شرح أبيات سيبويه اسم (إنّ) ضمير الشأن محذوف
قال سيبويه في باب الجزاء، قال الراعي:
أقولُ وقد زال الحمول صبابةً ... وشوقاً ولم أطمعْ بذلك مطمعا
(فلو أنَّ حقَّ اليومَ منكمْ إقامةُ ... وإنْ كان سرحُ قد مضى فتسرّعا)
ويروى: وإن كان سِربُ.
(2/47)
الشاهد في البيت الثاني الذي أنشده على أنه
حذف اسم (أنّ) وهو ضمير الأمرْ والشأن، وتقديره: فلو أنه حقَّ اليومَ
منكم إقامة. والحمول: الإبل التي عليها الهوادج التي فيها النساء، و
(صبابة) مصدر منصوب مفعول له، وزالوا: ابتدروا الرحيلْ وزالوا عن
الموضع الذي كانوا فيه مقيمين.
والذي حكاه - أنه قال - هو البيت الثاني، وما بعد القول - في البيت
الأول -
ليس بمحكيّ، إنما المحكيّ قوله. فلو أن حق اليوم منكم. . . إلى آخر
البيت. وقوله: ولم أطمع مطمعاً؛ يريدْ ولم أطمع في قبولهم مني، ولكنّ
ما أجده من الحزن عليهم حملني على الكلام. وحق بمعنى وجبْ وكان حقاً،
ويقال: حققتُ الأمرْ وأحققته إذا تحققته.
والمعنى: لو حققْتُ إقامتكم بعد أن عرف أنكم قد أجدتم في الرحيل، لكنتم
بما تفعلون محسنين إليّ، أو لشكرتم أو ما أشبه ذلك. وحذف جواب (لو).
ومعنى قوله: (وإن كان سرح قد مضى فتسرعا) يريد لو عزمتم على الإقامة،
وإن كان ثقلكمْ ومتاعكم قد سار قبلكمْ وتسرع. أراد منهم أن يقيمواْ وأن
يردوا ما قدموه قدّامهم في المسير.
ومن روى (وإن كان سرب) أراد به أن قطعة من نساء الحي كانت قد سارت،
ويروى: (وإنّ أحقَّ الناس منكمْ إقامةُ) يريد: إن أحق واجب الناس من
فعلكم الإقامة، كما تقول: إن أولى ما تفعلونه الإقامة. يريد إن أحق ما
صنعتم الإقامة.
(2/48)
عطف الظاهر على
المضمر المرفوع - ضرورة
قال سيبويه: (اعلم أنه قبيح أن تقول: ذهبتُ وعبد الله، أو ذهبتْ وأنا،
لأن (أنا) بمنزلة المظهر، ألا ترى أن المظهر لا يشركه إلا أن يجئ في
الشعر. قال الراعي:
وجدتُ سوامَ الحيِّ عَرَّضَ دونه ... فوارس أبطالُ لطافُ المآزِرِ
فلما لحِقْناْ والجيادُ عشيةً ... دَعوْا: يالكَلبٍ، واعْتَزَيْنا
لِعامرِ
ذكر الراعي هذا الشعرْ وخاطب فيه ابنَ نعاج الكلبي، وكان قاتَلَ بني
نمير في فتنة ابن الزبير. وقوله: عرّض دونه: اعترض دونَهْ ومنع من
أخذه. وقوله: لطافُ المآزِرِ أي خماص البطون لطاف الأعجاز، والفرسان
توصف بالرَّسَح وقيل أيضاً فيه: إنهم يلبسون رقاق الثيابْ وحسانها،
فإذا ائتزروا لم تعظم عكا
أزرِهِمِ لنعمة ثيابهم ورقتها. وعُكوة الإزار: الموضع الذي يشد
(2/49)
فيه طرفا الإزار، والعكوة لا تعظم حتى يكون
الثوب الذي يؤتزر به جافياً غليظاً.
فلما لحِقْنا: يريد لحقناهم بعد إغارتهمْ ونحن على الخيل الجياد، دعوا:
يالكَلبٍ، واعتزينا: انتسبنا إلى عامر. وغير: هو غير بن عامر بن صعصعة.
في الاستثناء المنقطع
قال سيبويه: (وأما بنو تميم فيرفعون هذا كله يجعلون (اتّباع الظن)
علمهم، وحسن الظن علمه: والتكلف سلطانه. وينشدون بيت ابن الأيهم
التغلبي رفعاً). قال عمرو بن الأيهم التغلبي، ويقال: عمير ابن الأيهم:
قاتلَ الله قيسَ عيلانَ قوماً ... ما لهم دونَ غَدْرَةٍ من حِجابِ
ليس بينيْ وبين قيسٍ عِتابُ ... غيرُ طعنِ الكُلَىْ وضربِ الرقابِ)
الشاهد في البيت الثاني على رفع (غير) وهي مرفوعة على أنها بدل من
(عتاب) وهي في موضع قوله (إلا طعنُ الكلى) على أن الطعن بدل من (عتاب)
كما تقول: ما جاءني أحد إلا زيدُ، وما جاءني أحد غير زيد.
يقول هذا الشاعر: إن قيس عيلان لا يحجبها عن الغدر شيء، يعني أنها لا
تستقبحه فتمتنع منه. ثم قال: ليس بينيْ وبين قيسٍ عِتابُ، يريد أن قومه
(2/50)
لا يصالحون قيساً، والعتاب يكون للاستصلاحْ
وإزالة ما بينهم من الشحناءْ والبغض.
مجيء (أم) منقطعة
قال سيبويه: (وإن شئت قلت: هل تأتيني أم تحدثني، وهل عندك برُّ أم
شعير؛ على كلامين، وكذلك سائر حروف الاستفهام التي ذكرنا، وعلى هذا
قالوا: هل تأتينا أم هل تحدثنا).
ومعنى قوله: (على كلامين) يريد أن الكلام جملتان: جملة تامة بعد (هل)
وجملة
بعد (أم)، وليس الفعل الذي بعد (أم) معطوفاً على الفعل الذي بعد (هل)
كما قالوا ذلك في الفعل، لأن (أم) إذا عطفت ما بعدها من اسم أو فعل على
ما قبلها، إنما تعطف إذا كانت ألف الاستفهام في صدر الكلام، وكانت هي
عاطفة على ما بعد الألف، فإن كان في أول الكلام حرف سوى الألف من حروف
الاستفهام، لم تكن (أم) عاطفة على ما بعده، فلذلك جعل هذا الكلام
جملتين.
قال الجحّاف بن حكيم السلمي:
(أبا مالكٍ هل لمْتني مذْ حضَضْتَني ... على القتلِ أم هل لامني لك
لائمُ)
ألم أُفنكُم قتلاًْ وأجدَعْ أنوفكُم ... بفتيانِ قيسٍ والأنوفِ
الصّوارِمِ
ويروى: أو هل لامني. و (أو) تكون عاطفة على ما بعد (هلّ) وغيرها من
حروف الاستفهام، كما تكون عاطفة على ما بعد الألف. فمن قال: (أو هل)
(2/51)
جعل الكلام كلاماً واحداً، وأعاد (هل) على
طريق التوكيد، ومن قال (أم هل) فإنه استأنف الاستفهام بها، ودخل الكلام
معنى الانصراف عن الأول.
وأبو مالك هو الأخطل، وكان الأخطل لقي الجحاف بن حكيم عند عبد الملك بن
مروان، فقال له:
ألا سائلِ الجحّافَ هل هو ثائرُ ... بِقَتْلَى أُصيبَتْ من سُلَيمٍْ
وعامرِ
فخرج الجحاف مغضباً، وجمع جمعاً لبني تغلب، وأظهر أنه قد ولاه عبد
الملك صدقانهم، ثم أغار عليهم بالبِشْر فأثخن فيهم. وحديثه معهم مشهور.
فلما اجتمع الجحاف مع الأخطل بعد الوقعة عند عبد الملك، قال له الجحاف:
هل لمتني على تفريطي في قتل بني تغلب؟ يريد أنه لم يكن منه تفريط
فيُلام. وهذا على طريق الهزء بالأخطل.
الوصف بـ (غيرّ) وهي بمنزلة (إلا)
قال سيبويه في باب وقوع (إلا) وصفاً بمنزلة (غير)
تقول: (لو كان معنا رجل إلا زيدُ لغُلبنا) وأنشد بيت ذي الرمة. ثم قال:
(2/52)
(ومثل ذلك: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين
غير أولي الضرر) يريد أن (غير) في هذا الموضع وصف، و (إلا) لو وقعت فيه
في موضع (غير) جاز أن يوصف بها. وكذا قوله جلْ وعز (صراط الذين أنعمت
عليهم غير المغضوب عليهم)، قال: (ومثل ذلك في الشعر قول لبيد:
وإذا جوزيتَ قَرْضاً فاجْزِهِ ... إنما يَجْزي الفتى غيرُ الجَمَلْ)
يريد أن الفتيان الفضلاء العقلاء يكافئون على الجميل، فأما البهائم فلا
تكافئ على ذلك، لأنها لا علم لها.
يقول: فإن لم تكافئ فأنت مثل الجمل في أنه لا عقل لكْ ولا لب.
مجيء (ذا) بمعنى (الذي)
قال سيبويه: (أما إجراؤهم (ذا) بمنزلة (الذي) فهو قولهم: ماذا رأيت؟
فتقول: متاعُ حسن). وقال لبيد:
(ألا تسألان المرَء ماذا يُحاولُ ... أنَحبُ فيُقْضَى أُمْ ضَلالُ
وباطلُ)
(2/53)
أراد: ما الذي يحاول.
والشاهد فيه أنه رفع (أنَحبُ) وجعله استفهاماً مفسراً لقوله: ماذا
يحاولْ و (ذا يحاول) مرفوع لأنه خبر (ما) ومعناه: أي شيء الذي يحاول.
ولو كانت (ذا) مع (ما) كشيء واحد، لكان (ماذا) منصوباً بـ (يحاول)،
وكان قوله (أنَحبُ) منصوباً لأنه استفهام مفسر للاستفهام الأول فهو على
إعرابه، وكان المعطوف عليه منصوباًْ وهو قوله (أنَحبُ فيُقْضَى أُمْ
ضَلالاً وباطلاً).
ومعنى يحاول: يزاولْ ويعالج. يقول: عليه نذر في الاجتهاد في طلب
الدنياْ والسعي في تحصيلها، فهو يسعى في الوفاء بنذره، أم هذا الفعل
منه ضلالْ وباطل. و (نحب) مرفوع خبر ابتداء محذوف، كأنه قال: أهو نحب
أم ضلال.
إظهار الضمير بعد (كأنّ) لأنها حرف
قال سيبويه: (وكذلك: أهو هو، وقال الله عزْ وجل: (كأنه هوْ وأوتينا
العلم) فوقع (هو) هنا لأنك لا تقدر على الإضمار (الذي) في فَعَلَ. وقال
لبيد:
كسفينةِ الهنديِّ طابَقَ دَرْأها ... بسقائفٍ مشبوحةٍ ودِهانِ
فالتْامَ طابِقُها القديمُ فأصبَحَتْ ... ما إنْ يُقوِّمُ دَرَْءها
رِدْفانِ
(2/54)
فكأنها هي بعد غِبِّ كَلالِها ... أو أسفعُ
الخديْنِ شاةُ إرانِ)
شبه راحلته بمركب من مراكب الهند. يريد إن إسراعها كإسراع مركب تسيره
الريح. وطابق: بمعنى تابع، والدرء: العَوَج. يريد أنه أصلحه مرة بعد
مرةْ والسقائف: ألواح السفينة، والمشبوحة: المعرضة، والدهان يريد به
الشحم الذي يطلى به المركب، فالتام: يريد به فالتأم فأبدل من الهمزة
ألفاً، والطابق: موضع معوج يخرج منها.
يريد أنه استوى العَوج الذي كان في هذه السفينة. وأصل الطابق الحَيْد
الذي يخرج من الجبل فيبدو، وكذلك ما يخرج من طي البئر في عرضها.
فأصبحت السفينة ما يُقوَّم درءُها، يريد أنه لا يعد لها - إذا جنحت -
ملاحان يقفان في كَوثلها ويمسكان السُكانْ ويقومانه لسرعتها، وعبّر عن
الملاحَين بالردفين لأنهما يقومان في آخر السفينة، يمسكان السكانْ
ويقومانه. (فكأنها) يعني راحلتهْ و (هي) يعني هذه السفينة. يقول كأنّ
راحلتي هذه
(2/55)
السفينة التي وصفتها. وغِبِّ كَلالِها: بعد
كلالها، وهو تعبها، وأسفعُ الخديْن: يعني ثوراً.
يقول كأنها سفينة أو ثور من ثيران الوحش إذا عدا، والسفعة: شبيه
بالسواد يرى في جُدَته، والشاة: الثور الوحشي، والإران: النشاط.
المجازاة بـ (أنَّى)
قال سيبويه: (وما يُجازى به من الظروف: أيَّ حين، ومتى، وأين، وأنَّى،
وحيثما). ثم ذكر أشياء سوى هذه الكلمات، وأنشد أبياتاً حتى انتهى إلى
قول لبيد:
(فقلتُ ازْدَجِرْ أحناَء طيرِكَْ واعْلَمنْ ... بأنّكَ إن قدمتَ رِجلكَ
عاثِرُ
فأصبَحْتَ أنَّى تأتِها تلتَبِسْ بها ... كِلا مَرْكَبَيْها تحت
رِجليكَ شاجِرُ)
يخاطب لبيد بهذا الكلام عمه عامر بن مالك، وكان لبيد قد عتب عليه في
شيء عمله به. وازْدَجِرْ أي ازجر، وأحناءَ كل شيء جوابه، ومعنى ازجر
طيرك: انظر فيما تعملهْ وتأمل، أأنت مخطئ أم مصيب فيما تصنعه بي، وانظر
في أمرك من كل نواحيه، وقلبه ظهراً لبطن. وأراد
(2/56)
بقوله: إن قدمتَ رِجلكَ عاثِرُ؛ أنك إن
استعجلته فيما تريد أن تعمله - من تقديم غيري عليّ - عاثر، فينبغي أن
تتثبتْ ولا تعجل.
وقوله: فأصبَحْتَ أنَّى تأتِها، أي من أين أتيت هذه الخطة التي وقعت
فيها تلتبس بها، أي تلتبس بمكروهها وشرها. ويروى: تبتئس بها، أي يقربك
البأس من أجلها، كلا مركبي الخطة - إن تقدمت أو تأخرت - شاجر، أي مختلف
مفرق، والشاجر: الذي قد دخل بعضه في بعضْ وتغير نظامه، وأراد بالمركبين
قادمة الرحلْ وآخر تهْ وهذا على طريق المثل.
يقول: لا تجد في الأمر الذي تريد أن تعمله مركباً وطيئاً، ولا ترى فيه
رأياً صحيحاً، أي موضعك أين ركبت منه آنذاك، وفرّق بين رجليك فلم تثبت
عليهْ ولم تطمئن.
الوصف بـ (إلا) بمنزلة (غير)
قال سيبويه في باب ما يكون فيه (إلاْ وما بعدها) وصفاً بمنزلة (مثلْ
وغير). قال لبيد:
فقلت ليس بياضُ الرأس عن كِبَرٍ ... لو تعلمينْ وعند العالِم الخَبَرُ
لو كان غيري - سليمى اليومَ - غيره ... وقعُ الحوادِثِ إلا الصارمُ
الذَكرُ)
(2/57)
و (غيري) اسم كانْ و (سليمى) مناداةْ و
(غيّره، وما اتصل به) في موضع خبر كان. وقوله: (إلا الصارم) وصف لـ
(غيري).
والمعنى أنه لو كان غيره من الأشياء في موضعه، لغيرته الحوادث، إلا
السيف فإنه لا يتغير، فأنا مثل السيف في أني لا أتغير. على هذا فُسّر.
وقد يجوز أنه لو كان غيره من الأشياء لتغير كتغيري، إلا السيف. وهذا
الوجه الثاني رأيت معنى الشعر يحتمله، وليس ببعيد عندي.
قال سيبويه: (ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيدُ، وأنت تريد أن تجعل
الكلام بمنزلة (مثل) إنما يجوز ذلك صفةً. ونظير ذلك من كلام العرب
(أجمعون) لا يجري في الكلام إلا على اسم، ولا يعمل فيه ناصبْ ولا جارّ
ولا رافع).
أراد أن (إلا) إذا جعلت وصفاً بمنزلة (غير) لا يحذف الموصوف قبلها كما
يحذف في (غير) إنما تكون (إلا) صفة إذا تقدمها موصوف، وشبه هذا بـ
(أجمعين) التي تكون توكيداً لشيء تقدمها، ولا يجوز أن يحذف المؤكد
معها، وتدخل عليها العوامل، كما تفعل ذلك في غيرها من ألفاظ التوكيد،
تقول: جاءني القوم كلُّهم، ورأيت القوم كلُّهم، ومررت بالقوم كلُّهم.
فـ (كل) في هذه المواضع توكيد، فإن حذفت المؤكدْ
(2/58)
وأدخلت العوامل على (كل) جاز، فقلت: جاءني
كلهمْ ورأيت كلهمْ ومررت بكلهم، ولا يجوز هذا في (أجمعين)، لا تقول:
جاءني أجمعون، ولا رأيت أجمعين، ولا مررت بأجمعين. وجعل سيبويه غيراً
مشبهه لـ (كل) في أنها تارة تجري على موصوف قد تقدمها، وتارة تدخل
العوامل عليها. وجعل (إلا) بمنزلة (أجمعين) لا يجوز أن تأتي إلا
متقدماً عليها ما تكون وصفاً له.
وقال حضرميُّ بن عامر بن مجمع:
(وكلُّ قرينةٍ قُرِنَتْ بأُخرى ... وإن ضَنَّتْ بها ستَفَرَّقان
وكلُّ أخٍ مُفارٍقُه أخوه ... لعَمْرُ أبيك إلا الفرقدانِ)
ورأيت البيت في الكتاب منسوباً إلى عمرو بن معد يكرب. المعنى: وكل نفس
مقرونة بنفس أخرى ستفارقها، يعني أن كل اثنين يحب كل واحد منهما الآخر،
سيقطع عنه، وإن كان ضنيناً به، شديد التمسك بإخائهْ ومودته، لأن هذا
شأن الدنياْ وسبيلها. والفرقدان من النجوم معروفان.
والشاهد أنه جعل (الفرقدان) وصفاً لـ (كل).
جواز الرفع بعد (أو) على الاستئناف
قال سيبويه: (وتقول: هو قاتلي أو أفتدي منه. وإن شئت ابتدأته كأنه قال:
أو أنا أفتدي منه). قال طرفة بن العبد:
(2/59)
فلو كان مولاي امرءاً هو غيْرُه ...
لفرَّجَ كَرْبي أو لأنْظَرني غَدي
(ولكنَّ مولاي امرؤُ هو خانقي ... على الشكرْ والتَّسآل أو أنا مفتدي)
ذكر طرفة قبل هذين البيتين ابن عم له، عَتَبَ عليه في شيء صنع به.
والمولى في هذا البيت ابنُ العم. يقول: لو كان ابن عمي غير هذا لفرّج
عني ما أجده من الكرب، وأعانني على ما أريده حتى أبلغ محبتي. وقوله:
لأنظرني غدي، أي تأنى في أمريْ وأمهلنيْ ولم يعجل عليّ بالملامة، حتى
أصير إلى ما يحب.
ويقال: أنظِره غدَه: أي دعه حتى يرجع إلى ما تحب بعد هذا الوقت. ثم
قال: (ولكنَّ مولاي امرؤُ هو خانقي)، يقول: ابن عمي هذا يضطرني إلى
شكره من غير سبب يوجب الشكر، فلا يترك أن يخنقني على ذلك حتى أفتدي منه
بمال أعطيه.
وقيل في قوله (أو أنا مفتدي): أي أو أنا هارب منه، تارك معه غيري من
بني عمي، افتدي منه بمن تركته في يده.
والشاهد في البيت قوله: أو أنا مفتدي، أي بهذه الجملة على طريق
الاستئناف. وجعله سيبويه شاهداً على جواز رفع الفعل لو وقع موقع هذه
الجملة التي هي مبتدأْ وخبر.
(2/60)
في نصب المضارع بعد (أنْ)
قال سيبويه: (ولو قلت (مُرْهُ يحفِرها) على الابتداء لكان جيداً، وقد
جاء رفعه على شيء هو قليل في الكلام على (مره أن يحفِرها) فإذا لم يذكر
(أن) جعلوا الفعل بمنزلته في: عسَيْنا نفعل، وهو في الكلام قليل لا
يكادون يتكلمون به، فإذا تكلموا به، فالفعل كأنه في موضع اسم منصوب.
وقد جاء في الشعر، قال طرفة بن العبد:
(ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوَغى ... وأن أشهدَ اللذّاتِ هل أنت
مُخْلدي)
الشاهد فيه أنه حذف (أنْ) من قوله (أن أحضرُ الوَغى) فإن قال قائل: وما
الذي أحوج إلى تقدير (أنْ) قيل له: معنى الكلام أحوج إلى هذا، لأن
الزاجر لطرفة زجره عن شيء من أفعاله فـ (عن) مقدرةْ و (أنْ) حذفت من
الكلام، و (عن) من حروف الجرْ ولا تدخل على الأفعال، وإنما تدخل على
الأسماء، و (أنْ والفعل) في تأويل اسم هو مصدر.
فأصل الكلام: ألا أيُّهذا الزاجري عن أن أحضرُ الوَغى. يريد عن حضور
الوغى، وحذف (عن) فصار (أن أحضرُ الوَغى) ثم حذف (أنّ) ورفع الفعل.
وقوم من أهل الكوفة، يرون النصب في هذا الفعل بعد حذف (أنّ) وقد روي:
ألا أيها اللاحيَ أن أحضرَ الوغى
وهذه الرواية فيها (أن) ثابتة،
(2/61)
والوغى: الأصوات في الحرب، والوغى: الحرب.
يقول: يا أيها الرجل، أنت تلحانيْ وتزجرني حتى لا أحضر الحرب، وتلومني
على حضورهاْ وعلى أن أنفق مالي في شرب الخمرْ واللذات، وأنا قد علمت
أني
ميت، لا يمكنني أن أدفع الموت عن نفسي، فإن كنت أنت يمكنك أن تدفع عني
الموت، أطعتك فيما تأمرني به من إمساك مالي، وترك إنفاقي. وإن لم يمكنك
هذا فاتركني أصرف مالي فيما أشتهي في أيام حياتيْ وانتفع به.
في الاستثناء المنقطع
قال سيبويه: (ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطان إلا التكلف، لأن
التكلف ليس من السلطان).
ذكر سيبويه باب الاستثناء الذي المستثنى فيه ليس من نوع المستثنى منه،
وذكر في أوله أشياء مستثنيات مما تقدم من الأجناسْ والجواهر. ثم قال:
(ومن ذلك من المصادر: ما له عليه سلطان إلا التكلف) أي: هذا الضرب من
الاستثناء يقع في كل شيء، من الأشخاصْ والمعاني. ثم قال: (ومثل ذلك
قوله عزْ وجل: (ما لهم به من علم إلا إتباع الظن) يريد الله تعالى: وما
لليهود بما ادّعوا من قتل المسيح - عليه السلام - علم، إنما أدعوا قتله
على ظن منهم، والظنْ وإتباعه ليس من العلم في شيء.
(2/62)
وقال النابغة:
(حلفتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنويَّةٍ ... ولا علمَ إلا حسنَ ظنٍ بصاحبِ)
مثنوية: استثناء، و (غير) نصب على الحال، والحال من التاء المتصلة بـ
(حلفتُ).
ولا علم لي بحال ما أذكره، من حال هذا الذي أمدحه - وهو الحارث الجفني
- إلا أني أحسن الظن به، وكأني متحقق أنه يفعل ما وقع لي؛ من قصده لغزو
أعدائهْ واستباحتهم. وبنو تميم يرفعون فيقولون: (إلا حسنُ ظنٍ بصاحبِ)
بالرفع، ويجعلون الباب كالمتصل على ضرب من التأويل قد ذكره سيبويه.
مجيء (إلا) بمعنى (لكنْ)
قال سيبويه في باب ما لا يكون إلا على معنى لكنْ: (ما زاد إلا ما نقص،
وما نفع إلا ما ضر) أراد: ما زادْ ولكنه نقص، وما نفعْ ولكنه ضر، ولا
يجوز في هذا أن يتأول أنه في معنى (ما يكون) من نوع الأول كما تؤول في
الباب المتقدم. هذا لا يكون إلا على معنى (ولكنْ).
وقال النابغة:
(2/63)
(ولا عيبَ فيهم غيرَ أنّ سيوفَهم ... بهنّ
فُلولُ من قِراعِ الكتائبِ)
يمدح آل جفنة الغسانيين. والفلول: جمع فلٍّ وهو الثَّلم الذي يكون في
السيف. والمعنى: أنهم يغزون كثيراً ويضاربون الأقران، فسيوفهم قد
تفللت. والقراعْ والمقارعة: المضاربة بالسيوف. وقوله: ولا عيب فيهم غير
أن سيوفهم مفللة، هو بمنزلة قوله: ليس فيهم عيب على وجه، لأنه إذا كان
تفليل سيوفهم هو عيبهم - وهذا المعنى يمدح به - فلا عيب فيهم على وجه.
وهذا يقوله الناس على طريقة المبالغة في المدح، أي قد اختاروا لأنفسهم
أشرف الأفعال، فأقل ما فيهم من أسباب الشرف، أجلّ ما يمدح به الناس.
ومثله:
إذا ما فرَرنا كان أَسْوَا فرارِنا ... خُطانا إلى أَعدائنا فنضاربُ
بناء (حين) لإضافتها إلى مبني
قال سيبويه في الاستثناء في باب: ما يكون فيه أنّ وأنْ مع صلتهما
بمنزلة غيرهما من الأسماء:
(وزعموا أن ناساً من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع. فقال
الخليل: هذا كنصب بعضهم (يومئذ) في كل
(2/64)
موضع، وكذلك (غير أن نطقت) وكما قال
النابغة):
فأَسبلَ مني عَبْرةُ فردَدْتُها ... على النَّحرِ منها مستهِلُ ودامعُ
(على حينَ عاتبْتُ المشيب على الصِّبا ... وقلْتُ: ألمّا تَصْحُ
والشيبُ وازعُ)
والدامع: الذي يخرج شيئاً بعد شيء. يريد أنه لما عرف الديار التي كان
حل بها، وتذكر من كان يهواه فيها، بكىْ وعاوده وجده فعاتب نفسه على
صبابتها، وعذلها على بكائها، ثم خاطب نفسه فقال: ألمّا تَصْحُ. . .
يوبخ نفسه أو قلبهْ ويقول: قد آن لك أن تصحو، ويزول عنك ما كنت تجده
بمن كنت تهواه، والشيب وازع: أي كافُّ عن أمثال هذا الفعل الذي تفعله.
(2/65)
والشاهد فيه أنه فتح (حينَّ) وبناها على
الفتحْ وهي في موضع جر، لأنه إضافة إلى شيء غير متمكنْ وهو الفعل
الماضي.
المختار في الاستثناء المنقطع
قال سيبويه في الاستثناء، في باب ما يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من
نوع الأول: (وأما بنو تميم فيقولون، لا أحد فيها إلا حمارُ، أرادوا ليس
فيها إلا حمارُ ولكنه ذكر (أحدُ) توكيداً. ثم انتهى في كلامه إلى أن
قال: (وعلى هذا أنشدت بنو تميم قولَ النابغة:
يا دارَ ميَّةَ بالعلياءِ فالسّنَدِ ... عيَّتْ جواباً وما بالرَّبْع
من أحدِ
(إلا أواريُّ لأي ما أُبَينُها ... والنؤيُ كالحوضِ بالمظلومةِ
الجَلَدِ)
هذا الإنشاد وقع في الكتاب، ضم إلى نصف البيت الأول نصف الذي بعده.
وإنشاده:
يا دارَ ميَّةَ بالعلياءِ فالسّنَد ... أقوتْ وطالَ عليها سالفُ
الأَبَدِ
(2/66)
وقفتُ فيها أُصيْلاً أُسائلها ... عيتْ
جواباًْ وما بالرَّبعِ من أحَدِ
وليس تغيير هذا الإنشاد مما يؤثر في الموضع الذي أراده سيبويه من
البيت، لأنه أراد أنهم استثنوا الأواريّ من الناس، كأنه قال: وما
بالرَّبْع أحد إلا أواريُّ. والاستثناء إنما وقع مرفوعاً على البدل من
موضع (مِن) كأنه قال: وما بالرَّبْع
أحدُ. وهو مثل قول الله تعالى: (ما لكم من إلهٍ غيرهُ) رفع (غير) على
موضع (مِن).
والعلياء: الأرض العالية، والسند: سند الجبل، وهو الموضع العالي الذي
يصعد منه إلى الجبل. يقال منه: سنَدَ الرجل في الجبل يسنُد سنوداً.
وأقوت الدار تقوي إذا خلت من أهلها، سالفُ الأَبَدِ: ما تقدم منه،
وأُصيلال لامه بدل من النونْ وأصله أُصيلان، وأُصيلان تصغير أصلان،
وأُصلان: جمع أصيل، مثل رغيفْ ورُغفان، والأصيل: العشي.
وقوله: عيتْ جواباً: يريد لم ترد علي جواباً لمّا سألتها عن الذين
كانوا يحلونها، ما صنعوا،
(2/67)
وأين ذهبوا. ثم قال: وما بالربع من أحد: أي
ليس به أحد يكلمني. والربع: المنزل، والأواريّ: واحدها آريّ وهو محبس
الدابة، وأراد به في هذا البيت: إلا النُّؤْيَ، الذي يحبس الماء عن
البيت، وهو حاجز يجعل حول البيت من التراب.
واللأي: البطءْ والاحتباس، وأبيِّنُها: أتبينها. يقول: بعد بطءْ وطول
نظرْ وفكر عرفتُ الدار. وإنما تنكرتْ عليه لخرابهاْ وتغيرها عن الحال
التي يعرفها عليها. وقوله: والنؤيُ كالحوضِ، شبه النؤي الذي حول البيت
بالحوض، والمظلومة: الأرض التي أبطأ عنها المطر أعواماً فلم يصبها،
ويقال: المظلومة: الأرض التي نُزلت من أول نزولْ ولم تكن نزلت قبل ذلك،
والجَلَد: الأرض الصلبة.
و (الجَلَد) بدل من (المظلومةّ) و (ما) زائدة، أراد: لأياً أبيِّنُها،
و (لأياً) مصدر لا فعل له من لفظه، ويقال الْتأتْ عليه الحاجة: أبطأت،
وانتصابه لأنه مصدر جعل في موضع الحال، كأنه قال: فبطئاً عرفتها،
والعامل فيه (أبيِّنُها)، وهو نحو من: قتلته صبراًْ وأتيته ركضاً.
رفع الفعل إذ لم يكن جواباً
قال سيبويه: (واعلم أنك إن شئت قلت: ائتني فأحدثك، ترفع، وزعم الخليل
أنك لم ترد أن تجعل الإتيان سبباً لحديثه، ولكنك كأنك قلت: ائتني فأنا
ممن يحدثك البتة جئت أو لم تجيء) قال النابغة الذبياني:
(2/68)
ولا زالَ قبرُ بين تُبْنَىْ وجاسمٍ ...
عليه من الوَسْمِيّ جَوْدُ ووابِلُ
(فيُنْبِتُ حَوذاناً وعَوفاً مُنوِّراً ... سأُتبِعه من خيرِ ما قال
قائلُ)
رثى النابغة بهذا الشعر النعمان بن الحارث الجفني، وتُبنى وجاسم
موضعان. ويروى: (بين بُصرىْ وجاسمٍ). والجَودْ والوابل: ضربان من المطر
يجيئان بشدة. والحَوذان والعَوف: ضربان من النبت، والمنور: الذي فيه
زهرُهُ ووردهُ. سأُتبع هذا القبر ثناءً حسناً، يعني أنه يثني على صاحب
القبر الذي دفن فيه.
والشاهد في البيت أنه رفع (فيُنْبِتُ) ولم يجعله جواباً، وأراد: فهو
ينبت على كل حالْ والعرب ما زالت تدعو للقبور بأن تمطر، وينبت حولها
النبات، ليقصد الناس موضع القبر يرعون فيه، فإذا نظروا إلى القبر، تجدد
ذكر صاحبه، وتحدثوا بالمحاسن التي كانت فيه: من شجاعتهْ وجودهْ ووفائه،
فكأنه يحيا بهذا الذكر.
(2/69)
حذف الموصوف وإقامة
الصفة مقامه
قال سيبويه في باب ما يحذف فيه المستثنى استخفافاً: (وذلك قولك: ليس
غير، وليس إلا، كأنه قال: ليس إلا ذاك، وليس غير ذاك، ولكنهم حذفوا ذلك
تخفيفاً). ثم ذكر أشياء من الحذف، يستشهد بها على الحذف الذي ذكره في
هذا الباب. قال النابغة الذبياني:
أتَخْذُلُ ناصريْ وتُعِزُ عَبْساً ... أيرْبوعَ بنَ غيظٍ للمِعَنِّ
(كأنك من جِمال بني أُقيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خلفَ رْجليه بشَنِّ)
الشاهد في البيت الثاني أنه حذف الموصوفْ وأقام الصفة مقامه. والتقدير:
كأنك
جمل من جمال بني أقيش. يربوع بن غيظ بن مرة هم قوم النابغة، والمعنّ:
الذي يتعرض في الأمور التي قد كُفي الكلام فيها. وجمال بني أقيش وحشية
لا يكاد ينتفع بها لشدة نفارها، والشن: القربة البالية، تقعقع: تحرك
على الأرضْ وفيها حصى حتى يسمع صوتها.
وبنو أقيش: بطن من عُكل، وإبلهم ليست بكرام فيضرب بنفارها المثل. وقيل:
بنو أقيش فخذ من أشجع، وقيل: بنو أقيش حي من اليمن.
وسبب هذا الشعر، أن بني عبس قتلوا رجلاً من بني أسد، فقتلت بنو أسد
رجلين من عبس، فأراد عُيينة بن حصن الفزاري أن يُعين
(2/70)
بني عبس، وينقض الحلف الذي بين بني ذبيانْ
وبني أسد، فقال له النابغة: أتخذل بني أسدْ وهم حلفاؤناْ وناصروناْ
وتعين بني عبس عليهم.
وقوله (للمعنِّ) اللام في صلة فعل محذوف، كأنه قال: يا يربوع بن غيظ،
أعجبوا للمِعَن، يعني عيينة بن حصن. وقوله: كأنك من جمال بني أقيش، أي
أنت سريع الغضبْ والنفور، تنفر مما لا ينبغي أن تنفر منه.
نصب المضارع بعد (أو)
قال سيبويه في باب (أو): (تقول: لألزَمَنَّك أو تقضيني، ولأضربنك أو
تسبقني، والمعنى: لألزمنَّك إلا أنْ تقضينيْ ولأضربنك إلا أن تسبقني.
هذا معنى النصب).
قال امرؤ القيس:
بكَى صاحِبي لما رأى الدربَ دونَه ... وأيقَنَ أنّا لاحقان بقَيْصَرا
(فقلتُ له: لا تَبْكِ عينُك إنما ... نحاولُ مُلكاً، أو نموتَ
فنُعذَرا)
الشاهد فيه على النصب (نموت) بعد (أو). قال سيبويه: (والمعنى إلا أن
نموتَ فنُعذَر).
صاحب امرئ القيس الذي كان معه فيما زعموا، عمرو بن قميئة من بني
(2/71)
قيس بن
ثعلبة، وكان امرؤ القيس استصحبه لما مضى إلى ملك الروم يستنجده على بني
أسدْ وأراد بالدرب أحد الدروب التي بين أرض الشامْ وبلاد الروم. فيقول:
أنّ عمراً لما بكى، قال له: من سعى في طلب المُلك لم يستعظم أن ينزل به
مثل هذا، وأن يغرر بنفسهْ ويركب المهالك، فإن أصاب بُغيته فلها سعى،
وإن مات عذر في سفرهْ وتغربه، لأنه لم يكن سفره غلا ليحصل له الملك،
ولم تكن إرادته به شيئاً من المال.
مجيء (حتى) للغايةْ وللابتداء
قال سيبويه: (اعلم أنه لا يجوز: سرت حتى أدخلهاْ وتطلع الشمس. هذا
محال، لأن طلوع الشمس لا يكون أن يؤديه سيرك، فترفع (تطلعّ) وقد حُلت
بينهْ وبين حتى ويحسن أن تقول: حتى تطلع الشمس، وحتى أدخلها، كما يجوز
أن تقول: سرت إلى يوم الجمعةْ وحتى أدخلها).
وقال امرؤ القيس:
ومَجْرٍ كغلانِ الأُنيْعِم بالِغٍ ... ديارَ العَدُوِّ ذي زُهاءٍْ
وأركانِ
سريتُ بهم حتى يَكِلَّ غَزيُّهم ... وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بأرسانِ
المجر: الجيش الكثير، والغلان: جمع غالّ وهو الوادي الكثير
(2/72)
الشجر، والأُنيْعِم: اسم مكان، وقوله:
بالغٍ ديار العدو، يعني أنه لا يمكن رده عن الموضع الذي يسير لكثرتهْ
وعزهْ وأنه لا يقاومه جيش. وقوله: ذي زهاء: أي هو يَحزر حزراً، فأما
عدده فلا يمكن ضبطه. يقول الذي يراه: هو مقدار كذاْ ويقال: هم زُهاء
ألف إذا كانوا مقدار ألف.
والأركان: النواحي، و (مَجْر) مجرور بـ (رُبَّ)، وقوله: سريت بهم أي
سرت بهم ليلاً. ويروى: (مَطَوْتُ بهم) والمطو: المد، يريد أنه مد بهم
في السير، والكَلال: الإعياء، والمطيّ: جمع مطيةْ وهو البعير الذي يركب
ظهره. ويروى:
(حتى يَكِلَّ غزاتهم) وهو جمع غاز.
وقوله: وحتى الجياد ما يُقَدْنَ بأرسانِ، يعني أن الخيل كلت، فطرحت
أرسانها على أعناقها، وتُركت تمشيْ ولم يحتاجوا إلى قُوْدها، لأنها قد
ذهب نشاطهاْ ومرحها، فهي إذا خُلِّيت لم تذهب يميناً ولا شمالاً وسارت
معهم.
والشاهد في البيت أنه لما جاء بـ (حتى) التي تنصب ما بعدها - وأراد أن
يذكر بعدها ما لا يجوز أن يُعطف عليها - جاء بـ (حتى) في الكلام
الثاني. وما بعد الأول منصوب لأنه غاية، والجملة الثانية مبتدأْ وخبر،
و (حتى) التي هي غاية، لا تدخل على المبتدأْ والخبر (فجاء بـ (حتى)
التي ترفع ما بعدها من الأفعالْ وتدخل على المبتدأْ والخبر).
عطف الفعل بالجزم - ربطاً للمعاني
قال سيبويه في باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي،
(2/73)
لأن فيها معنى الأمرْ والنهي: (وأما قول
عمرو بن عمار الطائي:
(فقلت له: صَوِّبْْ ولا تَجْهَدَنهُ ... فيُدْنِكَ من أُخرى القَطاةِ
فتَزْلَقِ)
فهذا على النهي كما قال: لا تمدُدْها فتشقُقْها).
هذا البيت في قصيدة تنسب إلى امرئ القيس، وتنسب إلى رجل من طيئ. وقيل:
إن قائلها هو: عبد عمرو بن عمار الطائي.
والشاهد فيه أنه عطف (فيُدْنِكَ) على (تجهدنهّ) وكذا عطف (فتَزْلَق)
ولم يجعل هذين الفعلين منصوبين على الجواب بالفاء، ولو نُصبا لكان
نصبهما حسناً، ويكون بمنزلة قول القائل: لا تشتُمْ زيداً فيؤذيك، ولا
تسُبَّ عَمراً فيضربَك.
فإن قال قائل: قوله (لا تَجْهَدَنهُ) نهي، وقد نهى الغلامَ الراكب
للفرس أن يجهده في العدو، وهذا معنى صحيح، والإدناء هو فعل الفرس، فكيف
نهى الغلام عنه، وعطف على فعل الغلام ما لا يدخل في النهي؟ قيل: هذا
سائغ كثير في الكلام،
المعنى أنه نهى الغلام عن فعلٍ
(2/74)
يؤدي إلى أن يدنيه الفرس من أخرى القطاة.
وهذا مثل قولهم: (لا أرَيَنَّكَ هاهنا) أي لا تكن هاهنا فأراك.
ومثله للأعشى:
لا أعرفَنَّكَ إنْ جَدَتْ عداوتُنا ... والْتُمِسَ النَّصرُ منكم عَوضُ
تَحتَمِلُ
أي لا تفعل ما نهيتك عنه، فإنك إن فعلته عرفته.
ومعنى البيت أنه قال للغلام الذي ركب الفرس، وطلب عليه الوحش لا تجهده،
أي لا تستخرج جميع ما عنده من العَدْو، فلا يمكنك أن تثبت على ظهره،
ويُدنِك من مؤخره فتقع. والقطاة: مقعد الردف من ظهر الفرس.
مجيء خبر (عسى) مجرداً من (أنْ)
قال سيبويه: (واعلم أنّ من العرب مَن يقول؛ عسى يفعلُ. يشبهّها بـ (كاد
يفعلُ) فـ (يفعل) حينئذ في موضع اسم منصوب). قال المرّار بن سعيد
ألأسدي:
تخبَّأ معشرُ الشعراءِ مني ... كما اْختبأتْ من القمرِ النُّجومُ
(فأما كَيِّسُ فنجاْ ولكنْ ... عسى يَغترُّ بي حَمِقُ لئيمُ)
الشاهد في قوله (عسى يَغترُّ) ولم يقل (عسى أن يَغترَّ).
(2/75)
والحَمِق: الأحمق. يقول: إن الشعراء إذا
ضموا إليّْ وقيسوا بي، كانوا بمنزلة النجوم إذا ضمت إلى القمر. يريد
أنهم يَخْفَوْنْ ويصغر شأنهم إذا حضر المرّار أو ذُكر، فأما الكيِّس
منهم فإنه لا يتعرض ليْ ولا يطمع في مساواتي، ومَن طمع في مساواتي منهم
أو مقاربتي، فإنه أحمق.
الفعل يرتفع بين الجزمين لوقوعه في موضع
الحال
قال سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين، وينجزم بينهما: (أما ما يرتفع
بينهما فقولك: إنْ تأتني تسألني أُعطِك، وإنْ تأتني تمشي أمشِ معك.
وذلك لأنك أردت أن تقول: إنْ تأتني سائلاً يكن ذلك، إنْ تأتني ماشياً
أمشِ. وقال زهير):
(ومن لا يَزَلْ يَستَحملُ الناسَ نفسَه ... ولا يُغنِها يوماً من الدهر
يُسأمِ)
(يَستَحملُ) في موضع خبر (يزل) كأنه قال: من لا يزل مستحملاً الناسَ
نفسه. ورفع (يَستَحملُ) لأنه في موضع الخبرْ وليس ببدل من فعل الشرط.
والشاهد على أن (يَستَحملُ) ليس ببدل من فعل الشرط، وليس يريد أن الفعل
في موضع الحال.
ويروى: (من لا يزل يسترحل الناس). أي يجعل الناس كالراحلة يحمِّلهم
أموره.
(2/76)
يريد: من لا يزل يستحمل الناس، يسألهم حمل
أثقاله - والقيام بحوائجه، ولا يتكلف هو أمر نفسه - يسأموه، ويثقل
عليهم.
قال سيبويه قال الحطيئة:
(متى تأتِه تعشو إلى ضَوْءِ نارِه ... تَجدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ
موقِدِ)
يمدح بذلك بغيضاً وهم من بني سعد بن زيد مناة. وتعشو: تنظر ببصر ضعيف.
يريد أنه ابتدأ بالنظر إلى النار على بعد شديد، فقصدها بذلك النظر حتى
قَرُبَ منها، فأضاءت له.
والشاهد على أنّ (تعشو) في موضع عاشياً، منصوب على الحال. ومعنى البيت
واضح.
قال سيبويه: (وسألت الخليل عن قوله - يعني قول عُبيد الله بن الحُرّ
الجُعْفي -:
إذا خَرَجوا من غَمرةٍ رجعوا لها ... بأسيافهِمْْ والطعنِ حتى
تَفَرَّجا
متى تأتِنا تُلمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حطباً جَزْلاًْ وناراً
تأجَّجا)
(2/77)
قال سيبويه: (تُلمِمْ) بدل من الفعل الأول)
يعني فعل الشرط. والجزل: غلاظ
الحطب. يريد أنهم يوقدون الجزل من الحطب لتقوى نارهم، فينظر إليها
الضيفان على بعد فيقصدوها. وقوله: وناراً تأجَّجا، ذكّر للنار تأجج،
وفيه ضمير يعود إلى النار، وكان ينبغي أن يقول: تأججت، وإنما ذكّر لأنه
في تأويل الشهاب، كأنه قال: وشهاباً تأجج.
ويروى: (متى تأتني في منزل قد نزلته) وليس في هذه الرواية شاهد على شيء
مما تقدم.
والغمرة: الشدة التي وقعوا فيها، فيقول: هم يكشفون الكُرَب بأسيافهم.
مجيء (أم) منقطعة
قال سيبويه في باب (أم) إذا كانت منقطعة:
(ومن ذلك أيضاً، أعندك زيد أم لا؟ كأنه حين قال: أعندك زيد، كان يظن
أنه عنده، ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال: أم لا. فزعم
الخليل أنّ قول الأخطل:
كَذَبَتكَ عينُك أم رأيتَ بواسطِ ... غَلسَ الظّلامِ من الربَّاب
خَيالا)
(2/78)
كقوله: إنها لإبل أم شاء، يريد أنّ (أم) في
البيت منقطعة مما قبلها، لأنها استفهام بعد مضي جملة هي ابتداءْ وخبر،
واستؤنف بها الاستفهام من غير أن يتقدم قبله استفهام. و (أم) المنقطعة
هي التي ما بعدها جملة، ولا تكون عاطفة لاسم على اسم قبلها، ولا عاطفة
لفعل على فعل قبلها. فإذا جاءت بعد إيجاب لم تكن إلا منقطعة. ولذلك قال
سيبويه: كقوله: إنها لإبل - ثم استأنف استفهاماً فقال: - أم شاء، يريد
أم هي شاء، فما بعد (أم) مبتدأْ وخبر.
وواسط: موضع بنواحي الشام، وقد ذكره الأخطل في شعره في غير هذا الموضع.
غلس الظلام: حين اختلط الظلام، الربَّاب: اسم امرأة، والخيال: ما يراه
في النوم كأنه شخصها.
زيادة الباء في خبر ليس
قال سيبويه في الاستثناء في باب ما حُمل على العامل: (وتقول: لستَ
بشيءٍ إلا شيئاً لا يُعبأ به) والباء هاهنا بمنزلة (ما)
(2/79)
يريد أن الباء زائدة في خبر ليس كما زيدت
في خبر (ما) وأن الباء في موضع نصب، فكأنه قال: لستَ شيئاً إلا شيئاً
لا يعبأ به. قال أوس بن حَجَر:
(يا بنَيْ لبَيْنَى لستُما بيدٍ ... إلا يداً ليستْ لها عَضُدُ)
وفي شعره:
أَبني لبَيْنَى لستُموا بيدٍ ... إلا يداً ليستْ لها عَضُدُ
أَبني لبَيْنَى لا أُحِبكُمُ ... وَجَدَ الإلهُ بكُمْ كما أَجِدُ
الشعر على مخاطبة الجماعة. والشاهد في قوله (إلا يداً) بالنصب،
والمستثنى منه مجرور بالباء، والاستثناء من موضع الباء.
وبنو لبينى قوم من بني أسد، وأمهم لبينى من بني والبة بن الحارث بن
ثعلبة ابن دودان، يقول لهم: أنتم - في ترك لومكم لهم، واطراحكم أمرهم -
بمنزلة يد لا عضد لها، فكيف تصنع اليد إذا بانت عن عضدها.
وقوله: (وَجَدَ الإلهُ بكُمْ كما أَجِدُ) يقول: أحبكم الله كما أحبكم،
وأوس لا يحبهم، فكأنه قال: لا أحبكم الله وأبغَضكم كما أبغِضُكم.
مجيء (حتى) حرف ابتداء
قال سيبويه في باب (حتى): (ويدلك على حتى أنها حرف من حروف الابتداءْ
والخبر، أنك تقول: حتى إنه يفعل ذلك، كما تقول: فإذا
(2/80)
إنه يفعل ذلك). قال: (ومثل ذلك قول حسان بن
ثابت):
أولادُ جفنةَ حولَ قبرِ أبيهِمِ ... قبرِ ابنِ ماريةَ الكريمِ
المُفْضلِ
يُغْشَوْنَ حتى لا تَهِرُّ كلابُهُمْ ... لا يَسألون عن السّوادِ
المُقْبلِ)
يمدح بذلك آل جفنة الغسانيين، وبلادهم الشام، ماريةَ: ذات القرطين، هي
أم جفنة بن عمرو مزيقياء، يُغْشَوْنَ: يغشاهم الطالبونْ والسائلونْ
ويكثرون عندهم، حتى كلابهم لكثرة ما ترى ممن لا تعرف قد أنست بجميع
الناسْ وتركت النباح، لا يسألون عن السواد: أي الأشخاص المقبلة، ويقال
للشخص سواد، وأصل ذلك أن الشخص إذا كان في مكان صار له ظل على الأرضْ
وذلك الظل سواد، فقيل لكل شخص سواد.
والشاهد على أنه رفع (تهرّ) ولم يجعله غاية. قال سيبويه وتقول: (سرت
حتى يعلم الله أني كالّ. فالفعل
(2/81)
هاهنا منقطع من الأول، وهو في الوجه الأول
الذي ارتفع فيه، متصل كاتصاله به بالفاء، كأنه قال: سيرُ فدخول).
أراد سيبويه أن الفعل المرتفع بعد (حتى) يقع على وجهين: أحدهما أن
الفعل الواقع بعدها وقعْ ومضى قبل وجوب الإخبار. والوجه الآخر أن الفعل
الذي قبل (حتى) قد مضى، والفعل المرفوع بعدها ثابت في حال الإخبار،
ويكون الفعل المتقدم سبباً لوقوع الفعل الذي في الحال.
وسيبويه يجعل (حتى) في الوجه الأول - الذي الفعل فيه قد مضىْ وانقضى -
بمنزلة الفاء، وأن الفعل الذي بعد (حتى) متصل بالفعل الذي قبل (حتى)
وقد مضيا جميعاً. والثاني بعد الأول متصل به كاتصال ما بعد الفاء في
العطف بما قبلها.
وقال علقمة بن عبدة:
فأورَدَها ماءً كأنّ جِمامَه ... من الأجْن حِنّاءُ معاً وصَبيبُ
تُرادَى على دْمنِ الحِياض فإن تَعَفْ ... فإن المُنَدَى رحلةُ
فرُكوبُ)
الشاهد فيه أنه عطف ركوباً على (رحلة) بالفاء. وجعل الركوب متصلاً
بالرحلة.
وهو مثل قولهم: سرت حتى أدخلها، إذا كان السيرْ والدخول قد
(2/82)
وقعا جميعاً فيما مضى، والدخول متصل
بالسير، كأنه قال: سرت فدخلت، وإنما استعمل المستقبل في هذا الموضع على
حكاية الحال الماضية، وهي بمعنى: سرت حتى دخلتها.
قوله: فأورَدَها: يعني راحلته، والجمام: جمع جُمة، وهو الماء المجتمع
في البئر، والواحد جُمّةْ وهو الماء المجتمع. والأجْن: تغير الماءْ
واصفراره، والصبيب: شجر يصبغ به، وقيل: إنه تخضب به الرؤوس. شبه لون
الماء بلون الحناءْ والصبيب. وتُرادَى: تُراود، أي يعرض عليها الماء
مرة بعد مرة، حتى تشرب من هذا الماء المتغير.
فإن تعف: أي تأبى نفسها أن تشرب منه - يقال: عِفت أعاف - فإني أجعل
مكان التندية أن أشد عليها الرحلْ وأركبهاْ وأسير. والمُندىْ
والمُتَنَدَى والتندية واحد، وهو أن تُترك الناقة ترعى حول الماء ساعة
ثم تجيءْ وتشرب الماء.
ويروى: (تُراد على دْمنِ الحِياض) أي يراد منها أن تشرب من الدمن الذي
في الحياض. والدمِنْ: البعرْ والسِّرجين وما أشبه ذلك. وإنما يريد أنها
يراد منها أن تشرب ماء الدمن، وهو الماء الذي سفت عليه الريح الدمن
فاختلط به.
نصب المضارع بعد واو المعية
قال سيبويه في الجواب بالواو: (لا تأكل السمكْ وتشرب اللبن، فلو أدخل
الفاء هاهنا فسد المعنى).
(2/83)
وهذا صحيح لأن الفاء لو دخلت في ذا الموضع،
لصار المعنى: أنْ أكلتَ السمك شربت اللبن، وليس بواجب أنه كل من أكل
سمكاً شرب لبناً. ويوضحه قول الله تعالى: (لا تفتروا على الله كذباً
فيُسحتكم بعذاب) أي إن افتريتم سحتكم، وإنما يريد، لا تجمع بينهما في
وقت واحد. وقال الحطيئة:
(ألمْ أكُ جارَكُمْْ ويكونَ بيني ... وبينكم المودةُ والإخاءُ)
يريد، ألم يجتمع هذان: أن أكون جاراً، وأن تكونوا إخوانيْ وأصحاب
مودتي. يخاطب بذلك الزبرقانْ وأهله، وقد كان جاورهم ثم انتقل إلى بني
قُريع.
حذف صلة الموصول
قال سيبويه في باب ما يحذف المستثنى فيه استخفافاً، قال العجاج:
دافَعَ عني بنُقَيْر مَوْتَتي
(بعد اللَّتيّاْ واللتياْ والتي)
إذا علتْها أنفُسُ تَردَتِ
(2/84)
يريد أن الله تعالى دفع عنه الموت. ونُقَيْر: موضع بعينه. والعرب تقول:
فعل فلان ذلك بعد اللتياْ والتي، أي بعد شدة. وقوله: (إذا علتها أنفس
تردت) هذه الجملة التي هي البيت الثالث صلة للتي.
الشاهد على أنه حذف الصلة من (اللتيا) الأولى ومن الثانية، فأما (التي)
فقد أتى بصلتها.
وعنى بقوله: (التي إذا علتْها أنفُسُ) عقبةً من عقاب الموت منكرة، إذا
أشرفت عليها نفس سقطتْ وهلكت، وهذا على طريق التشبيه. |