شرح أبيات سيبويه النصب على الذم
بإضمار فغل
قال سيبويه في الصفات، قال إمام بن أقزم النميري: وأنا أشك في (أقزم)
هل هو بالزاي أو بالراء:
ولما أنْ برزْتُ إلى سلاحي ... وبشرَي قلت: ما أنا بالفقيرِ
طليقُ اللهُ لم يمننْ عليه ... أبو داودْ وابنُ أبي كثيرِ
ولا جزاءُ ولا ابنُ أبي شريفٍ ... ولا مولى الأَمير ولا الأميرُ
(ولا الحجاجُ عينيْ بنتِ ماءٍ ... تقلب طرْفها حذرَ الصقُّورِ)
الشاهد في نصبه (عيني بنت ماء) على الذم بإضمار فعل.
(2/26)
وكان أبان بن مروان على دمشق، فحبس إمام بن
أقرم النميري. وكان على شرطه رجل يسمى الحجاج، فطلب إمام إلى يزيد بن
هبيرة المحاربي أن يكلم الأمير فيه، وطلب إلى الحجاج، وإلى ابن أبي
كثير السلولي، وإلى جزء، وإلى ابن أبي شريف الفزاري فلم يفعلوا، وأفلت
من السجن.
وأراد بقوله (عيني بنت ماء) أن عينيه تموجان كعيني طائر من طير الماء
نظر إلى صقر ففزع منه، فعيناه تدوران.
(لا) بمنزلة ليس
قال سيبويه في النفي، قال سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة:
(مَن صدَ عن نيرانها ... فأنا ابنُ قيسٍ لا براحُ)
الشاهد فيه رفع (براح) بعد (لا).
ونيران الحرب اشتدادهاْ وعظمها. يقول: من أعرض عن الحربْ وتركهاْ
وسئمها، فإني غير سائم لهاْ ولا تارك. والمعنى واضح.
ترخيم (حنظلة) في غير النداء
قال سيبويه في الترخيم، قال غيلان بن حريث:
(2/27)
(وقد وَسطتُ مالكاً وحنظلا)
صيابهاْ والعددَ المجلجلا
قوماً إذا دعوتهم لن أُخذلا
الشاهد فيه أنه رخم (حنظلة) وليس بمنادى، وهو ترخيم يحتمل أن يكون على
مذهب من قال (يا حارِ) وعلى مذهب من قال (يا حارُ).
وأراد حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. والصياب: خالص القوم
ولبابهم، والمجلجل: الكثير.
الرفع على الاستئناف - للمعنى
قال سيبويه في الصفات، قال الراجز - وعندي أنه الحذلمي:
وساقيينِ مثلِ زيد وجعلْ
(سقبان ممشوقان مكنوزا العضلْ)
الشاهد فيه أنه رفع (سقبان) وما بعده، ولم يحمله على ساقيين، ورفعهما
وجعلهما خبر ابتداء محذوف تقديره: هما سقبان.
السقبان: الطويلان، والممشوقان: اللذان لم يكثر لحمهما، ومكنوزا
(2/28)
العضل يريد أن عضلهما ملتف بعضه ببعض، وذلك
أشد لأجسامهما. يذكر أنهما يسقيان الإبل.
وفي إنشاد الأصمعي:
يجبي لها أهيفُ ممسودُ العضلْ
مثلُ فضيلٍ أَو جميحٍ أو جعلْ
للدَ لو في أيديهمُ سفحُ عجلْ
صقبان ممشوقان مأروما الأصل
يجبي: يجمع الماء في الحوض، والأهيف: الخميص البطن، والممسود: المفتول
يريد أن عضله صلب مفتول. وفضيل وجميحْ وجعل: أستماء رعاء، والسفح:
الصب، وعجل: سريع. يريد أنهم يستقون استقاء سريعا، والمأروم: المفتول.
وقوله: مأروما الأصل يريد أنهما لا يشربان اللبن عند العشي حتى يسقيا
الإبل فيروياها.
أقوالهم في (ويكأن)
قال سيبويه في باب كم، قال نبيه بن الحجاج السهمي:
سألتاني الطلاقَ أن رأتاني ... قلَّ مالي. قد جئتماني بنكرِ
(2/29)
(ويكأنْ من يكن له نشبُ يحببَ ... ومن
يفتقرْ يعشْ عيشَ ضُرِ)
فلعليّ سيكثرُ المالُ عندي ... ويُعرَّى من المغارمِ ظهري
ويرَى أعبدُ لناْ واماءُ ... ومناصيفُ من خوادمَ عشرِ
الشاهد في قوله (ويكأن) و (وي) كلمة تقال عند استعظام الشيء والتعجب
منه، و (كأن) مخففة من كأنّ، والنكر: المنكر، والنشب: المالْ والورقْ
وما أشبههما، والمغارم: الديون، والمناصف: الخدم. وذكر أن امرأتيه
سألتاه أن يطلقهما لأنه لم يكن عنده مال ينفقه عليهما.
وقوله (ويكأن من يكن له نشب يحبب) أي من كان له مال أحبته زوجاته، وقمن
بإصلاح طعامه، وتمهيد فراشه، واستعداد ما يحتاج إلى استعماله من الآلة.
وإن لم يكن معه شئ تهاون به، فساءت حاله، ولم يصف عيشه. ثم قال: فلعلّي
أقضي دينيْ وأستغني، ويصير لي خدمْ وجوار. يعدهماْ ويمنيهما لترضياْ
وتصبرا.
العدول عن العطف على اسم (إنّ) إغناء للمعنى
قال سيبويه في باب إنّ، قال بشر بن أبي خازم:
إذا جزَّتْ نواصي آلِ بدْرٍ ... فأدّوهاْ وأسرى في الوَثاقِ
(2/30)
(وإلا فاعلموا أناْ وأنتم ... بغاةُ ما
بقينا في شقاقِ)
الشاهد فيه أنه أتى بعد اسم أنّ (وأنتم) ضمير المرفوع، ولو عطف على
الاسم لوجب أن يقول (وإياكمّ) ولكنه بدأه.
وسبب هذا الشعر أن قوما من آل بدر الفزاريين جاوروا بني لأم من طيئ،
فعمد بنو لأم إلى الفزاريين فجزوا نواصيهم، وقالوا: قد مننا عليكمْ ولم
نقتلكم - وبنو فزارة حلفاء بني أسد - فغضبت بنو أسد لأجل ما صنع
بالبدريين فقال بشر هذه القصيدة يذكر فيها ما صنع ببني بدر، ويقول
للطائيين:
فإذ قد جززتم نواصيهم، فاحملوها إلينا، وأطلقوا من أسرتم منهم. وإن لم
تفعلوا، فاعلموا أنا نبغيكمْ ونطلبكم، فان أصبنا منكم أحدا طلبتمونا
به، فصار كل واحد منا يبغي صاحبه. والشقاق: العداوة. يقول نبقى أبدا
متعادين.
بدل النكرة من المعرفة
قال سيبويه في الصفات، قال بشر بن أبي خازم:
فإلى ابنِ أمِّ أناس أرحلُ ناقتي ... عمروٍ، فتبلغُ حاجتي أو تزْحِفُ
(2/31)
(ملكٍ إذا نزلَ الوفودُ ببابهِ ... عرَفوا
غواربَ مُزْبدٍ لا ينزَفُ)
الشاهد فيه أنه أبدل (ملك) من (ابن أم أناس) وهو بدل النكرة من
المعرفة.
يمدح بشر عمرو بن المنذر بن ماء السماء، وأم أناس: بنت عوف بن محلم بن
ذهل بن شيبان، وأم جده عمرو بن المنذر أم أبيه. وقوله: فتبلغ حاجتي أي
تبلغ راحلتي إلى الموضع الذي أقصده. يريد فتبلغ الموضع الذي فيه الملك،
أو تزحف الراحلة. وأزحفت: إذا بقيت لا يمكنها أن تسيرْ وهلكت، فيتركها
صاحبهاْ ويلتمس غيرها. والمزبد: النهر العظيم الجرية، الكثير الماء،
الذي يرمي بالزبد. والغوارب: جمع غارب، يريد ما علا من الماء. لا ينزف:
لا ينفد ما فيه.
النصب على المدح بإضمار فغل
قال سيبويه في باب ما ينتصب على المدح. قالت الخرنق:
لا يبْعدَنْ قومي الذين همُ ... سمُّ العداةِْ وآفةُ الجزْرِ
(النازلين بكل مُعترَكٍ ... والطيبون معاقد الأُزْرِ)
(2/32)
الشاهد فيه أنه نصب (النازلين) على المدح،
لأن الاسم الذي قبله مرفوع فاعل (يبعدنّ) وقولها: سم العداة: يعني أنهم
يتلفون أعداءهم كإتلاف السم لهم.
وآفة الجزر: تريد أنهم ينحرون الإبل لضيفانهم. أرادت أنهم شجعان أجواد
يقتلون أعداءهم، وينحرون لضيفانهم، والجزر: جمع جزورْ وهي الناقة،
والمعترك: موضع القتل.
تعني أنهم ينازلون الأقران في مضيق الحرب، وذلك أشد ما تكون الحرب.
والأزر: جمع إزارْ وهو المئزر. وقولها: والطيبون معاقد الأزر، تريد
أنهم يحلونها إذا أرادوا النكاح على زوجاتهمْ وإمائهم، ويعقدونها بعد
حلها، ولا يعقدون مآزرهم بعد إن أتوا فجوراْ ومالا يجوز لهم فعله.
ويقال فلان طيب الإزار إذا كان عفيفاً.
وقد روى بعضهم (آفة الجزر) و (معاقد الأزر) بضمتين. وهو على الرواية
الأولى من الضرب الخامس من الكامل، وعلى هذه الرواية من الضرب الرابع
من الكاملْ وفي القصيدة ما لا يمكن معه أن يكون الضرب على (فعلن) من
الضرب الرابع، وذلك أن فيها:
. . . . . من التأييهِْ والزَّجرِ
وفيها:
. . . . . وذوي الغنى منهم بذي الفقرِ
(2/33)
رثت الخرنق بهذا الشعر جماعة من بني مرثد
وهم قومها، قتلوا في قلاب وكان بشر بن عمرو بن مرثد غزا في بني قيس بن
ثعلبة، فأصاب في بني عامر بن
صعصعة فملأ يديه، ثم عاد فمر ببني أسدْ وهم نزول على قلاب فوثبوا عليه
فقتلوه وثلاثة من ولدهْ وجماعة من قومه، وأخذوا ما كان غنم من بني
عامر. فرثتهم الخرنق.
تأنيث فاعل المذكر حملا على المعنى
وقال سيبويه في باب تثنية أسماء الفاعلينْ وجمعها إذا تقدمت، قال أبو
ذؤيب:
(بعيدُ الغزاةِ فما أنْ يزالُ ... مضطَمراً طرّ تاه طليحا)
كسيفِ المراديّ لا ناكلا ... جباناً ولا جيدرِياً قبيحا
الشاهد في قوله (مضطمرا طرتاه) ذكر مضطمرا ولم يقل مضطمرةْ والفعل
للطرتين.
وأراد بالطرتين الجدتين اللتين بين بطنه وظهره في جانبيه، ويقال لمنقطع
جنب الظبي طرة، ولونه يخالف لون بطنه، واستعمل الطرتين في الناس
استعارة، والطليح: المعيي. وقوله: كسيف المرادي، ومراد من قبائل اليمن،
يعني أن سيفه يماني، فلم يمكنه أن يقول: يمان فقال: كسيف المرادي.
والجيدرْ والجيدري: القصير، والناكل: العاجز المقصر.
(2/34)
يمدح بهذا الشعر عبد الله بن الزبير، وكان
أبو ذؤيب خرج معه غازيا. وأراد أنه يبعد الغزاة، ويصبر على الحرب حتى
يهزلْ ويتغير، ويمضي فيما يريده كمضاء السيف. ويروى: يريع الغزاة، أي
يرجع الغزاةْ وهو لا يرجع لصبرهْ وإبعاده في بلاد العدو.
النصب على التمييز
قال سيبويه في التمييز، قال كعب بن جعيل:
فمنْ يأتنا أو يعترضْ لطريقنا ... نفُتهْ وإنْ جَدَ النهارَ وأَسْأَدا
(ومِرْ فدُنا سبعون ألفَ مدَججِ ... فهل في مَعَدٍّ فوق ذلك مرفدا)
الشاهد في نصب (مرفدا) على التمييز، والذي هذا تمييزه (ذلك)، كأنه قال:
فهل مرفد في معد فوق ذلك مرفدا. و (ذلك) إشارة إلى المرفد صرحه في
قوله: لنا مرفد سبعون ألف مدجج. والمدجج: الشاك في السلاحْ و (في معد)
وصف لـ (مرفد) المحذوفْ و (مرفد) المحذوف رفع بالابتداء، و (فوق ذلك)
خبره.
يقول: من يأتنا ليلحقناْ ويفعل مثل أفعالنا - وليكون مشهورا بفعل
المكارمْ والشجاعةْ والقوةْ والعدد - نفته: لا يلحقنا وإن جد في السير
النهار كلهْ والليل. وهذا على طريق المثل. يريد أنه إن اجتهد في فعل
الأمور التي تكسب
(2/35)
الشرف والنباهة، لا يلحق بشرفناْ وأيامنا
المشهورة. والإسآد: سير الليل كله، والمرفد: العظيم من الجيش.
النصب على الاختصاص
قال سيبويه وقال عمرو بن الأهتم:
(إنا بني منقَرٍ قومُ ذوو حسَبٍ ... فينا سراةُ بني سعدٍْ وناديها)
جرثومة أُنفُ يعتفُّ مُقتِرُها ... عن الخبيثِْ ويعطي الخيرَ مثرِيها
الشاهد فيه على النصب (بني منقر) بإضمار فعلْ و (قوم) خبر إنّ.
والجرثومة: أصل الشيء ومعظمه، أنف: الذين يأنفون، ويعتفّ: يفتعل من
العفة، والمقتر: الفقير. يقول: فقيرنا يعف عن طلب ما لا يليق بالأحرار
والكرام أن يطلبوه، ويقنع بالبلغةْ والشيء اليسير من العيش، ولا يأتي
أمرا يدنس به حسبه، ولا يكسب كسب سوء. والمثري: الغني، يعطي الخير:
يجود بما في يده.
ترخيم (فزارة)
قال سيبويه في الترخيم، قال عوف بن عطية ابن الخرع التيمي:
(كادتْ فزارةُ تشقَى بنا ... فأوْلى فزارةُ أوْلى فزارا)
(2/36)
ولو أدْرَكتهُمْ أمرَّتْ لهُمْ ... من
الشرِ يوماً ممَرّاً مُغاراً
الشاهد فيه على ترخيم فزارة على مذهب من قال يا حار.
كانت الرّباب قد أوقعت ببني عامر في غزوة غزوهاْ، وهموا بقصد فزارة
فقال: كادت فزارة تشقى بنا، أي كادت تقع فيما تكره من إيقاعنا بها
فسلمت. ثم تهددهمْ وحذرهم من التعرض لهم، ولو أدركتهم: يعني الخيل -
والمعنى لفرسان الخيل - أمرت لهم: يريد أحكمت لهم شرا شديدا. والحبل
الممر: هو المفتول فتلا جيدا، والمغار: الجيد، الفتل أيضا.
النصب على الذم بتقدير فعل
قال سيبويه في النعوت، قال مالك بن خياط العكلي:
وكلُّ قوم أطاعوا أمر سيِّدِهم ... إلا نمْيرا أطاعتْ أمرَ غاويها
(الظاعنينْ ولمّا يظْعنوا أحداُ ... والقائلين لِمن دار نخليها)
لا يهتدي لمكانِ الخيرِ مدْلجُها ... ولا يضلُّ مكانَ اللؤمِ ساريها
(2/37)
قوله: الظاعنينْ ولما يظعنوا أحدا، يريد
أنهم إذا رحلوا لم يتبعهم حليفْ ولا مولى. يعني أنهم لا يحالفهم أحد،
ولا يدخل في جملتهم ليعزيهم لأنهم لا نصرة عندهم. ويجوز أن يريد أنهم
إذا ظعنوا من مكانهمْ وكرهوه، لم يستبدلوا به مكانا فيه قوم غيرهم
فيزعجوهم عنه، لأنهم لا قدرة لهم على تحويل أحد من مكانه. والقائلين:
لمن دار يمكننا أن ننزلها، فأنا نخلي الدار التي نحن فيها.
في النعت
قال سيبويه في الصفات، قال ابن أحمر:
خلدَ الجبيبُ وبادَ حاضرُهُ ... إلا منازلَ كلها قفرُ
(وَلهَتْ عليه كلُّ معصفةٍ ... هوجاءُ ليس للبهازَبْرُ)
الشاهد أنه جعل (هوجاء) نعتا لـ (كل).
والجُبيب موضع بعينه، خلد: أقام. يريد أنه بقيْ وذهب من كان يسكنهْ و
(منازل) منصوب على الاستثناءْ و (كلها قفر) وصف لهْ والمعصفة: الريح
الشديدة الهبوب، والهوجاء: التي كأنّ بها هوجا في اندفاعهاْ وشدة
إسراعهاْ وإثارتها الترابْ وقوله: ولهت عليه يعني أن الرياح حنتْ وصوتت
في هبوبها على هذا الموضع الذي هو الجبيب كما تحن الناقة الوالهة التي
فقدت ولدها.
وقوله: ليس للبهازبر، اللب: العقل، والزبر: إحكام الشيء، مأخوذ من
قولهم: زبرت البئر إذا طويتها بالحجارة. يريد أنه لا عقل لها، والريح
لا يكون لها عقلْ. وهذا على طريق المثل.
(2/38)
الإعادة بضمير المذكر على المؤنث - حملا
على المعنى
قال سيبويه في باب (نعمْ وبئس) قال حميد الأرقط:
هل تعرفُ الدارَ يعفّيها المُورْ
والدَجنُ يوماً والعجاجُ المهمورْ
(لكلِ ريحٍ فيه ذيلُ مسفورْ)
يستدرجُ التربْ وفنُّ معفورْ
الشاهد في الشعر على أنه قال: لكل ريح فيه. والضمير يعود إلى الدار -
ولم يقل (فيها) - وحمل الكلام على المعنى، لأن الدارْ والربعْ والمنزل
عبارات مختلفةْ والمعنى فيها واحد.
المور: الغبارْ وما دقّ من التراب، يعفيها: يغطي الآثار التي في الدار،
والدجن:
السحاب الذي قد غطى السماء - وهو في هذا الموضع المطر - والعجاج:
الغبار، والمهمور: المصبوب، كأن الريح صبت الغبار على هذا الربع - وهذا
اتساع - والصب إنما يكون في الماءْ وما أشبهه، فجعله في الغبار،
والمسفور: المقشور، وذيل الريح: مؤخرها. وأراد: لكل ريح في هذا الربع
مكان ذيل مسفور، والريح تقشر التراب الذي على وجه الأرضْ وتحمله من
مكان إلى آخر، فالمكان الذي يمر به ذيل الريح هو مؤخرها. مقشور:
(2/39)
أي مقشور ترابه، وفي (يستدرج) ضمير من
الذيل، يريد أن ذيل الريح يستدرج التراب يحمله. والفن: الضرب، و (فن)
رفع معطوف على (ذيل). زعم أن لكل ريح في هذا الربع مكانا تسفره تقلع
ترابه. وفن: مكان آخر تغطيه بتراب تحمله من مكان غيره إليه، فهي تأخذ
التراب من مكانْ وتحمله إلى مكان آخر. والمعفور: مأخوذ من العفرْ وهو
التراب، ويقال للمغطى بالتراب: معفور.
خبر الأحوص
قدم الأحوص البصرة، فخطب إلى رجل من بني تميم ابنتهْ وذكر له نسبه.
فقال له: هات لي شاهدا واحدا يشهد أنك ابن من حمى الدّبر وأزوّجك،
فجاءه بمن يشهد له على ذلك، فزوجه إياها. وشرطت عليه ألا يمنعها من أحد
من أهلها، فخرج بها إلى المدينة، وكانت أختها عند رجل من بني تميم
قريبا من طريقهم، فقالت له: اعدل بي إلى أختي، ففعل.
فذبحت لهمْ وأكرمتهمْ وكانت من أحسن النساء، وكان زوجها من إبله، فقالت
امرأة الأحوص له: أقم حتى يأتي، فلما أمسوا راح مع إبله برعائه، وراحت
غنمه ورعاؤه، فراح من ذلك أمر كثير.
واسم الرجل مطر، فلما رآه الأحوص ازدراهْ واقتحمته عينه، وكان دميما
قبيحا. فقالت له زوجته: قم إلى سلفك فسلّم عليه. . . فقال - وأشار إلى
أخت زوجته
بإصبعه -:
(سلامُ اللهِ يا مَطرُ عليها ... وليس عليك يا مطرُ السلامُ)
(2/40)
فإنْ يكُنِ النكاحُ أحلَّ شيئاً ... فإنّ
نكاحها مطراً حرامُ
الرفع على الاستئناف دون الإبدال مما قبله
قال سيبويه قال مهلهل:
وسقيتُ تيمَ اللهِ كأساً مرّةً ... كالنار شبَّ سعيرُها بضِرامِ
(ولقد خبَطْنَ بيوتَ يشكُرَ خبطةً ... أخوالناْ وهُم بنو الأعمامِ)
الشاهد فيه أنه رفع (أخوالنا) على أنه خبر ابتداء محذوف، كأنه قال: هم
أخوالنا وهم بنو الأعمام. وقوله: وهم بنو الأعمام، يدل على المبتدأ
المحذوف. وتيم الله، أراد تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، ويشكر بن صعب بن
علي ابن بكر بن وائل.
وصف مهلهل ما فعل ببكر بن وائل، والضرام: دقّ الحطب. يريد أنه أوقد لهم
نار حرب سريعة الاتقاد. ولقد خبطن: يعني الخيل والمعنى لفرسانها.
ويروى: ولقد خبطت بيوت يشكر.
ترخيم (حارث) على مذهب من ينتظر
قال سيبويه في النداء، قال مهلهل، ويروى للشرحبيل بن مالك أحد بني عصم:
(يا حارِ لا تجهلْ على أشياخِنا ... إنا ذَوو السورْاتِْ والأحلامِ)
(2/41)
نحنُ الحصى عدداً ومنزلنا الذي ... فيه
الذُّراْ ومعارفُ الأعلامِ
الذي عندي أنه أراد مخاطبة الحارث بن عباد، والسورات: جمع سورةْ وهي
ارتفاع الغضب، وأراد أنهم يجدّونْ ويغضبون في موضع الغضب، ويحلمون في
موضع الحلم، ويضعون كل شئ موضعه. والحصى: كثرة العدد، والذرا: الأعالي
الواحدة ذروة، وأراد بالذرا السادة، والأعلام: الجبال، والأعلام: ما
يبنى في
الطرق ليهتدى به. يريد أنهم يقتدى بهمْ ويأتمّ بهم الناس.
إقحام (زيد) بين المنادىْ وما أضيف إليه
قال سيبويه في النداء، قال عبد الله بن رواحة:
يا زيدَ زيدَ اليعْملاتِ الذُّبلِ) ... تطاوَلَ الليلُ عليك فاْنزِلِ
الشاهد فيه أنه أقحم (زيدا) الثاني بين (زيد) الأول وبين ما أضافه
إليه، وزيد الأول مضاف إلى اليعملات، واليعملة: الناقة القوية التي
تصبر على السير، والذُّبلِ: جمع ذابلةْ وهي
(2/42)
التي ذبلت من شدة السيرْ وطول السُّرى،
والمخاطب هو زيد بن أرقم. وأضافه إلى اليعملات لأنه ينزلْ ويحدو لها
فتسير، وهو قوي على ضبطهاْ وسوقها، فتطاول الليل عليك: أي فد أخرت
النزول إليها حتى ذهب أكثر الليل.
ترخيم (مالك) في غير النداء
قال سيبويه في الترخيم، قال طرفة:
(أسَعْدَ بنَ مالٍ ألمْ تعلموا ... وذو الرأي مهما يقلْ يصدُقِ)
الشاهد فيه أنه رخم مالكا في غير النداء.
وأراد سعد بن مالك بن ضبيعة وهم قوم طرفة. وذو الرأي: المصيب، مهما
يقل: يعني أي شئ يقل - إنه يراه صوابا - يصدق. يريد أنه يصدق رأيه في
الإصابة، وأن الأمر يكون كما ظنه. و (مهما) موضعها نصب بـ (يقلّ) وهو
فعل الشرط، و (يصدق) جواب الشرط.
ياء المتكلم في المنادى
قال سيبويه قال عبد الله بن عبد الأعلى القرشي:
(فكنتَ إذ كنتَ إلهي وحَدكا ... لم يَكُ شيءٌ يا إلهي قبلكا)
(2/43)
الشاهد فيه أنه أثبت الياء التي للمتكلم،
وقد أضاف إليها المنادى، وحذفها حسن جداً.
والشاهد في موضعين: في قوله: (إذ كنت إلهي) وفي قوله: (لم يَكُ شيءٌ يا
إلهي) يريد أن الله عز وجل قديم، وأن الأشياء سواه محدثة. والمعنى
واضح.
الفصل بين كم الخبريةْ وبين ما أضيفت إليه
قال سيبويه في باب كم، قال الشاعر
(كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ... وكريمٍ بخله قد وَضعَهْ)
الشاهد فيه أنه فصل بين (كم) التي تقع في الخبرْ وبين ما أضافها إليهْ
وهو (مقرفٍ) بـ (جودّ) والمعنى: كم مقرفٍ نال العلا بجود.
والمقرف: اللئيم النسبْ والنفس، ويقال للإنسان إذا كان لئيم الأب، غير
صحيح النسب: مقرف، وإذا كان النقص من قبل أمه فهو هجين. والكريم يراد
به أنه كريم الطرفين في نسبه من قبل أبيهْ وأمه. يقول: كم إنسان لئيم
الأصل، وهو جواد في نفسه، رفعه جوده، وصارت له رئاسة في الناس، وتَغطى
عيبه لأجل جودهْ وسخائه، وكم كريمٍ في نسبهْ وحسبه، وضعه بخله، فصار
شرفه لا يُعبأ به لأجل بخله
حذف المنادى وهو مقدر في المعنى
قال سيبويه قال الشاعر:
(2/44)
(يا لعنةُ اللهِْ والأَقوام كلهِمِ ...
والصالحين على سمعانَ من جارِ)
الشاهد فيه على أنه حذف المنادى بعد (يا) من اللفظ، وهو مقدر في
المعنى، ورفع (لعنة) بالابتداء، و (على سمعانَ) خبره. وتقدير الكلام:
يا قوم، لعنة اللهْ والأقوام.
و (من جار) في موضع تمييز، كأنه قال: على سمعان جاراً. وهو واضح.
إبدال العين من الياء - ضرورة
قال سيبويه قال الراجز:
ومنهل ليس له حوازِقُ ... ولضَفادي جَمهِ نقانقُ
الشاهد فيه على أنه أبدل العين من (ضفادع) ياء، وكان ينبغي أن يقول:
ضفادع جمه، فلو قاله لانكسر البيت، فأبدل من العين ياء، والياء تسكن في
موضع الجر فاستوى وزن الشعر. والمنهل: مثل المصنع، والحوازِقُ: جمع
حازقْ وحازقة، والحَزْق: الحبس. يعني أن هذا المنهل ليست له جوانب تمنع
الماء أن ينبسط حوله، ويجوز أن يريد: ليست حروفه تمنع الواردة، بل
جوانبه كلها سهلة لمن يريده. والنقانق: جمع نِقْنِقَةْ وهي الصوت،
وجمه: معضمهْ وكثرته.
(2/45)
الإبدال من البدل
قال سيبويه قال العجاج:
خَوّى على مستوياتٍ خَمْسِ ... (كِرْكرَةٍْ وثَفِناتٍ ملْسِ)
الشاهد فيه أنه أبدل (كركرةْ وثفنات) من (خمسّ) و (خمس) بدل من
(مستوياتٍ). فكركرةْ وثفنات بدل من بدل. ويجوز أن يكون (خمس) وصفاً لـ
(مستويات) ويكون (كركرة) وما بعدها بدلاً من (مستويات).
والكركرة: القطعة المستديرة الناتئة في صدر البعير، وكعباه من يديه،
وملتقى ساقيهْ وفخذيه. والبعير إذا برك اعتمد على هذه المواضع الخمسة
في بروكه، والتخوية: أن يبرك على الأرضْ وهو متجاف، لا يلقي نفسه على
الأرض إلقاء شديداً. ووصفها بالملاسة ليُعلم أنها ليست بدَبِرة وليس
فيها عيب.
جعله خبر ابتداء محذوف - لتجديد المعنى
قال سيبويه: قال الراجز:
(من يكُ ذا بتٍّ فهذا بتي ... مقِّيطٌ مصيفٌ مشتى)
البت: كساء يعمل من الصوف، وجمعه بُتوت، ويقال لبائع البتوت بتات.
والشاهد فيه أنه جعل (مقيظ) خبر ابتداء محذوف، كأنه قال: هو مقيظ
(2/46)
مصيف مشتّ، ومقيظ مصيف مشتّ خبر بعد خبر، على نحو قولهم: هذا حلو حامض.
ويجوز أن يكون (بتي) بدلاً من (هذاّ) ويكون (مقيظ) خبراً لـ (بتي) ثم
أتى له بخبر بعد خبر. ويجوز فيه غير ذلك من الإعراب.
والمقِّيظ: الذي يصلح للاستعمال في القيظ، وهو أشد ما يكون من الحر.
يريد أنه ينصبه في القيظ ليقيه الشمسْ والحَرور، والمصيف الذي يصلح
للاستعمال في الصيف إذا بردت الريح بالليل تغطى به، وإذا حميت الشمس
بالنهار استظل به، والمشتي الذي يلبس في الشتاء ليقيَ البرد. |