شرح أبيات سيبويه

النصب على الحث (الإغراء)
قال سييبويه في: باب ما جرى من الأمر والنهي على الفعل المستعمل إظهاره. قال مسكين الدارمي.
وإن ابنَ عم المرءِ فاعْلَمْ جناحُه ... وهل ينهضُ البازي بغير جِناحِ
(أخاكَ أَخاكَ أن مَنْ لا أَخا لهُ ... كَساعٍ إلى الهَيْجا بغير سلاحِ)
كأنه قال: الزم أخاك. الشاهد فيه على إضمار الفعل الناصب (أخاك) ولو اظهر الفعل لم يكرر معه اللفظ بـ (أخاك) مرتين، لأن التكرار لا يستعمل معه الفعل.
الذي أراد: أن هذا يجوز أن يظهر عامله إذا افرد،

(1/88)


وهو كقولك: الطريق الطريق إذا كررت، يجوز إظهار الفعل مع حذف أحد اللفظين.
والمعنى إنه حث على التواصل وأسبابه، واعلم أن من قطع أخاه وصرمه كان بمنزلة من قاتل بغير سلاح. والمعنى واضح.

نصب الاسم بعد واو (مع) بإضمار فعل الكون
قال سيبويه في باب من أبواب (مع): وقد زعموا أن ناسا يقولون: كيف أنت وزيدا، وما أنت وزيدا. ثم مضى في كلامه حتى انتهى إلى قوله: كأنه قال: كيف تكون أنت وقصعة من ثريد، وما كنت أنت وزيدا. يعني إنه نصب الاسم الذي بعد الواو بإضمار الفعل الذي يكثر وقوعه بعد: (ما) و (كيف) وذلك الفعل (كان) و (يكون) لأنه يكثر في كلامهم: كيف تكون أنت وزيدا، وما كنت أنت وزيدا. فلما كان هذا من المواضع التي يكثر استعمال الفعل فيها، تركوا ذكره ونووه.
قال أسامة الهذلي:
(وما أنا والسَيْرَ في مَتْلَفٍ ... يُبَرحُ بالذكَرِ الضّابطِ)
متلف موضع تلف، يبرح بالبعير الذكر: أي يحمله على ما يكره من

(1/89)


السير ويشق عليه، ويقال: لقي منه برحا بارحا: إذا لقي منه شدة. والضابط الشديد.
والشاهد إنه نصب (السير) بتقدير: ما أكون أنا والسير.

نصب الاسم بإضمار فعل - إذ قبح عطفه على
ضمير مجرور
قال سيبويه في: باب يضمرون فيه الفعل، يقبح أن يجري على أوله، وذلك قولك: مالك وزيدا وما شأنك وعمرا.
أراد أنهم لما رأوا هذا الاسم الظاهر لا يصلح عطفه على المضمر المجرور، أضمروا له فعلا ينصبه.
قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
(فما لُكُم والفَرْطَ لا تَقربونَه ... وقد خِلْتُهُ أدنَى مَرادٍ لعاقلِ)
ويروى: لقافل.
الشاهد في البيت على نصب (الفرط). والفرط: اسم موضع.
والمراد: المكان الذي يراد فيه أي يذهب ويجاء. ويروى: (أدنى مرد). أي أدنى موضع يرجع إليه القافل.
وقد وقع في الكتاب: أدنى مراد أعاقل.
والعاقل: الذي يصعد إلى الموضع الذي يحترز فيه، والمعنى فيه ضعف. والقافل ها هنا أجود، يريد الراجع من سفره. ويروى: (أدنى مآب)

(1/90)


أي اقرب موضع رجوع. والمعنى فيه: إنه خاطب بني ظفر من بني سليم وكانوا قد غزوا هذيلا، يقول: ما لكم لم تقربوا هذا الموضع! أي لو قربتموه لقتلكم. وقد كان ذكر في هذه
القصيدة طائفة من هذيل قتلوا رجلا من بني سليم أمه هذلاية، فلامهم على قتله. وقد يجوز أن يخاطب بذلك القوم الذين قتلوا ابن الهذلية.

في عمل الصفة المشبهة
قال سيبويه قال عدي بن زيد:
ليس يُفني عيشَه أحدٌ ... لا يُلاقي فيه إمعْارا
(من حبيبٍ أو أخي ثقةٍ ... أو عدوٍ شاحطٍ دارا)
الشاهد فيه إنه نون (شاحط) ونصب (دارا) وهو شاهد على قولك: مررت برجل حسن وجها. والأصل: أوعدوا شاحط داره: أي بعيدة. والشاحط البعيد، والامعار: الفقر والشدة.
يقول عدي في عتابه للنعمان: أن الناس لابد أن يلاقوا في أعمارهم وأيامهم الشدة والرخاء، ولكل واحد منهم قسط في الخير والشر، أن كان وليا وإن كان عدوا.

إجراء القول مجرى الظن
قال سيبويه في باب طننت. قال الكميت:
(أَجُهالاً تقولُ بني لُؤَيٍ ... لَعَمْرُ أبيك أَم مُتَجاهلينا)

(1/91)


وفي شعره:
أَنُواماً تقولُ بني لُؤَيٍ ... لَعَمْرُ أَبيك أَم مُتَناومينا
عن الرامي الكِنانَةَ لم يُردِها ... ولكنْ كادَ غيرَ مُكايدينا
يريد بذلك أهل اليمن. وبنو لؤي: هم بنو لؤي بن غالب بن مالك بن النضر، وهم قريش. يقول: أتظن أن قريشا تغفل عمن هجا شعراء نزار؟ لأنهم إذا هجوا شعراء مضر والقبائل التي منها هؤلاء الشعراء؛ فقد تعرضوا لسب قريش، فهم بمنزلة الذي رمى رجلا فقيل له: لم رميته؟ فقال: إنما رميت كنانته ولم أرمه.
وكان غرضه أن يصيب الرجل.
فيقول: من هجا بني كنانة وبني أسد ومن قرب نسبه من قريش؛ فهو يعرض بسب قريش. يحرض الخلفاء عليهم والسلطان.
الشاهد فيه على إنه أعمل (تقول) عمل (تظن). (بني لؤي) المفعول الأول و (إجهالا) المفعول الثاني.

اللفظ للمفرد والمعنى للجمع
قال سيبويه في باب الحسن الوجه: وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدا والمعنى معنى جمع، حتى قال بعضهم في الشعر ما لا

(1/92)


يستعمل في الكلام.
قال علقمة بن عبدة:
تَتَبَّعُ أفياَء الظِلالِ عشيّةً ... على طُرُقِ كأنَّهنَّ سُبوبُ
(بها جِيَفٌ الحَسْرَى، فأَما عظامُها ... فبِيضٌ، وأَما جلدُها فصَليبُ)
في (تتبع) ضمير يعود إلى ناقته، وقد تقدم ذكرها. يقول: تتبع ناقتي الافياء: وهي جمع فيء وهو ما كانت عليه الشمس فزالت عنه، وكل فيء ظل وليس كل ظل فيئا، لأن الظل الذي يكون بالغداة لا يسمى فيئا. والسبوب: جمع سب وهو ثوب من كنان، وقيل السب: العمامة. شبه الطرق في امتدادها ودقتها بالعمامة الممدودة، أو الثوب الممدود. (بها) أي بهذه الطرق جيف الحسري: وهي جمع حسير، وهي الناقة التي سقطت من الإعياء والكلال. وزعموا أن الصليب: اليابس، وقيل: الصليب كل جلد لم يدبغ. يقول: عظام الإبل التي قد أعيت - وبقيت مكانها حتى ماتت في هذا الطريق - بيض، وجلودها يابسة. ويصف الطريق بالبعد، وأن الإبل تنقطع فيه لطوله وتموت. يذكر الذي مدحه بعد الأرض التي قطعها إليه.

من ضرورات الشعر
قال سيبويه في: باب ضرورة الشعر: قال الأعشى:

(1/93)


أرى رجُلاً منهم أسِيفاً كأنما ... يَضُم إلى كَشْحَيْهِ كفا مُخَضبا
(وما لهُ مِن مَجْدٍ تَليدٍ ولا لهُ ... منَ الريحِ فَضْلُ لا الجَنوبُ ولا الصبا)
الاسيف: الحزين الغضبان، ويقال للحزين خاصة الاسيف. ويقال الاسوف: الغضبان، والكشحان: الجانبان. كأنه من شدة غضبه قد قطعت كفه فضم يده إلى جنبيه وهي مقطوعة.
يقول: هذا الرجل ينظر إلي نظر غضبان كأني قد قطعت يده. وما له من مجد تليد: أي ليس له مجد قديم. ولا له من الريح فضل: أي ليست له علي مقدرة من جهة من الجهات، كذا رأيته فسر.
وهذا جار مجرى قولهم: هبت ريح فلان، إذا علا أمره وعظم شأنه وصارت له دولة، وسكنت عنه ريحه: إذا زال عنه سلطانه ومقدرته.
يهجو بذلك عمرو بن المنذر وقومه، وهو من بني عم الأعشى، لأنه ضرب قائد الأعشى في تهمة أتهمه بها.
والشاهد فيه إنه حذف صلة الضمة وهي الواو من (لهو). (ولا الجنوب) مجرور لأنه وصف الريح. ويروى:
وما عندهُ مجدٌ تَليدٌ
وليس على هذه الرواية شاهد.

(1/94)


وقال الاعشى:
إلى هَوْذَةَ الوهّابِ أهْديتُ مِدْحتي ... أرَجي نَوالاً فاضِلاً من عطائكا
(تَجانَفُ عن جُل اليَمامةِ ناقَتي ... وما قَصدَتْ من أهلها لِسوائكا)
هوذة هذا: هو هوذة بن علي الحنفي. وذكر هوذة كما يذكر الغائب، ثم عدل إلى خطابه. وتجانف: تميل وتعدل، وجل اليمامة: يريد جل أهلها، وجلهم: معظمهم.
يعني إنه لم يقصد سواه من أهل اليمامة. والضمير في (أهلها) يعود إلى اليمامة، وجعل النيل عن غير هوذة وقصد هوذة فعل الناقة؛ وإنما هو فعل صاحبها. ومعناه واضح.
يريد: ما قصدت من أهل اليمامة لغيرك، إنما قصدتك أنت. ويروى:
وما عدلَتْ من أهلها لسوائكا
وقيل: اللام بمعنى (إلى) أي ما عدلت إلى سوائك.
والشاهد فيه إنه أدخل حرف الجر على (سوائك) فجعله من المتمكن، وهو غير متمكن.
قال سيبويه في هذا الباب قال خطام المجاشعي:
لم يبق من آيٍ بها يُحَلَّيْنْ ... غيرُ حُطامٍ ورمادِ كَنْفَيْنْ

(1/95)


وغيرُ نُؤيٍ وحجاجَيْ نُؤيَيْنْ ... وغيرُ وَدٍ جاذِلٍ أو وَدَّيْنْ
(وصالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ)
ذكر ديارا قد ذهب منها أهلها وبقيت آثارهم فيها. والآي جمع آية وهي العلامة. يقول: لم يبق من علامات حلولهم فيها علامة تحلى وتوصف، غير حطام: وهو دق الشجر، يريد به ما بقي على الخيام من الشجر الذي قطعوه وظلوا به. و (رماد) مضاف إلى (كنفين) أي رماد من جانبي الموضع. كذا رأيته، بإضافة (الرماد) إلى (كنفين). ولو روي بالتنوين لم يكن خطأ عندي.
والنؤي: حول البيت، تحفر حفيرة حول البيت، ويؤخذ ترابها فيجعل حاجزا له، فجعل الحاجز حول البيت بمنزلة حجاج العين، وهو العظم المشرف حولها. والجاذل: المنتصب، والصاليات: الاثافي، ويؤثفين: يجعلن في موضع الطبخ. ويقال: صلي بالنار إذا احترق.
والشاهد فيه إنه أدخل الكاف على الكاف، وجعل الثانية في تقدير (مثل)، حتى
صلح أن تدخل عليها الكاف التي هي حرف. ولولا إنه جعل الثانية اسما؛ لما جاز أن يدخل حرف الجر.
وإحدى الكافين زائدة من طريق المعنى، كأنها وردت تكريرا وتوكيدا. والذي يريد: وصاليات كما يؤثفين.
والصاليات: الأثافي صليت بالنار، وهي الحجارة التي توضع عليها القدر. وقوله: كما يؤثفين: يريد أنها كما نصبت وتركت القدر؛ لم يتغير منها شيء، ولم تنح اثفية منها عن موضعها، هي في الموضع الذي كانت فيه حين طبخوا.

(1/96)


ويقال: اثفيت الأثافي، إذا اصلحتها لتضع عليها القدر أو المرجل أو ما أشبه ذلك.
ويروى:
وغيرُ سُفْعٍ كَكَما يؤَثْفَيْن
والسفع: التي قد سفعتها النار، أي سودتها وغيرت لونها. يعني الأثافي.

تأنيث الفعل على اللفظ - بكثرة الاستعمال
قال سيبويه في باب كان: وسمعنا من العرب من يقول ممن يوثق بعربيته: اجتمعت أهل اليمامة، لأنه يقول في كلامه: اجتمعت اليمامة، والمعنى أهل اليمامة. فأنث الفعل وجعله في اللفظ لليمامة؛ فترك اللفظ على ما يكون عليه في سعة الكلام.
يريد سيبويه أن العرب قالت: (اجتمعت) فأنثوا لأن الفاعل مؤنث وهو اليمامة، فأنثوا على اللفظ، ومعنى الإخبار هو عن أهل اليمامة.
وقال بعضهم - بعد استمرار لفظهم على تأنيث الفعل في (اجتمعت اليمامة) -: اجتمعت أهل اليمامة، فترك علامة التأنيث، وقد جعل الفعل للأهل، وكان ينبغي أن يذكر لأن الفاعل هو الأهل، والأهل مذكر، وهو في المعنى فاعل، فلم يذهبوا بالتأنيث إلى اللفظ ولا إلى المعنى، لأن الأهل مذكر في اللفظ والمعنى.
ووجه قولهم: اجتمعت أهل اليمامة؛ أنهم لما اثبتوا التاء في قولهم: اجتمعت اليمامة، وأكثروا استعمال هذا الكلام، ثم أدخلوا الأهل؛ تركوا التاء في قولهم (اجتمعت) ثابتة على ما كانت عليه.
قال: ومثله يا طلحة

(1/97)


اقبل، لأن أكثر ما يدعو طلحة بالترخيم، فترك الحاء على حالها.
يريد أن العرب لما أكثرت استعمال طلحة مرخما، وهو إذا رخم حذفت التاء وبقيت الحاء مفتوحة، واحتاجوا إلى إدخال تاء التأنيث على المرخم، وجعلوا حركة التاء التي دخلت بعد الحاء كحركة الحاء لأنها وقعت طرفا في مثل الموضع الذي وقعت فيه الحاء؛ ففتحت كما كانت الحاء مفتوحة. جعلوها - بعد دخول التاء على الترخيم لكثرة ما يرخم هذا الاسم - كما جعلوا: (اجتمعت أهل اليمامة) على لفظ التأنيث بعد دخول (الأهل).
ثم قال سيبويه: وتقول يا تيم تيم عدي، كما تقول يا طلحة أقبل.
يريد أن إدخال (تيم) الثاني بين المضاف إليه، وترك الكلام على ما كان عليه، وفتح (تيم) الثاني كما أن الأول مفتوح - بمنزلة إدخال تاء التأنيث على (يا طلح)، وفتحها كما كانت الحاء مفتوحة.
وقال جرير:
يا تيمَ تيمَ عدِي لا أبا لَكُمُ ... لا يُلْقِنكُمُ في سَوءةٍ عُمَرُ
يريد تيم بن عبد مناة، وهم قوم عمر بن لجأ، وعدي هم اخوة تيم. يقول

(1/98)


لهم: لا يلقبنكم في مكروه عمر لأجل تعرضه لي، أي امنعوه من هجائي حتى تأمنوا أن ألقيكم في بلية، ونهاهم أن يلقيهم عمر.
والإلقاء ليس من فعلهم إنما هو من فعل عمر، لأن معنى هذا وأشباهه معروف، ويراد به أنكم قادرون على كف عمر أن يجلب عليكم ما تكرهون، فإذا تركتم نهيه
عن ذلك فكأنكم قد اخترتم ما فعل، وكأنكم أنتم الفعلون بترككم لكفيه فنهاهم أن يفعل عمر، لأجل هذا المعنى.

اسم (كان) ضمير الشأن
قال سيبويه في: باب الإضمار في ليس وكان: لو قلت: كانت زيد الحمى تأخذ، أو تأخذ الحمى، لم يجز وكان قبيحا. ومثل ذلك في الإضمار قول العجيز السلولي:
(إذا متُّ كان الناسُ صِنفان: شامتٌ ... وآخرُ مًثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ)
بلى سوفَ تبكيني خصومٌ ومجلسُ ... وشُعْتٌ أهينو حضرة الدارِ رِجُوعُ
الشاهد في البيت الأول، إنه جعل في (كان) ضمير الأمر والشأن و (الناس) بعد (كان) مرفوع بالابتداء، و (صنفان) خبره، والجملة في موضع خبر كان، و (شامت) بدل من (صنفان) و (آخر) معطوف عليه. كأنه قال: صنفان: صنف

(1/99)


شامت وصنف مثن. والمعنى أن له أصدقاء وأعداء، فأصدقاؤه يثنون عليه بالجميل الذي كان يفعله، وأعداؤه يشمتون به.
ويروى:
كان النّاسُ نصفين
على إنه خبر كان، و (الناس) اسمها، وليس فيه شاهد على هذا الوجه. ويكون (شامت) مرفوعا لأنه تبعيض، كأنه قال: بعضهم شامت، وبعضهم مثن. ويروى:
ومثنٍ بنِيْرَيْ جُلَّ ما كنتُ أصنعُ
والنيران: العَلَمان في الثوب، وإنما يريد به إنه يثني بحسن فعله الذي هو في أفعال الناس كالعلم في الثوب. وجل الشيء: معظمه، والشعث: جمع أشعث وه الذي لا يغسل رأسه ولا يسرحه لشقائه والشدة التي هو فيها. و (حضرة الدار) ظرف.

في معاني الفاء
قال سيبويه في: باب ما تنصب فيه الصفة لأنها حال وقع فيها الاسم: وإذا أردت بالكلام أن تجريه على الاسم كما يجري على النعت؛ لم يجز أن تدخل الفاء، لأنك لو قلت: مررت بزيد أخيك فصاحبك والصاحب زيد لم يجز، وكذلك لو قلت: زيد أخوك فصاحبك ذاهب لم يجز، ولو قلتها بالواو حسنت، كما أنشد كثير من العرب لأمية بن أبي عائذ.

(1/100)


تفسير الفاء التي للعطف:
من شأنها أن يكون المعنى الذي اشترك فيه المعطوف والمعطوف عليه؛ حاصلا للمعطوف بعد حصوله للمعطوف عليه بلا مهلة فصل، ويكون حصوله للثاني عقب حصوله للأول. نحو قولك: زيد آتيك فمحدثك، أي يحصل الحديث من قبله بعد إتيانه بلا فصل.
ولا يجوز أن يكون الحديث الذي أخبرت به عنه حصل قبل الاتيان، ولا في الحال التي حصل فيها الإتيان.
وإذا أردت أن تخبر عن شخص من الأشخاص بخبرين هما حاصلان له في حال واحدة؛ لم يجز أن تعطف أحدهما على الآخر بالفاء، لأنهما حصلا في زمان واحد، والفاء توجب أن زمان أحدهما بعد زمان الآخر، فإن أدخلت الفاء فسد معنى الكلام.
وكذلك الصفة أن جئت بالفاء فيها، أوجبت أن المعنى الذي أوجب الوصف الثاني؛ حصل له بعد حصول الصفة الأولى.
قال أمية بن أبي عائذ:
فأَوْرَدَها مَرصَدا حافظاً ... به ابن الدُّجَى لاطِئاً كالطحالِ
مُفِيداً مُعِيداً لأَكْلِ القَني ... صِ ذا فاقةٍ مًلْحِماً للعِيالِ
وَيأْوي إلى نِسوةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثٍ أضيعَ مثلِ السَّعالي)

(1/101)


قال سيبويه: لو قلت (فشعثٍ) قبح. وإنما قبح لأن العطل هو أن لا يكون على المرأة حلي؛ حصل لها مع الشعث في وقت واحد، فجاز أن يعطف أحدهما على الآخر، لأن الواو للجمع وليست للتعقيب، ولو عطفت بالفاء لأوجب أن الشعث صل لهن بعد العطل، وهذا يفسد معنى الشعر، لأنه أراد أن يخبر بالصفات التي حصلت لهؤلاء النسوة في حال واحدة. ولو عطف بالفاء لم يكن الشعث مصاحبا للعطل وكانا في الوقت الذي كان فيه.
وابن الدجى: الصائد الذي يصيد الوحش، وفي (أوردها) ضمير فاعل يعود إلى العير الوحشي، والضمير المؤنث المنصوب يعود إلى الاتن، والمرصد: الذي يرصد فيه الصائد الوحش، والدجى: جمع دجية وهي بيت الصائد والضمير في قوله (به) يعود إلى المرصد، ولاطئا: لطيء بالأرض كيلا تراه الوحش، كالطحال: يريد، لزوقه بالأرض كلزوق الطحال بالجنب.
وقيل في قوله: ابن الدجى: ابن الظلمة، لأنه يكمن للوحش بالليل، والقنيص: الصيد، والمفيد: المكتسب، والمعيد: الذي قد أعاد أكل الصيد مرة، والفاقة: الحاجة، والملحم: الذي يأتي أهله باللحم.
ويأوي هذا الصائد إلى نسوة عطل من الحلى، يريد أنهن فقيرات سيئات الأحوال، وشعث: جمع شعثاء، وهي التي لا تسرح رأسها ولا تدهنه ولا تغسله. والمراضيع: جمع مرضع، والسعالي: الغيلان، الواحدة سعلاة.
ويروى:
له نسوة عاطلاتُ الصدو ... رعوج مراضيع
وليس في هذه الرواية شاهد. والعوج: المهازيل.

(1/102)


والقصيدة تروى على الإطلاق وعلى التقييد، وكلا الأمرين جائز فيها. وهي من المتقارب. أن أطلقت فهي من الضرب الأول، وإن قيدت فهي من الضرب الثاني.

النصب على الظرفية
قال سيبويه في الظروف: هما خطان جنابتي انفها، يعني الخطين اللذين اكتفا جانبي أنف الظبية. قال الأعشى:
(نحن الفوارسُ يومَ الحِنو ضاحيَةً ... جَنْبَيْ فُطَيْمةً لا مِلٌ ولا عُزُلُ)
الشاهد على إنه جعل (جنبي فطيمة) ظرفا.
وفطيمة هذه فطيمة بنت شراحيل بن عوسجة من بني قيس بن ثعلبة قوم الأعشى، وكان لها ابنان من رجل من قومها يقال له أصرم، فأراد أصرم أن ينزع ابنيها ويرهنهما من

(1/103)


يزيد بن مسهر الشيباني. فاستغاثت بقومها، فاجتمعوا وهزموا بني شيبان، ففخر بذلك الأعشى.
والحنو: منعطف الوادي ونواحيه، وضاحية: بارزة، والميل: جمع أميل وهو الذي لا سيف معه، مثل أحمر وحمر، واضطر إلى تحريك الزاي فحركها، كما قال طرفة:
جَردوا منها وِراداً وشُقرْ
و (ميل) خبر ابتداء محذوف كأنه قال: لا نحن ميل ولا نحن عزل. و (ضاحية) منصوب على الحال، والعامل فيه (الفوارس). والفوارس: في معنى المقاتلة. كأنه قال: نحن الجماعة التي قاتلت يوم الحنو بارزة، نحن الدين جاهروا بالقتال. ويجوز أن يكون (ضاحية) وصفا لبقعة، فيكون ظرفا. كأنه قال: نحن المقاتلة في بقعة بارزة. والوجه الأول أحب إلي.

نصب (ويل) بإضمار فعل
قال سيبويه في: باب من النكرة تجري مجرى ما فيه الألف واللام: واعلم أن بعض العرب يقول: ويلا لك وويلة وعولة،

(1/104)


وتجربة مجرى خيبة.
ذكر سيبويه أن بعضهم ينصب (ويلا) لك، وقد قدم في الباب أن هذا الباب؛ الرفع فيه وجه الكلام، ونصبه بإضمار فعل، كأنه: ألزمك الله ويلك، أو أوقع الله الويل، وما أشبه ذلك.
وأنشد لجرير:
(كسا اللؤمُ تَيْماً خُضْرَةً في جلودِها ... فويلا لِتَيْم من سَرابيلها الخُضْرِ)
يهجو جرير بذلك عمر بن لجأ التيمي وقومه، والخضرة: يريد بها سواد الجلد الذي يضرب إلى الخضرة، والسرابيل: القمص. جعل جلودهم مثل القمص عليهم. وأراد أن ألوانهم متغيرة للؤمهم وضعتهم، (ولعله أراد أنهم لا يغتسلون ولا ينظفون أبدانهم، فقد تقادم عليها الوسخ وتضاعف فاسودت).

النصب على المصدر في التوبيخ بإضمار فعل
قال سيبويه في: باب ما ينتصب من المصادر، كان فيه ألف ولام أو لم يكونا فيه، على إضمار الفعل المتروك إظهاره: وأما ما ينتصب في الاستفهام من هذا الباب فقولك: أقياما يا فلان والناس قعود! أجلوسا والناس يفرون! فلا يريد أن يخبر إنه يجلس، ولا إنه قد جلس، ولكنه

(1/105)


يخبر إنه في تلك الحال جلوس. على طريق التوبيخ.
قال العجاج:

أطريا وأنت قنسري
والدهر بالإنسان دواري (أراد: أتطرب طربا. على طريق التوبيخ).
والقنسري: الكبير المسن، ودواري: أراد بها دوار، وأدخل عليه ياء النسب. والدوار: الذي يدور بالناس ينقلهم من حال إلى حال.

نصب المصادر في الدعاء وسمع رفعها
قال سيبويه في: باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره: وقد رفعت الشعراء بعض هذا فجعلوه مبتدأ، وجعلوه ما بعده مبينا عليه.
يريد أن بعض المصادر التي تنصب في الدعاء على إضمار الفعل المتروك إظماره، قد سمع فيها الرفع من العرب. قال أبو زبيد الطائي:
(أقام وأقْوى ذاتَ يومٍ وخيبةٌ ... لأولِ مَن يَلْقَى وشَرٌّ مُيسرُ)
الشاهد فيه على إنه رفع (خيبة) وهو مصدر يدعا به، والمصادر التي يدعا بها تنصب، ورفعه بالابتداء، و (لأول من يلقى) خبره.
وصف أسدا

(1/106)


أقام في مكان، وأقوى: لم يجد شيئا يأكله، والمقوي: الذي لا زاد له. وأراد أن الأسد جائع فهو يثب على أول من يلقاه، والميسر: المعجل الذي لا يحتبس. ويروى: (أغار وأقوى) يريد إنه أغار على قوم حمل عليهم. ويروى: (وغي ميسر).

الظرف - جواز رفعه
قال سيبويه في الظروف: وقد يكون في (دونها) الرفع. يريد إنه يجوز فيه التمكن.
ووقع بعد هذا في الكتاب بيتان، وقيل إنهما ليسا من الكتاب. أحدهما بيت ذي الرمة:
أفي مِرْيَةٍ عيناك إذْ أنتَ واقِفٌ ... بحُزْوَى من الأظعانِ أم تَسْتَبينُها
فقال أراها يَحْسُرُ الآلُ مرةً ... فتبدو، وأخرى يكتسي الآلَ دونها)
يخاطب نفسه ويقول: أتشك عينك في أنها ليست ترى الاظعان التي تسير؟ أم تستبينها: أم تبينها، وحزوى: موضع معروف، والاظعان: الهوادج فيها النساء، و (من الاظعان) متصل بقوله (أفي مرية) والآل: ما يكون في أول النهار قبيل
السراب، ويحسر: يذهب، ويكتسي الآل: أي يتغطى بالآل، يريد أن الآل يستره، و (دونها): هو المكان الذي بينه وبين الاظعان، وفي (تبدو) ضمير من الاظعان. يعني أن الآل إذا ذهب رأى الاظعان؛ وإذا حجز الآل بينه وبينها استترت عنه. وقوله (وأخرى): في موضع نصب على الظرف

(1/107)


وهو ظرف من الزمان. والمعنى: ومرة أخرى يكتسي الآل دونها، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.

في إعراب (عمرك الله) وأشباهه
قال سيبويه في: باب من المصادر ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره، ولكنها مصادر وضعت موضعا واحدا لا تتصرف في الكلام. . . (فقعدك) تجري هذا المجرى. يريد أن (قعدك) بمنزلة (عمرك) وأن لم يكن له فعل يعني وأن لم يكن (لقعدك) فعل.
يريد أن بعض المصادر قد يترك استعمال الفعل فيه، ويكون بمنزلة ما استعمل فعله. فقعدك الله بمنزلة وصفك الله بالثبات وأنه لا يزول. يريد سألتك بوصفك الله بالثبات، ثم حذفت الفعل والتاء. ولا يستعمل الفعل فيه ولا حرف، وهو مصدر لا يتصرف، أي لا يستعمل في غير هذا الموضع من الكلام، ولا يستعمل إلا مضافا.
ثم استشهد على استعمال الفعل من (عمرك الله) بقول ابن أحمر:
(عَمَّرْتُكِ اللهَ الجليلَ فإنني ... أَلوي عليكِ لَوَ أن لبَّكِ يهتدي)
هل لامَني من صاحبٍ صاحبْتُهُ ... من حاسِرٍ أو دارِعٍ أو مُرْتَدي

(1/108)


يخاطب امرأة يقول لها عمرتك الله، أي سألتك بوصفك الله بالبقاء، هل علمت أن أحدا صاحبي من الناس لامني على فعل فعلته، من أحد حاسر: وهو الذي لا درع عليه، أو دارع: وهو الذي عليه الدرع، والمرتدي: الذي عليه الرداء. يريد أن كل من صاحبي على اختلاف أحوالهم وهيئاتهم وأخلاقهم لم يذمني. قوله: ألوي عليك: أي أعطف عليك، لو أن لبك يهتدي: أي لو أن قلبك يقبل النصيحة. و (هل
لامني) هو جواب عمرتك الله.
وقال سيبويه في الباب المتقدم: زعم أبو الخطاب أن (سبحان الله) كقولك: براءة الله من السوء.
ذكر سيبويه (براءة) مضافة إلى اسم الله، كما يضاف (سبحان) إذا قلت سبحان الله. و (براءة) منونة غير مضافة، كما تترك إضافة سبحان قال الأعشى:
(أقولُ لما جاءني فخرُهُ ... سبحانَ مِن علقمةَ الفاخِر)
فسبحان في هذا البيت غير مضاف، إلا أن (براءة) منصرف لأنها نكرة وأن كانت منونة، و (سبحان) لا ينصرف لأنه معرفة وفي آخره الألف والنون.

(1/109)


الشاهد في البيت على إنه نصب (سبحان) وهو غير مضاف ولم يصرفه.
وعلقمة هذا الذي ذكره الأعشى، هو علقمة بن علاثة، وكان علقمة قد فاخر عامر بن الطفيل وهو ابن عمه، وكان الأعشى مع عامر بن الطفيل.
يقول الأعشى: لما سمعت أن علقمة يفاخر عامرا، أعظمت هذا. وسبحان تبروا. يريد تبرأت من قبح ما فعل علقمة تبروا، يقول: لم ارض به وأنكرته.

استعمال المصدر الميمي مكان المصدر
قال سيبويه في باب ما يكون من المصادر مفعولا: وكذلك المعصية بمنزلة العصيان والموجدة بمنزلة الوجدان، لو كان الوجد يتكلم به.
يريد أن (المفعلة والمفعلة) في هذه المصادر تجري مجرى المادر التي هي اصل، وربما ترك المصدر الذي هو الأصل على (فعل) واكتفوا بـ (المفعلة). فمن ذلك (الموجدة) مصدر وجدت على فلان إذا غضبت عليه. والوجد في الحزن: وجدت به وجدا إذا حزنت على مفارقته.
وقد أتى الوجد في معنى الغضب، وهو عندي معنى قول الهذلي.
وتضْمِرُ في القلب وَجْداً وخِيفا
وقال ابن أحمر:
لَدُنْ غُدْوَةً حتى كَرَرْنَ عَشِيَّةً ... وَقَرَّبْنَ حتى ما يَجِدْنَ مُقَرَّبا

(1/110)


(تَدارَكْنَ حيّاً من نُمَيْرِ بنِ عامرٍ ... أسارَى تُسامُ الذُّلَّ قتلا ومَحْرَبا)
الشاهد فيه قوله (محربا) وهو مصدر لحربته حربا إذا سلبته ماله. وصف خيلا مضت للحاق قوم حتى يدركوهم، كررن: يعني الخيل؛ واللفظ للخيل والمعنى لفرسانها، وقربن: من التقريب في العدو، التي ما يجدن زيادة على القدر الذي يفعلن من العدو، يعني أنهن قد اخرجن جميع ما عندهن من العدو، ولم يبق عندهن منه بقية.
وتداركن لما غزون حيا من نمير، وتسام الذل: تحمل على فعل ما تكرهه على طريق القهر والإذلال، و (قتلا) منصوب بإضمار فعل دل عليه (تسام الذل) كأنه قال بعد قوله: (تسام الذل): تقتل قتلا وتحرب محربا.

نصب الاسم بعد الأدوات المختصة بالأفعال
قال سيبويه قال النمر بن تولب:
(لا تجزعي أن مُتْفِساً أهْلَكْتُهُ ... وإذا هَلْكْتُ فعند ذلك فاجْزَعي)
يقول لامرأته: لا تجزعي على ما أنفقته من مالي أجود به وأعطي من سألني، فإني أن بقيت اكتسبت وسعيد في أمر المال حتى أناله، وإنما ينبغي أن تجزعي إذا مت، لأنه لا يكون لك من سيعى سعي.

(1/111)


والشاهد فيه على نصب (منفسا) بإضمار فعل تقديره: أن أهلكت منفسا أهلكته.

إعمال (ما) عمل ليس
قال سيبويه في باب (ما): فإن قلت ليس زيد إلا ذاهبا، أدخلت ما يوجب كما أدخلت ما ينفي، فلم تقو (ما) في قلب المعنى، كما لم نقو في تقديم الخبر.
يعني أن (ما) على مذهب أهل الحجاز تعمل ما دامت على ترتيب الأصل وبقاء معنى النفي، فإن أدخلت (إلا) بين الاسم والخبر؛ بطل معنى النفي فبطل عملها، لأن الخبر يصبح موجبا بدخول (إلا) وأن تقدم الخبر على الاسم بطل العمل؛ لزوال ترتيب الكلام في الأصل، وترتيب الكلام في الأصل أن يكون الاسم قبل الخبر.
قال سيبويه: وزعموا أن بعضهم قال وهو الفرزدق:
وما أُعيدَ لهمْ - حتى أتَيْتَهُمُ - ... أزمانُ مَروانَ إذ في وَحْشِها غِرَرُ
(فأَصبحوا قد أعادَ اللهُ نعمتَهُمْ ... إذْ هم قريشٌ وإذْ ما مثلَهُمْ بشَرْ)

(1/112)


الشاهد في أعمال (ما) عمل ليس مع تقديم خبرها على اسمها. ومدح الفرزدق بهذا الشعر عمر بن عبد العزيز وكان قد ولي المدينة.
يقول: ما أعيد لأهل المدينة ولمن بها من قريش أزمان مثل أزمان مروان - من الخصب والسعة والخير - حتى وليت أنت عليهم، فعاد لهم مثل ما كانوا فيه من الخير حين كان مروان واليا عليهم.
وقوله: إذ في وحشها غرر، يريد: وحشها لا يذعرها أحد، فهي في غرة من عيشها. ويقال: هو في غرة من العيش، إذا كان في عيش ليس فيه كدر ولا خوف. فأصبحوا بولايتك عليهم قد أعاد الله نعمتهم.
قال سيبويه بعد إنشاد هذا البيت: وهذا لا يكاد يعرف يريد: إعمال (ما) مع تقديم خبرها. وزعم أبو العباس محمد بن يزيد أن (مثلهم) منصوب لا على هذا الوجه، وانه ليس بخبر لـ (ما) وخبر (ما) عنده محذوف. و (مثلهم) منصوب على الحال، والعامل فيه الخبر المحذوف. كأنه قال: وإذ ما في الدنيا مثلهم بشر. وأنكر أبو العباس الوجه الذي ذهب إليه سيبويه من تقديم خبر (ما) مع الأعمال حين اضطر الشاعر، وزعم أن الخبر محذوف.
وحذف الخبر أن لم يكن عليه دليل في الكلام، أو في الحال التي المخبر فيها، لم يجز حذفه. كقولك - وقد جرى ذكر رجل فعل فعلا جميلا، وأحسن إحسانا كثيرا -: عمرو. أي هذا الذي ذكرتهم عمرو. أو يكون مثل قولك - والناس يتراءون الهلال -: الهلال، أي هذا الهلال.
فإن لم يكن عليه دليل فحذفه قبيح. فيكون أبو العباس قد أنكر حمل البيت على وجه

(1/113)


الضرورة في تقديم الخبر، وحمله هو على الضرورة في حذف الخبر.
فإن قال قائل: قد استمر حذف خبر المبتدأ في باب من الأبواب وهو قولك: شربك السويق ملتوتا. . . قيل له: هذا الحذف يكون في المصادر، لأن الخبر فيها على وجه واحد يقع، وهو (إذ كان) و (إذا يكون) فصار كحذف العامل في الظروف وهو (مستقر) لأنه على وجه واحد يقع، فهو معلوم مستغنى عن ذكره. وليس كذا حذف الخبر في البيت.
وجملته: أن سيبويه ذكر أن الضرورة في تقديم الخبر مع الأعمال. وأبو العباس يقول: الضرورة حذف الخبر. فيحتاج أن ننظر أولى القولين بالصواب، فوجدنا قول سيبويه أولى، لأنه ليس أحتاج في قوله إلى تقدير شيء محذوف من الكلام. وفي قول أبي العباس، الضرورة في حذف الخبر، وينبغي أن يحمل الكلام في صحته على ظاهر لفظه، وأنه لم يحذف منه شيء ما أمكن أن يفعل ذلك، فإن لم يمكن حملنا الكلام على أن فيه محذوفا.
وإذا كانت الضرورة في الوجهين جميعا، فالقول: الذي لا يحتاج معه إلى تقدير محذوف.

الظرف - رفعه على الفاعلية
قال سيبويه: قال ذو الرمة:
(وغبراَء يحمي دونها ما وراءها ... ولا يَحْتطِبْها الدهرَ إلا مخاطرُ)

(1/114)


الشاهد فيه إنه رفع (دونها) وجعله فاعلا لـ (يحمي) و (غبراء) مجرور بتقدير (رب) كأنه قال: رب أرض غبراء. يريد أنها مجدبة لا شيء فيها، ولا يرى فيها خضرا، و (دونها) هو المكان الذي هو اولها، يحمي: يمنع من السلوك إلى آخرها وقطعها بالسير؛ لشدته وصعوبة السير فيها، ولا يركبها إلا من خاطر بنفسه. وجواب (رب) في بيت آخر وهو:
قطعتُ بخلقاءِ الدفوف. . .
أي بناقة ملساء الجنبين.

إعراب الاسم بعد (إذا)
قال سيبويه قال ذو الرمة:
أقولُ لها إذْ شمرَ الليلُ واسْوتْ ... بها البيدُ واشتدَّتْ عليها الحرائِرُ
(إذا ابْنُ أبي موسى بِلالاً بَلَغْتِهِ ... فقامَ بفأس بين وصْلَيْكِ جازِرُ)
الضمير في (لها) يعود إلى ناقته، وشمر الليل: ذهب أكثره، واستوت بها البيد: يريد استوى سيرها في البيد ومضت على قصد، واشتدت على الناقة الحرائر: أي الرياح الحارة، وهي جمع حرور. والبيد: جمع بيداء وهي الأرض القفر، وبلال: هو بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري.

(1/115)


دعا على ناقته بالنحر والجزر إذا بلغته ابن أبي موسى. والوصلان تثنيه وصل، والوصل بكسر الواو وإسكان الصاد: ملتقى كل عظمين وهي المفاصل.
ومثله قول الشماخ:
إذا بَلَّغْتِني وحَمَلْتِ رَحلي ... عَرَابَةَ فأشْرقي بدمِ الوتينِ
قال سيبويه قال ذو الرمة:
فأنْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ ... مَهْرِيةٍ مَخَطَتْها غِرْسَها العِيدُ
نَظارةٍ حين تعلو الشمسُ راكبَها ... طَرْحاً بعَيْنَي لياحٍ فيهِ تَحديدُ)
وجدت البيت منسوبا في الكتاب إلى الراعي، ووجدته لذي الرمة.
قال سيبويه: وإن شئت نصبته على إضمار فعل آخر، ويكون بدلا من اللفظ بالفعل. يعني أن شئت نصبت المصدر الذي تذكره بعد الفعل، على إضمار غير الفعل الذي لفظت به، ويكون هذا المصدر الملفوظ به كأنه بدل في اللفظ من الفعل الذي نصبه فتقول: سير عليه سيرا، وضرب به ضربا، كأنك قلت بعد ما قلت: سير عليه، وضرب به: يسيرون سيرا ويضربون ضربا

(1/116)


وينطلقون انطلاقا، ولكنه صار المصدر بدلا من اللفظ بالفعل.
ثم مضى سيبويه في كلام بعد هذا إلى أن انتهى إلى ما أنشده المقدم ذكره. والذي أنشده هو شاهد على إضمار فعل ناصب للمصدر الذي قد ظهر اللفظ به، وهو قوله: (طرحا) (وجعل ما أضمره بعد قوله: سير عليه (يسيرون سيرا) وضرب به (يضربون ضربا) مثل إضمار (تطرح) قبل قوله (طرحا).
نم القتود: ارفعها، والقتود: خشب الرحل. يريد ارفعها على الراحلة، شد الرحل عليها. والعيرانة: الناقة المشبهة بالعير في نشاطها وخفتها في العدو، ومهرية: من إبل مهرة بن حيدان، والعيد: قبيلة من مهرة ينسب كرام الإبل اليها، والغرس: السلا، وهو الجلدة التي تكون على الولد، ومخطتها غرسها: نتجتها هذه القبيلة.
فجعل العيد لما كان نتاجها عندهم بمنزلة من استخرج الولد، يريد: مخطت العيد هذه الناقة، استخرجتها من بطن أمها وهي في الغرس. وتفسير قوله: (مخطتها) هو تفسير على ما رأيته صوابا عندي، والذي قال بعض الرواة: مخطتها أشبهتها. نظارة: يريد أنها تنظر نظرا حادا من النشاط وقوة النفس ينتصف النهار وتكون الشمس على رأس راكبها، وتطرح طرفها طرحا، وتنظر بعين لياح: وهو الثور الأبيض.
وفي كتاب سيبويه (تحديد) بحاء غير معجمة، وفي شعره (تجديد) بجيم. أي في
هذا الثور طرائق من سواد، والجدة الطريقة والجمع جدد. وقوله: فيه تحديد، أي في نظرة تحديد إلى ما ينظر إليه.

(1/117)


جواز حذف عامل الحال
قال سيبويه في: باب ما جرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل، مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل: فأما قول الله عز وجل (بلى قادرين) فهو على الفعل الذي أظهر كأنه قال: نجمعها قادرين، حدثنا بذلك يونس. ومعنى (فهو على الفعل الذي أظهر): يريد إنه أضمر (نجمعها) قبل (قادرين) لأنه قد ظهر قبل هذا الكلام: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه) فدل قوله تعالى: (نجمع عظامه) على إضمار (نجمع) قبل (قادرين).
قال: قوله - وهو الفرزدق -:
ألم تَرَني عاهدْتُ ربي وإنني ... لَبَيْنَ رِتاجٍ قائما ومَقامِ
على حَلْفَةٍ لا أشْتمُ الدْهرَ مُسْلِماً ... ولا خارجا مِن فِيَّ زُورُ كَلامِ
الشاهد على إنه أضمر الفعل قبل (خارجا) كأنه قال: ولا يخرج خارجا، وهو اسم الفاعل في موضع (خروجا) الذي هو المصدر، وعطف (ولا يخرج) على قوله (ولا اشتم) جوابا للقسم، والقسم الذي هذا جوابه: (عاهدت) كأنه قال: حلفت بعهد الله لا أشتم الدهر مسلما، ولا يخرج من في زور الكلام

(1/118)


خروجا. و (لا أشتم ولا يخرج) هما جواب القسم فيما يستقبل من الأوقات. وقال سيبويه: ولو حملته على إنه نفى شيئا هو فيه، ولم يرد أن يحمله على (عاهدت) لجاز، وإلى هذا الوجه كان يذهب عيسى.
يريد أن قوله (لا أشتم) في موضع الحال، وهو معنى قوله (نفى شيئا هو فيه) أي نفى ما في الحال ولم ينف المستقبل. يريد إنه حلف وهو غير شاتم ولا خارج من فيه زور كلام.
وقد أجاز سيبويه الوجهين جميعا، والكلام محتمل لهما. وقد قيل: أن الجواب يجوز أن يكون جوابا لقوله (على حلفة). ويكون تقدير الكلام: ألم ترني عاهدت ربي على أني أحلف لا أشتم ولا يخرج من في قبيح.
والرتاج: الباب، يريد باب الكعبة، والمقام: مقام إبراهيم عليه السلام. وكان الفرزدق حلف لا يقول الشعر، وأقبل على قراءة القرآن، ثم رجع عن هذا.

الإضافة إلى الظرف الفاصل بين العامل
ومعموله
قال سيبويه قال الاخطل:
عَروُفٌ لإضعاف المَرازِئ مالَه ... إذا عَج منحوتُ الصَّفاة بخَيلُها
(وكَرارِ خلفِ المجْحَرِينَ جوادَهُ ... إذا لم يُحامِ دون أنْثَى حليلُها)
الشاهد فيه إنه أضاف (كرار) إلى (خلف). والظرف نصب، إذا نصب المفعول على السعة جاز أن يضاف إليه كما يضاف إلى المفعول به.
والعروف: الصبور وهو العارف، الإضعاف: مصدر أضعف يضعف من المضعف، ضعف الشيء وأضعفته

(1/119)


أنا، والمرازئ: الأمور التي إذا وقعت أوجبت ذهاب المال، واحدها مرزئة.
يمدح بذلك همام بن مطرف التغلبي يقول: هو صبور على هد المرازئ ماله. ومعنى عج: صاح وضج، والصفاة: الصخرة، والمنحوت: الذي يؤخذ منه شيء بعد شيء بشدة.
يقول: هو يعطي إذا ضج من السؤال الرجل الذي يعطي اليسير بعد شدة، ويكون ما يؤخذ منه بمنزلة ما ينحت من الصفاة، وبخيلها: يريد إنه بخيل النفس، و (كرار) معطوف على الأول، والمرهقون: الذين لحقتهم الخيل. يريد إنه يكر
جواده خلفهم حتى يستنفذهم. حفاظا: محافظ على ما يوجبه الكرم في الوقت الذي لا يقاتل الرجل عن امرأته ويفر عنها، وذلك إذا عظم واشتد.

المصدر النائب عن فعله - في الدعاء
قال سيبويه قال الاخطل:
رفَّعْنَ أصْلاً وعُجْنا من نَجائِبنا ... وقد تُحُينَ من ذي حاجةٍ سَفَرُ
(إلى امْرئ لا تُعَرينا نوافِلُهُ ... أظْفَرَهُ الله فَلْيَهنَأ له الظَّفَرُ)
يمدح بهذا عبد الملك بن مروان، ورفعن: يريد انهم رفععوها في السير فترفعت، أي زادت في السير. وجعل (رفعن) بمعنى ترفعن وارتفعن. والأصل: العشي، وعجنا: عطفنا، وقيل: عجنا: كففنا بعض سيرها، وتحين

(1/120)


السفر، يريد: تحين من صاحب حاجة السفر، أي أنى وقت سفره.
وقوله (إلى امرئ لا تعرينا) أي تذهب فواضله عنا في وقت من الأوقات. ورواية الكتاب: (إلى إمام تغتدينا فواضله) والنوافل: ما يعطيه من الأشياء التي لا تلزمه. والفواضل مثل النوافل.

إضافة الصفة المشبهة إلى النكرة
قال سيبويه في باب الحسن الوجه، قال حميد الارقط:
غَيْرانَ مِيفاءٍ على الرُّزونِ
حَدَّ الربيعَ أرِنٍ أَرُونِ
لا خَطِلِ الرَّجْعِ ولا قَرونِ
(لاحقِ بَطْنٍ بِقَرا سَمِينِ)
الشاهد فيه إنه قال (لاحق بطن) فجعل البطن نكرة بعد نقل الضمير عنه، ولم يدخل عليه الألف واللام.
يصف عير وحش. و (غيران) مجرور نعت لاسم مجرور قد تقدم ذكره، والغيران: من الغيرة على اتنه، والميفاء: المشرف، يقال: أوفى على كذا إذا أشرف عليه. والارن: النشيط، والارون مثله، والارن: النشاط. (لا خطل الرجع) الخطل: الاضطراب. يريد أن قوائمه لا تخطل: أي لا تضرب إذا رجع قوائمه ثم وثب في عدوه. وقيل في القرون: إنه لا يجمع بين خطوتين، ومعناه عندي إنه لا تقع حوافر رجليه مواقع حوافر يديه.
والقرا: الظهر، واللاحق: الذي لحق بطنه بظهره،

(1/121)


ويريد إنه ضامر البطن لا من هزال وقلة مرعى، لكن لشغله بالأتن وغيرته عليها من الفحول.