اللمحة في شرح الملحة

الفصل الثاني: اللمحة في شرح الملحة
المبحث الأول: توثيق اسم الكتاب، ونسبته إلى مؤلفه
...
المبحث الأوّل: توثيق اسم الكتاب، ونسبته إلى مؤلّفه
أ- توثيق اسم الكتاب:
في سبيل توثيق اسم الكتاب رجعتُ إلى كتب التّراجم الّتي ترجمت للصّايغ، فوجدتّها تذكُر له شرحًا على (ملحة الإعراب) 1 دون أن تنصّ على اسمٍ له؛ لكنّ كتاب (كشف الظّنون) 2 نصَّ على أنّ من شروح (ملحة الإعراب) شرحًا للصّايغ سمّاه: (اللَّمْحة في شرح الملحة) .
وكذلك نصّ على هذه التّسمية صاحب (إيضاح المكنون) 3، و (هديّة العارفين) 4.
وهذا العنوان هو الموجود على غلاف النّسخة (ب) ولم يكن واضحًا في النّسخة (أ) .
والصّايغ - رحمه الله - لم يصرّح باسم كتابه هذا؛ لأنّه لم يصدّره بمقدّمة يحتمل أن ينصّ فيها على اسمٍ لشرحه هذا، وكذلك لم يصرّح به في خاتمة الكتاب.
____________________
1 يُنظر: تاريخ ابن الورديّ 2/386، والوافي بالوفيات 2/362، وفوات الوفيات 3/326، وطبقات ابن قاضي شهبة 87، والدّرر الكامنة 4/40، وتاج التّراجم 258.
2 يُنظر: 2/1818.
3 يُنظر: 4/552.
4 يُنظر: 2/145.

(1/43)


ب - توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلّفه:
مؤلّف هذا الكتاب هو: محمّد بن الحسن بن سباع الصّايغ، وليس هناك شكٌّ في نسبة هذا الكتاب إليه؛ وذلك للأسباب التّالية:
1- أنّ المؤرّخين الّذين ترجموا للصّايغ ذكروا أنّه شَرَحَ (ملحة الإعراب) 1.
2- أنّ بعض العلماء نقل من هذا الكتاب مع نسبته للصّايغ؛ كـ (ياسين) في حاشيته على (التّصريح) 2.
3- أنّ المؤلّف نفسه صرّح باسمه في افتتاحيّته للكتاب بقوله: "قال العبد الفقير إلى الله تعالى محمّد بن الحسن بن سباع الصّايغ عفا الله عنه".
4- أنّ اسم المؤلِّف ذُكِرَ في خاتمة النّسخة (ب) حيث جاء فيها: "نجز ما ألّفه الشّيخ الإمام شمس الدّين محمّد بن حسن بن سباع الصّايغ رحمه الله تعالى".
5- أنّ اسمه مكتوبٌ على غلاف النّسختين، وإن لم يكن واضحًا في (أ) .
__________
1 يُنظر: تأريخ ابن الورديّ 2/386، والوافي بالوفيات 2/362، وفوات الوفيات 3/326، وطبقات ابن قاضي شُهبة 87، والدّرر الكامنة 4/40، وتاج التّراجم 258.
2 يُنظر: ص 544، 568 من النّصّ المحقّق؛ وحاشية ياسين 1/112، 1/192.

(1/44)


المبحث الثاني: منهج المؤلّف في الكتاب
إنّ أيّ مؤلِّفٍ - في الغالب - لا بدّ أنْ يصدِّر مؤلَّفه بمقدّمة يبيّن فيها سمات منهجه الّذي سار عليه في كتابه.
أمّا الصّايغ - رحمه الله - فلم يفعل شيئًا من ذلك؛ ولذا لا بدّ أن نستقري الكتاب، ومن خلال هذا الاستقراء نستطيع أن نوضّح المنهج العام الّذي اتّبعه في هذا الكتاب.
ويمكننا أن نلخّص منهج الصّايغ في شرحه للملحة في النّقاط التّالية:
1- دأب الشّارح على ذكر اسم الباب، ثمّ يذكر الأبيات المتعلّقة به من (ملحة الإعراب) ، ثمّ يتبعها بالشّرح.
2- اختلفت طريقته في تناوله لأبيات (الملحة) ؛ فيذكُر بيتًا1، أو بيتين2، أو أكثر3، حسب ترابُط تلك الأبيات.
3- يُلحظ عليه عدم العناية بأبيات (ملحة الإعراب) ، ويتجلّى ذلك في إهماله لتفسير معاني الألفاظ الغريبة؛ ومن أمثلة ذلك عدم تفسيره كلمة (راتكه) 4 الواردة في قول الحريريّ في باب الفاعل:
____________________
1 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 99، 199، 415 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 109، 205، 293 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 140، 443، 547 من النّصّ المحقّق.
4 يُنظر: ص 312 من النّصّ المحقّق.

(1/45)


كَقَوْلِهِمْ: جَاءَتْ سُعَادُ ضَاحِكَهْ ... وَانْطَلَقَتْ نَاقَةُ هِنْدٍ رَاتِكَهْ1
وكذلك عدم تفسيره كلمة (الجبابا) 2 الواردة في قول الحريريّ في باب المفعول معه:
تَقُولُ: جَاءَ الْبَرْدُ وَالْجِبَابَا ... وَاسْتَوَتْ الْمِيَاهُ وَالأَخْشَابَا3
وكذلك عدم تعريفه بالمواضع الواردة في قول الحريريّ في باب ما لا ينصرف4:
مِثْلُ: حُنَيْنٍ ومِنًى وَبَدْرِ ... وَوَاسِطٍ وَدَابِقٍ وَحَجْرِ5
4- يُكثر من التّعليلات النّحويّة؛ كقوله: "والحرف سمّي حرفًا لاستغناء الاسم والفعل عنه في انعقاد الجمل؛ فصار بمنزلة الأخير، وآخر كلّ شيءٍ حرفه"6.
وكقوله: "أصل الاسم الإعراب؛ وذلك لدلالته بصيغة واحدة على معانٍ مختلفة، فاحتيج إلى إعرابه؛ لتبيين تلك المعاني، والبناء فيه فرع.
والفعل أصله البناء؛ لدلالته بالصّيغ المختلفة على المعاني المختلفة،
____________________
1 يُنظر: متن ملحة الإعراب 19.
2 يُنظر: ص 367 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: متن ملحة الإعراب 24.
4 يُنظر: ص 773 من النّصّ المحقّق.
5 يُنظر: متن ملحة الإعراب 46.
6 يُنظر: ص 118 من النّصّ المحقّق.

(1/46)


فأغنى اختلاف صيغه عن إعرابه، والإعراب فيه فرع"1.
وكقوله: "وقيل: اختير للفاعل الرّفع، وللمفعول النّصب، لثقل الضّمّة وخفّة الفتحة"2.
5 - يعرض أقوال النّحاة وخلافاتهم كثيرًا3، ويختار أحد الأقوال أحيانًا4، ويدلّل لبعض الآراء الّتي يختارُها5.
6- قد يشرح بعض الكلمات الغريبة في الشّواهد الشّعريّة؛ كقوله بعدذكره لقول الشّاعر:
وَلاَ تَرَى بَعْلاً وَلاَ حَلائِلاَ ... كَهُ وَلاَ كَهُنَّ إِلاّ عَاضِلاَ
(أي: غيورًا) 6.
وكذلك قوله بعد ذكره لقول الشّاعر:
لَوَاحِقُ الأقْرَابِ فِيهَا كَالْمَقَقْ
(أي: فيها مقق، وهو: الطّول) 7.
____________________
1 يُنظر: ص 151 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 311 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 111، 128، 348، 411 من النّصّ المحقّق.
4 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 111، 182، 523 من النّصّ المحقّق.
5 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 182، 348، 507 من النّصّ المحقّق.
6 يُنظر: ص 247 من النّصّ المحقّق.
7 يُنظر: ص 247 من النّصّ المحقّق.

(1/47)


كما يشرح أحيانًا بعض الكلمات الغريبة في الأمثلة الّتي يذكُرها؛ فمن ذلك قولُه: "ولم يصرف أدهم" - للقيد - نظرًا إلى كونه صفةً في الأصل، و (أجدل) للصّقر، و (أخيل) للطّائر ذي خيلان، و (أفعى) لضربٍ من الحيّات) 1.
وكقوله: "والمراد بالوزن الخاصّ بالفعل ما لا يوجد دون ندور في غير فعلٍ، أو علم، أو أعجميّ؛ فالنّادر نحو: (دئل) لدويبة، و (ينجلب) لخرزة، و (تبشّر) لطائر"2.
وكقوله: "يمنع من الصّرف اجتماع التّعريف والعدل، وهذا اسم عدل به عن صيغة (فاعل) إلى (فُعَل) ، نحو: (مضر) المعدول به عن (ماضر) ، وهو مازج اللّبن بالماء، و (جشم) المعدول به عن (جاشم) وهوالّذي يفعل الشّيء علىاستثقال، و (دلف) المعدول به عن (دالف) وهو المتأخّر الخطو، و (زحل) وهو النّجم المعروف بالطّارق، عدل به عن (زاحل) لأنّه أبعد الكواكب السّيّارة"3.
7- يورد الشّاهد الشّعريّ، أو شطره، أو قطعة منه، ويذكر قائله أحيانًا.
8- يعرّف في الغالب بالباب الّذي سيشرحُه تعريفًا لغويًّا
____________________
1 يُنظر: ص 749 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 761 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 764، 765 من النّصّ المحقّق.

(1/48)


واصطلاحيًّا، ومن ذلك تعريفُه كلاًّ من الإعراب1، والتّرخيم2، وعطف النّسق3، والتّوكيد4، وعطف البيان5، وما لاينصرف6.
9- يزيد بعض الأبواب الّتي لم يذكرها الحريريّ أحيانًا، مثل باب أفعل الّذي للتّفضيل7.
10- ينقُل كثيرًا من (شرح الألفيّة) لابن النّاظم8، و (شرح ملحة الإعراب) للحريريّ9، دون إشارة إلى المصدر؛ فينقل نصوصًا كاملة، ونادرًا ما يتصرّف فيها.
__________
1 يُنظر: ص 147، 148 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 631 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 689 من النّصّ المحقّق.
4 يُنظر: ص 705 من النّص المحقّق.
5 يُنظر: ص 737 من النّصّ المحقّق.
6 يُنظر: ص 743، 744 من النّصّ المحقّق.
7 يُنظر: 415 من النّصّ المحقّق.
8 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 357، 382، 568 من النّصّ المحقّق.
9 يُنظر مثالاً على ذلك: 100، 152، 527 من النّصّ المحقّق.

(1/49)


المبحث الثالث: مصادره
لا شكّ أنّ الصّايغ قد رجع كغيره إلى كتب النّحاة السّابقين، وأفاد منها؛ وقد انعكس ذلك على عمله هذا - وإن كان قليل التّنصيص على ذكر تلك المصادر - فقد أورد أقوالاً وآراء معزوّة إلى بعض أئمّة النّحو، كسيبويه، والخليل، ويونس، والمبرّد، والمازنيّ، وابن السّرّاج، وابن جنّي، والفرّاء، والسّيرافيّ، وابن بابشاذ.
وتارة يذكُر هذه الأقوال دون أن يعزوها إلى عالم بعينِه، وإنّما يكتفي بقوله: "قال بعضُ النّحاة" أو: "قال بعضُهم" أو: "قال غيره" أو: "ومنهم من قال"، إلى آخر ما ذكر من الإحالات.
ومِن هُنا يصعُب على الباحث أنْ يحصُر هذه المصادر الّتي اعتمد عليها في هذا الشّرح، ويظهر لي أنّ أهمّ مصدر استقى منه الشّارح هو "شرح الألفيّة" لابن النّاظم، ويتمثّل هذا في نقله عنه دون إشارة في الغالب، فينقل نصًّا كاملاً، ونادرًا ما يتصرّف فيه1.
ومع كثرة نقوله عن ابن النّاظم لم يصرّح بالنّقل عنه إلاّ مرّتين2.
ونقل عنه مرّتين3مصدّرًا نقله بقوله: "قال شيخُنا"، وبالرّجوع إلى "شرح الألفيّة" لابن النّاظم وجدنا النّصّ كاملاً؛ وهذا يدلّ على أنّه
____________________
1 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 357، 381، 387 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 461، 475 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 548، 571 من النّصّ المحقّق.

(1/51)


هو المقصود بقوله: "شيخُنا".
وهناك مصدرٌ آخر استقى منه الشّارح كثيرًا، ألا وهو "شرح ملحة الإعراب"1 للحريريّ، وطريقته في النّقل عنه كطريقته مع شرح ابن النّاظم.
كما اعتمد على كتاب سيبويه؛ فقد أثبت كثيرًا من آرائه، وأقواله، وما حكاه عن العرب، وما أنشده، وما تضمّنه الكتاب من أقوال الخليل ويونس.
من ذلك قوله في باب التّصغير: " ... وفي إبراهيم وإسماعيل: بريه، وسميع، نصَّ على ذلك سيبويه في كتابه"2.
وقوله في باب النّسب: "كقولك في (ثبة) و (مكّة) و (أخت) : ثُبيّ، ومكّيّ، وأخويّ؛ هذا مذهب سيبويه والخليل - أعني: قولك في أخت: أخويّ -، ويونس يقول: أختيٌّ"3.
وقال في باب حروف الجرّ عند حديثه عن (من) : "وتكون زائدة في الموجب، وهو مذهب الأخفش، وسيبويه لا يرى ذلك"4.
وقال - أيضًا - في باب حروف الجرّ عند حديثه عن (مذ) و (منذ) : "فإذا أتى بعدهما
____________________
الفعل حُكم باسميّتهما، وكونهما ظرفين؛
1 يُنظر مثالاً على ذلك: ص 100، 152، 527 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 675 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 678 من النّصّ المحقّق.
4 يُنظر: ص 219 من النّصّ المحقّق.

(1/52)


قال سيبويه: وممّا يُضاف إلى الفعل قولُك: ما رأيتُه مذ كان عندي، ومنذ جاءني"1. إلى غير ذلك ممّا أخذ من كتاب سيبويه2.
كما نصّ على النّقل عن الزّمخشري3؛ وبالرجوع إلى كتب الزّمخشري تبيّن أنّ هذا النّقل من "المفصّل".
كما نصّ على النّقل عن ابن برهان4 وبالرجوع إلى كتب ابن برهان تبيّن أن هذا النّقل من "شرح اللّمع".
كما نصّ على النّقل عن ابن بابشاذ5 وبالرجوع إلى كتب ابن بابشاذ تبيّن أنّ هذا النّقل من "شرح الجمل" وهو مخطوط.
__________
1 يُنظر: ص 236 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر مزيدٌ من ذلك في: ص 387، 433، 604، 640، 821، 869، 870، 872 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 367 من النّصّ المحقّق.
4 يُنظر: ص 565 من النّصّ المحقّق.
5 يُنظر: ص 515، 902 من النّصّ المحقّق.

(1/53)


المبحث الرابع: شواهده
إنّ أهمّ الأدلّة على القواعد النّحويّة هو السّماع؛ ويتمثّل في الآيات القرآنية، والأحاديث النّبويّة، وكلام العرب الفصحاء الّذين يحتجّ بكلامهم شعرًا أو نثرًا؛ وسأفصّل الكلام على كلٍّ فيما يلي:
1- القرآن الكريم:
ليس من شكٍّ أنّ كلامَ الله - تعالى - الّذي أُنزل على نبيّه محمّد - صلّى الله عليه وسلّم - هو في المرتبة الأولى من الفصاحة والبلاغة؛ ولذلك نجد الصّايغ يُكثر من الاستشهاد به؛ فلا تكاد تجد بابًا من الأبواب يخلو من الآيات القرآنيّة؛ فقد بلغ عدد الآيات الّتي استشهد بها في هذا الكتاب اثنتين وثلاثين ومائتي آية تقريبًا، عدا المكرّرة؛ وهذا ممّا يُحمد للصّايغ فقلَّ أن تجد موضوعًا لا يستشهد فيه بآية كريمة أو آيات. وكان منهجه في عرض الشّواهد القرآنيّة: أنّه يذكر الآية كاملة، وأحيانًا يذكر جزءًا من الآية وهو موطن الشّاهد. وقد استدلّ بالقراءات القرآنيّة المتواترة منها، والشّاذة.
وكان في أكثر المواضع لا يعزو القراءة، وإنّما يكتفي بقوله: "وقرأ الباقون"1 أو: "وقراءة الباقين"2 أو: "وفي بعض المصاحف"3
____________________
1 يُنظر: ص 843 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 821، 838 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 826 من النّصّ المحقّق.

(1/55)


أو: "قرئ"1 أو "قراءة بعضهم"2.
2- الحديث الشّريف:
حذا الصّايغ حذو ابن مالك - رحمهما الله تعالى - في الاستدلال بالأحاديث النّبويّة الشّريفة؛ فيستدلّ بها على إثبات قاعدة نحويّة، وينصر بها مذهبًا نحويًّا، أو يحتجّ بها على آخر.
وكان عدد ما أورده اثني عشر حديثًا؛ وكذا الأمر بالنّسبة لما روي عن الصّحابة - رضي الله تعالى عنهم -؛ فقد أورد من ذلك ثلاثة آثار.
3- كلامُ العرب:
1- الشّعر:
احتجّ الصّايغ - رحمه الله تعالى - في كثير من المسائل النّحويّة بالشّعر، وقد بلغ عددُ الأبيات الّتي استشهد بها تسعة وثلاثين وأربعمائة بيت عدا المكرّر؛ وهو عددٌ كبير إذا ما قيس بحجم الكتاب.
وقد اشتملت هذه الشّواهد على أبيات قليلة الذّكر في كتب النّحو المتداولة، وعلى أبيات أخرى لم أقف عليها في مكان آخر.
فمن النّوع الأوّل:
فَإِنْ يَكُ خَيْرٌ أَوْيَكُن ْبَعْضُ رَاحَةٍ ... فَإِنَّكَ لاَقٍ مِنْ هُمُومٍ وَمِنْ كَرْبِ3
____________________
1 يُنظر: ص 612، 613، 617 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 614 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 220 من النّصّ المحقّق.

(1/56)


وقول بشامة بن الغدير:
مِنْ عَهْدِ عَادٍ كَانَ مَعْرُوفًا لَنَا ... أَسْرُ المُلُوكِ وَقَتْلُهَا وَقِتَالُهَا1
وقول الشّاعر:
وَلَقَدْ أَعْطِفُهَا كَارِهَةً ... حَيْث ُلِلنَّفْسِ مِن المَوْت هَرِيْرُ2
ومن النّوع الثّاني:
قول الشّاعر:
فَاقْر ِالهُمُوم َقَلاَئِصًا عَبْدِيّةً ... تَطْوِي الفَيَافِي بِالْوَجِيْفِ الْمُعْنِقِ3
وقول الرّاجز:
وَلاَ تُخَالِفْ ثِقَةً فَتَنْدَمَا4
ومن ملامح منهجه في إيراد الشّواهد الشّعريّة ما يلي:
1- يورد البيت كاملاً، وفي بعض الأحيان يورد شطْرًا منه.
2- لا ينسب البيت إلى صاحبه غالبًا، وإنّما يكتفي بقوله: "كقول الشّاعر"5 أو: "كقول الآخر"6 أو: "ومنه قول الشّاعر"7.
____________________
1 يُنظر: ص 222 من النّصّ المحقّق.
2 يُنظر: ص 737 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 796 من النّصّ المحقّق.
4 يُنظر: ص 831 من النّصّ المحقّق.
5 يُنظر: ص 226، 231، 280 من النّصّ المحقّق.
6 يُنظر: ص 222، 281، 585 من النّصّ المحقّق.
7 يُنظر: ص 229، 364، 589 من النّصّ المحقّق.

(1/57)


أو "ومنه قول الآخر"1.
3- لا يبيّن وجه الاستشهاد من البيت الّذي أورده؛ معتمدًا على فهم القارئ من خلال السّياق.
2- أقوال العرب وأمثالهم:
كان لأقوال العرب وأمثالهم في هذا الكتاب نصيبٌ موفور؛ إذْ بلغت خمسة وأربعين قولاً ومثلاً.
__________
1 ينظر: ص 585 من النّصّ المحقّق.

(1/58)


المبحث الخامس: موازنة بين اللّمحة وشرح الحريريّ على الملحة
في هذا المبحث سأعقد موازنة بين شرحي الصّايغ والحريريّ للملحة، لتبيّن ما امتاز به كلّ منهما عن صاحبه في المنهج، والأسلوب، والاستشهاد، وما إلى ذلك.
وإنّما اخترتُ الحريريّ من بين الشرّاح؛ لأنّه صدر هذا الشأن وصاحبه، فهو ناظم (الملحة) ، وهو أوّل من شرح هذه المنظومة فيما يظهر لي، كما أنّ شرحه أفضل الشّروح الّتي وقفت عليها قبل شرح الصّايغ.
أوّلاً- موازنة عامّة:
بعد القراءة المتأنّية لكلٍّ من (شرح ملحة الإعراب) للحريريّ و (اللّمحة في شرح الملحة) للصّايغ خرجتُ بما يلي:
1- اتّفق الشّرحان في خلوّهما من مقدّمة يُبيّن فيها المنهج الّذي سارا عليه، والمعالم الأساسيّة لذلك.
2- توخّى الحريريّ في شرحه للملحة الاختصار، بينما اتّسم شرح الصّايغ بالتّوسّع؛ ويمكن معرفة هذا من خلال النّقاط التّالية:
أ- استشهد الحريريّ بتسع عشرة ومائتي آية بما في ذلك الآيات المكرّرة، واستشهد الصّايغ بثلاث وأربعين ومائتي آية بما في ذلك الآيات المكرّرة.
ب- استشهد الحريريّ بثلاثة أحاديث، ولم يستشهد بأي أثرٍ

(1/59)


من الآثار المرويّة عن أحد الصّحابة رضي الله عنهم.
واستشهد الصّايغ باثني عشر حديثا، وثلاثة آثار من آثار الصّحابة رضوان الله عليهم.
ج- استشهد الحريريّ بثلاثة وثمانين بيتا من الشّعر، واستشهد الصّايغ بتسعة وخمسين وأربعمائة بيت، بما في ذلك الأبيات المكرّرة.
د- استشهد الحريريّ بخمسة أقوال من الأقوال المرويّة عن العرب، واستشهد الصّايغ بخمسة وأربعين قوْلاً.
هـ- شَرْح الصّايغ تكثُر فيه الخلافات النّحويّة، وأقوال النّحاة؛ أمّا شرح الحريريّ فقد ندر فيه التّعرّض للخلافات النّحويّة.
3- التزم الحريريّ التزاما تاما بترتيب أبواب (الملحة) ، والحديث عن كلّ حكم عند ذكره للبيت الّذي يتناوله.
أمّا الصّايغ فقد التزم بترتيب أبواب (الملحة) ، إلاّ أنّه أضاف بعض الأبواب، كدمجه (باب أفعل التّفضيل) مع (حبّذا) تحت باب واحد هو (باب حبّذا وأفعل الّذي للتّفضيل) ، وقسّم ما سمّاه الحريريّ (باب حروف الجرّ) إلى ثلاثة أبواب؛ وهي: (باب حروف الجرّ) ، وبعده (باب رُبَّ) ، وبعده (باب القسَم) . وكذلك لم يلتزم دائما بشرح الأحكام في كلِّ بيتٍ من أبيات (الملحة) .
4- اقتصر الحريريّ على ما ورد في (الملحة) ، وتعرّض لإعراب بعض الكلمات الواردة فيها، وفسّر بعض الكلمات الغريبة.

(1/60)


أمّا الصّايغ فقد توسّع توسعا كبيرًا في الشّرح، إلى درجة أنّ القارئ لهذا الكتاب لا يتصوّر أنّه شرحٌ لـ (ملحة الإعراب) بل هو شرحٌ لـ (ألفيّة ابن مالك) ؛ إذْ إنّه نقل من ابن النّاظم في شرحه على (الألفيّة) نقولاً كثيرة دون التّصريح بذلك.
وكذلك لم يذكر الصّايغ إعراب أيّ كلمة من كلمات (الملحة) ، لكنّه فسّر بعض الكلمات، وترك كثيرًا ممّا يحتاج إلى ذلك.
5- لم يهتمّ الحريريّ اهتماما واضحا بالتّعليلات النّحويّة، بخلاف الصّايغ الّذي اهتمّ بها.
6- يتّضح في شرح الحريريّ متانة الأسلوب، وجمال العبارة، ونصاعتها؛ لتوخِّيه الإيجاز من ناحية، ولأنّه من فرسان البيان العربيّ. أمّا الصّايغ فقد تفاوت أسلوبه من حين لآخر؛ فبينما تراه قويا سلسا في موضع، تجده واهنا ركيكا في موضع آخر.
ثانيا- موازنة خاصّة في بعض الأبواب:
لزيادة البيان والإيضاح رأيتُ أن أقدِّم بين يدي القارئ الكريم موازنة في بعض الأبواب بين هذين الشّرحين؛ بغية التّوصّل من خلالها إلى إبراز قيمة هذا الشّرح؛ وقد اخترت لذلك الأبواب التّالية:
1- باب حروف1الجرّ:
قسّم الصّايغ هذا الباب إلى ثلاثة أبواب؛ فجعل ما يتعلّق بـ (رُبَّ)
____________________
1 يُنظر: شرح الصّايغ 217- 253، وشرح الحريريّ 122 - 134.

(1/61)


في باب سمّاه (باب رُبَّ) ، وجعل ما يتعلّق بالقسَم في باب آخر سمّاه (باب القسَم) ، ومرادُه به حروف القسَم.
أمّا الحريريّ فجعل هذه الأبواب تحت بابٍ واحدٍ هو باب حروف الجرّ.
وقد خرجت من هذه الموازنة بما يلي:
1- بلغت الآيات القرآنيّة الّتي استشهد بها الصّايغ أربعا وثلاثين آية، على حين بلغت عند الحريريّ اثنتي عشرة آية.
2- استشهد الصّايغ في هذا الباب بخمسة أقوال من أقوال العرب، على حين لم يستشهد الحريريّ بشيء من ذلك.
3- بلغت الشّواهد الشّعريّة الّتي استشهد بها الصّايغ في هذا الباب تسعة وخمسين بيتا، على حين بلغت عند الحريريّ سبعة أبيات.
4- بلغ عدد أسماء النّحاة والشّعراء الّذين ذكرهم الصّايغ في هذا الباب خمسة وعشرين علَما، على حين ذكر الحريريّ ثلاثة شعراء فقط.
5- توسّع الصّايغ في تناوُله لمعاني حروف الجرّ توسّعا كبيرًا، فأورد لكلّ حرف ما يتعلّق به من معان، مستشهدًا لمعظم تلك المعاني، أمّا الحريريّ فقد اقتصر على المعاني المشهورة لكلّ حرف فقط.
6- ذكر الصّايغ بعض المسائل الخلافيّة المتعلّقة بحروف الجرّ، بخلاف الحريريّ.
7- يحسُن بنا أن نورِد نصا من كلام الصّايغ في هذا الباب، وما يقابله عند الحريريّ؛ لتبيين معالم المنهج الّذي سلكاه في معالجة مسائل هذا الباب.

(1/62)


قال الصّايغ1 في معاني (من) : "وابتدأ بذكر (من) لأنّها أمّ الباب، وهو حرف جرّ يدخُل على الظّاهر وعلى المضمَر، تقول: أخذت من زيدٍ، وسمعتُ منه؛ وله معانٍ:
أحدها: ابتداء الغاية في المكان، كقوله: قمت من الدّار، وللتّبعيض، كقولك: أنفقت من المال، ولتمييز الشّيء من غيره، كقولك: أحبّ الحمام من الطّير؛ وتكون سببيّة، كقولك: من أجل السّلامة أطلتُ الصّمت، ومنه قولُ الفرزدق:
يُغْضِي حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِه ... فَلاَ يُكَلَّمُ إِلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ
وتقع مكان باء القسَم، كقولهم: من ربّي ما فعلتُ ذلك، أي: بربّي أقسمتُ.
وتكون زائدة، ويُشترط لذلك أن تكون بعد حرف نفي، كقوله- تعالى-: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} ، أو بعد استفهام كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ} ؛ وتكون زائدة في الموجب، وهو مذهب الأخفش، وسيبويه لا يرى ذلك، ومنه قول إياس بن الأرتّ:
فَإِنْ يَكُ خَيْرٌ أَوْ يَكُنْ بَعْضُ رَاحَةٍ ... فَإِنَّكَ لاَقٍ مِنْ هُمُومٍ وَمِنْ كَرْبِ
وتقع مكان (على) كقوله - تعالى -: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} أي: على القوم.
وتكون مكان (الباء) كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}
____________________
1 يُنظر: ص 217 من النّصّ المحقّق.

(1/63)


أي: بأمر الله.
وقد تكون دالاًّ على ضرْبٍ من النّعت، كقوله - تعالى -: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أي: الرّجس الوثنيّ.
وتكون بمعنى (في) كقوله - تعالى -: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} .
وتقع لابتداء الغاية في الزّمان، كقول امرئ القيس:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الْحِجْرِ؟ ... أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ دَهْرِ
وكقول الآخر:
مِنْ عَهْدِ عَادٍ كَانَ مَعْرُوفا لَنَا ... أَسْرُ المُلُوكِ وَقَتْلُهَا وَقِتَالُهَا".
وقال الحريريّ1: "و (من) تأتي في الكلام على أربعة معانٍ:
أحدها: أن تقع بمعنى الابتداء المختصّ بالمكان الّتي تقابلها (إلى) الّتي يختصّ بها انتهاء الغاية، كقولك: سرتُ من البصرة إلى مكّة.
والثّاني: أن تكون للتّبعيض، كقولك: شربت من النّهر.
والثّالث: أن تأتي لتبيين الجنس، كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} .
الرّابع: أن تأتي زائدة، كقولك: ما جاءني من أحد؛ فإنْ قلتَ: "ما جاءني من رجل" فليست زائدة في هذا الموضع، بل هي جاعلة اسم الشّخص للنّوع، وتنزل منزلة قولك: "ما جاءني أحد" الّذي معناه نفي النّوع.
____________________
1 شرح ملحة الإعراب 124.

(1/64)


والفائدة في دخولها في هذا الكلام: استغراقُ النّفي؛ لأنّ الكلام كان يحتمل قبل دخولها أن يكون: ما جاءك رجل بل جاءك اثنان أو جماعة".
فقد تبيّن من خلال هذين النّصّين أنّ الصّايغ قد أورد أحد عشر معنا ل (من) ، بينما اقتصر الحريريّ على أربعة معان.
كما أنّ الصّايغ قد أولى الشّواهد عناية واضحة، خلافا للحريريّ الّذي لم يعن عناية كبيرة بالاستشهاد لما ذكره من معان.
كما تعرّض الصّايغ لشيء من الخلاف بين النّحاة في بعض تلك المعاني، أمّا الحريريّ فلم يتعرّض لشيء من ذلك.
2- باب الاستثناء1:
1- بلغت الآيات القرآنيّة الّتي استشهد بها الصّايغ في هذا الباب ثلاث آيات، بينما بلغت عند الحريريّ أربع آيات.
2- استشهد الصّايغ في هذا الباب بثلاثة أحاديث، بينما لم يستشهد الحريريّ بأيّ حديث في هذا الباب.
3- استشهد الصّايغ في هذا الباب بقولٍ واحدٍ من أقوال العرب، بينما لم يستشهد الحريريّ بأيّ قولٍ من أقوال العرب.
4- بلغت الشّواهد الشّعريّة الّتي استشهد بها الصّايغ في هذا الباب اثني عشر بيتا، بينما بلغت عند الحريريّ بيتين.
____________________
1 يُنظر: شرح الصّايغ 457-479، وشرح الحريريّ 209 ـ 217.

(1/65)


5- بلغ عدد أسماء النّحاة والشّعراء الّذين ذكرهم الصّايغ تسعة أعلام، بينما ذكر الحريريّ شاعرين فقط.
6 للوقوف على طرفٍ من منهج الرّجلين في معالجة هذا الباب نورِد بعضا ممّا ذكراه في شرح هذين البيتين:
وَكُلُّ مَا اسْتَثْنَيْتَهُ مِنْ مُوْجَبِ ... تَمَّ الكَلاَمُ عِنْدَهُ فَلْيُنْصَبِ
تَقُولُ: جَاءَ القَوْمُ إِلاَّ سَعْدَا ... وَقَامَتِ النِّسْوَةُ إِلاَّ هِنْدَا1
إذْ قال الصّايغ2: "الاستثناء هو: إخراج شيءٍ ممّا دخل فيه غيرُه، أو إدخال شيء فيما خرج منه غيرُه، والاسم المستثنى ضدّ المستثنى منه. والاستثناء نوعان: متّصل، ومنقطع.
فالمتّصل: إخراج مذكور بـ (إلاّ) أو ما في معناها من حكم شامل، أو ملفوظٍ به، أو مقدّر.
فـ (الإخراج) جنس يشمل نوعي الاستثناء، ويخرج الوصف بـ (إلاّ) ، كقوله - تعالى -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ؛ فقوله: "إخراج مذكور" ولم يقل: إخراج اسم: ليعمّ استثناء المفرد، نحو: (قام القوم إلاَّ زيدًا) ، واستثناء الجملة لتأوّلها بالمشتقّ، نحو: (ما مررت بأحدٍ إلاّ زيدٌ خيرٌ منه) ".
وقوله: "? (إلاّ) أو ما في معناها) ليخرج التّخصيص ونحوه، ويدخل
____________________
1 يُنظر: متن الملحة 28.
2 يُنظر: ص 457 من النّصّ المحقّق.

(1/66)


الاستثناء بـ (غير) و (سوى) و (حاشا) و (خلا) و (عدا) و (ليس) و (لا يكون) .
وقوله: "من حكم شامل له" ليخرج الاستثناء المنقطع.
وقوله: "ملفوظ به أو مقدّر" ليتناول الحدّ الاستثناء التّامّ والمفرّغ.
والاستثناء التّامّ هو: أن يكون المخرج منه مذكورًا، نحو: (قام القوم إلاّ زيدًا) .
والمفرّغ هو: أن يكون المخرج منه مقدّرًا في قوّة المنطوق به، نحو: (ما قام إلاّ زيد) ، التّقدير: ما قام أحدٌ إلاَّ زيدٌ.
والمنقطع هو: الإخراج ب (إلاّ) أو (غير) أو (بيد) لما دخل في حكم دلالة المفهوم....
والنّاصب هو: (إلاّ) لا ما قبلها بتقويتها، ولا به مستقلاًّ، ولا باستثني مضمَرًا، خلافا لزاعمي ذلك. والسّيرافيّ يذهب إلى أنّ النّاصب هو ما قبل (إلاّ) من فعل أو غيره بتعدية (إلاّ) .
وذهب ابن خروف إلى أنّ النّاصب هو ما قبل (إلاّ) على سبيل الاستقلال.
وذهب الزّجّاج إلى أنّ النّاصب (استثني) مضمرًا".
وقال الحريريّ1: "معنى الاستثناء: إخراج الشّيء ممّا دخل فيه
____________________
1 شرح ملحة الإعراب 209.

(1/67)


غيرُه، أو إدخاله فيما خرج منه غيره؛ فالاسم المستثنى أبدًا ضدّ المستثنى منه. وللاستثناء عدّة أدوات، إلاّ أنّ حرفه المستولي عليه: (إلاّ) ، ولا يخلو حال الكلام قبل أن ينطق المتكلِّم ب (إلاّ) من قسمين:
أحدهما: أن يكون منقطعا.
الثاني: أن يكون تاما.
فإن كان منقطعا مرتبطا بما بعد (إلاّ) لم تعمل (إلاّ) شيئا من الإعراب، بل يكون إعراب ما بعدها كإعرابه لو لم تذكر، وذلك كقولك: (ما قام إلاّ زيد) و (ما ضربت إلاّ زيدًا) و (ما مررت إلاّ بزيد) ؛ ف (إلاّ) هاهنا أفادت إثبات القيام لزيد، وإيقاع الضّرب به، وحصول المرور به، من غير أن تحدث إعرابا.... وأمّا إذا كان ما قبل (إلاّ) كلاما تاما فلا يخلو من قسمين:
أحدهما: أن يكون موجبا.
والثّاني: أن يكون غير موجب.
فإنْ كان موجبا كقولك: (جاء القوم إلاّ سعدًا) نصبت ما بعد (إلاّ) ، وكان النّاصب له الفعل الّذي هو: (جاء) ، لكن نصبه بواسطة (إلاّ) كما ينصب الفعل المفعول معه بواسطة الواو.
وعند بعضهم: أنّ (إلاّ) هي النّاصبة، وأنّ تقدير الكلام: جاء القوم أستثني زيدًا، أو: لا أعني زيدًا".
فواضح من خلال هذين النّصّين أنّ الصّايغ عني بتعريف المصطلحات، وإخراج محترزات كلّ تعريف، بخلاف الحريريّ الّذي اقتصر على تعريف الاستثناء.

(1/68)


واتّفقا في ذكر أقسام الاستثناء، وذكر الخلاف في ناصب المستثنى، لكنّ الصّايغ توسّع في بيان الخلاف ناسبا كلّ قول إلى صاحبه.
3- باب نواصب الفعل1:
1- بلغت الآيات القرآنيّة الّتي استشهد بها الصّايغ إحدى وعشرين آية، بينما بلغت عند الحريريّ سبع آيات.
2- أورد الصّايغ ثلاث قراءات، ناسبا كلّ قراءة إلى مَن قرأ بها؛ أمّا الحريريّ فقد ذكر قراءة واحدة، دون ذكر مَنْ قرأ بها، وإنّما اكتفى بقوله: (وقرىء) .
3- استشهد الصّايغ في هذا الباب بقولين من أقوال العرب؛ بينما لم يستشهد الحريريّ بأيّ قولٍ من أقوال العرب.
4-بلغت الشّواهد الشّعريّة الّتي استشهد بها الصّايغ في هذا الباب ستّة عشر بيتا، بينما بلغت عند الحريريّ ثلاثة أبيات.
5- بلغ عدد أسماء النّحاة والشّعراء والقرّاء الّذين ذكرهم الصّايغ في هذا الباب عشرة أعلام، بينما ذكر الحريريّ شاعرين فقط.
6- أورد الصّايغ بعض المسائل الخلافيّة في هذا الباب، بينما لم يورد الحريريّ أيّ مسألة.
7- ينبغي أن نورد نصا من كلام الصّايغ في هذا الباب، وما يقابله عند الحريريّ؛ للوُقوف على طريقة تناولهما لمسائل هذا الباب.
____________________
1 يُنظر: شرح الصّايغ 815- 845، وشرح الحريريّ 336 - 347.

(1/69)


فقد قال الصّايغ1 في الحرف النّاصب (لن) : "وأمّا (لن) فهي عند سيبويه مفردة، وعند الخليل مركّبة، وأصلُها عنده: (لا أن) ، فحذفت الهمزة تخفيفا والتقى ساكنان؛ وهما: الألف والنّون؛ فحذفت الألف لذلك، وبقي (لن) ؛ والصّحيح ما ذهب إليه سيبويه.
وهي لفظة نفي وضعت لجواب الفعل المقترن بأحد حرفي التنفيس؛ وهما: السّين وسوف، ف (لن يخرج زيد) جواب من قال: سوف يخرج، أو سيخرج.
وتختصّ (لن) دون أخواتها بأن يتقدّم عليها مفعول الفعل الّذي نصبته، كقولك: (زيدًا لن أضرب) ، وأجمعوا على ذلك، وعلى أنّ معناها نفي الفعل المستقبل".
وقال الحريريّ2: "وأمّا (لن) فهي لفظة نفي وُضعت لجواب حرفي التّنفيس اللّذين هما: السّين، وسوف؛ فكأنّ قولك: (لن يخرج زيد) هو جواب مَن قال: سوف يخرج، أو سيخرُج.
وتختصّ (لن) دون أخواتها بجواز أن يتقدّم عليها مفعول الفعل الّذي نصبته، كقولك: (زيدًا لن أضرب) ".
فالنّاظر لهذين النّصّين يرى أنّ الصّايغ والحريريّ قد اتّفقا في ذكر وظيفة هذه الأداة، وخصوصيّتها على بقيّة أخواتها، وزاد الصّايغ عليه
____________________
1 يُنظر: ص 821 من النّصّ المحقّق.
2 شرح ملحة الإعراب 341.

(1/70)


بذكر أصل بنيتها: أهي مركّبة أم بسيطة؟ مع التّرجيح.
وبعد؛ فمن خلال هذه الموازنات يتبيّن تفوّق الصّايغ في شرحه ل (ملحة الإعراب) على الحريريّ؛ ليس في جانب واحد فحسْب، بل في سائر مقوّمات الشّرح الوافي. والحمد لله أوّلاً وآخرًا.

(1/71)


المبحث السادس: تقويم الكتاب
الكلام في هذا المبحث يتناول شيئين؛ وهما: مميّزات الكتاب، والمآخذ عليه.
فأقول - بعد الاستعانة بالله-:
أوّلاً- مميّزات الكتاب:
تميّز هذا الشّرح عن بقيّة شروح (ملحة الإعراب) الّتي وقفتُ عليه بأكثر من ميزة؛ وأهمّ هذه المميّزات ما يلي:
1- التّوسّع في الشّرح قياسا على نظائره من شروح (ملحة الإعراب) ؛ فبالرّغم من أنّ (ملحة الإعراب) منظومة مختصرة ألّفها الحريريّ للمبتدئين، إلاّ أن شرح الصّايغ لها جعل منها عملاً علمياً حافلاً؛ وخيرُ دليلٍ على هذا: كثرة شواهده، فلقد استشهد بقدر كبير من جميع الشّواهد - كما تقدّم -
وممّا يدلّ على توسّع الصّايغ أيضا: كثرة إيراده المسائل الخلافيّة، ومناقشته لكثيرٍ من القضايا النّحويّة؛ فلقد تردّد في هذا الكتاب أسماء أشهر النّحاة منذ بدء النّحو إلى عصر المؤلِّف.
ويُضاف إلى ذلك أيضا: إيرادُه بعض لغات القبائل العربيّة.
2- الدّقّة في نسبته الأقوال إلى أصحابها غالبا.
3- تفرد الكتاب ببعض الشّواهد الشّعريّة الّتي لم أجدها في غيره،

(1/73)


وببعض الشّواهد قليلة الذّكر في كتب النّحو المتداولة1.
ثانيا- المآخذ عليه:
لا يسلَم أيّ عملٍ بشري في الغالب من الخطأ والنّقص والخلَل، ولا غرابة في هذا؛ لأنّ الإنسان يتعرّض للسّهو والنّسيان والخطأ.
والصّايغ في أثناء تأليفه لهذا الكتاب وقع في بعض هذه الأشياء؛ وها أنذا أعرضها فيما يلي، رجاءَ أن ينفع الله بها، وأن يغفر لنا الزّلل، وأن يصلح لنا الخلَل.
1- اعتمد في شرحه على (شرح ملحة الإعراب) للحريريّ، و (شرح الألفيّة) لابن النّاظم اعتمادًا كبيرًا، وكان الأولى أن يصرّح بما نقله منهما، وبخاصّة أنّه ينقُل أحيانا نصوصا كاملة دون تصرّف فيها، ومع ذلك لا يُشير إلى المنقول منه.
2- أخطأ في نسبة بيت إلى امرئ القيْس؛ وهو قولُه:
لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الْحِجْرِ؟ ... أَقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ دَهْرِ2
والصّحيح: أنّه لزُهير بن أبي سُلمى.
وكذلك أخطأ في نسبة بيتٍ إلى الطّرمّاح؛ وهو قولُه:
لاَ يَرْكَنَنْ أَحَدٌ إِلَى الإِحْجَامِ ... يَوْمَ الْوَغْى مُتَخَوِّفا لِحِمَامِ3
____________________
1 يُنظر: مبحث شواهده ص56، 57.
2 يُنظر: ص 221 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 390 من النّصّ المحقّق.

(1/74)


والصّحيح: أنّه لقطريّ بن الفجاءة؛ وهو تابعٌ في هذا الخطأ لابن النّاظم1 رحمه الله تعالى.
3- منهجه لم يكن على وتيرة واحدة؛ فتارةً يكون قويا في منهجه، ويستقصي كلّ الشّواهد في المسألة، وتارة أُخرى نراه يقتضب الحديث ويختصر فيه.
4- يُلحظ في منهج الصّايغ أنّه عندما يقوم بتقسيم المسائل فإنّه يذكُر أحد الأقسام، ثمّ يُغفِل باقي الأقسام؛ وهذا ظاهرٌ كثير الانتشار في الكتاب.
5- عدم الاهتمام بأبيات (ملحة الإعراب) ؛ فلا يفسّر الكلمات الغامضة، ولا يعرب الكلمات المشكلة.
6- عدم الدقة في شرح كلام الحريريّ؛ فأحيانا يذكُر أبياتا من (الملحة) ، ويتكلّم عن موضوعها بشكل عامّ، ولا يتطرّق إلى المسائل الّتي ذكرها الحريريّ؛ ومن الأمثلة على ذلك: طريقة تناوله لمباحث باب الحال2، وكذلك باب الاستثناء3.
__________
1 يُنظر: شرح الألفيّة لابن النّاظم 320.
2 يُنظر: ص 375 من النّصّ المحقّق.
3 يُنظر: ص 457 من النّصّ المحقّق.

(1/75)