شرح أبيات سيبويه

نصب الاسم مفعولا معه بعد الواو - بتقدير فعل
قال سيبويه في باب معنى الواو فيه كمعناها في الباب الأول: وأما الاستفهام فإنما
أجازوا فيه النصب لأنهم قد يستعملون الفعل في ذلك الموضع كثيرا، فيقولون: ما كنت؟ وكيف تكون؟ إذا أرادوا معنى (مع). ومن ثم قالوا:
أَومانَ قومي والجماعةَ
لأنه موضع يدخل الفعل فيه كثيرا، وهذا شبيه بقول صرمة الأنصاري:
بدا ليَ أَني لستُ مدركَ ما مضى ... ولا سابقٍ شيئا إذا كان جائيا

(1/53)


فحملوا الكلام على شيء يقع هاهنا كثيرا.
يريد حملوا الكلام على توهم أن الباء في (مدرك) لأن الباء تدخل في خبر ليس كثيرا.
ذكر سيبويه أول هذا الباب ما يكون مرفوعا وفيه معنى (مع) ولا يجوز فيه النصب، وذلك قولك: أنت وشأنك. (أنت) مبتدأ و (شأنك) معطوف عليه. وهذا لا ينصب لأن ليس في الكلام فعل ظاهر، ولا يتقدر فيه فعل محذوف.
فإذا دخل الكلام الاستفهام فقالوا: كيف أنت وزيد جاز أن تنصب، لأن الاستفهام يستعمل فيه الفعل كثيرا، فإذا كان الاستفهام من مواضع الفعل استحازوا حذفه وتقديره، ونصبوا بالفعل المحذوف كما ينصبون به لو ظهر فقالوا: كيف أنت وزيدا. وجعل سيبويه تقدير الفعل في هذا الكلام من أجل إنه يحسن استعماله فيه بمنزلة تقدير الباء في خبر ليس، لأن استعمال الباء يحسن فيه، وعطف المتكلم على خبر ليس وجر المعطوف كأنه قدر في الأول الباء.
فهو بمنزلة من قال: بدالي أني لست بمدرك ولا سابق.
والبيت في الكتاب منسوب إلى صرمة الانصاري، وهو ينسب إلى زهير بن أبي سلمى. ومعنى بدالي: ظهر لي أني لست مدرك ما فاتني. و (أني) وما أتصل به في موضع رفع، لأنه فاعل (بدا) يعني إنه ظهر له العلم بأنه لا يدرك ما فاته من الأشياء الماضية، ولا يفوته ما قدر عليه من الأشياء الجائية.
ويروى. ولا سابقي شيء. لا حجة في هذه الرواية على الوجه الذي أراده سيبويه.
وقال الأخوص اليربوعي:
سيأتي الذي أحدثتم في أخيكُمُ ... رِفاقا من الآفاق شتى مآبها

(1/54)


(مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا بشؤم غرابها)
الشاهد فيه إنه جر (ولا ناعب) على تقدير أن الباء في (مصلحين) كأنه قال: ليسوا بمصلحين ولا ناعب. والمآب: المرجع، والنعب: صوت الغراب، والناعب: هو الغراب. يقول: سيأتي حديثكم الموسم، وفيه يجتمع الرفاق من كل ناحية، فإذا رجعوا تفرقوا. وهو معنى قوله: شتى مآبها، أي إذا رجعت تفرقت في كل وجه، وانتشر فيهم قبيح صنيعكم، ونقله من يسمعه إلى من لم يسمعه. قوله:
ولا ناعب إلا بشوم غرابها
هو على طريق المثل، كما تقول: فلان مشؤوم الطائر. يريد إنه مشؤوم في نفسه.

في باب الصفة المشبهة
قال سيبويه في باب الحسن الوجه: ومن ذلك قولهم: هذا أحمر بين العينين، وجيد وجه الدار، ومما جاء منونا قول زهير:
أهوى لها أسفع الخدين مطرِقٌ ... ريشَ القوادمِ لِم تُنْصَبْ له الشَّبَكْ

(1/55)


الشاهد فيه إنه نون (مطرق) ونصب (ريش القوادم).
وأراد بالأسفع صقرا، وأهوى لها: انقض عليها ليأخذها، ويقال أهوى وهوى في معنى واحد. ورواه الأصمعي:
هوى لها أسفع الخدين
والسفعة: شبيه بالسواد يكون في وجهه. ويقال هوى: انقض: وأهوى: أوما. والقوادم: الريشات العشر اللاتي في مقدم الجناح. والمطرق: الذي بعضه على بعض، يقال منه: طارق بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر. وقوله لم تنصب
له الشبك: أي لم يصد ولم يذلل، وهو وحشي. يريد إنه ليس بصقر متربب في أيدي الناس قد أرسله صاحبه.
وقال العجاج:
كمْ قد حَسَرْنا مِن علاةٍ عَنْسَ
كَبْداءَ كالقوسِ وأُخرى جَلْسِ
دِرفْسَةٍ أَو بازلٍ دِرفْسِ
(مُحْتَنكٍ ضَخْمٍ شُؤونَ الرأسِ)
حسرنا: أتعبنا وأنصبنا وأسقطنا، والعنس: الناقة الصلبة الشديدة، والعلاة: سندان الحداد، شبه الناقة في صلابتها بسندان الحداد، والكبداء: الضخمة الوسط خلقة، وجعلها كالقوس لأنها قد ضمرت واعوجت، والجلس: الشديدة، ويقال الجسيمة، والدرفسة الغليظة، والبازل: الذي له تسع

(1/56)


سنين وقد دخل في العاشرة، والمحتنك: الذي قد بلغ في السن، والشؤون: جمع شأن وهي قبائل الرأس، عظام الرأس التي يتصل بعضها ببعض.
والشاهد: في تنوين (ضخم) ونصب (شؤون) الرأس.
قال سيبويه: وكان الألف واللام أولى لأن معناه: حسن وجهه، فكما لا يكون هذا - أعني (وجهه) - إلا معرفة؛ اختاروا في ذلك المعرفة، والأخرى عربية، كما أن التنوين عربي مطرد. فمن ذلك: حديث عهد بالوجع.
قال عمرو بن شأس:
أَلِكني إلى قومي السلامَ رسالةً ... بآيةِ ما كانوا ضِعافا ولا عُزْلا
(ولا سيَّئي زِيٍ إذا ما تَلَبَّسوا ... إلى حاجة يوما مخيسةً بزْلا)
الشاهد: في تنكير (زي) وترك إدخال الألف واللام عليه. ألكني: بلغ رسالتي، والالوك: الرسالة. وأراد ألكني فخفف الهمزة، وليس قولهم ألكني من لفظ الالوك،
وفيه قلب وليس هذا موضع ذكره. و (رسالة) بدل من (السلام) كأنه قال: الكني إلى قومي رسالة.
والآية: العلامة و (ما) جحد، والعزل: جمع أعزل وهو الذي لا سلاح معه، و (سيئي) منصوب معطوف على ما تقدم، وقوله تلبسوا. يريد لبسوا ثيابهم، و (إلى حاجة) في

(1/57)


صلة (تلبسوا). ومخيسة: هي المذللة من الإبل والمحبوسة. ونصب (مخيسة) بإضمار فعل كأنه قال: إذا ما تلبسوا وركبوا مخيسة بزلا: ويجوز عندي أن ينصب بـ (تلبسوا) ويكون تقديره: إذا لبسوا يوما مخيسة. يريد أنهم شدوا عليها الرحال وزموها.
والذي وقع في شعره:
أَلِكْني إلى قومي السلامَ ورحمة ال ... إله، فما كانوا ضعافا ولا عزلا
ولا سيئي زِيّ إذا ما تحملوا ... لبعض الهوى يوما مخيَّسة بُزْلا

النصب بفعل محذوف يفسره المذكور
قال سيبويه في: باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام، وهي حروف النفي شبهوها بألف الاستفهام. . . وكذلك إذا قلت: ما زيدا أنا ضاربه، إذا لم تجعله اسما معروفا.
يريد بقوله: (إذا لم تجعله اسما معروفا) أن (ضاربه) في معنى الانفصال يراد به الفعل، كأنه قال: ضارب إياه.
قال هدبة بن الخشرم:
أَلا يا لَقَومٍ لِلنوائب والدَّهرِ ... ولِلْمَرءِ يُردي نفسه وهو لا يدري
وللأرض كمْ من صالح قد تَوَدَّأَتْ ... عليه، فوارَتْهُ بِلَمّاعَةٍ قَفْرِ

(1/58)


فلا ذا جلالٍ هِبْنَهُ لجِلالِهِ ... ولاذا ضَياعٍ هُنَّ يَتْرُكْنَ للفَقرِ
الشاهد في نصب (ذا جلال) بإضمار فعل يفسره (هبنه) كأنه قال: فلا هبن ذا
جلال هبنه) و (ذا ضياع) ينتصب بـ (يتركن) لأن (يتركن) لم يشتغل بضمير الاسم المتقدم، والضمير المؤنث في (هبنه) وفي (يتركن) يعود إلى (النوائب) المذكورة في البيت الأول. والضياع: هو أن يترك الإنسان لا يلتفت إليه لفقره ومسكنته.
ومعنى يردي: يهلك. يقول: الإنسان يسعى في هلاك نفسه من حيث لا يشعر، و (النوائب) في صلة فعل محذوف، كأنه قال: اعجبوا للنوائب وللأرض كم من صالح قد تودأت عليه: أي استوت عليه. ويروى: تهكمت عليه، أي وقعت عليه. واللماعة: الأرض المنبسطة التي يلمع فيها السراب.
يقول: المنايا لا تغفل عن أحد، غنيا كان أو فقيرا.
وقال زهير:
(لا الدارَ غَيَّرها بُعْدُ الأنيسِ ولا ... بالدارِ لو كَلمتْ ذا حاجةٍ صَمَمُ)

(1/59)


الشاهد في إنه نصب (الدار) بفعل يفسره (غيرها) كأنه قال: لا غير الدار غيرها. يقول لم يغير الدار عما اعرفها به بعد الأنيس عنها، غيرتها الأمطار والأرواح مع بعد الأنيس عنها.
ويروى:
لا الدارَ غَيَّرها بَعدي الأنيسُ
يريد: لم يغير الدار قوم نزلوا فيها بعدي فتتغير عما اعرفه منها، ولا بها صمم لو كلمت. يريد إنه وقف في الموضع الذي لو كانت الدار تسمع لسمعت منه كلامه، فلم تجب ولم تتكلم.
وقال جرير:
(فلا حسباً فَخَرْتَ بهِ لِتَيْمٍ ... ولا جَدَّا إذا ازدحم الجُدودُ)
يهجو جرير بهذا عمر بن لجأ التيمي. والشاهد على أن حسبا) منصوب بإضمار
فعل يفسره (فخرت به) كأنه قال: فلا ذكرت حسبا فخرت به. (ولا جدا) معطوف على (حسبا) وهو بمنزلة قولك: أزيدا مررت به؟ تضمر لزيد فعلا يتعدى بغير حرف جر، كأنه قال: أجرت زيدا مررت به؟
والجد: الحظ، والحسب: الكرم وشرف الإنسان في نفسه وأخلاقه. يقول: ما ذكرت لتيم شيئا تفجر به؛ لأنك لم تجد لها شيئا تذكره، ولا كان لها حظ في علو المرتبة والذكر الجميل.

(1/60)


توجيه الإعراب تبعا للمعنى
قال سيبويه في: باب من اسم الفاعل جرى مجرى الفعل المضارع. ولو قلت: هذا ضارب عبد الله وعمرا جاز على إضمار فعل، أي وضرب، وإنما جاز هذا الإضمار لأن معنى الحديث في قولك: هذا ضارب زيد: هذا يضرب زيدا، وأن كان لا يعمل. فحمل على المعنى. كما قال جل وعز: (ولحم طير مما يشتهون وحور عين) لما كان المعنى في الحديث: لهم فيها؛ حمل على شيء لا ينقض الأول في المعنى. وقد قراءة الحسن
وقال كعب بن زهير:
فلم يجدا إلا مناخ مطية ... تجافي بها زور نبيل وكلكل
ومفحصها عنها الحصى بجرانها ... ومثنى نواج لم يخنهن مفصل
(وسُمْرٌ ظِماءٌ واترَتْهُنَّ بدما ... مَضتْ جعة من آخر الليل ذُبَّلُ)

(1/61)


وصف كعب قبل هذه الأبيات ذئبا وغرابا كانا يتبعانه في مسيره، ليصيبا مما معه شيئا، أو يرقبا موت راحلته ليأكلا منها شيئا. فذكر أنهما لم ينالا منه شيئا، وأنهما لم يجدا في المناخ الذي أناخ فيه شيئا، وإنما وجدا المناخ نفسه، وهو موضع الاناخة، وفيه أثر بروكها، وأثر الموضع الذي فحصت حصاه، أي نحت حصاه بعنقها حين مدتها فيه.
والنواحي: قوائمها، ومثناها: ما ثنته من قوائمها عند بروكها، لم يخنهن مفصل: أي مفاصلها صحاح لم يصبها ظلع. والجران: باطن العنق فإذا بركت نحت الحصى بعنقها حتى تمد عنقها على الأرض. فلا يكون في الموضع الذي تمد عنقها فيه ما يؤذيها. والكلكل: الصدر، والزور أعلاه، وتجافى بها: رفعها من الأرض، والسمر: بعرات القتها في الموضع الذي بركت فيه، وجعلها ظماء لأنها قد عطشت وجاعت فيبس ما تلقيه من بعرها، واترتهن: القتهن شيئا بعد شيء. والهجعة: النومة، والذبل: جمع ذابل وذابلة، و (ذبل) وصف لـ (سمر).
والشاهد فيه إنه لم يعطف (وسمر) على (مناخ مطية) ورفع بالابتداء، وأضمر الخبر، ولو نصب لكان جيدا.

أفعال الظن بين الإعمال والإلغاء
قال سيبويه في باب الأفعال التي تستعمل وتغلى: ومما جاء في الشعر معملا قول أبي ذؤيب:

(1/62)


فإن تزعمني كنت أجهل فيكم ... فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
الشاهد في أعمال (تزعمني) كما أعمل (حسبت وظننت) والضمير المنصوب هو المفعول الأول، والجملة في موضع المفعول الثاني، وهي قوله (كنت أجهل فيكم) وقول سيبويه: ومما جاء في الشعر معملا ليس يريد به أن هذا الإعمال إنما يكون في ضرورة الشعر؛ بل يريد: ومما جاء في الشعر شاهدا على إعمال الفعل الأول قول أبي ذويب.
يقول لهذه المرأة: أن زعمت أني كنت أجهل في اتباعي الهوى والغزل؛ فإني شريت أي اشتريت - بعد الحال التي كنت عرفتها منى - الحلم بالجهل. يريد استبدلت بجهلي حلما.
وقال النابغة الجعدي:
(عددتَ قُشَيرا إذ عددْتَ فلم أسَأْ ... بذاك ولم ازعمك عن ذاك معزلا)
ويروى: عددت قشيرا إذ فخرت.
يخاطب النابغة بذاك سوارا القشيري وكان يهاجيه، يقول: عددت فضائل قشير وأيامها ومكارمها فلم يسؤني

(1/63)


ذاك، لأن قشيرا بنو عمي، ولم أدع أنك لست منهم. أراد إنه يهجوه في نفسه وأنه لا يهجو قومه.
والشاهد على أعمال (أزمعك) والكاف المفعول الأول، و (معزلا) المفعول الثاني.

النصب في الدعاء - بإضمار فعل يفسره
المذكور
قال سيبويه في باب الأمر والنهي: وتقول: زيدا قطع الله يده ورجله، وزيدا لعنه الله، وزيدا ليقطع الله يده. وقال:
ذكرت ابنَ عباس ببابِ ابن عامر ... وما مر من عيشي ذكرت وما فَضَلْ
(أميران كانا اخياني كلاهما ... فكلاَّ جزاه اللهُ عني بما فَعَلْ)
كان ابن عباس رضي الله عنه أميرا على البصرة من قبل علي كرم الله وجهه، فكان يكرم أبا الأسود فمدحه.
يريد: ذكرت ابن عباس وأنا باب ابن عامر. يريد إنه ذكر إحسانه وما عامله به من الجميل. ويحتمل أن يريد بقوله: (أميران) ابن عباس وابن عامر.
والشاهد إنه نصب (كلا) بإضمار فعل يفسره (جزاه الله عني) كأنه قال: فجزى الله عني كلا، جزاه عني.

(1/64)


في البدل
قال سيبويه في: باب من الفعل يبدل فيه الآخر من الأول. وقال النابغة الجعدي:
ماذا رأيتِ السَّيْلَحِينَ وبارقا ... أغنيْنَ عن حُجرِ بنِ أم قتالِ
ويروى: عن حجر وأم قتال:
(مَلَكَ الخَوَرْنَقَ والسديرَ ودانَهُ ... ما بيْنَ حِمْيَرَ أهلِها وأولِ)
يخاطب عاذلته على إنفاق ماله والجود به والايساع على سائليه. والسيلحون وبارق والخورنق والسدير: هذه كلها مواضع تقرب من الحيرة، ودانه: إطاعة الناس الذين بلادهم من هذه المواضع.
والمعنى إنه ما أغنى عن حجر هذا الملك. ولا دفع عنه الموت ما ملك وجمع فإذا كان الغنى لا يدفع الموت فما وجه إمساكه والضن ببذله.
والشاهد فيه إنه أبدل (أهلها) من (حمير).

في أعمال اسم الفاعل
قال سيبويه في: باب من اسم الفاعل جرى مجرى الفعل المضارع وزعم عيسى أن بعض العرب ينشد هذا البيت لأبي الأسود:
فذكرْتُهُ ثمَّ عاتَبْتُهُ ... عِتابا رفيقا وقولاً جميلا

(1/65)


(فأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُستَعبٍ ... ولا ذاكر الله إلا قَليلا)
يبب هذا الشعر أن رجلا من بني سليم يقال له نسيب بن حميد، كان يغشى أبا الأسود ويتحدث اليه، ويظهر له محبة شديدة. ثم أن نسيبا قال لأبي الأسود: قد أصبت مستقة اصبهانية: وهي جبة فراء طويلة الكمين، فقال له أبو الأسود: أرسل بها إلي حتى أنظر إليها. فأرسل بها، فأعجبت أبا الأسود، فقال لنسيب بعنيها بفيمتها، فقال: لا بل أكسوكها. فأبى أبو الأسود أن يقبلها إلا شراء. فقال له: أرها لمن يبصرها ثم هات قيمتها. فأراها أبو الأسود فقيل له: هي ثمن مائتي درهم، فذكر ذلك لنسيب، فأبى أن يبيعه، فزاده أبو الأسود حتى بلغ الثمن مائتي درهم وخمسين درهما فأبى نسيب بيعها وقال: خذها إذاً هبة.
فيقول: ذكرته ما بيننا من المودة فألفيته، أي وجدته غير مستعتب أي غير راجع بالعتاب عن قبيح ما يفعل.
والشاهد إنه حذف التنوين من (ذاكر) لالتقاء الساكنين، لا للإضافة.

في: الفصل بين المتضايفين
قال سيبويه في: باب جرى مجرى الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين في اللفظ لا في المعنى قال ذو الرمة:
(كأن أصوات - من إيغالهن بنا - ... أواخرِ المَيْس أصواتُ الفَراريجِ)

(1/66)


الشاهد فيه إنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بـ (من وما اتصل بها)
أراد: كأن أصوات أواخر الميس.
والميس: خشب تعمل منه الرحال، والإيغال: الإبعاد في السير. يقال منه: أوغل يوغل إيغالا. يريد أن رحالهم جدد، وقد طال سيرهم، فبعض الرحال يحك بعضا فيصوت مثل أصوات الفراريج، الضمير المضاف إليه (الإيغال) ضمير رواحلهم. ويروى (أنقاض الفراريج) والأنقاض: التصويت، يقال منه: انقض ينقض أنقاضا.

وقوع الجهات ظروفا
وقال في وقوع الأسماء ظروفا: ومثل ذا اليمين وذات الشمال: شرقي الدار وغربي الدار. تجعله ظرفا وغير ظرف.
وقال جرير:
وحبذا نَفَحاتٌ من يَمانية ... تأتيكَ من قَبلِ الرَّيَّانِ أحيانا
(هَبَّتْ جَنوبا فَذِكرى ما ذَكرتم ... عِنْدَ الصَّفاةِ التي شَرقَّي حَوْرانا)
الشاهد فيه إنه جعل (شرقي حورانا) ظرفا، ولو لم يكن ظرفا لم يكتف بها صلة لـ (التي). والصفاة: الصخرة، وحوران: بلد معروف بالشام. وأراد: ذكرى
ذكرتكم، و (ذكرى) مصدر منصوب بـ (ذكرتكم) و (ما) زائدة.
أراد

(1/67)


هبت الريح جنوبا. و (جنوبا) منصوب على الحال. ويجوز أن يكون الضمير في (هبت) يعود إلى اليمانية. كأنه: هبت اليمانية جنوبا. والنفحات: جمع نفحة وهي الدفعة التي تندفع من الريح.
المعنى إنه لما هبت الريح من ناحية من يحبه تذكره وحن إليه.

الحذف للإيجاز
قال سيبويه في: باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى لاتساعهم في الكلام: ومنه قولهم: هذه صلاة الظهر أو العصر أو المغرب إنما يريدون صلاة هذا الوقت، واجتمع القيظ، يريد اجتمع الناس في القيظ.
قال الجعدي:
(وكيفَ تُواصِلُ مَنْ أصبحَتْ ... حلالتُه كاَبي مَرْحَبِ)
الخلالة والمخالة والخلال واحد، أراد أصبحت خلالته كخلالة أبي مرحب، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وفيه الشاهد.
وأبو مرحب من بني عمه، وأظنه من بني قشير. يريد أن أبا مرحب قطعه وجفاه في سبب كان احتاج إليه فيه.

(1/68)


النصب على المصدر بإضمار الفعل
قال سيبويه في باب له صوت صوت حمار:
دَفَعتُ ظِلالَ الموتِ عنهمْ بطعنة ... من المزيداتِ الوئساتِ الأواسيا
لها بعدَ استنادِ الكَليم وهَدْئِهِ ... ورنِةِ مَنْ يَبكي إذا كانَ باكِيا
(هَديرٌ هديرَ الثّوْرِ يَنْفُضُ رأسَه ... يَذُبُّ بقَرْنَيْهِ الكِلابَ الضواريا)
يرثي النابغة في هذه القصيدة وحوحا أخاه لأبيه ويقول: دفعت الموت عن قوم
ذكرهم، وقد أظلهم وكاد الموت ينالهم، يقول: طعنت رجلا من أعدائهم الذين يطلبونهم طعننة، كانت سبب انكشافهم وتفرقهم لهولها وعظمها، لها: لهذه الطعنة بعد أن يسند الكليم وهو الجريح، ويهدأ شيئا من الهدوء. والرنة: صوت البكاء يريد أن الطعنة تخرج الدم، لها صوت كصوت هدير الثور من الوحش؛ إذا قاتل كلاب الصيد، والروقان: القرنان، ينفض رأسه، يحركه من جوانبه ليذب الكلاب بقرنيه، ويذب: يدفع بقرنيه عن نفسه الكلاب، والضواري: التي قد ضريت باللحم.
والشاهد إنه نصب (هدير الثور) بإضمار فعل، مثلما فعل في قولهم: صوت صوت حمار.

(1/69)


مجيء المصدر على وزن اسم المفعول
وقال سيبويه في باب ما يكون من المصادر مفعولا: ومثل ذلك: سرح به مسرحا أي تسريحا، فالمسرح والتسريح بمنزلة الضرب والمضرب. قال جرير:
(أَلم تَعْلَمْ مُسَرَّحَي القوافي ... فلا عِياً بِهنَّ ولا اجْتِلابا)
ويروى: ألم تخبر بمسرحي القوافي.
والمسرح بالتشديد من سرح، والمسرح بالتخفيف من سرح و (القوافي) منصوبة بالمصدر الذي هو (المسرح) وأسكن الياء من (القوافي) لأجل الشعر. وقوله: فلا عيا: مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره: فلا أعيى بهن عيا، ولا اجتلبهن اجتلابا.
يقول: القوافي متيسرة لي، لا يلحقني في قولها عي، ولا أحتاج أن آخذها واجتلبها من غيري.

نصب الاسم على المصدر بفعل مضمر
قال سيبويه قال جرير:
سَتَطْلُعَ من ذُرَا شُعَبَى قَوافٍ ... على الكِنْدِي تلتهبُ الْتِهابا
(أَعَبْدا حَلَّ في شُعَبَي غريباً ... أَلُوما لا أَبا لَكَ واغتِرابا)

(1/70)


يهجو جرير بهذا العباس بن يزيد الكندي. وشعبى: واد أو موضع والذرا: الأعالي. يقول: سيأتي شعري وهجري الكندي، ويعلوه سبي له، ويكون ما أهجوه به كالنار.
وقوله: (اعبدا) منصوب بإضمار (أتقيم) عبدا أو (أتلبث) وما أشبه ذلك. و (الؤما) منصوب بإضمار (أتلؤم) لؤما و (تغرب) اغترابا. يريد أتجمع لؤما وغربة!

باب: متصرف رويد
قال سيبويه: هذا باب متصرف رويد، تقول: رويد زيدا، تريد ارود زيدا. قال مالك بن خالد الهذلي:
(رويدَ علياً جُدَّ ما ثَديُ أمهمْ ... إلينا ولكنْ بُغضُهُمْ متَمائِنُ)
كان علي بن مسعود الازدي أخا عبد مناة بن كنانة من امه، فلما مات عبد مناة وضم علي إلى نفسه ولد أخيه مناة وقام بأمرهم؛ نسبوا إليه. وقوله: جد ما ثدي أمهم: (ما) زائدة، وجد: قطع، ولم يرد:

(1/71)


قطع وعندي إنه يريد أن هذيلا: هو هذيل بن مدركة، وكنانة: هو كنانة بن خزيمة بن مدركة. فهذيل عم كنانة.
يريد أن كنانة قطعوا ما بينهم وبين هذيل من الرحم، وأظهروا عداوتهم. وجد إلينا: أي جد ثدي أمهم عندنا. ومعنى متمائن: متقادم، يقال: قد تماءن بغضهم لنا: أي تقادم، وهو مهموز. يقول: بغضهم لنا قديم.
وقد روي: ولكن ودهم متماين: أي ود كذوب ليس بصحيح، والمين: الكذب، يقال منه: مان يميم مينا. وهو على هذا التفسير غي مهموز.

الرفع حملا على المعنى، والمألوف النصب
قال سيبويه قال أبو الأسود الدؤلي:
جَزَى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِهِ ... أبا ماعزٍ من عاملٍ وصديقِ
قَضَى حاجتي بالحق ثم أجازَها ... بصِدقٍ وبعضُ القوم غِيرُ صَدوقِ
(إذا جئتُ بوابا به قال مرحباً ... ألا مرحبٌ واديك غيرُ مَضيقِ)
ويروى: (إذا ما رآني مقبلا قال مرحبا) ويروى. (مرحب) بالرفع والنصب في الموضعين.
أبو ماعز: هو عبد الرحمن بن عبد الله الاسدي، ثم احد بني دودان، وكان عاملا لعبيد الله بن زياد على جندي سابور، وكان

(1/72)


كوفيا على رأي أبي الأسود، فخرج أبو الأسود إليه في حاجة، فلما رآه أبو ماعز رحب وأكرمه وألطفه وأحسن جائزته.
والشاهد فيه على رفع (مرحب). (واديك) مبتدأ وخبره (مرحب)، و (غير مضبق) وصف لمرحب وهو كقولك: إلا واسع واديك.
ومن روى (ألا مرحبا)، نصبه بإضمار فعل، وجعل (واديك) مبتدأ و (غير مضيق) خبره. ويجوز على نصب (مرحبا) أن يكون (واديك) فاعلا لـ (مرحبا) وتنصب (غير مضيق) وتجعله لمرحب.

الإضافة غير المحضة
قال سيبويه قال المرار:
(سَل الهُمومَ بكل مُعْطي رأسِهِ ... ناحٍ مُخالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعَيسِ)
أَنِفَ الزَّمامَ كأَنَّ صفْقَ نُيوبِهِ ... صَخَبُ المواتح في عراك المخمِسِ
مُغْتالِ أحْبُلِهِ مبينٍ عِتْقُهُ ... في مَنْكِبٍ زَبَنَ المطيَّ عَرَنْدَسِ
الشاهد في إنه أضاف (معطي) إلى رأسه) إضافة غير محضة، وهو في تقدير انفصال، واستدل على أن الإضافة غير محضة وإنه على حكم التنكير؛ إنه نعته بنكرة فقال: ناج مخالط صهبة.
معنى معطي رأسه: يريد إنه منقاد ليس بصعب، والمتعيس: الذي يضرب الى البياض، والاعيس: الأبيض،

(1/73)


أنف الزمام: قيل فيه إنه يأنف من الزمام كأنه غضبان. وقيل فيه: إنه الذي يأذى بالبرة التي يشد فيها الزمام. يقال: قد أنفث الإبل: إذا تأذت بالبرات، والصفق: الصوت، والمواتح: الذين يمدون الدلاء حين تخرج من الآبار، والمخمس: الذي يورد إبله خمسا؛ في ايوم الخامس من اليوم الذي شربت فيه، والعراك: ازدحام الإبل على الماء.
شبه وقع صوت أنيابه بعضها على بعض بأصوات المواتح الذين يستقون، فبعضهم يضاغن بعضا، والأحبل: هي الحبال التي تشد على وسطه، فكأنه لما لم يفضل منها شيء قد استهلكها. والعتق: الكرم وجودة الأصل. يقول: إذا رآه الرائي علم إنه كريم. وقوله: في منكب: يريد مع منكب له عظيم يدفع بها المطي إذا زاحمته، والزبن: الدفع، وفي (زبن) ضمير يعود إلى المنكب. يريد منكبه دفع عنه، والعرندس: الشديد.

الاسم المرفوع بعد: قلما
قال سيبويه قال المرار
صرَمْتَ ولم تُصْرَم وأَنتَ صَروم ... وكيفَ تَصابي مَنْ يُقال حَليمُ
(وصدَّتْ فأطوَلْتَ الصُّدودَ وقَلَّما ... وِصالٌ على طول الصُّدودِ يَدومُ)

(1/74)


يقول: صرمت هذه المرأة قبل أن تصرمك، يخاطب نفسه. ثم قال: وكيف تصابي من قد كبر وحلم، وأراد: من يقال هو حليم. وصدت هذه المرأة فأطولت أنت الصدود، ومع طول الصدود لا يبقى من المودة والمحبة شيء.
والشاهد على إنه أخر الفعل الذي كان ينبغي له أن يقع بعد (قلما وأوقع بعده (وصال) وهو مرفوع بإضمار فعل يفسره (يدوم) هذا الظاهر.

حالة من عطف البيان - إذ لا يجوز البدل
قال سيبويه قال المرار:
(أنا ابنُ التّارِكِ البَكْري بِشْرٍ ... عليه الطيرُ تَرقبُهُ وُقوعا)
عَلاهُ بِضَربَةٍ بعثَتْ بِلَيْلِ ... نوائحهُ وأَرْخَصَتِ البُضُوعا
عنى بشر بن عمرو بن مرثد وقتله رجل من بني أسد، ففخر المرار بقتله. وبشر: هو من بكر بن وائل. والاخصت البضوعا أي: أرخصت الضربة

(1/75)


اللحم على الطيور، والبضوع جمع بضعة، وهو مثل مأنة ومؤون. وقد جاء بدرة وبدور. قال الفرزدق:
فَيَحبوهُ الأمينُ بها بُدورا
ويروى: (البضيعا) مكان (البضوعا). والبضيع: اللحم. وزعم بعض الرواة إنه يريد بالبضوع بضوع نسائه أي نكاحهن.
يقول: لما قتلوه سبوا نساءه، فنكحوهن بلا مهر. والبضوع: النكاح.
والتفسير الأول أعجب إلي.

حذف الفعل لكثرته في كلامهم
قال سيبويه قال الحارث بن ضرار النهشلي يرثي يزيد بن نهشل:

(1/76)


سقى جدثا أمسى بدومة ثاويا ... من الدلو والجَوزاء غادِ ورائح
(لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ لخُصْومةٍ ... ومختبِطٌ مما تُطيحُ الطوائحْ)
الشاهد في إنه رفع (ضارع) فعل، كأنه قال بعد قوله: ليبك يزيد: للببكه ضارع.
دومة: اسم موضع معروف، والثاوي: المقيم، والضارع: الذي قد ذل وضعف،
والمخبط: السائل، وتطيح: تهلك. يقال: طاح الشيء يطيح: هلك، وأطحته أنا. والغادي: الذي يأتي بالغداة، والرائح: الذي يأتي بالعشي.
وقوله: من الدلو والجوزاء: أراد المطر الذي يجيء عند سقوط هذين النجمين. وقوله: مما تطيح، و (ما تطيح): مصدر بمنزلة الاطاحة، كما تقول: يعجبني ما صنعت، أي يعجبني صنيعك. وأراد: مختبط من أجل ما قد أصابه من إطاحة الأشياء المطيحة، أي من أجل الأشياء المهلكة.
يريد إنه احتاج وسأل من أجل ما نزل به. والطوائح في البيت بمنزلة المطيحات، وهو كما قال عز وجل: (وأرسلنا الرياح لواقح).
ويروى: (ليبك يزيد) بفتح حرف المضارعة ونصب (يزيد) ويرتفع (ضارع) بـ (يبك).

(1/77)


الفعل بالظرف بين اسم الفاعل ومعموله
قال سيبويه في باب جرى مجرى الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين، في اللفظ لا في المعنى. قال الاخطل:
جَوادٌ إذا ما انحلَ الناسُ مُمْرعٌ ... كريمُ لجوْعات الشتاء قَتْوُلها
ثم ذكر الاخطل بعد هذا البيت بيتين، ثم عطف فقال:
(وكَرّارُ خَلْفِ المجْحَرين جوادَهُ ... إذا لم يُحام دونَ أنثى حَليلُها)
يمدح بهذه القصيدة همام بن مطرف التغلبي، وكان سيد بني تغلب.
أمحل الناس: أجدبوا، والمرع: المكان المعشب. يريد إنه للناس؛ بمنزلة البلد الذي فيه عشب، فالانتفاع به عام كالانتفاع بالبلد المعشب. وهم يصفون الجواد بأنه يقتل الجوع، يعنون إنه يزيل جوع الجياع بالإطعام. فإذا أبطل الجوع بالإشباع فهو بمنزلة القاتل له لأنه أبطله، والمجحرون: المتأخرون.
يقول: الذين قد تأخروا في الهزيمة، ولحقتهم الخيل فقاربت اخذهم؛ يحميهم هو
ويمنع منهم حتى ينجوا. وقوله: (إذا لم يحام دون أنثى حليلها) يريد إنه شجاع يحمي قومه ويمنع منهم إذا بلغ الخوف من الناس اشد مبلغ، حتى يفر الرجل، ويترك زوجته لا يدافع عنها. والخليل الزوج.
ويروى (خلف المرهقتين) وهو مثل معنى المجحرين. ويروى:
حفاظا إذا لم يَحْمِ أنثى حليلُها
يريد: محافظة على حسبه أن يعاب بأنه ترك قومه وانصرف عنهم.

(1/78)


والشاهد فيه إنه أضاف (كرار) إلى (خلف) وجعل (خلف المجحرين) مفعولا على السعة.

الفصل بين المتضايفين
قال سيبويه: ومما جاء مفصولا به بينه وبين المجرور قول الأعشى:
ولا نقاتلُ بالعِصِي ... ولا نرامي بالحِجارهْ
إلا عُلالَةَ أو بُدا ... هَةَ قارحٍ نَهْدِ الجُزارَهْ
هذا إنشاد الكتاب، والبيتان في شعره متفرقان، والترتيب على ما وجدته:
وهناكَ يكذِبُ ظَنكُمْ ... أن لا اجتماعَ ولا زِيارَهْ
ولا بَراَءةَ للبري ... ءِ ولا عطاَء ولا خُفارَهْ
(ألا بُداهَةَ أَو عُلا ... لةَ قارحِ نَهْدِ الجُزارَهْ)
ثم مضى الأعشى في قوله إلى أن قال:
ولا نُقاتلُ بالعِصِي ... ولا نُرامي بالحجارَهْ
ولا تكونُ مَطِينا ... عند المباهاةِ البِكارهْ
يخاطب شيبان بن شهاب يقول: إذا غزوناكم علمتم أن ظنكم بأننا

(1/79)


لا نغزوكم كذب، وأنا لا نجتمع ولا نزوركم بالخيل والسلاح غازين لكم. ولا براءة للبريء، يقول: من كان بريئا منكم لم تنفعه براءته، لأن الحرب إذا عظمت وتفاهمت لحق
شرها البريء؛ كما يلحق غيره. وأراد أننا ننال جماعتكم بما تكرهون، ولا تقبل منكم عطاء ولا خفارة تفتدون بها منا حتى نترك قتالكم.
وأراد لا قبول عطاء لكم ولا خفارة، (إلا بداهة) استثناء منقطع. يقول: نحن لا نقبل منكم عطاء ولا خفارة، لكن نزوركم بالخيل. والبداهة: أول جري الفرس، والعلالة: جري بعد جريه الأول. والقارح من الخيل: الذي قد بلغ أقصى أسنانه. ويروى: سابح. والسابح: الذي يدحو بيديه في العدو، والجزارة من الفرس: رأسه وقوائمه، والنهد: العظيم، ولم يرد أن على قوائمه لحما كثيرا؛ وإنما يريد أن عظامه غليظة. والمطي: جمع مطية وهي الراحلة التي يركب مطاها: وهو ظهرها، والمباهاة: المفاخرة والمعاظمة. يريد أنهم يركبون من الإبل إلا البزل والجلة، وكانوا يعيرون من ركب بكرا. وقوله: لا نقاتل بالعصي، يريد أنهم ليسوا برعاء ولا من السفلة الذين لا سلاح معهم، فإذا تقابلوا تراموا بالحجارة وتضاربوا بالعصي.
ويروى:
ولا نُلاطِمُ بالأكف
والشاهد في البيت الثاني، على إنه فصل بين المضاف والمضاف اليه، وكذا مذهب سيبويه، وعنده أن (علاله) مضاف إلى (القارح) و (بداهة) مضاف إلى شيء محذوف. كأنه قال: إلا علالة قارح أو بداهته.
ومذهب أبي العباس: أن (علالة) مضاف إلى شيء محذوف. و (بداهة) مضاف إلى (قارح). فعلى ما ذهب إليه أبو العباس لا يكون في البيت فصل

(1/80)


بين المضاف والمضاف إليه، وإنما يكون حذف المضاف إليه من الاسم الأول وهو يراد، كأنه قال: إلا علالة قارح أو بداهة قارح، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ولقائل أن يقول: أن قول سيبويه جار على ما يوجبه نظم الكلام، وذلك أن الاسم
إذا احتيج إلى تكرير ذكره ذكر بلفظه الظاهر في أول الكلام، ثم أعيد بلفظ الضمير إلى أن تتم الجملة. كقولك: هذا أخو زيد وصديقه وجاره، ولا تقول: هذا أخو زيد وصديق زيد وجار زيد.
فنحن إذا قدرنا مضافا إلى الظاهر، وقدرنا الثاني مضافا إلى ضمير الاسم المتقدم؛ فقد أتينا بالشيء على أصله.
قال: فإن قال قائل: مذهب أبي العباس أولى؛ لأن البيت على مذهب سيبويه فيه قبح من وجهين:
أحدهما إنه فصل بين المضاف والمضاف إليه في الاسم الأول، وحذف المضاف إليه في الثاني. قيل له: قول أبي العباس فيه قبح من جهة إنه حذف المضاف إليه من الاسم الأول والاسم الثاني على ما توجبه العربية.
قيل له: أن المضاف إليه قد يحذف في الكلام ولا يكون حذفه ضرورة، نحو: يا رب اغفر لي، ويا غلام أقبل، يريد غلامي. قال الله عز وجل: طلله الأمر من قبل ومن بعد يريد به من قبل كل شيء، ومن بعد كل شيء. فحذف المضاف إليه.

(1/81)


فإن قال: هذا لا يشبه ما ذكرت؛ لأن المضاف إليه إذا حذف جرى المضاف في اللفظ مجرى الاسم الذي ليس بمضاف، وتغير عن اللفظ الذي كان عليه في حال الإضافة.
وقوله (أو بداهة) قد بقي مفتوحا على ما كان عليه في حال الاضافة، غير منون. وهذا لا يكون إلا في الضرورة.
قيل له: إنه ولي (بداهة) اللفظ بـ (قارح) لم يغيروه، لأنه قد وليه ما كان يجوز أن يضاف اليه، فجعلوا اللفظ على لفظ إضافة البداهة إلى القارح. والتقدير على خلاف ذلك.

وجوب اتصال الفعل المتأخر بضمير يعود على
معموله المتقدم
قال سيبويه في: باب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا: أكل يوم قميص تلبسه. فإذا كان وصفا، فأحسنه أن يكون فيه الهاء، لأنه ليس موضع اعمال، ولكنه يجوز كما جاز في الوصل، لأنه موضع ما يكون من الاسم.
ذكر سيبويه أن الفعل الذي يقع موقع الوصف؛ أحسنه أن يكون فيه الهاء، لأنه بالمضمر يصير وصفا للأول ويلتبس، ولو لم يكن فيه ضمير من الموصوف؛ لم يصلح أن يكون صفة له، فلذلك كان الأحسن ثبات الهاء.
وقوله: لأنه

(1/82)


ليس موضع أعمال يريد أن الاسم المتقدم في أول الكلام، لا يجوز أن يعمل فيه الفعل هو وصف. وقد مثل ذلك سيبويه بأن قال: زيدا أنت رجل تضربه لو حذفت الهاء لم يعمل (تضرب) في (زيد) ولا في (رجل) لأن الفعل الذي هو وصف لا يعمل في الموصوف ولا فيما قبله.
وقوله: ولكنه يجوز كما جاز في الوصل يريد إنه يجوز حذف الضمير من الصفة كما يجوز حذف الضمير من صلة (الذي)، إذا قلت: الذي ضربت زيد. فالصفة تابعة للموصوف ولا تعمل فيه، فجاز حذف الضمير من الصفة؛ كما جاز حذفه من الصلة.
وقال قيس بن حصين بن زيد الحارثي:
(أَكُلَّ عامٍ نَعَمٌ تَحْوونَهُ)
يُلقِحُهُ قَوْمٌ وتنْتِجونَهُ
أرْبابهُ نَوْكَى فلا يَحْمونَهُ
ولا يُلاقونَ طِعاناً دونَهُ
هيهاتَ هيهاتَ لما يَرْجُونَهُ
الشاهد فيه إنه جعل (تحوونه) وصفا لـ (نعم) و (نعم) مبتدأ و (أكل عام) خبره.
وجعل ظرف الزمان خبرا عن النعم، وظروف الزمان لا تكون

(1/83)


أخبارا للجثث لتأويل فيه، وهو إنه يقدر أن الكلام فيه حذف، وأصله: أكل عام أخذ نعم أو تحصيل نعم أو ما أشبه ذلك.
يلحقه قوم: أي يحملون الفحولة على النوق، فإذا حملت أغرتم عليها فأخذتموها وهي حوامل، فنتجتموها: أي ولدت عندكم. ويقال: أنتجت الناقة إذا ولدت عندي.
والنوكى: جمع أنوك وهو الاحمق، الضعيف العمل والتدبير، فما تحمونه: لا تمنعون من أراد الإغارة عليه. هيهات هيهات لما يرجونه: أي رجوا أن يدوم لهم هذا الفعل في الناس، فمنعناهم منه وحمينا ما ينبغي أن نحميه.
وقال زيد الخيل:
(أفي كلَّ عامٍ مأتَمٌ تبعَثونَهُ ... على محِمْر ثَوْبتموهُ وما رُضَى)
تجدونَ خمْشا بعد خمشٍ كأنها ... على فاجع من خير قومِكُمُ نُعَى
الشاهد فيه أن (تبعثونه) وصف لـ (مأتم) والمأتم: الجماعة من النساء. أراد: أفي كل عام اجتماع مأتم. وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وهو مثل البيت الأول في التقدير.
والمحمر: البرذون. وقيل: هو السكيت الذي لا خير فيه من الخيل. يريد أنهم يجمعون نساء ليبكين على هذا المحمر. ومعنى ثوبتموه: جعلتموه ثوابا على جميل فعل بكم، وما رضي به ثوابا لقته وحقارته.
والخمش: تخديش الوجه. يريد أنهم يخدشون وجوههم على المحمر مرة بعد مرة، كما يفعلون لو فقدوا سيدا من ساداتهم. والفاجع: الهالك الذي يؤذي فقده

(1/84)


أهله، ويبين عليهم أثر عدمه. ورضا ونعا. أصلهما رضي ونعي، فقلبت الياء فيهما ألفا،
وهذه لغة طائية.
وسبب هذا الشعر، أن بجير بن زهير بن أبي سلمى كان في غلمة يجتنون من جنى الأرض، ثم انطلق الغلمة وتركوا ابن زهير، فمر به زيد الخيل فأخذه، ودار طيء متاخمة لدور بني عبد الله بن غطفان، فسأل الغلام: من أنت؟ فقال: أنا بجير بن زهير، فحمله على ناقة ثم أرسل به إلى أبيه، فلما أتى الغلام أباه، اخبره أن زيد الخيل أخذه، فحمله، وخلاه.
وكان لكعب بن زهير فرس من كرام الخيل، وكان جسيما، وكان زيد الخيل من أعظم الناس وأجسمهم. كان - زعموا - لا يركب دابة إلا أصابت إبهامه الأرض.
فقال زهير: ما ادري ما أثيب به زيدا إلا فرس كعب، فأرسل به إليه وكعب غائب، فجاء كعب فسأل عن الفرس، فقيل: أرسل به أبوك إلى زيد، فقال كعب لأبيه: كأنك أردت أن تقوي زيدا على عطفان! فقال زهير لابنه: هذه أبلي فخذ ثمن وازدد عليه. فلم يرض كعب، واندفع يحرض بني ملقط الطائيين على زيد الخيل، وكان بينهم قتال.
وقال كعب قصيدة يذكر فيها ما بين بني ملقط وبين زيد الخيل. فأجابه زيد الخيل بأبيات أولها ما تقدم إنشاده.

إبدال الظاهر من ضمير المتكلم
قال سيبويه قال عدي بن زيد:
(ذَريني أن أمْرَكِ لنْ يُطاعا ... وما ألْفَيْتِني حِلمي مُضاعا)

(1/85)


الشاهد فيه على إنه أبدل (حلمي) من ضمير المتكلم، كأنه قال: ما ألفيت حلمي. فإن قال قائل: أنتم لا تجيزون الإبدال من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب. قيل له:
الذي يمنع منه، أن البدل يكون على طريق التعريف والإيضاح للمبدل منه، كقولك: رأيتك زيدا ورأيتني عمرا. فهذا لا يجوز لأنه ليس يقع إشكال في المتكلم والمخاطب فيحتاج إلى بدل يوضحه، وهذا الضرب من البدل لا يجوز؛ لأن في الإبدال منه فائدة، تقول: أتبعتني ظهري وضربتك يدك. ومثله:
أوْعدَني بالسَّجْنِ والأدارِهِمِ
(رِجْلي ورِجْلي شَثْنَهُ المَناسِمِ)
أبدل (رجلي) من ضمير المتكلم، و (مضاعا) منصوب على الحال. وألفيتني: وجدتني.
يقول لعاذلته: ذريني من عذلك على ما افعله، فما وجدتني سفيها مضيع الحلم. والمعنى واضح.

تكرار الظاهر دون ضميره في كلامهم
قال سيبويه: وتقول: ما زيد ذاهبا ولا محسن زيد، بالرفع أجود، وأن كان يريد الأول، لأنك لو قلت: كان زيد منطلقا زيد، لم يكن

(1/86)


حد الكلام. وكان هاهنا ضعيفا، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقا هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره.
قال: وقد يجوز النصب. يريد إنه قد يجوز أن تنصب فتقول: ما زيد ذاهبا ولا محسنا زيد، تجعل الظاهر كالمضمر، وتجعله معطوفا على الخبر عن الأول. كما قال سوادة بن عدي. كذا في الكتاب: سوادة بن عدي.
والقصيدة تروى لعدي بن زيد، وتروى لسواد بن زيد بن عدي بن زيد:
(لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنَى والفَقيرا)
يُدركُ الآبِدَ الفَرورَ ويُرْدي الطّيرَ في النيقِ يَبتَنِين الوُكُورا

(1/87)


يريد أرى الموت لا يسبقه شيء. وأراد: نغص الموت عيش ذي الغنى وعيش الفقير. والآبد الفرور: الوحشيء، ويردي: يهلك، والنيق: رأس الجبل، والوكور:
جمع وكر وهو بيت الطائر.
يعني أن الموت يدرك كل حي، ولا يمتنع منه شيء.