المنصف لابن جني ج / 1 ص -1-
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم1:
الحمد2 لله رب العالمين، وصلواته على نبيه محمد وآله
أجمعين، الطيبين الطاهرين2.
قال أبو الفتح عثمان بن جني رحمه الله3:
هذا كتاب أشرح فيه كتاب أبي عثمان بكر بن محمد بن بقية
المازني -رحمه الله- في التصريف، بتمكين أصوله، وتهذيب
فصوله، ولا أدع فيه4 بحول الله وقوته غامضًا إلا شرحته،
ولا مشكلًا إلا أوضحته, ولا5 كثيرًا من الأشباه والنظائر5
إلا أوردته؛ ليكون هذا الكتاب قائمًا بنفسه، ومتقدمًا في
جنسه، فإذا أتيت على آخره، أفردت فيه بابًا لتفسير ما فيه
من اللغة الغريبة, فإذا فرغت من ذلك الباب أوردت فصلًا من
المسائل المشكلة العويصة التي تشحذ الأفكار، وتروض
الخواطر، وليس ينبغي أن يتخطى إلى النظر في هذه المسائل من
لم يُحكِم الأصول قبلها، فإنه إن هجم عليها غير ناظر فيما
قبلها من أصول التصريف الموطئة للفروع، لم يحظ منها بكبير
طائل، وصعبت عليه أيما صعوبة، وكان حكمه في ذلك حكم من
أراد الصعود إلى قُلة جبل سامق في غير ما سبيل, أو كجازع
مفازة لا يهتدي لها بلا دليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعد البسملة في ظ "عونك يا لطيف", وبعدها في ش "وصلى
الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما".
2، 2 ما بينهما زيادة من ظ، ش.
3 رحمه الله: ساقط من ظ، ش.
4 ظ، ش: منه.
5، 5 ما بينهما غير واضح في ظ، وهو في ش "كثير الأشباه
والنظائر".
ج / 1 ص -2-
علم التصريف والحاجة إليه:
وهذا القبيل من العلم -أعني التصريف- يحتاج إليه
جميع أهل العربية1 أتم حاجة، وبهم إليه أشد فاقة؛ لأنه
ميزان العربية، وبه تعرف أصول كلام العرب من الزوائد
الداخلة عليها، ولا يوصل إلى معرفة الاشتقاق إلا به, وقد
يؤخذ جزء من اللغة كبير بالقياس، ولا يوصل إلى ذلك إلا من
طريق التصريف؛ وذلك نحو قولهم: إن المضارع من فَعُل لا
يجيء إلا على يَفْعُل بضم العين، ألا ترى أنك لو سمعت
إنسانا يقول: كرُم يكرَم بفتح الراء من المضارع، لقضيت
بأنه تارك لكلام العرب, سمعتهم يقولون: يكرم أو لم تسمعهم؛
لأنك إذا صح عندك أن العين مضمومة من الماضي قضيت بأنها
مضمومة في المضارع أيضا قياسا على ما جاء. ولم تحتج إلى
السماع في هذا ونحوه2, وإن كان السماع أيضا مما يشهد بصحة3
قياسك. ومن ذلك أيضا قولهم: إن المصدر من الماضي إذا كان
على مثال أَفْعَلَ يكون مفعلا -بضم الميم وفتح العين- نحو:
أدخلته مُدْخَلا، وأخرجته مُخْرَجا، ألا ترى أنك لو أردت
المصدر من أكرمته على هذا الحد لقلت: مُكْرَما قياسا، ولم
تحتج فيه إلى السماع، وكذلك قولهم: كل اسم كانت في أوله
ميم زائدة مما يُنقَل ويُعمَل به فهو مكسور الأول، نحو
مِطْرَقة ومِرْوَحة، إلا ما استُثني4 من ذلك. فهذا لا
يعرفه إلا من يعلم أن الميم زائدة، ولا يعلم ذلك إلا من
طريق التصريف، فهذا ونحوه مما يستدرك من اللغة بالقياس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظ، ش: اللغة، وهامشهما: الأدب.
2 ظ: أو نحوه.
3 ص: لصحة.
4 ص: أستثني له, وظ: أستثني به وفوق به: نسخة، وما أثبتناه
عن ش.
ج / 1 ص -3-
ما لا يُؤخذ من اللغة إلا بالسماع:
ومنها ما لا يُؤخذ إلا بالسماع، ولا يُلتفت فيه إلى
القياس، وهو الباب الأكثر نحو قولهم: رجل وحجر، فهذا مما
لا يقدم عليه بقياس، بل يرجع فيه إلى السماع. فلهذه
المعاني ونحوها ما كانت الحاجة بأهل علم العربية إلى
التصريف ماسّة، وقليلا ما يعرفه أكثر1 أهل اللغة؛
لاشتغالهم بالسماع عن القياس.
تخليط أهل اللغة
فيما سبيله القياس:
ولهذا ما لا2 تكاد تجد لكثير من مصنفي اللغة كتابا إلا
وفيه سهو وخلل في التصريف، وترى كتابه أسد شيء فيما يحكيه،
فإذا رجع إلى القياس وأخذ يصرف ويشتق اضطرب كلامه وخلّط.
وإذا تأملت ذلك في كتبهم لم يكد يخلو منه كتاب إلى الفرد،
ويتكرر هذا التخليط على حسب طول الكتاب وقصره، وليس هذا
غضا من أسلافنا، ولا توهينا لعلمائنا، كيف وبعلومهم نقتدي،
وعلى أمثلتهم نحتذي، وإنما أردت بذلك التنبيه على فضل هذا
القبيل من علم العربية، وأنه من أشرفه وأنفسه، حتى إن أهله
المُشْبِلين عليه والمنصرفين إليه، كثيرا ما يخطئون فيه
ويخلطون، فكيف بمن هو عنه بمعزل، وبعلم سواه متشاغل.
ما بين التصريف
والاشتقاق والنحو واللغة:
وينبغي أن يعلم أن بين التصريف والاشتقاق نسبا3 قريبا،
واتصالا شديدا؛ لأن التصريف إنما هو أن تجيء إلى الكلمة
الواحدة فتصرفها على وجوه شتى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أكثر: زيادة من ظ، ش.
2 لا: ساقط من ص.
3 ش، ظ: سببا.
ج / 1 ص -4-
مثال ذلك أن تأتي إلى "ضَرَبَ" فتبني منه مثل
"جَعْفَر" فتقول: "ضَرْبَب", ومثل "قِمَطْر": "ضِرَبّ",
ومثل "دِرْهَم": "ضِرْبَب"، ومثل "عَلِم": "ضَرِب"، ومثل
"ظَرُف": "ضرُب"، أفلا ترى إلى تصريفك الكلمة على وجوه
كثيرة. وكذلك الاشتقاق أيضا، ألا ترى أنك تجيء إلى الضرب
الذي هو المصدر فتشتق منه الماضي فتقول: "ضَرَبَ"، ثم تشتق
منه المضارع فتقول: "يضرب"، ثم تقول في اسم الفاعل:
"ضارب"، وعلى هذا ما أشبه هذه الكلمة. أولا ترى إلى قول
رؤبة في وصفه1 امرأة بكثرة الصخب والخصومة:
تشتق في الباطل منها المُمْتَذَق
وهذا2 كقولك: تتصرف في الباطل، أي: تأخذ في ضروبه وأفانينه.
فمن ها3 هنا تقاربا واشتبكا, إلا أن التصريف وسيطة بين
النحو واللغة يتجاذبانه، والاشتقاق أقعد في اللغة من
التصريف. كما أن التصريف أقرب إلى النحو من الاشتقاق، يدلك
على ذلك أنك لا تكاد تجد كتابا في النحو إلا والتصريف في
آخره, والاشتقاق إنما يمر بك4 في كتب النحو, منه ألفاظ
مشردة لا يكاد يعقد لها باب. فالتصريف إنما هو لمعرفة أنفس
الكلم الثابتة، والنحو إنما هو لمعرفة أحواله المتنقلة،
ألا ترى أنك إذا قلت: "قام بكر، ورأيت بكرا، ومررت ببكر"
فإنك إنما خالفت بين حركات حروف5 الإعراب لاختلاف العامل،
ولم تعرض لباقي الكلمة, وإذا كان ذلك كذلك فقد كان من
الواجب على من أراد معرفة النحو أن يبدأ بمعرفة التصريف؛
لأن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي أن يكون أصلا لمعرفة
حاله المتنقلة، إلا أن هذا الضرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظ، ش: صفة.
2 وهذا: عن ظ, ش، وهو غير واضح في ص.
3 ها: ساقط من ظ، ش.
4 بك: ساقط من ظ، ش.
5 ظ، ش: حرف.
ج / 1 ص -5-
من العلم لما كان عويصا صعبا بُدِئ قبله بمعرفة
النحو، ثم جيء به بعد؛ ليكون الارتياض في النحو موطئا
للدخول فيه، ومعينا على معرفة أغراضه ومعانيه, وعلى تصرف
الحال. فمن أمدّه الله بصفاء القريحة، وأيده بمضاء الخاطر
والروية1، وواصل الدرس، وأجشم النفس، وهجر في العلم
لَذَّاته، ووهب له أيام حياته؛ امتاز من الجمهور الأعظم،
ولحق بالصدر المقدم، ولحظته العيون بالنفاسة، وأشارت إليه
الأصابع بالرياسة، وكان موفقا لما يرفعه ويُعْليه، مسددا
فيما يقصد له وينتحيه.
قيمة كتاب
التصريف للمازني:
ولما كان هذا الكتاب الذي قد شرعت في تفسيره وبسطه من
أنفَس كتب التصريف وأسدها وأرصنها، عريقا في الإيجاز
والاختصار، عاريا من الحشو والإكثار، متخلصا من كَزَازة
ألفاظ المتقدمين, مرتفعا عن تخليط كثير من المتأخرين، قليل
الألفاظ، كثير المعاني، عُنيت بتفسير مشكله، وكشف غامضه،
والزيادة في شرحه، محتسبا ذلك في جنب ثواب الله، ومزكيا به
ما وهبه لي من العلم.
ما يجب على من
يطلع على كتاب ذي قيمة:
وحقيق على من2 نظر في كتاب قد عُني به واضعه3, وانصرف
إلى الاهتمام به مصنفه3، فحظي منه بأقصى ما طلب، ووصل إلى
غايته من كَثَب، أن يحمد الله على ما وهبه له من فهمه، وأن
يسلم لصاحبه ما وفره الله عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الروية: زيادة من ظ وش.
2 ظ، ش: من قد نظر.
3، 3 ما بينهما في ظ، وش: وانصرف بالاهتمام به إليه مصنفه.
ج / 1 ص -6-
من حفظه1، وأن يعتزي فيما يحكيه عنه إليه، فإن
فعل ذلك فعلى محجّة أهل العلم والأدب وقف، وإن أبى إلا
كفران النعمة فعن المروءة والإنسانية صَدَف.
وأنا أسوق هذا الكتاب شيئا فشيئا، وأتبع كل فصل مما رويته
ورأيته ما يكون مقنعا في معناه، ومغنيا عما سواه، فما كان
فيما أُورده من سداد وصواب فبتوفيق الله وإرشاده، وإن وقع
سهو أو تقصير2 فما لا يعرى منه الحذاق المتقدمون, ولا
يستنكفه العلماء المبرّزون.
والله أستهدي، وإياه أسترشد, وعليه أتوكل، وهو حسبي وكفى.
بسم الله الرحمن
الرحيم
رواة كتاب
المازني:
3قال أبو الفتح عثمان بن جني3: أخبرني الشيخ4 أبو علي
الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي5 قراءة مني
عليه بحلب, عن أبي بكر محمد بن السري السراج، عن أبي
العباس محمد بن يزيد المبرد، عن أبي عثمان بكر بن محمد بن
بقية المازني، رحمهم الله أجمعين6.
قال أبو عثمان7:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من حفظه: زيادة من ظ وش.
2 ظ وش: وتقصير.
3, 3 ما بينهما زيادة من ظ وش.
4 الشيخ: ساقط من ظ وش.
5 النحوي زيادة من ظ وش.
6 أجمعين: ساقط من ظ، وش, وبعدها في الصلب فيهما ما يأتي:
قال أبو الفتح: هو مازن بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان،
وورد كلام ابن جني هذا في صلب ص كذلك مسبوقا بما يأتي: في
الحاشية بخط أبي الفتح بدل قال أبو الفتح، ولما كانت هذه
العبارة في الحاشية وضعناها هنا وأسقطناها من الصلب.
7 ص: قال: قال أبو عثمان المازني. |