النَّفْي
فصل

وَمن الْعَرَب من يعْمل (لَا) عمل (مَا) لاشْتِرَاكهمَا فِي الْمَعْنى وَمِنْه قَول الشَّاعِر 17 -
(مَنْ صدَّ عَن نيرانها ... فَأَنا ابنُ قيسٍ لَا براحُ) // مجزوء الْكَامِل

(1/178)


أَي لَا لي براح كَقَوْلِك مَالِي وَقَالَ العجَّاج [من الرجز] 18 -
(تاللهِ لَوْلَا أنْ تحشَّ الطُّبَّخُ ... بِي الجحيمَ حِين لَا مُسْتَضْرَخُ) // الرجز // وَمِنْهُم مَنْ يُعملها مَعَ الْحِين خاصّة كَقَوْلِه تَعَالَى {ولاتَ حينَ مناص} تَقْدِيره وَلَيْسَ الْحِين حِين مستضرح وَقَالَ الأخفشُ هُوَ مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف أَي ولات أرى حِين مناص وَقَالَ قوم هُوَ مبنيَّ مَعَ (لَا) وَمن الْعَرَب من يرفع الْحِين هُنَا ويحذف الْخَبَر فأمَّا (التَّاء) فَقَالَ قومٌ هِيَ مُتَّصِلَة ب (لَا) دخلت لتأنيث الْكَلِمَة كَمَا دخلت فِي (ربّ) و (ثمّ) وعَلى هَذَا يُوقف عَلَيْهَا بِالتَّاءِ لأنَّها أشبهت التَّاء اللاحقة بِالْفِعْلِ فِي دلالتها على التَّأْنِيث فِي غير لَفظهَا وَفتحت ليفرقّ بَين الْحَرْف وَالْفِعْل وَلَو قيل حرِّكت لالتقاء الساكنين كَانَ وَجها وَقَالَ الكسائيّ يُوقف عَلَيْهَا بِالْهَاءِ لتحُّركها وَمِنْهُم من قَالَ هِيَ متصَّلة بِحِين كَمَا قَالُوا (تلان

(1/179)


بَاب نعم وَبئسَ

وهما فعلان عِنْد البصرييَّن وَالْكسَائِيّ واسمان عِنْد البَاقِينَ وَالدَّلِيل على أنَّهما فعلان ثَلَاثَة أَشْيَاء أحدُهما اتَّصال تَاء التَّأْنِيث الساكنة الدّالة على تَأْنِيث الْفَاعِل بهَا وَلَيْسَ كَذَلِك تَاء (ربَّت) و (ثَّمت) لأنَّها متحَّركة غير داَّلة على تَأْنِيث الْفَاعِل وَقد وقف عَلَيْهَا قوم بِالْهَاءِ وَالثَّانِي أنَّه يسْتَتر فِيهَا الضَّمِير وَلَيْسَت اسْم فَاعل وَلَا مفعول وَلَا مَا أشبههما وَقد حكى الكسائيّ نعموا رجَالًا الزيدون وَالثَّالِث أنَّها لَيست حرفا بالِاتِّفَاقِ وَلَا سِيمَا وَهِي تفِيد مَعَ اسْم وَاحِد وَلَا يجوز أَن تكون اسْما إِذْ لَو كَانَت اسْما لكَانَتْ إمَّا أَن تكون مَرْفُوعَة وَلَا سَبِيل إِلَى ذَلِك إِذْ لَيست فَاعِلا وَلَا مُبْتَدأ وَلَا مَا شُبَّه بهما وإمَّا مَنْصُوبَة وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ أَيْضا إِذْ لَيست مَفْعُولا وَلَا مَا شبَّه بِهِ وإمَّا مجرورةً وَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فأمَّا دُخُول (الْبَاء) عَلَيْهَا فِي بعض الحكايات فَلَا يدلُّ على أنَّها اسْم كَمَا قَالَ الراجز

(1/180)


19 -
(وَالله مَا ليلِي بنام صاحُبهْ ... ) // مشطور الرجز // وَالتَّقْدِير فِي ذَلِك كلّه بمقول فِيهِ وحذْفُ القَوْل كثير
وأمَّا مَا حُكي أنَّهم قَالُوا (نَعِيَم) فشادّ وَالْيَاء فِيهَا ناشئة عَن إشباع الكسرة وأمَّا دُخُول اللَّام عليْها فِي نَحْو قَوْله تَعَالَى {ولَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ} فَهُوَ جَوَاب قسم كَمَا قَالَ 20 -
(إِذن لقام بنصري ... ) // الْبَسِيط // وكقول الآخر

(1/181)


21 -
( ... لناموا فَمَا إنْ من حديثٍ وَلَا صال) // الطَّوِيل // وأمَّا دُخُول (يَا) عَلَيْهَا فِي نَحْو قَوْلهم يانعم الْمولى فالمنادى مَحْذُوف أَي يَا الله أَنْت نعم الْمولى كَمَا قَالُوا يالَعَنهُ الله وكقراءة من قَرَأَ / أَلا يَا اسجدوا / وَكَقَوْلِه {يَا لَيْت قومِي يعلمُونَ} وأمَّا عدم تصرَّفها فَلم نذكرهُ بعد
فصل
وَالْأَصْل فِي (نَعْمَ) نَعِمَ الرجل إِذا أصَاب نِعْمَةً وبَئِس إِذا أصَاب بؤساً مكسور الْعين وفيهَا أَربع لُغَات هَذِه أحداها وَقد جَاءَت فِي شعر طرفَة 22 -
( ... نَعِمَ الساعون فِي الْأَمر المْبُرّ

(1/182)


وَثَانِيهمَا كسر النُّون وَإِسْكَان الْعين وَالْوَجْه فِيهِ أنَّهم نقلوا كسرة الْعين إِلَى الْفَاء وَثَالِثهَا كسرهَا على الإتباع وَرَابِعهَا فتح النُّون على الأَصْل وَإِسْكَان الْعين على التَّخْفِيف وَهَذَا مستمرّ فِي كلَّ فعل أَو اسْم مكسور الْعين إِذا كَانَت عينه حرفا حلقياً
فصل
وإنَّما كَانَ هَذَا الْفِعْل مَاضِيا غير متصرِّف لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّه لَمَّا أخرج إِلَى معنى اشبه الْحَرْف فِي دلَالَته على الْمَعْنى فجمد كَمَا جمد الْحَرْف وَالثَّانِي أنَّه مَوْضُوع للْمُبَالَغَة فِي الْمَدْح والذمّ وإنَّما يصدر ذَلِك ممّن علم أَن ثمَّ صِفَات توجب ذَلِك فَهُوَ مَمْدَحة أَو مذَّمة بِمَا فِيهِ لَا بِمَا ينتظره
فصل
وإنَّما كَانَ فَاعل (نعم) و (بئس) جِنْسا معرَّفاً بِاللَّامِ لثلالثة أوجه أحدُها أنَّ (نعم) لَمَّا كَانَت للمدح العامَّ جُعل فاعلًها مطابقاً لمعناها وَالثَّانِي أنَّ الْجِنْس يذكر تَنْبِيها على أَن الْمَخْصُوص بالمدح أفضل جنسه

(1/183)


وَالثَّالِث أنَّ الْجِنْس ذكر للإعلام بأنَّ كلّ فَضِيلَة وكلَّ رذيلة افْتَرَقت فِي جَمِيع الْجِنْس مجتمعة فِي الْمَخْصُوص بالمدح والذمَّ فإنْ قيل لَو كَانَ جِنْسا لما ثنَّي وَلَا جمع قيل إنَّما ثنَّي وَجمع على معنى إنَّ زيدا يفضل هَذَا الْجِنْس إِذا مَيَّزوا رجلَيْنِ رجلَيْنِ أَو رجَالًا رجَالًا وَقيل إنَّما ثُنَّي وَجمع ليَكُون على وفَاق الْمَخْصُوص بالمدج والذمَّ فِي التَّثْنِيَة وإنَّما كَانَ الْمُضَاف إِلَى الْجِنْس كالجنس لأنَّ الْمُضَاف يكتسي تَعْرِيف الْمُضَاف إِلَيْهِ وإنَّما جَازَ إضماره لما فِيهِ من الِاخْتِصَار مَعَ فهم الْمَعْنى وَلم يظْهر فِيهِ ضمير التَّثْنِيَة وَالْجمع اسْتغْنَاء بِصِيغَة الِاسْم الممّيز للضمير إِذْ هُوَ فِي الْمَعْنى وَجَاز الْإِضْمَار قبل الذّكر لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّه إِضْمَار على شريطة التَّفْسِير وَالثَّانِي أنَّ الْمظهر لَيْسَ يُرَاد بِهِ واحدٌ بِعَيْنِه فَفِيهِ نوع إِبْهَام والمضمر قبل الذّكر كَذَلِك وَهَذَا مثل قَوْلهم (ربّه رجلا) وَالِاخْتِيَار أَن يجمع بَين الْفَاعِل

(1/184)


والتمييزلأنَّ التَّمْيِيز هَهُنَا مفسّر للمضمر وَلَا مُضْمر وَإِن جَاءَ مِنْهُ شَيْء فِي الشّعْر فشاذّ يذكر على وَجه التوكيد وَجعله أَبُو العبَّاس قِيَاسا
فصل

وأمَّا الْمَخْصُوص بالمدح والذمَّ فَفِي رَفعه وَجْهَان أَحدهمَا هُوَ خبرٌ مبتدؤه مَحْذُوف وَالثَّانِي هُوَ مُبْتَدأ وَالْجُمْلَة قبله خَبره وَلم يحْتَج لى ضمير لأنَّ الْجِنْس مُشْتَمل عَلَيْهِ فيجرى مجْرى الضَّمِير كَمَا قالو [من الطَّوِيل] 23 -
(أمّا الْقِتَال لاقتال لديكم ... ) // الطَّوِيل // 24 -
(وأمَّا الصدرور لاصدور لجَعْفَر ... ) // الطَّوِيل //

(1/185)


فصل

وَقد حذف فاعلُ (نعم) من اللَّفْظ تَارَة والمخصوصُ أُخْرَى وَقد حذفا جَمِيعًا فِي نَحْو قَوْله تَعَالَى {بئس للظالمين بَدَلا} وَالتَّقْدِير بئس الْبَدَل إِبْلِيس وذريَّته وَجَاز ذَلِك لتقدَّم ذكره وَمن حذفِ الْمَخْصُوص قَوْله تَعَالَى {بئس مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا} ف (الَّذين) صفة للْقَوْم وَالتَّقْدِير بئس مثل الْقَوْم هَذَا الْمثل وَيجوز أَن يكون الَّذين فى مَوضِع رفع أَي بئس مثل الْقَوْم أَي مثل الَّذين فَحذف المضافَ وَأقَام الْمُضاف إِلَيْهِ مُقامه وأمَّا قَوْله تَعَالَى {سَاءَ مثلا الْقَوْم} ف (سَاءَ) بِمَنْزِلَة (بئس) وَالتَّقْدِير سَاءَ الْمثل مثلا مثل الْقَوْم فَعمل فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ وساء بِمَنْزِلَة بئس فى جَمِيع الْأَحْكَام
فصل

إِذا كَانَ الْفَاعِل مؤنَّثا هُنَا كَانَ ثُبُوت التَّاء كَغَيْرِهِ من الْأَفْعَال وَيجوز حذفهَا

(1/186)


لأنَّ الْفَاعِل جنس وَالْجِنْس مذكَّر فغلَّب الْمَعْنى كَمَا قَالُوا مَا قَامَ إِلَّا هِنْد أَي مَا قَامَ أحدٌ إلاّ هِنْد

(1/187)


بَاب حبَّذا

(حبَّ) فعل مَاض وَأَصله (حَبُبَ) مثل ظرف لأنَّ اسْم الْفَاعِل مِنْهُ حبيب وَهُوَ لَازم فأمَّا (حَببْتُ الرجل) فَهُوَ فعلت مثل ضرب وَاخْتلفُوا فِيهَا على ثَلَاثَة أَقْوَال أحُدها أنّه غير مركَّب وفاعله (ذَا) وَالِاسْم الْمُرْتَفع بعده كالمرتفع بعد فَاعل (نعم) فى الْوَجْهَيْنِ إلاَّ أنَّه لَا يجوز تَقْدِيمه هُنَا على حبَّذا لِأَن حبَّذا صَارَت كالحرف الْمُثبت لِمَعْنى فى غَيره فَيكون لَهُ صدر الْكَلَام وَهَذَا هُوَ الأَصْل وَالْقَوْل الثَّانِي أنَّ (حبَّ) رُكَّبتْ مَعَ (ذَا) وصارا فى تَقْدِير اسْم مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ و (زيدٌ) خَبره وَتَقْدِير المقرَّب إِلَى الْقلب زيدٌ وَاحْتج على ذَلِك بِحُسْن ندائه كَقَوْلِهِم 25 -
(يَا حبَّذا حبلُ الريَّانِ من جبلُ ... ) 26 -
(يَا حبَّذا القمراء ... )
189 - وكقولهم (مَا أحيبذه) فصغروه تَصْغِير الْمُفْرد وبأنَّه لم يُثَنَّ وَلم يجمع وَلم يؤنَّث وبأنَّه لَا يحذف ويضمر فى الْفِعْل كَمَا فُعل فى (نعم) وَهَذِه الْأَوْجه لَا يعْتَمد عَلَيْهَا لِأَن المنادى مَحْذُوف تَقْدِيره (يَا قوم) كَمَا قَالُوا 27 -
(أَلا يَا اسلمي ... ) فأدخلوها على الْفِعْل وأمَّا الْمَنْع من تنثيته وَجمعه فلمِا يذكر من بعدُ وأمَّا قَوْلهم مَا أحبيذه فَمن الشذوذِ الَّذِي لَا يُستدلُّ بِهِ على أصل الثَّالِث أنَّ جعل التَّرْكِيب كالفعل وارتفع زيد بِهِ
فصل

وإنَّما لم يُثنَّ وَلم يجمع كَمَا فُعل فى فَاعل (نعم) لتركبيه عِنْد من يرى التَّرْكِيب وَمن لم يره فَفِيهِ وَجْهَان

(1/188)


أَحدهمَا أنَّ (ذَا) لَمَّا كَانَ عبارَة عَن الْمَذْكُور أَو المقرَّب من الْقلب كَانَ جِنْسا وَلَفظ الْجِنْس مُفْرد لم يغيرَّه عَن ذَلِك وَالثَّانِي أنَّ الْمُفْرد هُوَ الأَصْل وَيبقى هُنَا على لَفظه لأنَّه صَار كالمثل والأمثالُ لَا تغّير عَن أوَّليتها وَلم يضمر فَاعل (حبَّ) لِئَلَّا يبطل معنى الْإِشَارَة
فصل

والنكرة تنصب بعده على التَّمْيِيز وَجَاز الْجمع بَينهمَا لأنَّها لَيست من لفظ الْفَاعِل بِخِلَاف بَاب (نعم) وَالِاسْم الْمَخْصُوص بالتقريب مرفوعٌ وَفِيه أَرْبَعَة أوجه الأوَّل هُوَ خبر ابْتِدَاء بِمَحْذُوف وَالثَّانِي هُوَ مُبْتَدأ و (حبذا) خَبره ولَمّا كَانَت (ذَا) تشبه الضَّمِير كَانَت كالعائد على الْمُبْتَدَأ وَلَا يجوز على هَذَا الْوَجْه زيدٌ حبَّذا كَمَا جَازَ فِي (نعم) لجَرَيَان (حبَّذا) مجْرى الْمثل وحروف الْمعَانِي وَالثَّالِث أنَّه تَبْيِين للْفَاعِل وَالرَّابِع أنَّه بدلٌ لَازم وَمن جعل (حبّذا) مركَّباً كَانَ (زيد) خَبره أَو فَاعله

(1/190)


بَاب عَسى

وَهِي فعل بِدَلِيل اتَّصال الضمائر بهَا وتاء التَّأْنِيث الساكنة نَحْو عَسَيْت وعسوا وعسين وعستْ وَمَعْنَاهَا الإشفاق والطمع فِي قرب الشَّيْء كَقَوْلِك عَسى زيد أَن يقوم أَي أطمع فِي قرب قِيَامه وَهِي فعل مَاض لأنّك تخبر بهَا عَن طمع وَاقع فِي أَمر مُسْتَقْبل وَلَا يكون مِنْهَا مُسْتَقْبل وَلَا اسْم فَاعل بل هِيَ فعل جامد وإنَّما كَانَت كَذَلِك لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنّها أشبهت الْحُرُوف إِذْ كَانَ لَهَا معنى فى غَيرهَا وَهُوَ الدّلَالَة على قرب الْفِعْل الْوَاقِع بعْدهَا وَحكم الْفِعْل أَن يدل على معنى فى نَفسه وَشبههَا بالحرف يُوجب جمودها كَمَا أنَّ الْحَرْف جامد
وَالثَّانِي أنَّها تشبه (لعلّ) فى الطمع والإشفاق فتلزم صِيغَة وَاحِدَة ك (لعلَّ)

(1/191)


فصل

إِذا وَقع الْفِعْل الَّذِي دلَّت عَلَيْهِ (عَسى) بعد الِاسْم كَانَ مَوْضِعه نصبا كَقَوْلِك عَسى زيدٌ أَن يقوم وَقَالَ الكوفُّيون مَوْضِعه رفع على أنَّه بدلٌ ممَّا قبله
وَالدَّلِيل على القَوْل الأوَّل من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن (زيدا) هُنَا فَاعل (عَسى) وَمَعْنَاهَا قَارب زيدٌ فَيَقْتَضِي مَفْعُولا وَهُوَ قَوْلك (أَن يقوم)
وَالثَّانِي أَن (عَسى) دلّت على معنى فِي قَوْلك (أَن يقوم) كَمَا دلَّت (كَانَ) على معنى فِي الْخَبَر فَوَجَبَ أَن يكون مَنْصُوبًا كَخَبَر (كَانَ) يشْهد لَهُ قَول الشَّاعِر 28 -
(أكثَرْتَ فِي اللومِ ملحّا دائمأ ... لَا تَلْحَني إنَّي عَسَيتُ صَائِما) // الرجز // وَمِنْه الْمَثَل (عَسى الغوير أبْؤُسا) وَلَا يصحُّ أَن يقدّر ب (أَن يكون أبوساً) لما فِيهِ من حذف الْمَوْصُول وإبقاء صلته وَلَا يصحَّ جعله بَدَلا لثَلَاثَة أوجه

(1/192)


أَحدهَا أنَّ الْبَدَل لَا يلْزم ذكره وَهَذَا يلْزم ذكره وَالثَّانِي أنَّه فِي معنى الْمَفْعُول وَالْخَبَر الَّذِي دلَّت عَلَيْهِ (عَسى) وَلَيْسَ هَذَا حكم الْبَدَل
وَالثَّالِث أنَّه قد جَاءَ الْفِعْل الَّذِي دلَّت عَلَيْهِ (عَسى) وإبدال الْفِعْل من الِاسْم لَا يصحَّ
فصل

وإنَّما كَانَ خبر عَسى فعلا مُسْتَقْبلا لأنَّها تدل على المقاربة والمقاربة فِي الْمَاضِي محالٌ لِأَنَّهُ قد وجد وَلم يكن اسْما إِذْ لَا دلَالَة للاسم على الِاسْتِقْبَال وإنَّما لَزِمت فِيهِ (أنْ) لتمحّضه على الِاسْتِقْبَال وَلم يكن (السِّين) و (سَوف) لأنَّهما يدلاَّن على نفس زمَان الْفِعْل وَالْغَرَض هُنَا تقريبه فإنْ جَاءَ شَيْء من ذَلِك فَهُوَ شاذّ
فصل

وَإِذا وَقع (أَن وَالْفِعْل) قبل الِاسْم فموضعه رفع على أنَّه فَاعل (عَسى) وَيكون مَعْنَاهَا (قرب) وَلَا تَقْتَضِي مَفْعُولا أَو يكون هَذَا الْفَاعِل لم تضمنَّه من الْحَدث مغنياً عَن الْخَبَر

(1/193)


فصل

وأمَّا (كَاد) فَفعل متصرّف يدلُّ على شدَّة مقاربة الْفِعْل وَمن هَهُنَا لم يدْخل خَبَرها (أَن) ليَكُون لَفظه كَلَفْظِ فعل الْحَال فإنْ جَاءَت فِيهِ (أَن) فَهُوَ شاذّ مَحْمُول على (عَسى) كَمَا حملت عَسى على (كَاد) فإنْ تقدَّم الْفِعْل كَقَوْلِه تَعَالَى {من بعد مَا كَاد يزِيغ قُلُوب فريق مِنْهُم} كَانَ فِيهَا أَرْبَعَة أوجه
أَحدهَا أَن يكون فِيهَا ضمير الشَّأْن وَالْجُمْلَة بعْدهَا مفسّرة وَالثَّانِي أَن تكون (تزِيغ) حَالا مغنية عَن الْخَبَر

(1/194)


وَالثَّالِث أَن تكون (تزِيغ) فى نيَّة التَّأْخِير وَالرَّابِع أَن يكون فَاعل (كَاد) ضميراً الْقَبِيل أَي كَاد الْقَبِيل وأضمر ليقوم مَا يدلّ عَلَيْهِ وَهَذَا قَول ابى الْحسن
فصل

إِذا كَانَت (كَاد) مثبتة فى اللَّفْظ فالفعل غير وَاقع فى الْحَقِيقَة كَقَوْلِك كَاد زيدٌ يقوم أَي قَارب ذَاك وَلم يقْم وَإِن كَانَت منفية فَهُوَ وَاقع فى الْحَقِيقَة كَقَوْلِك لم يكد يقوم لأنَّ الْمَعْنى قَارب ترك الْقيام
فأمَّا قَوْله تَعَالَى {لم يكد يَرَاهَا} فقد اضْطَرَبَتْ فِيهِ الْأَقْوَال فَقَالَ بَعضهم التَّقْدِير لم يرهَا وَلم يكد وَهَذَا خطأ لأنَّ قَوْله (لم يكد) إِن كَانَت على بَابهَا نقض الثَّانِي الأوَّل لأنَّه نفى الرُّؤْيَة ثمَّ أثبتها وَإِن لم تكن على بَابهَا فَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير الْفِعْل الأوَّل وَقَالَ الْآخرُونَ إنَّه رَآهَا بعد الْيَأْس من ذَلِك وَهَذَا أشبه بِالْمَعْنَى وَاللَّفْظ

(1/195)


بَاب التَّعجُّب

التَّعجُّب هُوَ الدهش من الشَّيْء الخارخ عَن نَظَائِره الْمَجْهُول سَببه وَقد قيل إِذا ظهر السَّبَب بَطل الْعجب وَاللَّفْظ الْمَوْضُوع لَهُ بحقًّ الأَصْل (مَا أَفعلهُ) فأمَّا (أفْعِلْ بِهِ) فمعدولٌ بِهِ عَن أَصله على مَا سنبيَّنه
فصل

و (مَا) فى التَّعجُّب تكرة غير مَوْصُولَة مُبْتَدأ و (أحْسَنَ) خَبَرهَا وَقَالَ أَبُو الْحسن هِيَ بِمَعْنى الذى و (أحسن) صلتها وَالْخَبَر محذزف
وَالدَّلِيل على الأوَّل من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَّ التعحُّب من مَوَاضِع الْإِبْهَام ف (الَّذِي) فِيهَا إِيضَاح بصلتها وَالثَّانِي أنَّ تَقْدِير الْخَبَر هُنَا لَا فَائِدَة فِيهِ إِذْ تَقْدِيره الَّذِي أحسن زيدا شَيْء وَهَذَا لَا يَسْتَفِيد مِنْهُ السَّامع فَائِدَة وإنَّما جَازَ الِابْتِدَاء بِهَذِهِ النكرَة لأنَّ الْغَرَض مِنْهُ التعجُّب لَا الْإِخْبَار الْمَحْض
وإنَّما عُدل عَن) شَيْء) إِلَى (مَا) لأنَّ (مَا) أشدُّ إبهاماً إِذْ كَانَت لَا تثنى

(1/196)


وَلَا تجمُع وَلَا تقع للتحقير ولأنَّها يؤكّد بهَا إِبْهَام (شَيْء) فَيُقَال مَا أخذت مِنْهُ شَيْئا مَا فأنَّها تثنَّى وَتجمع وُتْذَكُر للتحقير كَقَوْلِك عِنْدِي شُييءٌ أَي حقير
وَلم يستعملوا فى التَّعَجُّب (مَنْ) بِمن يعقل وَلَا (أيَّا) لأنَّها كشيْ فِيمَا ذكرنَا
فصل

فأمَّا صِيغَة (أفعل) فِي التعجُّب فَفعل لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا إِلْحَاق نون الْوِقَايَة بهَا فِي قَوْلك مَا أحسنني فَهُوَ كَقَوْلِك أكرمنى وَلَيْسَ الْأَسْمَاء كَذَلِك وَلَا عِبْرَة بِمَا جَازَ فِي الشّعْر من ذَلِك قَوْله 29 -
( ... وَلَيْسَ حاملني إلاَّ ابْن حمَّال) لشذوذه والاضطرار إِلَيْهِ
وَالثَّانِي أنَّ (أفعل) هَذِه تنصب المتعَّجب مِنْهُ على أنَّه مفعول بِهِ وَلَا تجوز إِضَافَته إِلَيْهِ على الْفَتْح أبدا وَلَو كَانَ اسْما لأعرب

(1/197)


وَقَالَ بعض الكوفييًّن هُوَ اسْم لأنَّه يصغر وَلَا تلْحقهُ الضمائر وَلَا تَاء التَّأْنِيث وتصحُّ فِيهِ الْوَاو وَالْيَاء كَقَوْلِك مَا أخوفني وَمَا أسيرني وَلَيْسَ كَذَلِك الْفِعْل
وَالْجَوَاب أنَّ التصغير جَازَ فِي هَذَا الْفِعْل لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أنَّه نَائِب عَن تَصْغِير الْمصدر كَمَا أنَّ الْإِضَافَة إِلَى الْفِعْل فى اللَّفْظ وَهِي فِي التَّقْدِير إِلَى مصدره
وَالثَّانِي أنَّ هَذَا الْفِعْل أشبه الِاسْم فِي جموده وَالثَّالِث أنَّ لَفْظَة (أفعل) هُنَا مثل لَفْظَة (هُوَ أفعل مِنْك) وللشبه اللَّفْظِيّ أثّر كَمَا فِي بَاب مَالا ينْصَرف
وأمّا خلوُّة عَن الضَّمِير فإنَّما كَانَ كَذَلِك لأنَّ فِيهِ ضمير (مَا) وَهِي مُفْردَة بكلَّ حَال وَكَذَلِكَ امْتنَاع تَاء التَّأْنِيث لأنَّ (مَا) مذكّر وأمَّا الْوَاو وَالْيَاء فَلَا حجَّة فِيهَا فإنَّ من الْأَفْعَال مَا هُوَ كَذَلِك كَقَوْلِه تَعَالَى {استحوذ عَلَيْهِم الشَّيْطَان}

(1/198)


) ولأنَّ هَذَا الْفِعْل أشبه الأسم وأشبه لفظُه (أفعل مِنْك) فأجري عَلَيْهِ فِي الصحَّة حكمهَا
فصل

وَلَا يكون التعجُّب إلاَّ من وصف مَوْجُود فِي حَال التعجُّب مِنْهُ وَلذَلِك كَانَت الصِّيغَة الداَّلة عَلَيْهِ صِيغَة الْمَاضِي لأنَّ فعل الْحَال لَا يتكامل حتَّى يَنْتَهِي والمستقبل مَعْدُوم فأمَّا قَوْلهم مَا أطول مَا يخرج هَذَا الْغُلَام فَجَاز لأنَّ أَمَارَات طوله فِي الْمُسْتَقْبل موجودةٌ فِي الْحَال
فصل

الأَصْل فِي فعل التعجُّب أَن يكون من أَفعَال الغرائز لأنَّها هِيَ الَّتِي تخفى فَإِذا زَادَت تُعُّجب مِنْهَا لخفاء سَببهَا وأمَّا قولُهم مَا أضْرب زيدا لعَمْرو فأنَّما تُعجِّب مِنْهُ لتكّرُّره وخفاء سَبَب ذَلِك حتّى صَار كالغريزيّ
فصل

وَلَا يبْنى فعل التَّعَجُّب إلاّ من الثلاثيّ لِأَن الْغَرَض مِنْهُ أَن يصير مَا كَانَ فَاعِلا

(1/199)


مَفْعُولا كَقَوْلِك حسن زيدٌ وتبني مِنْهُ أحسن زيدا كَقَوْلِك فَرح زيد وأفرحت زيدا وَلِهَذَا ينْتَقل عَن اللُّزُوم إِلَى التعدِّي وَلَا يُعدَّى بِالْهَمْزَةِ إلاَّ الثلاثي فأمَّا الرباعيّ فَلَا يعدَّى بهَا فَلَا تَقول فِي (دحرج) (أَدَحْرَجْته) والعلّة فِي ذَلِك أنَّ الْهمزَة لَمّا أحدثت معنى التعدِّي صَارَت كحرف من الْفِعْل أصليّ وَلَيْسَ فى الْأَفْعَال مَا هُوَ على خَمْسَة أحرف أصُول لما فِي ذَلِك من الثّقل وَكَثْرَة أَمْثِلَة الْفِعْل وَلِهَذَا لم يكن فِي الرباعي حرف إِلْحَاق وَكَانَ فِي الثلاثيّ مثل (جَلْبَبَ) فأمَّا قَوْلهم مَا أعطَاهُ لِلْمَالِ وأولاه للخير وأفقره إِلَى كَذَا وَمَا أشبه فإنَّه على أَرْبَعَة أحرف غير همزَة التعديّ إِلَّا أنَّ حرفا مِنْهَا زَائِد كالهمزة فِي (أعْطى وَأولى) فحذفوها فَبَقيَ (عطى) و (ولى) وَلَهُمَا معنى فلَمّا أَرَادوا التعجُّبُّ حذفوا الْهمزَة الَّتِى كَانَت قبل ذَلِك وَجعلُوا همزَة التعجُّب عوضا عَنْهَا وأمَّا (أفقر) فَلَا يسْتَعْمل مِنْهُ (فقر) وَلَكِن (افْتقر) إلاَّ أنَّ الأَصْل يسْتَعْمل لأنَّه قد جَاءَ الْفَاعِل مِنْهُ (فَقير) فَهُوَ مثل (ظرف) وظريف) فلّمّا تعجبوا مِنْهُ أَخْرجُوهُ على الأَصْل

(1/200)


وإنَّما لم يُتَعَجَّب من الألوان لأنَّ الأَصْل فِيهَا أَن تكون على أَكثر من ثَلَاثَة أحرف نَحْو (ابيضَّ) و (أحمرّ) وَمثل ذَلِك لَا يُعدَّى بِالْهَمْزَةِ
وَقَالَ الكوفيَّون يجوز فى الْبيَاض والسواد لِأَنَّهُمَا أصلا الألوان وَقد جَاءَ فى الشّعْر (أبيضُهم) و (أبيضُ من كَذَا) و (أسودُ من كَذَا) وَهَذَا مَذْهَب ضَعِيف لما تقدَّم وجَعْلُ الْبيَاض والسواد أصلين دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَلَو صحتّ لم يستقم قَوْلهم فِيهَا وَمَا جَاءَ فِي الشّعْر فَهُوَ إمَّا شاذّ أَو يكون (مِنْهُ) الَّتِي بعده صفةٌ لَهُ أَو يكون (أفعل) لَا يُرَاد بِهِ الْمُبَالغَة
فصل

وَلَا يُبنى فعل التعجبَّ من الْعُيُوب الظَّاهِرَة كالْحول والعَوَر لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أَن فعل هَذِه الْعُيُوب فِي الأَصْل زَائِد على ثَلَاثَة أحرف نَحْو (احولَّ) و (اعورَّ) فَلَا يصحُّ زِيَادَة همزَة التعجُّبَّ عَلَيْهِ وَمَا جَاءَ مِنْهُ على ثَلَاثَة أحرف فمعدول بِهِ عَن أَصله وَلِهَذَا يصحُّ فِيهِ الْوَاو نَحْو (حول) تَنْبِيها على أنَّه فِي حكم (احولَّ) وَمَا جَاءَ مِنْهُ ثلاثياً لَا غير نَحْو (عمي) فَمَحْمُول على الْبَاقِي

(1/201)


وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ الْعُيُوب الظَّاهِرَة كالَخلَق الثَّابِتَة كَالْيَدِ وَالرجل وكما لَا يبْنى من هَذِه الاعضاء فعل التعجُّب كَذَلِك الْعُيُوب الظَّاهِرَة
أمَّا الْعُيُوب الْبَاطِنَة كعمى الْقلب والحماقة فيبنى مِنْهَا فعل التعجُّب نَحْو مَا أعمى قلبه وَمَا أحمره تُرِيدُ البلادة وَكَذَلِكَ مَا أسوده تُرِيدُ السِّيَادَة
فصل

وَلَا يجوز الْعَطف على فَاعل فعل التعجبَّ لِاسْتِحَالَة الْمَعْنى وَلَا الْبَدَل مِنْهُ لأنَّ ذَلِك يوضحَّه ومبناه على الْإِبْهَام وَلَا يجوز أَن يكون الْمَفْعُول هُنَا نكرَة غير مَوْصُوفَة كَقَوْلِك مَا أحسن زيدا لأنَّه غير مُفِيد وَلَا يجوز الْفَصْل بَين فعل التعجُّب ومفعوله إلاَّ بالطرف لأنَّه بجموده أشبه (إنَّ)
فصل

وأمَّا (أفْعِلْ بِهِ) فى التعجُّب فلفظه لفظ الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر كَقَوْلِه تَعَالَى {فَلْيَمْدُدْ لهُ الرَّحمنُ مدّاً} مَعْنَاهُ فَلَيَمُدَّنَّ لَهُ الرَّحْمَن

(1/202)


وَحكي عَن الزَّجاج أنَّه أَمر حَقِيقَة وَالتَّقْدِير أحسنْ يَا حُسْنُ بزيد: أَي دُم أيذُمْ بِهِ وَهَذَا ضَعِيف لثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أنَّ الْأَمر طلب إِيقَاع الْفِعْل والتعجُّب لَا يكون إلاَّ من أمرٍ قد وُجد
وَالثَّانِي أنَّه يصحَّ أَن يُقَال فِي جَوَاب هَذَا الْكَلَام صدقت أَو كذبت وَلَيْسَ كَذَلِك حَقِيقَة الْأَمر
وَالثَّالِث أنَّ لَفظه وَاحِد يكون فى التَّثْنِيَة وَالْجمع والمذكَّر والموَّنث كَقَوْلِك يَا زَيْدَانَ أحسن بِعَمْرو وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الْأَمْثِلَة
وعَلى هَذَا الْخلاف تترتَّب مَسْأَلَة وَهِي أنَّ مَوضِع الْجَار وَالْمَجْرُور رفْعٌ بِأَنَّهُ فَاعل وَالتَّقْدِير أحْسَنَ زيدٌ أَي صَار ذَا حُسْنّ وَمثله {كفى بِاللَّه شَهِيدا} إلاَّ أَن الْبَاء لَا يجوز حذفهَا فى التعجُّب لئلاَّ يبطل معنى التعجُّب وَيجوز حذفهَا فِي {كفى بِاللَّه شَهِيدا} وعَلى قَول الزَّجاج (بزيد) فى مَوضِع نصب

(1/203)


فصل

وتزاد (كَانَ) فِي التعجُّب نَحْو مَا كَانَ أحسن زيدا وَلَا فَاعل لَهَا عِنْد أبي عليّ وإنَّما دخلت تدلُّ على المضيّ وَقَالَ السيرافي فاعلها مصدرها وَقَالَ الزجَّاجي فاعلها ضمير (مَا) وَهَذَا ضَعِيف لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَنَّهَا لَو كَانَت كَذَلِك لكَانَتْ هِيَ خبر (مَا) لَا يكون هُنَا إلاَّ (أفعل) وَالثَّانِي أنَّها إنَّها كَانَت التامَّة لم تستقم لفساد الْمَعْنى وإنْ كَانَت النَّاقِصَة لم تستقم أَيْضا لأنَّ خَبَرهَا إِذا كَانَ فعلا مَاضِيا قُدِّرتْ مَعَه (قَدْ) وَتَقْدِير (قَدْ) هُنَا فَاسد لأنَّه يصير مَحْض خبر

(1/204)


بَاب

إنَّ وَأَخَوَاتهَا

إنَّما دخلت (إنَّ) على الْكَلَام للتوكيد عوضا عَن تَكْرِير الْجُمْلَة وَفِي ذَلِك اخْتِصَار تامٌّ مَعَ حُصُول الْغَرَض من التوكيد فإنْ دخلت (اللَّام) فِي خَبَرهَا آكِد وَصَارَت (إنَّ وَاللَّام) عوضا من تَكْرِير الْجُمْلَة ثَلَاث مرَّات وَهَكَذَا (أنَّ) الْمَفْتُوحَة إِذْ لَوْلَا إِرَادَة التوكيد لَكُنْت تَقول مَكَان قَوْلك بَلغنِي أنَّ زيدا منطلق بَلغنِي انطلاق زيد
فصل

وَالْأَصْل فِي (كأنَّ زيدا الأسدُ) أنَّ زيدا كالأسد ثمَّ قدموَّا (الْكَاف) فأدخلوها على (أنَّ) ليبتدئوا بالمشبه وَهُوَ أوْلى من أَن يبتدئوا بِمَا لَفظه لفظ التَّحْقِيق ثمَّ يعود التَّشْبِيه إِلَيْهِ بعد ذَلِك ولَمّا كَانَت كَاف الجرَّ تفتح لَهَا (انَّ) كَمَا تفتح بعد غَيرهَا من حُرُوف الجرّ فُتحت هَهُنَا وَإِن كَانَت قد ركِّبت مَعهَا وجعلتا كحرف وَاحِد تَنْبِيها على الأَصْل الَّذِي ذكرتُ إلاَّ أنَّها تفارق الْكَاف الجارَّة فِي شَيْئَيْنِ أَحدهمَا أنَّها غير معلَّقة بِفعل فَلَا مَوضِع لَهَا وَلما بعْدهَا إِذن

(1/205)


وَالثَّانِي أنَّ مَا بعد الْكَاف لَيْسَ بمجرور الْموضع كَمَا يكون بعد اللَّام فِي قَوْلك لأنَّ زيدا منطلق ولأنَّها لَمَّا ركَّبت وَصَارَ المهّم معنى التَّشْبِيه فِي الْخَبَر صَارَت قَائِمَة بِنَفسِهَا
فصل

و (لكنَّ) مُفْردَة وَقَالَ الكوفيَّون هِيَ مركَّبة من (لَا) و (إِن) و (الْكَاف) زَائِدَة و (الْهمزَة) محذوفة وَهَذَا ضَعِيف جدّاً لِأَن التَّرْكِيب خلاف الأَصْل ثمَّ هُوَ فِي الْحُرُوف أبعد ثمَّ إنَّ فِيهِ أَمريْن آخَرين يزيدانه بعدا وهما زِيَادَة الْكَاف فِي وسط الْكَلِمَة [وَحذف الْهمزَة] وَحذف الْهمزَة فِي مثل هَذَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل قطعيّ
فإنْ قَالُوا معنى النَّفْي والتأكيد باقٍ لأنَّك إِذا قلت قَامَ زيدٌ لكنَّ جعفراً منطلق حصل معنى التَّأْكِيد وَالنَّفْي قيل هَذَا خطأ لأنَّ (لَا) النافية لَا يبطل نَفيهَا بِدُخُول (إنَّ) على مَا بعْدهَا كَقَوْلِك قَامَ زيد لَا إِن جعفراً قَائِم فَهُوَ كَقَوْلِك لَا جَعْفَر قَائِم فِي الْمَعْنى و (لكنَّ) تثبت مَا بعْدهَا لَا تنفيه فَلم يصحّ مَا قَالُوا
فصل

وَاللَّام الأولى فِي (لعلَّ) أصل فِي أقوى الْقَوْلَيْنِ لِأَن الزِّيَادَة تصرّف

(1/206)


والحروف بعيدَة مِنْهُ ولأنَّ الْحَرْف وضع اختصاراً وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ تنَافِي ذَلِك
وأمَّا مجيئها بِغَيْر لَام فلغة فِيهَا أَو حذف حرف أصليّ والحذف من جنس الِاخْتِصَار فَهُوَ أوْلى من الزِّيَادَة
وَفِي (لعلّ) لُغَات وَهِي لعلَّ وعلَّ وعنَّ ولعَنَّ ورعنَّ ولغنَّ وَالْمَشْهُور الأوليان وَأكْثر الْعَرَب تنصب بهَا وَمِنْهُم مَنْ جرَّ بهِا وَهُوَ قَلِيل
فصل

وإنَّما عملت هَذِه الْحُرُوف لاختصاصها بِضَرْب من الْكَلَام واختصاص الشَّيْء بالشَّيْء دليلٌ على قوَّة تَأْثِيره فِيهِ فَإِذا أثرَّ فِي الْمَعْنى أثر فِي اللَّفْظ ليَكُون اللَّفْظ على حسب الْمَعْنى
فَأَما (لَام التَّعْرِيف) فَلَا تعْمل مَعَ اختصاصها لِأَنَّهَا صَارَت كجزء من الِاسْم لأنَّها تعيَّن الْمُسَّمى كَمَا تعينُه الْأَوْصَاف وَلِهَذَا يجوز أَن يتوالى بيتان آخِرُ أحِدِهما معرفةٌ وَآخر الآخرَ اسْم مثل الأوَّل نكرَة وَلَا يُعدُّ إيطاءً

(1/207)


وأمَّا (السِّين) و (سَوف) فَلم يعملا لأنَّهما كجزء من الْفِعْل إِذْ كَانَ الْفِعْل دالاًّ على الزَّمَان وهما تخصَّصانه حتَّى يدلَّ على مَا وضع لَهُ وهما مَعَ الْفِعْل بِمَنْزِلَة فعل مَوْضُوع دَال على الزَّمَان الْمُسْتَقْبل من غير اشْتِرَاك
وأمَّا (قد) فَتدخل على الْمَاضِي والمستقبل ثَّم إنَّها تقرَّب الْمَاضِي من الْحَال وَهَذَا تَأْثِير فِي زمَان الْفِعْل فَصَارَت كالسين وَالْأَفْعَال إنَّما عملت لاختصاصها وَهَذِه الْحُرُوف مشَّبةٌ بهَا
فصل

وإنَّما عملت الرّفْع وَالنّصب لأنَّها شابهت الْأَفْعَال فِي أختصاصها بالأسماء فِي دُخُولهَا على الضمائر نَحْو (إنَّك) و (إنَّه) وَفِي أنَّ معاينها مَعَاني الْأَفْعَال من التوكيد والتشبيه وَغير ذَلِك وَفِي أنَّها على ثَلَاثَة أحرف مَفْتُوحَة الآخر وَمن حَيْثُ رفع الْفِعْل وَنصب فِيمَا يَقْتَضِيهِ فَكَذَلِك هَذِه الْحُرُوف
فصل

وقدِّم منصوبها على مرفوعها لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّ هَذِه الأحرف فروعٌ فِي الْعَمَل على الْفِعْل وَالْفُرُوع تضعف عَن الْأُصُول فَيجب أَن تشبه بالأصول فِي أَضْعَف أحوالها وأضعف أَحْوَال الْفِعْل أَن يتقدَّم منصوبه على مرفوعه تقدُّماً كَقَوْلِك صرف زيدا غُلامُه وَالثَّانِي أنَّ عمل الْفِعْل فِي منصوبه أَضْعَف من عمله فِي مرفوعه لأنَّه فى الرُّتْبَة متراخٍ عَنهُ فلَمَّا كَانَ الْمَنْصُوب أَضْعَف والمرفوعُ أقوى جُعل الأضعف يَلِي (إنَّ) ليقوى بتقدمَّه فَيعْمل فِيهِ الْعَامِل الضَّعِيف وأًخرِّ لأنَّه الْمَرْفُوع لأنَّ بقوتَّه يَسْتَغْنِي عَن قُوَّة ملاصقة الْعَامِل
وَالثَّالِث أنَّ الْمَرْفُوع لوتقدَّم لجَاز إضماره والحرف لَا يتصًّل بِهِ ضمير الْمَرْفُوع كالتاء وَالْوَاو) فِي (قُمْت) و (قَامُوا) بِخِلَاف مَا إِذا تأخرَّ
فصل

وَلَا يجوز تَقْدِيم الْمَرْفُوع هُنَا لثَلَاثَة أوجه
أحدُها مَا تقدَّم من تعذُّر الْإِضْمَار
وَالثَّانِي أنَّ تَقْدِيم الْمَرْفُوع لَو جَازَ لَكَانَ أوْلى كَمَا فِي الْفِعْل وَقد بينَّا أنَّ تَقْدِيم الْمَنْصُوب هُوَ الْوَجْه
وَالثَّالِث أنَّ التَّقْدِيم وألتأخير تصرُّف وَلَا تصرُّف لهَذِهِ الْحُرُوف

(1/208)


فصل

وإنَّما جَازَ تَقْدِيم الظّرْف وحرف الجرّ إِذا كَانَ خَبرا لثَلَاثَة أوجه أحدُها أنّ (إنّ) غير عاملة فِيهِ إِذْ لَيْسَ هُوَ خَبرا لَهَا فى الْحَقِيقَة وإنَّما الْخَبَر مَا تعلّق بِهِ الظّرْف من معنى الِاسْتِقْرَار وإنَّما يمنتع تَقْدِيم خَبَرهَا الَّذِي يعْمل فِيهِ
وَالثَّانِي أنّ الظّرْف لَا يصحُّ إضماره وَهُوَ أحد مَا يمْنَع التَّقْدِيم وَقد أُمِن
وَالثَّالِث أنّ الظّرْف متعلّق بالْخبر لاشْتِمَاله عَلَيْهِ فَهُوَ كاللازم للجملة فساغ تَقْدِيمه لذَلِك وَلِهَذَا سَاغَ الْفَصْل بالظرف بَين (إنّ) وَاسْمهَا بِهِ أَيْضا فِي قَوْلك إنّ خَلفه زيدا قَائِم وَجَاز الْفَصْل بِهِ بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ فى الشّعْر
فصل

وَخبر (إنّ) وَأَخَوَاتهَا مَرْفُوع بهَا وَقَالَ الكوفّيون هُوَ مَرْفُوع بِمَا كَانَ يرْتَفع بِهِ قبل دُخُولهَا وَالدَّلِيل على أنَّه مَرْفُوع بهَا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنّ هَذِه الْحُرُوف تعْمل فِي الِاسْم الأوّل لاقتضائها إيّاه فتعمل فى الْخَبَر كَذَلِك أَيْضا أَلا ترى أنّ الْفِعْل يعْمل فى الْفَاعِل وَالْمَفْعُول لاقْتِضَائه إيّاهما و (ظَنَنْت) وَأَخَوَاتهَا تعْمل فِي المفعولين وَقد كَانَا قبل ذَلِك مرفوعين لاقْتِضَائه إيَّاهُمَا

(1/210)


وَالثَّانِي أنّ خبر (إنّ) مَرْفُوع وَلَا بّد لهُ من رَافع وَلَا يجوز أَن يرْتَفع بِغَيْر (إنّ) إِذْ لَا عَامل سواهَا وَالَّذِي كَانَ قبل دُخُول (إنّ) هُوَ الْمُبْتَدَأ وَقد بَطل ابتداؤه وَلِهَذَا لَا يعْمل الْخَبَر هُنَا فِي الِاسْم لعمل (إنّ) فِيهِ فَلذَلِك لَا يعْمل الْمُبْتَدَأ هُنَا فِي الْخَبَر
واحتجّ الْآخرُونَ بقول الشَّاعِر [الرجز] 30 -
(لَا تتركني فيهمُ شطيرا ... إنّي إِذن أهلك أَو أطيرا) // الرجز // فنصب (أهلكَ) ب (إِذن) وَلم يَجعله خَبَر (إنّ)
واحتجّوا أَيْضا بقول الْعَرَب إنّ بك تكفّل زيد فَجَعل الْفِعْل فِي أسمها وَلَو كَانَت هِيَ الفاعلة فِي الْخَبَر لم تكن كَذَلِك والعلّة فِيهِ أنّ هَذِه الْحُرُوف فروع فِي الْعَمَل فَلم تَقْوَ على الْعَمَل فِي الاسمين
وَالْجَوَاب أمَّا الْبَيْت فَمن الشذوذ وتأويلُه أنَّه حذف الْخَبَر لدلَالَة الْبَاقِي عَلَيْهِ تَقْدِيره إِنِّي أذلّ فأمَّا الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة فَلَا حجَّة فِيهَا لأنَّ اسْم (إنَّ) مَحْذُوف وَهُوَ ضمير الشَّأْن فتقديره إنَّه بك تكفلَّ زيد

(1/211)


وأمَّا ضعفُ هَذِه الْحُرُوف فقد ظهر فِي عدم تصرُّفها وَذَلِكَ كَاف
فصل

وإنَّما بَطل ذَلِك لأنَّها هيَّأتها لدخولها على الْأَفْعَال كَقَوْلِك إنَّما قَامَ زيد
فصل

وَإِذا عطفت على اسْم (إنَّ) قبل الْخَبَر لم يجز فِيهِ إلاَّ النصب وَبِه قَالَ الفرَّاء فِيمَا يظْهر فِيهِ الْإِعْرَاب وَأَجَازَ الرّفْع فِيمَا لم يظْهر فِيهِ الْإِعْرَاب وَيجوز إنَّ زيدا وَأَنت قائمان وَاخْتَارَ الكسائيّ الرّفْع فيهمَا وَالرَّفْع فَاسد لأنَّ الْخَبَر إِذا ثنِّي كَانَ خَبرا عَن الاسمين وَكَانَ الْعَمَل فِيهِ عملا وَاحِدًا وَقد وتقدَّم عاملان أحدُهما (إنَّ) وَالْآخر الْمُبْتَدَأ الْمَعْطُوف وَالْعَمَل الْوَاحِد لَا يُوجِبهُ عاملان
واحتجَّ الْآخرُونَ بقوله تَعَالَى {والصابئون وَالنَّصَارَى} فَرفع قبل الْخَبَر وَيَقُول الْعَرَب إنَّ زيدا وعمروٌ ذاهبان حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ وبأنَّ الْمَعْطُوف على اسْم (لَا) يجوز فِيهِ الرّفْع فَكَذَلِك اسْم (إنَّ)
وَالْجَوَاب عَن الْآيَة من وَجْهَيْن أَحدهمَا أنَّه مَعْطُوف على الضَّمِير فِي (آمنُوا) وَقَامَ الْفَصْل بَينهمَا مقَام التوكيد

(1/212)


وَالثَّانِي أنَّ خبر الصابئين مَحْذُوف والنيَّة بِهِ التَّأْخِير تَقْدِيره إِن الَّذين آمنُوا إِلَى قَوْله {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} والصابئون كَذَلِك لَا وَيجوز أَن يكون {فَلَا خوف عَلَيْهِم} خبر الصابئين وَخبر إنَّ مَحْذُوف لدلَالَة هَذَا الْخَبَر عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر [من المنسرح] 31 -
(نحنُ بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك راضٍ والرأيُ مُخْتلِفُ) // المنسرح // أَي نَحن بِمَا عندنَا راضون وَلذَلِك تُجيُز فِي الْكَلَام إنَّ زيداُ وعمروٌ قَائِم على الْوَجْهَيْنِ وأمَّا قَول البرجمي // الطَّوِيل // 32 -
(فَمن يَك أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رحْلُهُ ... فإنَّي وقيَّارٌ بهَا لغريبُ) ف (غَرِيب) خبر (إنَّ) لَا غير لأنَّ اللَّام تكون فِي خبر (إنَّ) لَا فِي خبر الْمُبْتَدَأ وأمَّا (قيَّار) فَيجوز أَن يكون مُبْتَدأ و (بهَا) خَبره وَالْجُمْلَة حَال وَيجوز أَن يكون خَبره محذوفاً دلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُور

(1/213)


وأمَّا الْحِكَايَة عَن الْعَرَب فقد قَالَ سبيويه ذَلِك من قَائِله على جِهَة الْغَلَط كَمَا فعلوا فِي خبر (لَيْسَ) فجّروا لأَنهم توهَّموا الْبَاء فِي قَول الشَّاعِر 33 -
(مشائيم لَيْسُوا مصلحينَ عشيرةً ... وَلَا ناعبٍ إلاَّ ببين غرابُها) وإنَّما غلطوا فِي ذَلِك لأنَّه مَوضِع تكْثر فِيهِ الْبَاء كَذَلِك فِي الْحِكَايَة
وأمَّا الْعَطف على اسْم (لَا) فالرفع لَا يجوز وَمن أجَازه قَالَ (لَا) وإسُمها ركِّبا وَجعلا كاسم وَاحِد موضعُه رفعٌ وَمِنْهُم من قَالَ (لَا) لَا تعْمل فِي الْخَبَر لأنَّها فرع فَلم يلْزم فِيهَا مَا لزم فِي (إنَّ)
فصل

واتَّفقوا على جَوَاز نصب الْمَعْطُوف على اسْم إنَّ بعد الْخَبَر على اللَّفْظ وَرَفعه من ثَلَاثَة أوجه

(1/214)


أحُدها أَن يكون على معنى الِابْتِدَاء وَمعنى ذَلِك أنَّك لَو لم تأت ب (إنَّ) لَكَانَ الِاسْم مَرْفُوعا بِالِابْتِدَاءِ فجَاء الْمَعْطُوف على ذَلِك التَّقْدِير وَلم ينقص رَفعه معنى وَمن قَالَ هُوَ مَعْطُوف على مَوضِع (إنَّ) أَو على مَوضِع اسْم (إنَّ) فَهَذَا الْمَعْنى يُرِيد لَا (إنَّ)
الثَّانِي أَن يكون مُبْتَدأ وَالْخَبَر على الْوَجْهَيْنِ مَحْذُوف دلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُور
وَالثَّالِث أنْ يكون مَعْطُوفًا على الضَّمِير فِي الْخَبَر فَيكون على هَذَا فَاعِلا والأجود على هَذَا توكيدُه هَذَا كلّه فِي (إنّ)
وأمَّا (لكنَّ) فَلَا يجوز الْعَطف فِيهَا على معنى الِابْتِدَاء عِنْد أَكثر المحقّقين وأمَّا (أنَّ) الْمَفْتُوحَة وَمَا عملت فِيهِ فَلَا تقع مُبْتَدأ بل معمولة لعامل لفظيّ قبلهَا وَيجوز الرّفْع على الْوَجْهَيْنِ الآخرين وَكَذَلِكَ (كأنَّ وليت ولعلَّ ولكنَّ) لأنَّ هَذِه الْحُرُوف غيَّرت معنى الِابْتِدَاء

(1/215)


فصل

وإنَّما أُكِّد خبرُ (إنَّ) بِاللَّامِ لأنَّها موضوعةٌ لتأكيد الْمُبْتَدَأ فلمَّا أُريد زيادةُ التوكيد جمع بَينهَا وَبَين (إنَّ)
فصل

وموضعها الأصليُّ قبل (إنَّ) لثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّه وَجب لَهَا الصَّدْر قبل (إنّ) فَكَذَلِك بعد دُخُول (إنَّ) وَلِهَذَا السَّبَب سمَّيت (لَام الِابْتِدَاء) وَالثَّانِي أَن اللَّام تعلّق (علمت) عَن الْعَمَل فَلَو كَانَت (إنّ) قبلهَا لمنعتها عَن الْعَمَل
وَالثَّالِث أنَّ (إنَ) عاملةٌ وَهِي عَامل ضَعِيف فَكَانَ وُقُوع معمولها يَليهَا أوْلى
فصل

وإنَّما أخَّرتْ (اللَّام) إِلَى الْخَبَر لئلاَّ يتوالى حرفا معنى كَمَا لَا يتوالى حرفا نفي أَو اسْتِفْهَام وَكَانَت (اللَّام) أولى بِالتَّأْخِيرِ من (إنَّ) لثَلَاثَة أوجه
أحدُها أنَّ (اللَّام) غير عاملة و (إنَّ) عاملة وَتَأْخِير غير الْعَامِل أوْلى
وَالثَّانِي أنَّ (اللَّام) تؤثِّر فِي الْمَعْنى فَقَط و (إنَّ) تؤثِّر فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى فَكَانَ إِقْرَارهَا ملاصقة اللَّفْظ ملاصقةً للفظ الَّذِي تعْمل فِيهِ أولى

(1/216)


وَالثَّالِث أنَّ (إنَّ) لَو أخَّرت إِلَى الْخَبَر فنصبته وارتفع مَا قبلهَا تغيَّر حكمهَا وَإِن بَقِي مَا قبلهَا مَنْصُوبًا وَمَا بعْدهَا مَرْفُوعا لزم مِنْهُ تَقْدِيم معمولها عَلَيْهَا
فصل

وإنَّما لم تدخل اللَّام فِي خبر (كأنَّ وليت ولعلَّ) لزوَال معنى الِابْتِدَاء وَالتَّحْقِيق والتوكيد إنَّما يُرَاد بِهِ تَحْقِيق المحقَّق الثَّابِت
فصل

وَأَجَازَ الكوفيَّون دُخُول (اللَّام) فِي خبر (لكنّ) لأنَّها مركَّبة من (لَا) و (إنَّ) زيدت عَلَيْهِمَا الْكَاف وَقد جَاءَ ذَلِك فِي الشّعْر 34 -
( ... ولكننَّي من حبَّها لعميدُ) // الطَّوِيل // ولأنَّ (لكنّ) لَا تغيَّر معنى الِابْتِدَاء وَهَذَا عندنَا لَا يجوز لوَجْهَيْنِ أَحدهَا أنَّه لم يَأْتِ مِنْهُ شَيْء فِي الْقُرْآن وَفِي أختيار كَلَامهم وَإِن جَاءَ فِي شعر فَهُوَ شاذّ سوَّغته الضَّرُورَة

(1/217)


وَالثَّانِي أنَّ (اللَّام) لَو جَازَت مَعَ (لكنَّ) لتقدَّمت عَلَيْهَا لأنّ موضعهَا صدر الْجُمْلَة وإنَّما أخَّرت فِي (إنَّ) لئلاَّ يتوالى حرفا تَأْكِيد و (لكنَّ) لَيست للتوكيد بل للاستدراك وَبِهَذَا تبيَّن أنَّ معنى الِابْتِدَاء لَا يبْقى مَعهَا بالكلِّيَّة لأنَّ الِابْتِدَاء لَا اسْتِدْرَاك فِيهِ
فصل

وَالْأَصْل فِي (إنِّي) (إنِّني) وَفِي (كأنِّي) (كأنَّني) فَيُؤتى بنُون الْوِقَايَة لئلاّ ينكسر آخر الْحَرْف وإنَّما جَازَ حذفهَا تَخْفِيفًا لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال وَكَثْرَة النونات والمحذوف النُّون الثَّانِيَة لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّها حذفت قبل دُخُولهَا على الضَّمِير فَقَالُوا (إنْ) وَهِي المخَّففة فَكَذَلِك بعد دُخُولهَا على الضَّمِير
وَالثَّانِي أنَّ النُّون الأولى لَا يجوز حذفهَا لأنَّك تحْتَاج إِلَى تسكين الثَّانِيَة ليصحَّ إدغامها فَيصير مَعَك حذفٌ وتسكيٌن وإدغام ولأنَّ الثّقل لَا يَقع إِلَّا بالمكرر لَا بِالْأولِ

(1/218)


وَحذف الثَّالِثَة ضَعِيف لأنَّها دخلت لِمَعْنى يختلُّ بالحذف وَقد ذهب قومٌ إِلَى أنَّ المحذوفة هِيَ الأُولى وَذهب آخَرُونَ إِلَى أنَّ المحذوفة فِي الثَّالِثَة وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا فأمَّا قَوْلك (إنَّا) فالمحذوفة هِيَ الثَّانِيَة عِنْد الْجَمِيع
فصل

وَأكْثر مَا جَاءَ (لعلّي) بِغَيْر لون لأنَّ اللَّام تشبه النُّون فلَمَّا ثقل اجْتِمَاع النونات ثقل دُخُول النُّون على اللَّام المشددَّة وَقد جَاءَ (لعلّني) فِي الشّعْر وأمَّا (ليتي) فضعيف فِي الْقيَاس قَلِيل فِي الِاسْتِعْمَال لأنَّ النُّون إِذا لم تثبت توالت أَشْيَاء مستثقلة وَهِي الْيَاء وكسرة التاءِ وَالْيَاء بعْدهَا
فصل

وَيكون ضمير الشَّأْن والقصّة اسْم (إنَّ) كَمَا كَانَ اسْم (كَانَ) إلاَّ أنَّ (كَانَ) يسْتَتر فِيهَا الضَّمِير إِذْ كَانَت فعلاًو (إنَّ) لَا يسْتَتر فِيهَا لأنَّها حرف وَإِن جَاءَت الْجُمْلَة بعْدهَا كَقَوْلِك إنَّ زيدٌ قَائِم كَانَ ضمير القصّة محذوفاً للْعلم بِهِ
وَقَالَ الكسائيّ تكون ملغاة عَن الْعَمَل وَهَذَا ضَعِيف لقوَّة شبه (إنَّ) بِالْفِعْلِ فإنَّ جعلت بِمَعْنى (نعم) جَازَ ذَلِك فأمَّا قَول الشَّاعِر 35 -
(فليت كفافاً كَانَ خيرُك كلّه ... وشرُّك عنَّي مَا ارتوى الماءَ مرتوي)

(1/219)


فَفِيهِ آوجه
أحدُها أنَّ ضمير الشَّأْن مَحْذُوف وَهُوَ اسْم (لَيْت) وخبرها الْجُمْلَة الَّتِى بعْدهَا و (كفافاً) خبر (كَانَ) (خيرك) اسْمهَا وَلم يثن الْخَبَر لأنَّه كالمصدر / وَالثَّانِي أنَّ (كفافاً) اسْم (لَيْت) وَكَانَ وَمَا عملت فِيهِ خَبَرهَا وَخبر (كَانَ) مَحْذُوف
وَالثَّالِث أنَّ (كَانَ) زَائِدَة ويروى (شرَّك) بِالنّصب على أنَّه مَعْطُوف على اسْم (لَيْت) وأمَّا قَوْله (ماارتوى المَاء) فَالصَّحِيح فِي المَاء النصب و (مرتوي) فَاعل وتروى بِالرَّفْع على معنى مَا أروى المَاء مرتوياً وَسكن الْيَاء فِي مَوضِع النصب ثمّ حذف التَّنْوِين وَقيل جعل المَاء مرتوياً على الْمُبَالغَة وكلُّ ذَلِك ضَعِيف وَقيل (مرتوي) رفع خبر (شرّك)
فصل

وَيجوز أَن تعْمل (أنْ) المخففة من الثَّقِيلَة عَملهَا قبل التَّخْفِيف وَقد جَاءَ ذَلِك فِي الشّعْر كَمَا قَالَ الشَّاعِر [// الطَّوِيل //] 36 -
(فَلَو أنْكِ فِي يومِ الرخاءِ سألتنِي ... فراقَكِ لم أبخلْ وأنتِ صديق)

(1/220)


وَقَرَأَ بعض القرَّاء {وإنْ كلا لما ليوفيّنهم ربُّك أَعْمَالهم} بتَخْفِيف النُّون وَنصب (كلّ) وَلَا يجوز أَن يكون بِمَعْنى (مَا) وَأَن ينصب (كلا) بِفعل مقدَّر لأنَّك إنْ قدَّرته من جنس الْمَذْكُور بعْدهَا فسد الْمَعْنى لأنَّه يصير (مَا يوفيَّ كلاًّ أَعْمَالهم) وإنْ قدرته من غير جنسه لم يكن لتقدير الْقسم هُنَا مَوضِع لأنَّ أحسن مَا يقدَّر بِهِ (مَا نُهمل كلاًّ) على أنَّ (لَمّا) لَا تكون بِمَعْنى (إلاَّ) فِي غير الْقسم
وَإِن كَانَت المخفَّفة من الثَّقِيلَة وأضمرت عَاملا غير (مَا) لم يصحّ لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ (أنَّ) قد توهنت بالحذف فَلَا توهّن بِحَذْف الْفِعْل أَيْضا
وَالثَّانِي أنَّ المخففَّة إِذا وَليهَا الْفِعْل وَحذف اسْمهَا لَا يَخْلُو من عوض والعوض هُوَ (قد وَالسِّين وسوف وَلم وَلَا وَلَيْسَ)

(1/221)


ويدلُّ على جَوَازه ايضاً أنَّ المثقّلة مشتبهّه بِالْفِعْلِ وَقد عمل الْفِعْل بعد تخفيفه بالحذف كَقَوْلِك لم يَك وَلَا أدر وَلم أبَلْ وَقَالَ الكوفيَّون لَا يجوز أَن تعْمل بعد التَّخْفِيف لِضعْفِهَا وَقد دللنا على الْجَوَاز وَيَكْفِي فِي ضعفها جَوَاز إبطالِ عَملهَا لَا وُجُوبه فأمّا قَول الشَّاعِر [// الطَّوِيل //] 37 -
(فيوماً توافينا بوجهٍ مقسَّمٍ ... كأنْ ظَبْيَة تعطوا إِلَى وارفِ السَّلَمْ فيروى بِالرَّفْع مَعَ الإلغاء وَالتَّقْدِير كأنهَّا ظَبْيَة وَبِالنَّصبِ على الإعمال وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي كَأَن ظَبْيَة هَذِه الْمَرْأَة وبالجِّر على زِيَادَة (أنْ) والجرّ بكاف التَّشْبِيه

(1/222)


بَاب
الْفرق بَين إِن الْمَفْتُوحَة والمكسورة

وإنَّما فرَّقوا بَينهمَا لافتراقهما فِي الْمَعْنى وَالْتِبَاس الْمَعْنى فِي بعض الْمَوَاضِع ففرَّقوا بالحركات ليزول اللّبْس أَلا ترى أنَّك إِذا أنَّك إِذا قلت أوَّل مَا أَقُول إنَّي أَحْمد الله يحْتَمل مَعْنيين أَحدهمَا أَن تجْعَل الْحَمد هُوَ أول كلامك
والثانى أَن تجْعَل الْحَمد هُوَ الَّذِي تحكيه بِقَوْلِك (أَقُول) وَلَيْسَ هُوَ نفس الأوَّل فَعِنْدَ ذَلِك يحْتَاج إِلَى الْفرق بَينهمَا ليتَّضح الْمَعْنى
وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي التلبيه ((لبيْك إنَّ الْحَمد لَك)) إِذا فتحت كَانَ الْمَعْنى لبّيك لأنَّ الْحَمد لَك وَإِذا كسرت كَانَ مستأنفاً وَهُوَ أَجود فِي التَّلْبِيَة

(1/223)


فصل

والمكسور هِيَ الأَصْل لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّها تفِيد فِي الْجُمْلَة معنى وَاحِدًا هُوَ التوكيد فَهِيَ ك (لَام الِابْتِدَاء) و (الْبَاء) الدَّاخِلَة فِي خبر (لَيْسَ) و (نون تَأْكِيد الْفِعْل) والمفتوحة تفِيد التوكيد وتعلّق مَا بعْدهَا بِمَا قبلهَا
وَالثَّانِي أنَّ (إنَّ) الْمَكْسُورَة أشبه بِالْفِعْلِ لذا كَانَت عاملة غير مَعْمُول فِيهَا كَمَا هُوَ أصل الْفِعْل والمفتوحة عاملة ومعمول فِيهَا فَهِيَ كالمركَّب والمكسورةُ كالمفرد والمفرد أصل للمركَّب
وَالثَّالِث أنَّ الْمَكْسُورَة لَيست كبعض الِاسْم هِيَ مستقلَّة بِنَفسِهَا والمفتوحة كبعض الِاسْم إِذْ كَانَت هِيَ وَمَا عملت فِيهِ تَقْدِير اسْم وَاحِد
وَقد قَالَ قوم الْمَفْتُوحَة أصلٌ للمكسورة وَقَالَ آخَرُونَ كلّ وَاحِدَة مِنْهُمَا أصلٌ بِنَفسِهَا وَالصَّحِيح مَا بدأنا بِهِ
فصل

وإنَّما خصَّت المصدريَّة بِالْفَتْح لأنَّهم لَمَّا آثروا الْفرق عدلوا إِلَى أخفَّ الحركات وَهِي الفتحة إنْ شِئْت قلت لَمَّا كَانَت المصدريَّة كبعض الِاسْم طَال

(1/224)


الْكَلَام بهَا فخصَّت بأخف الحركات وأنْ شِئْت قلت لَمَّا كَانَت مصدرّية حملوها على (أَن) الناصبة للْفِعْل فِي الْفَتْح كَمَا حملُوا الناصبة للْفِعْل فِي الْعَمَل على الناصبة للاسم
فصل

وكلّ مَوضِع وَقعت فِيهِ (إنَّ) وَحسن أَن يَقع فِي موقعها فعل وفاعل أَو مُبْتَدأ وَخبر كَانَت مَكْسُورَة وكلُّ مَوضِع لم يحسن فِي موضعهَا إلاَّ الْفِعْل وَحده أَو الِاسْم وَحده فَهِيَ مَفْتُوحَة وعَلى هَذَا تبنى مسَائِل الْفرق بَين (إنَّ) و (أنَّ) فَمن ذَلِك كسرهَا بعد القَوْل لأنَّ القَوْل تحكى بعده الْجُمْلَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل والمبتدأ وَالْخَبَر وَمن ذَلِك كسرهَا إِذا وَقعت صلَة (للَّذي) وَإِذا وَقعت فِي جَوَاب الْقسم وَإِذا وَقعت اللَّام فِي خَبَرهَا
وَقد تقع فِي مَوضِع يحْتَمل الأمَريْن كَقَوْلِك لقِيت زيدا فَإِذا إنَّه عبد بِالْكَسْرِ على معنى فَإِذا هُوَ عبد وبالفتح على معنى فَإِذا العبوديَّةُ أيْ فاجأتني ذلتَّه وَنَحْو ذَلِك

(1/225)


بَاب (لَا)

وَلها اقسام ستّة أَحدهَا أَن تدخل على الِاسْتِفْهَام لتنفي عَنهُ الْخَبَر وَهَذَا البابُ مختصٌّ بهَا وبقيَّة أقسامها تُذْكَرُ فِي مواضهعا وَاعْلَم أنَّ (لَا) هَذِه عاملة فِي الِاسْم على الْجُمْلَة لأنَّها أشبهت (أنَّ) الثَّقِيلَة من أوجه
أَحدهَا أنَّها تدخل على مُبْتَدأ وَخبر كَمَا أنَّ (إنَّ) كَذَلِك وَالثَّانِي أنَّ لَهَا صدر الْجُمْلَة كَمَا أَن (إنَّ) كَذَلِك
وَالثَّالِث أنَّها لتوكيد النَّفْي كَمَا أنَّ (إنَّ) لتوكيد الْإِثْبَات وَالرَّابِع أنَّها نقيضة (أنَّ) وهم يحملون الشَّيْء على نقيضه كَمَا يحملونه على نَظِيره وسنرى ذَلِك مستقصى فِي مَوْضِعه
وَقَالَ بَعضهم هِيَ مَحْمُولَة على (أنْ) الْخَفِيفَة لوَجْهَيْنِ

(1/226)


أَحدهمَا أنَّها على حرفين مثلهَا وَالثَّانِي أنّ الْخَفِيفَة وتلغي كَمَا أَن (لَا) كَذَلِك
فصل

وتعمل النصب فِي الِاسْم عِنْد الْجَمِيع كَمَا عملت (إنَّ) وإنَّما تعمله بِثَلَاث شَرَائِط إِحْدَاهَا أَن تلِي الِاسْم من غير فصل
وَالثَّانيَِة أَن تكون دَاخِلَة على نكرَة وَالثَّالِثَة أَن تكون تِلْكَ النكرَة جنساُ وإنَّما عملت بِهَذِهِ الشَّرَائِط لأنَّها اخْتصّت بِهَذِهِ الْأَشْيَاء وكلّ مختصّ يجب أَن يعْمل وعملت النصب لما ذكرنَا من مشابهتها (إنَّ)
فصل

وَاخْتلفُوا فِي الِاسْم النكرَة المتفيّة ب (لَا) نفيا عامّاً إِذا لم تكن مُضَافَة وَلَا مشابهة للمضاف هَل هِيَ مبنيّة أَو معربة فمذهب أَكثر البصريَّين أنَّها مبينَّة وَقَالَ الزّجاج والسيرافيّ وَأهل الْكُوفَة هِيَ معربة
واحتجّ الأوَّلون على بنائها من أوجه

(1/227)


أَحدهَا أنَّ بَين (لَا) وَبَين النكرَة حرفا مقدَّرا وَهُوَ (مِنْ) وَالِاسْم إِذا تضمَّن معنى الْحَرْف بُني وَإِنَّمَا وَجب تقديرُ (مِنْ) هَهُنَا لِأَنَّهَا جوابُ مَنْ قالَ هَل من رجلٍ فِي الدَّار وإنَّما دخلت هَهُنَا لتدلّ على الْجِنْس وَذَلِكَ أنَّك إِذا قلت هَل رجلٌ فِي الدَّار أَو لَا رجلٌ فِي الدَّار بِالرَّفْع والتنوين تنَاول رجلا وَاحِدًا حتّى لوكان هُنَاكَ رجلَانِ أَو أَكثر لم يكن الِاسْتِفْهَام متناولاً لَهما فَإِذا أدخلت (مِنْ) تنَاول الْجِنْس كلّه وَكَذَلِكَ إِذا قلت مَا جَاءَنِي من رجل لم يجز أَن يكون جَاءَك وَاحِد أَو أَكثر وَإِن حذفت (من) جَازَ أَن يكن جَاءَك رجلَانِ أَو أَكثر وَإِذا أثبت ذَلِك صَار الِاسْم متضّمناً معنى (من) المفيدة معنى الْجِنْس
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن لَا لما لم تعْمل إِلَّا إِذا لاصقت الِاسْم وَكَانَت (من) بَينهمَا مُرَادة صارتا كالاسم الْمركب فِي بَاب الْعدَد كخمسة عشر والمركب يبْنى لتَضَمّنه معنى الْحَرْف
وَالثَّالِث أنَّ (لَا) فِي هَذَا الْبَاب خَالَفت بقيَّة حُرُوف النَّفْي من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّها جوابٌ لما لَيْسَ بِإِيجَاب بل لما هُوَ اسْتِفْهَام وَبَقِيَّة حُرُوف النَّفْي يُجَاب بهَا عَن الْوَاجِب
وَالثَّانِي أنَّها مختصَّة بالنكرة العامَّة الَّتِي هِيَ جنس وَلَيْسَ شيءٌ من حُرُوف النَّفْي مختصّاً بِضَرْب من الْأَسْمَاء

(1/228)


واحتجَّ من قَالَ الِاسْم هُنَا مُعرب بأَرْبعَة أوجه
أحدُها أنَّ الِاسْم الْمَعْطُوف عَلَيْهِ مُعرب كَقَوْلِك لَا رجل وغلاماَ عنْدك وَالْوَاو نَائِبه عَن (لَا)
وَالثَّانِي أنَّ خَبَرهَا معربّ وعملها فِي الاسمين وَاحِد 0 وَالثَّالِث أنَّ (لَا) عَامله فَلَو حصل الْبناء هُنَا لحصل بعامل وَالْبناء لَا يحصل بعامل لانَّ الْعَامِل غير الْمَعْمُول وَالْبناء شبه التَّرْكِيب وجزءا المركَّب شَيْء وَاحِد
وَالرَّابِع أنَّ الِاسْم لَو كَانَ مبنيّاً لبني على حركه غير الْفَتْح لأنَّ (لَا) تعْمل النصب فَإِذا عرض الْبناء وَجب أَن تكون حركته غير حَرَكَة الْإِعْرَاب كَمَا فِي (قبلُ وبعدُ)
وَالْجَوَاب أنَّ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بني لتضمُّنه معنى الْحَرْف وإنَّما يكون ذَلِك مَعَ (لَا) نَفسهَا وَالْوَاو لَا تنوب عَن (لَا) فِي هَذَا الْمَعْنى بل تنوب عَنْهَا فِي الْعَطف فَقَط وَلِهَذَا يسوغ إِظْهَار (لَا) مَعَ (الْوَاو)

(1/229)


وأمَّا عَملهَا فِي الْخَبَر فَفِيهِ اخْتِلَاف سَنذكرُهُ على أنَّ عَملهَا فِيهِ لَا يُوجب بناءه لأنَّ علَّة الْبناء وجدت فِي الِاسْم دون الْخَبَر ويدلُّ عَلَيْهِ أنَّ الْبناء لأجل التَّرْكِيب وَنحن نجْعَل الاسمين المركَّبين بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد وَهُوَ مَعَ هَذَا مُخَالف للْقِيَاس فَكيف نجْعَل ثَلَاثَة أَشْيَاء بِمَنْزِلَة شَيْء وَاحِد
وأمَّا الْبناء ففير حَادث ب (لَا) من حَيْثُ هِيَ عاملة بل حَادث بالتركيب وتضُّمنه معنى الْحَرْف كَمَا أنَّ (يَا) فِي النداء تعْمل النصب فِي المعرب فَإِذا دخلت على الْمُفْرد بُني لابهابل بِشَيْء آخر وأمَّا جعل حَرَكَة المبنيّ هُنَا الْفَتْح فَفِيهِ أوجه
أحدُها أنَّ الْفَتْح اختير لطول الِاسْم بالتركيب كَمَا اختير فِي خمسةَ عشَر
وَالثَّانِي أنَّ النَّفْي هُنَا لَمّا خرج عَن نَظَائِره خرج الْبناء عَن نَظَائِره وَالثَّالِث أنَّهم لَو بنوه على الْكسر لكَانَتْ مثل الْحَرَكَة الَّتِي يستحقُّها هَذَا الِاسْم فِي الأَصْل إِذْ اصلُه لَا من رجل وَلَو بني على الضمِّ لكَانَتْ حركته فِي حَال عُمُومه كالحركة فِي حَال خصوصه ففرَّقوا بَينهمَا وَعدلُوا إِلَى الْفَتْح
ويدلَّ على فَسَاد مَذْهَب من قَالَ هُوَ مُعرب أنَّه لَو كَانَ كَذَلِك لنوَن كَمَا يُنَّون اسْم إنَّ فإنْ قيل إنَّما لم ينَّون لأنَّ (لَا) ضعفت إِذْ كَانَت فرعَ فرعِ فرعٍ وَذَلِكَ أنَّ (كَانَ) فرعٌ فِي الْعَمَل على الْأَفْعَال الحقيقّة و (إنَّ) فرع على (كَانَ) و (لَا) فرع على (إنَّ) فلمَّا ضعف خُولِفَ باسمها بَقِيَّة المعربات

(1/230)


قيل أثر ضعفها قد ظهر فِي شَيْء غير التَّنْوِين فَمن ذَلِك أنَّه لَا يفصل بَينهَا وَبَين اسْمهَا بالْخبر وَلَا بِغَيْرِهِ ولأنَّ التَّنْوِين لَا يحدث بالعامل حَتَّى يحذف إِذا ضعف الْعَامِل وإنَّما هُوَ تابعٌ لحركة الْإِعْرَاب
فَإِن قيل إِنَّمَا حذف التَّنْوِين لِأَن هَذَا الْبَاب خَالف بَقِيَّة العوامل فِي اخْتِصَاصه بِبَعْض الْأَسْمَاء وعَلى وَجه مَخْصُوص فخولف بِهِ أَيْضا فِي التَّنْوِين قيل قد أجبنا عَن هَذَا
فصل

واتَّفقوا على أنَّ النكرَة المضافة كَقَوْلِك لَا غُلَام رجلٍ عندنَا وَفِي المشابه للمضاف كَقَوْلِك لَا خيرا من زيد عندنَا مُعرب وإنَّما خَالف هَذَا الِاسْم النكرَة المفردة لثَلَاثَة أوجه
أحدُها أنَّ الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ كاشيء الْوَاحِد وهما فِي اللَّفْظ اسمان فَلَو بنيت الِاسْم الأوَّل مَعَ (لَا) لَكَانَ لعلّة التَّرْكِيب فَتَصِير ثَلَاثَة أَشْيَاء كالشيء وَاحِد
وَالثَّانِي أنَّ الْمُضَاف إِلَيْهِ واقعٌ موقع التَّنْوِين وكما أنَّ التَّنْوِين لَا يكون بعد حَرَكَة الْبناء كَذَلِك الْمُضَاف إِلَيْهِ

(1/231)


وَالثَّالِث أنَّ الْمُضَاف عاملٌ فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ وَقد أُلفَ من كلّ مبنيّ إِذا أضيف إِلَى مُفْرد أعرب فأمَّأ (لدنْ) فبنيت مَعَ الْإِضَافَة لإيغاها فِي شبه الْحَرْف بِخِلَاف بَاب (لَا)
فصل

والمشابه للمضاف من أجل طوله مَا كَانَ عَاملا فِيمَا بعده وَكَانَ مَا بعده من تَمام مَعْنَاهُ كَقَوْلِك لَا ضَارِبًا زيدا وَلَا حَسَناً وَجهه قَائِم وَلَا خيرا من زيد لنا وَوجه مشابهته للمضاف من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَّه عَامل فِيمَا بعده كَمَا يعْمل الْمُضَاف فِيهِ الْمُضَاف إِلَيْهِ وَالثَّانِي أنَّ مَا بعده مفتقر إِلَيْهِ كافتقار الْمُضَاف إِلَيْهِ إِلَى الْمُضَاف وعَلى هَذَا إِذا قلت لَا مروراً بزيدٍ وعلقَّت الْبَاء بِالْمَصْدَرِ نصبت ونوَّنت لأنَّه عاملٌ فِيمَا بعده وَالْخَبَر مَحْذُوف وإنْ جعلت (بزيد) الْخَبَر لم تْنوِّن الْمصدر لأنَّه غير عَامل هَهُنَا وَكَذَلِكَ لَا آمُر بِالْمَعْرُوفِ يَوْم الْجُمُعَة إِن أعملت آمراً نوَّنته وَإِن لم تعمله لم تنوِّنه وَلَا يكون (يَوْم الْجُمُعَة) خَبرا لأنَّ ظرف الزَّمَان لَا يُخبَر بِهِ عَن الجثث وَالنَّفْي على هَذَا التَّقْدِير خاصٌّ بِبَعْض الآمرين وَإِن جعلت الْبَاء الْخَبَر كَانَ النَّفْي عامّاً

(1/232)


فصل

وَمَوْضِع (لَا) وَاسْمهَا رفع بِالِابْتِدَاءِ لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّهما فِي حكم المركَّب على مَا تقدم والمركَّب يجْرِي مجْرى الْمُفْرد فِي مَوضِع الْإِعْرَاب
وَالثَّانِي أنَّ الْكَلَام قبل دُخُول (لَا) جملَة خبريَّة كَقَوْلِك عندنَا رجل فَإِذا أدخلت (لَا) بقيتْ الخبريه على مَا كَانَت إلاَّ أنَّ الْخَبَر منفيّ وَكَانَ مثبتاً وَهَذَا مثل (مَا) فِي قَوْلك مَا عندنَا رجلٌ إلاَّ أنَّك لَمَّا أدخلت (لَا) أوْلَيْتَها الِاسْم وَلِهَذَا إِذا قدَّمت الْخَبَر أَو فصلت بَينهمَا رَجَعَ إِلَى الِابْتِدَاء وَالْخَبَر لفظا مثل قَوْله تَعَالَى {لَا فِيهَا غول} وَلَيْسَ ك (أنَّ وليت ولعلّ) لأنَّها تغير معنى الِابْتِدَاء
فصل

وَاخْتلفُوا فِي خبر (لَا) فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ هُوَ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ كَمَا يرْتَفع قبل دُخُول (لَا) وحجَّتهُ شَيْئَانِ
أحدُهما أنَّه لَمَّا كَانَ مَوضِع (لَا) وَاسْمهَا رفعا كَانَ الْخَبَر مَرْفُوعا على ذَلِك التَّقْدِير

(1/233)


وَالثَّانِي أنَّ (لَا) ضَعِيفَة جدا فَلم تعْمل فِي الاسمين بِخِلَاف (كَانَ) و (إنَّ)
وَقَالَ الْأَخْفَش هُوَ مَرْفُوع ب (لَا) لأنَّها أقتضت اسْمَيْنِ وعملت فِي أَحدهمَا فتعمل فِي الآخر ك (إنَّ) وعَلى هَذَا تترتَّب مَسْأَلَة هِيَ قَول الشَّاعِر 38 -
(فَلَا لغوٌ وَلَا تأثيم فِيهَا ... )
على قَول سِيبَوَيْهٍ (فِيهَا) خبرٌ عَن الاسمين وعَلى قَول أبي الْحسن هُوَ خبر عَن أَحدهمَا وَخبر الآخر مَحْذُوف
فصل

إِذا وصفت اسْم (لَا) قبل الْخَبَر فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أحدُها النصب بِالتَّنْوِينِ حملا على مَوضِع اسْم (لَا) كَمَا حملت صفة المنادى المبنيّ على مَوْضِعه فَنصبت وَلم تبن الصّفة كَمَا لم تبن صفة المنادى

(1/234)


وَالثَّانِي الرّفْع والتنوين حملا على مَوضِع (لَا) وَاسْمهَا إِذْ موضعهَا رفع على مَا تقدَّم وَالثَّالِث الْفَتْح بِغَيْر تَنْوِين وَفِي ذَلِك وَجْهَان أحدُهما أنَّها فَتْحة بِنَاء وأنَّما فعلوا ذَلِك لأنَّ الصّفة والموصوف كالشيء الْوَاحِد وَلِهَذَا قد لزمتْ فِي بعض الْمَوَاضِع كَمَا تلْزم الصِّلَة نَحْو قَوْلهم يَا أيُّها الرجل وكقولهم مَرَرْت بخلف الْأَحْمَر وَلَوْلَا ذكر (الْأَحْمَر) لم تعلم أنَّ المُرَاد (خلفٌ) المعروفُ بِالْعلمِ أَو غَيره ولَمَّا جَرَتا مجْرى الشَّيْء الْوَاحِد بَنْوهما قبل دُخُول (لَا) كَمَا بني (خَمْسَة عشر) وكما بنوا (ابْن أمّ) و (زيدَ بن عَمْرو) فِيمَن فتح الدَّال ثَّم أدخلُوا عَلَيْهِ حرف النداء دخلت (لَا) على اسْم مركَّب مبنيّ وَلَا يجوز أَن

(1/235)


تكون (لَا) دخلت عَلَيْهِمَا وهما معربان فُبنيتا مَعهَا لأنَّ ذَلِك يُوجب جعل ثَلَاثَة اشياء كشيء وَاحِد وَلَا نَظِير لَهُ
وَالْوَجْه الثَّانِي أَن تجْعَل فَتْحة الصّفة فَتْحة إِعْرَاب وحذفت التَّنْوِين ليشاكل لفظ الصّفة لفظ الْمَوْصُوف كَمَا أنَّهم جعلُوا (كلا) و (كلتا) بِلَفْظ التَّثْنِيَة إِذا أضيفت إِلَى الممضمرلأنَّها فِي ذَلِك الْموضع تتبع مَا قبلهَا من المثنَّى وَهَذَا على مَذْهَب من جعل اسْم (لَا) مُعْرباً أظهر
فصل

فإنْ جَاءَت الصّفة بعد الْخَبَر جَازَ فِيهَا الرّفْع وَالنّصب بِالتَّنْوِينِ على مَا تقدَّم وَلم يجز الْبناء للفصل بَينهمَا بالْخبر
فصل

إِذا عطفت على اسْم (لَا) وَلم تكرِّر كَانَ لَك فِي الْمَعْطُوف الرّفْع على مَوضِع (لَا) وَاسْمهَا كَمَا ذكرنَا فِي الصّفة وَالنّصب بِالتَّنْوِينِ قِيَاسا على الصّفة أَيْضا

(1/236)


وَلَا يجوز بِنَاؤُه لِأَن لفظ (لَا) غير مَوْجُود مَعَه وَلَا يجوز بِنَاؤُه بِسَبَب (لَا) المتقدِّمة لأنَّ ذَلِك يُفْضِي إِلَى جعل أَرْبَعَة أَشْيَاء كشيءٍ وَاحِد
فصل

فإنْ عطفت عَلَيْهِ معرفَة لم يحز فِيهَا النصب لأنَّ (لَا) لَا تعْمل فِي المعارف بل ترفعه على الْموضع كَقَوْلِك لاغلام لَك والعبَّاسُ وَكَذَلِكَ إِن ذكرت (لَا) فَقلت (وَلَا العَّباسُ) وَرَفعه على الْموضع
فصل

فَإِذا كرَّرت (لَا) مَعَ الْمَعْطُوف جَازَ فِيهَا عدَّة أوجه
أحدُها أَن تبني الاسمين على أَن تجْعَل (لَا) الثَّانِيَة غير مزيدة كالأولى وَالْوَاو عاطفة جملَة على جملَة 2 -
وَالثَّانِي أَن تبني الأوَّل على أصل الْبَاب تنصب الثَّانِي وتنِّونه وَتجْعَل (لَا) زايدة كَمَا زيدت فِي قَوْلك مَالِي دِينَار وَلَا دِرْهَم فإنَّها مزيدة لتوكيد النَّفْي 3 - وَالثَّالِث أنْ تبنى الأوّل على الأَصْل وترفع الثَّانِي على ثَلَاثَة أوجه

(1/237)


أ -
أَحدهَا أَن تجْعَل (لَا) زَائِدَة وَتحمل الْمَعْطُوف على الْموضع ب - وَالثَّانِي أَن تجْعَل (لَا) عاملة عمل (لَيْسَ) فَيكون أسمها مَرْفُوعا وخبرها مَنْصُوبًا وَقد أَجَازُوا ذَلِك إِذا كَانَ الِاسْم نكرَة كَمَا قَالَ [الْكَامِل] 39 -
(من صدّ عَن نيرانها ... فَأَنا ابنُ قيسٍ لابراحُ) // الْكَامِل // أَي لَيْسَ لنا براح وَقَالَ العجَّاح 40 -
(تالله لَوْلَا أَن تحش الطَّبْخ ... بِي الْجَحِيم حِين لَا مُسْتَصْرحُ) // الرجز // وحملْ (لَا) على (لَيْسَ) قويٌّ فِي الْقيَاس لأنَّها نَافِيَة مثلهَا وَإِذا جَازَ قياسها على (إنَّ) فِي الْعَمَل - مَعَ أنَّها نقيضتها - فحْملُها على نظيرتها أوْلى ج -
وَالثَّالِث أَن تلْغي (لَا) وَيكون مَا بعْدهَا مُبْتَدأ وخبراً على مَا يُوجِبهُ الْقيَاس فِيهَا 4 -
وَالْوَجْه الرَّابِع أَن ترفع الاسمين وَتجْعَل (لَا) الأولى على مَا ذَكرْنَاهُ فِي رفع الثَّانِيَة من حملهَا على (لَيْسَ) وإلغائها

(1/238)


5 -
وَالْخَامِس أَن تَرْفَعَ الأولى على مَا ذكرنَا وتبني على أصل الْبَاب
فصل

فإنْ كَانَ اسْم (لَا) مثنَّى أَو مجموعاً كَانَ بِالْيَاءِ وَالنُّون أمَّا (الْيَاء) فإنَّها تدلُّ على النصب فِي المعرب فَجعلت هَهُنَا دلَالَة على مَوضِع الْمَنْصُوب وعَلى لفظ الْفَتْح الَّذِي فِي اسْم (لَا) كَمَا قَالُوا فِي المنادى يَا زَيْدَانَ أَقبلَا وَاخْتلفُوا هَل هَذَا اسْم مُعرب أَو مبنٌّي على مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْإِفْرَاد
فَقَالَ الْخَلِيل وسيبويه هُوَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ لأنَّ العلَّة الْمُوجبَة للْبِنَاء قَائِمَة وَلَا مَانع مِنْهُ والمثَّنى يكون مَبْنِيا كَمَا فِي بَاب النداء و (النُّون) لَيست بَدَلا من الْحَرَكَة والتنوين فِي كلِّ مَوضِع على مَا يبيّن فِي بَاب التَّثْنِيَة
وَقَالَ أَبُو العبَّاس هما معربان لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّه لَيْسَ شَيْء من المركَّبات ثنَّيَّ فِيهِ الِاسْم الثَّانِي وَجمع

(1/239)


وَالثَّانِي أنَّ المثنّى فِي حكم الْمَعْطُوف والعطف يمْنَع من الْبناء وَالَّذِي ذكره غير لَازم فإنَّ المركَّب إِذا سُمِّي بِهِ صحَّت تَثْنِيَة الِاسْم الثَّانِي وَجمعه كَمَا لَو سمَّيت رجلا ب (حَضرمَوْت) فإنَّك تَقول فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع جَاءَنِي حضرموتان وحضرموتون وأمَّا جعل التَّثْنِيَة كالمعطوف فَذَاك فِي الْمَعْنى لَا فِي اللَّفْظ
فصل

وَإِذا دخلت (لَا) على الْمعرفَة لم تعْمل فِيهَا وَلزِمَ تكريرها كَقَوْلِك لَا زيدٌ فِي الدَّار وَلَا عمروٌ وإنَّما لم تعْمل هُنَا لبُطْلَان شبهها ب (إنّ) وإنَّما لزم التكرير لأنّه جَوَاب من قَالَ أَزِيد فِي الدَّار أم عَمْرو فَلَو قلت لَا مُقْتَصرا عَلَيْهَا لم يُطَابق الْجَواب السُّؤَال وَكَذَا لَو قلت لَا زيدٌ لم يُسْتوف جَوَاب السُّؤَال
فأمَّا قَوْلهم لَا نَوْلُك أَن تفعل فَجَاز من غير تَكْرِير حملا على الْمَعْنى
وَالْمعْنَى لَا يَنْبَغِي لَك
فصل

فأمَّا قَوْلهم لَا أبالك فالعرب يستعملونها على ثَلَاثَة أوجه

(1/240)


1 -
(لَا أَب لَك) بِحَذْف الْألف وَهُوَ الأصلُ لأنَّ (لَا) لَا تعْمل فِي الْمعرفَة و (اللَّام) تقطع الِاسْم عَن الْإِضَافَة فَيبقى نكرَة و (أَب) و (أَخ) وبابهما تحذف لاماتها فِي الْإِفْرَاد 2 -
وَالْوَجْه الثَّانِي (لَا أَبَا لَك) بِإِثْبَات الْألف وَفِي ذَلِك ثَلَاثَة أوجه أ - أَحدهَا أنَّه جَاءَ على لُغَة من قَالَ (لَا أَبَا) فِي كلّ حَال كالمقصور ب - وَالثَّانِي أنَّ الْألف نشأت عَن إشباع فَتْحة الْبَاء ج - وَالثَّالِث أنَّ (اللَّام) فِي حكم الزَّائِدَة من وَجه فكأنَّ (الْأَب) مُضَاف إِلَى الْكَاف وَلَام هَذَا الِاسْم ترجع فِي الْإِضَافَة وَهِي أصلٌ من وَجه وَذَلِكَ أنَّ (لَا) لَا تعْمل فِي المعارف وَقد عملت هَهُنَا فَوَجَبَ أَن تكون اللَّام مبطلة للإضافة وَهَذَا كَمَا قَالُوا 41 -
( ... يَا بؤس للْجَهْل) // الْبَسِيط //

(1/241)


(يابؤس للحرب ... ) // مجزوء الْكَامِل // ولايجوز ذَلِك فِي غير اللَّام لأنَّها القاطعة للإضافة فِي هَذَا الْمَعْنى 3 -
واللغة الثَّالِثَة (لَا ابالك) بِحَذْف اللَّام وَهِي اشدُّها وأبعدُها عَن الْقيَاس وَالْوَجْه فِيهَا أنَّه حذف (اللَّام) وَهُوَ يريدها فَهِيَ فِي حكم الملفوظ بِهِ كَمَا فِي قَوْلهم 43 -
( ... وَلَا ناعبٍ إلاَّ ببينٍ غرائبها) // الطَّوِيل // وكما قيل لرؤبة كَيفَ أَصبَحت فَقَالَ خيرٍ إِن شَاءَ الله أَرَادَ بِخَير وَمثل ذَلِك قَوْلهم (لَا يَدي لَك بفلان) و (هَذَا قميصٌ لَا كُمَّيْ لَهُ) فَحذف النُّون هَهُنَا وَإِثْبَات الْيَاء على الْوَجْه الْمُقدم

(1/242)


فَإِن فصلت بَين اللَّام وَبَين الِاسْم الأوَّل ثَبَتَتْ النُّون لأنَّ ذَلِك يمْنَع من الْإِضَافَة وأمَّا (لَك) فِي قَوْلك (لَا أبالك) فَفِيهَا ثَلَاثَة
أوجه أَحدهَا أنْ تجعلها الْخَبَر وَالثَّانِي أَن تجعلها صفة للاسم فِي مَوضِع نصب أَو رفع وتتعلق بِمَحْذُوف
وَالثَّالِث أَن تجعلها للتبيين والتقديرأعني لَك وَالْقَوْل المحقَّق فِي (لأابالك) أنَّ اللَّام فِي حكم الزَّائِدَة من وَجه وَالِاسْم مُضَاف إِلَى (الْكَاف) وَلم يعرّف لأنّ الْمَعْنى لَا مثل أَبِيك كَمَا قَالُوا 44 -
(لَا هَيْثَم اللَّيْلَة للمطيّ ... ) // الرجز //
فصل

فإنْ أدخلت همزَة الِاسْتِفْهَام على (لَا) لم تغيرِّ حكم (لَا) فِي جَمِيع مَا ذكرنَا إلاَّ أنّ سِيبَوَيْهٍ يخْتَار فِي الْخَبَر النَّصْبَ فَيَقُول أَلا رجل أفضلَ مِنْك وَإِن قلت

(1/243)


أَلا رجلا فعلى معنى التمنّي أَي لَا أجد وَإِن قلت أَلا رجل يكرمنا فَهُوَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل الْهمزَة فِي اللَّفْظ
وَاخْتلفُوا فِي مَوضِع الِاسْم فسيبويه يرى أنَّه مَنْصُوب بِمَا فِي (أَلا) من معنى التمنّي وَلم يغيرّ اللَّفْظ كَمَا أَن قَوْلك رَحمَه الله لفظهُ على شَيْء وَمَعْنَاهُ على شَيْء آخر فعلى هَذَا القَوْل لَا يجوز رفع الصّفة كَقَوْلِك أَلا مَاء بَارِدًا أشربه وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مَوْضِعه على مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل الْهمزَة وَرفع صفته جَائِز
فصل

وَأما (أَلا) الَّتِي للتخضيض فَكَلمهُ وَاحِدَة وَمَا بعْدهَا مَنْصُوب بِفعل مُضْمر وَيَأْتِي ذكر ذَلِك فِي المنصوبات إِن شَاءَ الله

(1/244)


فصل

فَإِن استثيت بعد (لَا) رفعت الْمُسْتَثْنى كَقَوْلِك لَا إِلَه إِلَّا الله لأنَّه بدل من الْموضع وَقد بَطل عمل (لَا) بالإثبات وَالتَّقْدِير لَا إِلَه فِي الْوُجُود إلاَّ الله أَي الله وَحده الْإِلَه
فصل

وأمَّا قَوْلهم جِئْت بِلَا شَيْء وغضبت من لَا شَيْء ف (لَا) فِيهِ حرف عِنْد البصريَّين وَلم تمنع تعدِّي الْعَامِل إِلَى مَا بعْدهَا لأنَّها زِيَادَة فِي اللَّفْظ دون الْمَعْنى وَقَالَ بَعضهم هِيَ اسْم بِمَعْنى (غير) وتجرّ بِالْإِضَافَة وأمَّا قَول الشَّاعِر 45 -
(أَبى جودُه لَا البخلُ واستعجلتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتى لَا يمْنَع الْجُود قَاتله) // الطَّوِيل //

(1/245)


فيروى (الْبُخْل) بالجرِّ على أنَّه جعل (لَا) اسْما وأضافها إِلَى كلمة الْبُخْل وَبِالنَّصبِ بدلاُ من (لَا) وبالرفع على إِضْمَار (هُوَ)
فصل

وأمَّا قولُهم (لَا خَيْرَ بخيرٍ بعده النَّار وَلَا شرَّ بشرٍّ بعده الجنَّةُ) فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أنَّ قَوْله (بِخَير) خبر (لَا) و (بعدُه) صفة الْخَبَر وَالْبَاء بِمَعْنى (فِي) وَالثَّانِي أنَّ (بعده) صفة اسْم (لَا) و (بِخَير) خَبره مقدّم وَالْبَاء زَائِدَة وَالتَّقْدِير لَا خير بعدَه النارُ خيرٌ

(1/246)


بَاب ظَنَنْت وَأَخَوَاتهَا

هَذِه الْأَفْعَال من عوامل الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَلذَلِك احْتَاجَت إِلَى مفعولين فالأوَّل مَا كَانَ مُبْتَدأ وَالثَّانِي مَا وَمَا صلح أَن يكون خَبرا
وإنَّما نصبتهما لأنَّهما جَاءَا بعد الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالَّذِي تعلَّق بِهِ الظَّن مِنْهُمَا هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي وَذكر الْمَفْعُول الأوَّل لأنَّه محلُّ الشَّيْء المظنون لأ لأنَّه مظنون أَلا ترى أنَّ قَوْلك ظَنَنْت زيدا مُنْطَلقًا (زيدٌ) فِيهِ غير مظنون وإنَّما المظنون انطلاقه ولكنْ لَو قلت ظَنَنْت مُنْطَلقًا لم يعلم الانطلاق لمن كَانَ كَمَا لَو ذكرت الْخَبَر من غير مُبْتَدأ
فَإِن قيل فلماذا دخلت هَذِه الْأَفْعَال على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر لتحدث فِي الْجُمْلَة معنى الظنّ وَالْعلم اللَّذين لم يتَحَقَّق مَعْنَاهَا فِي الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر أَلا ترى أنَّ قَوْلك زيد منطلقٌ يجوز أَن تكون قلت ذَلِك عَن ظن وَأَن تكون قلته عَن علم فَإِذا قلت ظَنَنْت أَو علمت صَّرحت بِالْحَقِيقَةِ وَزَالَ الِاحْتِمَال
فصل

وَإِذا ذكرت هَذِه الْأَفْعَال مَعَ فاعلها لم يلْزم ذكر المفعولين لأنّ الجملةَ قد تَّمت وَلَكِن تكون الْفَائِدَة قَاصِرَة لأنَّ الْغَرَض من ذكر الظَّن المظنون فَإِذا اردت تَمام

(1/247)


الْفَائِدَة ذكرت المفعولين لتبيِّن الشي المظنون وَالَّذِي أسْند إِلَيْهِ المظنون وَلَا يجوز الاقتصارُعلى أَحدهمَا لِأَن الْمَفْعُول الأول إِن اقتصرت عَلَيْهِ لم يعرف الْمَقْصُود بِهَذِهِ الْأَفْعَال وَإِن اقتصرت على الثَّانِي لم يعلم إِلَى من أسْند
فصل

وَحكم المفععول الثَّانِي حكم الْخَبَر فِي كَونه مُفردا وَجُمْلَة وظرفا وَفِي لُزُوم الْعَائِد على الْمَفْعُول الأوَّل من الْمَفْعُول الثَّانِي على حسب ذَلِك فِي الْخَبَر لأنَّه خبر فِي الأَصْل
فصل

وَإِذا تقدَّمت هَذِه الْأَفْعَال نصبت المفعولين لفظا أَو تَقْديرا فاللفظ كَقَوْلِك ظَنَنْت زيدا قَائِما وَالتَّقْدِير فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع
أحدُها أَن يكون الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر مفسّراً لضمير الشَّأْن كَقَوْلِك ظننته زيد منطلق ظَنَنْت أَي الشَّأْن وَالْأَمر فالجملة بعده فِي مَوضِع نصب لوقوعها موقع الْمَفْعُول الثَّانِي كَمَا كَانَ ذَلِك خبر فِي خبر (كَانَ)

(1/248)


وَالثَّانِي أَن يكون الْمَفْعُول الأوَّل استفهاما كَقَوْلِه تَعَالَى {لنعلم أَي الحزبين أحْصَى} فالجملة فِي مَوضِع نصب وَلم يعْمل الظَّن فِي لفظ الاستقهام لأنَّ الِاسْتِفْهَام لَهُ صدر الْكَلَام
وَالثَّالِث أَن م تدخل لَام الِابْتِدَاء على الْمَفْعُول الأوَّل كَقَوْلِه علمت لزيد منطلق وَلَا يجوز هُنَا غير الرّفْع لِأَن الْفِعْل وَإِن كَانَ مقدَّما عَاملا وَلكنه ضَعِيف إِذْ كَانَ من أَفعَال الْقلب وَالْغَرَض مِنْهُ ثُبُوت الشَّك أَو الْعلم فِي الْخَبَر وَمن هَهُنَا أشبهت هَذِه الْأَفْعَال الْحُرُوف لأنَّها أفادت معنى فِي غَيرهَا واللامُ وإنْ لم تكن عاملة وَلكنهَا قويت بشيئين
أَحدهمَا لُزُوم تصدرها كَمَا لزم تصدُّر الِاسْتِفْهَام وَالنَّفْي وَالثَّانِي أنَّها مختصّة بالمبتدأ ومحقِّقة لَهُ وَإِذا كَانَت اللَّام أقوى من هَذَا الْفِعْل فِي بَاب الِابْتِدَاء وَكَانَت الْجُمْلَة الَّتِي دخلت عَلَيْهَا هَذِه الْأَفْعَال مُبْتَدأ وخبرا فِي الأَصْل لزم أَن يمْنَع من عمل مَا قبلهَا فِيمَا بعْدهَا لفظا وَلِهَذَا كسرت (إنّ) لوُقُوع اللَّام فِي الْخَبَر وَهَذَا مَعَ أنَّها لم تتصدَّر
فصل

وَإِذا توَّسطت بَين المفعولين جَازَ الإعمال والإلغاء وإنّما كَانَ كَذَلِك لأنَّها ضعيفه لما ذكرنَا من قبل وَقد ازدادت ضعفا بالتأخيرألاَّ ترى أنَّ الْفِعْل الَّذِي

(1/249)


لَا يلغى إِذا تَأَخّر حسن دُخُول اللَّام على مَفْعُوله كَقَوْلِك (لَزٌيد ضربتُ) وَلَا يحسن (ضربت لَزيدٌ) فقد ازراد ضعفها بالتاخير وبدئ باسم يصلح أَن يكون مُبْتَدأ إِذْ لَا عَامل لفظيٌّ قبله وَبعده وَمَا يصلح أَن يكون خَبرا عَنهُ غير (ظَنَنْت) وَالْغَرَض حَاصِل من الرّفْع كَمَا يحصل من النصب فَجَاز إِلْغَاء الظنّ كَمَا انَّ الْقسم يُلْغَى إِذا توسَّط أَو تَأَخّر وَهَذِه الْأَفْعَال تشبه الْقسم فِي جَوَاز تلقِّيها بِالْجُمْلَةِ وَذَلِكَ مَعَ (اللَّام) و (مَا) نَحْو علمت لزيدٌ منطلق وَكَقَوْلِه تَعَالَى {وظنوا مَا لَهُم مِن محيصٍ} وأمَّأ إعمالها فلأنَّها فعل متصرّف فَعمِلت مؤخرة كَمَا تعْمل مُقَدّمَة
فصل
وَاخْتلفُوا فِي الإعمال والإلغاء هُنَا هَل هما سَوَاء أم لَا قفال قوم هما سَوَاء لتعارض الدَّلِيلَيْنِ اللَّذين ذكرناهما وَقَالَ آخَرُونَ الإعمال أرجحُ لأنَّ الْفِعْل أقوى من الِابْتِدَاء
وأمَّا إِذا تأخرَّت عَن المفعولين فالإلغاءُ أقوى عِنْد الْجَمِيع لأنَّ الْمُبْتَدَأ قد وليه الْخَبَر وازداد الْفِعْل ضعفا بالتاخير بِخِلَاف مَا إِذا توسَّط لأنَّ نسبته إِلَى الرُّتْبَة الأولى كنسبة إِلَى الرُّتْبَة الثَّالِثَة وأذا تأخَّر صَار بَينه وَبَين الرُّتْبَة اللرتبة الأولى مرتبَة وسطى
فصل

وتنفرد هَذِه الْأَفْعَال عَن بَقِيَّة الْأَفْعَال بِخَمْسَة أَشْيَاء

(1/250)


أحدُها إِضْمَار الشِأن فِيهَا كَمَا أضمر فِي (كَانَ) وَالثَّانِي تعليقُها عَن الْعَمَل فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة الَّتِي ذكرت
وَالثَّالِث جَوَاز إلغائها إِذا توسطت أَو تَأَخَّرت وَلَيْسَ كَذَلِك (أَعْطَيْت) وبابه فإنّك لَو قلت زيدٌ أَعْطَيْت دِرْهَم لم يجز
وَالرَّابِع أنَّه لَا يجوز الِاقْتِصَار على أحد مفعوليها وَقد ذكرت علَّته وَالْخَامِس جَوَاز أتِّصال ضمير الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بهَا وهما لشيءٍ وَاحِد كَقَوْلِك ظننتني قَائِما وَيذكر فِي مَوْضِعه
فصل

وَقد تكون (ظَنَنْت) بِمَعْنى الْيَقِين كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذينَ يظنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبّهم} وَقد تكون بِمَعْنى (اتَّهمت) فتتعدَّى إِلَى وَاحِد لأنَّ التُّهْمَة لنَفس زيد لَا لصفته وَقد تكون علمت بِمَعْنى (عرفت) فتتعدّى إِلَى وَاحِد كَقَوْلِه تَعَالَى {وآخَرِينَ من دُونِهِم لَا تَعلمونَهُم} لأنَّ الْمعرفَة والجهالة تتعلَّق بِعَين زيد لَا بِصفتِهِ وَتَكون (رَأَيْت) من رُؤْيَة الْبَصَر فتتعدى إِلَى وَاحِد فإنْ جَاءَ منصوبٌ مَعهَا فَهُوَ حَال

(1/251)


وأمّا (حسبت) (خِلْتُ) فبمعنى التوهُّم لَا غير وأمَّا (زعمت) فَهُوَ عبارَة عَن القَوْل المقرون بالاعتقاد وَقد تكون حقّاً وَقد تكون بَاطِلا وأمَّا (وجدت) فَتكون بِمَعْنى (علمت) كَقَوْلِك وجدت الله عَالما وَتَكون بِمَعْنى (صادفت) فتتعدّى إِلَى وَاحِد وَتَكون لَازِمَة كَقَوْلِك وَجَدْتُ عَلَيْهِ أَي غضِبت وحزنت
فصل

وَقد شبّه ب (ظَنَنْت) (قلتُ) وللعرب فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب
أحدُها أنْ يعْمل القَوْل عمل الظنّ مَعَ الِاسْتِفْهَام وَالْخطاب والاستقبال كَقَوْلِك أَتَقول زيدا قَائِما لانَّ الْغَالِب أنَّ المستفهم شاكٌّ وأنَّه يستفهم من بِحَضْرَتِهِ ليخبره وَمِنْهُم من يعملها فِي الْخطاب خَبرا كَانَ الْكَلَام أَو أستفهاماً وَمِنْهُم من يعملها عمل الظنّ بكلِّ حَال
وَإِذا اتّصل ب (ظَنَنْت) ضميرٌ منصوبٌ فإنْ كَانَت مُقَدّمَة جَازَ أَن تكون الْهَاء ضمير الشَّأْن وَيكون مَا بعْدهَا جملَة وَأَن يكون ضمير الْمصدر أَو ضمير زمَان أَو مَكَان مَفْعُولا بِهِ على السعَة فينتصب المفعولان بعْدهَا

(1/252)


وَإِن كَانَت متوسِّطة جَازَ ذَلِك أَيْضا إلاَّ ضمير الشَّأْن لأنَّه لَا يفسّر إلاَّ بجملة بعده فإنْ قلت زيد ظننته قَائِما فَإِن رفعت الاسمين على أَن الْهَاء ضمير زيد لم يجز لأنَّك قد أعملت الْفِعْل فِي مفعول فَلَا بدَّ من آخر وَإِن جَعلتهَا ضمير الْمصدر كَانَ الْوَجْه نصبهما لأنَّك قد أكَّدت الظنّ فإنْ أتيت بِلَفْظ الْمصدر كَانَ التَّأْكِيد أشدّ والإلغائها بعيد مَعَ التوكيد فَإِن قلت ظَنَنْت ذَلِك جَازَ أَن يكون كِنَايَة عَن الْمصدر وَأَن يكون كِنَايَة عَن الْجُمْلَة
فصل

وَلَا يجوز الِاقْتِصَار على أحد المفعولين هُنَا لما تقدَّم وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَسْأَلَتَانِ
إِحْدَاهمَا إِذا وَقعت (أنَّ) وَمَا عملت فِيهِ بعد هَذِه الْأَفْعَال فَعِنْدَ سِيبَوَيْهٍ قد سدّت الْجُمْلَة مسدَّ المفعولين وَلَيْسَ فِي الْكَلَام حذف لأنَّ الْجُمْلَة مُشْتَمِلَة على الجزاين لفظا وَمعنى وَقَالَ الاخفش الْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف لأنَّ (أنَّ) مصدَرَّية فَتكون هِيَ وَمَا عملت فِيهِ فِي تَقْدِير الْمصدر الْمُفْرد كَقَوْلِك علمت أنَّ زيدا قَائِم أَي علمت قيام زيد كَائِنا وَهَذَا مُسْتَغْنى عَن تَقْدِيره لثَلَاثَة أوجه

(1/253)


أحدُها أنَّه لَا فَائِدَة فِيهِ وَالثَّانِي أنَّ مَا تعلَّق بِهِ الْعلم والظنّ مصّرح بِهِ وَهُوَ الْقيام وَالثَّالِث أنَّ (أنَّ) للتوكيد مَعَ بَقَاء الْجُمْلَة على رمّتها فَهِيَ ك (لَام الِابْتِدَاء) وكما لَا يحُتاج هُنَاكَ إِلَى تَقْدِير مفعول كَذَلِك هَهُنَا
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة قَوْلك ظنّ زيدٌ قَائِما أَبوهُ ف (زيدٌ) فَاعل و (قَائِما) مفعول و (أَبوهُ) فَاعل الْقيام وَهَذَا لَا يجوز عندنَا إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَام سوى مفعول وَاحِد وَأَجَازَهُ الكوفيُّون واحتجُّوا بقول الشَّاعِر [// الطَّوِيل //]
(أظنَّ ابنُ طرثوث عتيبةُ ذَاهِبًا ... بعاديّتي تكذابُه وجعائلُهْ) وَهَذَا شاذٌّ لَا يعرّج عَلَيْهِ

(1/254)


بَاب

مَا يتعدَّى إِلَى ثَلَاثَة مفعولين

أقْصَى مَا يتعدَّى إِلَيْهِ الْفِعْل من الْفَاعِل ثَلَاثَة وَذَلِكَ أنَّ الأَصْل نِسْبَة الْفِعْل إِلَى المفاعيل ثّم إنَّ فعل الْفَاعِل قد يفْتَقر إِلَى محلٍّ مَخْصُوص يباشره مَقْصُورا عَلَيْهِ مثل ضرب زيدٌ عمرا وَقد يحدث الْفَاعِل الْفِعْل لغيره بِحَيْثُ يصير الْمُحدث لَهُ الْفِعْل فَاعِلا بِهِ كَقَوْلِك أضربت زيدا عمرا أَي مكَّنته من إِيقَاع الضَّرْب بِهِ فَأَنت فَاعل التَّمْكِين من الضَّرْب و (زيد) مفعول هَذَا التَّمْكِين و (الضَّرْب) الممكّن مِنْهُ حَاصِل من زيد فِي عَمْرو ف (زيد) فَاعله و (عَمْرو) مَفْعُوله
وَقد يكون فعل الْفَاعِل متعلِّقاً بشيئين لَا يتَحَقَّق بدونهما كَقَوْلِك أَعْطَيْت زيدا درهما فالأعطاء من الْفَاعِل لَا يتمُّ إلاَّ بالآخذ والمأخوذ إلاَّ أنَّ أحد الشَّيْئَيْنِ مفعول الْإِعْطَاء وفاعل الْأَخْذ وَالْآخر مفعول لَا غير
وَقد يكون الْفِعْل متعلَّقا بمفعول وَاحِد وَلَكِن يذكر مَعَه غَيره لتوقُّف فهمه عَلَيْهِ كَقَوْلِك ظَنَنْت زيدا قَائِما فالمفعول على التَّحْقِيق هُوَ المطنون وَهُوَ الْقيام وَلَكِن لَا يُفِيد ذكره مَا لم يذكر من نسب إِلَيْهِ

(1/255)


وَقد توجب هَذَا الْفِعْل لغيرك فَتَصِير فَاعِلا فِي الْمَعْنى لما تحدثه لَهُ والمستعمل من ذَلِك بِلَا خلاف فعلان (أعلمت) و (أريت) المتعدِّيان إِلَى مفعولين بِغَيْر همزَة التعدِّي كَقَوْلِك أعلمت زيدا عمرا عَاقِلا وَهُوَ قبل النَّقْل علمت زيدا عَاقِلا ثمَّ عدَّيته بِالْهَمْزَةِ فأوجبت لزيد الْعلم بعقل عَمْرو وَلَيْسَ بعد هَذِه العدَّة غَايَة يقْصد بهَا التعدِّي إِلَيْهَا إِذا لَا يتصوَّر أنْ يُوجد الْإِسْنَاد لأكْثر من وَاحِد حتَّى يصير بذلك فَاعِلا
فصل

فأمَّا (نبّأت) و (أنبأت) ففعلان متعدّيان إِلَى شَيْء وَاحِد وَإِلَى ثانٍ بِحرف الجرِّ كَقَوْلِك نبَّأت زيدا عَن حَال عَمْرو أَو بِحَال عَمْرو وَقد يحذف حرف الجرّ كَقَوْلِه تَعَالَى {مَن أَنْبَأَك هَذَا} أَي عَن هَذَا وَقد ذهب قومٌ إِلَى أنَّه يتعدَّى بِنَفسِهِ واستدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل لأنَّه قد اسْتعْمل فِي مَوَاضِع أُخَرَ بِحرف الجرِّ أَكثر من اسْتِعْمَاله بِغَيْر حرف الجرَّ فَالْحكم بِزِيَادَة الْحُرُوف فِي تِلْكَ الْمَوَاضِع لَا يجوز فأمَّا حرف الجرّ فأسوغ من الحكم بِزِيَادَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ أَكثر كَقَوْلِك 47 -
(أَمرتك الْخَيْر ... )

(1/256)


فَأَما قَوْله تَعَالَى {قَد نبَّأنا اللهُ مِنْ أخْباركَمْ} ف (من) عِنْد سِيبَوَيْهٍ غير زَائِدَة على مَا أصلَّنا وَقَالَ الاخفش هِيَ زَائِدَة وَالْمَفْعُول الثَّالِث مَحْذُوف تَقْدِيره قد نبّأنا الله أخباركم مشروحة وَهَذَا ضَعِيف لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا الحكم بِزِيَادَة الْحَرْف من غير ضَرُورَة إِلَى ذَلِك
وَالثَّانِي زِيَادَة (من) فِي الْوَاجِب وَهُوَ بعيد وَالثَّالِث حذف الْمَفْعُول الثَّالِث وَهُوَ كحذف الْمَفْعُول الثَّانِي فِي بَاب (ظَنَنْت) وَهُوَ غير جَائِز
فصل

وَالْفرق بَين (نبَّات وأنبأت) وَبَين (أعلمت) أنَّ (أعلمت) اسْتعْملت بِغَيْر همزَة التعدِّي ثَّم عُدِّيت و (نَّبأت وأنبأتُ) وضعتا على التعدِّي وَلم يسْتَعْمل مِنْهُمَا (نبأ الرجل) و (خبرت وأخبرت وحدَّثت) مثل (نبَّأت) وإنَّما سَاغَ التعدِّي إِلَى ثَلَاثَة لشبهها ب (أعلمت) لأنَّك إِذا أخْبرت إنْسَانا بِأَمْر فقد أعلمته بِهِ

(1/257)


فصل

وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز تَعديَة (ظَنَنْت) وَأَخَوَاتهَا غير (علمت وَرَأَيْت) فمذهب سِيبَوَيْهٍ وَالْجُمْهُور أنَّه لَا يجوز إلاَّ فِي (علمت وَرَأَيْت) لأنَّ تعدِّي الْفِعْل بِالْهَمْزَةِ من بَاب وضع اللُّغَة أَلا ترى أنَّ قَوْلك كَّلمت زيدا لَا تجوز تعديته بِالْهَمْزَةِ فَلَا تَقول أكلمت زيدا عمرا بِمَعْنى مكَّنته من تكليمه وَلم يرد السماع إلاَّ ب (أعلمت وأريت) وَأَجَازَ الْأَخْفَش ذَلِك فِي جَمِيع بَاب (ظَنَنْت) قِيَاسا على (أعلمت وَرَأَيْت) وَهُوَ بعيد لم قدَّمنا
فصل

لَا خلاف فِي جَوَاز الِاقْتِصَار على فَاعل هَذِه الْأَفْعَال وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز الِاقْتِصَار على الْمَفْعُول الأول فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازه كَقَوْلِك أعلمت زيدا وَمنع مِنْهُ قوم وَالدَّلِيل على جَوَازه أَمْرَانِ
أَحدهمَا أنَّه فَاعل فِي الْمَعْنى وَالْفَاعِل يجوز الِاقْتِصَار عَلَيْهِ فِي بَاب (ظَنَنْت) فَكَذَلِك هَهُنَا

(1/258)


وَالثَّانِي أنَّ (زيدا) هُنَا مفعول الْإِعْلَام وَلَيْسَ بمبتدأ فِي الأَصْل بِخِلَاف الْمَفْعُول الأوَّل فِي (ظَنَنْت) فإنَّه مُبْتَدأ فِي الأَصْل غير مفعول بِهِ
فصل

وَالْمَفْعُول الثَّالِث فِي هَذَا الْبَاب هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي فِي بَاب (ظَنَنْت) فَلَا يجوز على هَذَا أَن تَقول أعلمت زيدا عمرا بِشْراً فكَلُّ مِنْهُم غير الآخر إلاَّ على تَأْوِيل وَهُوَ أَن يكون الْمَعْنى أعلمتُ زيدا عمرا مثل بشر أَو خيّلت لَهُ أنَّ أَحدهمَا هُوَ الآخر أَو يكون عمروٌ وبشرٌ اسْمَيْنِ لرجل وَاحِد
فصل

وَلَا يجوز إلفاء هَذِه الْأَفْعَال بتعليقها عَن الْعَمَل ولابتوسُّطها وتأخُّرها لأنَّ الْمَفْعُول الأوَّل فِيهَا فَاعل فِي الْمَعْنى وَلَيْسَ بمبتدأ فِي الأَصْل فعلى هَذَا لَا تَقول أعملت لزيدٌ عمروٌ ذَاهِب لأنَّك إِن جعلت (ذَاهِبًا) ل (عَمْرو) لم يعد على زيد ضمير وَكَذَلِكَ إِن جعلته لزيد ثَّم إنَّ المفعولين الآخرين غير الْمَفْعُول الأول فَلَا يصحُّ أنَّ يَجْعَل كباب (ظَنَنْت) لأنَّ الثَّانِي هُوَ الأوَّل

(1/259)


بَاب الْمصدر

الْمصدر مشتقٌّ مِنْ صَدَرت الْإِبِل عَن المَاء إِذا انصرفت ووَّلته صدروها وسمِّي بذلك لأنَّ الْفِعْل صدر عَنهُ هَذَا مَذْهَب البصرييّن
وَقَالَ الكوفيُّون الْمصدر مُشْتَقّ من الْفِعْل وَالدَّلِيل على الأول أَمْرَانِ
أَحدهمَا أنَّ الْمصدر يدلّ على الْحَدث فَقَط وَالْفِعْل يدلُ على الْحَدث وَالزَّمَان وَمَا يدلُّ على معنى وَاحِد كالمفرد وَمَا يدلُّ على معنيِيْن كالمركَّب والمفرد قبل المركَّب
وَالثَّانِي أنَّ الْمصدر جنس يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير والماضي والمستقبل فَهُوَ كالعموم وَالْفِعْل يختصُّ بِزَمَان معيَّن وَالْعَام قبل الخاصّ وَقد شُبَّه الْمصدر بالنقرة من الفّضَّة فِي أنَّها فضَّة فَقَط وَمَا يتَّخذ مِنْهَا من مرْآة أَو قاروة وَنَحْو ذَلِك بِمَنْزِلَة الْفِعْل من حَيْثُ أنَّ فِيهِ مَا فِي الْمصدر وَزِيَادَة كَمَا أنَّ الْمرْآة فِيهَا الفضَّة وَالصُّورَة الْمَخْصُوصَة

(1/260)


واحتجّ الكوفيُّون بأنَّ الْفِعْل يعْمل فِي الْمصدر وَالْعَامِل قبل الْمَعْمُول وَهَذَا لَا يصلح دَلِيلا على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَِّ الِاشْتِقَاق يُوجد من جِهَة الْمعَانِي والتصريف لَا من بَاب الْعَامِل والمعمول وَالثَّانِي أنَّ الْحَرْف يعْمل فِي الِاسْم وَلَيْسَ الْحَرْف مشتّقاً من الِاسْم وَكَذَلِكَ الْفِعْل يعْمل فِي الْأَعْلَام والأجناس الَّتِي لَيست مصَادر وَلَا يقالُ هِيَ مشتقِّة مِنْهُ
فصل

وإنَّما سمّي الْمصدر مَفْعُولا مُطلقًا لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّه الْمَفْعُول على التَّحْقِيق أَلا ترى أنَّ قَوْلك (ضربت) أَي أوجدت الضَّرْب بِخِلَاف قَوْلك ضربت زيدا فَإنَّك لم تُوجد زيدا وإنَّما أوجدت بِهِ فعلا
وَالثَّانِي أنَّ لفظ الْمصدر مجرَّد عَن حرف جرّ فَلَا يُقَال (بِهِ) وَلَا (فِيهِ) وَلَا (لَهُ) وَلَا (مَعَه) وإنَّما كَانَ كَذَلِك لأنَّه لَو قيل لَك - وَقد ضربت مثلا - مَا فعلت قلت الضَّرْب وَإِذا قيل لَك بِمن أوقعت الضَّرْب قلت بزيد فقيَّدته بِالْبَاء وَلَو قيل فِي أَي زمَان أَو فِي أَي مَكَان لَقلت فِي يَوْم كَذَا وَفِي مَكَان كَذَا وَلَو قيل لأيِّ غَرَض لقيل لكذا وَكَذَا فقد رَأَيْت كَيفَ تقيدت هَذِه المفاعيل بالحروف مَا عدا الْمصدر
فصل

والمصدر يذكر لأحد أَرْبَعَة اشياء
أَحدهَا توكيد الْفِعْل كَقَوْلِك ضربت ضربا ف (ضربا) نَائِب عَن قَوْلك (ضربت) مَّرةً أُخْرَى لأنَّ التوكيد يكون بتكرير اللَّفْظ وإنَّما عدلوا إِلَى الْمصدر كَرَاهِيَة إِعَادَة اللَّفْظ بِعَيْنِه ولأنَّ الْفِعْل الثَّانِي جملَة والمصدر لَيْسَ بجملة فَكَانَ أخصر وَأبْعد من التكرير وَالثَّانِي أَن يذكر لبَيَان النَّوْع كَقَوْلِك ضربت ضربا شَدِيدا ذكرت (ضربا) لتصفه بالشدَّة الَّتِي يدلُّ عَلَيْهَا الْفِعْل
وَالثَّالِث أَن يذكر لتبيين الْعدَد وَيحْتَاج فقي ذَلِك إِلَى زِيَادَة على الْمصدر وَتلك الزِّيَادَة (تَاء) التَّأْنِيث) نَحْو قَوْلك ضربت ضَرْبَة فإنَّ التَّاء تدلُّ على الْمرة وَهنا يثنَّى وَيجمع نَحْو ضربتين وضربات لأنَّ لفظ الْفِعْل لَا يدل على الْعدَد فَذكر الْمصدر لتحيل هَذِه الزِّيَادَة

(1/261)


فقيدته بِالْبَاء لَو قيل فِي أيَّ زمَان أَو فِي أَي مَكَان لَقلت فِي يَوْم كَذَا وَفِي مَكَان طذا لَو قيل لأيَّ غَرَض لقيل لكذا وَكَذَا فقد رَأَيْت كَيفَ تقيدت هَذِه المفاعيل بالحروف مَا عدا الْمصدر
فصل

والمصدر يذكر لأحد أَرْبَعَة اشياء أَحدهَا توكيد الْفِعْل كَقَوْلِك ضربت ف (ضربا) نَائِب عَن قَوْلك (ضربت) مَّرةً أُخْرَى لأنَّ التوكيد يكون بتنكير اللَّفْظ وإنَّما عدلوا إِلَى الْمصدر كَرَاهِيَة إِعَادَة اللَّفْظ بِعَيْنِه لأنَّ الْفِعْل الثَّانِي جملَة والمصدر لَيْسَ بجملة فَكَانَ أَخْضَر وَأبْعد من التكير وَالثَّانِي أَن يذكر لبَيَان النَّوْع كَقَوْلِك ضربت ضربا شَدِيدا ذكرت (ضربا) لتصفه بالشدَّة الَّتِي يدلُّ عَلَيْهَا الْفِعْل وَالثَّالِث أَن يذكر لتبيين الْعدَد وَيحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى زِيَادَة على الْمصدر وَتلك الزِّيَادَة (تَاء التَّأْنِيث) نَحْو قَوْلك ضربت ضَرْبَة فإنَّ التَّاء تدلُّ على الْمرة وَهنا يثنَّى وَيجمع نَحْو ضربتين وضربات لِأَن لفظ الْفِعْل لَا يدل على الْعدَد فَذكر الْمصدر لتَحْصِيل هَذِه الزِّيَادَة

(1/262)


وَالرَّابِع أنْ يذكر الْمصدر لينوب عَن الْحَال كَقَوْلِك قتلته صبرا أَي مصبوراً أَو مَحْبُوسًا وَيذكر فِي بَاب الْحَال
فصل

وَتقوم الْآلَة مقَام الْمصدر كَقَوْلِك ضَربته سَوْطاً ف (سَوط) هُنَا اسْم للضربة بِالسَّوْطِ وإنَّما جَازَ ذَلِك لم بَين الْفِعْل والآلة من الملابسة وَحصل من هَذَا شَيْئَانِ الِاخْتِصَار والتنيبه على أنَّ الْفِعْل كَانَ بالآلة الْمَخْصُوصَة وَلَوْلَا ذَلِك لَقلت ضَربته ضَرْبَة بِسَوْط وَلَيْسَ السَّوْط هَهُنَا مَنْصُوبًا على تَقْدِير حذف حرف الجرّ لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّ حذف الْحَرْف لَيْسَ بِقِيَاس وَالثَّانِي أَن فِي قَوْلك (سَوْطًا) دلَالَة على المرّة الْوَاحِدَة أَلا ترى أنَّك تَقول ضَربته أسواطاً وَلَو كَانَت الْبَاء مُرَادة لم تدلّ على ذَلِك
وَالثَّالِث أنَّك تَقول ضَربته مائَة سَوط وَلَا تُرِيدُ مائَة ضَرْبَة بِسَوْط إِذْ لَو أردْت ذَلِك لَكَانَ الْمَعْنى أنَّ جَمِيع الضربات بِآلَة وَاحِدَة وَلَيْسَ الْمَعْنى عَلَيْهِ بل يَقُول ضَربته مائَة سَوط وَإِن كَانَت كلُّ ضَرْبَة بِآلَة غير الْآلَة الْأُخْرَى

(1/263)


فصل

والعددُ الْمُضَاف إِلَى الْمصدر ينْتَصب نصب الْمصدر كَقَوْلِك ضَربته ثَلَاث ضَرَبات لما بَين الْعدَد والمعدود من الملابسه والاتِّصال وَكَذَلِكَ صفة الْمصدر إِذا أضيفت إِلَيْهِ كَقَوْلِك سرت أشدّ السّير لأْنَّ الصفه هِيَ الْمَوْصُوف فِي الْمَعْنى وأنما قدّمت لتدلَّ على المبالغه
فصل

وَلَا يثنَّى الْمصدر وَلَا يجمع مَا دَامَ جِنْسا لدلالته على جَمِيع أَنْوَاع الْحَدث وإنَّما يثنَّى ويُجمع مَا لَا يدُلَّ واحدُهُ إلاَّ على مِقْدَار وَاحِد فإنْ اخْتلفت أنواعُه ثُني وَجمع لأنَّ كلّ نوع مِنْهَا متّميِّز عَن الآخربصفه تخصُّه فَيصير بِمَنْزِلَة أَسمَاء الْأَعْلَام وَكَذَلِكَ إِن زيد فِيهِ (تَاء التَّأْنِيث) كالضربة فَإِنَّهُ يدلُّ على الْوَاحِد لَا غير فَإِذا وجدت فِيهِ أعداد احْتِيجَ إِلَى مَا يدلُّ عَلَيْهَا
فصل

وأمَّا قَوْلهم (قعد القرفصاء) و (اشْتَمَل الصماء) فَاخْتَلَفُوا فِي الِاسْم الْمَنْصُوب هُنَا على ثَلَاثَة أَقْوَال

(1/264)


أحدهُا أنَّه مَنْصُوب بِالْفِعْلِ الَّذِي قبله لأنَّ (القرفصاء) نوع من الْقعُود و (الصمَّاء) نوع من الاشتمال فَإِذا عمل (قعد) فِي الْقعُود الْجَامِع لأنواعه كَانَ عَاملا فِي نوع مِنْهُ لدُخُوله تَحت الْجِنْس هَذَا قَول سبيويه
وَمن البصرييَّن من قَالَ هُوَ صفة لمصدر مَحْذُوف تَقْدِيره (الْقعدَة القرفصاء) فعلى هَذَا فِي الْكَلَام حذفٌ ولكنَّ العاملَ فِي الصّفة الْعَامِل فِي الْمَوْصُوف غير أنَّه بِوَاسِطَة
وَمن النحويَّين من قَالَ ينْتَصب بِفعل مَحْذُوف دلَّ عَلَيْهِ (قعد) تَقْدِيره تقرفص القرفصاء وَفِي ذَلِك تعسُّف مُسْتَغْنى عَنهُ لأنَّ (تقرفص) لَو اسْتعْمل لَكَانَ بِمَعْنى (قعد) فَإِذا وجدت لَفْظَة (قعد) كَانَت أولى بِالْعَمَلِ إِذْ هِيَ أصل (تقرفص)

(1/265)


فصل

وَمن ذَلِك (أبغضه كَرَاهِيَة) و (أعجبني حبّاً شَدِيدا) فالاسم هُنَا يتنصب بِالْفِعْلِ الَّذِي قبله لأنَّه يقرب من مَعْنَاهُ

(1/266)


بَاب الْمَفْعُول بِهِ

قد ذكرنَا فِي بَاب الْفَاعِل علَّة انتصاب الْمَفْعُول وَالْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب فِي أَقسَام الْفِعْل فِي اللُّزُوم والتعدِّي وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ لَازم ومتعدّ
فاللازم مَالا يفْتَقر بعد فَاعله إِلَى محلٍّ مَخْصُوص يحفظه كَقَوْلِك قَامَ وَجلسَ وأحمرَّ وتدحرج فَإِن اتَّصل بِهِ جارّ ومجرور كَقَوْلِك (جَلَست إِلَيْهِ) كَانَ الجارّ وَالْمَجْرُور فِي مَوضِع نصب كأنَّك قلت أَتَيْته وعاشرته وَنَحْو ذَلِك
وأمَّا المتعَّدي فَمَا افْتقر بعد فَاعله إِلَى محلٍّ مَخْصُوص يحفظه وَذَلِكَ على ثَلَاثَة أضْرب
أَحدهَا لم تستعمله الْعَرَب إلاَّ بِحرف جرّ كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد ف (مَرَرْت) يفْتَقر إِلَى مَمْرورٍ بِهِ ولكنْ لم يسْتَعْمل إلاَّ بِالْبَاء وَكَذَلِكَ عجبت من زيد فإنْ جَاءَ فِي الشّعْر شَيْء بِغَيْر حرف فضرورة
وَالضَّرْب الثَّانِي يسْتَعْمل بِحرف جرٍّ تَارَة وَبِغير حرف جرٍّ أُخْرَى وكلّ ذَلِك اخْتِيَار كَقَوْلِك نصحت لَك ونصحتك فَفِي الْموضع الَّذِي اسْتعْمل بِغَيْر حرف

(1/267)


لَا يُقَال حذف الْحَرْف مِنْهُ لأنَّ حذف حرف الجرّ لَيْسَ بِقِيَاس وَفِي الْموضع الَّذِي ذكر لَا يُقَال هُوَ زايد لأنَّ زِيَادَة الجارّ لَيست بِقِيَاس أَيْضا وَإِذا جَاءَ الْأَمْرَانِ فِي الِاخْتِيَار دلّ على أنَّهما لُغَتَانِ
وَالضَّرْب الثَّالِث مَا يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وَهُوَ على ثَلَاثَة أضْرب أحدُها يتَعَدَّى إِلَى وَاحِد ك (ضربت زيدا) وَنَحْوه من أَفعَال العلاج وك (أَبْصرت زيدا) وَغَيره من أَفعَال الْحَواس فأمّا (سَمِعت) فَالْقِيَاس أَن يتعدّى إِلَى وَاحِد ممَّا يسمع كَقَوْلِك سَمِعت قَوْلك وصوتك فأمَّا قولُهم سمعنَا زيدا يَقُول ذَلِك ف (زيد) هُنَا لّما كَانَ هُوَ الْقَائِل واتَّصل بِهِ مَا يدلُ على المسموع جُعل مَفْعُولا أوَّل و (يَقُول) فِي مَوضِع الْمَفْعُول الثَّانِي لأنَّ القَوْل وَالْقَائِل متلازمان فأمَّا قَوْله تَعَالَى {هَل يَسمعونَكُم إذْ تَدعُونَ} فَفِيهِ قَولَانِ
أَحدهمَا أنَّ التَّقْدِير هَل يسمعُونَ دعاءكم كَمَا قَالَ فِي الْأُخْرَى {لَا يسمعوا دعاءكم} وَالْآخر أنَّ الْمَفْعُول الثَّانِي مَحْذُوف أَي يسمعونكم إِذْ تدعون
وَالضَّرْب الثَّانِي متعدًّ إِلَى مفعولين فَمِنْهُ (ظَنَنْت وَأَخَوَاتهَا) وَقد ذُكرت

(1/268)


وَمِنْه متعدٍّ إِلَى مفعولَيْن ثَانِيهمَا غير الأوَّل نَحْو أَعْطَيْت زيدا درهما لأنَّ الْإِعْطَاء يَقْتَضِي آخِذا ومأخوذاً وَيجوز تَقْدِيم أحدهماعلى الآخر إِلَّا أَن يؤدِّي إِلَى اللّبْس كَقَوْلِك أَعْطَيْت زيدا عمرا فَكل وَاحِد مِنْهُمَا يصلح أَن يكون آخِذا وَأَن يكون مأخوذا فَإِذا لم يبن أَحدهمَا من الآخر إِلَّا بِتَقْدِيم الْآخِذ لزم تَقْدِيمه كَمَا يلْزم فِي الاسمين المقصورين أَن يتقدّم الْفَاعِل
فصل

وَقد يكون الْفِعْل متعدياِّ إِلَى مفعول وَاحِد بِنَفسِهِ وَإِلَى آخر بِحرف الجرِّ ثمَّ يحذف الْحَرْف فيتعدى إِلَيْهِ الْفِعْل بِنَفسِهِ كَقَوْلِه تَعَالَى {واختارَ مُوسَى قومَه سبعينَ رجلا} وَالتَّقْدِير من قومه فَأن قيل لم لَا يكون الثَّانِي بَدَلا من الأوَّل قيل لأنَّ الِاخْتِيَار يَقْتَضِي أَن يكون الْمُخْتَار بَعْضًا من كلٍّ لأنَّ مَا هُوَ وَاحِد فِي نَفسه لَا يصحُّ اخْتِيَاره وَإِذا لم يكن بدٌّ من مُخْتَار مِنْهُ لم يصحّ الْبَدَل وَمن ذَلِك قَوْلهم 48 -
(أَمرتك الْخَيْر ... ) // الْبَسِيط // أَي بِالْخَيرِ وأمَّا قَوْله تَعَالَى {فاصدَعْ بِما تُؤمَر} فَفِيهِ وَجْهَان أحدُهما أنَّ (مَا) مصدريَّة أَي بِالْأَمر وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ

(1/269)


وَالثَّانِي هِيَ بِمَعْنى (الَّذِي) فتقديره بِالَّذِي تُؤمر بالصدع بِهِ (ثمَّ) حذفت (الْبَاء) وَوصل الضَّمِير فَصَارَ (بصدعه) ثَّم حذف (الصدع) فَصَارَ (تُؤمر بِهِ) ثمَّ حذفت الْبَاء وَالْهَاء دفْعَة وَاحِدَة فِي قَول سِيبَوَيْهٍ وعَلى قَول الْأَخْفَش حذف (الْبَاء) فَصَارَ (تؤمره) ثمَّ حذفت الْهَاء
فصل

فِيمَا يعدّي الْفِعْل وَهِي خَمْسَة الْهمزَة كَقَوْلِك فَرح زيد وأفرخته وَتَشْديد الْعين كَقَوْلِك فرَّحته وَمَعْنَاهَا وَاحِد وَالْبَاء كَقَوْلِك فرحت بِهِ وَمَعْنَاهُ غير معنى الأوليَّن والتمثيل المطابق للأوَّلين ذهبت بزيد أَي أذهبته كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَو شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} وسين استفعل وزائدها وهما الْهمزَة وَالتَّاء كَقَوْلِه خرج الشَّيْء واستخرجته وَألف المفاعلة نَحْو جلس زيدٌ وجالسته وَقربت من الْبَلَد وقاربته

(1/270)


بَاب

الْمَفْعُول فِيهِ

وَهُوَ الظّرْف وَهُوَ أَسمَاء الزَّمَان وَالْمَكَان وسَّميت بذلك لأنَّ الْأَفْعَال تقع فِيهَا وتحلُّها ولاتؤثرّ فِيهَا فَهِيَ كالإناء والحالُّ فِيهِ غيرُه وَلذَلِك سمَّاها بَعضهم (أوعيهً) وَبَعْضهمْ (محالَّ)
فصل

وَالَّذِي يُطلق عَلَيْهِ (الظّرْف) عِنْد النحويِّيِن مَا حَسُنَ فِيهِ إظهارُ (فِي) وَلَيْسَت فِي لَفظه لأنَّ الْحَرْف الْمَوْضُوع لِمَعْنى الظرفيه (فِي) فَإِذا لم تكن ودلَّ الِاسْم عَلَيْهَا صَار مسمَّى بهَا
فصل

وَلم يبن الظّرْف لأنَّه لم يتضمَّن معنى (فِي) بِدَلِيل صحَّة ظُهُورهَا مَعَه وَلَو كَانَ متضمِّناً مَعْنَاهَا لم يصحّ إظهارها مَعَه كَمَا لَا يصحُّ ظُهُور الْهمزَة مَعَ (أَيْن) و (كَيفَ) وإنَّما حذفت (فِي) للْعلم بهَا

(1/271)


فصل

وإنَّما عمل الْفِعْل فِي جمبع اسماء الزَّمَان لأنَّ صِيغَة الْفِعْل تدلُّ عَلَيْهِ كَمَا تدلُّ على الْمصدر إلاَّ أنَّ دلالتها على الزَّمَان من جِهَة حركاته وعَلى الْمصدر من جِهَة حُرُوفه وَكِلَاهُمَا لفظ
أَحدهمَا أنَّها تخصُّ جُزْءا من الْجِهَة الَّتِي تدلُّ عَلَيْهَا ك (الْأَمَام) فإنَّه لَا يتَنَاوَل بعض مَا قابلك بل يَقع على تِلْكَ الْجِهَة إِلَى آخر الدُّنْيَا كَمَا أنَّ (قَامَ) يدلُّ على مَا مضى من الزَّمَان من أوَّله إِلَى وَقت إخبارك كَذَلِك (يقوم) يصلح للزمان الْمُسْتَقْبل من أوَّله إِلَى آخِره وَالثَّانِي أنَّ هَذِه الْجِهَات لَا لبث لَهَا إذْ هِيَ بِحَسب مَا تُضَاف إِلَيْهِ وتتبدل بِحَسب تنقُّل الْكَائِن فِيهَا فقولك (خلف زيد) يصير أماماً لَهُ عِنْد تحوّله أَو يَمِينا لَهُ أَو يساراً و (خلف زيد) هُوَ أمامٌ لعَمْرو ويمينٌ لخَالِد ويسارٌ لِبِشْرٍ كَمَا أنَّ الزَّمَان لَا لبث لَهُ بِخِلَاف الْمَكَان المختصّ فإنَّه بِمَنْزِلَة الْأَشْخَاص إِذْ كَانَ بجثّة محددة كَالدَّارِ وَالْبَصْرَة فَمن هُنَا لَا تَقول جَلَست الدَّار كَمَا تَقول جَلَست خَلفك

(1/272)


فأمَّا قَوْلهم هُوَ منِّي مَنَاظَ الثريا ومزجر الْكَلْب إِذا أَرَادوا الْبعد ومقعد الْقَابِلَة ومقعد الْإِزَار فَفِيهِ وَجْهَان أحدُهما أنَّ الأَصْل فِيهَا تسْتَعْمل ب (فِي) لكنَّهم حذفوها تَخْفِيفًا كَمَا قَالُوا 49 -
(أَمرتك الْخَيْر ... ) // الْبَسِيط //
وَالثَّانِي أنَّ هَذِه الْأَمْكِنَة لّما أُريد بهَا الْمُبَالغَة وَلم يقْصد بهَا أمكنة معيَّنة محدودة صَارَت كالأمكنة الْمُبْهمة
مَسْأَلَة

تَقول دخلت الْبَيْت بِغَيْر فِي) وَاخْتلف النحويُّون فِيهِ فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ هُوَ لَازم وإنَّما حذفت (فِي) تَخْفِيفًا لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال وَقَالَ الجرميُّ هُوَ متعدٍّ مثل (بنيت) و (عمرت) وَنَحْو ذَلِك

(1/273)


أحدُها أنَّه لَو كَانَ متعدَّياً هُنَا لَكَانَ مُتَعَدِّيا فِي كلّ مَوضِع صحَّ مَعْنَاهُ فِيهِ وَلَيْسَ الْأَمر على ذَلِك أَلا ترى أنَّك تَقول دخلت فِي هَذَا الْأَمر وَلَو قلت دخلت الْأَمر لم يستقم مَعَ أنَّ مَعْنَاهُ لابستُ الْأَمر ووليته
وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّك تَقول دَخَلنَا فِي شهر كَذَا و (فِي) هُنَا غير زَائِدَة لأنَّهم لم يستعملوه بِغَيْر (فِي) ولأنَّ الأَصْل ألاَّ يُزَاد حرف الجرّ
وَالثَّالِث أنَّ مصدر دخلت (الدُّخُول) وكلّ مصدر كَانَ على (فعول) فَفعله لَازم كالجلوس وَالْقعُود
وَالرَّابِع أنَّ نَظِيره (غُرْتُ وغُصْتُ وغِبْتُ) وكلّها لَازم ونقيضه (خرجت) وَهُوَ لَازم أَيْضا وَذَلِكَ يُؤنِسُ بِكَوْن (دخلت) لَازِما
فصل

يجوز أَن يَجْعَل ظرف الزَّمَان وَالْمَكَان مَفْعُولا بِهِ على السَّعة وَتظهر فَائِدَته فِي موضِعين
أحدُهما أَن تضيف إِلَيْهِ كَقَوْلِهِم 50 -
(يَا سَارِق الليلةِ أهل الدارْ ... ) // الرجز //

(1/274)


كَمَا تَقول يَا سَارِق ثوبِ زيد وَلَا يجوز أَن يكون هُنَا ظرفا لأنَّ (فِي) مَعَ الظّرْف مقدَّرة وَتَقْدِير (فِي) يمْنَع الْإِضَافَة
وَالثَّانِي أنَّك إِذا أخْبرت عَنهُ - وَهُوَ مفعول بِهِ - لم تأت بِحرف الجرّ مَعَ ضَمِيره كَقَوْلِك يَوْم الْجُمُعَة سرته فَإِن جعلته ظرفا قلت سرت فِيهِ
وإنَّما جَازَ حذف (فِي) مَعَ الظّرْف دون ضَمِيره لأنَّ لفظ الظّرْف يدلُّ على الْحَرْف إِذْ كَانَ صَرِيحًا فِي الظّرْف وَالضَّمِير لَا يختصُّ بالظرف بل يصلح لَهُ وَلغيره وأمّا قَول الشَّاعِر

(1/275)


51 -
(فلأبغينَّكُمُ قَناً وعُوارضا ... ولأقبلنَّ الْخَيل لابةَ ضَرْغَدِ) // الْكَامِل // ف (قِنَا) و (عوارض) و (لابة ضرغد) أمكنة معينَّة وعدَّى الْفِعْل إِلَيْهَا بِنَفسِهِ كَمَا عدَّى (دخلت) بِنَفسِهِ وَقيل جعلهَا مَفْعُولا بهَا على السعَة

(1/276)


بَاب

الْمَفْعُول لَهُ

من شَرط الْمَفْعُول لَهُ أَن يكون مصدرا يصحّ تَقْدِيره بِاللَّامِ الَّتِي يعلّل بهَا الْفِعْل وَالْمَفْعُول لَهُ هُوَ الْغَرَض الْحَامِل على الْفِعْل ولّمَّا كَانَ كّل حَكِيم وعاقل لَا يفعل الْفِعْل إلاَّ لغَرَض جُعلُ ذَلِك الغرضُ (مَفْعُولا من أَجله) وَهُوَ مَنْصُوب بِالْفِعْلِ الَّذِي قبله لازماَ أَو متعديِّا لأنَّ الْفِعْل يحْتَاج إِلَيْهِ كاحتياجه إِلَى الظّرْف وكما حذف حرف الجرّ فِي الظّرْف جَازَ هُنَا وَيجوز أَن يكون الْمَفْعُول لَهُ نكرَة بِلَا خلاف كَقَوْلِك زرتك طَمَعا فأمَّا الْمعرفَة فَذهب الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز جعلهَا مَفْعُولا لَهُ وَمنعه الجرميُّ وَالدَّلِيل على جَوَازه قَول العجَّاج 52 -
(تركبُ كُلَّ عاقرِ جُمْهورِ ... مَخَافَة وزعل المحبورِ)
(والهولَ من تهوَّل الهُبور ... )

(1/277)


و (الهول) هُنَا مَعْطُوف على (مَخَافَة) ولأنّ الْغَرَض قد يكون مَعْرُوفا عِنْد الْمُخَاطب فَإِذا ذكر علم أنَّه الْمَعْهُود عِنْده وَلذَلِك تجوز الْمعرفَة مَعَ ظُهُور اللَّام كَقَوْلِك (أَتَيْتُك للطمع وَلَا فرق بَين ظُهُور اللَّام وحذفه فِي الْمَعْنى وَيجوز تَقْدِيم الْمَفْعُول على الْفِعْل لتصرّف الْعَامِل وأنّ الْمَفْعُول لَهُ كالظرف فِي تَقْدِير الْحَرْف

(1/278)


بَاب

الْمَفْعُول مَعَه

كلُّ اسْم وَقع بعد الْوَاو الَّتِي بِمَعْنى (مَعَ) وَقبلهَا فعل وفاعل فَذَلِك الِاسْم مَنْصُوب وَاخْتلفُوا فِي ناصبه
فمذهب سِيبَوَيْهٍ والمحقِّقين انَّه الْفِعْل الْمَذْكُور كَقَوْلِك (قُمْت وزيداً) فالناصب (قُمْت) لأنَّ الِاسْم مَنْصُوب وَالنّصب عمل وَلَا بدَّ للْعَمَل من عَامل و (الْوَاو) غير عاملة للنصب ولاشيء هُنَا يصلح للْعَمَل إلاَّ الْفِعْل
فإنْ قيل الْفِعْل هُنَا لَازم وَالْوَاو غير معدِّية لَهُ إِلَى الْمَنْصُوب قيل المتعدِّي إِلَى الِاسْم مَا تعلّق مَعْنَاهُ بِهِ وَالْوَاو علقّت الْفِعْل بِالِاسْمِ فَكَانَ الناصب هُوَ الْفِعْل بِوَاسِطَة الْوَاو كَمَا كَانَ الْفِعْل عَاملا فِي الْمُسْتَثْنى بِوَاسِطَة (إلاَّ) لأنَّها علَّقتْ الْفِعْل بِمَا بعْدهَا وَلم تصلح هِيَ للْعَمَل

(1/279)


وَقَالَ الزّجاج الناصب لَهُ فعل مَحْذُوف تَقْدِيره (قُمْت) أَو (لابست) أَو (صاحبت) زيدا وَلَا يعْمل الْفِعْل الْمَذْكُور لحيلولة الْوَاو بَينهمَا وَهَذَا ضَعِيف لأنَّ الْفِعْل الْمَذْكُور إِذا صحَّ أَن يعْمل لم يُجْعَل الْعَمَل لمَحْذُوف وَقد صحَّ بِمَا تقدَّم وأمَّا الْوَاو فَغير مَانِعَة لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّ بهَا ارْتبط الْفِعْل بِالِاسْمِ فأثَّر فِيهِ فِي الْمَعْنى فَلَا يمْنَع من تَأْثِيره فِيهِ لفظا وَالثَّانِي أنَّها فِي الْعَطف لَا تمنع كَقَوْلِك ضربت زيدا وعمراً فالناصب ل (عَمْرو) الْفِعْل الْمَذْكُور لَا الْوَاو وَلَا فعلٌ مَحْذُوف
وَقَالَ الكوفْيُّون ينْتَصب على الْخلاف وَقد أفسدناه فِي بَاب (مَا) وَمعنى كَلَامهم أنَّ الِاسْم الثَّانِي غير مشارك للأوَّل فِي الْفِعْل الْمَذْكُور فَلم يرفع لذَلِك بل نصب كَمَا ينصب الْمَفْعُول للْخلاف
وَقَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش ينْتَصب الِاسْم انتصاب الظروف لأنَّه نَاب عَن (مَعَ) كَمَا أنَّ (غيراً) فِي الِاسْتِثْنَاء تعرب إِعْرَاب الِاسْم الْوَاقِع بعد (إلاّ) وَهَذَا ضعيفٌ لبعد مَا بَين هَذِه الْأَسْمَاء وَبَين الظروف و (مَعَ) ظرف و (الْوَاو) قَائِمَة

(1/280)


مقَامهَا فِي الْمَعْنى فَإِذن لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يصلح أَن يكون ظرفا وَلَا فرق بَين تَقْوِيَة الْفِعْل بِحرف الجرِّ وَالْوَاو حتَّى يتَّصَل مَعْنَاهُ بِالِاسْمِ إلاَّ أنَّ حرف الجرِّ عمل وَالْوَاو لَا تعْمل فَكَانَ وُصُول الْفِعْل إِلَى الِاسْم بعد الْوَاو كعمل الْفِعْل فِي مَوضِع الجارّ وَالْمَجْرُور
فصل

وإنَّما حذفت (مَعَ) اختصاراً وتوسُّعاً وإنَّما أُقِيمَت مُقامها دون غَيرهَا لتقارب مَعْنَاهُمَا لأنَّ (مَعَ) للمصاحبة و (الْوَاو) للْجمع والاجتماع مصاحبة
فصل

وَالْفرق بَين الرّفْع وَالنّصب هُنَا انَّك إِذا رفعت كَانَ الِاسْم الثَّانِي كالاوَّل فِي نِسْبَة الْفِعْل إِلَيْهِ وَإِذا نصبت كَانَ الْفِعْل للأوَّل وَلَكِن تبعا للثَّانِي مِثَاله اذْهَبْ أَنْت وزيداً إِذا رفعت كنت آمراً لَهما بالذهاب وَإِن نصبت كنت آمراً للمخاطب دون زيد حتّى لَو لم يذهب زيدٌ لم يلْزم الْمُخَاطب الذّهاب وإنَّما يلْزمه مُتَابعَة زيد فِي الذّهاب
وَتقول كنت أَنا وَزيد أَخَوَيْنِ إِذا رفعت ثنَّيت الْخَبَر وَإِذا نصبت لم تجز الْمَسْأَلَة لأنَّك لَو صرَّحت ب (مَعَ) لم تجز التَّثْنِيَة كَقَوْلِك كنت مَعَ زيد أَخَوَيْنِ

(1/281)


فصل

ولايجوز تَقْدِيم الْمَفْعُول مَعَه على الْعَامِل فِيهِ وَلَا على الْفَاعِل كَقَوْلِك والخشبة اسْتَوَى المَاء واستوى والخشبة المَاء وإنَّ الْوَاو ولإنَّ كَانَت بِمَعْنى (مَعَ) فَمَعْنَى الْعَطف لَا يفارقها فَلَو قُدِّمت لتقدَّم الْمَعْطُوف على الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَذَلِكَ غير جَائِز فِي الِاخْتِيَار
فصل

وَإِذا لم يكن فى الْكَلَام فعلٌ لم يجز النصب فِيمَا بعد الْوَاو بِمَعْنى (مَعَ) لأنَّ الْوَاو مقويَّةٌ للْفِعْل حتَّى يصل إِلَى الِاسْم فَيعْمل فِيهِ فَإِذا لم يكن فعل لم يكن عَامل يقوَّي
وَقد أَجَازُوا النصب فِي موضِعين أَحدهمَا قَوْلهم مَا أَنْت وزيداً

(1/282)


وَالثَّانِي كنت أَنْت وزيداً فالرفع وَالنّصب فيهمَا جائزان فالرفع على تَقْدِير وَمَا زيد فإنَّما تَقول ذَلِك فِي الْمَنْع من التعُّرض بِهِ وَالنّصب على تقديرما تكون أَنْت وزيداً وَكَيف تكون أَنْت وزيداً فأضمروا (كَانَ) لِكَثْرَة دورها فِي الْكَلَام وَلذَلِك أضمروها فِي مَوَاضِع مِنْهَا إنْ خيرا فَخير
فصل

وَأكْثر الْبَصرِيين يذهب إِلَى أنَّ هَذَا الْبَاب مقيس لصحَّة الْمَعْنى فِيهِ وتصوُّر عَامل النصب وَامْتنع قوم مِنْهُم من الْقيَاس على المسموع مِنْهُ لأنَّ إِقَامَة الْحَرْف مقَام الِاسْم مَعَ اخْتِلَاف مَعْنَاهُمَا وعملهما غيرُ مقيُس فَيقْتَصر فِيهِ على السماع

(1/283)


بَاب

الْحَال

الحالُ مُؤَنّثَة لِقَوْلِك فِي تصغيرها (حويلة) وحقيقتها أنَّها هَيْئَة الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول وَقت وُقُوع الْفِعْل الْمَنْسُوب إِلَيْهِمَا
وَأَصلهَا أَن تكون اسماُ مُفردا لأنَّها تستحقُّ الْإِعْرَاب وكلُّ مُعرب مُفْرد وَالْأَفْعَال لَيست مُفْردَة وإنّما لزم أَن تكون نكرَة لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّها فِي الْمَعْنى خبر ثَان أَلا ترى أنَّ قَوْلك جَاءَ زيدٌ رَاكِبًا قد تضمَّن الْإِخْبَار بمجيء زيد وبركوبه حَال مَجِيئه وَالْأَصْل فِي الْخَبَر التنكير
وَالثَّانِي أنَّ الْحَال جَوَاب من قَالَ كَيفَ جَاءَ و (كَيفَ) سُؤال عَن نكرَة
وَالثَّالِث أنَّ الْحَال صفة للْفِعْل فِي الْمَعْنى لأنَّ قَوْلك جَاءَ زيد رَاكِبًا يُفِيد أنَّ مجئيه على هَيْئَة مَخْصُوصَة وَالْفِعْل نكرَة فصفته نكرَة

(1/284)


وإنَّما وَجب أنْ تكون مشتقَّة لأنَّها صفة وكلّ صفة مُشْتَقَّة فإنَّ وَقع الجامد حَالا فَهُوَ مَحْمُول على الْمَعْنى كَقَوْلِك هَذَا زيدٌ أسداً أَي شجاعاً جزئياً و {هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} أَي دالَّة معَّرفة وَكَذَلِكَ نَظَائِره
وإنَّما لزم أَن تكون منتقلة لأنَّها خبر فِي الْمَعْنى وَالْأَخْبَار تتجدَّد فيجهل المتجدِّد مِنْهَا فتمسّ الْحَاجة إِلَى الْأَعْلَام بِهِ
وإنَّما قدرت ب (فِي) لأنَّها مصاحبة للْفِعْل على مَا ذكرنَا والمصاحبة مُقَارنَة الزَّمَان وعلامة الزَّمَان (فِي) وإنَّما لزم أَن يكون صَاحبهَا معرفَة أَو كالمعرفة بِالصّفةِ لأنَّها كالخبر وَالْخَبَر عَن النكرَة غير جَائِز لأنَّه إِذا كَانَ نكرَة أمكن أَن تجْرِي مجْرى الْحَال صفة فَلَا حَاجَة إِلَى مخالفتها إيَّاه فِي الْإِعْرَاب
وَقد جَاءَت أَشْيَاء تخَالف مأصَّلنا رُدَّت بالتأوليل إِلَى هَذِه الْأُصُول فَمن ذَلِك وُقُوع الْحَال معرفَة كَقَوْلِهِم 53 -
(أرسلها العراك ... ) // الوافر //

(1/285)


وَالتَّحْقِيق أنَّ هَذَا نَائِب عَن الْحَال وَلَيْسَ بهَا بل التَّقْدِير أرسلها معتركةً ثمَّ جعل الْفِعْل مَوضِع اسْم الْفَاعِل لمشابهته إيْاه فَصَارَ (تعترك) ثمَّ جعل الْمصدر مَوضِع الْفِعْل لدلالته عَلَيْهِ ويدلُّ على ذَلِك أنَّ الْحَال وصفٌ وصيغ الْأَوْصَاف غيرُ صِيَغ المصادر
وَمن ذَلِك رَجَعَ عودُه على بدئه فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة الرّفْع وَالنّصب فَفِي الرّفْع وَجْهَان
أحدُهما هُوَ فَاعل _ رَجَعَ) وَالثَّانِي هُوَ مُبْتَدأ و (على بدئه) الْخَبَر وأمَّا النصب فَفِيهِ قَولَانِ
أحدُهما هُوَ مفعول بِهِ أَي ردّ عوده وَأَعَادَهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {فإنْ رجَعَك اللهُ}
وَالثَّانِي هُوَ حَال وَالتَّقْدِير رَجَعَ عَائِدًا ثمَّ يعود ثَّم عوده كَمَا تقدَّم وَمثل ذَلِك افعله جهدك أَي مُجْتَهدا ثَّم يجْتَهد قثَّم ثمَّ جهدك

(1/286)


وَمن ذَلِك كلَّمته فَاه إِلَى فيَّ تَقْدِيره مكافحاً أَو مشافهاً ثمَّ حذف هَذَا وَجعل (فَاه إِلَى فيَّ) نائباعنه وَيجوز (فوه إِلَى فيَّ) والجمله على هَذَا حَال
وَمن ذَلِك مَجِيء صَاحب الْحَال نكره كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث ((فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فرس سَابِقًا) فِي قَول من جعله حَالا من الْفرس فإنْ كَانَت الرِّوَايَة هَكَذَا أمكن أَن يكون (سَابِقًا) حَالا من الْفَاعِل وإنْ كَانَت الرِّوَايَة لَا يُمكن فِيهَا ذَلِك حُمل على مَجِيء الْحَال من النكرَة وَالْفرق بَينهَا وَبَين الصّفة أنّك لَو قلت على فرس سَابق فجررت جَازَ أَن يكون مَعْرُوفا بِالسَّبقِ وَلَا يكون سَابِقًا فِي تِلْكَ الْحَال وإنْ نصبت لزم أَن يكون سبق فِي تِلْكَ الْحَال

(1/287)


وَمن ذَلِك وُقُوع الجامد حَالا كَقَوْلِك بيَّنت لَهُ حسابه بَابا بَابا وَالتَّقْدِير بيَّنته مفصلا
وَمن ذَلِك الحالُ الْمُؤَكّدَة كَقَوْلِه تَعَالَى {وَهُوَ الحقّ مُصدقا لما مَعَهم} وَقَول الشَّاعِر 54 -
(أناابنُ دارةَ مَعْروفاً بهَا نَسَبي ... فَهَل بدارةَ ياللنَّاسِ مِنْ عارِ) // الْبَسِيط // وإنَّما كَانَت هَذِه الْحَال مؤكّدة لِأَن الْحق لَا يكون إلاَّ مصدِّقاَّ للحق وإنَّما جِيءَ بهَا لشدَّة توكيد الحقّ بالتصريح الْمُغنِي عَن الاستنباط وَالْعَامِل فِي هَذِه الْحَال مَا فِي الْجُمْلَة من معنى الْفِعْل تَقْدِيره وَهُوَ الثَّابِت مصدَقِّا وَصَاحب الْحَال الضَّمِير فِي ثَابت
فصل

وَالْعَامِل فِي الْحَال ضَرْبَان فعلٌ وَمعنى فعل فالفعل مثل أقبل وَجَاء وَنَحْوهمَا فَهَذَا يجوز فِيهِ تَقْدِيم الْحَال على صَاحبهَا وعَلى الْعَامِل فِيهِ لأنَّ الْعَامِل

(1/288)


قويّ متصرّف وَالْحَال كالمفعول وَقَالَ الفرَّاء لَا يجوز تَقْدِيمهَا لما يلْزم من تَقْدِيم الضَّمِير على مَا يرجع إِلَيْهِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لأنَّ النيَّة بِهِ التَّأْخِير فَيصير كَقَوْلِهِم فِي أَكْفَانه لُفَّ الْمَيِّت وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فَأوْجَسَ فِي نَفسه خيفة مُوسَى}
وأمَّا الْعَامِل المعنويّ فكأسماء الْإِشَارَة كَقَوْلِك هَذَا زيد قَائِما وإنَّما عمل لأنَّ مَعْنَاهُ أُنَبِّهُ وأشير إِلَيْهِ فِي حَال قِيَامه وَلَا يتَقَدَّم الْحَال على هَذَا الْعَامِل لأنَّه غير متصرف والتقديم تصُّرف فَلَا يُسْتَفَاد بِغَيْر متصِّرف
وَأما تَقْدِيمهَا على صَاحب الْحَال فَجَائِز كَقَوْلِك هَذَا قَائِما زيد لأنَّها بعد الْعَامِل فإنْ قيل هلاَّ عملت أَسمَاء الأشارة فِي الْمَفْعُول بِهِ قيل الْمَفْعُول بِهِ غير الْفَاعِل فَلَو عملت فِيهِ أَسمَاء الْإِشَارَة بمعناها لعملت فِيهِ جَمِيع الْحُرُوف نَحْو (مَا) و (همزَة الِاسْتِفْهَام) وَمَعْلُوم أنَّها لَا تعْمل فِيهِ والعلَّة فِي ذَلِك أنَّ معنى الْحَرْف فِي

(1/289)


الِاسْم فَلَو عمل فِيهِ بِمَعْنَاهُ لصار الْعَامِل فِي الِاسْم الْمَعْنى الْقَائِم بِهِ ولأنَّ الْحُرُوف نابت عَن الْجمل فَلَو عملت كَانَت كَالْجمَلِ
فأمَّا عمل الْمَعْنى فِي الْحَال فلأنَّها تشبه الظّرْف إِذْ كَانَت تقدّر ب (فِي) إلاَّ أنَّ الظّرْف قد يتَقَدَّم على الْعَامِل المعنويّ بِخِلَاف الْحَال وَالْفرق بَينهمَا من وَجْهَيْن أحدُهما أنَّ الْحَال تشبه الْمَفْعُول بِهِ إِذْ كَانَت ظرفا على الْحَقِيقَة وَالثَّانِي أنَّها تشبه الصّفة وَالْعَامِل فِي الصّفة هُوَ الْعَامِل فِي الْمَوْصُوف والموصوف إمَّا فَاعل وإمَّا مفعول بِهِ
فصل

فأمَّا تَقْدِيم الْحَال على الْعَامِل إِذا كَانَ ظرفا فقد أجَازه أَبُو الْحسن بِشَرْط تقدُّم الْمُبْتَدَأ عَلَيْهَا كَقَوْلِك زيد قَائِما فِي الدَّار وَتقدم الظّرْف عَلَيْهِمَا كَقَوْلِك فِي الدَّار قَائِما زيد وَلَا يجوز عِنْد الْجَمِيع قَائِما زيدٌ فِي الدَّار وَلَا قَائِما فِي الدَّار زيد واحتجّ بشيئين
أحدُهما أنّ تَقْدِيم أحد الجزئين كتقديمهما لتوقّف الْمَعْنى عَلَيْهِمَا
وَالثَّانِي أنّ الظّرْف متعلّق بِالْفِعْلِ فكأنّ الْفِعْل ملفوظ بِهِ

(1/290)


وَالْجَوَاب أنّ الظّرْف على كلّ حَال غير عَامل بِلَفْظِهِ فَصَارَ كأسماء الْإِشَارَة وتقدّم أحد الجزئين لَا يُخرجهُ عَن أَن يكون معنويّاً وَأَن التَّقْدِيم تصرّف والظروف لَا تصرّف لَهَا ثمَّ هُوَ بَاطِل بِقَوْلِك زيد قَائِما هَذَا إِذا جعلت (زيدا) مُبْتَدأ و (هَذَا) خَبره وأمَّا تعلّقه بِالْفِعْلِ فَلَا يُوجب جَوَاز التَّقْدِيم لأنّ الْعَمَل للظرف لالذلك الْفِعْل وَرُبمَا قيل إنّ عمل الظّرْف أَضْعَف من عمل معنى الْإِشَارَة لأنّ الْفِعْل يصحّ إِظْهَاره مَعَ الظّرْف فتبيّن أنّ الْعَمَل للْفِعْل وأمَّا معنى الْإِشَارَة فَلَا يجْتَمع مَعَ اسْم الْإِشَارَة فَصَارَ اسْم الْإِشَارَة بِمَنْزِلَة نفس الْعَامِل
فصل

وَلَا يجوز تَقْدِيم حَال الْمَجْرُور عَلَيْهِ لأنَّ الْعَامِل فِي الْحَال هُوَ الْعَامِل فِي صَاحب الْحَال وَالْعَامِل فِي صَاحبهَا هُوَ الْحَرْف المعلّق بِالْفِعْلِ فَصَارَ كالشيء الْوَاحِد فتقديمها على الجارّ يفصل بَين الْفِعْل والحرف ولأنّ حرف الجرّ لَا تصرّف لَهُ وَهُوَ الْعَامِل فِي صَاحب الْحَال وَلَيْسَ لَهُ معنى يعْمل بِهِ فَامْتنعَ قَوْلك (مَرَرْت قَائِما بزيد) و (قَائِما مَرَرْت بزيد) وَالْقِيَام لزيد

(1/291)


وَقَالَ بعض النحويّين يجوز تَقْدِيمهَا عَلَيْهِ واحتّج بقوله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلاّ كافّةً للنَّاس} وَبقول الشَّاعِر 55 -
(فإنْ تكُ أذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ يذْهبوا فَرْعاً بقتلِ حبالِ) // الطَّوِيل // أَي بقتل حبال فَزْعاً أَي هدرا وَالْجَوَاب أمّا (كافّة) فحال من الْكَاف لَا من النَّاس وَالْهَاء فِيهَا للْمُبَالَغَة وَالتَّقْدِير مَا ارسلناك إلاّ كافّةً للنَّاس كفرهم وأمَّا (فرغا) فحالٌ من الْفَاعِل أَي فَلَنْ يذهبوا ذَوي فرغ
فصل

الْعَامِل الْوَاحِد يعْمل فِي أَكثر من حَال كَقَوْلِك جَاءَ زيدٌ رَاكِبًا ضَاحِكا لأنَّ الْحَال كالظرف وَالْعَامِل قد يعْمل فِي ظرفين من الْمَكَان وَالزَّمَان وَالْمعْنَى لَا يتناقض وَقَالَ البصرييَّن لَا يعْمل إِلَّا فِي وَاحِدَة لأنَّها مشبَّهه بالمفعول وَالْفِعْل لَا يعْمل

(1/292)


فِي مفعولين فَصَاعِدا على هَذَا الحدّ فَإِن وَقع ذَلِك جعلت الْحَال الثَّانِيَة بَدَلا من الأولى أَو حَالا من الْمُضمر فِيهَا
فصل

الْفِعْل الْمَاضِي لايكون حَالا إلاَّ ب (قد) مظهرة أَو مضمرة كَقَوْلِك جَاءَ زيد ركب لأنَّ الْحَال إمَّا مُقَارنَة أَو منتظرة والماضي مُنْقَطع عَن زمن الْعَامِل وَلَيْسَ بهيئة فِي ذَلِك الزَّمَان و (قد) تقربه من الْحَال وَقَالَ الكوفيُّون يجوز ذَلِك لأنَّ أَكثر مَا فِيهِ أنَّها غير مَوْجُودَة فِي زمَان الْفِعْل وَذَلِكَ لَا يمْنَع لَا تمنع الْحَال المقدَّرة
وَالْجَوَاب أنَّ الْفرق بَينهمَا أنَّ الْحَال والاستقبال متقاربان لأنَّ المنتظر يصير إِلَى الْحَال وَلذَلِك احتملها الْفِعْل الْمُضَارع والماضي مُنْقَطع بالكلِّية فأمّا قَوْله تَعَالَى

(1/293)


{أَو جاؤوكم حصرت صُدُورهمْ} فَقيل التَّقْدِير قوما حصرت فالفعل صفة لَا حَال وَقيل هُوَ دُعَاء مُسْتَأْنف وَقيل لَفظه مَاض وَالْمعْنَى على المضارعة أَي جاؤوكم تحصر صُدُورهمْ لِأَن الْحصْر كَانَ مَوْجُودا وَقت مجيئهم فحقه أنّ يعبّر عَنهُ بِفعل الْحَال وَقيل التَّقْدِير قد حصرت
فصل

وَالْأَحْوَال أَرْبَعَة منتقلة مُقَارنَة كَقَوْلِك جَاءَ زيد رَاكِبًا لانّ الرّكُوب قَارن الْمَجِيء وَلَيْسَ بِلَازِم لمجيئه إذْ من الْجَائِز أَن يَجِيء مَاشِيا ومقارنة غير منتقلة وَهِي الْمُؤَكّدَة كَقَوْلِه تَعَالَى {وَهُوَ الحقّ مصدّقاً لما مَعَهم} فالتصديق للحق مقارنٌ للحقِّ وَغير منتقل عَنهُ وَالْعَامِل فِي هَذِه الْحَال معنى الْجُمْلَة كَأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الثَّابِت مصدَّقاً وَحَال منتقلة غير مُقَارنَة بل منتظرة كَقَوْلِك مَرَرْت بِرَجُل مَعَه صقر

(1/294)


صائداً بِهِ غَدا فالصيد غير مُقَارن لمرورك بل مقدَّر لأنَّه كَانَ متهيئا لذَلِك فَعبر عَن المَال بِالْحَال وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وخرُّوا لَهُ سُجَّداً} وحالٌ موطّئة للْحَال الْحَقِيقِيَّة كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد رجلا صَالحا ف (رجلا) موّطئ للْحَال وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد صرَّفنا فِي هَذَا الْقُرْآن} ثَّم قَالَ {قُرآناً عربيّاً}

(1/295)


بَاب

التَّمْيِيز

وَهُوَ تَخْلِيص الْأَجْنَاس بَعْضهَا من بعض وَيُسمى الْبَيَان والتبيين وَالتَّفْسِير والممَّيز هُوَ الِاسْم المحصل لهَذَا الْمَعْنى وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ جمع ومفرد فالجمع ضَرْبَان مجرور ومنصوب فالمجرور مَا يُضَاف إِلَيْهِ الْعدَد من ثَلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَيكون نكرَة وَمَعْرِفَة نَحْو ثَلَاثَة أَثوَاب وَثَلَاثَة الاثواب ونبين علَّة كَونه جمعا فِي بَاب الْعدَد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وأمَّا الْمَنْصُوب الْمَجْمُوع فالواقع بعد اسْم الْفَاعِل الْمَجْمُوع كَقَوْلِه {بالأخسرين أعمالاً} وأمَّا الْمُفْرد فعلى ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا مَنْصُوب وَهُوَ الْوَاقِع بعد (أحد عشر) إِلَى (تِسْعَة وَتِسْعين) والاصل فِي ذَلِك أَن يَأْتِي ب (مِنْ) وَالْجمع المعرّف بِاللَّامِ كَقَوْلِك عشرُون من الدَّرَاهِم ف (من) تجمع هُنَا التَّبْعِيض وَبَيَان الْجِنْس وَالْألف وَاللَّام مَعَ الْجمع للاستغراق وَكَذَلِكَ الْمَعْنى لأنَّ قَوْلك عِنْدِي عشرُون مُبْهَم فِي

(1/296)


كلّ مَعْدُود وَهِي بعض ذَلِك الْمَعْدُود فَإِذا اردت بَيَان جِنْسهَا قلت (من الدَّرَاهِم) و (من الغلمان) إِلَّا انهم حذفوا مِنْ وَالْألف وَاللَّام واقتصروا على وَاحِد منكور من الْجِنْس لحُصُول الْغَرَض بِهِ مَعَ الِاخْتِصَار
فصل

وَالْعَامِل فِي هَذَا الِاسْم (عشرُون) وَنَحْوهَا لأنَّه اشبه اسْم الْفَاعِل المتعدّي لأنَّه مَجْمُوع بِالْوَاو وَالنُّون ونونه تسْقط فِي الْإِضَافَة وَهُوَ مفتقر إِلَى الِاسْم الَّذِي بعده فَصَارَ (عشرُون درهما) مثل (ضاربون رجلا) فَهُوَ مشبه بالمفعول بِهِ
فصل

وأمَّا (أحد عشر) إِلَى (تِسْعَة عشر) فإنَّه يشبه (عشْرين) فِي أنَّه عدد مُبْهَم وأنَّ إِضَافَته ممتنعة لِأَن الِاسْم الثَّانِي صَار ك (النُّون) فِي (عشرُون) إِذْ كَانَ تَمامًا لَهُ ولانَّ الْمركب أَصله التَّنْوِين كَقَوْلِك خَمْسَة وَعشرَة وَبعد التَّرْكِيب لم يبطل

(1/297)


معنى التَّنْوِين مَعَ وجود التَّنْوِين أَو النُّون يلْزم نصب الْمُمَيز فَكَذَلِك مَعَ مَا يقوم مقَامه
فصل

وَكَذَلِكَ كلّ منّون يفْتَقر إِلَى ممّيز كَقَوْلِك (هَذَا راقودٌ خلا) لأنَّ التَّنْوِين يمْنَع الْإِضَافَة فإنْ أضفت فَقلت (رَطْل ذهب) احْتمل أَن يكون بِمَعْنى (اللَّام) وَبِمَعْنى (مِنْ) وأذا نصبت لم تكن إلاَّ بِمَعْنى (مِنْ) لأنَّها الْمَوْضُوعَة للتبيين وَكَذَلِكَ النُّون فِي (منوان وقفيزان)
فصل

فأمَّا الْمُضَاف كَقَوْلِك لله درّه شجاعاً وعَلى التمرة مثلُها زبداً وَمَا فِي السَّمَاء قدر راحةٍ سحاباً فَكل هَذَا ينْتَصب فِيهِ المميّز بِمَا قبله لشبهه بالمنوَّن الْمُبْهم لأنَّ مثل التمرة قد يكون زبدا أَو غَيره والمضاف إِلَيْهِ يمْنَع إِضَافَة مثل إِلَى الزّبد وَهُوَ مِقْدَار كَمَا أنَّ (عشْرين) مِقْدَار وَقيل التَّقْدِير على التمرة زبْدٌ مثلهَا فَلَمَّا أَخَّرته انتصب لأنَّك جعلته فضلَة كَمَا فِي قَوْلك طبت بِهِ نفسا

(1/298)


فصل

وَمن ذَلِك هُوَ أحسن النَّاس وَجها فأمَّا هُوَ أحسن مِنْك وَجها ف (مِنْك) جرى مجْرى الْمُضَاف إِلَيْهِ لأنَّه مُبين لَهُ وتتَّمة ومعمول لَهُ
فصل

وَإِذا قلت زيدٌ أفره عبدٍ فجررت كَانَ (زيد) عبدا لأنَّ أفعل لَا تُضَاف إلاَّ إِلَى مَا هِيَ بعضُه وَالْأَصْل زيدٌ أفره العبيد فاختصر وأنْ نصبت فَقلت أفره عبدا لم يكن زيٌد عبدا بل كَانَ العبيدُ لَهُ وَالْوَصْف فِي الْمَعْنى لعبيده أَي عبيده أفره العبيد كَمَا تَقول هوأكثر مَالا وَأَقل شرّاً
فصل

وَمن التَّمْيِيز طبت بِهِ نفسا ف (نفسا) مَنْصُوب بِالْفِعْلِ وَأَصله طابت نَفسِي بِهِ ثَّم أردْت الْمُبَالغَة فنسبت الطّيب إِلَيْك فَجعلت مَا كَانَ مُضَافا إِلَيْهِ فَاعِلا
فَحدث من أجل ذَلِك إِبْهَام فَأمكن أَن يكون طبت بِهِ نسبا وعرضاً وثوباً وذكراً فَإِذا قلت (نفسا) بيَّنت الطيَب إِلَى أيّ شَيْء هومنسوب فِي الْحَقِيقَة وانتصاب (نفس) على تَشْبِيه اللَّازِم بالمتعدي لأنَّ (طبت) لَا تتعدَّى

(1/299)


فصل

وَلَا يحوز تَقْدِيم الْمَنْصُوب هُنَا على الْفِعْل وَقَالَ المازنيّ والمبرّد والكوفَّيون هُوَ جَائِز كَقَوْلِك نفسا طبت بِهِ
وحجَّة الأوَّلين أنَّ الْمَنْصُوب هُنَا فَاعل فِي الْمَعْنى وَإِنَّمَا حول عَن ذَلِك وَنسب الْفِعْل إِلَى الْمُضَاف إِلَيْهِ مُبَالغَة ثَّم ميزَّ بِذكر مَا هُوَ فَاعل فِي الأَصْل فَلَو قدم لصار كتقديم الْفَاعِل على الْفِعْل وَذَلِكَ بَاطِل كَذَلِك هَهُنَا ويدلّ عَلَيْهِ أنَّه مُمَيّز فَلم يتَقَدَّم على الْعَامِل فِيهِ كالمميز فِي (نعم) وَفِي (الْأَعْدَاد) واحتجّ الْآخرُونَ بقول الشَّاعِر 56 -
(أتهجرُ ليلى للفراق حبيبها ... وَمَا كَانَ نفسا بالفراق يطيب) // الطَّوِيل // وَقَالُوا لأنَّ الْعَامِل فِي هَذَا الْمَنْصُوب فعل متصرف فَجَاز تَقْدِيمه عَلَيْهِ كالحال

(1/300)


وَالْجَوَاب عَن الْبَيْت من ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أنَّ الرِّوَايَة (وَمَا كَانَ نَفسِي) فَهُوَ اسْم كَانَ
وَالثَّانِي أنَّ نَصبه على أنَّه خبر كَانَ أَي مَا كَانَ حبيبها نفسا أَي إنْسَانا يطيب بالفراق
وَالثَّالِث أنَّه من ضَرُورَة الشعرفلا يحْتَج بِهِ على الْإِعْرَاب فِي الِاخْتِيَار وأمَّا الْقيَاس على الْحَال ففاسدلأن الْحَال فضلَة مخصة والمميز هُنَا فِي حكم اللَّازِم وَهُوَ الْفَاعِل فَافْتَرقَا فأمَّا تَقْدِيم المميَّز على الْفَاعِل نَحْو مَا طَابَ نفسا زيدٌ فَجَائِز لتقدم الْفِعْل عَلَيْهِ

(1/301)


بَاب

الِاسْتِثْنَاء

وَهُوَ استفعال من (ثنيت عَلَيْهِ) أَي عطفت والتفت لِأَن الْمخْرج لبَعض الْجُمْلَة مِنْهَا عاطف عَلَيْهَا باقتطاع بَعْضهَا عَن الحكم الْمَذْكُور وَحده أنَّه إِخْرَاج بعض من كل ب (إلاَّ) أَو مَا قَامَ مقَامهَا وَقيل هُوَ إِخْرَاج مَا لَوْلَا إِخْرَاجه لتنَاوله الحكم الْمَذْكُور
فصل

وأصل أدوات الِاسْتِثْنَاء (إلاَّ) لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّها حرف والموضوع لأفادة الْمعَانِي الْحُرُوف كالنفي والاستفهام والنداء وَالثَّانِي أنَّها تقع فِي جَمِيع ابواب الِاسْتِثْنَاء للاستثناء فَقَط وَغَيرهَا يَقع فِي أمكنة مَخْصُوصَة مِنْهَا وَيسْتَعْمل فِي أَبْوَاب أخر

(1/302)


فصل

والمستثنى من مُوجب ب (إلاَّ) مَنْصُوب بِالْفِعْلِ الْمُقدم وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِوَاسِطَة (إلاَّ) وَرُوِيَ عَن الزَّجاج أنَّ نَصبه ب (إلاَّ) لانّها فِي معنى أستثني وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ (إلاَّ) مركَّبة من (إنَّ) و (لَا) فَإِذا نصبت كَانَ ب (إنَّ) وأذا رفعت كَانَ ب (لَا) وَحجَّة الأوَّلين أنَّ الْفِعْل هُوَ الاصل فِي الْعَمَل إلاَّ انّ الْفِعْل هُنَا لَا يصل إِلَى الْمُسْتَثْنى بِنَفسِهِ وب (إلاَّ) وصل إِلَيْهِ فَصَارَ كواو (مَعَ) وكحروف الْجَرّ ويدلَّ عَلَيْهِ أنَّ (غيراً) فِي الِاسْتِثْنَاء مَنْصُوبَة بِالْفِعْلِ من غير وَاسِطَة لّمَّا كَانَت مُبْهمَة كالظرف واتَّصل الْفِعْل بهَا بِنَفسِهِ وَلَيْسَ ثَّم مَا يَصح عمله فِيهَا إلاَّ الْفِعْل وأمَّا الزّجاج فَيبْطل مذْهبه من أوجه أَحدهَا مَا ذَكرْنَاهُ من (غير) وَلَا يَصح مَعهَا تَقْدِير (أسنتني) لأنّه يصير (زيد) دَاخِلا فِي حكم الأول وَغَيره مخرجا مِنْهُ وَهَذَا معنى فَاسد

(1/303)


وَالثَّانِي أَن إِعْمَال الْحُرُوف بمعانيها غير مطرد أَلا ترى أَن (مَا) النافية وهمزة الِاسْتِفْهَام وَغَيرهمَا لَا تعْمل بمعانيها وَكَذَلِكَ إِلَّا وَالثَّالِث أَنه لَيْسَ تَقْدِير (إِلَّا) ب (أستثني) أولى من تقديرها ب (تخلَّف) أَو (امْتنع) وَنَحْوهمَا مِمَّا يرفع وَالرَّابِع أَن الْمُسْتَثْنى يرفع فِي مَوَاضِع مَعَ وجود (إِلَّا) فِي الْجَمِيع فَلَو قدرت ب (أستثني) لما جَازَ إِلَّا النصب وَالْخَامِس أَنا إِذا قَدرنَا (أستثني) صَار الْكَلَام جملتين وَتَقْدِيره بِالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَة أولى وَأما مَذْهَب الْفراء فَيبْطل من ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أنَّ دَعْوَى التَّرْكِيب فِيهَا خلاف الأَصْل فَلَا يُصَار إِلَيْهِ إلاَّ بِدَلِيل ظَاهر وَلَا دَلِيل بِحَال وَالثَّانِي أنَّه لَو سلم ذَلِك لم يلْزم بَقَاء حكم وَاحِد من المفرديين كَمَا فِي (لَوْلَا) و (وَكَأن) لَا بِدَلِيل ظَاهر وَلَا دَلِيل بِحَال وَالثَّانِي أنَّه لَو سلم ذَلِك لم يلْزم بَقَاء حكم وَاحِد من المفردين كَمَا فِي (لَوْلَا) وكأنَّ وَغَيرهمَا لأنَّ التَّرْكِيب يحدث معنى لم يكن وبحدوثه يبطل الْعَمَل

(1/304)


وَالثَّالِث أنَّ النصب ب (إنَّ) فَاسد لأنَّها إِذا نصبت افْتَقَرت إِلَى خبر وَلَا خبر و (لَا) لَا تعْمل الرّفْع وَلَو عملت لافتقرت إِلَى خبر أَيْضا
فصل

وَالْبدل فِي النَّفْي بعد تَمام الْكَلَام أوْلى لأمرين
أَحدهمَا أَن الْعَمَل فيهمَا وَاحِد وَهُوَ أولى من اخْتِلَاف الْعَمَل
وَالثَّانِي أنَّك إِذا جعلته بَدَلا كَانَ لَازِما فِي الْجُمْلَة كَمَا أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَذَلِك وَهُوَ أوْلى من جعله فضلَة إِذْ كَانَ الِاسْتِثْنَاء لَازِما فِي الْمَعْنى الْمَطْلُوب فَيكون اللَّفْظ كَذَلِك
فصل

وَإِنَّمَا لم يجز الْبَدَل فِي الْمُوجب لفساد مَعْنَاهُ وَذَلِكَ انَّ (إلاّ) يُخَالف مَا بعْدهَا مَا قبلهَا وَإِذا قلت قَامَ الْقَوْم إلاَّ زيد كَانَ كَقَوْلِك قَامَ إلاّ زيد ف (زيد) إنْ جعلته فِي الْمَعْنى قَائِما لم يكن ل (إلاَّ) معنى وإنْ نفيت عَنهُ الْقيام احتجت إِلَى تَقْدِير فَاعل وَلَا يَصح لأنَّه يصير قَامَ كلَّ وَاحِد وَهَذَا محَال

(1/305)


فصل

وَلَا يجوز عِنْد جُمْهُور النَّحْوِيين أَن يكون الْمُسْتَثْنى أَكثر الْجُمْلَة مثلله عليّ عشرَة إلاَّ سِتَّة أوجه أَحدهَا أنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي الاصل دخل الْكَلَام للاختصار أَو للْجَهْل بِالْعدَدِ كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم إلاَّ فاستثناء (زيد) كَانَ للْجَهْل بِعَدَد من قَامَ مِنْهُم أَو للاطالة بتعديدهم وَلَا شبه أنَّ قَوْله عليَّ أَرْبَعَة أحضر من قَوْله عشرَة إِلَّا سِتَّة فَإِن قلت فعشرة إلاَّ أَرْبَعَة جَائِز معنى مَعَ أنَّ (ستّة) أَخْضَر قيل جَازَ للمعنى الآخر وَهُوَ الْجَهْل فأنَّه قد يعرف الْعدَد الْقَلِيل وَلَا يعرف الْكثير وَإِذا الْكثير عرف الْقَلِيل هَذَا هُوَ الأَصْل وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ التَّعْبِير عَن الْأَكْثَر جَائِز فَدخل الِاسْتِثْنَاء ليرْفَع الاحتم الوتعيينه للاكثر وَهُوَ عكس التوكيد لِأَنَّهُ يُعينهُ للْكُلّ وَيمْنَع من حمله على الْأَكْثَر كَقَوْلِهِم قَامَ الْقَوْم كلهم

(1/306)


فصل

وَإِنَّمَا يخْتَار النصب دون الْبَدَل فِي غير الْجِنْس لِأَن الْبَدَل فِي حكم الْمُبدل مِنْهُ فِيمَا ينْسب إِلَيْهِ وَفِي أَنه يسْقط الأول وَيقوم الثَّانِي مقَامه فَعِنْدَ ذَلِك يصير أصلا فِي الْجُمْلَة وَكَونه من غير الْجِنْس لَا يلْزم ذكره لِأَن اللَّفْظ الأول لَا يشْتَمل عَلَيْهِ حَتَّى يخرج بِالِاسْتِثْنَاءِ فيتمحض فضلَة فِي الْمَعْنى فَيجْعَل صفة فِي اللَّفْظ وَهُوَ كَقَوْلِك مَا بِالدَّار أحد إِلَّا وتداً وَمن اخْتَار الْبَدَل رَاعى اللَّفْظ وَفَائِدَة اسْتثِْنَاء غير الْجِنْس ثَلَاثَة أَشْيَاء الْإِعْلَام بِعُمُوم الأول وَأَن الثَّانِي من آثَار الأول وَإِثْبَات مَا كَانَ يحْتَمل نَفْيه
فصل

وَمِمَّا قَامَ مقَام إِلَّا من الْأَفْعَال (لَيْسَ) و (لَا يكون) و (عدا) وَمَا بعدهن مَنْصُوب وَإِنَّمَا دخلت هَذِه الْأَفْعَال فِي الإستثناء لما فِيهَا من معنى النَّفْي وَمَا بعد (لَيْسَ) و (لَا يكون) خبر لَهما كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم لَيْسَ زيدا أَي لَيْسَ بَعضهم زيدا وَالضَّمِير هَهُنَا يُوجد على كل حَال لِأَنَّهُ ضمير (بعض) و (لَا يكون) إسمها مظْهرا هُنَا للإختصار و (لَا يكون) ك (إلاَّ) فِي أَنه لَيْسَ بعْدهَا سوى الْمَنْصُوب وَلذَلِك لَا يجوز الْعَطف على الْمَنْصُوب بهَا فَلَا تَقول جَاءَ الْقَوْم لَيْسَ زيدا وَلَا عمرا

(1/307)


وأمَّا (مَا عدا) و (مَا خلا) فأفعال كلهَا لِأَنَّهَا صلات ل (مَا) وَلَا تكون الْحُرُوف صلَة وَالْفَاعِل فِيهَا مُضْمر وَمَوْضِع مَا وصلتها حَال كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم مَا عدا زيدا أَي عدوَّ زيد والمصدر هُنَا حَال أَي متجاوزين زيدا
فصل

وإنّما تعين النصب فِي الْمُسْتَثْنى إِذا تقدَّم وَلم يجز البدلُ لانَّ الْبَدَل تَابع للمبدل مِنْهُ كالصفة والتوكيد وكما لَا يجوز تقديمهما لئلاّ يصيرا فِي مَوضِع الْمَتْبُوع كَذَلِك هُنَا فَيجب أَن يخرج مخرج الفضلات ليَكُون فِي لَفظه دلَالَة على أنَّه لَيْسَ بِأَصْل
فصل

وإنَّما أعربت (غير) إِعْرَاب الِاسْم الْوَاقِع بعد (إلاَّ) لأنَّها اسْم تلْزمهُ الْإِضَافَة فَمن حَيْثُ كَانَت اسْما يجب ان تُعْرب وَمن حَيْثُ أضيفت يحب أَن يكون [مَا بعْدهَا مجرورا وَيجب أَن يكون] إعرابها إِعْرَاب الِاسْم الْمُسْتَثْنى لأنَّها اسمٌ فِي حيَّز الْمُسْتَثْنى وَلم يحتّج إِلَى حرف مقّو لإبهامها وَشبههَا بالظرف فيصل الْفِعْل إِلَيْهَا بِنَفسِهِ

(1/308)


فصل

وأمّا (سوى) فَهِيَ ظرف فِي الأَصْل وَلَا تسْتَعْمل فِي الِاسْتِثْنَاء إلاَّ مَنْصُوبَة إِذا وَقعت بعد تَمام الْكَلَام ليتوفرَّ عَلَيْهَا حكم الظروف وَقد جَاءَت غير ظرف قَلِيلا
فصل

وأمَّا (حاشا) فمذهب أَكثر الْبَصرِيين أنَّها حرف جرّ وَقد جَاءَ ذَلِك فِي الشّعْر
وَقَالَ المبِّرد والكوفيَّون هِيَ فعل لِأَشْيَاء أَحدهَا تصرَّفها نَحْو (أحاشي ومحاشى) وَأَصلهَا من حَاشِيَة الشَّيْء أَي طرفه فقولك قَامَ الْقَوْم حاشا زيدا أَي صَار فِي حَاشِيَة وناحية عَنْهُم والحروف لَا تتّصرف وَالثَّانِي أنَّ الْحَذف يدخلهَا قَالُوا حاش لله وَحش لله

(1/309)


وَالثَّالِث أنَّ حرف الجرّ يتعلّق بهَا كَقَوْلِك (حاشا لله) وَذَلِكَ من خَصَائِص الْأَفْعَال وَالْجَوَاب أمَّا التصَّرف فَلَيْسَ على مَا ذكر فأمَّا (حاشا) فمشتق من لفظ الْحَرْف كَمَا قَالُوا سَأَلته حَاجَة فلولا أَي قَالَ لَوْلَا كَذَا لفَعَلت كَذَا وَقَالُوا هلّل أَي قَالَ لَا اله الا الله وبسمل أَي قَالَ بِسم الله وَهُوَ كثير
فامَّا الْحَذف فقد دخل الْحُرُوف قَالُوا فِي ربَّ (رُبّ) وَفِي سَوف (سَوْ) وَفِي لعلَّ (علَّ) فِي أحد المذهبين وأمَّا اللَّام فِي (لله) فزائدة وَلَا تعلق بِشَيْء ويدلك عَلَيْهِ قَوْلك جَاءَ الْقَوْم حاشا زيد بِغَيْر لَام وَلم يُقَلْ إِن اللَّام محذوفة
فصل

وأمَّا (خلا) فقد جرَّ بهَا قوم وَنصب بهَا آخَرُونَ وجعلوها فعلا من (خلا

(1/310)


يَخْلُو) وأمَّا (عدا) فَمثل خلا وأمَّا (ماخلا) و (مَا عدا) ففعلان لما تقدَّم فِي مَوْضِعه وَأَجَازَ أَبُو عليّ فِي كتاب الشّعْر أَن تكون (مَا) فِي (مَا عدا) زَائِدَة فتجرّ مَا بعْدهَا وَتَابعه الربعِي على ذَلِك
فصل

وَلَا يجوز تَقْدِيم الْمُسْتَثْنى على جَمِيع الْجُمْلَة كَقَوْلِك إلاَّ زيدا ضُرب الْقَوْم لأنَّ إلاَّ بِمَنْزِلَة (وَاو مَعَ) لما ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ وَهِي تشبه (لَا) العاطفة كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم لَا زيدٌ وَهَذَانِ لايتقدَّمان على الْعَامِل فَكَذَا قَوْلك (إلاَّ) فإنْ وَقعت بَين أَجزَاء الْجُمْلَة جَازَ كَقَوْلِك 57 -
(أَلا كُلُّ شيءٍ مَا خلا الله باطلُ ... )
وكقولك أَيْن إلاَّ زيدا قَوْمك وعَلى هَذَا تَقول مَا ضرب إلاَّ زيدا قَوْمك قَالَ أَصْحَابنَا إِن استثنيته من (قَوْمك) جَازَ ومنْ اصحابنا منْ لم يجزه وَالْفرق أنَّ الْفَاعِل أصل فِي الْجُمْلَة
فصل

وَلَا يعْمل مَا بعد (إلاَّ) فِيمَا قبلهَا كَقَوْلِك قَوْمك زيدا إلاَّ ضاربون لأنَّ تَقْدِيم الِاسْم الْوَاقِع بعد (إلاَّ) عَلَيْهَا غير جَائِز فَكَذَلِك معموله لما تقرَّر أنَّ الْمَعْمُول

(1/311)


لَا يَقع إلاَّ حَيْثُ يَقع الْعَامِل إِذْ كَانَ تَابعا لَهُ وفرعاً عَلَيْهِ فَإِن جَاءَ فِي الشّعْر أُضْمِر لَهُ فعل من جنس الْمَذْكُور
فصل

وَيجوز أَن تقع (إلاَّ) صفة بِمَعْنى (غير) فَيجْرِي مَا بعْدهَا على مَا قبلهَا كَقَوْلِك لَهُ عِنْدِي مائَة إلاَّ دِرْهَم فَترفع كَمَا ترفع (غيراً) هُنَا إِذا جَعلتهَا وصفاًَ فليزمك الْمِائَة بكمالها وَإِن نصبت (درهما) لزمك تِسْعَة وَتسْعُونَ على أصل الْبَاب وَكَذَا إِذا قلت غير دِرْهَم فَنصبت (غيراً)
فصل

إِذا وَقع اسْتثِْنَاء بعد اسْتثِْنَاء كَانَ الاخير مُسْتَثْنى من الَّذِي قبله فَمَا يبْقى مِنْهُ هُوَ الْمُسْتَثْنى من الَّذِي قبل قبله فعلى هَذَا إِذا قَالَ لَهُ عليَّ عشرَة الأ تِسْعَة ثَّم على ذَلِك نقص وَاحِدًا إِلَى أنَّ قَالَ (إلاَّ وَاحِدًا) لزمَه خَمْسَة دَرَاهِم وَلَك فِي تَحْقِيق ذَلِك طَرِيقَانِ

(1/312)


احدهما أَن تَأتي إِلَى آخر الْعدَد فتسقطه من الَّذِي قبله على مَا بيَّنا فَيسْقط هَهُنَا من اثْنَيْنِ فَيبقى وَاحِد فتسقطه من ثلَاثه فَيبقى اثْنَان فتُسقطهما من الْأَرْبَعَة فَيبقى اثْنَان فتسقطهما من الْخَمْسَة فَيبقى ثمَّ على ذَلِك إِلَى العشره قيبقى خَمْسَة وَالطَّرِيق الثَّانِي أَن تجمع الْعشْرَة وَالثَّمَانِيَة والستة وَالْأَرْبَعَة والاثنين وَتسقط مَا بَين كلّ استثنائين ثمَّ تجمع ذَلِك فَيكون ثَلَاثِينَ وَتجمع مَا أسقطت فَيكون خَمْسَة وَعشْرين فتسقطها من الثَّلَاثِينَ فَيبقى خَمْسَة وَهَذَا يخرج على قَول من أجَاز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر وَمن لم يجزه فَفِيهِ وَجْهَان أحدُهما أنَّ جمع الِاسْتِثْنَاء بَاطِل لِأَن الأوَّل بَطل لِأَنَّهُ أَكثر فَيبْطل مَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ
وَالثَّانِي أنَّه يبطل الْأَكْثَر إِلَى أَن يصل إِلَى النّصْف فيصّح ثَّم ينظر فِي الْبَاقِي على هَذَا السِّيَاق

(1/313)


بَاب

كم

وَهِي اسْم لوُجُود حدّ الِاسْم وعلاماته فِيهَا وإنَّما بنيت فِي الِاسْتِفْهَام لتضمنَّها معنى همزَة الِاسْتِفْهَام وبنيت فِي الْخَبَر لمشابهتها (ربّ) من أوجه أَحدهَا أنَّها تختصُّ بالنكرة كَمَا تخْتَص (ربّ) بهَا وَالثَّانِي أنَّها لغاية التكثير كَمَا أَن (ربّ) لغاية التقليل وَالْجَامِع بَينهمَا الْغَايَة فِي طرفِي الْعدَد وَالثَّالِث أنَّ (كم) لَهَا صدر الْكَلَام كَمَا أنَّ (ربُ) كَذَلِك وَالْمرَاد بذلك أنَّه لَا يعْمل فِيهَا مَا قبلهَا فإنْ قلت قد يدْخل على مَا هَذَا سَبيله حرف الجرّ فَيعْمل فِيهِ قيل حرف الجرّ الدَّاخِل عَلَيْهَا مِمَّا يتعلًّق بِمَا بعْدهَا كَقَوْلِك بكم رجل مَرَرْت فيؤخّر الْعَامِل الْأَصْلِيّ وإنَّما قدَّمت الْبَاء لأنَّها وصلَة بَين الْعَامِل والمعمول فَلَو أخرتهما جَمِيعًا لم تتحقَّق الوصلة
ومعظم النحويّين يَقُول حُملت على نقيضتها وَهِي (ربّ) والحقُّ مَا خبرتك بِهِ وَهُوَ معنى كَلَامهم لأنَّهم لَا يعنون أنَّ حكم الشَّيْئَيْنِ وَاحِد لعلَّة تضادّهما بل بَين الضدَّين معنى يَشْتَرِكَانِ فِيهِ

(1/314)


فصل

وبُنيتْ على السّكُون لأنَّه الأَصْل وَلم يُوجد مَانع من خُرُوجه على ذَلِك
فصل

وإنَّما افْتَقَرت (كم) إِلَى (مبيّن) لأنَّها اسْم لعدد مُبْهَم فيذكر بعْدهَا مَا يدلُّ على الْجِنْس المُرَاد بهَا
فصل

وإنَّما ميّزت الاستفهامية بالمنصوب لأنَّها جعلت بِمَنْزِلَة عدد متوسّط وَهُوَ من أحد عشر إِلَى تِسْعَة وَتِسْعين لأنَّ المستفهم جَاهِل بالمقدار فَجعلت للوسط بَين الْقَلِيل وَالْكثير
فصل

وَالْحكمَة فِي وَضعهَا الِاخْتِصَار والعموم الَّذِي لَا يُسْتَفَاد بِصَرِيح الْعدَد ألاَّ ترى أنَّك إِذا قلت أعشرون رجلا جَاءَك لم يلْزمه أنْ يُجيبك بكميَّة بل يَقُول (لَا) أَو (نعم) وَإِذا قَالَ (لَا) لم يحصل لَك مِنْهُ غَرَض السُّؤَال مَعَ الإطالة وَإِذا قلت كم رجلا جَاءَك اسْتَغْنَيْت عَن لفظ الْهمزَة وَالْعدَد وألزمت الْجَواب بالكميّة فإنْ

(1/315)


قيل لَو كَانَت (كم) هُنَا للوسط من الْعدَد لم جَازَ أَن يُبدل مِنْهَا الْقَلِيل وَلَا الْكثير وَقد جَازَ أَن تَقول كم رجلا جَاءَك أخمسة أم أَكثر أَو مائَة أَو أَكثر قيل الجيّد فِي مثل هَذَا أنْ يُبدلَ مِنْهَا الْعدَد الْوسط لما ذكرنَا وإنَّما جَازَ خِلَافه لأنَّ (كْم) مُبْهمَة فِي نَفسهَا تحْتَمل الْقَلِيل وَالْكثير وَالْوسط وَلِهَذَا يصحُّ الْجَواب بكَّل مِنْهَا وإنَّما جعلت بِمَنْزِلَة الْوسط فِي نصب المميّز فَقَط
فصل

وأمَّا (كْم) الخبريَّة فتجرُّ مَا بعْدهَا لأنَّها اسْم بُيّن بِعَدَد مجرور فَكَانَ هُوَ الْجَار ك (مائَة رجل) وَنَحْوه
وَذهب بَعضهم إِلَى أنَّه مجرور ب (من) محذوفة لأنَّك تظهرها كَقَوْلِك كم من جبل وَنَحْوه وَكم من عبد ولَمَّا عُرف موضعهَا بَقِي عملُها بعد حذفهَا كَمَا فِي ربّ مَعَ الْوَاو والمذهبُ الأوَّل أقوى لأنَّ حرف الجرّ ضَعِيف فَلَا يبْقى عمله بعد حذفه وَلِهَذَا كُّل مَوضِع حذفت فِيهِ حرف الجرّ نصبته إلاَّ فِي مَوَاضِع دعت الضَّرُورَة إِلَى تَقْدِير عمل الْحَرْف الْمَحْذُوف وَلَا ضَرُورَة هَهُنَا لأنَّ (كْم) اسْم وَالْإِضَافَة من أَحْكَام الْأَسْمَاء فإنْ قلت لَو كَانَ مُضَافا لأعرب ك (قبل) و (بعد) قيل هَذَا غير لَازم فإنَّ (لدنْ) مَبْنِيَّة مَعَ الْإِضَافَة

(1/316)


فصل

وَلَا تميز الاستفهاميَّة إلاَّ بالمفرد لأنَّها كالعدد الَّذِي نابت عَنهُ وأمَّا الخبريَّة فالجيَّد فِيهَا كَذَلِك لأنَّها ك (مائَة وَألف) وَيجوز أَن تبيّن بِالْجمعِ حملا على الْعشْرَة وَمَا دونهَا
فصل

وَمن الْعَرَب مَنْ ينصب مَا بعد الخبرية كَمَا ينصب بعد مائَة إِذا نوّن كَقَوْل الشَّاعِر 58 -
(إِذا عَاشَ الْفَتى مِائَتَيْنِ عَاما ... فقد ذهب اللذاذةُ والفتاء) // الوافر //
وَمِنْهُم من يجر بالاستفهامية حملا على الخبرية

(1/317)


فصل

فإنْ فصلت بَين الخبريَّة ومميّزها نصبت لئلاّ يَقع الْفَصْل بَين الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ وَمِنْهُم مّنْ يجرُّه وَلَا يعتدُّ بِالْفَصْلِ
فصل

وَقد ترفع النكرَة بعد (كم) فِي الِاسْتِفْهَام وَيكون الْمُمَيز محذوفاً ويقدّر مَا يحْتَملهُ الْكَلَام كَقَوْلِك كم رجلٌ جَاءَك أَي كم مرَّةً أَو يَوْمًا وَرجل مُبْتَدأ وَمَا بعده الْخَبَر وَإِذا رفعت لم يتعدَّد الرجل بل تتعدَّد فعلاته
فصل

وَيجوز أَن يرجع الضَّمِير إِلَى لفظ (كم) فَيكون مُفردا وَإِلَى مَعْنَاهَا فَيكون جمعا وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَكم من ملك فِي السَّمَاوَات لَا تغني شفاعتهم}

(1/318)


فصل

وممَّا ألحق بِكَمْ (كأيَّن) فِي الْكثير وفيهَا لُغَات وَكَلَام لَا يحْتَملهُ هَذَا الْمُخْتَصر إلاَّ أنَّها لَا تُضَاف وَلَا بُدَّ من (مِنْ) بعْدهَا
وممَّا أْلحق بكم (كَذَا) كَقَوْلِك لَهُ عِنْدِي كَذَا درهما وَكَذَا كَذَا درهما وَكَذَا وَكَذَا درهما وَقد فرَّع الْفُقَهَاء على هَذَا مسَائِل فِي الْإِقْرَار تحْتَاج إِلَى نظر

(1/319)


بَاب

الْعدَد

أنَّما لم يُضَف (وَاحِد وَاثْنَانِ) إِلَى مميّز لما فِيهِ من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه كَقَوْلِك (أثنا رجلَيْنِ) ولأنَّ قَوْلك (رجل ورجلان) يدلُّ على الكّميَّة وَالْجِنْس وَلَيْسَ كَذَلِك (رجال) لأنَّه يَقع على الْقَلِيل وَالْكثير فيضاف الْعدَد إِلَيْهِ فتعلم الكّميَّة بالمضاف وَالْجِنْس بالمضاف إِلَيْهِ
فصل

وإنَّما ثبتَتْ (الْهَاء) فِي الْعدَد من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة فِي المذكّر دون الْمُؤَنَّث للْفرق بَين المذكّر والمؤنَّث المميَّزين وَكَانَ المذكَّر بِالتَّاءِ أوْلى لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ الْعدَد جمَاعَة وَالْجَمَاعَة مُؤَنّثَة والمذكَّر هُوَ الأَصْل فأقَّرت الْعَلامَة على التَّأْنِيث فِي المذكَّر الَّذِي هُوَ الأَصْل وحُذِفَتْ فِي المؤنَّث لأنَّه فرع
وَالثَّانِي أنَّ الْفرق لَا يحصل إلاَّ بِزِيَادَة وَالزِّيَادَة يحتملها المذكَّر لخفَّته وَلذَلِك منع التَّأْنِيث من الصّرْف لثقله

(1/320)


وَقيل الْمَعْدُود ملتبسٌ بِالْعدَدِ وإضافته كاللازم فأغنى تَأْنِيث الْمُضَاف إِلَيْهِ عَن تَأْنِيث الْعدَد وَخرج فِي المذكَّر على ألاصل
فصل

وإنَّما أضيف هَذَا الْعدَد إِلَى جموع القلَّة لاشْتِرَاكهمَا فِي العلَّة وجموعُ القلَّة جمعُ التَّصْحِيح وَأَرْبَعَة من التكسير وَهِي (أفْعُل وأفعال وأفْعِلَة وفِعْلة) وَمَا جَاءَ فِيهِ من جموع الْكَثْرَة فعلى خلاف الأَصْل
فصل

وإنَّما سكَّنت الشين من (عشْر) إِذا أضيفت إِلَى المؤنَّث وَهِي مَفْتُوحَة فِي المذكَّر لثقل التَّأْنِيث إِذْ كَانَت الْحَرَكَة كالحرف فِي بعض الْمَوَاضِع
فصل

وإنَّما بني من (أحدَ عشرَ) إِلَى (تِسْعَة عشَر) غير (أثني عشر) لتضمُّنه معنى وَاو الْعَطف والاصل ثَلَاثَة وَعشرَة فركَّب اختصاراً وَمعنى الْعَطف باقٍ فِي الِاسْم يبْنى لتضُّمنه معنى الْحَرْف

(1/321)


وأنَّما حرّك الاسمان لِأَن لَهما أصلا فِي الْإِعْرَاب وَالْبناء حَادث وَكَانَت الفتحة أوْلى لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ الِاسْم طَال
وَالثَّانِي أنَّ الِاسْم الثَّانِي بِمَنْزِلَة (تَاء التَّأْنِيث) إِذْ كَانَ مزيداً على الأوَّل لِمَعْنى ويفارقه فِي بعض الْمَوَاضِع وتاء التَّأْنِيث تفتح مَا قبلهَا فَكَذَلِك هَذَا
فصل

فأمَّا (اثْنَا عشر) فالاسم الأوَّل مُعرب لأوجه
أَحدهَا أَنهم أَرَادوا الدّلَالَة على أَن الأَصْل فِي هَذِه الْأَعْدَاد الْإِعْرَاب كَمَا صححَّوا الْوَاو فِي (قَوَد) و (استحوَذ)
وَالثَّانِي انَّ عَلامَة الْإِعْرَاب هِيَ حرف التَّثْنِيَة فَلَو أبطلت لبطل دَلِيل التثنيه وَالثَّالِث أنَّ مَا عداهُ من المركَّب جرى مجْرى الِاسْم الْوَاحِد وإعراب الِاسْم الْوَاحِد لَا يكون فِي وَسطه
وامَّا (اثْنَان) فبغير تَاء فِي المذكَّروبتاء فِي المؤنَّث كَمَا كَانَ قبل التَّرْكِيب وَيجوز فِي المؤنَّث حذف الهمزه وإثباتها
فصل
وَأما (عشَرَ) هَهُنَا فبنيت لوقوعها موقع النُّون المحذوفه من (اثْنَي) لَا على

(1/322)


جِهَة الإضافه فبنيت كَمَا أنَّ النُّون مبنيَّه ويدلُّ على أنَّه غير مُضَاف أنَّ الحكم الْمَنْسُوب إِلَى الْمُضَاف غير مَنْسُوب إِلَى الْمُضَاف إِلَيْهِ كَقَوْلِك قبضت دِرْهَم زيد وَالْحكم هُنَا مَنْسُوب إِلَى الِاثْنَيْنِ وَالْعشرَة كَقَوْلِك قبضت اثْنَي عشر درهما
فصل

وإنَّما ثبتَتْ (التَّاء) من (ثَلَاثَة عشر) إِلَى (تِسْعَة عشر) لأنَّها كَذَلِك فِي مرتبَة الْآحَاد وحذفت من (عشر) لئلاّ تَجْتَمِع علامتا تَأْنِيث وَعكس ذَلِك فِي المؤنَّث حملا على (ثَلَاث نسْوَة) وَثبتت التَّاء فِي (عشرَة) لئلاّ يَخْلُو الِاسْم من عَلامَة التَّأْنِيث وَقيل ثبتَتْ فِيهِ التَّاء ليُوَافق الِاسْم المميّز بعده إِذْ كَانَ للمجاورة أثر فِي الْمُوَافقَة
فصل

أمَّا (أحدَ عَشَر) فِي المذكَّر فَلَا عَلامَة للتأنيث فِيهِ لأنَّ (أحدا) قبل التَّرْكِيب لَا عَلامَة فِيهِ فَبَقيَ على ذَلِك وأمَّا (عشر) فبغير تَاء كَمَا ذكرنَا فِي (ثَلَاثَة عشر) وأمَّا فِي المؤنَّث فثبتت العلامتان لأنَّ (إِحْدَى) قبل التَّرْكِيب تلحقها عَلامَة التَّأْنِيث كَقَوْلِك (وَاحِدَة) و (إِحْدَاهمَا) فَبَقيت عَلَيْهَا فِي

(1/323)


التَّرْكِيب وأمَّا (عشرَة) فالتاء لما ذكرنَا فِي (ثَلَاث عشرَة) ولهذه العلَّة قُلْتَ فِي المؤنَّث (اثْنَتَا عشرَة) بالعلامتين
فصل

وأمَّا (عشرُون) فاسم مَوْضُوع لعشرتين وَلَيْسَ بِجمع تَصْحِيح على التَّحْقِيق لأنَّ أقلَّ هَذَا الْجمع ثَلَاثَة فَلَو كَانَ (عشرُون) جمع تَصْحِيح لَكَانَ أقلَّ مَا يَقع عَلَيْهِ ثَلَاث عشرات
وَحكي عَن الْخَلِيل أنَّه جَمْعُ (عِشْر) من أظماء الْإِبِل وَذَلِكَ أَن الْعشْر مِنْهَا ثَمَانِيَة لأنَّها ترد المَاء يَوْمًا وتتركه ثَمَانِيَة وترده الْيَوْم الْعَاشِر فَلَا يحْتَسب بيومي الْوُرُود فَتكون الْعشْرُونَ عِشْرَيْنِ وَنصفا فَجمع على التَّكْمِيل وَفِي هَذَا القَوْل بُعْدٌ
وأمَّا كَسْرُ العَيْنِ مِنْ (عِشْرين) فَقيل كَانَ الأَصْل أَن يُقَال (عشرتان) وهم أثنتان من هَذِه الْمرتبَة فكُسِرَ كَمَا كًسِرَ أوَّل اثْنَيْنِ

(1/324)


وَقيل الْعشْرَة تؤنَّث وَجَمعهَا لَا يؤنَّث فَكسر أوَّله فِي الْجمع عوضا من التَّأْنِيث إِذْ كَانَ يؤنّث بِالْيَاءِ نَحْو تضربين والكسرة من جنس الْيَاء
وأمَّا على قَول الْخَلِيل فالكسرة فِيهِ كسرة الْوَاحِد
فصل

وأمَّا (ثَلَاثُونَ) إِلَى (تسعين) فأسماء مشتقَّةٌ من أَلْفَاظ مرتبَة الْآحَاد وَلَيْسَ (ثَلَاثُونَ) جمع (ثَلَاث) إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ أقلُّ مَا يَقع عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ (تِسْعَة) لأنَّها ثَلَاث ثلاثات
فصل

وأمَّا (الْمِائَة) وَمَا تكرَّر مِنْهَا فتضاف لأنَّها عدد مُفْرد فأضيف إِلَى مميّزه كالعشرة وَمَا دونهَا وإنَّما كَانَ المميّز مُفردا لِأَن الْمِائَة أقرب إِلَى مَا تُمّمَ بالمفرد وَهُوَ تسعون فقد جمعت شبه الْآحَاد والعشرات
فصل

وَكَانَ القياسُ أنْ يُقَال (ثَلَاث مئات أَو مئين) وَكَذَا إِلَى تِسْعمائَة كَمَا تَقول (ثَلَاث نسْوَة) إلاَّ أنَّهم أضافوها إِلَى الْوَاحِد حَيْثُ طَال الْكَلَام بإلاضافة إِلَى

(1/325)


(الْمِائَة) وَإِضَافَة الْمِائَة للدرهم وَنَحْوه ولأنَّ المميّز مُفْرد فَلَو جمعُوا (مائَة) وَهِي عدد - لأضافوا جمع الْعدَد إِلَى المميّز الْمُفْرد وَلَيْسَ لَهُ أصل لأنَّ مرتبَة الْآحَاد تُضَاف إِلَى الْجمع
فصل

فأمَّا (الْألف) فكالمائة لأنَّها تَلِيهَا وإنَّما قَالُوا ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم فأضافوا إِلَى الْجمع لأنَّ مرتبَة الآلاف كمرتبة الْآحَاد إِذْ لم تكن مرتبَة رَابِعَة وَلذَلِك يبْقى لفظ الْعشْرَة وَالْمِائَة فِيهَا بِخِلَاف الْمَرَاتِب الأُوَل فإنَّ كلا مِنْهَا إِذا جَاوز التِّسْعَة تجدّد لَهُ اسمٌ لم يكن
فصل

إِذا أردْت تَعْرِيف الْعدَد الْمُضَاف أدخلت أَدَاة التَّعْرِيف على الِاسْم الثَّانِي فتعرَّف بِهِ الأوَّل نَحْو ثَلَاثَة الرِّجَال وَمِائَة الدِّرْهَم كَقَوْلِك غُلَام الرجل وَلَا يجوز (الْخَمْسَة دَرَاهِم) لأنَّ الْإِضَافَة للتخصيص وَتَخْصِيص الأوَّل بِاللَّامِ يغيه عَن ذَلِك

(1/326)


فأمَّا مَا لم يضف مِنْهُ فأداة التَّعْرِيف فِي الأوَّل نَحْو الْخَمْسَة عشر درهما إِذْ لَا تَخْصِيص هُنَا بِغَيْر اللَّام وَقد جَاءَ شيءٌ على خلاف مَا ذَكرْنَاهُ وَهُوَ شاذّ عَن الْقيَاس والاستعمال فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ

(1/327)


بَاب

النداء

يجوز كسر نون النداء وضمُّها مثل (الهِتاف) و (الُهتاف) وَلَام النداء (واوٌ) لقَوْلهم نَدَوْتُ الْقَوْم إِذْ جَلَست مَعَهم فِي النادي وَهُوَ مَجْلِسُهم الَّذِي يُنادي فِيهِ بَعضهم بَعْضًا ومصدُره الندوة
فصل

وحروفه (يَاء) و (أيْ) و (أيا) و (هيا) و (الْهمزَة) وَفِي الندبة حرف آخر وَهُوَ (وَا) وَالْغَرَض مِنْهَا تَنْبِيه المدعوّ ليسمع حَدِيثك فأمَّا نِدَاء الديار وَغَيرهَا فعلى طَريقَة التذكّر والتذكير
فصل

والنداء تصويت لَا يحتملُ التصديقَ والتكذيبَ وَقيل أنْ كَانَ يصفه نَحْو يَاء فُسَقُ وَيَا فاضلُ كَانَ خَبرا لاحْتِمَاله ذَلِك وَهَذَا يُوجب أنْ يكون خَبرا فِي الْأَعْلَام لأنِّك إِذا أَقبلت على إِنْسَان فَقلت يَا زيد أمكن أَن يَقُول كذبت لست زيدا

(1/328)


فصل

والمنادى مَنْصُوب اللَّفْظ والموضع وَاخْتلف فِي ناصبه فَقَالَ بَعضهم الناصبُ لَهُ فعل مَحْذُوف لم يسْتَعْمل إضهاره وَهُوَ (أنادي وأدعو وأنَّبهُ) وَنَحْو ذَلِك وَذَلِكَ لأنَّ (يَا) حرف وَالْأَصْل فِي الْحُرُوف ألاَّ تعْمل ولأنَّها لَو عملت لَكَانَ لشبهها بِالْفِعْلِ وشبهُها بِالْفِعْلِ ضعيفٌ لقلّة حروفها لَا سيَّما الْهمزَة الَّتِي هِيَ على حرف وَاحِد فتعيَّن أَن يكون الْعَامِل فعلا لكنَّه استغني عَن إِظْهَاره لدلَالَة (يَا) عَلَيْهِ
وَقَالَ آخَرُونَ الْعَامِل فِيهِ حرف النداء لأنَّه أشبه الْفِعْل من ثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّ مَعْنَاهُ معنى الْفِعْل بل أقوى من حَيْثُ أنَّ لفظ الْفِعْل عبارَة عَن الْفِعْل الحقيقيّ كَقَوْلِك (ضرب) و (يَا) هِيَ الْعَمَل نَفسه وتعبّر عَنهُ ب (نَادَى) وَالثَّانِي أنَّها أميلت وَلَيْسَ ذَاك إلاَّ لشبهها بِالْفِعْلِ وَالثَّالِث أنَّه يعلَّق بهَا حرف الجرّ فِي قَوْلك يالزيد وحرف الجرّ لَا يتعلَّق إلاَّ بِالْفِعْلِ أَو مَا عمل عمله

(1/329)


فصل

وإنَّما بني الْمُفْرد الْعلم فِي النداء والنكرة الْمَقْصُودَة لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّه صَار مَعَ حرف النداء كالأصوات نَحْو (حوبَ) و (هِيدَ) و (هلا) زجر الْإِبِل و (عَدَسْ) فِي زجر البغال لِأَن الْغَرَض من الْجَمِيع التَّنْبِيه وَلَيْسَ بمخبر عَنهُ وَلَا مُتَّصِل بمخبر عَنهُ وَلذَلِك بنيت حُرُوف التهجّي

(1/330)


وَالثَّانِي أنَّه أشبه الْمُضمر فِي أنَّه مُخَاطب غير مُضَاف وَالْأَصْل فِي كلَّ مُخَاطب أنّ يذكر بضمير الْخطاب كَقَوْلِك أَنْت يَا أَنْت وَقد جَاءَ ذَلِك فِي النداء قَالَ 59 -
(يَا أبْحَرُ بنَ أبْحَرٍ يَا أنْتا ... أَنْت الَّذي طُلَّقْتَ عَام جُعْتا) // الرجز // وَالْوَاقِع موقع المبنيَّ يُبْنى
فصل

وإنَّما بني على حَرَكَة لأنَّ بناءه عَارض فحرَّك لينفصل عمَّا بِنَاؤُه لَازم وحرَّك بالضمَّ لثَلَاثَة أوجه
أحدُها أنَّه قوي بذلك زِيَادَة فِي التَّنْبِيه على تمكَّنه وَالثَّانِي أنَّ المنادى يكسر إِذا أضيف إِلَى الْيَاء وَيفتح إِذا أضيف إِلَى غَيرهَا فضُمَّ فِي الْإِفْرَاد لتكمل لَهُ الحركات كَمَا فعلوا ذَلِك فِي قبلُ وبعدُ وَالثَّالِث أنَّهم لَو فتحوه أَو كسروه لالتبس بالمضاف فصاروا إِلَى مَا لَا لَبْس فِيهِ

(1/331)


فصل

وإنَّما أعرب الْمُضَاف والمشابه لَهُ والنكرة غير الْمَقْصُودَة على الأَصْل وَلم يُوجد الْمَانِع من ذَلِك فإنَّ الْمَانِع فِي الْمُفْرد شبهُهُ بالمضمر والمضاف لَا يشبه الْمُضمر لأمرين أحدُهما أنَّ الْمُضمر لَا يُضَاف
وَالثَّانِي أنَّ تَعْرِيف الْمُضَاف بِالْإِضَافَة وتعريفُ الْمُضمر هُنَا بِالْخِطَابِ وَكَذَلِكَ المشابه للمضاف طَال طولا فَارق بِهِ الْمُضمر أَو عمل فِيمَا بعده والمضمر لَا يعْمل وَكَذَا النكرَة الشائعة لَا تقع موقع الْمُضمر فَهَذَا لبَيَان عدم الْمُوجب للْبِنَاء
وَيُمكن أَن يُقَال علَّة الْبناء مَوْجُودَة وَهِي مَا تقدَّم وَلَكِن تعذَّر الْبناء فِي الْمُضَاف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم بِتِلْكَ العلَّة لأنَّه بني لعلَّة أُخْرَى والمضاف إِلَى غَيره صَار كالمنوَّن لأنَّه الْمُضَاف إِلَيْهِ يحلّ محلَّ التَّنْوِين والتنوين لَا يكون بعد حَرَكَة الْبناء ولأنَّه لَو بُني الأوَّل لم يكن عَاملا فِي الثَّانِي وَلَو بنيا لفسد الْأَمريْنِ

(1/332)


أحدُهما أنَّ النداء دخل على الأوَّل دون الثَّانِي وَالثَّانِي أنَّهما كَانَا يكونَانِ كالمركَّب
فصل

وإنَّما جَازَ فِي صفة الْمَبْنِيّ الْمُفْرد هُنَا النصُب على الْموضع لأنَّ مَوضِع الْمَوْصُوف نصب وَيجوز رَفعهَا حملا على لفظ الْمَوْصُوف وَجَاز ذَلِك فِي المنادى دون غَيره من المبنيَّات لأنَّ حَرَكَة الْبناء فِيهِ تشبه حَرَكَة المعرب لِأَنَّهُ مطرد مَعَ (يَا) لَا يكون مَعَ غَيرهَا كَمَا لَا تحذف حَرَكَة الْإِعْرَاب إلاَّ بعامل وَلذَلِك جَازَ حمل وصف (لَا) على الْموضع تَارَة وعَلى اللَّفْظ أخُرى بِخِلَاف (أمْسِ) و (هَؤُلَاءِ) فإنَّهما مبنيَّان على كلَّ حَال لَا عِنْد شَيْء يشبه الْعَامِل
فصل

فأمَّا الصّفة المضافة فَلَيْسَ فِيهَا غير النصب لأنَّ الصّفة لَا تزيد على الْمَوْصُوف والموصوف الْمُضَاف ينصب البتَّة فالصفة أوْلى
فصل

والمعطوف الَّذِي فِيهِ الْألف وَاللَّام وَهُوَ جنس كالصفة فِي الْوَجْهَيْنِ كَقَوْلِه تَعَالَى {يَا جبال أوّبي مَعَه وَالطير} لأنَّ (يَا) لَا تليه فَصَارَ كالصفة

(1/333)


فأمَّا الْألف وَاللَّام فِي الْقيَاس وَنَحْوه فَكَذَلِك وَقَالَ المبرَّد الرّفْع فِيهِ أحسن لأنَّه علم وَالْألف وَاللَّام فِيهِ زَائِد أَو فِي حكم الزَّائِد
فصل

فإنْ كَانَ الْمَعْطُوف لَيْسَ فِيهِ لَام التَّعْرِيف فَلهُ حكم نَفسه فتقدَّر مَعَه (يَا) كَقَوْلِك يَا زيد وَعَمْرو وَيَا زيدُ وعبد الله لأنَّك تقدر أَن تَقول وَيَا عَمْرو وَأَجَازَ قوم النصب فِيهِ بكلّ حَال حملا على الْموضع
فصل

والتوكيد كالوصف فَيجوز فِي الْمُفْرد الرّفْع وَالنّصب كَقَوْلِك يَا تَمِيم أَجْمَعُونَ وأجمعين فَإِن كَانَ مُضَافا نصبت الْبَتَّةَ كالصفه كَقَوْلِك يَا تَمِيم كلّكم فتنصب وَيجوز ب (الْكَاف) لأنَّه مُخَاطب وب (الْهَاء) لأنَّ الِاسْم الظَّاهِر غَائِب فَيَعُود الضَّمِير إِلَيْهِ بِلَفْظ الْغَيْبَة
فصل

وَلَا تدخل (يَاء) على الْألف وَاللَّام لأمرين

(1/334)


أَحدهمَا أنَّ (الْألف وَاللَّام) للتعريف و (يَا) مَعَ الْقَصْد إِلَى المنادى تخصّصه وتعنيّه وَلَا يجْتَمع أداتا تَعْرِيف وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ (اللَّام) لتعريف الْمَعْهُود والمنادى مُخَاطب فهما مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنى / وَقد جَاءَ ذَلِك فِي ضَرُورَة الشّعْر قَالَ 60 -
(فيا الغلامانِ اللذانِ فرّا ... أيَّاكما أَن تُكْسباني شرّاً) // الرجز // وأمَّا قَول الآخر 61 -
(أحبُّكِ يَا التَّي تيَّمتِ قَلْبي ... وأنتِ بخيلةٌ بالودّ عَنَّي) قفيل هُوَ من هَذَا الْبَاب وَقيل الْألف وَاللَّام فِيهِ زائدتان وتعريف الْمَوْصُول بالصلة

(1/335)


وأمَّا اسْم الله تَعَالَى فَتدخل عَلَيْهِ لثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّ الْألف وَاللَّام فِيهِ لغير التَّعْرِيف لأنّه سُبْحَانَهُ واحدٌ لَا يتعدَّد فَيحْتَاج إِلَى التَّعْيِين وَدخُول (يَا) عَلَيْهِ للخطاب وَالثَّانِي أَن الْألف وَاللَّام عوض من همزَة (إِلَه) وَذَلِكَ أنَّ الأَصْل فِيهِ (الْإِلَه) فحذفت الْهمزَة حذفا عِنْد قوم وَعند آخَرين القيت حركتها على (اللَّام) ثَّم أدغمت إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى فنابت اللَّام عَن الْهمزَة فأجتمعت مَعَ (يَا) من هَذَا الْوَجْه وَالثَّالِث أنَّه كثر أستعمالهم هَذِه الْكَلِمَة فخفَّ عَلَيْهِم إِدْخَال (يَا) عَلَيْهَا
وَقد اخْتصَّ هَذَا الِاسْم بأَشْيَاء لَا تجوز فِي غَيره مِنْهَا (يَا) وَمِنْهَا تفخيم (لامه) إلاَّ إِذا انْكَسَرَ مَا قبلهَا وَمِنْهَا قطع همزته فِي النداء وَفِي الْقسم إِذا قلت (أفألله) وَمِنْهَا اخْتِصَاصه ب (تَاء الْقسم) وَمِنْهَا لُحُوق (الْمِيم) فِي آخِره

(1/336)


فصل

وأمَّا قولُهم يَا أيَّها الرجل ف (أيّ) مُفْرد منادى مبنيّ وَفِي (هَا) وَجْهَان أحدُهما أنّهم أتَوْا بهَا عوضا من الْمُضَاف إِلَيْهِ لأنَّ حقّ (أَي) أَن تُضَاف وَالثَّانِي أَنَّهَا دخلت للتّنْبِيه لتَكون ملاصقة للرجل حَيْثُ امْتنَاع دُخُول (يَا) عَلَيْهِ
وأمَّا الرجل فصفة لأيّ على اللَّفْظ لأنَّه المنادى فِي الْمَعْنى وَلذَلِك لَا يسوغ الِاقْتِصَار على (أيَّها)
وإنَّما أُتِي ب (أيّ) هُنَا توصُّلاً إِلَى نِدَاء مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام وَمن هُنَا لم يجز نَصبه عِنْد الْجُمْهُور وَأَجَازَهُ المازنيّ كَسَائِر الصِّفَات وإنَّما اخْتَارُوا (أّياً) هُنَا لأنَّها أسم مُعرب فِيهِ إِبْهَام يصلح لكل شَيْء
فصل

فإنْ وصفت الرجل هُنَا رفعت الصّفة وإنْ كَانَت مُضَافَة لأنَّ الْمَوْصُوف مُعرب وَإِذا حملت تِلْكَ الصّفة على مَوضِع (أيّ) جَازَ النصب وَالرَّفْع فِي الْمُفْرد وَلم يكن فِي الْمُضَاف إِلَى النصب

(1/337)


فصل

وَالْمِيم الزَّائِدَة فِي قَوْلك (اللَّهُمَّ) عوض من (يَا) وَقَالَ الكوفيَّون أَصله (يَا الله أمّنا بِخَير) وَهُوَ غلط لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّه لَو كَانَ كَذَلِك لكثر الْجمع بَينهمَا ولّمَّا لم يأتِ ذَلِك إلاَّ فِي الضَّرُورَة عُلم أنَّه عوض فَلم يجمع بَينه وَبَين المعوض وَالثَّانِي أنَّه يصحُّ أنْ يَقع بعد هَذَا الِاسْم (أمّنا بِخَير) وَمَا أشبهه كَقَوْلِك اللَّهُمَّ أَغفر لي وَأَن يَقع بعده ضدُّ هَذَا الْمَعْنى كَقَوْلِك اللَّهُمَّ العنْ فلَانا وَمَا أشبهه
فصل

العَلَم إِذا نُودي بَقِي على تَعْرِيفه وَمِنْهُم من قَالَ ينكَّر ثّم يتعرَّف بِالْقَصْدِ وَالْإِشَارَة وحجَّةُ الأوَّل من وَجْهَيْن أَحدهمَا أنَّك تنادي من لَا يُشَارِكهُ غَيره فِي اسْمه كَقَوْلِك (يَا الله) و (يَا فرزدق) وَلَو تنكَّر لصار لَهُ نَظَائِر فيتعَّين بِالْقَصْدِ

(1/338)


وَالثَّانِي أنَّ (يَا) تدخل على النكرَة غير الْمَقْصُودَة نَحْو (يَا رجلا) وَلَو كَانَت (يَا) تحدث التَّعْرِيف لحَدث بهَا هُنَا وَكَذَلِكَ الْمُضَاف نَحْو يَا عبد الله وتعريفه بِالْإِضَافَة لَا بِالْقَصْدِ
واحتجَّ الْآخرُونَ بأنَّ (يَا) تُحْدِثُ التَّعْرِيف فِي النكرَة الْمَقْصُودَة فَكَذَلِك فِي الْعلم تحدثه بِالْخِطَابِ وَلنْ يصحّ ذَلِك إلاَّ بِنَزْع التَّعْرِيف الأوَّل وَلذَلِك لم تدخل على الْألف وَاللَّام
فصل

إِذا كَانَ المنادى علما أَو كنية وَوصف ب (ابْن) مضافٍ إِلَى علم أَو نكرَة جَازَ فِيهِ الضمّ على الأَصْل وَالْفَتْح إتباعاً لفتحة نون ابْن وَلَا يكون ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع لأنَّ الْعلم والكنية يكثر استعمالهما مَعَ الْوَصْف ب (ابْن) للْحَاجة إِلَى التَّعْرِيف بِالنّسَبِ فَيصير الْمَوْصُوف وَالصّفة كشيء وَاحِد فيفتحان كالمركَّب
فصل

وَتدْخل (لَام الاستغاثة) على المنادى إعلاماً بالاستغاثة إِذْ لَيْسَ كلّ منادى مستغاثاً بِهِ وتتعلَّق بِحرف النداء وتفتح كَمَا تفتح مَعَ ضمير الْمُخَاطب
فأمَّا (لَام المستغاث لَهُ) فتكسر لأنَّه غير وَاقع موقع الضَّمِير

(1/339)


وَأما الْمَعْطُوف على المستغاث بِهِ فتكسر لامه لأنَّ وَاو الْعَطف تغني عَن الْفرق بِفَتْح اللَّام فتكسر كَمَا تكسر مَعَ كلَّ ظَاهر
فصل

ويحذف حرف النداء من كلّ منادى إلاَّ النكرَة والمبهم أمَّا النكرَة فإنَّها لَا تتعرَّفُ هُنَا إلاَّ ب (يَا) الدالَّة على الْقَصْد وَالْإِشَارَة فَإِذا لم تكنْ بَقِي على تنكيره وَلذَلِك إِذا ارادوا تَعْرِيفه بِاللَّامِ جاؤوا ب (يَا أيُّها) فَلَو حذفوا للحق الإجحاف
وأمَّا الْمُبْهم فلشدَّةِ إبهامه يحْتَاج إِلَى مُخَصص [فَلَو حذف المخصّص لبقي على إبهامه] وَلذَلِك جَازَ أَن يكون الْمُبْهم وَصفا ل (أيّ) فِي النداء كَمَا كَانَ اسْم الْجِنْس
فصل

إِذا ناديت الْمُضَاف إِلَى نَفسك وَكَانَ الأوَّل صَحِيحا فلك فِيهِ أوجه أحدُها حذف الْيَاء نَحْو يَا غلامِ لأنَّ الكسرة تدلُّ عَلَيْهَا فِي الْإِثْبَات وَالثَّانِي إِثْبَاتهَا سَاكِنة على الأَصْل وَالثَّالِث فتحهَا لأنَّ حقَّ يَاء الضَّمِير الْفَتْح كالكاف

(1/340)


وَالرَّابِع إِبْدَال الفتحة كسرةً وَالْيَاء الْفَا ليمتدّ الصَّوْت زِيَادَة مدّ وَالْخَامِس حذفُها وضمُّ الْمِيم وتريد فِي هَذَا الْوَجْه مَا أردْت فِي الْإِضَافَة
فإنْ كَانَ بَين الْيَاء وَالِاسْم المنادى اسْم آخر لم تحذف نَحْو يَا غُلَام أخي وَيَا ابْن صَاحِبي لأنَّ الْوسط لَيْسَ بمنادى وَقد جَاءَ الْحَذف فِي يَا ابْن عِمي وَيَا ابْن أمّي وَيَا ابْن صَاحِبي وَفِيه أَيْضا الْوُجُوه الَّتِي ذكرت فِي غُلَام إلاَّ أنَّ مِنْهُم من يحذف الْيَاء وَيفتح الْمِيم فَيَقُول يَا ابْن أمَّ وَفِيه وَجْهَان أحدُهما أنَّه ركَّب الاسمين كخمسة عشر وَالثَّانِي أنَّه اراد (ابْن أمّا) فَحذف الْألف لطول الْكَلَام اجتزاء بالفتحة وإنَّما أختصَّ هَذَانِ الاسمان بِهَذَا الحكم فِي النداء لِكَثْرَة استعمالهما

(1/341)


بَاب الندبة

هِيَ (فُعْلة) من (ندبته) أَي حثثته فكأنَّ النادب يحثُّه حزنه على الندبة أَو يحثُّ السَّامع على الْحزن على الْمَنْدُوب وحروفها (وَا) و (يَا) وَقيل (آ) أَيْضا وَأكْثر من يتكلّم بهَا النِّسَاء لضعف قلوبهنَّ
فصل

وتُزاد فِي آخر الْمَنْدُوب إِذا وُقِفَ عَلَيْهِ (الْألف) لِيَزْدَادَ مدُّ الصَّوْت ليشيع حَال الْمَنْدُوب وَيدل على تفجع النادب وتزاد عَلَيْهَا (هاءٌ) لتبيين الْألف فَإِن حذفت الْهَاء لم تأت بِالْألف لئلاّ يظنّ أنَّها بدل من يَاء المتكلَّم
فصل

وَلَا ينْدب إلاَّ الْعلم أَو الْمُضَاف إِذا كَانَ الْمَنْدُوب مَشْهُورا بِهِ ليَكُون عذرا للنادب كَقَوْلِك وازيداه واعبد الملكاه وامن حفر بِئْر زمزماه وَانْقِطَاع ظهرياه

(1/342)


فصل

وَإِذا خفت من إِثْبَات الْألف لّبْساً قلبتها من جنس الْحَرَكَة الَّتِي قبلهَا كَقَوْلِك فِي غُلَامه (واغلامهه) وَلَا تَقول (اغلامهاه) لئلاّ يلتبس بغلامها للمؤنَّث وَتقول إِذا ندبت غلامك (واغلامكيه) وَلَا تَقول (واغلامكاه) لئلاّ يلتبس بالمذكر وعَلى هَذَا فَقِسْ
فَسَأَلَهُ

لَا يجوز أَن تلْحق عَلامَة الندبة الصّفة نَحْو (وازيد الظريفاه) وَأَجَازَهُ الكوفيَّون وَيُونُس
وَوجه الْمَذْهَب الأوَّل من وَجْهَيْن أحدُهما أنَّ الصّفة غير مَنْدُوبَة وَلَا لَازِمَة للمندوب فَلم تلحقها عَلامَة الندبة بِخِلَاف الْمُضَاف إِلَيْهِ لأنَّه من تتمَّة الْمُضَاف وَالثَّانِي أنَّ الصّفة اسْم مُعرب مُفْرد فَلَا تلحقها عَلامَة الندبة كالنكرة وعلَّة ذَلِك ألاَّ يصير مبنيّاً
واحتجَّ الْآخرُونَ من وَجْهَيْن

(1/343)


أحدُهما مَا سمع من عربيّ فصيح ضَاعَ مِنْهُ قدحان من خشب فندبهما واجمجمتيّ الشاميّتيناه وَالثَّانِي أنَّ الصّفة فِي بعض الْمَوَاضِع تلْزم كصفة (أيّ) فِي بَاب النداء وَصفَة (من) و (مَا) النكرتين فَجرى مجْرى الْمُضَاف إِلَيْهِ ولأنَّها توضحّ كَمَا يوضحّ

(1/344)


بَاب التَّرْخِيم

وَهُوَ فِي اللُّغَة لينُ الصَّوْت وانقطاعُه قَالَ ذُو الرَّمة 62 -
(لَهَا بَشَرٌ مثلُ الحريرِ ومنطقٌ ... رخيمُ الْحَوَاشِي لاهراء وَلَا نزْرُ) // الطَّوِيل // وَبِهَذَا الْمَعْنى سمَّي التَّرْخِيم والنداء لأنَّك تحذف من آخر الِاسْم فينقص الصَّوْت ويضعف
فصل

والترخيمُ حذفُ آخرِ الِاسْم المنادى المبنيّ الزَّائِد على ثلاثةِ أحرف غير المؤنَّث أمَّا اخْتِصَاصه بالآخرِ فلأنَّ مَا بَقِي من الِاسْم يدلُّ على مَا يحذف من آخِره إِذا كَانَ مَشْهُورا وَلَا يدلُّ آخِره على أوَّله وأمَّا اخْتِصَاصه [بالمنادى فلأنَّ النداء قد كثر فِيهِ التَّغْيِير لأنَّه مَوضِع تَخْفيف وتنبيه بالأسماء الْمَشْهُورَة]

(1/345)


وأمَّا أختصاصه بالمبنيِّ فلأمرين أحدُهما أنَّه مَعْرُوف بِنَفسِهِ لَا بِالْإِضَافَة وَذَلِكَ بُني كَمَا بني ضمير الْخطاب وَالثَّانِي أنَّه لَو حذف من المعرب لسقط مِنْهُ الْإِعْرَاب وحرفه وَذَلِكَ إجحاف والمبنيُّ لَا يسْقط مِنْهُ إلاَّ حرفُ لَا إِعْرَاب فِيهِ
مَسْأَلَة

لَا يجوز ترخيم الْمُضَاف إِلَيْهِ وَقَالَ الكوفُّيون يجوز وحجَّة الأوَّلين أنَّ الْمُضَاف لإليع مُعرب غير منادى فَلم يرخمَّ فِي الِاخْتِيَار كَمَا لولم يكن قبله منادى
واحتجَّ الْآخرُونَ بِمَا جَاءَ فِي الشّعْر من ذَلِك نَحْو 63 -
(يَا آل عكرم ... ) وَمن [الطَّوِيل]

(1/346)


64 -
(أَبَا عرو ... ) // الطَّوِيل // يُرِيد يَا عكرمةُ وَيَا عُرْوَة ولأنَّ الْمُضَاف إِلَيْهِ تتمّة للمنادى فَصَارَ كأنَّه آخِره وَالْجَوَاب أمَّا الشّعْر فَلَا حجَّة فِيهِ لأنَّه ممَّار رخَّم فِي غير النداء للضَّرُورَة وأمَّا الْمُضَاف إِلَيْهِ فَهُوَ معربٌ غير منادى كَمَا سبق
فصل

وَلَا يجوز ترخيم الثلاثي غير المؤنثَّ وَقَالَ الكوفَّيون يجوز إِذا كَانَ الْأَوْسَط متحرَّكاً نَحْو (عُمَر)
حجَّة الأوَّلين أنَّ الثلاثيّ أقلُّ الْأُصُول فَحَذفهُ إجحاف وَلم يرد بِهِ سَماع يسوغَّ الْأَخْذ بِهِ واحتجَّ الْآخرُونَ بأنَّ فِي الاسماء المعربة مَا هُوَ على حرفين نَحْو (يَد) و (دم) و (غَد)

(1/347)


وَالْجَوَاب أنَّ تِلْكَ الْأَسْمَاء محذوفة اللامات اعتباطاً فَلَا يُقَاس عَلَيْهَا وَلذَلِك قلّت جدا فإنْ قيل رخَّموا (ثُبة) قيل إنَّ تَاء التَّأْنِيث كاسم ركَّب مَعَ اسْم بِدَلِيل أنَّ مَا قبلهَا لَا يكون إلاَّ مَفْتُوحًا فتحذف كَمَا يحذف الثَّانِي من المركَّب فكأنَّ التَّرْخِيم لم يحذف من الِاسْم شَيْئا
مَسْأَلَة

إِذا رخّمت الرباعيّ لم تحذف مِنْهُ سوى حرف وَاحِد وَقَالَ الفرَّاء إِن كَانَ الثَّالِث سَاكِنا حذفته مَعَ الْأَخير نَحْو (سِبَطْر) تَقول (يَا سِبَ) واحتجَّ لذَلِك بأنَّه إِذا بَقِي السَّاكِن اشبه الأدوات وَهَذَا فَاسد لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ بِنَاء المتحرَّك يلْحقهُ بالأدوات وَلم يمْتَنع وَالثَّانِي أنَّ الِاسْم بعد ترخيمه قد بَقِي على زنة لَا نَظِير لَهَا فِي الْأَسْمَاء كحذف الثَّاء من (حَارِث) فإنَّه جَاءَ على (فاعِ) وَلَا نَظِير لَهُ فَعلم أنَّ الْحَذف هُنَا وَالْبناء عارضان لَا يعتدُّ بِمَا يخرج عَن النَّظَائِر لأجلهما ويؤكَّد ذَلِك أنَّ ماقبل آخِره مكسور يحذف وَتبقى الكسرة وَهِي تشبه مَا يكسر لالتقاء الساكنين وَهُوَ مَعَ ذَلِك جَائِز

(1/348)


فصل

وَلَا ترخمَّ النكرَة لأنَّها فِي الأَصْل وصفُ ل (أيّ) فَلم يجْتَمع عَلَيْهَا حذف الْمَوْصُوف وَحذف آخرهَا وَمَا جَاءَ فِي الشّعْر نَحْو 65 -
(يَا صَاح ... ) // الْبَسِيط // شاذّلا يُقَاس عَلَيْهِ
فصل

وَلَا يرخَّم الْمُبْهم وَإِن زَاد على ثَلَاثَة أحرف لأوجه أحدُها أنَّه ضعف بالإبهام فَلَا يضعف بالحذف وَالثَّانِي أنَّ إبهامه يقرَّبه من النكرَة والنكرة لَا ترخَّم وَالثَّالِث أنَّه فِي الأَصْل وصفٌ ل (أيّ) فَلم يجمع بَين حذفين وَالرَّابِع أنَّه وصف ل (أيّ) والأوصاف لَا ترَّخم مَعَ الموصوفات فَكَذَلِك مَا هُوَ فِي تقديرها

(1/349)


فصل

وَلَا يحذف من الِاسْم الَّذِي فِيهِ تَاء التَّأْنِيث شَيْء غَيرهَا وإنَّ كَانَ مَا قبلهَا زَائِدا لأنَّها بِمَنْزِلَة اسْم ضمّ إِلَى اسْم على مَا ذكرنَا من قبل
فصل

إِذا ناديت الصّفة الَّتِي فِيهَا تَاء التَّأْنِيث لم تحذفها نَحْو (يَا فاسقة) لئلاّ يلتبس بالمذكَّر فإنْ كَانَت علما جَازَ
فصل

إِذا رخَّمت (طيلسانا) حذفت الْألف وَالنُّون لأنَّهما زائدتان وضَمْمت السِّين وإنْ شِئْت فتحتها هَذَا إِذا فتحت اللَّام فَإِن كسرتها لم يجز ترخيمه عِنْد المبرَّد قَالَ لأنَّه على وزن لَا نَظِير لَهُ وَهُوَ (فَيْعِل) وَأَجَازَهُ السيرافي وَغَيره وَقَالُوا لأنَّه قد يبْقى بعد التَّرْخِيم بِنَاء لَا نَظِير لَهُ فِي غَيره نَحْو يَا حَار وَقد بيَّنا ذَلِك قبلُ

(1/350)


فصل

فإنْ سمَّيت ب (حُبْلَوِي) أَو (حبليان) لم يجز أنْ ترخِّمه على قَول من قَالَ يَا حارُ بالضمّ لأنَّ الْوَاو وَالْيَاء هُنَا ينقلبان أَلفَيْنِ فَيصير (فُعلى) وَألف فُعلى لَا تكون منقلبة أبدا لكنَّها للتأنيث وَأَجَازَهُ السيرافيّ وعلَّل بِنَحْوِ مَا تقدَّم
فصل

وللعرب فِي الْبَاقِي بعد التَّرْخِيم مذهبان أحدُهما تَركه على مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ الأجود لأنَّ بَقَاءَهُ على ذَلِك ينبَّه على الأَصْل وَالثَّانِي أنْ يضم على كلَّ حَال وَيجْعَل كأنَّه اسْم قَائِم بِرَأْسِهِ / وَفَائِدَة اخْتِلَاف المذهبين أنَّك إِذا رخمت على الْمَذْهَب الأول تركت الْحَرْف الْبَاقِي على حَاله وَلم تغيَّره على مَا يُوجب قِيَاس التصريف وَإِذا رخَّمته على الْمَذْهَب الثَّانِي غيَّرته على مَا يُوجِبهُ قِيَاس التصريف وإذُّ عرفت هَذَا الأَصْل اسْتَغْنَيْت عَن الإطالة بالمسائل

(1/351)


بَاب

حُرُوف الجرّ

إنَّما سمِّيت كسرة الْإِعْرَاب جرّاً لتسفُّلها فِي الْفَم وانسحاب الْيَاء الَّتِي من جِنْسهَا على ظهر اللِّسَان كجرّ الشَّيْء على الأَرْض وَمِنْه قيل لأصل الْجَبَل جرُّ لتسفَّله
والكوفَّيون يسمُّونه (خفضاً) وَهُوَ صَحِيح الْمَعْنى لأنَّ الانخفاض الأنهباط وَهُوَ تسفُّل
فصل

وإنَّما عملت هَذِه الْحُرُوف لاختصاصها بِأحد القبيلين وَقد ذكرنَا علَّة ذَلِك فِي بَاب (أنَّ) وإنَّما عملت الجرّ دون غَيره لأمرين احدُهما أنَّ الْفِعْل عمل الرّفْع وَالنّصب فَلم يبْقى للحرف مَا ينْفَرد بِهِ إلاَّ الجرّ وَالثَّانِي أنَّ الْحَرْف وَاسِطَة بَين الْفِعْل وَبَين مَا وَمَا يَقْتَضِيهِ فَجعل عمله وسطا والجرُّ من (الْيَاء) وَهِي من حُرُوف وسط الْفَم بِخِلَاف الرّفْع فإنَّه من الضمَّ والضمُ من الْوَاو وَالْوَاو من الشفتين وَبِخِلَاف النصب فإنّه من الْألف والألفُ من أقْصَى الْحلق

(1/352)


فصل

وَالْأَصْل فِي الجرّ للحروف لأمرين أحدُهما أَن أصل الْعَمَل للأفعال والحروف دخلت مَوْصُولَة لَهَا إِلَى الْأَسْمَاء فلَمَّا اختصَّت عملت فَكَانَت تلو الْأَفْعَال فِي الْعَمَل أما الْأَسْمَاء فمعمول فِيهَا فَلم تكن عاملة وَالثَّانِي أَن الإضافه تقدَّر بالحرف فدلَّ ذَلِك على أنَّه الأَصْل وإنمَّا عملت فِي الْأَسْمَاء لما يذكر فِي موَاضعه
فصل

و (مِنْ) على أوجه
أحدهُا ابْتِدَاء غايه الْمَكَان كَقَوْلِك سرت من الْبَصْرَة فالبصرة مُبْتَدأ السّير وَقَالَ ابْن السرَّاج تكون (من) لابتداء غايه الْفِعْل من الْفَاعِل كَمَا ذَكرْنَاهُ ولابتداء غَايَة الْفِعْل من الْمَفْعُول كَقَوْلِك نظرت من الدَّار إِلَى الْهلَال من خلل السَّحَاب ف (من الدَّار) مَكَان الْفَاعِل و (من خلل السَّحَاب) مَكَان الْمَفْعُول وَقَالَ غَيره

(1/353)


(من خلل السَّحَاب) حَال من الْهلَال وَيُمكن أنَّ يكون (من الدَّار) حَالا من النَّاظر
وَالثَّانِي التَّبْعِيض وعلامتُه أنْ يصلح مكانَها (بعضٌ) كَقَوْلِك أخذت من المَال وَقَالَ المبرَّد هِيَ لابتداء الْمَكَان أَيْضا والتبعيض مُسْتَفَاد بِقَرِينَة فإنَّ قلت أخذت من زيد مَالا جَازَ أنَّ تعلّق (من) بأخذت وأنَّ تجعلها حَالا من المَال أَي مَالا من زيد فَلَمَّا قدَّمت صفة النكرَة صَارَت حَالا
وَالثَّالِث أنَّ تكون بِمَعْنى الْبَدَل كَقَوْلِه تَعَالَى {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} أَي بَدَلا من الْآخِرَة وموضعها حَال وَمِنْه قَوْله {وَلَو نشَاء لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة} أَي بَدَلا مِنْكُم
وَالرَّابِع أَن تكون لبَيَان الْجِنْس كَقَوْلِه {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} [أَي الرجس الْحَاصِل من جِهَة الْأَوْثَان] وَهَذِه أشبه بِالَّتِي هِيَ للابتداء فأمَّا قَوْلك زيد أفضلُ من عَمْرو ف (من) فِيهِ لابتداء الْغَايَة وَالْمعْنَى ابْتِدَاء معرفَة فضل زيد من معرفَة فضل عَمْرو أَي لَمَّا قيس فَضله بِفضل عَمْرو بَانَتْ زيادتُه عَلَيْهِ

(1/354)


وَالْخَامِس أَن تكون زَائِدَة وَذَلِكَ فِي غير الْوَاجِب نَحْو مَا جَاءَنِي من أحد و {هَل تحسُّ مِنْهُم من أحد} وإنَّما زيدت هُنَا للتوكيد فَقَط لأنَّ أحدا من اسماء الْعُمُوم
فأمَّا قَوْلك مَا جَاءَنِي من رجل ف (من) زَائِدَة من وَجه لأنّك لَو حذفتها لاستقام الْكَلَام وَغير زَائِدَة من وَجه لأنَّها تفِيد استغراق الْجِنْس أَلا ترى أنَّك لَو حذفتها لنفيت رجلا وَاحِدًا كَقَوْلِك مَا جَاءَنِي رجلٌ بل رجلَانِ وَإِذا أثبتَّها دللت بذلك على أنَّه لم يأتك رجلٌ وَلَا أَكثر
مَسْأَلَة

لَا تجوز زِيَادَة (مِنْ) فِي الْوَاجِب وأجازها الْأَخْفَش وَدَلِيلنَا أنَّ (مِنْ) حرف وَالْأَصْل فِي الْحُرُوف أنَّها وُضعت للمعاني اختصاراً من التَّصْرِيح بِالِاسْمِ أَو الْفِعْل الدالّ على ذَلِك الْمَعْنى كالهمزة فإنَّها تدلُّ على اسْتِفْهَام فَإِذا قلت أزيدٌ عنْدك أغنت الْهمزَة عَن (أستفهم) وَأخذت من المَال أَي بعضه وَمَا قصد بِهِ الِاخْتِصَار لَا يَنْبَغِي أَن يَجِيء زَائِدا لأنَّ ذَلِك عكس الْغَرَض وإنَّما جَازَ فِي مَوَاضِع لِمَعْنى من تَأْكِيد وَنَحْوه ولايصحُّ ذَلِك الْمَعْنى هُنَا أَلا ترى أنَّك لَو قلت ضربت من رجل لم تكن مُفِيدا ب (من) شَيْئا بِخِلَاف قَوْلك مَا ضربت من رجل

(1/355)


واحتجَّ الْآخرُونَ بقوله تَعَالَى (ويكفِّر عَنْكُم من سَيِّئَاتكُمْ) و {يغْفر لكم من ذنوبكم} وَالْمرَاد الْجَمِيع وَالْجَوَاب أنَّ (مِنْ) هُنَا للتَّبْعِيض أَي بعض سَيِّئَاتكُمْ لأنَّ أخفاء الصدقّة لَا يمحِّص كل السَّيِّئَات وأمَّا {من ذنوبكم} فالتبعيض أَيْضا لِأَن الْكَافِر إِذا اسْلَمْ قد يبْقى عَلَيْهِ ذَنْب وَهُوَ مظالم الْعباد الدنيويَّة أَو تكون (من) هُنَا لبَيَان الْجِنْس
فصل

و (إِلَى) لانْتِهَاء الْغَايَة وَهِي مُقَابلَة ل (مِنْ)
وَقَالَ قوم تكون (إِلَى) بِمَعْنى (مَعَ) كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم} و {من أَنْصَارِي إِلَى الله} {ويزدكم قوَّة إِلَى قوَّتكم} {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَهَذَا كلُّه لَا حجَّة فِيهِ بل هِيَ للانتهاء وَالْمعْنَى لَا تضيفوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم وكنَّى عَنهُ بِالْأَكْلِ كَمَا قَالَ {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} أَي لَا تَأْخُذُوا و {من أَنْصَارِي} أَي من ينصرني إِلَى أَن

(1/356)


أُتَّم أمرَ الله أَو موضعهَا حَال أَي من أَنْصَارِي مُضَافا إِلَى الله وَمثله {إِلَى قوَّتكم} وأمَّا قَوْله {إِلَى الْمرَافِق} فَفِيهِ وَجْهَان أحدُهما أنَّها على بَابهَا وَذَاكَ أنَّ الْمرْفق هُوَ الْموضع الَّذِي يتَّكئ الْإِنْسَان عَلَيْهِ من رَأس الْعَضُد وَذَلِكَ هُوَ الْمفصل وفويقه فَيدْخل فِيهِ مِفْصَلُ الذِّرَاع وَلَا يجب فِي الْغسْل أَكثر مِنْهُ وَالثَّانِي أنَّ (إِلَى) تدلُّ على وجوب الْغسْل إِلَى الْمرْفق وَلَا تَنْفِي وجوب غسل الْمرْفق لأنَّ الحدّ لَا يدْخل فِي الْمَحْدُود وَلَا يَنْفِيه التَّحْدِيد كَقَوْلِك سرت إِلَى الْكُوفَة فَهَذَا لَا يُوجب دُخُول الْكُوفَة وَلَا يَنْفِيه وَكَذَلِكَ الْمرْفق إلاَّ أنَّ وجوب غسله ثَبت بالسَّنة
فصل

وَمعنى (عَن) الْمُجَاوزَة والتعدِّي وقولك أخذت الْعلم عَن فلَان مجَاز لأنَّ علمه لم ينْتَقل عَنهُ وَوجه الْمجَاز أَنَّك لّمَّا تلقَّيته مِنْهُ صَار كالمنتقل إِلَيْك عَن مَحَله

(1/357)


فصل

وَقد يكون (عَن) اسْما يدْخل عَلَيْهِ حرف الجرّ فَيكون بِمَعْنى جَانب وناحية قَالَ الشَّاعِر 66
(وَلَقَد أَرَانِي للرماح دريئةً ... مِنْ عَنْ يَمِيني مرَّة وأمامي) // الْكَامِل //
وَهِي إِذا كَانَت اسْما مبنيَّة لشبهها بالحرف فِي نقصانها لأنَّك لَا تَقول جَلَست عَن كَمَا تَقول جَلَست نَاحيَة وجانباً
فصل

وَأما (فِي) فحقيقتها الظرفيَّة كَقَوْلِك المالُ فِي الْكيس وَقد يتجوَّز بهَا فِي غَيرهَا كَقَوْلِك فلَان ينظر فِي الْعلم لأنَّ الْعلم لَيْسَ بظرف على الحقيقه وَلَكِن لَمَّا قيَّد نظره بِهِ وقصره عَلَيْهِ صَار الْعلم كالوعاء الْجَامِع لما فِيهِ
وَقد تكون بِمَعْنى السَّبَب كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وسلَّم ((فِي النَّفس المؤمنه

(1/358)


مائَة من الْإِبِل)) أَي تجب بقتلها الْإِبِل وَوجه الْمجَاز أنَّ السَّبَب يتضمَّن الحكم وَالْحكم يلازمه فَصَارَ للْحكم كالظرف الْحَافِظ لما فِيهِ
فصل

وأمَّا (على) وَتَكون حرف جرّ وحقيقتها للدلالة على الاستعلاء كَقَوْلِك زيد على الْفرس فَتكون مجَازًا فِيمَا مَا يغلب الأنسانَ كَقَوْلِك عَلَيْهِ كآبة أَي تغلبه وَتظهر عَلَيْهِ وَعَلِيهِ دَيْنٌ أَي لزمَه الانقياد بِسَبَبِهِ كانقياد المركوب لراكبه وَهُوَ معنى قَول الْفُقَهَاء (على) للْإِيجَاب
فصل

وَقد تكون اسْما بِمَعْنى فوْق مبنيّاً وتقلب ألفها يَاء مَعَ الضَّمِير كَقَوْل الشَّاعِر 67 -
(غَدَتْ من عَلَيْهِ بَعْدَمَا تمَّ ظِمْؤها ... تصلُّ وَعَن قيْضِ بزيزاءَ مَجْهَلِ) // الطَّوِيل //

(1/359)


يَعْنِي قطاة فَارَقت بيضها بَعْدَمَا تَّم عطشها وإنَّما بيّنت لنقصانها كَمَا ذكرنَا فِي (عَن) وقلبت ألفها يَاء حملا على حَالهَا وَهِي حرف وألفها من وَاو لأنَّها من علا يَعْلُو
فصل

وأمَّا (لَام الجرَّ) فَمَعْنَاه الِاخْتِصَاص وَهَذَا يدْخل فِيهِ الْملك وَغَيره لأنَّ كلّ ملك اخْتِصَاص وَمَا كلّ اخْتِصَاص ملكا وقولك السرج للدَّابة للاختصاص وَلَام التَّعْلِيل كَقَوْلِك جئتُ لإكرامِك للاختصاص أيْضاً لَا للْملك
فصل

وتكسر هَذِه اللَّام مَعَ الْمظهر غير المنادى وتفتح مَعَ الْمُضمر غير الْيَاء وإنَّما حرَّكت وَأَصلهَا السّكُون لأنَّها مُبْتَدأ بهَا وَفِي كسرهَا وَجْهَان أحدُهما الْفرق بيننها وَبَين لَام الِابْتِدَاء فإنَّها فِي بعض الْمَوَاضِع تَلْتَبِس بهَا فَجعل فِي نَفسهَا مَا يمْنَع من وُقُوع اللّبْس وأُمِنَ اللبسُ فِي الْمُضمر فردَّت إِلَى الأَصْل وَكسرت مَعَ الْيَاء إتباعاً وإنَّما أُمنَ اللبسُ مَعَ الْمضمر لأنَّ الضَّمِير الْوَاقِع بعد لَام الِابْتِدَاء منفصلٌ وَبعد لَام الجرِّ متصَّل واللفظان مُخْتَلِفَانِ وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ اللَّام تعْمل الجرّ فَجعلت حركتها من نفس عَملهَا وَمَعَ الْمُضمر لَا عمل لَهَا فِي اللَّفْظ فَخرجت على الأَصْل ولأنَّ الضمائر تردَّ الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا

(1/360)


فصل

وأمّأ (الْبَاء) فللإصاق فِي الأَصْل وتستعمل فِي غَيره على التَّشْبِيه بالإلصاق كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد أَي حاذيته والتصقت بِهِ وَتقول أُخذ بِذَنبِهِ أَي ذَنبه سَبَب لذَلِك وَالسَّبَب يلازمه حكمه غَالِبا والملازمة تقرب من الإلصاق وَتَكون للبدل كَقَوْلِك بِعته بِكَذَا فَهِيَ للمقابلة كَمَا أنَّ السَّبَبِيَّة للمقابلة وَتَكون زَائِدَة وَسَنذكر أقسامها فِي الْحُرُوف
فصل

و (الْكَاف) للتشبيه تكون فِي موضعٍ حرفا لَا غير يجوز أَن تقع صلَة كَقَوْلِك الَّذِي كزيد عَمْرو وَلَو كَانَت هُنَا أسماً لما تَّمت الصِّلَة بهَا وَتَكون فِي مَوضِع اسْما لَا غير مثل أنْ تكون فاعلة كَقَوْل الشَّاعِر 68 -
(أتنتهون ولَنْ ينْهَى ذَوي شطَطٍ ... كالطعن يهلكُ الزيتُ والفتلُ) وَالْفَاعِل لَا يكون إلاَّ اسْما مُفردا وَإِذا دخل عَلَيْهَا حرف الجرّ كَانَت اسْما كَقَوْلِه

(1/361)


69 -
(يَضْحكن عَن كالبَرَدِ الْمُنْهَمَّ ... ) // الرجز // وَتَكون فِي موضعٍ مُحْتَملَة لَهما كَقَوْلِك زيدٌ كعمرو ومررت بِرَجُل كالأسد وَجَاء زيد كالأسد وَتَكون زَائِدَة وَيذكر فِي مَوْضِعه
فصل

فإنْ قيل لم فتحت (الْكَاف) وَكسرت (اللَّام وَالْبَاء) قيل الأَصْل فِي الْحُرُوف الأحاديَّة الْفَتْح لأنَّها يبتدأ بهَا والابتداء بالساكن الَّذِي هُوَ الأَصْل الأوَّل مُحال فحرِّكت والضرورة تنْدَفع بأخفَّ الحركات إلاَّ أنَّ (الْبَاء وَاللَّام) كسرتا لما ذكرنَا قبلُ فأمَّا (الكافُ) فَتكون حرفا وَتَكون اسْما فبعدت من اللَّام وَالْبَاء فردَّت إِلَى ألاصل وَقيل إنَّ الْكَاف من أَعلَى الْحلق فَفِيهَا نوع من استعلاء فَكَسرهَا مستثقل وَقيل هِيَ قريبَة من مخرج الْيَاء فيثقل كسرهَا كَمَا يثقل كسر الْيَاء
فصل

وأمَّا (وَاو الْقسم وتاؤه) ففرعان على الْبَاء فُردَّا إِلَى الْفَتْح الَّذِي هُوَ الأَصْل

(1/362)


فصل

وإنَّما لم تدخل (الْكَاف) فِي الِاخْتِيَار على مُضْمر لتردُّدها بَين الِاسْم والحرف وَذَلِكَ اشْتِرَاك فِيهَا والاشتراك فرع والضمائر تردُّ الْأَشْيَاء إِلَّا أُصُولهَا وَلَا أصل لَهَا ولهذه العلَّة لم تدخل حتَّى على الْمُضمر وَقيل لّمَّا لم تكسر (الْكَاف) لم تدخل على الْمُضمر لأنَّ من الْمُضْمرَات مَا يُوجب كسر مَا قبله وَهُوَ يَاء المتكلِّم فَألْحق بَاقِيهَا بِهِ بِخِلَاف اللَّام وَالْبَاء فأمَّا الْوَاو وَالتَّاء فيذكران فِي الْقسم
فصل

وأمّا (رُبَّ) فحرفٌ عِنْد البصريَّين واسمٌ عِنْد الكوفيِّين وحجَّة الأوَّلين من أوجه أحدُها أنَّ مَعْنَاهَا فِي غَيرهَا فَكَانَت حرفا كَسَائِر أخواتها وَالثَّانِي أنَّ مَا بعْدهَا مجرور أبدا وَلَا معنى للإضافة فِيهَا فتعيَّن أنَّ تكون حرف جر

(1/363)


وَالثَّالِث أنَّها تتعلَّق أبدا بِفعل وَهَذَا حكم حرف الجرّ
وحجّة الآخرين من أوجهٍ أحدُها أنَّه أخبر عَنْهَا فَقَالُوا 70
( ... وربَّ قتل عَار) // الْكَامِل // فَرفع (عَار) يدلُّ أنَّه خبر عَنْهَا وَالثَّانِي أنَّها لوكانت حرف جرّ لظهر الْفِعْل الَّذِي تعدّيه وَلَا يظْهر أبدا وَالثَّالِث أنَّها نقيضّة (كَمْ) وَكم اسْم فَمَا يُقَابله اسْم يدلُّ عَلَيْهِ أنَّها جَاءَت للتكثير ك (كم)
وَالْجَوَاب أمَّا الْإِخْبَار عَن (ربّ) فَغير مُسْتَقِيم لأنَّ (ربّ) لَيْسَ لَهَا معنى فِي نَفسهَا حتَّى يصحَّ نِسْبَة الْخَبَر إِلَيْهَا وَلذَلِك تكون الصّفة تَابِعَة للمجرور ب (ربّ) فِي التَّذْكِير والتأنيث والإفراد وَالْجمع و (ربّ) متَّحدة الْمَعْنى فَعلم أنَّ الْخَبَر لَيْسَ

(1/364)


عَن (ربّ) فأمّا قَوْله ربّ قتل عارٌ فشاذّ وَالْوَجْه فِيهِ أنَّه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي (هُوَ عَار) وَالْجُمْلَة صفة لقتل وأمّا الْفِعْل الَّذِي تتعلَّق بِهِ (ربّ) فَيجوز إضهاره غير أنَّهم اكتفوا بِالصّفةِ عَنهُ فِي كثير من الْمَوَاضِع لظُهُور مَعْنَاهُ وأمَّا حملهَا على (كْم) فَلَا يصحّ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَ الأسميَّة لَا تثبت فِي معنى بالإلحاق فِي الْمَعْنى أَلا ترى أنَّ معنى (مِنْ) التبغيض وَلَا يُقَال هِيَ اسْم لأنَّها التَّبْعِيض وَكَذَلِكَ معنى (مَا) النَّفْي وَهِي حرف وَهُوَ اسْم فَعلم أنَّ الأسمَّية تعرف من أَمر آخر وَالثَّانِي أنَّ (كم) اسْم لعدد وَلذَلِك يخبر عَنْهَا وَتدْخل عَلَيْهَا حُرُوف الجرّ وَلَو جعل مَكَانهَا عهدد كثير أغْنى عنهاكقولك مائَة رجل أَو ألف رجل وربّ للتقليل والتقليل كالنفي وَلذَلِك استعملوا (أقلّ) بِمَعْنى النَّفْي كَقَوْلِهِم أقلّ رجل يَقُول ذَاك إلاَّ زيد أَي مَا رجل
فصل

وتُضمر (رُبّ) بعد الْوَاو والجرُّ بهَا وَقَالَ المبرِّد والكوفيُّون الجرّ بِالْوَاو وحجَّة الأوَّلين أنَّ الْوَاو فِي الأَصْل للْعَطْف والعطف يكون للأسماء وَالْأَفْعَال والحروف فَهِيَ غير مُخْتَصَّة وَمَا لَا يختصُّ لَا يعْمل إلاَّ أَن يَنُوب عَن مختّص لَا يظْهر

(1/365)


مَعَه الْبَتَّةَ ك (وَاو الْقسم) فإنَّها تدخل على (الْبَاء) وهما للقسم وَمن هُنَا لم تعْمل حُرُوف الْعَطف لِأَن الْعَامِل يظْهر مَعهَا فَكَذَلِك (وَاو ربّ) هِيَ للْعَطْف وَتدْخل على (ربّ) كَمَا تدخل عَلَيْهَا (الْفَاء) و (بل) وَقد أضمرت بعد (الْفَاء) و (بل) وَلم يقلْ أحدّ إنَّهما تجرَّان فَكَذَلِك الواوفمن (الْفَاء) قَول الشَّاعِر 71 -
(فإمَّا تعرضنَّ أميمَ عنِّي ... وينزغْك الوشاةُ أولو النياطِ)
(فحور قد لهوتُ بهنَّ عينٍ ... نواعَم فِي البرود وَفِي الرياط) // الوافر // وَمن بلْ قَول الراجز 72 -
(بل بلدٍ ملءُِ الفِجاج قَتَمُهْ ... لَا يشترى كتَانُه وجَهْرَمُهْ) // الرجز // فَإِن قيل الْوَاو قد تَأتي فِي أوَّل الْكَلَام وَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْطُوف عَلَيْهِ قيل إِن لم يكن الْمَعْطُوف عَلَيْهِ فِي اللَّفْظ فَهُوَ مقدَّر وَهَذِه وَهَذِه طَريقَة للْعَرَب فِي أشعارهم وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ جَوَاب عمَّا يتعلقون بِهِ

(1/366)


فصل

وإنَّما وَجب ل (ربّ) صدرُ الْكَلَام لأنَّها تشبه حُرُوف النَّفْي إِذْ كَانَت للتقليل والقليل فِي حكم المنفيّ وإنَّما أختصَّت بالنكرة لِأَن الْقَلِيل يتصوَّر فِيهَا دون الْمعرفَة وإنَّما لم تدخل على مُضْمر لِأَن الضمائر معارف وأمَّا قولُهم ربّه رجلا فشاذّ مَعَ أنَّ هَذَا الضَّمِير نكره لأنَّه لم يتَقَدَّم قبله ظَاهر يرجع إِلَيْهِ بل وَجب تَفْسِيره بالنكرة بعده وَلم يسْتَعْمل إلاَّ مذكراً مُفردا
فصل

وتُكَفُّ (رُبَّ) ب (مَا) فَتدخل على الْفِعْل الْمَاضِي خاصَّة لأنَّه تحقَّق فأمَّا قَوْله تَعَالَى {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا} فَفِيهِ وَجْهَان أحدُهما أنَّ (مَا) نكرَة مَوْصُوفَة أَي ربّ شَيْء يودّه وَالثَّانِي هِيَ كافَّة وَوَقع الْمُسْتَقْبل هُنَا لأنَّه مَقْطُوع بِوُقُوعِهِ إِذا خَبرا من الله تَعَالَى فَجرى مجْرى الْمَاضِي فِي تحقٌّقه وَقيل هُوَ على حِكَايَة الْحَال

(1/367)


فصل

وَقد حُكيَ تَخْفيف الْبَاء من (رب) وتحريكها بِالْفَتْح وَحكي فتح رائها وَحكي زِيَادَة تَاء التَّأْنِيث عَلَيْهَا فَقيل (ربت) فَمنهمْ من يقف عَلَيْهَا (تَاء) ليفرّق بَين الْحَرْف وَالِاسْم وَمِنْهُم من يقلبها (هَاء) لتحرُّكها كالتاء فِي الِاسْم
وَدخُول التَّاء لَا يدلُّ على أنَّها اسْم لِأَنَّهَا قد دخلت على (ثُمَّ) وَهِي حرف بِلَا خلاف وَكَذَا حذف إِحْدَى اللامين لَا يدلُ على انها اسمٌ من حَيْثُ أنَّ الْحَذف تصرّف والحروف تبعد عَن التَّصرُّف لأنَّ الْحَذف قد جَاءَ فِي الْحُرُوف كَقَوْلِهِم (سَوْ أفعل) فِي سَوف وَفِي ربّ أحسن من اجل التَّضْعِيف
فصل

فأمَّا (حاشا) و (خلا) فيذكران فِي الِاسْتِثْنَاء وأمَّا (حتَّى) فلهَا بَاب وَكَذَلِكَ (مُذْ) و (مُنْذُ)

(1/368)


بَاب مذ ومنذ

وهما حرفان فِي مَوضِع واسمان فِي مَوضِع فَإِذا كَانَ مَعْنَاهُمَا (فِي) فهما حرفان وَإِذا كَانَ مَعْنَاهُمَا تَقْدِير المدَّة وابتداءها فهما اسمان إلاَّ انَّ الْأَكْثَر فِي (مذْ) أَن تسْتَعْمل اسْما وَالْأَكْثَر فِي (منذُ) أَن تسْتَعْمل حرفا وعلّة وَذَلِكَ أنَّ أصل (مذُ) (منْذُ) فحذفت نونها والحذف تصرُّف وَذَلِكَ بعيد فِي الْحُرُوف ويدلُّ على الْحَذف أنَّك لَو سمَّيْت ب (مذ) ثَّم صغَّرته أَو كسّرته أعدتها فَقلت (مُنيذ) و (أمناذ)
فصل

و (مُنْذُ) مُفْرد عِنْد البصريِّين ومركَّب عِنْد الكوفيِّين وَاخْتلفُوا فِي تركيبه فَقَالَ الفرَّاء (من ذُو) الَّتِي بِمَعْنى (الَّذِي) فِي اللُّغَة الطائَّية وَقَالَ غَيره أَصله (من إِذْ) ثَّم حُذف وركَّب وضُمَّ أوَّله دلَالَة على التَّرْكِيب وبنوا على هَذَا الْإِعْرَاب

(1/369)


فَقَالُوا تَقْدِير قَوْلك مَا رَأَيْته مُنْذُ يَوْمَانِ أَي من الَّذِي هُوَ يَوْمَانِ ف (يَوْمَانِ) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَقَالَ الْآخرُونَ هُوَ فَاعل فعل مَحْذُوف أَي من إِذْ مضى يَوْمَانِ
وعَلى قَول البصريَّين (مُنْذُ) مُبْتَدأ و (يَوْمَانِ) خَبره وَالتَّقْدِير أمد ذَلِك يَوْمَانِ أَو أوَّل ذَلِك يومُ الْجُمُعَة وحجَّة البصريَّين أنَّ الأَصْل عدم المركَّب والانتقال عَن الأَصْل يفْتَقر إِلَى دَلِيل ظَاهر وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ وَأكْثر مَا ذكرُوا أنَّ الْمَعْنى يَصح على تَقْدِير التَّرْكِيب وَهَذَا القَدْرُ لَا يَكْفِي فِي الِانْتِقَال عَن الأَصْل وإنَّما يكون حجَّة إِذا انضمَّ إِلَيْهِ تعذُّر الْحمل على غَيره وَهنا يصحّ الْمَعْنى على تَقْدِير كَونهَا مُفْردَة فنفي دَعْوَى التَّرْكِيب تحكُّم لَا يعلم إلاَّ بالْخبر الصَّادِق ثَّم دَعْوَى التَّرْكِيب تفْسد من جِهَة أُخْرَى وَتلك الْجِهَة هِيَ مَا يلْزم من كَثْرَة التَّغْيِير والحذف والشذوذ فالتغيير ضمُّ الْمِيم والحذف إِسْقَاط النُّون وَالْوَاو من (ذُو) وَالْألف من إِذْ وَإِسْقَاط أحد جزئي الصِّلَة أَو حذف الْفِعْل الرافع على جِهَة اللُّزُوم وَذَلِكَ كلّه يُخَالف الْأُصُول
فصل

وَتدْخل (مُنْذُ) على الزَّمن الْحَاضِر فتجرُّه كَقَوْلِك أَنْت عندنَا منذُ الْيَوْم وتقدَّر ب (فِي) وَتَكون حرف جرّ فتتعلَّق بِالْفِعْلِ الَّذِي قبلهَا الْمظهر أَو المقدَّر وَيكون الْكَلَام جملَة وَاحِدَة
فأمَّا دُخُولهَا على الْمَاضِي لأبتداء الْغَايَة أَو تَقْدِير المدَّة فقليل فِي الِاسْتِعْمَال ولكنْ هُوَ جَائِز فِي الْقيَاس

(1/370)


وأمَّا (مُذْ) فَتدخل على الْمَاضِي لابتداء مدَّة الزَّمَان أَو بَيَان جملَة المدَّة فيرتفع مَا بعْدهَا وَتدْخل على الْحَاضِر فتجرّه لأنَّها اسْم فَكَانَ حكُمها أوسع من حكم الْحَرْف وجرَّها الْجَمِيع جَائِز مثل (منذُ) لأنَّها تكون حرفا أَيْضا
فصل

وَإِذا كَانَت للابتداء كَانَ معرفَة كَقَوْلِك مَا رَأَيْته مذ يَوْم الْجُمُعَة لأنَّه جَوَاب مَتى وَإِذا كَانَت لتقدير المدَّة كَانَ مَا بعْدهَا عددا نكرَة كَقَوْلِك مَا رَأَيْته مُنْذُ يَوْمَانِ فإنْ قيل فَمَا الفرقُ بَينهمَا فِي الْمَعْنى قيل لَهُ الَّتِي للإبتداء لَا يمْتَنع مَعهَا أَن تقع الرُّؤْيَة فِي بعض الْيَوْم الْمَذْكُور لأنَّ اللُّزُوم أنْ تكون الرُّؤْيَة قد انْقَطَعت فِيهِ واستمرَّ الإنقطاع إِلَى حِين الْإِخْبَار بِهِ وَالَّتِي تقدَّر بعْدهَا المدَّة لَا يجوز أَن تكون الرُّؤْيَة وجدت فِي بَعْضهَا لأنَّ الْعدَد جَوَاب (كم) فكأنَّك قلت كم زمن انْقِطَاع الرُّؤْيَة فَقَالَ يَوْمَانِ فَإِن قيل مَا الْفرق بَين رفع مَا بعده وجرّه قيل من وَجْهَيْن أحدُهما أنَّك إِذا رفعت كَانَ الْكَلَام جملتين عِنْد الْأَكْثَرين وَإِذا جررت كَانَت وَاحِدَة كَمَا فِي حُرُوف الجرّ وَالثَّانِي أنَّك إِذا رفعت جَازَ أَن تقع الرُّؤْيَة فِي بعض ذَلِك الزَّمَان وَإِذا جررت لم يجز

(1/371)


فصل

وَاخْتلفُوا فِي طَرِيق الرّفْع فَقَالَ الكوفُّيون فِيهِ قَوْلَيْنِ أحدُهما هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالثَّانِي هُوَ فَاعل فعل مَحْذُوف وَقد ذكرناهما فِي أوَّل الْبَاب
وللبصريَّين مذهبان أحدُهما أنَّ (مذ) مُبْتَدأ وَمَا بعده الْخَبَر وَالتَّقْدِير أوَّل ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة وأمد ذَلِك يَوْمَانِ وَهُوَ قولُ الْأَكْثَرين وَالثَّانِي أنَّ (مذ) خبر مقدَّم وَالتَّقْدِير بيني وَبَين انْقِطَاع الرُّؤْيَة يَوْمَانِ وَهُوَ قَول أبي الْقَاسِم الزجَّاجي وَهُوَ بعيد لأنَّ (أنَّ) تقع بعد (مذ) كَقَوْلِك مَا رَأَيْته مذ أنَّ الله خلقني و (أنَّ) لَا تكون مُبْتَدأ
فصل

وَلَيْسَ ل (مُذ) وَمَا بعْدهَا مَوضِع عِنْد الْجُمْهُور بل هُوَ جَوَاب كَلَام مقدَّر لأنَّه إِذا قَالَ مَا رَأَيْته فكأنَّك قلت مَا أمدُ ذَلِك أَو مَا أوَّل ذَلِك فَقلت مذ كَذَا وَقَالَ أَبُو سعيد السيرافيُّ مَوْضِعه حَال أَي مَا رَأَيْته متقدِّماً أَو مقدِّراً

(1/372)


فصل

وإنَّما بنيت (مذْ) وهما اسمان لوَجْهَيْنِ أحدُهما تضمَّنهما معنى الْحَرْف أَي مَا رَأَيْته من هَذَا الأمد إِلَى هَذَا الأمد وَالثَّانِي أنَّهما ناقصتان فأشبهتا (كم) فِي الْخَبَر
بَاب الْقسم

الْقسم لَيْسَ بمصدر (أقسمتُ) بل هُوَ عبارَة عَن جملَة الْيَمين فهوبمعنى الْمقسم بِهِ فَهُوَ كالقبْض والنقْض بِمَعْنى الْمَقْبُوض والمنقوض
فصل

وَالْغَرَض مِنْهُ توكيد الْكَلَام الَّذِي بعده من إِثْبَات أَو نفي
فصل

الْمقسم بِهِ كلّ مُعظم إِلَّا أَنه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - نهى عَن الْحلف بِغَيْر الله تَعَالَى
فصل

وَالْأَصْل فِيهِ (أقْسِمُ) و (أحْلِفُ) لأنَّ ذَلِك يدلُّ بصريحه عَلَيْهِ إلاَّ أنَّ الْفِعْل حُذِفَ لدلَالَة حرف الْجَرّ وَالْجَوَاب عَلَيْهِ
فصل

وأصل حُرُوف الْقسم (الْبَاء) لأنَّ فعل الْقسم يتعدَّى بهَا دون غَيرهَا وَلذَلِك جَازَ الْجمع بَين الْفِعْل وَالْبَاء وَلم يجز إِظْهَار الْفِعْل مَعَ الولو وَالتَّاء

(1/373)


فصل

وَتدْخل (الْبَاء) على الْمُضمر والمظهر لِأَنَّهَا أصل فتجري فِي كلِّ مقسم بِهِ
فصل
و (وَاو) الْقسم بدل من الْبَاء لأنَّهم أَرَادوا التَّوسعَة فِي أدوات الْقسم لكثرته فِي كَلَامهم و (الولو) تشبه الْيَاء من وَجْهَيْن أحدُهما أنَّ الْبَاء للإلصاق وَالْوَاو للْجمع والمعنيان متقاربان وَالثَّانِي أنَّهما جَمِيعًا من الشفتين فأمَّا الْفَاء وَإِن كَانَت من الشفتين فَفِيهَا معنى غير الْجمع وَهُوَ التَّرْتِيب فِي الْعَطف وَالْجَوَاب وَلكَون الْوَاو بَدَلاً لَا تدخل على الْمُضمر لأنَّه بدل من الْمظهر فَلم يجْتَمع بدلان
فصل

و (التَّاء) بدل من (الْوَاو) هُنَا كَمَا أبدلت فِي (تراث وتجاه وتهمة وتخمة) ولَمَّا كَانَت بَدَلا عَن بدل اختصَّت لِضعْفِهَا باسم الله تَعَالَى خاصَّة لأنَّه أَكثر فِي بَاب الْقسم وَلَا يجوز (تَرَبِّي) وَقد حُكي شاذّاً
فصل

وَقد استعملوا (اللَّام) فِي الْقسم إِذا أَرَادوا التعجُّب كَقَوْلِهِم لله أَبوك لقد فعلت وَإِنَّمَا جاؤوا بهَا دون الْحُرُوف الأُوَل ليعلم أنَّ الْقسم قد انضمَّ إِلَيْهِ أمرٌ آخر وَكَانَت اللَّام أوْلى بذلك لما فِيهَا من الِاخْتِصَاص والمقسم بِهِ مَعَ التَّعَجُّب مختصّ

(1/375)


فصل

وَقد قَالَ بَعضهم إنَّ (من) الجارّة تسْتَعْمل فِي الْقسم مَعَ (رَبِّي) وَمَعَ (الله) وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ محذوفة من (ايمن) وَسَيَأْتِي القَوْل فِيهَا
فصل

وَقد عوَّض من حرف الْقسم ثَلَاثَة أَشْيَاء همزَة الِاسْتِفْهَام كَقَوْلِك الله وَالْهَاء كَقَوْلِك إيها الله ولاها الله ف (إِي) بِمَعْنى (نَعْمَ) وَقطع الْهمزَة كَقَوْلِك أفألله وَهَذَا كلُّه يخْتَص باسم الله والجرُّ بَاقٍ
وَقد أختص اسْم الله بأَشْيَاء مِنْهَا هَذَا وَمِنْهَا (تَاء) الْقسم وَمِنْهَا زِيَادَة الْمِيم فِي النداء وَمِنْهَا قطع همزته فِيهِ أَيْضا وَمِنْهَا تفخيم لامه

(1/376)


فصل

فإنَّ حذفت حُرُوف الْقسم وعوَّضته نصبت بِالْفِعْلِ المقدَّر وَهُوَ كَقَوْلِهِم 73 -
(أَمرتك الْخَيْر ... ) // الْبَسِيط // والجرُّ جَائِز فِي اسْم الله تَعَالَى خاصَّة لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله فِي الْقسم وَقَالَ الكوفيُّون يجوز ذَلِك فِي كلِّ مقسم بِهِ واحتجُّوا لذَلِك بأَشْيَاء كلُّها شاذّ قليلٌ فِي الِاسْتِعْمَال لَا يقاسُ عَلَيْهِ لأنَّ حرف الجرّ كجزء من الْمَجْرُور وكجزء من الْفِعْل من وَجه آخر فَحَذفهُ كحذف جُزْء مِنْهُمَا إِذا بَقِي عمله فأمَّا إِذا لم يبْق فَالْعَمَل للْفِعْل وَلِهَذَا لم يكن الضَّمِير الْمَجْرُور إلاَّ مُتَّصِلا ولأنّ عمل حرف الجرّ قَلِيل ضَعِيف على حسب ضعفه وإبقاء الْعَمَل مَعَ حذف الْعَامِل أثرُ قوَّته وتصرُّفه
فصل
وَقد حذف الْقسم وأقيمت الْجُمْلَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَالْفِعْل وَالْفَاعِل مقَامه فَالْأولى كَقَوْلِك لعمرك لأقومنَّ ف (عمرك) مُبْتَدأ وَالْخَبَر مَحْذُوف أَي لعمرك قسمي وَحذف لطول الْكَلَام وأنَّه مَعْلُوم وَعين (عَمْرك) مفتوحةٌ فِي الْقسم

(1/377)


لَا غير وَيجوز ضمُّها فِي غَيره واختاروا الفتحة لكثرته ولطول الْكَلَام فإنْ حذفت اللَّام نصبت (عَمْرَك) على فعل مَحْذُوف ونصبت إسم الله وَفِيه وَجْهَان أحدُهما أنَّ التَّقْدِير أَسأَلك بتعميرك اللهَ أَي باعتقادك بقاءَ الله ف (تعميرك) مفعول ثَان و (الله) مَنْصُوب بِالْمَصْدَرِ وَالثَّانِي أَن يَكُونَا مفعولين أَي أسأَل الله تعميرك
وأمَّا الْجُمْلَة الفعلية فكقولك يَمِين الله فَإِن نصبت كَانَ التَّقْدِير ألزمك وَالْتزم يَمِين الله وَإِن رفعت كَانَ التَّقْدِير يَمِين الله لَازِمَة لي أَو لَك
فصل

وَجَوَاب الْقسم إِن كَانَ إِيجَابا لَزِمته اللَّام وَالنُّون فِي الْمُسْتَقْبل كَقَوْلِك وَالله لأذهبنَّ وإنّما لَزِمَهَا لدلالتها على التوكيد وحاجة الْقسم إِلَيْهِ وربَّما جَاءَ فِي الشّعْر حذف اللَّام
وَقد يكون الْجَواب مُبْتَدأ وخبراً كَقَوْلِك وَالله لزيدٌ منطلق وو الله إنَّ زيدا لمنطلق وإنْ كَانَ الْجَواب مَاضِيا قلت وَالله لقد قَامَ زيدٌ فتؤكد بِاللَّامِ وَإِن

(1/378)


كَانَ الْجَواب نفيا قلت وَالله مَا قَامَ وَوَاللَّه لَا يقوم وَيجوز حذف (لَا) فِي الْمُسْتَقْبل لأمن اللّبْس بالإثبات لأنَّه فِي الْإِثْبَات تلْزمهُ وَالنُّون
فَإِن قيل لم أكّد الْإِثْبَات دون النَّفْي قيل لأنَّ فِي الْإِثْبَات الْتِزَام إِحْدَاث الْفِعْل أَو مَا يقوم مقَامه وَفِي ذَلِك كلفة فاحتيج فِيهِ إِلَى زِيَادَة توكيد تحمل على الِانْتِقَال عَن الأَصْل وَتحمل المشقَّة بِخِلَاف النَّفْي فإنَّه بَقَاء على الْعَدَم
فصل

وَإِذا قلت لزيد منطلق من غير يَمِين فِي اللَّفْظ فَلَيْسَتْ لَام الْقسم بل لَام الِابْتِدَاء
وَقَالَ الكوفيُّون هِيَ لَام الْقسم قَالُوا وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أنَّها تدخل على الفضلات كَقَوْلِك لطعامَكَ زيدٌ آكل وَلَيْسَ الطَّعَام بمبتدأ وَحجَّة البصريِّين أنَّ اللَّام إِذا دخلت على مفعول (ظَنَنْت) ارْتَفع بِالِابْتِدَاءِ وَلم يُمكن تَقْدِير الْقسم فِيهِ لأنَّ (ظَنَنْت) لَا تلغى بالقسم فَعلم أَن تَعْلِيق

(1/379)


(ظَنَنْت) لتحقّق الِابْتِدَاء كَمَا تعلّق بالاستفهام كَقَوْلِهِم علمت أيُّهم أَخُوك وأمَّا قَوْلهم طعامَك زيد آكل فإنَّما جَازَ لأنَّها فِي حيِّز الْخَبَر إِذْ كَانَت معمولة لَهُ مقدّمة عَلَيْهِ فكأنَّها دَاخِلَة على الْمُبْتَدَأ
فصل

وممَّا يسْتَعْمل فِي الْقسم (ايمن الله) وَهِي مُفْردَة عِنْد البصريِّين واشتقاقها من الْيمن أَي الْبركَة أَو القوّة
وَقَالَ الكوفيُّون هِيَ جمع يَمِين واحتجَّ الأوَّلون بشيئين أحدُهما كسر همزتها فإنَّها لُغَة مسموعة وهمزة الْجمع لَا تكسر وَالثَّانِي أنَّها همزَة وصل بِدَلِيل قَول الشَّاعِر [من الطَّوِيل] 74 -
(فَقَالَ فريق الْقَوْم لَمَّا نشدتهم ... نَعَمْ وفريقٌ لَا يْمُنُ الله مَا نَدْرِي) // الطَّوِيل // وهمزة الْجمع لَيست همزَة وصل

(1/380)


واحتجَّ الْآخرُونَ من وَجْهَيْن أحدُهما أنَّه جمع يَمِين كَقَوْل الشَّاعِر 75
( ... يبري لَهَا من أيْمُنٍ وأشمل) // الرجز // فقابلها بالأشمل وَفِي جمعهَا فِي الْقسم زِيَادَة توكيد وَالثَّانِي أنَّ همزتها مَفْتُوحَة وهمزة الْوَصْل لَا تفتح مَعَ غير لَام التَّعْرِيف
وَالْجَوَاب أمَّا الأوَّل فَلَا حجَّة فِيهِ لأنَّنا لَا ننكر أنَّ الْيَمين يجمع على (أَيمن) فِي غير الْقسم وأمَّا مَا ذَكرُوهُ فَلَا تعرّض لَهُ بالقسم وأمَّا فتح همزتها فلغة فِيهَا وللعرب فِيهَا لُغَات فتح الْهمزَة وَكسرهَا مَعَ النُّون وَفتحهَا وَكسرهَا مَعَ حذف النُّون كَقَوْلِك (ايم الله) وَالْخَامِسَة (آم الله) بِكَسْرِهَا وَفتحهَا مَعَ حذف الْيَاء وَالنُّون و (مِنُ الله) بضمَّ الْمِيم وَكسرهَا و (مُ الله) بِالضَّمِّ وَالْكَسْر
وَقَالَ سبيويه إنَّ (من) هُنَا حرف جرّ وَلَيْسَت الْبَاقِيَة من (ايمن) ولوجعلت هَذِه الْحُرُوف والتصرَّفات فِي هَذِه الْكَلِمَة دَلِيلا على أنَّها لَيست جمعاُ كَانَ متمسّكاً صَحِيحا

(1/381)


بَاب حتَّى

وَهِي حرف بِلَا خلاف وَتدْخل على الْمُفْرد وَالْجُمْلَة الأسمَّية وَالْفِعْل فدخولُها على الْفِعْل يذكر حكمه فِي نواصب الْأَفْعَال وأمَّا دُخُولهَا على الْجُمْلَة فَلَا يؤثَّر فِيهَا لفظا وَلَا تَقْديرا وَذَلِكَ كَقَوْل الشَّاعِر 76 = -
(فواعجبا حتَّى كليبٌ تسبّني ... كَأَن أَبَاهَا نَهْشلُ أوْ مُجاشعُ) // الطَّوِيل // وأمَّا دخولُها على الْمُفْرد فعلى ضَرْبَيْنِ أحدُهما أنَّ تجر ك (إِلَى) وَالثَّانِي أَن تكون عاطفة ك (الْوَاو)
فصل

وَمعنى (حتَّى) اللَّازِم لَهَا الْغَايَة فِي التَّعْظِيم والتحقير

(1/382)


فَأَما عَملهَا فَلَيْسَ بِأَصْل بل مَحْمُول على غَيرهَا لأنهَّا لمَّا دخلت على الْجُمْلَة تَارَة وَبِمَعْنى (إِلَى) أُخْرَى وَبِمَعْنى (الْوَاو) ثَالِثَة وَبِمَعْنى (كي) رَابِعَة لم يكن لَهَا اخْتِصَاص تعْمل بِسَبَبِهِ لأنَّ هَذِه الْمعَانِي تكون فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال
فصل

وإنّما عملت عمل (إِلَى) لأنَّ إِلَى لانْتِهَاء الْغَايَة و (حتَّى) تشاركها فِي ذَلِك فَعمِلت عَملهَا فِي الْموضع الَّذِي يصحُّ دُخُول (إِلَى) فِيهِ
فصل

وتفارق (حتَّى) إِلَى فِي أَشْيَاء أحدُها أنَّ مَا بعد حتَّى يدْخل فِي حكم مَا قبلهَا كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم حتَّى زيد ف (زيد) هُنَا دخل فِي الْقيام وَلَا يلْزم ذَلِك فِي قَوْلك قَامَ الْقَوْم إِلَى زيد وَالثَّانِي أنَّ مَا قبل (حتَّى) يجب أَن يكون جمعا كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم حتَّى زيد وَلَو قلت قَامَ عَمْرو حتَّى زيد لم يجز وعلَّة ذَلِك أنَّ (حتَّى) تدلُّ على بُلُوغ الْعَمَل غَايَته وَلَفظ الْوَاحِد لَا يتَنَاوَل أَكثر مِنْهُ بِحَيْثُ يجوز تَخْصِيصه بِبَعْضِه

(1/383)


بِخِلَاف لفظ الْجمع فإنَّهُ جَازَ أَن يُضَاف الْفِعْل إِلَى الْقَوْم وَلَا يُرَاد دُخُول (زيد) فيهم لِعِظَمِهِ أَو حقارته فَإِذا جِئْت ب (حتَّى) أزلَّت هَذَا الْجَوَاز وتنزَّلتْ (حتَّى) منزلَة التوكيد الْمَانِع من التَّخْصِيص وَالثَّالِث أنَّ (إِلَى) تدخل على الْمُضمر و (حتَّى) لَا تدخل عَلَيْهِ وعلَّة ذَلِك أنَّه لمَّا لزم أنَّ يكون قبلهَا جمع وَمَا بعْدهَا واحدٌ مِنْهُ لم يتقدَّم على (حتَّى) اللَّفْظ الظَّاهِر ليعود الضَّمِير إِلَيْهِ فَلَمَّا أضمر لم يكن لَهُ ظَاهر يعود عَلَيْهِ ضمير كَقَوْلِك قَامَ الْقَوْم حَتَّى زيد ف (زيد) لم يتقدَّم لَهُ ذكر يعود عَلَيْهِ ضمير
فصل
وَإِنَّمَا جَازَ أَن تقع (حتَّى) بِمَعْنى (الْوَاو) لأنَّ الْوَاو للْجمع و (حتَّى) للغاية والشمول والمعنيَّان متقاربان
فصل

وتفترقان فِي أَشْيَاء أحدُها أَن مَا قبلهَا يجب أَن يكون جمعا لما تقدَّم وَالثَّانِي أنْ يكون مَا بعْدهَا من جنس مَا قبلهَا فَلَو قلت جَاءَ النَّاس حتَّى الْحمير لم يجز لمَّا ذكرنَا من إِفَادَة معنى الْغَايَة والتوكيد

(1/384)


وَالثَّالِث أنَّ الْوَاو تضمر بعْدهَا (ربّ) وَلَا تُضمر بعد (حتَّى)
مَسْأَلَة

تَقول مَرَرْت بهم حتَّى زيدٍ إنْ جَعلتهَا بِمَعْنى (إِلَى) لم تحْتجْ إِلَى إِعَادَة الْبَاء وإنْ جَعلتهَا كالواو أعدت الْبَاء كَمَا تعيدها مَعَ الْوَاو
مَسْأَلَة

تَقول أكلت السَّمَكَة حتَّى رأسِها أَكلته فلك فِيهِ الرّفْع بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بعده خبر وَالنّصب على وَجْهَيْن أحدُهما أَن تنصبه بِمَعْنى الْوَاو فَيكون (أَكلته) توكيداً وَالثَّانِي أَن تنصبه بِفعل مَحْذُوف دلَّ عَلَيْهِ مَا بعده أَي حتَّى أكلت رَأسهَا ف (حتَّى) على هَذَا دَاخِلَة على الْجُمْلَة تَقْديرا والجر بِمَعْنى (إِلَى) وأكلته توكيد لَا غير وَمثل ذَلِك قَول الشَّاعِر 77 -
(ألْقى الصَّحِيفَة كي يخفِّف رَحْله ... والزاد حَتَّى نعلِّة أَلْقَاهَا) يرْوى (نعلَه) بالأوجه الثَّلَاثَة

(1/385)


فإنْ لم تقلْ (أَكلته) جَازَ الجرّ بِمَعْنى (إِلَى) وَالنّصب بِمَعْنى (الْوَاو) وَالرَّفْع على الإبتداء وَالْخَبَر مَحْذُوف وَمنع الزجاجيُّ الرّفْع فِي كتاب الْجمل وَهُوَ إمَّا سهوٌ وإمَّا إنْ يُرِيد أَن الرّفْع بِمَعْنى الْوَاو الْوَاو لَا يجوز فأمَّا على تَقْدِير الإبتداء وَحذف الْخَبَر لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ فَلَا مَانع مِنْهُ
مَسْأَلَة

تَقول اجْلِسْ حتَّى إِذا جَاءَ زيد أَعطيتك ف (حتَّى) هُنَا غير عاملة لأنَّ (إِذا) يعْمل فِيهَا جوابُها النصب على الظّرْف فتغلوا (حتَّى) لدخولها على الْجُمْلَة تَقْديرا وَتصير كالفاء فِي ربط مَا بعْدهَا بِمَا قبلهَا فِي الْمَعْنى

(1/386)


بَاب الْإِضَافَة

الْإِضَافَة فِي اللُّغَة الْإِسْنَاد قَالَ امْرُؤ الْقَيْس 78
(فلَمَّا دخلناه أضفنا ظُهُورنَا ... إِلَى كل حاريّ جَدِيد مُشطَّبِ) // الطَّوِيل // أَي أسندناها وَبِهَذَا الْمَعْنى فِي هَذَا الْبَاب لأنَّ الِاسْم الأوَّل ملتصق بِالثَّانِي ومعتمد عَلَيْهِ كاعتماد الْمُسْتَند بِمَا يسْتَند إِلَيْهِ
فصل

وَإِنَّمَا حذف التَّنْوِين من الأوَّل لوَجْهَيْنِ أحَدُهما أنَّ التَّنْوِين تدلُّ على إنتهاء الإسم وَالْإِضَافَة يدلُّ على احْتِيَاج الأوّل إِلَى الثَّانِي فَلم يجتمعا وَالثَّانِي أنَّ التَّنْوِين فِي الأَصْل يدل على التنكير وَالْإِضَافَة تخصّص فَلم يجتمعا

(1/387)


فصل

وأمَّا جرُّ الثَّانِي بالأوَّل فلأنَّ الْإِضَافَة تقدَّر بِحرف الجرّ ولكنَّه حذف ليحصل التَّخْصِيص أَو التَّعْرِيف فناب الإسم عَن الْحَرْف فَعمل عمله كَمَا يعْمل الِاسْم عمل الْفِعْل فِي مَوَاضِع وَلَيْسَ فِي الْإِضَافَة تَقْدِير حرف على جهةِ التضُّمن إذْ لَو كَانَ كَذَلِك لأوجب الْبناء
فصل

وَالْإِضَافَة تكون بِمَعْنى (اللَّام) وَبِمَعْنى (مِنْ) نَحْو غُلَام زيد وأثواب خزّ ويتبيَّن الْفرق بَينهمَا بأَشْيَاء مِنْهَا أنَّ الَّتِي بِمَعْنى (اللَّام) يكون الثَّانِي فِيهَا غير الأوَّل فِي الْمَعْنى وَالَّتِي بِمَعْنى (مِنْ) يكون الأوَّل فِيهَا بعض الثَّانِي وَمِنْهَا أنَّ الَّتِي بِمَعْنى (اللَّام) لَا يصحّ فِيهَا أنْ يُوصف الأوَّل بِالثَّانِي وَالَّتِي بِمَعْنى (مِنْ) يصحُّ فِيهَا ذَلِك وَمِنْهَا أَن الَّتِي بِمَعْنى (اللَّام) لَا يَصح فِيهَا أنْ ينْتَصب الثَّانِي على التَّمْيِيز للأوَّل وَالَّتِي بِمَعْنى (من) يصحُّ فِيهَا ذَلِك كَقَوْلِك هَذَا بَاب حديدا

(1/388)


فَإِن قيل (يَد زيد) من أيّ الإضافتين قيل مِنَ الَّتِي بِمَعْنى اللَّام لأنَّ العلامات الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي اللَّام تُوجد فِيهَا دون الْأُخْرَى
فإنْ قيل ف (كلُّ الْقَوْم) من أيّهما قيل من اللَّام لمَّا تقدَّم أَلا ترى أنَّ (كلاًّ) عبارَة عَن مَجْمُوع أَجزَاء الشَّيْء الْمُضَاف إِلَيْهِ والمجزَّأُ غيرُ الْأَجْزَاء وَلذَلِك لَا تَقول الْقَوْم كلٌّ وَلَا الكلُّ قومٌ
فصل

وَالْإِضَافَة الْمَحْضَة تعرّف إِذا كَانَ الثَّانِي معرفَة كَقَوْلِك غُلَام زيد وَصَاحب الرجل فيتعدّى التَّعْرِيف من الثَّانِي إِلَى الأوَّل لتخصُّصه بِهِ
وأمَّا غير الْمَحْضَة فَهِيَ على ضَرْبَيْنِ أحدُهما لَا يحصل مِنْهَا تَعْرِيف وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أحدُها إِضَافَة (مثل) ونظائره كَقَوْلِك زيد مثل عَمْرو لأنَّ (مثلا) يقدِّر فِيهَا التَّنْوِين إِذْ كَانَت الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ لَا تقع من وَجه مَخْصُوص وَكَذَلِكَ (غير) لأنَّ المثلَيْنِ من وَجه غيران من وجهٍ آخر وَكَذَلِكَ الغَيْران مثلان من وَجه آخر فإنْ وَقعا بَين متماثلين من كلِّ وَجه أَو متغايرين من كلِّ وَجه تعرَّفا كَقَوْلِك الْحَرَكَة غير السّكُون /

(1/389)


وَالثَّانِي أَسمَاء الفاعلين والمفعولين العاملة عمل الْفِعْل لأنَّ التَّنْوِين فِيهَا مقدَّر مُرَاد وَحذف تَخْفِيفًا وانجرَّ الثَّانِي لوُجُود لفظ الْإِضَافَة كَقَوْلِك زيد ضَارب عمروٍ غَدا وَالثَّالِث الصّفة المشبهة باسم الْفَاعِل نَحْو حسن الْوَجْه لأنَّ التَّنْوِين فِيهَا مُرَاد أَيْضا وَالتَّقْدِير مَرَرْت بِرَجُل حسنٍ وَجهه وَالضَّرْب الثَّانِي يحصل فِيهِ التَّعْرِيف وذلكْ فِي موضِعين أحدُهما إِضَافَة (أفعل) كَقَوْلِك زيدٌ أفضل الْقَوْم ف (أفضل) معرفَة عِنْد الْأَكْثَرين وأفعل هَذِه تسْتَعْمل على ثَلَاثَة أوجه أحدُها ب (مِنْ) كَقَوْلِك زيدٌ أفضل من عَمْرو وَهَذِه نكرَة وَالثَّانِي الْألف وَاللَّام كَقَوْلِك زيد الْأَفْضَل وَالثَّالِث الْإِضَافَة
فصل

و (أفعل) هَذِه تُضَاف إِلَى مَا هِيَ بعضٌ لَهُ وَلذَلِك لَا تَقول زيدٌ أشدُّ الْحِجَارَة وَلَا أفضل الْحمير لأنَّه لَيْسَ مِنْهُمَا وَمن هَهُنَا إِذا قلت زيدٌ أفره عبدٍ فجررت كَانَ زيدا عبدا وَالتَّقْدِير زيدا أفره العبيد وإنَّ قلت زيدٌ أفره عبدا فَنصبت لم يكن زيدٌ عبدا وَالْمعْنَى عبيدُه أفرهُ من عبيدِ غَيره
وَمن الْمَسْأَلَة الْمَشْهُورَة أفضل إخْوَته لَا يجوز لأنَّ إِضَافَة أفضل إِلَيْهِم

(1/390)


توجب أنَّ يكون وَاحِدًا مِنْهُم وإضافتهم إِلَيْهِ تدلُّ على أنَّه غَيرهم لأنَّ الشَّيْء لَا يُضَاف إِلَى نَفسه فيتنافيان وَلذَلِك لَو قيل مَنْ إخْوَته لم تعدّه مِنْهُم وَلَو قيل زيدُ أفضل الْإِخْوَة جَازَ لأنَّه وَاحِد مِنْهُم وَلذَلِك تعدَّه مِنْهُم
فصل
وأمَّا الضَّرْب الثَّانِي فَهُوَ إِضَافَة الشَّيْء إِلَى مايصحُّ أنْ يكون صفة لَهُ ك (صَلَاة الأوَّلى وَمَسْجِد الْجَامِع وجانب الغربيّ) فيجعلونه على غير مَحْض لأنَّ الأَصْل أَن تَقول الصَّلَاة الأولى وَالْمَسْجِد الْجَامِع وَلَكِن لّمَّا أضيف تؤول على حذف مَوْصُوف تَقْدِيره صَلَاة السَّاعَة الأوَّلى وَمَسْجِد المكانِ الْجَامِع وَمن هَذَا الْوَجْه لم يكن مَحْضا إلاَّ أَن التَّعْرِيف يحصل بِهِ
مَسْأَلَة

لَا تجوز إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه وإنّ أختلف اللفظان وَأَجَازَ الكوفيُّون ذَلِك إِذا أختلف اللفظان
وحجَّة الأوَّلين أَن الْغَرَض بِالْإِضَافَة التَّخْصِيص وَالشَّيْء لَا يخصص نَفسه وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ كلّ شَيْء مخصّصاً واحتجَّ الْآخرُونَ بِإِضَافَة الشَّيْء إِلَى صفته كنحو مَا ذكرنَا وَمِنْه {الدَّار الْآخِرَة}

(1/391)


) و {حَبل الوريد} و {وَحب الحصيد} وَالثَّانِي هُوَ الأوَّل
وَالْجَوَاب أنَّ جَمِيع مَا ذَكرُوهُ متأوَّل على غير ظَاهره وَذَلِكَ أنَّ التَّقْدِير دَار السَّاعَة الْآخِرَة وَقد سَمَّاهَا الله تَعَالَى (سَاعَة) فِي نَحْو قَوْله {وَيَوْم تقوم السَّاعَة} وأمَّا حَبل الوريد فعلى ذَلِك أَيْضا وَالتَّقْدِير حَبل الشَّرَاب الوريد وَالدَّم الوريد أَي الْوَارِد فِيهِ وفعيل بِمَعْنى فَاعل كثير وأمَّا حَبُّ الحصيد قتقديره حبّ الزَّرْع الحصيد لأنَّ الَّذِي يحصد هُوَ الزَّرْع لَا الحبّ
مَسْأَلَة

تجوز إِضَافَة الزَّمَان إِلَى الْفِعْل كَقَوْلِه تَعَالَى {هَذَا يَوْم ينفع الصَّادِقين صدقهم} وَلَا تجوز إِضَافَة غير الزَّمَان إِلَيْهِ لأنَّ بَين الزَّمَان وَالْفِعْل مُنَاسبَة إِذْ كَانَ الْفِعْل يدلُّ على الزَّمَان [فكأنَّك أضفت زَمَانا عامّاً إِلَى خَاص فتخصص لِأَن الْفِعْل يدل على زمَان] مَاض أَو مُسْتَقْبل وَالَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ لم يكن مَاضِيا بِلَفْظِهِ وَلَا مُسْتَقْبلا كَالْيَوْمِ والساعة

(1/392)


فأمَّا (أمس) و (غَد) فَلَا يُضَاف إِلَى الْفِعْل لأنَّه مَخْصُوص كتخصيص زمن الْفِعْل وإنْ شِئْت قلت الْفِعْل هُنَا فِي تَقْدِير الْمصدر فَلذَلِك أضيف إِلَيْهِ إلاَّ أنَّ الْمصدر لَا يدلُّ على الْحَدث وَالْفِعْل يدلَّ عَلَيْهِ

(1/393)


بَاب التوكيد

التوكيدُ تمكينُ الْمَعْنى فِي النَّفس وَيُقَال توكيد وتأكيد ووكَّد وأكَّد وبالواو جَاءَ الْقُرْآن {وَلَا تنقضوا الْأَيْمَان بعد توكيدها} وَلَفظه على ضَرْبَيْنِ أحدُهما إِعَادَة الأوَّل بِعَيْنِه وَيكون ذَلِك فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال والحروف والجمل وَالثَّانِي غير لفظ الأوَّل وَلَكِن فِي مَعْنَاهُ
فصل

وَالْغَرَض من ذكره إِزَالَة الاتساع وَذَلِكَ أنَّ الِاسْم قد ينْسب إِلَيْهِ الْخَبَر وَيُرَاد بِهِ غَيره مجَازًا كَقَوْلِك جَاءَنِي زيد فَإِنَّهُ قد يُرَاد جَاءَنِي غُلَامه أوكتابه وَمِنْه عمر السُّلْطَان دَارا أوحفر نَهرا أَي أَصْحَابه بأَمْره فَإِذا قلت جَاءَ زيدُ نَفسه كَانَ هُوَ الجائي حَقِيقَة وَقد يذكر العامّ وَيُرَاد بِهِ الْخَاص كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إنَّ النَّاس قد جمعُوا لكم} وَالْمرَاد بَعضهم فَإِذا قلت قَالَ الناسُ كلهم لم يحْتَمل بَعضهم

(1/394)


فصل

ويوكد الْوَاحِد بلفظين (نَفسه) و / (عينه) وهما عبارتان عَن حَقِيقَة ويوكد الِاثْنَان ب (كلا) و (كلتا) وَالْجمع ب (كلّهم) و (أجمع) و (أَجْمَعِينَ) و (جَمْعَاء) و (جمع) لِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة لحصر أَجزَاء الشَّيْء والإحاطة بهَا فَمَا لَا يتَجَزَّأ لَا تدخل عَلَيْهِ لعدم مَعْنَاهَا فِيهِ أَلا ترى أنَّك لَو قلت كتب زيد كلُّه أَو أجمع لم يكن لَهُ معنى كَمَا يكون فِي قَوْلهم كتب الْقَوْم كلُّهم
فصل

وَلَا توكّد النكرات وَأَجَازَهُ الكوفيَّون
وحجَّة الأوَّلين من وحهين أَحدهمَا أنَّ التوكيد كالوصف وَأَلْفَاظه معارف والنكرة لَا تُوصَف بالمعرفة وَالثَّانِي أنَّ النكرَة لَا تثبت لَهَا فِي النَّفس عين تحْتَمل الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فَيُفَرق بالتوكيد بَينهمَا بِخِلَاف الْمعرفَة أَلا ترى أنَّك لَو قلت جَاءَنِي رجل لم يحْتَمل أَن تفسَّره

(1/395)


بِكِتَاب رجل لأنَّ الْمجَاز فِي هَذَا الِاسْتِعْمَال لَا يغلب حتَّى يدْفع بالتوكيد بِخِلَاف لَفْظَة (الْقَوْم) فإنَّه يغلب اسْتِعْمَالهَا فِي الْأَكْثَر فَإِذا أردْت الْجَمِيع أكَّدت لرفع الْمجَاز الْغَالِب وَمثل ذَلِك الِاسْتِثْنَاء فإنَّه دخل الْكَلَام ليرْفَع حمل لفظ الْعُمُوم على الأستغراق لأنَّه يسْتَعْمل فِيهِ غَالِبا
احتّج الْآخرُونَ بإنَّ ذَلِك قد جَاءَ فِي الشّعْر فَمن ذَلِك قَول 79 -
(أرمي عَلْيها وَهِي فرعُ أجمعُ ... وَهِي ثَلَاث أَذْرع واصبع) // الرجز // وَقَالَ الآخر 80 -
(إِذا الْقعُود كرّ فِيهَا حفدا ... يَوْمًا جَدِيدا كلّه مطرّدا) // الرجز // وَقَالَ آخر 81 -
( ... قد صرتّ البكرة يَوْمًا أجمعا) // الرجز // وَالْجَوَاب عَن هَذِه الابيات من وَجْهَيْن

(1/396)


أحدُهما أنَّ التوكيد فِيهَا للمعرفة لَا للنكرة فقولُه أجمع توكيد ل (هِيَ) ولكَّنه اضْطر ففصل بالْخبر بَين الموكّد والموكَّد كَمَا فِي الصّفة وَقيل فِي (فرع) ضميرّ والتوكيد لَهُ وَهَذَا بعيد وأمَّا قولُه (جَدِيدا كلّه) فَهُوَ مَرْفُوع على أنَّه تَأْكِيد للضمير فِي (جَدِيد وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ هَذِه الأبيات شاذةّ فِيهَا اضطرار فَلَا تُجعل أصلا
فصل

وَإِنَّمَا لم ينْصَرف (جُمَعُ) لأنَّ فِيهِ الْعدْل والتعريف فالعدلُ عَن (جُمَعٍ) لأنَّ واحده (أجمع) و (جَمْعَاء) فَيَنْبَغِي أَن يكون على (جُمَعُ) مثل (حُمْر) ولكَّنه فتحت ميمّه وصير ك (عُمَر) وَقَالَ أَبُو عليّ هُوَ معدول عَن (جَماعى) مثل صحراء وصحارى وَلَو كَانَ عَن جمع مثل حمر لما جَازَ فِيهِ أَجْمَعُونَ ولكان يُؤَكد بِهِ المذكَر والمؤنّث كَمَا يُوصف بِحْمَر الْمُذكر والمؤنث

(1/397)


وأمَّا التَّعْرِيف فبوضعه توكيداً للمعرفة صَار كالأعلام وَلَيْسَ فِيهِ أَدَاة للتعريف وأمَّا (جَمْعَاء) فَلأَلِفَيْ التَّأْنِيث
فصل

وأمَّا (أَكْتَع) و (أبصع) وَمَا تصرَّف مِنْهُمَا فَلَا تسْتَعْمل فِي التوكيد إلاَّ تبعا ل (أجمع) فإنَّ جَاءَ شَيْء على غير ذَلِك فِي الشّعْر فضرورة
مَسْأَلَة

وأمَّا (كلا وكلتا) فاسمان مفردان مقصوران وَقَالَ الكوفيَّون هما مثنيَّان لفظا وَمعنى
وحجَّة الأوَّلين من وُجُوه أحدُها أنَّهما بِالْألف فِي الْأَحْوَال الثَّلَاث إِذا إضيفا إِلَى الظَّاهِر وَلَيْسَ الْمثنى كَذَلِك وَالثَّانِي أنَّه لَا ينْطق بِالْوَاحِدِ مِنْهُمَا فَلَا يُقَال فِي الْوَاحِد (كِل) بِخِلَاف الْمثنى

(1/398)


وَالثَّالِث أنَّهما يضافان إِلَى المثنَّى وَلَو كَانَا مثنَّيين للَزِمَ أنْ يُضَاف الشَّيْء إِلَى نَفسه وَهُوَ بَاطِل إِلَّا ترى أنَّك لَا تَقول مَرَرْت بهما أثنيهماكما لَا تَقول مَرَرْت بِهِ واحده فَإِن قيل فَكيف يُقَال مَرَرْت بهم خمستهم فيضاف الْجمع إِلَى الْجمع قيل إنَّما أَجَازُوا ذَلِك لأنَّ ضمير الْجمع يحْتَمل الْعدَد الْقَلِيل والكثيرفلا يلْزمه من إِضَافَة الْخَمْسَة وَنَحْوهَا إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه وَالرَّابِع أنَّ الضَّمِير يرجع إِلَيْهِ بِلَفْظ الْإِفْرَاد كَقَوْلِه تَعَالَى {كلتا الجنتين آتت أكلهَا} وَلَو كَانَ مثنّى فِي اللَّفْظ لم يجز ذَلِك كَمَا لايجوز الرّجلَانِ قَامَ
واحتَّج الْآخرُونَ بِالسَّمَاعِ وَالْقِيَاس أمَّا السماع فَقَوْل الشَّاعِر 82 ي -
(فِي كِلْتَ رجليْها سُلامى واحده ... كلْتاهما مقرونة بزائدهْ) // الرجز // وَأما الْقيَاس فَمن وَجْهَيْن أحدُهما أنَّ الضَّمِير يعود إِلَيْهِ بِلَفْظ التَّثْنِيَة فِي بعض الْمَوَاضِع كَقَوْل الشَّاعِر

(1/399)


83 -
(كِلَاهُمَا حِين جدّ الجريُ بَينهمَا ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي) // الْبَسِيط // وَالثَّانِي أنَّهما فِي الجرّ وَالنّصب بِالْيَاءِ وَفِي الرّفْع بِالْألف إِذا أضيفا إِلَى مُضْمر
وَالْجَوَاب أنَّ الشّعْر لَا يعرفُ قائلة على أنَّه مَحْمُول على الضَّرُورَة وَقد جَازَ حذف شطر الْكَلِمَة فِي الضَّرُورَة كَقَوْل لبيد 84 -
(درس المنا بِمُتَالعِ فأًبانِ ... ) // الْكَامِل // أَرَادَ (الْمنَازل) وَقَالَ العجَّاج

(1/400)


85 -
(قواطناً مكّة من ورق الحمي ... ) أَرَادَ (الْحمام) وَهَذَا لَا يُقَاس عَلَيْهِ وَلَا يثبت بِهِ أصل
وأمَّا عود الضَّمِير المثّنى إِلَيْهِ فعلى الْمَعْنى والإفراد على اللَّفْظ وَهَذَا مثل (كُلّ) و (مَن) فإنَّ الضَّمِير يعود إِلَى لَفْظهمَا تَارَة كَقَوْلِه تَعَالَى {وكلّهم آتيه يَوْم الْقِيَامَة فَردا} و {بلَى من أسلم وَجهه لله} وَتارَة يجمع حملا على الْمَعْنى كَقَوْلِه تَعَالَى {وكلُّ أَتَوْهُ داخرين} و {وَمن الشَّيَاطِين من يغوصون لَهُ} {وَمِنْهُم من يَسْتَمِعُون إِلَيْك}
وأمَّا جعلهَا بِالْيَاءِ فِي الْجَرّ وَالنّصب فَلم يكن لما قَالُوا إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لاستمرَّ مَعَ المضمّر والمظهر كَمَا فِي كلَّ مثنَّى وأنَّما قلبت الْألف يَاء مَعَ الْمُضمر لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ (كلا وكلتا) يشبهان (على وَإِلَى ولدى) فِي أنَّها لَا تسْتَعْمل واحده بل لَا بُد من دُخُولهَا على الِاسْم وأنَّ آخِره ألف كآخرهما وكما تجْعَل الْألف فِي (على) يَاء مَعَ الْمُضمر كَذَلِك (كلا) واختص ذَلِك بِالنّصب والجر كَمَا أَن (على) يكون موضعهَا نصبا بحقّ الأَصْل

(1/401)


وَالثَّانِي أنَّ (كلا) أذا أضيفت إِلَى الْمُضمر لم تكن إلاَّ تَابِعَة للمثنّى فَجُعل لَفظهَا كَلَفْظِ مَا تتبعه اسْتِحْسَانًا
فصل

وَألف ا (كلا وكلتا) من وَاو عِنْد قوم وياء عِنْد آخَرين وتاء (كلتا) بدلًّ من أحد الحرفين وألفها للتأنيث وَنَذْكُر ذَلِك فِي التصريف أَن شَاءَ الله
فصل

وَأقوى أَلْفَاظ التوكيد فِي الْجمع (كلّهم) لأنَّها قد تكون أصلا يَلِيهِ الْعَامِل كَقَوْلِك جَاءَنِي كل الْقَوْم وَتَكون مُبْتَدأ كَقَوْلِه تَعَالَى {كل نفس ذائقة الْمَوْت} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {إنَّ الامرَ كلّه لله} فِيمَن رفع وَمن نصب جعله توكيداً
وأمَّا (أجمع) وماتصرَّف مِنْهَا فَلَا تكون إلاَّ تَابِعَة فَإِذا اجْتمعت (كلٌّ) و (أجمع) فِي التوكيد قدَّمت (كلُّ) عَلَيْهَا لشبهها بالمتبوع

(1/402)


فصل

وَلَا يعْطف بعض أَلْفَاظ التوكيد على بعض لأنَّ معنى الْجَمِيع وَاحِد بِخِلَاف الصّفة فإنَّ الصّفة تدلُّ على معنى زَائِد على الْمَوْصُوف
فصل

وَإِذا جمعت بَين لَفْظِي توكيد كَانَ الثَّانِي مُفِيدا زِيَادَة التوكيد فَقَط كَقَوْلِه تَعَالَى {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلَّهم أَجْمَعُونَ} وَقَالَ الزَّجاج الْفَائِدَة فِي (اجمعون) بعد (كل) الدّلَالَة على أَن سُجُود الْمَلَائِكَة وَقع فِي حَال وَاحِدَة وَفِي هَذَا نظر

(1/403)


بَاب النَّعْت

النَّعْت وَالْوَصْف بمعّنى فأمَّا (الصّفة) فَهِيَ عِنْد النحويَّين بِمَنْزِلَة الْوَصْف وَأَصلهَا (وصْفة) فحذفت واوها كَمَا حذفت فِي (عدَّة وزنة) وأمَّا المتكلمون فيقرقون بَين الْوَصْف وَالصّفة فالوصف لفظ الواصف كَقَوْلِك ظريف وعالم وَالصّفة هِيَ الْمَعْنى العامّ الْمَوْصُوف
فصل

وَالْغَرَض من الْوَصْف الْفرق بَين مشتركين فِي الِاسْم أَو الْمَدْح أَو الذَّم أَو التَّعْظِيم فَقطع الِاشْتِرَاك كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد الظريف أَي انَّ ثَّم جمَاعَة كل مِنْهُم اسْمه زيد / والمختص بالظرف مِنْهُم وَاحِد وَلذَلِك لم يُوصف المضمرإذ لَا اشْتِرَاك فِيهِ لعوده إِلَى الظَّاهِر والمدح والتعظيم يقعان فِي صِفَات الله عز وَجل والذم كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد الْخَبيث الْفَاسِق فإنَّك لَا تقصد تَمْيِيزه عَن غَيره بل تقصد إِعْلَام السَّامع بِمَا فِيهِ من الْأَوْصَاف المذمومة
فصل

وإنَّما لزم أَن تكون الصّفة بالمشتق أَو الْجَارِي مجْرَاه لأنَّ الْفرق إنَّما يحصل بِأَمْر عَارض يُوجد فِي أحد الشَّيْئَيْنِ أَو الْأَشْيَاء دون بَاقِيهَا وَهَذَا إنَّما يكون فِي المشتقات مثل

(1/404)


الْحِلْية نَحْو الْأسود والأزرق والغريزة مثل الْعقل وَالْحسن وَالْفِعْل نَحْو الْقيام وَالْإِكْرَام أَو الصِّنَاعَة نَحْو البزَّاز والعطَّار وَالنّسب نَحْو بصريَّ وهاشميَّ
وأمَّا الْجَارِي مجْرى المشتقّ فَمثل مَرَرْت بِرَجُل ابي عشرَة وبحيّة ذِرَاع طولهَا كانّك قلت مَرَرْت بِرَجُل كثير الْأَوْلَاد وبحيّة مذروعة
فصل

ولابد فِي الصّفة من ضمير يعود على الْمَوْصُوف لأنَّ ذَلِك من ضَرُورَة كَونه مشتقا أَن يعْمل فِي فَاعل مُضْمر أَو مظهرً فالمضمر هُوَ الْمَوْصُوف فِي الْمَعْنى والمظهر لَا بُد ان يَصْحَبهُ ضمير الْمَوْصُوف ليصير من سَببه بِهِ كَقَوْلِك مَرَرْت بِرَجُل قَائِم زيدٌ عِنْده فلولا الْهَاء لَكَانَ الْكَلَام أَجْنَبِيّا من الاوَّل وَلم يكن صفة لَهُ
فصل

وإنَّما كَانَت الصّفة كالموصوف فِي التَّعْرِيف والتنكير والإفراد والتثنية وَالْجمع والتذكير والتأنيث وَالْإِعْرَاب لأنَّ الصّفة هِيَ الْمَوْصُوف فِي الْمَعْنى ومحالٌ أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد معرفَة ونكرة ومفرداً وَأكْثر فِي حالٍ وَاحِدَة
فصل

فأمَّا قولُهم ثوب أسمال وبرمة أعشار فأنَّما جَازَ لَمَّا كَانَ الثَّوْب يجمع رِقَاعًا وَكَأن كل نَاحيَة مِنْهُ سمل والبرمة مجتمعة من أكسار فَصَارَ التَّقْدِير ذَات أكسار

(1/405)


فصل

وَالْعَامِل فِي الصّفة هُوَ الْعَامِل فِي الْمَوْصُوف لأنَّها هِيَ هُوَ فِي الْمَعْنى وَلذَلِك جَازَ أَن يحذف الْمَوْصُوف ويولى الْعَامِل الصّفة فَتَقول مَرَرْت بالظريف وَلَا تكَرر الْعَامِل مَعهَا فَلَا تَقول مَرَرْت بزيد بالظريف وَقَالَ الْأَخْفَش الْعَامِل فِيهَا معنويّ وَهُوَ كَونهَا تَابِعَة وَهَذَا إِن بِهِ أنَّها تَابِعَة للموصوف فِي الْحَقِيقَة فَذَلِك لَا يَقْتَضِي الْعَمَل وَإِن أَرَادَ أنَّها تَابِعَة لَهُ فِي الْإِعْرَاب فَلَيْسَ ذَلِك بَيَانا لِلْعَامِلِ وَهُوَ مَذْهَب الْجَمِيع وإنَّما الْخلاف فِي الْعَامِل فِي هَذَا التَّابِع مَا هُوَ لأنَّ التّبعِيَّة معنى وَاحِد وَالشَّيْء الْوَاحِد لَا يعْمل أعمالا مُخْتَلفَة فِي مَعْمُول وَاحِد
فصل

وَإِذا اخْتلف الْعَامِل فِي الْأَسْمَاء لم تنْعَت بنعت وَاحِد كَقَوْلِك جَاءَ زيد وَرَأَيْت عمرا الظريفين فَلَا يجوز نصب الصّفة وَلَا رَفعهَا لأنَّها لفظ وَاحِد

(1/406)


مثنى فَلَو رفعت أونصُبت لتبعت أحد الأسمين وَعمل فِيهَا عَامله فَيَنْقَطِع تبعا للْآخر والتثنية تأبى ذَلِك لأنَّها تدل على أنَّ الصّفة تَابِعَة لَهما
فصل

فَأن كَانَ الْإِعْرَاب وَاحِدًا وَالْعَامِل مُخْتَلف فَالْحكم كَذَلِك لأنَّ العاملين لَا يعملان عملا واحداُ فِي مَعْمُول وَاحِد كَانَ العاملان بِمَعْنى وَاحِد كَقَوْلِك ذهب زيد وَانْطَلق عَمْرو فَالْحكم كَذَلِك عِنْد بعض البصريَّين لأنَّ الْعَامِل لفظ وَقد خَالف لفظ الثَّانِي لفظ الأوَّل وَالْمعْنَى لَا يعْمل هُنَا حَتَّى يؤثَّر اتَّفاقهما فِي الْمَعْنى
فصل

إِذا تكَّررت النعوت جَازَ حمل الْجَمِيع على الْمَوْصُوف وَهُوَ الظَّاهِر وَجَاز نصبها بإضمار أَعنِي ورفعها على إِضْمَار (هُوَ) وَدلّ هَذَا الْإِضْمَار على زِيَادَة الْمَدْح والذّم لأنَّه يصير بذلك جملَة مُسْتَقلَّة

(1/407)


فصل

وَيجوز عطف بعض الصِّفَات على بعض تَنْبِيها على زِيَادَة الْمَدْح والذم كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد الْكَرِيم والعاقل ف (الْوَاو) تدلَّ على أنَّه الْمَعْرُوف بذلك

(1/408)


بَاب عطف الْبَيَان

وَهُوَ أَن تجْرِي الْأَسْمَاء الجامدة مجْرى المشتقة فِي الْإِيضَاح إِذا كَانَ الثَّانِي أعرف من الاوَّل كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد أبي عبد الله إِذا كَانَ بالكنية أعرف وبأبي عبد الله زيد إِذا كَانَ الِاسْم أعرف وَلَيْسَ هُوَ هَهُنَا بِبَدَل لأنَّه كالموصوف فِي التَّعْرِيف والتنكير وَجَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ فِي الصّفة وَلَيْسَ الْبَدَل كَذَلِك
وَفِي بعض الْمَوَاضِع يجوز أَن يكون عطف بَيَان وَأَن يكون بَدَلا وَفِي بَعْضهَا يتَعَيَّن أحدُهما كَقَوْلِك جَاءَنِي زيد أَبُو مُحَمَّد يحتملها وَفِي قَوْلك ياأيَّها الرجل زيد يتَعَيَّن أَن يكون عطف بَيَان وَفِي قَوْلك يَا أخانا زيدا إنْ نصبت كَانَ بَيَانا وَإِن أردْت الْبَدَل ضممت (زيدا) لأنَّ حرف النداء يقدر عوده مَعَ الْبَدَل

(1/409)


بَاب الْبَدَل

الغرضُ من الْبَدَل هُوَ الْغَرَض من الصفه وَقد ذكر وَالْفرق بَين الْبَدَل والصفه أنَّ الصفه بالمشتقَّ وَالْبدل بِغَيْر المشتقّ وأنَّ الصّفة كالموصوف فِي التَّعْرِيف والتنكير وَغَيرهمَا وَالْبدل يجوز أَن يخالفُ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي التَّعْرِيف والتنكير والإظهار والإضمار وأنَّ الْبَدَل يكون بِبَعْض من كلّ وَبِمَعْنى يشْتَمل عَلَيْهِ الأوَّلُ وَالصّفة بخلافِه والفرقُ بْيَن الْبَدَل وعطفِ الْبَيَان قد تقدَّم
فصل

وبدلُ الشَّيْء فِي اللُّغَة مَا قَامَ مقامَهُ وَهُوَ على هَذَا الْمَعْنى فِي أصطلاح النحويَّين أَلا ترى أنَّك لَو حذفت الأوَّل وأقتصرت على الثَّانِي لأغناك عَنهُ وَلذَلِك قَالَ بَعضهم عِبْرَة الْبَدَل مَا صلح لحذف الأوَّل وَإِقَامَة الثَّانِي مقَامه وَقَالَ بعض النحوييَّن لَا يصحُّ هَذَا الحدَّ والدليلُ عَلَيْهِ قَول الشَّاعِر 86 -
(فكأنَّهُ لَهِقُ السراة كأنَّه ... مَا حاجبيه معيَّن بسوادِ) // الْكَامِل //

(1/410)


لَو حذفت الْهَاء هُنَا فَقلت كأنَّ حاجبيه معيَّن لم يستقم لأنَّ الْمُبْتَدَأ مثنّى وَالْخَبَر مُفْرد واستدلَّوا أيضاُ بِقَوْلِك زيد ضربت أَبَاهُ عمرا ف (عمروٌ) بدلٌ من (أَبَاهُ) فَلَو حذفته فَقلت زيدٌ ضربت عمرا لم يجز لخلوّ الْجُمْلَة من ضمير يعود على الْمُبْتَدَأ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيف جدّاً أمَّا الْبَيْت فَوجه جَوَازه أنَّه أفرد الْخَبَر عَن المثتَّى وهويريد التَّثْنِيَة كَمَا قَالَ الآخر 87 -
(لمن زحلوقة زلُّ ... بِهِ العينانِ تنهلُّ) // الهزج // وكقول الْأُخَر 88 -
(وكأنَّ فِي الْعَينَيْنِ حَبّ قَرَنْفُلِ ... أَو سُنْبلاً كُحِلَتْ بِهِ فانهلَّتِ) // الْكَامِل // وأمَّا الْمَسْأَلَة فالمانعُ ثَّم الإضمارُ وَهُوَ عَارض

(1/411)


فصل

وتبدل الْمعرفَة من الْمعرفَة وَمن النكرَة والنكرة من الْمعرفَة إلاَّ أنَّك إِذا ابدلت النكرَة من الْمعرفَة فَلَا بدَّ من صفة النكرَة كَقَوْلِه تَعَالَى {لنسفعا بالناصية ناصيةٍ كَاذِبَة} لأنَّ الْمعرفَة أبْيَنُ من النكرَة فَإِذا لم تصف النكرَة انْتقض غَرَض الْبَدَل وَإِذا وصفتها حصل بِالصّفةِ بَيَان لم يكن بالمعرفة
فصل

وكلَّ الْأَسْمَاء يصلح أنَّ يُبدل مِنْهَا إلاَّ ضمير الْمُتَكَلّم والمخاطب لأنَّهما فِي غَايَة الوضوح كَقَوْلِك مَرَرْت بِي بزيد وَبِك عَمْرو وَأَجَازَهُ قوم وَالَّذِي جَاءَ مِنْهُ فِي بدل الأشتمال وَالْبَعْض فالاشتمال كَقَوْل الشَّاعِر 89 -
(ذَرِينِي إنَّ أَمرك لنْ يُطَاعا ... وَمَا ألفيتُني حِلْمي مُضَاعاً) // الوافر // ف (حلمي) بدل من (الْيَاء) وَمن الْبَعْض قَول

(1/412)


90 -
(أوْعَدني بالسجنِ والأداهم ... رجْلي ورجلي شَثنَةُ المناسم) // الرجز // ف (رجْلي) بدل من الْيَاء
فصل

وَلَا يحْتَاج فِي بدل الْكل إِلَى ضمير يعود على الأوَّل لأنَّ الثَّانِي هُوَ الأوَّل وَيحْتَاج إِلَيْهِ فِي بدل الْبَعْض والاشتمال لأنَّ الثَّانِي مُخَالف للاوَّل فيرتبط بِهِ بضميره كالجملة فِي خبر الْمُبْتَدَأ وَيجوز حذفه إِذا كَانَ مَعْلُوما كَقَوْلِه تَعَالَى {وللهِ على النَّاس حجًّ الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} أَي مِنْهُم
فصل

وَشرط بدل الاشتمال أَن يكون الأوَّل مُشْتَمِلًا على الثَّانِي وَالثَّانِي قَائِم بِهِ كَقَوْلِك يُعجبني زيدُ عقلهُ وَعرفت أَخَاك خَبره وحقُّه التَّقْدِيم أَي يُعجبنِي عقل زيد وَلَكِن لمَّا كَانَ يكْتَسب من عقله وصف الْحسن والإعجاب جَازَ أَن يُؤَخر ويُجعل بَدَلا مِنْهُ فَإِن لم يكن كَذَلِك لم يجزكقولك يُعجبنِي زيد ابوه لأنَّ (زيدا) لَا يشْتَمل على الاب بل كلّ وَاحِد مِنْهُمَا منفصلٌ عَن الاخر ويتضح بِقَوْلِك (مَاتَ زيد / اخوه) فانه لَيْسَ من الاشتمال بل من الْغَلَط

(1/413)


فصل

وحقَّ بدل الْغَلَط أَن يسْتَعْمل ب (بل) لأنَّها مَوْضُوعَة للإضراب عَن الاوَّل وَلَكِن جَازَ حذفهَا لوضوح مَعْنَاهَا
فصل

وَالْعَامِل فِي الْبَدَل غير الْعَامِل فِي الْمُبدل مِنْهُ وَذَلِكَ الْعَامِل هُوَ تَقْدِير الْإِعَادَة أَي إِعَادَة الْعَامِل الاوَّل فقولك مَرَرْت بزيد أَخِيك تَقْدِيره بزيد بأخيك وَقَالَ قوم العاملُ فِيهِ عَامل الأوَّل
وحجّة الأوَّلين من وَجْهَيْن أحدُهما أنَّ الْعَامِل قد ظهر فِي كثير من الْكَلَام فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم} فَأَعَادَ (اللَّام) مَعَ الْبَدَل وَقَالَ تعالة {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم إِلَى صِرَاط الْعَزِيز} فأبدل الصِّرَاط من النُّور وَأعَاد (إِلَى) وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا من الْمُشْركين من الَّذين فرَّقوا دينهم} فَأَعَادَ (من) وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَالشعر

(1/414)


وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّ الْبَدَل كالمبدل مِنْهُ فِي جَمِيع أَحْكَامه بِحَيْثُ لَو ابتدئ بِهِ لم يقدّر هُنَاكَ مَحْذُوف بِخِلَاف الصّفة وَمَا أجري مجْراهَا وفلمَّا لم يكن تبعا فِي الْحَقِيقَة لم يكن تبعا فِي الْعَمَل فَلذَلِك قدّر لَهُ عَامل أغْنى عَن تقدّم ذكره
واحتّج الْآخرُونَ بأنَّه لَو كَانَ لَهُ عَامل يخصّه للَزِمَ إِظْهَاره إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ شَيْء يَنُوب عَنهُ
وَالْجَوَاب أنَّ تقدم الْعَامِل وَكَون الثَّانِي هُوَ الأوَّل أغْنى عَن لُزُوم تكَّرر الْعَامِل وَلَيْسَ كَذَلِك الصّفة أَلا ترى أنَّ الْمَعْطُوف لَمَّا كَانَ غير الأوَّل احْتَاجَ إِلَى مَا يَنُوب عَن الْعَامِل فجيء بالحروف

(1/415)


بَاب عطف النسق

العطفُ ليَّ الشَّيْء والالتفات إِلَيْهِ يُقَال عطفت الْعود إِذا ثنيته وعطفت على الْفَارِس الْتفت إِلَيْهِ وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى فِي النحولأنَّ الثَّانِي ملويُّ على الأوَّل ومثني إِلَيْهِ وَلذَلِك قدَّرت التَّثْنِيَة بالْعَطْف والعطف بالتثنية
فصل

وَلَا بدَّ فِي عطف النسق من حرف يرْبط الثَّانِي بالأوَّل إذْ كَانَا غَيْرَيْنِ
فصل

وَقد وضعت لَهُ حُرُوف تشرك بَين الشَّيْئَيْنِ فِي الْعَامِل فَمِنْهَا مَا لَا يُفِيد سوى التَّشْرِيك وَمِنْهَا مَا يفِيدهُ مَعَ غَيره
فصل

و (الْوَاو) أصل حُرُوف الْعَطف لأنَّها لَا تدل إلاَّ على الِاشْتِرَاك عِنْد المحقَّقين فأمَّا (الْفَاء) وَغَيرهَا فتدل على الِاشْتِرَاك وَشَيْء آخر فَهِيَ كالمركَّب وَالْوَاو كالمفرد والمفرد أصل للمرَّكب وسابق عَلَيْهِ

(1/416)


فصل

(الْوَاو) لَا تدل على التَّرْتِيب عِنْد الْجُمْهُور وَقَالَت شرذمة تدلُّ عَلَيْهِ
وحجَّة الأوَّلين السماعُ وَالْقِيَاس فَمن السماع قَوْله تَعَالَى {وادخلوا الْبَاب سُجَّداً وَقُولُوا حطَّة} وَقَالَ فِي آيَة آخرى {وَقُولُوا حطّة وادخلوا الْبَاب سًجَّداً} والقصة وَاحِدَة وَقَالَ لبيد 91 -
(أُغْلي السباء بكُل أدْكن عاتق أَو جَوْنة قُدحَتْ وفض ختامها) // الْكَامِل // فالجونة الدنّ وَقد حت غرفت وفضّ الختام يكون قبل الغرف وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَالشعر وأمَّا الْقيَاس فَهُوَ أنَّ الْوَاو تقع فِي مَوضِع يمْتَنع فِيهِ التَّرْتِيب وتمتنع من مَوضِع يجب فِيهِ التَّرْتِيب

(1/417)


فَمن الأوَل قَوْلك المَال بَين زيد وَعَمْرو وَلَو قلت (فعمرو) لم بجز لأنَّ (بَينا) يَقْتَضِي أَكثر من وَاحِد وَمن ذَلِك سَوَاء زيدُ وَعَمْرو سيّان زيد وَعَمْرو و (الْفَاء) هُنَا لَا تجوزلأنَّ التَّسَاوِي لَا يكون فِي الْوَاحِد وَمن ذَلِك اخْتصم زيد زعمرو وَالْفَاء لَا تصلح هُنَا وَمن ذَلِك أنَّ الْعَطف بِالْوَاو نَظِير التَّثْنِيَة والتثنية لَا تفِيد سوى الِاجْتِمَاع وَمن الثَّانِي أنَّ (الْوَاو) لَا تسْتَعْمل فِي جَوَاب الشَّرْط لما كَانَ مرتّبا على الشَّرْط وَالْفَاء تسْتَعْمل فِيهِ وأمَّا الْآخرُونَ فتمسكَّوا بشبه لَا دلَالَة فِيهَا على التَّرْتِيب من جِهَة الْوَاو فأضربنا عَن ذكرهَا لوضوح الْجَواب عَنْهَا
فصل
(الْوَاو) تقع على وُجُوه أَحدهَا الْعَطف الْمُطلق وَالثَّانِي (وَاو الْحَال) كَقَوْلِه تَعَالَى {وَطَائِفَة قد أهّمتهم أنفسهم}

(1/418)


وَالثَّالِث أَن تكون بِمَعْنى (مَعَ) وَالرَّابِع ان تكون للقسم وَالْخَامِس أَن تضمر بعْدهَا (رب) وَالسَّادِس أَن تكون بِمَعْنى (الْبَاء) كَقَوْلِك بِعْت الشاءَ شاةٌ وَدِرْهَم أَي بدرهم
فصل

وَلَا تزاد (الْوَاو) عِنْد أَكثر البصريَّين لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّ الْحُرُوف وضعت للاقتصار أَو عوضا عَن ذكر الْجمل (كالهمزة) فَإِنَّهَا بدل عَن (استفهم) أَو (أسأَل) و (مَا) بدل عَن (أنفي) فزيادتها تنقض هَذَا الْغَرَض وَالثَّانِي أنَّ الْحُرُوف وضعت للمعاني فَذكرهَا دون مَعْنَاهَا يُوجب اللبْس وخلوَّها عَن الْمَعْنى وَهُوَ خلافُ الأَصْل

(1/419)


وَاحْتج الْآخرُونَ بقوله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} ف (الْوَاو) زَائِدَة وَالْفِعْل جَوَاب (إِذا) وَلذَلِك لم تكن فِي الْموضع الأول وَقَالَ الشَّاعِر
(حتّى إِذا قَملِتْ بطونُكُم ... ورأيتم ابناءكم شبَّوا) وقَلبْتُم ظِهْرِ المِجْنّ لنا ... إِن اللَّئِيم الْعَاجِز الخبَّ) // الْكَامِل // وَالْجَوَاب أنْ جَوَاب (إِذا) فِي هَذِه الْمَوَاضِع مَحْذُوف فالتقدير فِي الْآيَة حتّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا عرفُوا صحّة وَمَا وُعدوا وعاينوه وقدّ دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا الحمدُ لله الَّذِي صَدَقَنا وَعدْهَ} وَالتَّقْدِير فِي الْبَيْت حَتَّى إِذا فَعلْتُمْ هَذِه الْأَشْيَاء عرف غدركم وفجوركم ولؤمكم
وَحذف الْجَواب كثير فِي الْقُرْآن وَالشعر فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وأنّ الله تَّوابُ حَكِيم} وَفِي هذاه السُّورَة {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته وأنّ الله رؤوفّ رَحِيم}

(1/420)


) وَالتَّقْدِير لهلكتم وَقَوله تَعَالَى {وَلَو أنَّ قُرْآنًا سُيَّرتْ بِهِ الْجبَال أَو قًطُّعت بِهِ الأَرْض} أَي لَكَانَ هَذَا الْقُرْآن وَحذف الْجَواب أبلغ فِي هَذَا الْمَعْنى من ذكره ولأنَّ الموعودَّ أَو المتوعد إِذا لم يذكر لَهُ جَوَاب ذهب وهمه إِلَى أبلغ غايات الثَّوَاب وَالْعِقَاب فَيكون أبلغ فِي الطَّاعَة والأنزجار
فصل

وَمعنى الْفَاء ربط مَا بعْدهَا فِي بِمَا قبلهَا فالعاطفة ترْبط بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فِيمَا نسب إِلَى الأوَّل إلاَّ أّنَّها تدل على أنَّ الثَّانِي بعد الأوَّل بِلَا مهلة وَإِذا وَقعت جَوَابا علَّقت مَا بعْدهَا بِمَا فِي قبلهَا وَمن هُنَا قَالَ الْفُقَهَاء تدلَّ (الْفَاء) على أنَّ مَا قبلهَا سببّ لما بعْدهَا ومعتبر فِيهِ
فصل

وَلَا تكون (الْفَاء) زَائِدَة لما ذكرنَا فِي (الْوَاو) وَقَالَ الْأَخْفَش قد زيدت فِي مَوَاضِع مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {قل إنَّ الْمَوْت الَّذِي تفرُّون مِنْهُ فإنَّه ملاقيكم} لِأَن

(1/421)


الْفَاء تكون فِي خبر الَّذِي غير زَائِدَة وَالْخَبَر هُنَا للْمَوْت وَلَيْسَ فِيهِ معنى الشَّرْط وَمِنْه قَول الشَّاعِر 93 -
(لَا تجزعي إنْ منفسا أهْلُكته ... فَإِذا هَلَكت فَعِنْدَ ذلكَ فاجزعي) فالفاء الأولى زاائدة وَقيل الثَّانِيَة
فصل

و (ثّم) كالفاء فِي التَّشْرِيك والتريب إلاَ أنَّها تَدُلُّ على الْمُهَلةِ إذْ كَانَت أَكثر حروفا من الْفَاء وَقد جَاءَت لترتيب الْأَخْبَار لَا لترتيب الْمخبر عَنهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {فإلينا مرجُعهم ثُمَّ اللهُ شهيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} وَقَالَ {وَأَن اسْتَغْفرُوا ربّكم ثمَّ توُبوا إِلَيْهِ} وَتقول زيد عَالم كريم ثَّم هُوَ شُجَاع
فصل

وأمّا (أَو) فتشرك فِي الْإِعْرَاب وَلها معَان أَحدهَا الشكَّ فِي الْخَبَر كَقَوْلِك قَامَ زيد أَو عَمْرو وَالْمعْنَى أحدُهما وَلذَلِك تَقول فَقَالَ كَذَا أَو كَذَا وَلَا تَقول فقالهما

(1/422)


وَالثَّانِي أَن تكون لتفصيل مَا أبهم كَقَوْلِه تَعَالَى {وَقَالُوا لن يدْخل الجنَّة إلأّ مَنْ كَانَ هودا أَو نَصَارَى} أَي قَالَت الْيَهُود لن يدْخل الجنَّة من إِلَّا من كَانَ هوداً وَقَالَت النَّصَارَى لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ نَصَارَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {كونُوا هودا أَو نَصَارَى} وَمِنْه قَول الْقَائِل كنت بِالْبَصْرَةِ آكل السّمك أَو التَّمْر أَو اللَّحْم أَي فِي أزمنه مُتَفَرِّقَة وَلم يرد الشَّك وَالثَّالِث أَن تكون للتَّخْيِير كَقَوْلِه {فكّفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تُطْعِمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة} فلإن اتّصل بِالْأَمر لم يجمع بَينهمَا كَقَوْلِك خُذ درهما أَو دِينَارا فَإِن وجدت قرينَة تدل على الْإِبَاحَة جَازَ الْجمع بَينهمَا كَقَوْلِك جَالس الْفُقَهَاء أَو الزَّهاد لمن يجالسُ الأشرار
فصل

وَإِن اتَّصلت بِالنَّهْي وَجب اجْتِنَاب الْأَمريْنِ عِنْد محققَّي النَّحْوِيين كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تُطَعِ مِنْهُم آثِما أَو كفورا} أَي لَا تُطِع أَحدهمَا فَلَو جمع بَينهمَا لفعل المنهيّ عَنهُ مرَّتين لأنَّ كلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَحدهمَا
فصل

وَقد تكون (أَو) للتقريب كَقَوْلِك مَا أَدْرِي أأذنّ أَو أَو أَقَامَ أَي لسرعته

(1/423)


وإنَّ كَانَ يعلم أنَّه أذَّن وَمن ذَلِك قَوْله تعلى {وَمَا أَمر السَّاعَة إلاّ كلمح الْبَصَر أَو هُوَ أقرب}
فصل

وَلَا تكون (أَو) بِمَعْنى (الْوَاو) وَلَا بِمَعْنى (بل) عِنْد البصرَّيين وَأَجَازَهُ الكوفَّيون
وحجَّة الأوَّلين أنَّ الأَصْل اسْتِعْمَال كل حرف فِيمَا وضع لَهُ لئلاَّ يُفْضِي إِلَى اللّبْس وَإِسْقَاط فَائِدَة الْوَضع واحتَّج الْآخرُونَ بأنَّ ذَلِك قد جَاءَ فِي الْقُرْآن وَالشعر فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وأرسلناه إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} أَي وَيزِيدُونَ وَقَالَ تَعَالَى {حرَّمنا عَلَيْهِم شحومهما إلاّ مَا حملت ظهورهما أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم} وَهِي بِمَعْنى الْوَاو و (الحوايا) عطفت على الشحوم أَو الظُّهُور وَقَالَ الشَّاعِر [من الطَّوِيل] 94 -
(بَدتْ مثل قَرْنِ الشَّمْس فِي رونق الضُّحى ... وَصورتهَا أوْ أنْت فِي العْيًن أمْلَحُ)

(1/424)


أَي بل أَنْت
وَالْجَوَاب أنَّ (أَو) فِي الْآيَة الأولى لشكّ الرَّأْي أَي لَو رَأَيْتهمْ لَقلت هم مائَة ألف أَو يزِيدُونَ ة وَقيل هِيَ للتَّخْيِير وَقيل للتقريب وَقيل للتفصيل أَي بعض النَّاس يجزرهم كَذَا وَبَعْضهمْ كَذَا وأمَّا الْآيَة الثَّانِيَة ف (أَو) تنبّه على تَحْرِيم هَذِه الْأَشْيَاء وإنّ اخْتلفت موَاضعهَا أَو على حلَّ الْمُسْتَثْنى وَإِن اخْتلفت موَاضعه وَهَذَا كَمَا ذكرنَا فِي دلَالَة (أَو) على تَفْرِيق الْأَشْيَاء على الْأَزْمِنَة وأمَّا الْبَيْت فالمحفوُظ فِيهِ (أم أَنْت) وَلَو قدّر صحّة مَا رَوَوْا فَهِيَ على الشكّ أَي صورتهَا أَو أَنْت أملحُ من غيركما وَلِهَذَا كَقَوْلِهِم الْحسن وَالْحُسَيْن أفضل أم ابْن الْحَنَفِيَّة
فصل

و (إمَّأ) ك (أَو) فِي الشَّك والتخيير وَالْإِبَاحَة إلاَّ أنَّها أثبت مِنْهَا فِي الشكَّ لأنَّك تبتدىء بهَا شاكّاً و (أَو) ياتي الشكّ بهَا بعد لفظ الْيَقِين

(1/425)


فصل

وَقد زعم قوم أنَّها مركَّبة من (إنْ) الشّرطِيَّة و (مَا) النافية لأنَّ الْمَعْنى فِي قَوْلك قَامَ إمَّا زيدٌ وَإِمَّا عَمْرو وإنْ لم يكن قَامَ زيد فقد قَامَ عَمْرو وَهَذَا تعسُّف لَا حَاجَة إِلَيْهِ لأنَّ وَضعهَا مُفْردَة أقرب من دَعْوَى التَّرْكِيب وَلَيْسَت (إمَّا) من حُرُوف الْعَطف أمَّا الأولى فَلَيْسَ قبلهَا مَا يعْطف عَلَيْهِ وأمَّا الثَّانِيَة فيلزمها الْوَاو وَهِي العاطفة
فصل

وأمَّا (لَا) فَتثبت الْفِعْل للأوَّل دون الثَّانِي وَلَا يحسن إِظْهَار الْعَامِل بعْدهَا لئلاَّ يلتبس بِالدُّعَاءِ إِلَّا ترى أنَّك لَو قلت قَامَ زيد لَا قَامَ عمروٌُ لأشبه الدُّعَاء عَلَيْهِ
فصل

وَإِذا عطفت بِالْوَاو وزدت مَعهَا (لَا) أفادت الْمَنْع من الْجَمِيع كَقَوْلِك وَالله لَا كلَّمت زيدا وَلَا عمرا وَلَو حذفتها جَازَ أَن تكَّلم أَحدهمَا لِأَن الْوَاو للْجمع وإعادة (لَا) كإعادة الْفِعْل فَيصير الْكَلَام بهَا جملتين
فصل

وأمَّا (بل) فتشرك بهَا فِي الْإِعْرَاب وتضرب بهَا عَن الأوَّل نفيا كَانَ

(1/426)


أَو إِثْبَاتًا كَقَوْلِك مَا قَامَ زيدٌ بل عمروٌ وَقَامَ زيد بل عَمْرو وَمن هُنَا اسْتعْملت فِي الْغَلَط وَقد جَاءَت لِلْخُرُوجِ من قصّة إِلَى قصَّة كَقَوْلِه تَعَالَى {أتأتون الذُّكران من الْعَالمين} ثَّم قَالَ {بل أَنْتُم قوم عادون} ) وَقيل هَهُنَا لَا تدلَّ على أنَّ الأوَّل لم يكن بل دلَّت على الِانْتِقَال من حَدِيث إِلَى حَدِيث آخر وَهَذَا كَمَا يذكر الشَّاعِر مَعَاني ثُمَّ يَقُول فعد عَن ذَلِك أَو فدع ذَا
فصل

وأمّا (لكنْ) فللاستدراك مشدَّدة كَانَت أَو مُخَفّفَة وَلَيْسَت للغلط إلاَّ أنَّها فِي الْعَطف مخفَّفة البتَّة وَمَا بعْدهَا مُخَالف لما قبلهَا لأنَّ ذَلِك هُوَ معنى الِاسْتِدْرَاك وَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع مُقَدرا ب (لكنْ) وَإِذا كَانَت مَعهَا (الْوَاو) فالعطف بهَا (لَا (بلكن) فالاستدراك لَازم والعطف عارضٌ فِيهَا
فصل

وَلَا يعْطف بهَا إلاَّ بعد النَّفْي وَذهب الكوفَّيون إِلَى الْعَطف بهَا بعد الْإِثْبَات

(1/427)


وحجَّة الأوَّلين أنَّ الِاسْتِدْرَاك لَازم لَهَا والاستدراك لَا يكون إلاَّ الْمُخْتَلِفين فَإِذا كَانَ الأوَّل نفيا كَانَ الثَّانِي إِثْبَاتًا فَيصح أنْ يقدر الْعَامِل بعْدهَا كَقَوْلِك مَا قَامَ زيدُ لَكِن عَمْرو أَي لَكِن قَامَ عَمْرو وَلَا يَصح ذَلِك بعد الْإِثْبَات كَقَوْلِك قَامَ زيد لَكِن عَمْرو لِأَنَّك إِن قدرت لَكِن قَامَ عَمْرو وَلم يكن الثَّانِي مُخَالفا للأوَّل وأنْ قدرت لَكِن مَا قَامَ عَمْرو لم يَصح لأنَّك قدرت مَعَ الْعَامِل مَا لَيْسَ بعامل وحرف الْعَطف إنَّما يَنُوب عَن الْعَامِل فَقَط وَيدل على ذَلِك أنَّك لَو قلت قَامَ زيدٌ لكنْ عمروٌ لم يقم كَانَ جَائِزا فظهور النَّفْي وَالْفِعْل بعد الِاسْم دَلِيل على أَنه لم يكن مُقَدرا بعد لَكِن
واحتَّج الْآخرُونَ بِأَن (لَكِن) ك (بل) فِي الْمَعْنى فَكَانَت مثلهَا فِي الْعَطف وَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ أحدُهما مَا ذكرنَا من اخْتِلَافهمَا فِي الْمَعْنى وَالثَّانِي أنَّهما لواستويا فِي الْعَطف لأدَّى إِلَى الِاشْتِرَاك وَالْأَصْل أنْ ينْفَرد كل حرف بِحكم وَقد ذكرنَا مَا يبين بِهِ الْفرق بَين الحرفين فِي الْفَصْل قبله
فصل

وأمَّا (أمْ) فيعطف بهَا مُتَّصِلَة ومنقطعة فالمتَّصلة هِيَ المعادلة لحرف الِاسْتِفْهَام

(1/428)


ويقدّر الْكَلَام فِيهَا ب (أيَّهما) كَقَوْلِك أَزِيد عنْدك أم عَمْرو أَي أيَّهما عنْدك فَإِن كَانَ بعد (أم) جملَة تَامَّة مُخَالفَة للأولى كَانَت مُنْقَطِعَة كَقَوْلِك ازيد عنْدك أم عَمْرو فِي الدَّار لأنَّ (أيّا) لَا تقع هَهُنَا وَسَببه أنّ (أَيهمَا) اسْم مفردفالخبر عَنهُ وَاحِد فَإِذا اخْتلف الخبران لم يسْتَند إِلَى أيَّهما
فصل
فإنْ كَانَ مَكَان الْهمزَة (هَل) كَانَت (أم) مُنْقَطِعَة كَقَوْلِك هَل زيد عنْدك أم عَمْرو لِأَن (هَل) لَا تسْتَعْمل فِي الْإِثْبَات توبيخاً بِخِلَاف الْهمزَة أَلا ترى إِلَى قَول الراجز 95
(أطَرباً وأنْتَ قِنَّسْرِيُّ ... ) // الرجز // وَلَو قلت هَل تطرب وَأَنت شيخ على التوبيخ لم يجز وَكَذَلِكَ لَا تسْتَعْمل

(1/429)


(هَل) فِي التَّسْوِيَة والهمزة تسْتَعْمل فِيهَا فَلَمَّا كَانَت الْهمزَة أوسع تَصرفا خصّت (أم) بمعادلتها
فصل

وَقد تَأتي (أم) بِمَعْنى (بل والهمزة) وَذَلِكَ بعد الْخَبَر والاستفهام فَمن الْخَبَر إِنَّهَا لإبل أم شَاءَ وَذَلِكَ أنَّه رأى شَيْئا من بعيد فَظَنهُ إبِلا ثمَّ بَان خلاف ذَلِك فاستفهم بعد فَرجع عَن الأوَّل ف (أم) جمعت الإضراب والاستفهام وَتقول فِي الِاسْتِفْهَام هَل زيد عنْدك أم عَمْرو فِي الدَّار فهما سؤالان والمتصّلة سُؤال وَاحِد
فصل

وَالْفرق بَين (ام) المتَّصلة و (أَو) أنَّ (أَو) لأحد الشَّيْئَيْنِ و (أم) سُؤال عَن الْمَشْكُوك فِي عينه فمثاله أَن تَقول أَزِيد عنْدك أَو عَمْرو فَأَنت شاكّ فِي أصل وجود أَحدهمَا عِنْده فَإِذا قَالَ نعم أثبتَّ وجود أَحدهمَا مُبْهما فَإِذا أردْت التَّعْيِين قلت أَزِيد عنْدك أم عَمْرو فَالْجَوَاب أَن تَقول زيد أَو عَمْرو وَلَا تَقول (نعْم) وَلَا (لَا) وَلَو قَالَ فِي جَوَاب (أَو) (لَا) أَو (نعمْ) جَازَ
فصل

وأمَّا (حتّى) فقد تكون بِمَعْنى (الْوَاو) بِشُرُوط قد ذكرت فِي بَابهَا

(1/430)


فصل

وحروف الْعَطف غير عاملة لأنَّها لَو عملت لعملت عملا وَاحِدًا وَالْوَاقِع بعْدهَا أَعمال مُخْتَلفَة ولأنَّها غير مختَّصة بالأسماء وَلَا بالأفعال فَعلم أنَّها نائبة عَن ذكر الْعَامِل لَا نائبة عَنهُ فِي الْعَمَل
فصل

وَلَا يعْطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل حتّى يُؤَكد وَقَالَ الكوفَّيون يجوز من غير توكيد
حجَّة الأوَّلين أنَّ الضَّمِير إنْ كَانَ مستترا لم يعْطف عَلَيْهِ لأنَّ الْعَطف من أَحْكَام الْأَلْفَاظ لَا الْمعَانِي وإنْ كَانَ ملفوظا بِهِ فَهُوَ فِي حكم جُزْء من الْفِعْل بِدَلِيل أنَّ الْفِعْل يسكن لَهُ وأدلة أُخْرَى قد ذَكرنَاهَا فِي بَاب الْفَاعِل فالعطف عَلَيْهِ كالعطف على بعض الْكَلِمَة فَإِذا أكّد قوي
وَاحْتج الْآخرُونَ بقوله تَعَالَى {مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا} وَبقول الشَّاعِر 96
(قلت إِذْ أَقبلت وزهرُ تهادى ... كنعاج الملا تعسّفن رملا) // الْخَفِيف // وبأنَّ الْعَطف كالتوكيد وَالْبدل

(1/431)


وَالْجَوَاب أمَّا الْآيَة فإنَّ (لَا) سد فِيهَا مسدّ التوكيد وأمَّا الْبَيْت فَقيل (الْوَاو) وَاو الْحَال و (زهر) مُبْتَدأ وَقيل هُوَ شاذّ لَا يُقَاس وأمَّا التوكيد وَالْبدل فهما الْمُضمر فِي الْمَعْنى بِخِلَاف الْمَعْطُوف
فصل

وَلَا يعْطف على الْمُضمر الْمَجْرُور إلاَّ بِإِعَادَة الجارّ وَأَجَازَهُ الكوفَّيون من غير إِعَادَة وحجَّة الأوَّلين من ثَلَاثَة أوجه أحدُها أنَّ الضَّمِير الْمَجْرُور مَعَ الجارّ كشيء وَاحِد وَلذَلِك لم يكن إلاَّ متصَّلا فالعطف عَلَيْهِ كالعطف على بعض الْكَلِمَة وَالثَّانِي أنَّ الْمَعْطُوف لَو كَانَ مضمراً لم يكن بدُّ من إِعَادَة الجرّ فَكَذَلِك إِذا كَانَ معطوفاُ عَلَيْهِ

(1/432)


وَالثَّالِث أنَّ الضَّمِير كالتنوين مَعَ الْإِضَافَة وأنَّه على حرف وَاحِد كَمَا لَا يعْطف على التَّنْوِين كَذَلِك الضَّمِير
وأحتَّج الْآخرُونَ بقوله تَعَالَى {وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام} على قِرَاءَة الجرّ وبأبيات أنشدوها أمَّا الْآيَة فقراءة الجرّ فِيهَا ضَعِيفَة والقارئ بهَا كوفيَّ تَنْبِيها على أصولهم وَقيل هِيَ وَاو الْقسم وَجَوَاب الْقسم مَا بعْدهَا وَقيل أَرَادَ إِعَادَة (الْبَاء) فحذفها وأمَّا الأبيات فَمِنْهَا مَا لَا يثبت فِي الرِّوَايَة وَمَا يثبت مِنْهَا فَهُوَ شاذّ وَبَعضهَا يُمكن إِعَادَة الجارّ مَعَه وَله نَظِير نذكرهُ من بعد
مَسْأَلَة
وَلَا يجوز الْعَطف على عاملين وإجازة الْأَخْفَش وَصورته مَا زيد بذاهب وَلَا قَائِم عَمْرو ف (قَائِم) مَعْطُوف على المجررو و (عَمْرو) مَعْطُوف على الْمَرْفُوع وَلَا يُجِيزهُ الاخفش إلاَّ إِذا ولي الْمَجْرُور الْمَجْرُور وَتَأَخر الْمَرْفُوع كَقَوْلِك زيد فِي الدَّار والسوق وعمروٌ
وحجَّة الْأَوَّلين من وَجْهَيْن

(1/433)


أحدُهما أنَّ حرف الْعَطف نَائِب عَن الْعَامِل وَلَيْسَ من قوته أَن يَنُوب عَن اثْنَيْنِ فَلذَلِك لَا يصحّ إظهارهما بعده وَالثَّانِي أَنه لَو جَازَ الْعَطف على عاملين لجَاز على أَكثر ولجاز أَن يتَقَدَّم الْمَرْفُوع على الْمَجْرُور كَقَوْلِك زيد فِي الدَّار وَعَمْرو السُّوق أنَّه وَاحْتج الْآخرُونَ بقوله تَعَالَى {وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} إِلَى قَوْله {آيَات لقوم يعْقلُونَ} ف (اخْتِلَاف) بالجرّ مَعْطُوف على (خَلقكُم) و (آيَات) الثَّالِثَة معطوفة على (آيَات) الأولى المنصوبة ب (إنَّ) وَبقول الشَّاعِر من 97 -
(هَوَّنْ علْيك فَإنَّ الأمورَ ... بكفَّ الْإِلَه مقاديُرها)
(فليسَ بآتيكَ مَنْهيُّها ... وَلَا قاصرٌٍ عَنْك مأمورُها) // المتقارب //

(1/434)


ف (قَاصِر) مَعْطُوف على (آتِيك) و (مأمورها) على (منهيُّهَّا) وَقَالَ آخر 98 -
(أكلَّ امرىء تحسبين امْرَءًا ... ونار توقَّد فِي الْحَرْب نَارا) // المتقارب وَالْجَوَاب أمَّا الْآيَة فَلَا حجَّة فِيهَا لأنَّ الْآيَات ذكرت توكيداً رفعت أَو نصبت لتقدّم ذكرهَا وأمَّا الْبَيْت فيروى بِالرَّفْع على أنَّه خبر مقدَّم وَبِالنَّصبِ عطفا على مَوضِع خبر لَيْسَ وبالجرّ على غير مَا احتّج بِهِ وَبَيَانه أنَّ (مأمورها) (مَرْفُوع ب (قَاصِر) لأنَّه من سَبَب اسْم (لَيْسَ) فَلَا يكون عطفا على عاملين
فإنْ قيل من شُرُوط ذَلِك أَن يكون الضَّمِير هُوَ اسْم لَيْسَ ليَكُون من سَببه وَالضَّمِير فِي (مأمورها) للأمور لَا للمنهي قُلْنَا بل هِيَ للمنهي لأنّ الْمنْهِي أَمر من جملَة الْأُمُور وأَّنث الضَّمِير لأنَّ المنهيّ مضافٌُ إِلَى مؤنَّث فجوز تَأْنِيث ضَمِيره كَمَا قَالُوا ذهبتْ بعضُ أَصَابِعه وكما قَالَ تَعَالَى {فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} وَالتَّقْدِير

(1/435)


وَلَا يقصر عَنْك مَأْمُور المنهيّات وَالْإِضَافَة للتمييز لِأَن فِي المنهيات مَأْمُورا على هَذَا الْمَعْنى حمله سِيبَوَيْهٍ وأمَّا الْبَيْت الآخر فالتقدير فِيهِ وكلّ نَار فَحَذفهُ لتقدَّم ذكره

(1/436)


بَاب 7
عمل اسْم الْفَاعِل

إنَّما أُعملِ اسْم الْفَاعِل إِذا كَانَ للْحَال أَو الِاسْتِقْبَال لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّه جَار على الْفِعْل الْمُضَارع فِي حركاته وسكناته فِي الْأَغْلَب ف (ضَارب) على زنة (يَضرب) و (يُكرم) على زنة (مُكْرِم) فأمَّا (مُضْرَوب) فَكَانَ قِيَاسه (مضرب) لأنَّه على زنة (يُضرب) ولكنّهم زادوا (الْوَاو) لينفصل الثلاثي من الرباعيّ وفتحوا (الْمِيم) لثقل الضمَّة مَعَ الْوَاو وأمَّا (فعَلُ وفَعيِلٌ) فَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِمَا وَالثَّانِي أنَّ الأَصْل فِي الْأَسْمَاء ألاَّ تعْمل كَمَا أنَّ الأَصْل فِي الْأَفْعَال ألاَّ تعرب إِلَّا أنًّ الْمُضَارع أعرب لمشابهة اسْم الْفَاعِل فَيَنْبَغِي ألاَّ يعْمل اسْم الْفَاعِل إلاَّ مَا أشبه مِنْهُ الْمُضَارع فِي الْحَال والاستقبال
فصل

فأمَّا اسْم الْفَاعِل إِذا كَانَ للمضيء فَلَا يعْمل وَمن الكوفيَّين من يعمله

(1/437)


وحجَّة الأوَّلين فِي ذَلِك أنَّ الْمَاضِي لَا يشبه اسْم الْفَاعِل وَلَا اسْم الْفَاعِل يشبهة فَلم تحمل علته فِي الْعَمَل كَمَا لم يحمل الْمَاضِي على الِاسْم فِي الْإِعْرَاب
واحتجَّ الْآخرُونَ بقوله تَعَالَى {وكلبُهم باسطٌ ذراعَيْهِ بالوصيد} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {فالق الإصباح وَجعل اللَّيْل سكناُ وَالشَّمْس وَالْقَمَر} فنصب الْمَعْطُوف وبقولهم هَذَا معطي زيد درهما أمس وَلَا ناصب للدرهم إلاَّ الِاسْم
والجوابُ أمَّا الْآيَة الأولى فحكاية حَال كَمَا يحْكى الْمَاضِي بِلَفْظ الْمُضَارع مثل قَوْلك مَرَرْت بزيد أمسِ يكْتب وأمَّا الْآيَة الثَّانِيَة فَفِيهَا جوابان أحدُهما أنَّه على الْحِكَايَة أَيْضا لأنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كلّ يَوْم يفلق الإصباح وَيجْعَل اللَّيْل سكناً وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسباناً وَالثَّانِي أنَّ الشَّمْس وَالْقَمَر ينتصبان بِفعل مَحْذُوف أَي وَجعل الشَّمْس وَهَكَذَا يقدّر فِي الْمَسْأَلَة المستشهد بهَا أَي اعطاه درهما

(1/438)


فصل

اسْم الْفَاعِل الْمُعْمَلُ عمل الْفِعْل تجوز إِضَافَته فيجرُّ مَا بعده والتنوين فِيهِ مُرَاد وَحذف تَخْفِيفًا فإنَّ ثنَّي أَو جمع حذف مِنْهُ النُّون وأضيف لَا غير إنَّ لم يكن فِيهِ ألف وَلَام وَإِن نؤنت نصبت بِهِ لَا غير وَكَذَا إِذا أثبت النُّون فَإِن كَانَ فِيهِ ألف وَلَام وَهُوَ مُفْرد لم تضفه إلاَّ لّمَّا فِيهَا ألف وَاللَّام على مَا نبيّنه وَإِن كَانَ مثنَّى أَو مجموعاَ جَازَ أَن تحذف النُّون وتضيف كَقَوْلِك هَذَانِ الضاربا زيد وَيجوز أَن تنصب ويكو ن حذف النُّون تَخْفِيفًا لطوله بِالْألف وَاللَّام فانْ أثبتّ النُّون لم تكن فِيهِ الْإِضَافَة
فصل

وَقد حمل قَوْلهم هَذَا الضَّارِب الرجل على الْحسن الْوَجْه فِي الْجمع بَين الْألف

(1/439)


وَاللَّام وَالْإِضَافَة لأنَّ الْإِضَافَة لم تعرف فيهمَا والجيَّدَ النصب لأنَّ الْألف وَاللَّام تمنع الْإِضَافَة
فإنْ قلت هَذَا الضَّارِب زيدا لم تجز الْإِضَافَة لِأَن الْقيَاس ترك الْإِضَافَة فِي الْجَمِيع إلاَّ أنَّها جَازَت إِذا كَانَ فِي الثَّانِي ألف وَلَام حملا على بَاب الْحسن الْوَجْه فَيجْرِي غَيره على الْقيَاس
فصل

وإنَّما يعْمل اسْم الْفَاعِل وَمَا حملِ عَلَيْهِ عمل الْفِعْل إِذا اعْتمد على شَيْء قبله مثل أَن يكون خَبرا أَو حَالا أَو صفة أَو صلَة أَو كَانَ مَعَه حرف النَّفْي أوالاستفهام لأنَّه ضَعِيف فِي الْعَمَل لكَونه فرعا فقوي بالإعتماد وَقَالَ الْأَخْفَش وَطَائِفَة مَعَه يعْمل وَإِن لم يعْتَمد لقوّة شبهه بِالْفِعْلِ

(1/440)


فصل

وَيعْمل فعّال وفعول ومفعال عمل اسْم الْفَاعِل لِأَن مَا فِيهَا من الْمُبَالغَة وَزِيَادَة الْحَرْف جَبْرٌ لما دَخلهَا من النَّقْص عَن اسْم الْفَاعِل فِي جَرَيَانه على الْفِعْل وَمن الكوفيَّين من منع إِعْمَال ذَلِك وَهُوَ مَذْهَب مُخَالف لنصوص الْعَرَب فقد قَالَ الشَّاعِر 99 -
(ضروبً بنَصْلِ السيفِ سُوق سمٍانِها ... إِذا عدموا زاداً فإنَّك عاقرُ) // الطَّوِيل // وَقَالَ آخر 100 -
(فيالرزام رشحوا بِي مقدما ... إِلَى الْمَوْت خواضّاً إِلَيْهِ الكتائبا) // الطَّوِيل //

(1/441)


فصل

فأمَّا (فَعِلٌ وفعيل) فيعملان عِنْد سِيبَوَيْهٍ للمعنى الَّذِي ذكرنَا وَقَالَ الشَّاعِر 101 -
(حَذِرٌ أموراً لَا تضيرُ وآمنٌ ... مَا لَيْسَ ينُجيه من الأقد ار) // الْكَامِل //
فصل

و (فُعُل وفواعلُ) جمعا يعملان عمل الْمُفْرد لما بَينهمَا من المشابهة قَالَ طرفَة 102
(ثُمَّ زادُوا أنَّهم فِي قومهمْ ... غٌفُرٌ ذَنْبَهمٌ غَيْرُ فُجُرْ) والعربُ تَقول هَؤُلَاءِ حواجُّ بيتَ الله بِالنّصب على الإعمال وبالجرّ على الْإِضَافَة

(1/442)


بَاب الصّفة المشبَّهة باسم الْفَاعِل

وَهِي كل صفة لَا تجْرِي على الْفِعْل ممّا لَا مُبَالغَة فِيهِ نَحْو حسن وَبَطل وشديد ومشابهتها لَهُ فِي أنَّها تثّنى وَتجمع وتؤنث وَهِي مشتقّة كَمَا أنَّه مشتقٌّ ف (حسن وحسنان وحسنون وَحسنه وحسنتان وحسنات) مثل (ضَارب وضاربان وضاربون وضاربة وضاربتان وضاربات) وَينْقص عَن اسْم الْفَاعِل أنَّه على غير زنة الْفِعْل فَلهَذَا نقص عَن عمله فَلَا يتقدّم معموله عَلَيْهِ
فصل

وتجتمع الْإِضَافَة وَالْألف وَاللَّام فِي هَذَا الْبَاب وَمَا حملُ عَلَيْهِ لما ذكرنَا فِي بَاب الْإِضَافَة إلاَّ أنَّه يجوز هَهُنَا فِي الِاسْم الثَّانِي عدّة أوجه أحدُها مَرَرْت برجلٍ حَسَنٍ وجهُه على أنَّ ترفع بِالصّفةِ وَلَا ضمير فِيهَا لارْتِفَاع الظَّاهِر بهَا وَالْهَاء تعود على الْمَوْصُوف 2) وَالثَّانِي برجلٍ حَسًنٍ وَجْهَهُ فنصب على التَّشْبِيه بالمفعول وَأَجَازَ قوم نَصبه على التَّمْيِيز

(1/443)


3 -) وَالثَّالِث بِرَجُل حسنِ وجههِ بِالْإِضَافَة فِي قَول سِيبَوَيْهٍ وَمنعه الْأَكْثَرُونَ واحتجّ بقول الشماّخ 103
(أمْن دِمنتينِ عّرسَ الركبُ فيهمَا ... بحقْلِ الرُّخامى قد عَفَا طَلَلاهُما) // الطَّوِيل //
(أَقَامَت على رَبْعَيْهِما جارتا صفا ... كُمَيْتا الأعالي جَوْنَتا مُصْطلاهما) // الطَّوِيل // ف (جونتا) صفة ل (جارتا) وَالضَّمِير المثّنى لَهما
وَمن حجَّة من خَالفه أنَّ ذَلِك يُفْضِي إِلَى أضافة الشَّيْء إِلَى نَفسه وتأوَّلوا الْبَيْت على أنَّ الضَّمِير للأعالي وَهُوَ خلاف الظَّاهِر فِإنَّ حَمْلَ التَّثْنِيَة على الْجمع لَيْسَ بِقِيَاس وَلَيْسَت الْإِضَافَة هُنَا من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه لإنَّ (الْحَسَنَ) للْوَجْه و (الْهَاء) لَيست للْوَجْه وأنَّما حصَّلت التَّعْرِيف كَمَا تحصله الْألف وَاللَّام 4) وَالْوَجْه الرَّابِع مَرَرْت برجلٍ حسنِ الْوَجْه بِالْإِضَافَة

(1/444)


5 -) والخامسُ الوجْهَ بِالنّصب على التَّشْبِيه بالمفعول أَو التَّمْيِيز 6) وَالسَّادِس الوجهُ بِالرَّفْع وَفِيه ثَلَاث مَذَاهِب أحدُها أنَّه فَاعل والعائد مَحْذُوف تقديرهُ مَرَرْت برجلٍ حسنٍ الْوَجْه مِنْهُ فَحذف للْعلم بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وأمَّا من خَافَ مقَام ربِّه وَنهى النفسَ عَنِ الْهوى فإنَّ الجنَّة هِيَ المأْوى} أَي هِيَ المأوى لَهُ وَمثله حذف الْعَائِد فِي الصِّلَة واشباهها وَالثَّانِي أنَّ فِي (حسن) ضمير فَاعل والوجهُ بدلٌ مِنْهُ وَجَاز ذَلِك لماكان الْوَجْه جُزْءا من الرجل وَالرجل مشتملٌ عَلَيْهِ وَلَا حذف على هَذَا الْوَجْه وَالثَّالِث أنَّ الْألف وَاللَّام بدل من الْهَاء وَهُوَ قَول الفرّاء وَهُوَ فِي غَايَة الضعْف لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ الْبَدَل مَا كَانَ فِي معنى الأَصْل وَالْهَاء تعرّف بِالْإِضَافَة وَالْألف وَاللَّام تعرّف بالعهد وهما مُخْتَلِفَانِ وَالثَّانِي أنَّهما لَو كَانَا بَدَلا من الْهَاء هُنَا لكانا كَذَلِك فِي غَيره وَلَيْسَ كَذَلِك أَلا ترى أنَّك لَو قلت زيدٌ الْغُلَام حسن وانت تُرِيدُ غُلَامه لم يجز

(1/445)


7 -) وَالْوَجْه السَّابِع أنَّ يكون فِي الصّفة الألفُ وَاللَّام كَقَوْلِك مررتُ بِالرجلِ الحسنِ فأنْ كَانَ (الوجهُ) بعْدهَا فِيهِ الْألف وَاللَّام فَفِيهِ الرّفْع وَالنّصب والجرّ على مَا تقدَّم وأنْ كَانَ (وَجهه) بِالْهَاءِ فَفِيهِ الرفعُ والنصبُ على ماتقدّم وأمَّا الجرُّ فممتنعٌ لأنَّ الْإِضَافَة مَعَ الْألف وَاللَّام فِي ألاوَّل لَا تكون إلاَّ إِذا كَانَ فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ الْألف وَاللَّام لما بَينهمَا من المشابهة وَهنا التعريفان مُخْتَلِفَانِ وَقد وَقع فِي هَذَا الْوَجْه خَمْسَة أوجه جائزه وَوَاحِد مُمْتَنع فأمَّا أَن يكون الْوَجْه نكرَة وَالصّفة نكرَة فَالْأَوْجه الثَّلَاثَة جَائِزَة لأنَّه قد علم أنّه لَا يُرِيد إلاَّ وَجه الْمَمْرورِ بِهِ وَأَن كَانَ فِي الصّفة الألفٌ وَاللَّام فالرفع وَالنّصب جائزان والجرّ مُمْتَنع لما تقدم فَإِذن جملَة الْوُجُوه الْجَائِزَة ستَة عشرَ وَاثْنَانِ ممتنعان

(1/446)


[بَاب اسْم التَّفْضِيل]

فصل

وأمَّأ (أَفْعًلُ مِنْك) [فَالْوَجْه أَلا تعْمل فِي مظهر إلاَّ أَن يَقع الْمظهر أَن يَقع موقع الْمُضمر لأنَّ (أَفْعًلُ مِنْك) ] بعد اسْم الْفَاعِل فإنَّه لَا يثنَّى وَلَا يجمع وَلَا يؤنَّث فَعِنْدَ ذَلِك تَقول مَرَرْت برجلِ أفضل مِنْهُ أَبوهُ فَترفع على أنَّه خبر متقدّم وَمثله مَرَرْت بِرَجُل خيرٌ مِنْهُ أَبوهُ وشرُّ مِنْهُ غُلَامه لأنَّ أصل خير وشرّ (أخير وأشرر) وَمن الْعَرَب من يَعْمِلُ أفْعَل لأنَّه وصفٌ مشتقُّ
فصل

فأمَّا مَا عمله فِي الْمُضمر فَجَائِز لأنَّ مضمره لَيْسَ بِلَفْظ بل هُوَ النيّة فأمَّا يقعَ موقع المضضمر فَقَوْلهم مَا رَأَيْت رجلاَ أحسن فِي عَيْنَيْهِ الْكحل مِنْهُ فِي عين زيد فالكحل مرفوعٌ ب (أحسن) وَجَاز ذَلِك لما كَانَ الْمَعْنى أحسن هُوَ لأنَّ الَّذِي يحسن بالكحل الرجل لَا الْكحل وَمِنْه الحَدِيث الْمَرْفُوع ((مَا من أيّامٍ أحبَّ إِلَى الله فِيهَا الصومُ من عشر ذِي الجحَّة))

(1/447)


بَاب

مَا يعْمل من المصادر عمل الْفِعْل

فصل

كلَّ مصدر صحَّ تَقْدِيره ب (أنْ وَالْفِعْل) عمل عمل فعله المشتقّ مِنْهُ وإنَّما كَانَ كَذَلِك لأنَّه يشبه الْفِعْل فِي أنَّ حُرُوفه فِيهِ وأنَّه يُشَارِكهُ فِي الدّلَالَة على الْحَدث وأنَّه يكون للأزمنة الثَّلَاثَة فأنْ لم يحس تَقْدِيره بأنْ وَالْفِعْل لم يعْمل لأنَّ الأَصْل فِي الْعَمَل للْفِعْل وَإِذا لم يصحّ تَقْدِير الِاسْم بِالْفِعْلِ بَطل شيههُ بِهِ وَالَّذِي لَا يقدر بِأَن وَالْفِعْل الْمصدر الْمُؤَكّد نَحْو ضربت ضربا فَأَما قَوْلك ضربا زيدا فَالْعَمَل للْفِعْل الْمُقدر الناصب للمصدر وربَّما وَقع فِي كَلَام بعض النحوييّن أنَّ (ضربا) هَذَا هُوَ الْعَامِل وَذَلِكَ تجوّز من قَائِله
فصل

وَيعْمل الْمصدر وإنّ لم يعْتَمد بِخِلَاف اسْم الْفَاعِل لأنَّه قوي بكونهِ أصلا للْفِعْل وأنَّه مَوْصُوف لَا وصف

(1/448)


فصل

وَإِذا صُغّر المصدرُ لم يعْمل لوَجْهَيْنِ أحدُهما أنَّ التصغير كالوصف وَالثَّانِي أنَّه يبعد من شبه الْفِعْل إِذْ الْأَفْعَال لَا تصغَّرَ وَلَا عِبْرَة بتصغير فعل التَّعَجُّب لما نذكرهُ هُنَاكَ
فصل

فأنْ وصف الْمصدر قبل الْمَعْمُول لم يعْمل لأنَّ الْوَصْف يبعده من الْفِعْل لأنَّ الْفِعْل لَا يُوصف ولأنّ الْوَصْف يفصل بَين الْمَوْصُول وصلته والمصدر مَوْصُول ومعموله من صلته
فصل

وَأقوى المصادر عملا المنوَّنُ لأنَّه أشبه بِالْفِعْلِ إذْ كَانَ نكره وَإِن الْفِعْل لايضاف ثّم يَلِيهِ الْمُضَاف لأنَّ الْإِضَافَة فِي حكم الْأَسْمَاء وَقد لَا تعرف وَإِذا

(1/449)


عرّفت كَانَ التَّعْرِيف ساريا من الثَّانِي إِلَى الأوَّل بعد أَن مضى لَفظه على لفظ النكرَة بِخِلَاف الْألف وَاللَّام ثمَّ مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام وَعَمله ضَعِيف لأنَّ الْألف وَاللَّام أداةٌ زَائِدَة فِي أوَّله تنقله من التنكير إِلَى التَّعْرِيف فِي أوَّل أَحْوَاله وَمَعَ ذَلِك فعمله جَائِز لأنَّ الشّبَه فِيهِ باقٍ وَهُوَ قَلِيل فِي الِاسْتِعْمَال وَلم يَأْتِ فِي الْقُرْآن مِنْهُ مُعْمًلٌ فِي غير الظّرْف فِيمَا علمنَا وأنّا جَاءَ معملاً فِي الظّرْف كَقَوْلِه تَعَالَى {لَا يُحِبَّ اللهُ الْجَهْر بالسوءِ من القَوْل} فأمَّا قَول الشَّاعِر 104
(ضعيفُ النكاية أعداءه ... يخال الْفِرَار يُراخي الْأَجَل) // المتقارب // فتقديره ضَعِيف النكاية فِي أعدائه فلمَّا حذف حرف الْجَرّ وصل الْمصدر وَقيل لَا يحْتَاج إِلَى حرف يعدّيه فأمَّا قَول الشَّاعِر 105
(لقد علمت أولى الْمُغيرَة أنَّني ... كررت فَلم أنكل عَن الضَّرْب مسْمعا) // الطَّوِيل //

(1/450)


ف (مسمعا) مَنْصُوب ب (الضَّرْب) وَقيل مَنْصُوب ب (كررت) وحرف الجرّ مَحْذُوف والأوَّل أقوى لأنّ الْمصدر أقرب إِلَيْهِ وَهُوَ مُعْتَد بِنَفسِهِ ويروى (لحقتُ) وَهُوَ الناصب فِي أقوى الْوَجْهَيْنِ لأنَّ الْفِعْل وَإِن تقدّم فَهُوَ أقوى من الْمصدر وَلَا سِيمَا مَعَ الْألف وَاللَّام
فصل

وَلَا يتقدّم مَعْمُول الْمصدر عَلَيْهِ وَلَا يفصل بَينهمَا بِخَبَر وَلَا صفة وَلَا أَجْنَبِي بِحَال لأنَّه مَوْصُول
فصل
والمصدر لَا يتَحَمَّل الضميرلأنه اسْم جامد فَهُوَ ك (زيد والغلام) وإنَّما يحذف الْفَاعِل مَعَه حذفا كَقَوْلِه تَعَالَى (أَو إطعامُ فِي يَوْم ذِي مسَغْبَة يَتِيما) ف (إطْعَام) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف وَالْفَاعِل مَحْذُوف أَي إطْعَام هُوَ وَهُوَ

(1/451)


الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} وَأَجَازَ قوم أَن يتحمَّل الضَّمِير كَمَا تحمله الصّفة المشبَّهة وكالظرف لأنَّه يعْمل فِي الظَّاهِر فَيعْمل فِي المضْمُر وَهَذَا ضَعِيف لأنَّ تللك الاشياء يُوصف بهَا وَتَكون أحوالاً فجرت مجْرى الْفِعْل
فصل

والمصدر يُضَاف إِلَى الْفَاعِل لأنَّه غَيره بِخِلَاف اسْم الْفَاعِل لأنَّه هُوَ الْفَاعِل فِي الْمَعْنى ويضاف إِلَى الْمَفْعُول لأنَّه كالفاعل فِي تحقَّق الْفِعْل بِهِ وَيجوز أَن يقدّر الْمصدر بِفعل لم يَسَّم فَاعله كَقَوْلِك عجبت من ضرْبَ زيدٍ أَي من أَن يُضْرًب

(1/452)


فصل

وَإِذا عطفت على الْمُضَاف إِلَى الْمصدر جَازَ أَن تجرّ الْمَعْطُوف حملا على اللَّفْظ وأنَّ تنصبه أَو ترفعه حملا على الْموضع وَكَذَلِكَ الْوَصْف

(1/453)


بَاب

أَسمَاء الْفِعْل

وَذَلِكَ نَحْو (صهْ ومهْ ورويدَ ونزالِ) وكلّها أَسمَاء وَالدَّلِيل على ذَلِك أَشْيَاء أحدُها أنَّها تدلُّ على معنى فِي نَفسهَا وَلَا تدلُّ على زَمَانه من طَرِيق الْوَضع وَحَقِيقَة القَوْل فِيهِ انَّ (صَهْ) اسْم ل (اسكُتْ) وَلَيْسَ اللفظان عبارتين عَن شَيْء وَاحِد مثل اسْكُتْ واصمتْ ف (صَهْ) اسمٌ ومسمَّاه لفظ اخر وَهُوَ السَّكْتُ فالزمان مَعْلُوم من المسمىَّ لَا من الِاسْم وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّها تنوَّن فرقا بَين المعرفه والنكره والتعريف والتنكير من خَصَائِص الْأَسْمَاء وَالثَّالِث انَّها تقع موقع الْفَاعِل وَالْمَفْعُول فَمن الْفَاعِل قَول زُهَيْر 106
(ولأنت أَشْجَع من أُسَامَة إِذْ ... دعيت نزال ولج فِي الذعر) // الْكَامِل //

(1/454)


وَمن الْمَفْعُول قَول الآخر 107 -
(ودعوا نزال فَكنت أوَّل نَازل ... وعلام أركبه إِذا لم أنزل) وَمِنْهَا أنَّ الْألف وَاللَّام دخلتا على بَعْضهَا كَقَوْلِهِم النجاءك بِمَعْنى أنجُ
فصل

وَفَائِدَة وضع هَذِه الاشياء من وَجْهَيْن أحدُهما أنَّه أبلغ فِي الْمَعْنى من الْأَلْفَاظ الَّتِي نابت عَنْهَا وَالثَّانِي الِاخْتِصَار فإنَّه لَا يظْهر فِيهَا علم التَّثْنِيَة وَالْجمع والتأنيث إِذْ كَانَت اسْما والامر يظْهر فِيهِ ذَلِك
فصل

ومعظم هَذِه الاسماء تنوب عَن الْأَمر للمخاطب وإنّما كَانَ ذَلِك لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أنَّ الْمُخَاطب يتنبّه للمراد مِنْهُ بالاشارة وَمَا هُوَ اخفى مِنْهَا فَإِذا لم يكن اللَّفْظ صَرِيحًا فِي الدّلَالَة على الْمَعْنى كهذه الْأَسْمَاء خص بهَا الْمُخَاطب ليقوى بالمواجهة

(1/455)


وَالثَّانِي أنَّها لَو جعلت أمرا للْغَائِب أَو خَبرا لاحتاجت فِي الامر إِلَى تَقْدِير اللَّام وَاللَّام لَا تقدر مَعَ صَرِيح الْفِعْل فَكيف تقدّر مَعَ الِاسْم وأمّا الْخَبَر عَن الْغَائِب فيفتقر إِلَى ذكره مقدما أَو مُؤَخرا وَقد جَاءَ شَيْء مِنْهَا للْغَائِب كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوَّج وَمن لم يستطعْ فَعَلَيهِ بالصوْم) وإنَّما سَاغَ ذَلِك لتقدم الْخطاب وَقد حُكيَ عَن بعض الْعَرَب أنّه قَالَ عَلَيْهِ رجلا ليسي يُرِيد ليطلب رجلاَ غَيْرِي وَالْأَصْل لَيْسَ إيَّاي فَحصل فِي الْحِكَايَة شذوذ من وَجْهَيْن وَحكي عَن بَعضهم أنَّه قيل لَهُ إِلَيْك فَقَالَ إليَّ أَي قيل لَهُ تنحَّ فَقَالَ اتنحى وَهَذَا خبر
فصل
وَهَذِه الاسماء فِي لُزُومهَا وتعديها على حسب مَا نابت عَنهُ ف (صه) و (مَه) و (واهاً) لَازِمَة لأنَّ (صَهْ) نَاب عَن اسْكُتْ (ومه) عَن (اكفف) و (واهاٍ) عَن (اتعجب) وَمِنْهَا مَا يتَعَدَّى بِحرف الْجَرّ كَقَوْلِك عَلَيْك بالرفق كَأَنَّك قلت تخلّق بِهِ وَمِنْهَا مَا يتَعَدَّى بِنَفسِهِ كَقَوْلِك تراك زيدا ومناعه أَي اتركه وأمنعه

(1/456)


فصل
وأمَّا مَا جَاءَ مِنْهَا خَبرا فَهُوَ (شتان) وهواسم ل (افترق) وَلَا يكون فَاعله أَلا اثْنَيْنِ كَقَوْلِك شتّان زيد وَعَمْرو أَي افْتَرقَا حملا على أَصله وَقد تزاد مَعَه (مَا) كَمَا قَالَ الشَّاعِر 108
(شتًان مَا يومي على كُورِها ... ويومُ حيّان أخي جَابر)
فأمَّا قَول العامَّة شتان بَين فلَان وَفُلَان فخطأ لعدم الفاعلْيَن وَالْحكم بِزِيَادَة (بَين) هُنَا خطأ لأنَّها لم تزد فِي شَيْء من الْكَلَام أصلا وأنَّما تكرَّر فِي بعض الْمَوَاضِع توكيداً ولأنَّها لَو كَانَت زَائِدَة هُنَا لم يبْق لشتان فَاعل إِذْ كَانَ مَا بعْدهَا مجرورا لَا فِي مَوضِع الْمَرْفُوع إِذْ كَانَت (بَين) لم تُزَدْ) للتوكيد كَمَا فِي قَوْلك مَا جَاءَنِي من رجل فأمَّا شتّان مَا بَين زيد وَعَمْرو فَأَجَازَهُ الْأَصْمَعِي وَمنعه غَيره
فصل

وأمَّا (هَيْهات) فبمعنى (بَعُدَ) وَمِنْه

(1/457)


109 -
(هيْهات منزلنا بنعف سُوَيْقَةٍ ... ) أَي بَعُد فأمَّا قَوْله تَعَالَى {هَيْهَات هَيْهَات لِمَا تُوعدون} فَقيل اللَّام زَائِدَة و (مَا) الْفَاعِل وَقيل لَيست زَائِدَة وَالْفَاعِل مُضْمر وَالتَّقْدِير بَعُدَ التَّصْدِيق لما توعدون
فصل

وأمَّا رويد فتُستعمل مصدرا كَقَوْلِك رويد زيد أَي إمهال زيد وَمِنْه قَوْله {فضربَ الرِّقاب} وَتَكون صفة كَقَوْلِك ضَعْهُ وضعا رويداً وَهِي معربة فيهمَا وَتَكون اسْما للْفِعْل كَقَوْلِك رويد زيدا أَي أمْهل زيدا وَهِي هَهُنَا مبنيَّة وَهِي تَصْغِير إرواد على حذف الزَّوَائِد لأنَّ الْفِعْل مِنْهُ أَرْوَدَ إرْوَاداً

(1/458)


فصل

وأمَّا بَلْهَ فَيكون مصدرا بِمَعْنى غير فيجرّ مَا بعده وَيكون اسْما ل دَعْ فينصب مَا بعده
فصل

وأمَّا أَلْفَاظ الإغراء فالمتَّفق عَلَيْهِ مِنْهَا عنْدك ودونك ووراءك وَمن حُرُوف الجرِّ عَلَيْك وَإِلَيْك فَعِنْدَ الْأَكْثَرين أنَّه يقْتَصر على المسموع مِنْهَا لأنَّ الْقيَاس فِي ذَلِك ابْتِدَاء وضع لُغَة وقاس عَلَيْهَا قوم فأمَّا عنْدك زيدا فَمَعْنَاه خُذْهُ فِي أيّ نواحيك كَانَ ودونك خُذْهُ من قرب وَعَلَيْك بِمَعْنى الزمه وَإِلَيْك تنحَّ
فصل

وَمعنى الإغراء الإلصاق والحثّ حذرا من الْفَوات وأمَّا التحذير فَيُشبه الإغراء وَلَيْسَ بِهِ لأنَّ قَوْلك الأسدَ الأسدَ يدلُّ على شدَّة طَلَبك فراره من الْأسد وقولك عَلَيْك زيدا يدلُّ على شدَّة طَلَبك أَخذ زيد فَفِي هَذَا التحذيرُ من فَوَاته وَفِي الأوَّل التحذير من قربانه

(1/459)


فصل

وَالْكَاف المتَّصلة ب رويدك المبنيَّة حرفٌ للخطاب لَا اسْم وَالدَّلِيل على ذَلِك أنَّها لَو كَانَت اسْما لكَانَتْ إمَّا مَرْفُوعَة أَو مَنْصُوبَة أَو مجرورة فالرفع مُمْتَنع لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّ الْكَاف لَيست من الضمائر المرفوعة
وَالثَّانِي أنَّه لَا رَافع للكاف هُنَا لأنَّ الْمَرْفُوع هُنَا ضمير لَا يظْهر
وَالنّصب باطلٌ لِأَن هَذَا الِاسْم يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد وَهُوَ زيد وَالْكَاف للمخاطب فَلَيْسَ زيدا بل غَيره
والجر بَاطِل أَيْضا لأنَّ الجرِّ يكون بالحرف وَلَيْسَت رويد حرفا أَو بِالْإِضَافَة وَهَذِه الاسماء لَا تُضَاف ولأنَّها تثبت مَعَ الْألف وَاللَّام فِي النجاءك
فأمَّا الْكَاف فِي عنْدك وَغَيرهَا من الظروف وَعَلَيْك وَغَيرهَا من الْحُرُوف فَذكر الْجَمَاعَة كالسيرافيّ وَعبد القاهر وَغَيرهمَا أنَّها اسْم فِي مَوضِع جرّ لأنَّ هَذِه أَسمَاء لَا تسْتَعْمل إلاَّ مُضَافَة وَكَذَلِكَ حرف الجرّ لَا يدْخل إلاَّ على اسْم فَلذَلِك قُضي بكَوْنِ الْكَاف اسْما وَقَالَ ابْن بابشاذ فِي شرح الْجمل هِيَ حرف للخطاب كالكاف فِي رويدك

(1/460)


فصل

وَأَسْمَاء فعل الْأَمر لَا يتقدَّم معمولُها عَلَيْهَا عِنْد البصريِّين لقصورها عَن الْفِعْل وأنَّها غير مشتقَّة مِنْهُ وَأَجَازَهُ الكوفيُّون واحتجُّوا بقوله تَعَالَى {كتابَ الله عَلَيْكُم} وَبقول
110 -
(يَا أيُّها الماتحُ دلْوي دونكا ... إنِّي رأيْتُ الناسَ يَحْمَدُونكا) // الرجز //
وَالْجَوَاب عَن الْآيَة من وَجْهَيْن
أحد أحدُهما أنَّ كتابا مَنْصُوب على الْمصدر وَحرمت يدلُّ على تَقْدِير كتبتُ ذَلِك عَلَيْكُم كتابا وَعَلَيْكُم الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة تتعلَّق بِالْفِعْلِ المقدَّر

(1/461)


والثَّاني أنَّه مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف تَقْدِيره الزموا كتاب الله وَعَلَيْكُم متعلِّق ب كتاب أَو حالٌ مِنْهُ
وأمَّا الْبَيْت ف دلوي مرفوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَمَا بعده الْخَبَر نبَّهه بذلك على الاهتمام بِهِ وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا على تَقْدِير خُذْ وفسَّره دُونك

(1/462)


بَاب مَا ينْتَصب على التحذير
وَذَلِكَ قَوْلك الأسدَ الأسدَ تُرِيدُ احذر الْأسد ودلَّ التكرير على الفعلِ الْمَحْذُوف والأشبهُ أنْ يكون اللَّفْظ الأوَّلُ هُوَ الدالَّ على الْفِعْل لأنَّ مَوضِع الْفِعْل هُوَ الأوَّل
فصل

وأمَّا إيَّاك والشرَّ فمنصوبٌ بِفعل مَحْذُوف أَيْضا وَلَا بدّ فِيهِ من مفعول آخر مَعْطُوف ب الْوَاو ومعدَّى إِلَيْهِ بِحرف جرّ كَقَوْلِك إيَّاك من الشرّ وإنَّما اخْتَارُوا إيَّاك لأنَّها ضمير الْمَنْصُوب الْمُنْفَصِل وَإِذا حذف الْفِعْل لزم أَن يكون الضَّمِير مُنْفَصِلا وجاؤوا بِالْوَاو وحرف الجرّ ليدلُّوا على ذَلِك الْفِعْل الْمَحْذُوف كأنَّه قَالَ اتَّق الشرَّ أَو ابعد من الشرِّ وَالْمُخْتَار عِنْدِي أَن يُقدَّر لَهُ فعلٌ يتعدَّى إِلَى مفعولين نَحْو جنِّب نَفسك الشرّ ف نَفسك فِي مَوضِع إيَّاك وَقد جَاءَ بِغَيْر وَاو على هَذَا الأَصْل قَول الشَّاعِر من
111 -
(فإيَّاك إيَّاك المراءَ فإنَّه ... إِلَى الشرِّ دعَّاءٌ وللشرِّ جالبُ) // الطَّوِيل //

(1/463)


بَاب مَا ينْتَصب بِفعل مَحْذُوف

فَمن ذَلِك مرْحَبًا وَأهلا وسهلاً وَفِي نصبها وَجْهَان
أحدُهما هِيَ مفاعيل لفعل مَحْذُوف تَقْدِيره لقيتَ رحباً وَأهلا وسهلاً فاستأنسْ
وَالثَّانِي أَن يكون مرْحَبًا مصدرا أَي رَحبَتْ بلادك مرْحَبًا وسهلت سهلاً وتأهَّلت أَهلا أَي تأهُّلاً فإنْ دخلت لَا على هَذِه الْكَلِمَات بَقِي النصب على الْوَجْهَيْنِ ومِن الْعَرَب مَنْ يرفعهما على تَقْدِير خبر مَحْذُوف أَي لَك عِنْدِي مرحب
فصل

وأمَّا ويله وويحه ووَيْسَه فينتصب مَعَ الْإِضَافَة على تَقْدِير ألزمهُ الله ويله أَو على الْمصدر بِفعل من مَعْنَاهَا لَا من ألفاظها لأنَّها لم يسْتَعْمل مِنْهَا فعل فكأنَّه قَالَ أحزنه الله حزنه فإنْ لم تضفها كَانَ الرّفْع أَجود كَقَوْلِه تَعَالَى

(1/464)


{ويلٌ للمطفِّفين} وَجَاز الِابْتِدَاء بالنكرة لما فِيهَا من معنى الْفِعْل وَالنّصب جَائِز كالمضاف
فصل

وأمَّا لبّيك وسعدَيْك وحنانْيك) فمصادر وَالتَّقْدِير أَقمت على طَاعَتك إِقَامَة بعد إِقَامَة وسعدت بهَا سَعْدا بعد سعد وتحنَّنْ علينا تحنُّناً بعد تحنُّن وشتقاقُ لبَّيْك من ألَبَّ بِالْمَكَانِ ولبَّ بِهِ إِذا أَقَامَ وَهَذِه التَّثْنِيَة فِي معنى الْجمع عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَأَصْحَابه وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ هُوَ مُفْرد قلبت أَلفه يَاء مَعَ الْمُضمر مثل كلا وَهَذَا غير صَحِيح لأنَّه قد جَاءَ بِالْيَاءِ مضافاَ إِلَى الظَّاهِر قَالَ الشَّاعِر 112 -
(دَعَوْتُ لما نابني مِسْوَراً ... فلبَّي فلبَّي يَدَيْ مِسْوَرِ) // المتقارب //

(1/465)


فصل

ومَّما ينْتَصب بِفعل مَحْذُوف قولُك لمن رَأَيْته يَرْمِي بِسَهْم القرطاسَ أَي أصَاب القرطاسَ وَلمن يطْلب إنْسَانا هرب مِنْهُ زيدا أَي اطلب زيدا وإنَّما جَازَ حذفه لأنَّ مُشَاهدَة الْحَال أغنت عَنهُ

(1/466)


بَاب مَا يُشْغَلُ عَنهُ الفعلُ بضميره

إِذا كَانَ فِي الْكَلَام فعل فالأوْلى أنْ تقدِّمه على مَا يصحّ أَن يكون فَاعِلا أَو مَفْعُولا كَقَوْلِك زيد قَامَ وزيداً ضربت
أمَّا الأوَّل فلأنَّ الْفِعْل أوقى من الِابْتِدَاء وَتَقْدِيم الْخَبَر أوْلى من تَأْخِيره عِنْد السَّامع لأنَّ الْمَعْنى يثبت فِي نَفسه من الِابْتِدَاء
وأمَّا الثَّانِي فلأنَّ رُتْبَة الْمَفْعُول بعد الْفَاعِل وَالتَّأْخِير جَائِز ثمَّ ينظر فِي الْفِعْل فإنْ عمل فِي ضمير الْمَفْعُول مثل زيدٌ ضَربته فالجيِّد رفع زيد لأنَّ الْفِعْل الْمَذْكُور لَا يصحُّ أنْ ينصبه لنصبه ضَمِيره فَيصير الْكَلَام مُبْتَدأ وخبراً إلاَّ أَن يعرض لَهُ مَا يكون أوْلى بِالْفِعْلِ على مَا نبيِّنه إنْ شَاءَ الله
ونصبه جَائِز بِفعل مَحْذُوف يفسِّره الْمَذْكُور وَهَذَا على ثَلَاثَة أوجه
أحدُها أنْ تقدّر مثل الْمَذْكُور فِي اللَّفْظ كَقَوْلِك ضربتُ زيدا ضَربته
وَالثَّانِي أَن تقدِّر فعلا من مَعْنَاهُ كَقَوْلِك زيدا مَرَرْت بِهِ وَتَقْدِيره لقيتُ زيدا وَلَا تقدِّر مَرَرْت لأنَّه لَا يتعدَّى إلاَّ بِحرف الجرّ وَمن ذَلِك زيدا ضربت أَخَاهُ وَالتَّقْدِير أهنت زيدا ضربت أَخَاهُ لأنَّك لم تضرب زيدا لكنْ أهنته بِضَرْب مَنْ هُوَ من سَببه

(1/467)


وَالثَّالِث أَن تقدِّر فعلا من معنى الْكَلَام كَقَوْلِك زيدا لست مثله أَي خَالَفت وخالفت هُوَ معنى لست مثله وَالرَّفْع فِي هَذَا كلّه أَجود
فصل

فإنْ تقدَّم الاسمَ استفهامٌ كَقَوْلِك أزيداً ضَربته فالنصب أَجود لأنَّ الْهمزَة اسْتِفْهَام عَن فعل فتقدِّره إِذا كَانَ مَعَك مَا يفسِّره فَإِن قلت أَزِيد مَضْرُوب رفعت إِذْ لَيْسَ مَعَك مَا يفسِّر المقدَّر الناصب
فصل

وَكَذَلِكَ الْأَمر وَالنَّهْي كَقَوْلِك زيدا أضربه وعمراً لَا تشتمْه لأنَّهما غير خبر والمبتدأ يخبر عَنهُ بِمَا يحْتَمل الصدْق وَالْكذب إلاَّ أنْ يعرض الِاسْتِفْهَام وَإِذا نصبت كَانَ التَّقْدِير اضْرِب زيدا وَعَلِيهِ الْمَعْنى
فصل

وأمَّا النَّفْي فإنْ كَانَ ب مَا قدَّمته كَقَوْلِك مَا ضربت زيدا أَو مَا زيدا ضربت أَو ضَربته وَلَا تَقول زيدا مَا ضَربته وَإِن كَانَت لَا أَو لم لم يلْزم التَّقْدِيم تَقول زيدا لَا اضربه وَلم أضربه وَالْفرق بَينهمَا من وَجْهَيْن

(1/468)


أحدُهما أنَّ مَا أمّ بَاب النَّفْي فأُقِرَّتْ فِي موضعهَا
وَالثَّانِي أنَّ مَا غير عاملة فِي الْفِعْل وَلم عاملة وَلَا قد تعْمل فِيهِ فِي النَّهْي فَكَانَ جعلهَا إِلَى جنب مَا تعْمل فِيهِ أوْلى تَقول لَا زيدا ضَربته فتقدّمها وتضمر الْفِعْل لاقْتِضَائه إيَّاه
فصل

وإنْ الشّرطِيَّة كَذَلِك تَقول إِن زيدا تُكْرِمْه أُكْرِمْه لأنَّ الشَّرْط لَا معنى لَهُ إلاَّ فِي الْفِعْل
فصل

وَكَذَلِكَ الْعرض كَقَوْلِك أَلا زيدا تكرمه لتقاضيه الْفِعْل
فصل

فأمَّا الْعَطف فَإِذا كَانَ الْمَعْطُوف عَلَيْهِ اسْما قد عمل فِيهِ الْفِعْل فالجيِّد نصب الْمَعْطُوف بِفعل مَحْذُوف لتتشاكل الجملتان كَقَوْلِك قَامَ زيد وعَمْراً كلَّمته وَلَقِيت بشرا وخالداً مَرَرْت بِهِ والرفعُ فِيهِ جَائِز

(1/469)


فصل

وكلُّ جملَة جَعلتهَا مُفَسَّرة للمحذوف فَلَا مَوضِع لَهَا من الْإِعْرَاب لأنَّ المفسَّر الْمَحْذُوف لَا مَوضِع لَهُ وَإِن استأنفت كَانَ لَهَا مَوضِع

(1/470)


بَاب الْمعرفَة والنكرة

الْمعرفَة فِي الأَصْل مصدر ك الْعرْفَان وَلذَلِك تَقول رجل ذُو معرفَة ثمَّ نُقِلَ فَجُعِل وَصفا للاسم الدالّ على الشَّيْء الْمَخْصُوص لأنَّه يعرف بِهِ وَهُوَ يدلّ عَلَيْهِ
وأمَّا النكرَة فمصدر نكرت الشَّيْء نكرَة ونكراً إِذا جهلته ثمّ وصف بِهِ الِاسْم الَّذِي لَا يخصّ شَيْئا بِعَيْنِه وَلذَلِك تَقول هَذَا الِاسْم النكرَة وَهَذَا اسمٌ نكرَة كَمَا تَقول هَذَا الِاسْم الْمعرفَة وَاسم معرفَة
فصل

والنكرة سَابِقَة على الْمعرفَة لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّ النكرَة اسْم للمعنى العامّ والعامّ قبل الخاصّ والخاصُّ لَيْسَ فِيهِ العامّ أَلا ترى أنَّ حَيَوَانا فِيهِ الإنسانُ وغيرُه وَالْإِنْسَان لَيْسَ فِيهِ الْحَيَوَان العامّ فعُلم أنَّ الخاصّ واحدٌ من العامّ والكلّ أصلٌ لأجزائه
وَالثَّانِي أنَّ النكرَة تقعُ على الْأَشْيَاء المجهولة وعَلى المعدومِ والموْجود وَالْقَدِيم والْمُحْدَث والجسم والعَرَضِ كَقَوْلِك شيءٌ ومعلومٌ ومذكورٌ وموجودٌ فَإِذا أردْت إفهام معنى معيَّن زِدْت على ذَلِك الِاسْم الألفَ وَاللَّام أَو الصّفة وَمَا لَا زيادةَ فِيهِ سابقٌ على مَا فِيهِ زِيَادَة

(1/471)


فصل

وَبَعض النكرات أنكر من بعض فكلّ اسْم تنَاول مسمّيات تناولاً وَاحِدًا كَانَ أنكر من اسْم تنَاول دون تِلْكَ المسمّيات فعلى هَذَا أنكر الْأَشْيَاء مَعْدُوم ومنكور وأمَّا شيءٌ فَكَذَلِك عِنْد قوم لأنَّ الْمَعْدُوم عِنْدهم يسمَّى شَيْئا وَإِذا اقْتصر على التَّسْمِيَة فَقَط فالخطب فِيهِ يسير فأمَّا من جعل الْمَعْدُوم ذاتاً وموصوفاً وعَرَضاً فقولُه يؤدِّي إِلَى قِدَمِ الْعَالم وَهُوَ مَعَ ذَلِك متناقض وَلَيْسَ هَذَا موضعَ بَيَانه وأمَّا موجودٌ فأخصُّ من مَعْدُوم لخُرُوج الْمَعْدُوم مِنْهُ والمحدثُ أخصُّ من الْمَوْجُود لخُرُوج الْقَدِيم سبحانَه مِنْهُ وعَلى هَذَا المراتبُ إِلَى أَن يصلَ إِلَى الْمشَار إِلَيْهِ والعَلَم المختصّ فإنَّه أعرفُ المعارف فإنَّه لَا يتَنَاوَل إِلَّا وَاحِدًا
فصل

والمعرفةُ مَا خَصَّ الْوَاحِد بِعَيْنِه إمَّا شخصا من جنس ك زيد وَعَمْرو

(1/472)


وإمَّا جِنْسا ك أُسَامَة للأسد وَابْن قترة لضرب من الحيّات وَابْن أَوَى فإنَّ هَذِه الْأَشْيَاء أَعْلَام ينتصبُ عَنْهَا الْحَال
فصل

والأداة الَّتِي تُعْرَفُ بهَا النكرةُ من الْمعرفَة رُبَّ وَالْألف وَاللَّام فَمَا حسن دُخُولهَا عَلَيْهِ فَهُوَ نكرَة أمَّا رُبَّ فسبب دلالتها على مَا ذَكرْنَاهُ فِيهَا فِي حُرُوف الجرّ فأمَّا قولُهم ربّه رجلا فَالضَّمِير هُنَا فِي حكم النكرَة إِذا لم يتقدَّمه ظَاهر يعود عَلَيْهِ وإنَّما يفسّر بِمَا بعده وَلَوْلَا السماع لما قبل وَلذَلِك لَا يثنَّى هَذَا الضَّمِير وَلَا يجمع وَلَا يؤنَّث وأمَّا اللَّام فَسَيَأْتِي ذكرهَا
فصل

والمعارف خمسٌ الضمائرُ والأعلامُ وأسماءُ الْإِشَارَة وَمَا فِيهِ اللَّام والمضاف إِلَى وَاحِد من هَذِه إِضَافَة مَحْضَة
وأمَّا الضَّمِير فبمعنى الْمُضمر ك قَتِيل بِمَعْنى مقتول وأصل الْإِضْمَار السّتْر وَمِنْه قَول الْأَعْشَى من
113 - (أيا أبتي لَا ترِمْ عندنَا ... فإنَّا بخيرٍ إِذا لم ترِمْ)
(تَرَانَا إِذا أضمرتْك البلادُ ... نُجْفَى وتُقْطَعُ منّا الرَّحِمْ) // المتقارب //

(1/473)


فصل

وحدّ الْمُضمر هُوَ الِاسْم الَّذِي يعودُ إِلَى ظاهرِ قبله لفظا أَو تَقْديرا والاشتقاق موجودٌ فِيهِ وَهُوَ الاستتارُ لأنَّ الضَّمِير لَا يدُلُّ على المسمَّى بِنَفسِهِ وَهُوَ فِي نَفسه مُحْتَمل فالراجع إِلَيْهِ الضَّمِير لَا يبين من نفس الضَّمِير بل هُوَ مَسْتُور فِيهِ
فصل

وإنَّما جِيءَ بالضمائر للاختصار وَإِزَالَة اللّبْس وَذَلِكَ أنَّك لَو أعدت لفظ الظَّاهِر لم يُعلم أنَّ الثَّانِي هُوَ الأوَّل وَفِيه أَيْضا إطالة كَقَوْلِك جَاءَنِي زيد فَقلت لَهُ وَلَو قلت فَقلت لزيد لم يعلم أنَّ زيدا الثَّانِي هُوَ الأوَّل
فصل

وإنَّما كَانَ فِي الضمائر المرفوعة والمنصوبة متَّصل ومنفصل لأنَّ الْمَرْفُوع والمنصوب الظاهرين يتقدَّمان على الْعَامِل فيهمَا ويتأخَّران فضميراهما كَذَلِك فَإِذا تقدَّما انفصلا لحاجتهما إِلَى الْقيام بأنفسهما وَإِذا تأخَّرا انفصلا لاعتمادهما على الْعَامِل وأمَّا الْمَجْرُور فَلَا يكون إلاَّ متَّصلاً لِامْتِنَاع تقدُّمه على الجارِّ
فصل

وَضمير المتكلِّم الْمُنْفَصِل الْمَرْفُوع أَنا وَالْألف بعد النُّون زَائِدَة فِي الْوَقْف لبَيَان

(1/474)


الْحَرَكَة فِي النُّون وَلذَلِك تحذف فِي الْوَصْل وَقد جَاءَت فِي الشّعْر مَعَ الْوَصْل على إِجْرَاء الْوَصْل مُجرى الْوَقْف وَقَرَأَ بِهِ نافعٌ فِي بعض الْمَوَاضِع وَمِنْهُم مَنْ يُبدل من الْألف هاءُ فِي الْوَقْف
فصل

وأمَّا نَحن فللمخبر عَن نَفسه وَعَن غَيره ذكرا أَو أُنْثَى وَيكون فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع فَإِن قيل لِمَ لَمْ تفرّق فِي ضمير المتكلِّم بَين الذّكر وَالْأُنْثَى قيل لأنَّ سَماع النُّطْق مِنْهُ يميزه لمشاهدته وَأما جعل نَحن فِي الْجمع والتثنية بِلَفْظ وَاحِد فلأنَّ التَّثْنِيَة جمع فِي الْمَعْنى والمتكلِّم قد سوَّى فِيهِ بَين التَّذْكِير والتأنيث وهما صفتان للذات فَجَاز أَن يسوَّى فِيمَا يدلُّ على صفتين فِي الكمِّيَّة فإنَّ التَّثْنِيَة وَالْجمع صفتان فِي الكمِّيَّة إِحْدَاهمَا أَكثر من الْأُخْرَى
فصل

وإنَّما حُرِّكت النُّون لئلاَّ يلتقي ساكنان وضُمَّت النُّون لثَلَاثَة أوجه

(1/475)


أَحدهَا أنَّ الصِّيغَة للْجمع وَالْوَاو تدلُّ على الْجمع نَحْو قَامُوا والزيدون والضمَّة من جِنْسهَا
وَالثَّانِي أنَّ الْجمع أقوى من الْوَاحِد فحرِّك بأقوى الحركات وَهِي الضمَّة وَهَذَا الضَّمِير مَرْفُوع الْموضع فحرِّك بحركة الْمَرْفُوع
فصل

وَالِاسْم فِي أَنْت الْهمزَة وَالنُّون وَهُوَ أنَ الَّذِي للمتكلِّم وزيدت عَلَيْهِ التَّاء للخطاب وَهِي حرف معنى وَكَانَ حقُّه السّكُون ولكنَّ حركته من أجل السَّاكِن قبلهَا وَفتحت لأنَّ الفتحة أخفُّ كَمَا فتحت وَاو الْعَطف وَلَام الِابْتِدَاء وَنَحْوهمَا فإنْ خاطبت المؤنَّث كسرتها للْفرق وَكَانَت الكسرة أولى لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّها أخفّ من الضمَّة
وَالثَّانِي هِيَ أشبه ب الْيَاء الَّتِي هِيَ عَلامَة التَّأْنِيث فِي تفعلين
فصل

فَإِذا جَاوَزت الْوَاحِد جِئْت ب الْمِيم بعد التَّاء لتدلّ على مُجَاوزَة الْوَاحِد وَكَانَت الْمِيم أوْلى بِالزِّيَادَةِ لشبهها ب الْوَاو الَّتِي هِيَ حرف مدّ فإنْ أردْت الِاثْنَيْنِ

(1/476)


زِدْت عَلَيْهَا ألفا لأنَّها تشبه الْألف فِي قاما وإنْ أردْت جمع الْمُذكر زِدْت عَلَيْهَا واواً هَذَا هُوَ الأَصْل لثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أنَّها عَلامَة الْجمع فِي الْفِعْل
وَالثَّانِي أنَّ المؤنَّث يُزَاد عَلَيْهِ فِي الْجمع حرفان نَحْو أنتن والمذكَّر أوْلى وَالنُّون تشبه الْوَاو وَالْمِيم لما فِيهَا من الغنّة
وَالثَّالِث أنَّك تظهر الْوَاو بعد الْمِيم مَعَ الضَّمِير نَحْو أعطيتكموه والضمائر تردّ الْأُصُول وأمَّا من حذف من الْعَرَب فللتَّخفيف وأمْنِ اللّبْس
فصل

واستوى المذكَّر والمؤنَّث فِي أَنْتُمَا كَمَا يستويان فِي الْمظهر نَحْو الزيدان والهندان لأنَّ العدَّة متَّحدة والكلمة لَا تحْتَمل علامتين لمعنيين
فصل

هُوَ بِكَمَالِهِ اسْم لأنَّه ضمير مُنْفَصِل فَلم يكن على حرف وَاحِد وَلَا يُقال

(1/477)


الْوَاو زَائِدَة لأنَّ الضَّمِير مَوضِع تَخْفيف فَلَا تلِيق بِهِ زِيَادَة الْوَاو مَعَ ثقلهَا وحرِّكت تَقْوِيَة للكلمة وَلم تُضمّ إتباعاً لِئَلَّا تَجْتَمِع الضمَّتان وَالْوَاو وَفتحت إِذْ كَانَت أخفّ وربَّما جَاءَ فِي الشّعْر سكونُها وحذفُها اضطراراً
فصل

وَتقول فِي التَّثْنِيَة هما وَفِي الْجمع همو وهمْ على مَا تقدَّم وَالصَّحِيح أنَّهما صيغتان مرتجلتان للمعنيين وَقيل الأصلُ هُوَ حذفت الْوَاو لما زيدت عَلَيْهِ الْمِيم تَخْفِيفًا
فصل

وَالْيَاء فِي هِيَ أصلٌ ك الْوَاو فِي هُوَ والتثنية هما وَالْجمع هُنَّ على مَا تقدَّم وربَّما جَاءَ فِي الشّعْر هِيْ بِسُكُون الْيَاء فإنْ دخلت الْفَاء وَالْوَاو وَاللَّام على هِيَ جَازَ أَن تبقى الْهَاء على حركتها وَأَن تسكن لأنَّها أشبهت عضداً وفخداً فخذاً

(1/478)


فصل

وَالضَّمِير الْمَنْصُوب إيَّاي وإنَّما يَقع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَهِي إِذا تأخَّر عَنْهَا الْفِعْل أَو إِذا عطفت أَو إِذا وَقعت بعد إلاَّ
فصل

وَاخْتلفُوا فِيهَا على أَرْبَعَة مَذَاهِب
فمذهب سِيبَوَيْهٍ أنَّ إيّا اسْم مُضْمر وَالْيَاء وَالْكَاف وَغَيرهمَا حُرُوف معَان وَالدَّلِيل على ذَلِك أنَّ حدَّ الِاسْم الْمُضمر موجودٌ فِي إيّا وَلذَلِك لَا يتنكَّر بِحَال وَالْيَاء وَالْكَاف لَو كَانَا اسْمَيْنِ لكانا فِي مَوضِع رفع أَو نصب وَلَا عَامل لَهما هُنَا أَو فِي مَوضِع جرّ بِالْإِضَافَة وَالِاسْم الْمُضمر لَا يُضَاف فَصَارَت الْكَاف هُنَا كالكاف فِي ذَاك وَأُولَئِكَ
وَقَالَ الْخَلِيل كِلَاهُمَا مُضْمر إلاَّ أنَّ الأوَّل أشبه الْمظهر لِكَثْرَة حُرُوفه

(1/479)


وَحكي عَن بعض الْعَرَب أنَّه قَالَ إِذا بلغ الرجل السِّتين فإيّاه وإيّا الشوابّ وَهَذَا ضَعِيف لما تقدَّم والحكاية شاذَّة لَا تقوِّي الِاحْتِجَاج بهَا
وَقَالَ الفرَّاء الْكَاف هُوَ الضَّمِير وإيّا أُتي بهَا ليعتمد الضَّمِير عَلَيْهَا إِذْ الْحَرْف الْوَاحِد لَا يقوم بِنَفسِهِ وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا لأنَّ إيّا على أَرْبَعَة أحرف وَتلك عدَّة الْأَسْمَاء المتوسِّطة بَين الخماسيَّة والثلاثيَّة فَهِيَ أقوى من الأَصْل الثلاثيّ فيبعد أَن يُؤتى بهَا لتقويةِ مَا هُوَ حرفٌ واحدٌ وَلَا نَظِير لَهُ
وَقَالَ آخَرُونَ الْجَمِيع اسْم وَاحِد وَهُوَ بعيد أَيْضا إِذْ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاء مَا يتغيَّر الْحَرْف مِنْهُ لتغيُّر الْمعَانِي أمَّا الْحُرُوف الزَّائِدَة على الِاسْم وَالْفِعْل فتختلف لاخْتِلَاف الْمعَانِي

(1/480)


فصل

وَالِاسْم فِي رَأَيْته الْهَاء وَالْوَاو عِنْد سِيبَوَيْهٍ ولكنَّ حُذِفتْ فِي الْوَقْف وَإِذا وصلت ب الْمِيم نَحْو رَأَيْتهمْ تَخْفِيفًا ودليلُه أنَّ هَذَا الضَّمِير هُوَ الضَّمِير الْمُنْفَصِل فِي قَوْلك هُوَ وَقَالَ الزجَّاج الِاسْم هُوَ الهاءُ وَحدهَا واتَّفقوا على أنَّ الْهَاء وَالْألف فِي رأيتهما الِاسْم
فصل

وَالتَّاء فِي قمتُ ضمير الْفَاعِل وحرِّكت لأمرين
أحدُهما أنَّ ضمير الفالع من حَيْثُ هُوَ فَاعل يلْزم ذكره فحرِّك تَنْبِيها على قوَّته وَلذَلِك سكّن لَهُ آخر الْفِعْل
وَالثَّانِي أنَّه لَو سكِّن لالتبس بتاء التَّأْنِيث وإنَّما حرِّك بالضمِّ للمتكلِّم لأنَّ المتكلِّم أقوى من الْمُخَاطب وَفتح فِي الْمُخَاطب للْفرق بَينهمَا وَجعلت الكسرة للمؤنَّث إِذْ كَانَت من جنس الْيَاء

(1/481)


فصل

وأمَّا الْكَاف فَلَا تكون مَعَ الْفِعْل ضمير فَاعل فَلذَلِك لم تضمّ وَفتحت فِي الْمُخَاطب وكُسرت فِي المخاطبة
فصل

والميمُ بعد الْكَاف مثلهَا بعد التَّاء فِي أَنْتُمَا وَأَنْتُم وَهِي مَضْمُومَة مَعَ الْمِيم بكلِّ حَال كالتاء سَوَاء وعلَّة ذَلِك من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّ الْمِيم تشبه الْوَاو فتحرَّك بِمَا هُوَ مجانس للواو ويقوِّي ذَلِك أنَّ قبلهَا ضمَّة التَّاء الَّتِي هِيَ ضمير غير أنَّ هَذَا لَا يصلح للدلالة ابْتِدَاء أَلا ترى أنَّ الْكَاف قد ضمَّت بعد السَّاكِن نَحْو أراكُم وأعطيكم وضربتكم وَلَكِن يصلح للترجيح
وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّها لَو فُتحت لالتبس فِي التَّثْنِيَة كَقَوْلِك رأيتكما وَكَذَلِكَ أَنْتُمَا لَو فتحت التَّاء لاشتبهت ب أنتماء ولأنَّ التَّاء هُنَا فِي مجاورة الْوَاحِد فضمَّت كنون نحنُ وَمن الْعَرَب من يكسر الْكَاف قبل مِيم الْجمع إِذا كَانَت قبلهَا كسرة كَقَوْلِك عجبت من حِلْمِكِمْ شبها بِالْهَاءِ

(1/482)


فصل

وياء المتكلِّم بعد الْفِعْل والحرف هِيَ الِاسْم وَالنُّون قبلهَا حرفٌ أُتيَ بِهِ ليقي مَا قبلهَا من الْكسر نَحْو كلِّمني ومنِّي وَذَلِكَ أنَّ الْيَاء مُعتدَّة بكسرتين فَيجْعَل مَا قبلهَا تبعا لَهَا للتجانس فالاسم يصحُّ كسرُ آخِرِه وَلَا يصحُّ ذَلِك فِي الْفِعْل لأنَّه لَمَّا نبا عَن قبُول الكسرة الإعرابيَّة الْوَاجِبَة بعامل فأنْ ينبوَ عَن التابعة أولى
وأمَّا الْحَرْف فَلَا حظَّ لَهُ من الْحَرَكَة وتسمَّى نون الْوِقَايَة والكوفيُّون يسمُّونها عماداً
فصل

وإنَّما لَا يُؤْتى بالضمير الْمُنْفَصِل مَعَ الْقُدْرَة على المتَّصل لأنَّ علَّة الْإِتْيَان بالضمير الِاخْتِصَار والمتَّصل أخصر وَجَاء فِي الشّعْر للضَّرُورَة
فصل

وَالِاسْم الْعلم هُوَ الْمَوْضُوع على المسمَّى تمييزاً لَهُ لَا لدلالته عَلَيْهِ اشتقاقاً وَلذَلِك يجوز أنْ يسمَّى الْأَبْيَض حَقِيقَة أسود ويسمَّى الْإِنْسَان زيدا

(1/483)


لَا لزيادته وعبَّاساً لَا لعبوسه بل للتمييز كَمَا ذكرنَا وإنَّما يثبت أنَّه علم يعرف بِهِ بعد المسمَّي غيرَه بِالتَّسْمِيَةِ وَحكم الكنى والألقاب حكمُ الْأَعْلَام فِي الْمَقْصُود بهَا
فصل

وَالْفرق بَين الْعلم والكنية واللقب أنَّ الْعلم هُوَ الَّذِي يعرّف المسمّى وضعا مُبْتَدأ حتَّى يصير كعلم الثَّوْب
والكنية من كنيت عَن الشَّيْء إِذا عبَّرت عَن اسْمه باسم آخر فالعلم سَابق على الكنية وَقد تُوضَع الكنية مَوضِع الْعلم
وأمَّا اللقب فأنْ يحدَث للمسمَّى قصَّةٌ فيلقَّب بِمَا تضمَّنته القصَّة ك أنف النَّاقة وعائد الْكَلْب فَأَنف النَّاقة رجل تصدَّق بأنف نَاقَة فعيّب بِهِ وعائد الْكَلْب لَقَبٌ لُقِّب بِهِ شَاعِر قَالَ من 114 -
(مَا لي مَرِضْتُ فلمْ يَعُدْني عائدٌ ... منكمْ ويمرضُ كَلْبُكمْ فأعودُ) // الْكَامِل //
فصل

وَاسم الْإِشَارَة للمذكَّر ذَا وَقَالَ الكوفيُّون الِاسْم الذَّال وَحدهَا وَالْألف زَائِدَة للتكثير

(1/484)


وحجَّة الأوَّلين من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّ اسْم الْإِشَارَة مُنْفَصِل فِي حكم الظَّاهِر وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء الظَّاهِرَة الْقَائِمَة بِنَفسِهَا مَا هُوَ على حرف وَاحِد وَلَا الْقيَاس يَقْتَضِيهِ لأنَّ الْقيَاس يَقْتَضِي أَن يُبْدَأ بِحرف وَيُوقف على آخر وَمن النَّاس من جعل ذَا اسْما ظَاهرا لأنَّه يُوصف ويوصف بِهِ
وَالثَّانِي أنَّهم قَالُوا فِي تصغيره ذيّا فأعادوه إِلَى أَصله إذْ هَذَا شَأْن التصغير وسيتَّضح لَك فِي بَابه
فإنْ قيل فقد يُزَاد فِي المصغَّر مَا لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَو سمَّيْتَ ب هَل وَقد ثمَّ صغرته فإنَّك تزيدُ عَلَيْهِ حَرْفاً آخر قيل دعت الْحَاجة بعد التَّسْمِيَة إِلَى تكميله فِي التصغير وَلم يقم الدَّلِيل هُنَا على زِيَادَة الْألف قبل التصغير ليقال الزِّيَادَة مختصَّة بِالتَّصْغِيرِ
واحتجَّ الْآخرُونَ بأنَّ تَثْنِيَة ذَا ذان وَالْألف وَالنُّون للتثنية فَلم يبْق سوى الذَّال

(1/485)


وَالْجَوَاب عَنهُ من ثَلَاثَة أوجه
أحدُها أنَّ ذان لَيْسَ بتثنية ذَا بل صِيغَة مَوْضُوعَة للتثنية بِدَلِيل أنَّه لَا يتنكَّر كَمَا يتنكَّر زيد إِذا ثنِّي فَعلم أنَّه بِمَنْزِلَة أَنْتُمَا فِي أنَّه غير مثنَّى
وَالثَّانِي يقدَّر أنَّه مثنى ولكنَّ الْألف سَقَطت لالتقاء الساكنين وَلم تقلب لإيغالها فِي الْبناء
وَالثَّالِث أنَّه قد عوَّض من الذَّاهِب بتَشْديد النُّون فكأنَّه لم يذهب
فصل

الأَصْل فِي ذَا ذيّ الْعين وَاللَّام ياءان إلأَّ أَن الثَّانِيَة قد حذفت ليصير الِاسْم مُبْهما وأبدلت الأولى ألفا لئلاّ تشبه كي
وَقَالَ بعض البصرييِّن أصل الْألف وَاو متحرِّكة لأنَّ بَاب طويت وشويت أَكثر من بَاب حييت ثمَّ حذفت اللَّام وانقلبت الْوَاو ألفا
فصل

وَحكم تا فِي المؤنَّث حكم ذَا فِي المذكَّر إلأَّ أنَّ المؤنَّث يُقَال فِيهِ تا وتي وَذي وذه فتبدل الْهَاء من الْيَاء فأمَّا أولاء فَجمع المذكَّر

(1/486)


والمؤنَّث من غير لَفظه وَفِيه المدُّ وَالْقصر وَالْكَاف حرف للخطاب بِلَا خلاف
فصل

وأمَّا اللَّام فِي ذَلِك فَفِي زيادتها وَجْهَان
أَحدهمَا هِيَ لبعد الْمشَار إِلَيْهِ
وَالثَّانِي هِيَ عوض من هَا الَّتِي للتّنْبِيه وَلذَلِك تَقول هذاك وَلَا تَقول هذلك لئلاّ تجمع بَين العِوض والمعوَّض وحرّكت لئلاّ يلتقي ساكنان وَكسرت لأمرين
أحدُهما أنَّه الأَصْل فِي التقاء الساكنين
وَالثَّانِي للْفرق بَينهَا وَبَين لَام الْملك
فصل

فأمَّا اللَّام فِي تِلْكَ فَبَقيت على سكونها لأنَّ الْيَاء قبلهَا حذفت لئلاّ تقع الْيَاء بَين كسرتين إِذْ الْجمع يَدْعُو إِلَى كَسْرِ اللَّام وكسرة التَّاء تدلُّ على الْيَاء المحذوفة

(1/487)


فصل

إنَّما بني اسْم الْإِشَارَة لأنَّ الْإِشَارَة معنى والموضوع لإِفَادَة الْمعَانِي الْحُرُوف وَلم يضعوا للْإِشَارَة حرفا فَيَنْبَغِي أَن يُعتقد أنَّهم ضمَّنوه إيَّاه طرداً لأصولهم ودلَّ على ذَلِك بناؤهم إيّاه وَلَا بدَّ للْبِنَاء من سَبَب
فصل

هُوَ وَهِي الِاسْم بكمالها وَقَالَ الكوفيُّون الْهَاء هِيَ الِاسْم وَمَا بعْدهَا مزيدٌ للتكثير
وحجَّة الأوَّلين أنَّه ضمير مُنْفَصِل قَائِم بِنَفسِهِ فَلم يكن على حرف وَاحِد ك أَنا وَنحن وَذَلِكَ أنَّ قِيَامه بِنَفسِهِ يدلُّ على قوَّته والحرف الْوَاحِد ضَعِيف
واحتجَّ الْآخرُونَ من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّ الْوَاو وَالْيَاء تحذفان فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع نَحْو هما وهنَّ وهم وَفِي الْوَاحِد المتَّصل نَحْو رَأَيْته وَلَو كَانَا مِنْهُ لما حذفا
وَالثَّانِي أنَّهما قد حذفا فِي الشّعْر كَقَوْل الشَّاعِر
115 - (فبَيْناهُ يَشْري رَحْلَهُ قَالَ قَائِلٌ ... لمن جمل رخو الملاط نجيب)

(1/488)


وَقَالَ آخر
116 - ( ... دارٌ لسُعْدَى إذْهِ مِنْ هَوَاكا) // الرجز //
وضرورة الشّعْر تردُّ إِلَى الأَصْل
وَالْجَوَاب أمَّا التَّثْنِيَة وَالْجمع فصيغ مرتجلة لما ذَكرْنَاهُ فِي هذَيْن
وَالثَّانِي أنَّهم حذفوا الْوَاو وَالْيَاء فِرَارًا من الثّقل وَذَاكَ أنَّ الْهَاء مَضْمُومَة وَالْمِيم تشبه الْوَاو فَلَو أثبتوا الْوَاو متحرِّكة ثَقُل اللَّفْظ أَو ظُنَّ أنَّها كلمتان وَلَو سكَّنوها لجمعوا بَين ساكنين فَكَانَ الْوَجْه حذفهَا وأمَّا حذفُها فِي المتَّصل ففراراً من الثّقل وأمَّا حذفُها فِي الشّعْر فَلَا حجَّة فِيهِ للاضطرارِ إِلَيْهِ وَقد حذفوا مَا لَا يُشَكُّ أنَّه أصْل كَقَوْلِه من
117 - (درس المنا ... ) // الْكَامِل // أَي الْمنَازل وَمن

(1/489)


118 - (ورق الحمي) // الرجز //
أَي الْحمام
فصل

اللَّام وَحدهَا للتعريف وَقَالَ الْخَلِيل الْألف وَاللَّام للتعريف بِمَنْزِلَة هَل وبل
وحجَّة الأوَّلين من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أنَّ التَّعْرِيف الْحَاصِل فِي الِاسْم يَجعله غير النكرَة وَلذَلِك إِذا جَاءَ آخِرُ بَيت نكرَة وَآخر بعده معرفَة لم يكن إيطاءً ك رجل وَالرجل كَمَا لَو كَانَ الثَّانِي على غير لفظ الأوَّل بالكلِّيَّة وَلَا يتحقَّق ذَلِك إلاَّ بامتزاج الأداة بِالِاسْمِ كبعض حُرُوفه وَهَذَا فِي الْحَرْف الْوَاحِد يتحقَّق والدليلُ على أنَّهم قصدُوا ذَلِك أنَّهم سكنوا اللَّام إِذْ كَانَ امتزاج الساكنين أشدّ
وَالثَّانِي أنَّ الْألف قبل اللَّام همزَة وصل تسْقط بغَيْرهَا وَإِذا تحرّكت اللَّام سَقَطت فِي لُغَة جَيِّدَة كَقَوْلِهِم تجمرن لحمر وَلَو كَانَت من الأَصْل لم تسْقط كهَلْ وَقد
والثالثُ أنَّ التَّعْرِيف ضدُّ التنكير وَدَلِيل التنكير حرف وَاحِد هُوَ التَّنْوِين فَيَنْبَغِي أَن يكون دَلِيل مُقَابِله وَاحِدًا

(1/490)


واحتجَّ الْآخرُونَ من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّ الْهمزَة قبل اللَّام مَفْتُوحَة وَلَو كَانَ همزَة وصل لضمَّت أَو كسرت وَإِذا لم تكن وصلا كَانَت أصلا
وَالثَّانِي أنَّ الشَّاعِر إِذا اضْطر إِلَى جعل اللَّام آخر بَيت جَاءَ فِي أوَّل الآخر بِالْألف وَاللَّام كَقَوْل الراجز
199 - (دَعْ ذَا وعَجِّل ذَا وألْحِقْنا بذلْ ... بالشحمِ إنّا قد مَلِلْناهُ بَجَلْ) // الرجز //
وَقَالَ آخر من

(1/491)


120 - (مثل سَحْق البُرْدِ عفّى بعْدك الْقطر ... مغناه وتأويب الشمَال) // الرمل //
فجعْلُه بِالْألف وَاللَّام نصفَ الْبَيْت أَو آخِره دليلٌ على أنَّهما جَمِيعًا كلمة
وَالْجَوَاب أمَّا فتح الْهمزَة فلكثرة وُقُوعهَا فِي الْكَلَام وَقد فتحت همزَة ايمن وَهِي وصل وَلم يُخرجهَا ذَلِك عَن زيادتها وأمَّا قطعهَا فِي الشّعْر فَلَا يدلُّ على مَا ذكر لأنّا تَقول إنَّ الْهمزَة سَقَطت وَالْبَاقِي اللامُ وَحدهَا وإنَّما أعَاد الْألف مَعَ اللَّام ليصحَّ سُكُون اللَّام
فصل

وَاللَّام على وُجُوه
أحدُها استغراقُ الْجِنْس كَقَوْلِك الرجلُ أفضلُ من الْمَرْأَة أَي جَمِيع هَذَا الْجِنْس خيرٌ من جَمِيع الْجِنْس الآخر وَلَيْسَ آحاده خيرا من آحاده
وَالثَّانِي أَن تكون لتعريف الْوَاحِد من الْجِنْس من حيثُ هُوَ جنس كَقَوْلِك الدِّينَار خيرٌ من الدِّرْهَم أَي أيّ دِينَار كَانَ فَهُوَ خيرٌ من أيّ دِرْهَم كَانَ
وَالثَّالِث أَن تكون للمعهود بَين المتكلِّم والمخاطب كَقَوْلِك لمن تخاطبه جَاءَ الرجل الَّذِي عهدناه

(1/492)


وَالرَّابِع أَن تكون لتعريف الْحَاضِر كَقَوْلِك هَذَا الرجل فأمَّا قَوْله تَعَالَى {فعصى فرعونُ الرَّسُول} فَمن الْمَعْهُود السَّابِق لتقدُّم ذكر الرَّسُول نكرَة فَعَاد إِلَيْهِ
وَالْخَامِس أَن تكون بِمَعْنى الَّذِي نَحْو الضَّارِب والقائم
وَالسَّادِس أَن تكون زَائِدَة كالداخلة على الَّذِي وسنبيّن ذَلِك فِي الموصولات وَحكي عَن بعض الْعَرَب قبضت الْخَمْسَة الْعشْر الدِّرْهَم وَلَا يُقاس عَلَيْهِ
وَقَالَ الكوفيُّون الْألف وَاللَّام تكون بَدَلا من هَاء الضَّمِير كَقَوْلِك مَرَرْت بِالرجلِ الحسنِ الوجهُ إِذا رفعت وَلَيْسَ بِشَيْء إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لجَاز أَن تَقول مَرَرْت بزيد فكلَّمني الْغُلَام أَي غلامُه وَلَيْسَ بجائز ولأنَّ الْهَاء اسمٌ مُضْمر يعرّف بِمَا قبله بِالْإِضَافَة وَالْألف وَاللَّام حرف يعرّف بِوَجْه آخر فهما مُخْتَلِفَانِ من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ

(1/493)


مَسْأَلَة

أعرف المعارف الْمُضْمَر عِنْد سِيبَوَيْهٍ وَمن تَابعه
وَقَالَ ابنُ السرّاج أسماءُ الْإِشَارَة أعرف مِنْهُ وَمن العَلَمِ
وَقَالَ الكوفيُّون الْعلم أعرفُ مِنْهُمَا
وحجَّة الأوَّلين أنَّ الْمُضمر لَا اشْتِرَاك فِيهِ لتعينه بِمَا يعود إِلَيْهِ وَلذَلِك لَا يُوصف ويوصف بِهِ بِخِلَاف الْعلم فَإِنَّهُ فِيهِ اشْتِرَاك ويميز بِالْوَصْفِ والمبهم يُوصف ويوصف بِهِ وَيَقَع اسْم الْإِشَارَة على كل حَاضر وَيَقَع فِيهِ اشْتِرَاك حَتَّى لَو كَانَ بحضرتك جمَاعَة فَقلت هَذَا من غير إقبال وَاحِد لم يعلم المُرَاد إِلَّا بانضمام الإقبال إِلَيْهِ
وَاحْتج ابْن السراج بِأَن اسْم الْإِشَارَة يعرف بِالْعينِ وَالْقلب فَهُوَ أقوى وَهَذَا ضَعِيف لِأَن ذَلِك رَاجع إِلَى تعرفه عِنْد الْمُتَكَلّم فَأَما السَّامع فَلَا يعلم مَا فِي قلب

(1/494)


النَّاطِق ب هَذَا وَإِنَّمَا يعرف الْمشَار إِلَيْهِ بالإقبال عَلَيْهِ وَهُوَ شَيْء غير الِاسْم وَيدل عَلَيْهِ أَن اسْم الْإِشَارَة يصفر ويثنى وَيجمع وَلَا يفْتَقر إِلَى تقدم ذكر فَهُوَ فِي ذَلِك كالمظهر الْمَحْض
وَاحْتج الْآخرُونَ بِأَن الْعلم لَا اشْتِرَاك فِيهِ وضعا وإنَّما تقع الشّركَة فِيهِ اتِّفاقاً وَالضَّمِير يصلح لكلِّ مَذْكُور وَقد يكون الْمَذْكُور قبله نكرَة فَيصير هُوَ نكرَة أَيْضا وَلذَلِك دخلت عَلَيْهِ رُبَّ فِي قَوْلهم ربّه رجلا
وَالْجَوَاب أمَّا الْعلم فَيعرف بِالْوَضْعِ ويفتقر تَعْرِيفه إِلَى إِعْلَام المسمَّى بِهِ غيرَه بأنَي سُميت هَذَا الشَّيْء كَذَا ثمَّ تقع فِيهِ الشّركَة وَقد زيدت فِيهِ الْألف وَاللَّام نَحْو قَول الشَّاعِر من
121 - (باعد أمَّ العمْروِ مِنْ أسيرِها ... حُرَّاس أبوابٍ عَلَى قُصُورِها) // الرجز // يروي بِالْعينِ والغين وكلَّ ذَلِك لَا يُوجد فِي الْمُضمر ثمَّ إنَّ الْعلم يتنكَّر كَقَوْلِك

(1/495)


مَرَرْت بزيد وَزيد آخر وَفِي التَّثْنِيَة وَالْجمع وَالْإِضَافَة وَالضَّمِير لَا يتنكَّر فأمَّا عوده إِلَى نكرَة فَلَا ينكِّره لأنَّه يقطع على من عُني بالضمير فَهُوَ متعيّن
فأمَّا ربّه رجلا فشاذّ وَقد جُعلت النكرَة بعده مفسّره لَهُ بِمَنْزِلَة تقدُّمها عَلَيْهِ
فصل

فِي الْفَصْل ويسمِّيه الكوفيُّون الْعِمَاد وَهُوَ أَنا وَنحن وَهُوَ للْغَائِب وَهِي وَلَا يفصل إلاَّ بضمائر الْمَرْفُوع الْمُنْفَصِل على حَسَب مَا قبله من المتكلِّم والمخاطب وَالْغَائِب وإنَّما سمِّي فصلا لأنَّه يجمع أنواعاً من التَّبْيِين فيؤكد الْخَبَر للمخبر عَنهُ ويفصل الْخَبَر من الصّفة فيعيّن مَا بعده للإخبار لَا للوصف وَيعلم أَن الْخَبَر معرفَة أَو قريب من الْمعرفَة
فصل

وَلَا مَوضِع لَهُ من الْإِعْرَاب وَقَالَ الكوفيُّون لَهُ مَوضِع فَعِنْدَ بَعضهم هُوَ تابعٌ لما قبله وَعند بَعضهم حكمُه حكمُ مَا بعده
والدليلُ على أنَّه لَا مَوضِع لَهُ دخولُ اللَّام عَلَيْهِ فِي خبر كَانَ كَقَوْلِك إنْ كُنَّا

(1/496)


لنَحْنُ الذاهبين وَقد يَقع لفظ الْفَصْل فِي مَوضِع لَا يحْتَمل غَيره كَقَوْلِه تَعَالَى {تَجِدُوهُ عِنْد الله هُوَ خيرا} وَجَاز ذَلِك هُنَا لأنَّ أفعل مِنْك قد يخصّص فَقرب من الْمعرفَة وَفِي مَوضِع يصلح أَن يكون توكيداً فَيكون لَهُ مَوضِع وَيحْتَمل أَن يكون مُبْتَدأ وَمَا بعده الْخَبَر
فصل

وَتقول كنت أظنُّ أنَّ الْعَقْرَب أشدُّ لسعة من الزنبور فَإِذا هُوَ هِيَ
وَقَالَ الكوفيُّون فَإِذا هُوَ إيّاها
وحجَّة الأوَّلين أنَّ هُوَ مُبْتَدأ وَالْخَبَر لَا يَخْلُو إمَّا أَن يكون إِذا الَّتِي للمفاجأة لأنَّها مَكَان فَيلْزم أَن يكون الضَّمِير الثَّانِي حَالا وإمَّا أَن يكون الْخَبَر الضَّمِير الثَّانِي وإيّا من ضمائر الْمَنْصُوب لَا الْمَرْفُوع فَإِذا بَطل القسمان تعيّن أَن تكون هِيَ خبر الْمُبْتَدَأ

(1/497)


واحتجَّ الْآخرُونَ من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّ جمَاعَة من الْعَرَب شهدُوا عِنْد يحيى بن خَالِد حِين اجْتمع سِيبَوَيْهٍ وَالْكسَائِيّ وَأَصْحَابه بقول الكوفيّيون
وَالثَّانِي أنَّ الَّتِي للمفاجأة يجوز أَن يرْتَفع مَا بعْدهَا بأنَّه مُبْتَدأ وَخبر وَأَن ينْتَصب على إِضْمَار أجد وعَلى ذَلِك جَاءَت الْحِكَايَة
وَقَالَ ثَعْلَب هُوَ عماد أَي وجدته إيّاها
وَالْجَوَاب عَن الْحِكَايَة من وَجْهَيْن
أحدُهما أنَّ الَّذين اجْتَمعُوا بِبَاب يحيى بن خَالِد من الْعَرَب بذل لَهُم أَصْحَاب الكسائيّ والفرّاء مَالا على أَن يَقُولُوا بِمَا يُوَافق قَوْلهم وَلم يشْعر بذلك الكسائيّ والفرّاء
وَالثَّانِي أنَّ ذَلِك من شذوذ اللُّغَة كَمَا شذَّ فتحُ لَام الجرِّ والجرُّ ب لعلَّ

(1/498)


والجزم ب لن وَغير ذَلِك وأمَّا النَّصْبُ بعد إِذا فَلَا يكون إلاَّ على الْحَال وإيّا لَا يكون حَالا وَلَا يصحُّ النصب ب يجد لأنَّها تفْتَقر إِلَى مفعولين وليسا فِي الْكَلَام على أَن تَقْدِير ذَلِك لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَلَا يصحُّ جعل هُوَ فصلا لأنَّ الْفَصْل يكون بَين اسْمَيْنِ وليسا هُنَا

(1/499)


بَاب مَالا ينْصَرف

قد سبق فِي صدر الْكتاب معنى الصّرْف وَيَنْبَغِي أَن يعلم أنَّ الأَصْل فِي الْأَسْمَاء المعربة الصّرْف لِأَن العلَّة فِي الْإِتْيَان بِالصرْفِ مَوْجُودَة فِي جَمِيعهَا إلاَّ أنَّ ضربا مِنْهَا شابه الْفِعْل من وَجْهَيْن فَمنع ذَلِك الضَّرْب من الجرِّ والتنوين اللَّذين لَا يدخلَانِ الْفِعْل
فإنْ قيل هلاَّ منع الشّبَه من وَجه وَاحِد قيل لَا يمْنَع لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّ اسْتِحْقَاق الِاسْم الصّرْف أصلٌ متأكّد فالشبه الْوَاحِد دون تأكُّده بِالْأَصَالَةِ
وَالثَّانِي أنَّ الِانْتِقَال عَن الأَصْل إِلَى حكم الْفَرْع يفْتَقر إِلَى دَلِيل يرجّح عَلَيْهِ إِذْ لَو تَسَاويا لم يكن الِانْتِقَال أوْلى من الْبَقَاء والشبه الْوَاحِد لَا يرجّح الْأَصَالَة وَصَارَ كالحق فِي الذمَّة لَا يثبت إلاَّ بِشَاهِدين لأنَّ الْبَرَاءَة أصل
فصل

وَمعنى شبه الِاسْم للْفِعْل أنْ يصير فرعا وَبَيَانه أنَّ الْفِعْل فرْعٌ على الِاسْم من جِهَات

(1/500)


إِحْدَاهَا أنَّه مشقٌّ من الْمصدر وَهُوَ اسْم والمشتقُّ ثَان للمشتقِّ مِنْهُ
وَالثَّانيَِة أنَّ الْفِعْل يخبر بِهِ لَا عَنهُ وَالِاسْم يخبر بِهِ وَعنهُ والأدنى فرع على الْأَعْلَى
وَالثَّالِثَة أنَّ الْأَفْعَال تحدث من مسمَّيات الْأَسْمَاء والحادث متأخِّر عَن الْمُحدث وَإِذا ثَبت هَذَا فِي الْفِعْل فالاسم يصير فرعا بحدوث أَمر ثَان لغيره ومسبوق بِهِ
وَتلك الْأُمُور تِسْعَة وزن الْفِعْل والتعريف وَالزِّيَادَة وَالْوَصْف وَالْعدْل والعجمة وَالْجمع والتركيب وكلٌّ مِنْهَا مسبوقٌ بضدِّه أَو خِلَافه
فصل

فوزن الْفِعْل مَسْبُوق بِوَزْن الِاسْم كسَبْق الِاسْم للْفِعْل
فصل

والتعريف مَسْبُوق بالتنكير إِذْ هُوَ الأَصْل يدلُّ على ذَلِك أَشْيَاء
أحدُها أنَّ النكرَة أعمُّ والعامّ قبل الخاصّ لأنَّ الخاصّ يتميَّز عَن العامِّ بأوصاف زَائِدَة على الْحَقِيقَة الْمُشْتَركَة وَالزِّيَادَة فرع
وَالثَّانِي أنَّ جَمِيع الْحَوَادِث يَقع عَلَيْهَا اسْم شَيْء فَإِذا أردْت اسْم بَعْضهَا خصصته بِالْوَصْفِ أَو مَا قَامَ مقَامه والموصوف سَابق على الْوَصْف
وَالثَّالِث أنَّ التَّعْرِيف يفْتَقر إِلَى عَلامَة لفظيَّة أَو وضعيَّة والنكرة لَا تحْتَاج إِلَى عَلامَة

(1/501)


فصل

وأمَّا التَّأْنِيث فمسبوق بالتذكير وَفرع عَلَيْهِ لوَجْهَيْنِ
أحدُهما أنَّ كلّ عين أَو معنى فَهُوَ شَيْء وَمَعْلُوم ومذكور وَهَذِه الْأَسْمَاء مذكَّرة فَإِذا علم أنَّ مسمَّياتها مؤنَّثة وضع لَهَا اسمٌ دالٌّ على التَّأْنِيث
وَالثَّانِي أنَّ التَّذْكِير لَا عَلامَة لَهُ والتأنيث لَهُ عَلامَة وَذَلِكَ يدلُّ أنَّه فرع على التَّذْكِير
فصل

وَالْعدْل هُوَ أَن يُقام بِنَاء مقَام بِنَاء آخر من لَفظه فالمعدول عَنهُ أصلٌ للمعدول
فصل

وأمَّا الْألف وَالنُّون الزائدتان فتشبهان الْألف فِي حَمْرَاء من أوجه
أَحدهَا أنَّهما زيدا مَعًا كَمَا أنَّ ألفي التَّأْنِيث كَذَلِك
وَالثَّانِي أنَّ بِنَاء الْألف وَالنُّون فِي التَّذْكِير مُخَالف لبنائه فِي التَّأْنِيث كمخالفة بِنَاء مذكَّر حَمْرَاء لبِنَاء مؤنَّثها فالمؤنَّث من فعلان فعلى
وَالثَّالِث أنَّ تَاء التَّأْنِيث لَا تدخل على فعلان فعلى كَمَا لَا تدخل على حَمْرَاء
وَالرَّابِع أنَّهما جَاءَا بعد سَلامَة الْبناء كَمَا جَاءَ ألفا التَّأْنِيث بعد سَلَامَته

(1/502)


وَالْخَامِس أنَّهما اشْتَركَا فِي ألف المدِّ قبل الطّرف الزَّائِد
فصل

فأمَّا عُثْمَان وعريان إِذا سمِّي فَيمْتَنع صرفُهما للزِّيَادَة والتعريف وينصرفان فِي النكرَة بِخِلَاف عطشان وسكران فإنَّه لَا ينْصَرف فِي النكرَة أَيْضا لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أنَّ الْألف وَالنُّون كألفي التَّأْنِيث فِيمَا ذكرنَا
وَالثَّانِي أنَّه وصف قد اجْتمع فِيهِ سببان
فصل

فأمَّا الجمعُ ففرعٌ مَسْبُوق بِالْوَاحِدِ فَإِذا صَار إِلَى أَمْثَال مفاعل ومفاعيل لم ينْصَرف معرفَة وَلَا نكرَة وإنَّما كَانَ كَذَلِك لأنَّ جمعه هَذَا الْجمع قَائِم مقَام جمعين
أَحدهمَا مُطلق الْجمع وَالثَّانِي فِيهِ وَجْهَان
أحدُهما أنَّه لَا يُمكن جمعه مرَّة أُخْرَى فكأنَّه جمع مرَّتين وَصَارَ مُطلق الْجمع بِمَنْزِلَة أسطار جمع سطر وأساطير جمع ثَان لَا يجمع مرّة أُخْرَى فَهُوَ نَظِير مَسَاجِد ودنانير فِي أنَّها لَا تجمع
وَالثَّانِي أنَّه جمع لَا نَظِير لَهُ فِي الْآحَاد وَعدم النظير يؤكّد فِيهِ الْجمع حَتَّى يَجعله بِمَنْزِلَة مَا جمع مرَّتين وَلَيْسَ كَذَلِك رجال وَكتب لأنَّ لَهما نظيراً فِي الْآحَاد وَهُوَ كتاب وطنب وَقد نقض هَذَا ب أكلب وأجمال فإنَّهما لَا نَظِير لَهما فِي الْآحَاد وهما مصروفان

(1/503)


وَقد أجبْت عَنهُ بأنَّ الْفرق بَين أكلب وأجمال وَبَين الْآحَاد حَرَكَة فَقَط وَذَلِكَ أنَّ أكلباً مضموم اللَّام وَفِي الْآحَاد كثير على أَفْعَل نَحْو أَحْمَر وأفكل وَلَيْسَ بَينهمَا إلاَّ اخْتِلَاف حَرَكَة وَكَذَلِكَ أجْمال مثل إِجْمَال إلاَّ فِي الفتحة والكسرة وَذَلِكَ اخْتِلَاف يسير بِخِلَاف هَذَا الْجمع فإنَّه يُخَالف الْوَاحِد فِي الْحُرُوف والحركات
فإنْ قيل فَمَا الحكم فِي سَرَاوِيل وشراحيل وحضاجر قيل أمَّا سَرَاوِيل فَقيل هُوَ أعجميٌّ مُفْرد فَيَنْصَرِف فِي النكرَة وَلَا ينْقض مَا أصَّلنا لأنَّ المُرَاد مَا لَا نَظِير لَهُ فِي الْآحَاد العربيَّة وَقيل هُوَ جمع سروالة فعلى هَذَا لَا ينْصَرف معرفَة وَلَا نكرَة
وأمَّا شرَاحِيل فَجمع يُسمى بِهِ الْوَاحِد
وَأما حضاجر فواحدتها حِضَجْر قَالَ الشَّاعِر
122 - (حضجر كأمّ التوأمينِ توكّأت ... على مرفقيها مستهلَّة عَاشر)
وسُمِّي الْوَاحِد بِالْجمعِ

(1/504)


فصل

وأمَّا العجمة ففرع على الْعَرَبيَّة لأنَّها طارئة عِنْدهم بأوضاعهم
فصل

وأمَّا التَّرْكِيب ففرع على الْإِفْرَاد لأنَّه ضَمٌّ مُفْرد إِلَى مُفْرد على قصد جَعلهمَا اسْما لشَيْء وَاحِد وَإِذا تقررت الفرعيَّة للاسم من هَذِه الْوُجُوه ظَهرت مشابهته للْفِعْل من جِهَة الفرعيَّة
ويترتَّب على هَذِه الْأُصُول مسَائِل

(1/505)


بَاب مسَائِل الْمَنْع من الصّرْف

مَسْأَلَة

وزن الْفِعْل الْمَانِع من الصّرْف هُوَ مَا يختصُّ بِالْفِعْلِ ويغلب عَلَيْهِ نَحْو أَحْمد وأعْصُر لأنَّ أَفْعَل وأَفْعُل فِي الْأَفْعَال أَكثر مِنْهُ فِي الأسٍماء فأمَّا فُعِل فَمن المختصّ بالأفعال والدُّئِل اسْم لدويّبة تشبه الهرَّة وَهُوَ فِي الأَصْل فعل نقل فسُمِّي بِهِ على أنَّ جمَاعَة لَا يثبتونه وَقيل هُوَ مغيّر
وأمَّا مَا يُوجد من الأوزان فِي الِاسْم وَالْفِعْل كثيرا فمصروف لأنَّ الفرعيَّة لم تثبت فِيهِ إِذْ لَيْسَ تَغْلِيب حكم الْأَفْعَال فِيهِ أولى من الْعَكْس بِخِلَاف المختصّ وَالْغَالِب فَإِن كثرته فِي الْأَفْعَال وَعَدَمه وقلَّته فِي الأسٍماء توجب جعله كالمستعار فِي الْأَسْمَاء فَمن ذَلِك فَعَّل لم يأتِ مِنْهُ فِي الْأَسْمَاء إلاَّ خَضَّم وبذَّر وعثر مَوَاضِع

(1/506)


وشلَّم وَهُوَ بَيت الْمُقَدّس وبقّم وَهُوَ صبغ مَعْرُوف وَقيل لَيْسَ بعربيّ فإنْ سمِّيت بِهِ شَيْئا لم تصرفه لما ذكرنَا
مَسْأَلَة

فإنْ سمِّيت بِوَزْن الْفِعْل وَفِي أوَّله همزَة وصل قطعت الْهمزَة وأبقيتها على حركتها لأنَّ الْقطع حكم الْأَسْمَاء وَإِن كَانَت فِيهِ تَاء التَّأْنِيث نَحْو ضَرَبتْ أبدلت مِنْهَا فِي الْوَقْف هَاء لأنَّها تحرَّكت بعد التَّسْمِيَة فَصَارَت كتاء التَّأْنِيث الدَّاخِلَة على الِاسْم
مَسْأَلَة

فإنْ سمِّيت ب قيل وَبيع صرفت لِأَن هَذَا الْوَزْن يكثر فِي الْأَسْمَاء وَلم ينْقل إِلَى أَصله الَّذِي هُوَ فعل لأنَّه رفض وَصَارَ كأنَّه أصْلٌ
مَسْأَلَة

فإنْ سمِّيْت بِالْفِعْلِ وَفِيه ضمير الْفَاعِل حكيته وَلم تعربه لأنَّه جملَة

(1/507)


فَلَا يكون لَهَا حرف إِعْرَاب فَمن ذَلِك تأبَّط شرّاً وذرَّى حبّاً وشاب قرناها وبرق نَحره كلّ هَذِه أَسمَاء رجال
مَسْأَلَة
إِذا كَانَ الِاسْم على ثَلَاثَة أحرف سَاكن الْأَوْسَط معرفَة نَحْو هنْد ودعْد فالأجود ترك صرفه وَقَالَ الْأَخْفَش لَا ينْصَرف
وحجَّة الأوَّلين السماعُ وَالْقِيَاس فالسماع قَول الشَّاعِر من
123 - (لم تتلفَّعْ بفضلٍ مِئْزرها ... دعْدٌ وَلم تُغْذَ دعْدُ فِي العلب) // المنسرح //

(1/508)


فصرف الأوَّل وأمَّا الْقيَاس فَهُوَ أنَّه أخفُّ الْأَسْمَاء إذْ كَانَ أقلّ الْأُصُول عددا وحركةً فعادلت خفَّته أحد السببين
واحتجَّ الْآخرُونَ بِوُجُود السببين وَلَا عِبْرَة بالخفَّة لأنَّ مَوَانِع الصّرْف أشباه معنويَّة فَلَا مُعَارضَة بَينهَا وَبَين اللَّفْظ
مَسْأَلَة

فإنْ سمِّيت مؤنَّثاً بمذكَّر ساكنِ الْأَوْسَط نَحْو عمْرو لم تصرفه لأنَّه نَقْلُ الأَصْل إِلَى الْفَرْع فازداد الثّقل بذلك فعادلت الخفَّة أحد الْفُرُوع فَبَقيَ فرعان
مَسْأَلَة

فإنْ تحرَّك الْأَوْسَط لم تصرفه معرفَة ك سقر لِأَن حَرَكَة الْأَوْسَط كالحرف الرَّابِع لأمرين
أحدُهما أنَّ الْحَرَكَة زَائِدَة على أقلِّ الْأُصُول فَصَارَ الِاسْم بهَا كالرباعيّ
وَالثَّانِي أنَّها فِي النّسَب كالحرف الْخَامِس أَلا ترى أنَّك لَو نسبت إِلَى جَمزَى لَقلت جمزيّ فحذفت الْألف كَمَا تحذفها فِي الخماسيّ نَحْو المرتمي وَلَو كَانَ

(1/509)


الْأَوْسَط سَاكِنا لجَاز إِثْبَات الْألف وحذفها كالنسب إِلَى حُبْلَى يجوز حبليٌّ وحبلويّ
مَسْأَلَة

فإنْ سمِّيت المذكَّر بمؤنَّث ثلاثيّ نَحْو هِنْد وَقدم صرفته معرفَة ونكرة لأنَّك نقلت فرعا إِلَى أصْل أَزَال معنى الْفَرْع وَهُوَ التَّأْنِيث فخفَّ لذَلِك
مَسْأَلَة

فإنْ كَانَ المؤنَّث أَرْبَعَة أحرف فَصَاعِدا وسمِّيت بِهِ مذكَّراً أَو مؤنَّثاً لم تصرفه معرفَة لأنَّ الْحَرْف الرَّابِع كتاء التَّأْنِيث بِدَلِيل أنَّه يمْنَع من زِيَادَة التَّاء فِي التصغير كَقَوْلِك فِي عقرب عقيرب وَفِي زَيْنَب زيينب وَلَو كَانَ ثَلَاثَة أحرف مثل قدر وَأذن لأتيت بِالتَّاءِ فَقلت قديرة وأذينة فدلَّ أنَّ الْمَانِع الْحَرْف الرَّابِع فَأشبه تَاء التَّأْنِيث وإنَّما يعرف تَأْنِيث الْأَسْمَاء بِالسَّمَاعِ فَإِذا كَانَ الِاسْم لم يوضع إلاَّ للمؤنَّث جرى مجْرى عَلامَة التَّأْنِيث فِي لَفظه
مَسْأَلَة

عَلامَة التَّأْنِيث فِي الْأَسْمَاء التَّاء وَالْألف فَإِذا كَانَ أَحدهمَا فِيهِ قلت هُوَ مؤنَّث سَوَاء سُمِّي بِهِ المذكَّر أَو المؤنَّث ف التَّاء أحد وصفي العلّة الْمَانِعَة فَإِذا انضمَّ إِلَيْهَا التَّعْرِيف امْتنع الصّرْف وأمَّا الْألف فَإِذا لم يكن قبلهَا ألف سكنت نَحْو حُبْلَى وإنْ وَقعت بعد ألف المدّ نَحْو حَمْرَاء حرِّكت فَانْقَلَبت همزَة وَإِنَّمَا

(1/510)


511 - حرِّكت لئلاّ يجْتَمع ساكنان وحذفُ إِحْدَاهمَا لَا يجوز لأنَّك إِن حذفت الأولى بَطل المدُّ وَإِن حذفت الثَّانِيَة بطلت عَلامَة التَّأْنِيث وإنْ حرِّكت الأولى بَطل المدّ أَيْضا فتعيَّن تَحْرِيك الثَّانِيَة
مسألأة

ألفُ التَّأْنِيث علَّة مستقلَّة تمنع الصّرْف بِخِلَاف التَّاء وإنَّما كَانَ كَذَلِك لأنَّ مُطلق التَّأْنِيث فرع ولزومهُ كتأنيثٍ آخرَ وَالْألف بِهَذِهِ الْمنزلَة لأنَّها صيغت مَعَ الْكَلِمَة من أوَّل أمرهَا وَتبقى مَعهَا فِي الْجمع نَحْو حُبْلَى وحبالى وَلَيْسَت فارقة بَين مذكَّر ومؤنَّث بِخِلَاف التَّاء فإنَّها تدخل على لفظ المذكَّر فتنقله إِلَى المؤنَّث وَلَا تلْزم
مَسْأَلَة

فأمَّا عُريان فَيَنْصَرِف فِي النكرَة إذْ لَيْسَ فِيهِ سوى الْوَصْف وَالْألف وَالنُّون لَا يشبهان ألفي التَّأْنِيث لأنَّ التَّاء تدخل عَلَيْهِ فَتَقول عُرْيَانَة وأمَّا سرحان فَلَيْسَ بِوَصْف وَتقول فِي جمعه سراحين فتقلب الْألف يَاء بِخِلَاف مَا قبل ألف التَّأْنِيث

(1/511)


512 - مَسْأَلَة

إِذا سمِّيت ب أَحْمَر وبابه زَالَ معنى الصّفة وَلذَلِك يسمَّى من لَيْسَ أَحْمَر أَحْمَر وَقيل التَّسْمِيَة لَا تُوقعه إلاَّ على من لَهُ من الْحمرَة صفة لَهُ وَيمْتَنع صرفه بعد التَّسْمِيَة للتعريف وَوزن الْفِعْل إِجْمَاعًا فإنْ نكَّرته لم تصرفه عِنْد سِيبَوَيْهٍ وتصرفه عِنْد الْأَخْفَش
حجَّة الأوَّلين أنَّه صفة فِي الأَصْل مستعار فِي التَّسْمِيَة فَإِذا نكّر أجري عَلَيْهِ حكم أَصله فِي الْوَصْف والتنكير أَلا ترى أنَّ أَرْبعا منصرف مَعَ اجْتِمَاع الْوَصْف وَالْوَزْن كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمِنْهُم من يمشي على أَربع} مَا كَانَ ذَلِك إلاَّ نظرا إِلَى الصّفة وَهُوَ الْعدَد وأنَّ التَّاء تدخل عَلَيْهِ نَحْو أَرْبَعَة وأنَّ نَقله لم يُخرجهُ عَن حكمه كَذَلِك أَحْمَر
واحتجَّ الْآخرُونَ بأنَّ معنى الْوَصْف غيرُ بَاقٍ بعد التنكير فَلَيْسَ فِيهِ سوى الْوَزْن وَقد ذكرنَا مَا يصلح جَوَابا لَهُ
مَسْأَلَة

فإنْ سمِّيت مؤنَّثاً ب حَائِض وفاضل لم تصرفه للتعريف والتأنيث فإنْ نكَّرته صرفته اتِّفاقاً لأنَّه لم يبْق فِيهِ سوى التَّأْنِيث والوصفُ بفاعل غير مختصّ بالأوصاف فإنَّ فَاعِلا يُوجد فِي الْأَسْمَاء نَحْو كَاهِل

(1/512)


513 - مَسْأَلَة

إِذا كَانَ الْوَصْف تَاء التَّأْنِيث نَحْو ضاربة انْصَرف فِي النكرَة مَعَ اجْتِمَاع الْوَصْف والتأنيث لأنَّ تَاء التَّأْنِيث هُنَا لَا يعتدُّ بهَا لأنَّها دخلت لمجرَّد الْفرق
مَسْأَلَة

المعدول عَن الْمعرفَة نَحْو عمر وَزفر لَا ينْصَرف معرفَة للعدل والتعريف فإنْ قيل مَا فَائِدَة عدله قيل شَيْئَانِ
أحدُهما توكيد الْمَعْنى المشتقّ مِنْهُ فِي المسمَّى كالعمارة والزَّفر
وَالثَّانِي الْإِعْلَام بأنَّ عَامِرًا لَا يُراد بِهِ الْوَصْف بل التَّسْمِيَة
فإنْ قيل على كم وَجها فُعَلُ قيل على أَرْبَعَة أوجه
أحدُهما الْمعرفَة وَهُوَ لَا تدخله الْألف وَاللَّام نَحْو جُشم وَقثم
وَالثَّانِي الْجِنْس نَحْو جُرَذ ونُغَر هَذَا ينْصَرف بكلِّ حَال لأنَّه غير معدول

(1/513)


514 - وَالثَّالِث الْجمع نَحْو غُرَف وَرطب
وَالرَّابِع الْوَصْف نَحْو حطم فأمَّا فسق وخُبَثُ فيستعمل فِي النداء للمذكَّر خاصَّة وَهُوَ مبنيّ فإنْ سمَّيت صرفته لأنَّه لم يعدل إلاَّ فِي النداء
مَسْأَلَة

وأمَّا مَا عُدِلَ من الصِّفَات فَيَجِيء على فعال نَحْو ثُلاث ورُباعَ وعَلى مَفْغَل نَحْو مَثْنى ومَوْحَد وَهُوَ غيرُ مَصْروفٍ على كُلِّ حَال لاجتماعِ الْوَصْف وَالْعدْل
وَقَالَ بعضهُم هُوَ معْدول فِي اللفظِ وَالْمعْنَى فاللفْظُ معدول عَن لفظ اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وأمَّا فِي الْمَعْنى فإنَّ مثنى يعبِّر بِهِ عَن جمَاعَة جاؤوا اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ وثُلاث عَن ثَلَاثَة ثَلَاثَة بِخِلَاف اثْنَيْنِ فإنَّه لَا يدلُّ على أَكثر من أحدين وَثَلَاثَة لَا يدلُّ إلاَّ على ثَلَاثَة آحَاد

(1/514)


مَسْأَلَة

فأمَّا أُخَر جمع آخر وَأُخْرَى فَلَا ينْصَرف للعدل وَالْوَصْف وَفِي معنى عدله أوجه
أحدُها أنَّ أخر هُنَا للمفاضلة فأصلُه أَن يُقَال آخر من كَذَا أَي أشدّ تأخّراً مِنْهُ ثُمَّ عُدِل عَن مِنْ وَاسْتعْمل اسْتِعْمَال الْأَسْمَاء وَالصِّفَات الَّتِي لغير المفاضلة نَحْو أَبيض وأسود
وَالثَّانِي أنَّ الْقيَاس اسْتِعْمَاله بِالْألف وَاللَّام ك الفضلى وَالْوُسْطَى والفُضَل والوُسَط فَعدل عَن الْألف وَاللَّام
مَسْأَلَة

لَا فرق فِي الْجمع الَّذِي لَا نَظِير لَهُ بَين أَن يكون بعد أَلفه حرف مشدَّد أَو حرفان منفصلان لأنَّ المشدَّد حرفان فِي الْحَقِيقَة فأمَّا مَا بعد أَلفه ثَلَاثَة أحرف فشرطه أنْ يكون الْأَوْسَط سَاكِنا نَحْو قناديل فإنْ كَانَ متحرِّكاً ك صياقلة انْصَرف لأنَّ لَهُ نظيراً فِي الْآحَاد نَحْو طواعية ورفاهية ورجلٌ عباقية وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ آخِره يَاء النِّسْبَة نَحْو مدائنيّ لأنَّها تشبه تَاء التَّأْنِيث لما نبيِّنه فِي النّسَب

(1/515)


مَسْأَلَة

فإنْ كَانَ بعد الْألف حرفان الثَّانِي يَاء نَحْو جوَار فَهُوَ منوَّن فِي الرّفْع والجرِّ غير منوَّن فِي النصب وَاخْتلفُوا فِي هَذَا التَّنْوِين فَقَالَ بَعضهم هُوَ تَنْوِين الصّرْف لأنَّ الْيَاء حذفت تَخْفِيفًا فَبَقيت جوَار مثل دَجَاج فَانْصَرف وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ عوض من الْيَاء وَلَيْسَ بمنصرف وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ عوض من حَرَكَة الْيَاء المستحقّة فلَمَّا اجْتمع التَّنْوِين وَالْيَاء حذفت لالتقاء الساكنين فأمَّا فِي النصب فَلَا ينْصَرف لكَمَال الْبناء
مَسْأَلَة

فأمَّا الترامي والتعامي فَيَنْصَرِف بكلِّ حَال لأنَّ وَزنه تفَاعل كتقاتل وتضارب ولكنْ كُسرت عينه لتسلم الْيَاء
مَسْأَلَة

لَا تمنع العجمة من الصّرْف إِلَّا مَعَ التَّعْرِيف وَلَو اجْتمع فِي الِاسْم أَكثر من علَّتين وَذَلِكَ نَحْو أذربيجان فإنَّ فِيهَا خمسّ علل التَّعْرِيف والعجمة والتأنيث والتركيب وَالْألف وَالنُّون الزائدتان فإنْ نكَّرته صرفته وعلَّة ذَلِك أَن التَّعْرِيف

(1/516)


علَّة قويَّة كَثِيرَة الدّور فِي الْكَلَام حَتَّى إنَّها فِي الشّعْر قد أُقِيمَت مقَام علَّتين وَلَيْسَ ذَلِك لغيره
مَسْأَلَة

وَقد يكون اللَّفْظ مُحْتملا للصرف وَتَركه لاخْتِلَاف أَصله وَذَلِكَ ك حسّان إِن أَخَذته من الحسِّ لم تصرفه للتعريف وَالزِّيَادَة وَإِن أَخَذته من الْحسن صرفته لأنَّ النُّون أصل وَكَذَلِكَ يَعْقُوب إِن كَانَ أعجميّاً لم تصرفه وَإِن أردْت اسْم ذكر القَبْجِ صرفته إِذْ لَيْسَ فِيهِ سوى التَّعْرِيف وَهَكَذَا إِسْحَاق إِن جعلته أعجميّاً لم تصرفه وَإِن جعلته مصدرا فِي الأَصْل صرفته فأمَّا إِبْلِيس فَلَا ينْصَرف للعجمة والتعريف وَقَالَ قوم هُوَ من الإبلاس وَلَيْسَ كَذَلِك لأنَّه لَو كَانَ مِنْهُ لانصرف إِذْ لَيْسَ فِيهِ سوى التَّعْرِيف
مَسْأَلَة

فأمَّا يَرْبُوع ونظائره فَيَنْصَرِف إِذْ لَيْسَ فِي الْأَفْعَال يفعول

(1/517)


مَسْأَلَة

فأمَّا مرَّان وَهِي الرماح فَإِذا سُمِّي بِهِ انْصَرف لأنَّه من المرانة للينها بالتدريب وأمَّا رمَّان إِذا سُمِّي بِهِ فَلَا ينْصَرف عِنْد سِيبَوَيْهٍ لأنَّه من الرمِّ وَهُوَ الْجمع والإصلاح وَقَالَ الْأَخْفَش النُّون أصلٌ لأنَّه كثير فِي أسٍماء النَّبَات فُعّال نَحْو قُلاَّم وثفَّاء
فأمَّا أُباتر فَيَنْصَرِف بكلِّ حَال لأنَّه كثير الْأَسْمَاء مِثَاله نَحْو دلامص وعكامس وعلابط
مَسْأَلَة

يجوز فِي حَضرمَوْت ونحوِه ثَلَاثَة أوجه
أحدُها بِنَاء الِاسْم الأوَّل وإعرابُ الثَّانِي إلاَّ أنَّه لَا ينْصَرف فِي الْمعرفَة للتعريف والتركيب وَبني الأوَّل لشبه الثَّانِي بتاء التَّأْنِيث إِذْ كَانَ مزيداً على الِاسْم وَفتح للطول كَمَا فتح مَا قبل تَاء التَّأْنِيث

(1/518)


وَالْوَجْه الثَّانِي أَن تضيف الأوَّل إِلَى الثَّانِي فتعربهما إِلَّا أَن كرب لَا ينْصَرف لأنَّه مؤنَّث معرفَة وَمِنْهُم من يصرفهُ فَيَجْعَلهُ مذكَّراً وأمَّا يَاء معدي فساكنة بكلِّ حَال لأنَّ الْكَلِمَتَيْنِ صارتا كالواحدة فَلَو حرِّكت لتوالت الحركات وثقلت خُصُوصا فِي الْيَاء بعد الكسرة
وَالْوَجْه الثَّالِث أنْ تبنيهما لتضمُّنهما معنى حرْفِ الْعَطف ك خَمْسَة عشر
مَسْأَلَة

فأمَّا سِيبَوَيْهٍ ونفطويه وعمرويه فمبنيَّة وَلَكِن تنوَّن فِي النكرَة كَمَا تنوَّن الْأَصْوَات وَأَسْمَاء الْفِعْل وَيذكر ذَلِك فِي المبنيَّات إِن شَاءَ الله تَعَالَى
مَسْأَلَة

أَسمَاء الْبلدَانِ مِنْهَا مَا ذكَّرته الْعَرَب فَصَرَفته نَحْو وَاسِط ودابق وَمِنْهَا مَا أنَّثته نَحْو مصر ودمشق وَمِنْهَا مَا جوَّزت فِيهِ الْأَمريْنِ

(1/519)


مَسْأَلَة

فأمَّا أَسمَاء الْقَبَائِل فَمَا كَانَ مَوْضُوعا على الْقَبِيلَة كَانَ مؤنَّثاً نَحْو حمير وَمَا كَانَ اسْما للحيّ أَو أبي الْقَبِيلَة كَانَ مذكَّراً نَحْو تَمِيم وَقد جَاءَ الْوَجْهَانِ فِي ثَمُود
مَسْأَلَة

حكم مَا لَا ينْصَرف ألاَّ يجرّ وَلَا ينوَّن لما ذكرنَا فِي صدر الْكتاب من أنَّ الصّرْف هُوَ التَّنْوِين فأمَّا الجرُّ فَلَيْسَ من الصّرْف على الصَّحِيح وإنَّما سقط تبعا لسُقُوط التَّنْوِين إِذْ كَانَا جَمِيعًا لَا يدخلَانِ الْفِعْل فَمَا يُشبههُ كَذَلِك وَلذَلِك إِذا اضْطر الشَّاعِر إِلَى تَنْوِين الْمَجْرُور كَسَرَهُ لأنَّ سُقُوط الْكسر كَانَ تبعا لسُقُوط التَّنْوِين فَإِذا انْتَفَى الأَصْل انْتَفَى التبع

(1/520)


فإنْ قيل للأفعال أحكامٌ وخصائص فلِمَ لَمْ يثبت للاسم الْمُشبه للْفِعْل غير منع الجرِّ والتنوين وهلاَّ امْتنع الْألف وَاللَّام أَو كَونه فَاعِلا أَو نَحْو ذَلِك
قيل هَذِه الخصائص لَهَا معنى فِي الْأَسْمَاء فَلَو مُنِعَها الِاسْم لبطل ذَلِك الْمَعْنى بِخِلَاف الجرِّ والتنوين فإنَّ منع الِاسْم مِنْهُمَا لَا يبطل معنى فِيهِ
مَسْأَلَة

إِذا أضيف مَالا ينْصَرف أَو دَخلته الألفُ وَاللَّام كُسِرَ فِي موضِع الجرِّ وَفِي ذَلِك وَجْهَان
أحدُهما أنَّ كسرة الجرِّ سَقَطت تبعا لسُقُوط التَّنْوِين بِسَبَب المشابهة وسقوطه بِالْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة بِسَبَب آخر فَلَا يسْقط الجرُّ تبعا لَهُ وَلذَلِك قَالَ النحويُّون فأمن فِيهِ التَّنْوِين أَي أنَّ سُقُوط التَّنْوِين بِسَبَب المشابهة كَانَ اسْتِحْسَانًا لَا ضَرُورَة وَلذَلِك يجوز للشاعر اتِّباعهً فأمَّا سُقُوط الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة فكالضرورة وَلذَلِك لَا يسوغ للشاعر الْجمع بَينهمَا
وَالْوَجْه الثَّانِي أنَّه بِالْألف وَاللَّام والإضافةِ يبعد من شبه الْفِعْل الْحَاصِل بالفرعية فَيَعُود إِلَى حقِّه من الجرِّ فإنْ قيل فحرفُ الجرِّ من خَصَائِص الِاسْم وَكَذَلِكَ الفاعليَّة والمفعوليَّة وَلَا تردّه هَذِه الْأَشْيَاء إِلَى الصّرْف قيل أمَّا حرف الجرِّ فَلَا يُحدث فِي الِاسْم معنى يُنَافِيهِ فِيهِ الْفِعْل فإنَّ الِاسْم يبْقى مَعْنَاهُ مَعَ حرف الجرِّ بِحَالهِ بِخِلَاف

(1/521)


الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة فإنَّهما تحدثان فِيهِ التَّخْصِيص الَّذِي ينبو عَنهُ الْفِعْل وأمَّا كَونه فَاعِلا أَو مَفْعُولا فَهُوَ أمرٌ يرجع إِلَى مَا يحدثه الْعَامِل
مَسْأَلَة

الِاسْم بعد دُخُول الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة غير منصرف لما تقدَّم أنَّ مَانع الصّرْف قَائِم وأنَّ الجرَّ سقط لزوَال مَا سقط تبعا لَهُ وَقَالَ قوم هُوَ منصرف وَبَنوهُ على أصلين
أَحدهمَا أنَّ الجرِّ من الصّرْف
وَالثَّانِي أنَّه بِدُخُول الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة ضعف شبه الِاسْم بِالْفِعْلِ على مَا تقدَّم
مسألأة

يجوز للشاعر أَن يصرف مَالا ينْصَرف للضَّرُورَة على الْإِطْلَاق
وَقَالَ الكوفيُّون لَيْسَ لَهُ ذَلِك فِي أفعل مِنْك
وحجَّة الأوَّلين أنَّه اسمٌ معربٌ نكرَة فَجَاز للشاعر صرفه كبقيَّة الْأَسْمَاء الَّتِي لَا تَنْصَرِف
واحتجَّ الْآخرُونَ بأنَّ مِنْك تجْرِي مجْرى الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة وَلذَلِك ينوبان عَن مِنْ فَكَمَا لَا تنوّن مَعَ الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة لَا تنون مَعَ من

(1/522)


والجوابُ أنَّ ذَلِك لَا يصحُّ لأنَّ مِنْ وَإِن خصّصت ولكنْ بَعْضَ التَّخْصِيص وَالِاسْم بعد ذَلِك نكرَة بِخِلَاف الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة
مَسْأَلَة

يجوز للشاعر ترك صرف مَا ينْصَرف للضَّرُورَة وَمنعه المبرِّد
واحتجَّ الأوَّلون بقول العبَّاس بن مِرْداس من
124 - (وَمَا كَانَ حصْنٌ وَلَا حابسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْداسَ فِي مَجْمعِ) // المتقارب // وبأنَّ التَّنْوِين زائدٌ دالٌّ على خفَّة الِاسْم وبالتعريف يحدث لَهُ نوعُ ثِقَل فَلذَلِك جَازَ

(1/523)


لَهُ إِجْرَاء السَّبَب مُجرى السببين ويدلُّ عَلَيْهِ أنَّ الشَّاعِر يُجري الْوَصْل مُجرى الْوَقْف حتَّى إنَّه يصل الِاسْم المؤنَّث بِالْهَاءِ كَمَا يقف عَلَيْهِ فَلأَنْ يجوز لَهُ حذفُ التَّنْوِين وإبقاء الْحَرَكَة أوْلى والمبرِّد يروي الْبَيْت
125 -
( ... يَفُوقَانِ شَيْخيَ فِي مَجْمعِ) وَمَا رَوَاهُ سِيبَوَيْهٍ ثابتٌ فِي الرِّوَايَة فَلَا طَرِيق إِلَى إِنْكَاره

(1/524)