شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في
النحو باب التحذير:
"وهو" في الأصل مصدر "حذر" بالتشديد، والمراد به هنا "تنبيه المخاطب
على أمر مكروه لتجتنبه". ويكون بثلاثة أشياء: بـ"إياك" وأخواته. وبما
ناب عنها من الأسماء المضافة إلى ضمير المخاطب، نحو: نفسك، وبذكر
المحذر منه، نحو: الأسد.
"فإن ذكر المحذر بلفظ "إيا" فالعامل" في محلها1 النصب فعل "محذوف
لزومًا"، لأنه لما كثر التحذير بلفظ "إيا" جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل،
والتزموا معه إضمار العامل، "سواء عطفت عليه" المحذر منه، نحو: إياك
والشر، "أم كررته" نحو: [من الطويل]
744-
إياك إياك المراء..... ... ........................
"أم لم تعطف ولم تكرر" نحو: إياك الأسد، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله:
622-
إياك والشر ونحوه نصب ... محذر بما استتاره وجب
623-
ودون عطف ذا لإيا انسب..... ... .....................................
"تقول" إذا عطفت عليه المحذر منه: "إياك والأسد" فإياك: في محل نصب
بفعل محذوف تقديره: أحذر، ونحوه، ثم قيل: يجب تقديره بعد "إياك"
والأصل: إياك أحذر، لأنه لو قدر قبله لاتصل به، فقيل: أحذرك، فيلزم
تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره2 المتصل، وذلك خاص بأفعال القلوب وما
ألحق بها.
__________
1 في "ب": "محلهما".
744- تمام البيت:
إياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعاء وللشر جالب
وتقدم تخريجه برقم 648.
2 في "ب": "ضمير".
(2/273)
"و" قيل: "الأصل: احذر تلاقي نفسك، والأسد
ثم حذف الفعل" وهو احذر "وفاعله" وهو ضمير المخاطب المستتر فيه، فصار
"تلاقي نفسك والأسد" "ثم" حذف "المضاف الأول" وهو "تلاقي"، "وأنيب عنه
الثاني" وهو "نفسك" "فانتصب" فصار "نفسك والأسد"، "ثم" حذف المضاف
الثاني وهو "نفس" "وأنيب عنه الثالث" في التركيب وهو الكاف، "فانتصب"
بعد أن كان مجرورًا بالإضافة، "وانفصل" لتعذر اتصاله فصار "إياك".
واختلف في إعراب ما بعد الواو فقيل: هو معطوف على "إياك" والتقدير:
احذر نفسك أن تدنو من الأسد والأسد أن يدنو منك، وهذا مذهب كثيرين منهم
السيرافي. واختاره ابن عصفور1.
واعترض بأن "إياك" محذر و"الأسد" محذر منه، والعطف يقتضي المشاركة في
المعنى. وأجيب بأن مقتضى العطف الاشتراك في معنى الخوف، فلا يمتنع أن
يكون أحدهما خائفًا والآخر مخوفًا منه. قاله الفخر الرازي في شرح
المفصل. وذهب ابن طاهر وابن خروف إلى أن ما بعد الواو منصوب بفعل آخر
محذوف، فهو عندهما من قبيل عطف الجمل3. واختار ابن مالك قولا ثالثا،
وهو أن يكون معطوفًا عطف مفرد لا على التقدير الأول، بل على تقدير: اتق
تلاقي نفسك والأسد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قال: ولا شك
في أن هذا أقل تكلفًا. انتهى. وظاهر صنيع الموضح موافقته.
"وتقول" إذا لم تعطف ولم تكرر: "إياك من الأسد"، واختلف في تحقيق
العامل المحذوف فقال الجمهور: عامله فعل متعد لواحد، "والأصل: باعد
نفسك من الأسد، ثم حذف "باعد" وفاعله" المستتر فيه فصار: نفسك من
الأسد، "و" حذف "المضاف" وهو "نفس"، فانفصل الضمير وانتصب فصار: إياك
من الأسد، فـ"إياك" منصوب "باعد" محذوفًا، و"من الأسد": متعلق بذلك
المحذوف.
"وقيل": عامله فعل متعد لاثنين. و"التقدير: أحذرك من الأسد". قاله ابن
الناظم3 تبعًا لأبي البقاء4، فحذف "أحذر"5 وفاعله وانفصل الضمير لتعذر
اتصاله
__________
1 المقرب 1/ 253.
2 انظر الارتشاف 2/ 281، وهمع الهوامع 1/ 169.
3 في شرح ابن الناظم ص432: "أحذرك الأسد".
4 انظر شرح المرادي 4/ 70.
5 سقطت من "ب".
(2/274)
"فنحو: إياك الأسد"، بحذف "من" ونصب
"الأسد"، "ممتنع على التقدير، الأول، وهو قول الجمهور"، لما يلزم عليه
من حذف "من" ونصب المجرور، وهو غير مطرد إلا مع "أن" و"أن" و"كي" كما
تقدم في باب التعدي واللزوم، "وجائز على" التقدير "الثاني، وهو رأي ابن
الناظم1" وأبي البقاء2، لأن "أحذر" يتعدى إلى اثنين من غير واسطه، قال
الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 30]
فالكلام على تقدير الجمهور إنشائي، وعلى تقدير ابن الناظم خبري.
"ولا خلاف في جواز: إياك أن تفعل"، على التقديرين، فجوازه على الأول
لصلاحيته لتقدير: من" أي من أن تفعل، لأن حرف الجري حذف مع "أن" قياسًا
مطردًا, كما تقدم، وجوازه على الثاني واضح لتعدي الفعل إليه بنفسه من
غير تقدير واسطة.
"ولا يكون "إيا" في هذا الباب لمتكلم"، لأن المتكلم لا يحذر نفسه، "وشذ
قول عمر -رضي الله عنه: لتذك" من التذكية "لكم الأسل"3 بفتح الهمزة
والسين المهملة، وفي آخر لام، وهو هنا ما رق وأرهف من الحديد كالسيف
والسكين ونحوهما. وفي كتاب4 الضياء: الأسل: شجر الرماح، ويقال لكل نبت
له شوك طويل، "والرماح": جمع رمح، "والسهام": جمع سهم.
"وإياي وأن يحذف أحدكم الأرنب", فقيل: الكلام جملتان، ثم قال الزجاج:
أصله: "إياي وحذف الأرنب وإياكم وحذف الأرنب"، فحذف من كل جملة ما أثبت
في الأخرى.
"و" قال الجمهور: "أصله: إياي باعدوا عن حذف الأرنب، وباعدوا أنفسكم أن
يحذف أحدكم الأرنب، ثم حذف من الأول المحذور" وهو "حذف الأرنب" "و" حذف
"من الثاني المحذر" وهو "باعدوا أنفسكم" وقيل: الكلام جملة واحدة.
ثم اختلف فقيل: حذفت أربعة أشياء، وأصله: إياي باعدوا عن حذف الأرنب
وحذف الأرنب عني، فحذف فعل وفاعل ومفعول مقيد، وما عطف على هذا المفعول
المقيد
__________
1 شرح ابن الناظم ص432.
2 انظر شرح المرادي 4/ 70.
3 من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وتمامه: "لتذك لكم الأسل،
والرماح والسهام، وإياي وأن يحذف أحدكم الأرنب"، وهو من شواهد شرح ابن
الناظم ص433، وشرح ابن عقيل 2/ 300.
4 سقطت من "ب"، "ط".
(2/275)
فإن الواو عطفت بشيئين على شيئين. وقال
السيرافي: حذف شيئان فقط، وأصله: باعدوني وحذف الأرنب.
ولا يخفى ما في هذه الأقول من الضعف، أما قول الزجاج فإن فيه دعوى حذف
"إياكم" ولا يليق حذفهما لما استقر لها في هذا الباب من أنها بدل من
اللفظ بالفعل، وأما ما اختاره الموضح ففيه حذف من الأول لدلالة الثاني
[عليه] 1، وهو قليل وفيه مخالفة لما يفهم من صنيعه في "إياك والأسد"
أنهما جملة واحدة. وأما القول الثالث فيه كثرة حذف وتكرار، فإن
مباعدتهم له عن حذف الأرنب مباعدة لحذف الأرنب عنه، وكذا هو في قول
السيرافي، وإن لم يصرح به، فإن "باعدوني" ليس أمرًا بالمباعدة المطلقة،
بل بالمباعدة عن شيء خاص، وكذا مباعدة حذف الأرنب إنما هي عنه، فمرجع
القولين الأخيرين إلى قول واحد، وإن ظن شارحون أنهما غيران.
" ولا يكون" "إيا" في هذا الباب "لغائب"، لاختصاص التحذير بالمخاطب،
"وشذ قول بعضهم"، أي العرب: "إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا
الشواب2". قال سيبويه3: حدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمعه من
أعرابي. والشواب: بالشين المعجمة وفي آخره موحدة مشددة: جمع "شابة".
ويروى: السوءات، بالسين المهملة: جمع سوءة4.
والمعنى: إذا بلغ الرجل ستين سنه فلا يتولع بشابة ولا يفعل سوءة.
والكلام جملة واحدة، "والتقدير: فليحذر تلاقي نفسه وأنفس الشواب". فحذف
الفعل وفاعله ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني، ثم الثاني وأنيب عنه
الثالث، فانتصب وانفصل، وأبدل "أنفس" بـ"أيا". لأنها تلاقيها في
المعنى.
"وفيه شذوذان" آخران5:
"أحدهما: اجتماع حذف الفعل" المجزوم بلام الأمر "وحذف حرف الأمر" وهو
اللام، مع أن لام الأمر لا تحذف إلا في الضرورة كقوله: [من الطويل]
__________
1 إضافة من "ب"، وسقطت من "ط".
2 من شواهد الكتاب 1/ 279، وشرح ابن عقيل 2/ 301، والإنصاف 2/ 697،
المسألة رقم 98، وشرح ابن الناظم ص433، ولسان العرب "أيا"، وشرح المفصل
3/ 100.
3 الكتاب 1/ 279.
4 في "ب": "ويروى: الشوءات؛ بالشين المهملة، جمع شوءة".
5 سقط من "ب": "وفيه شذوذان آخران".
(2/276)
745-
محمد تفد نفسك كل نفس ... ....................................
أي: لتفد، فحذفها مع مجزومها أشد.
"و" الشذوذ "الثاني: إقامة المضمر وهو "إيا" الثانية مقام الظاهر وهو:
الأنفس"، وإضافتها إلى الشواب، "لأن المستحق للإضافة إلى الأسماء
الظاهرة اتفاقًا وإلى المضمرات على الأصح "إنما هو المظهر لا المضمر"،
لأن الإضافة إما للتعريف, وإما للتخصيص، والضمير غني عن ذلك، لأنه1
أعرف المعارف؟
وذهب الخليل إلى أن "إياه" ضميران2 أضيف أحدهما إلى الآخر3، وإلى
الشذوذ أشار الناظم بقوله:
625-
وشذ إياي وإياه أشد ... وعن سبيل القصد من قاس انتبذ
"وإن ذكر المحذر"؛ بفتح الذال المعجمة؛ "بغير لفظ "إيا"4 أو اقتصر على
ذكر المحذر منه فإنما يجب الحذف" للعامل "إن كررت أو عطفت، فالأول" وهو
ذكر المحذر بغير لفظ "إيا" مع التكرار، "نحو: نفسك نفسك"، ومع العطف
نحو5: نفسك وعينك.
"والثاني"، وهو الاقتصار على ذكر المحذر منه بغير لفظ "إيا" مع
التكرار، "نحو: الأسد الأسد، و" مع العطف نحو: {نَاقَةَ اللَّهِ
وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] فالعامل في هذه الأمثلة الأربعة محذوف
وجوبًا، لأن العطف كالبدل من اللفظ بالفعل، والتكرار بمنزلة العطف.
__________
745- عجز البيت:
إذا ما خفت من شيء تبالا
وهو لأبي طالب في شرح شذور الذهب 211، وله أو للأعشى في خزانة الأدب 9/
11، وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدرر 2/ 75، وبلا نسبة في أسرار
العربية 319، 321، وأمالي ابن الشجري 1/ 375، والإنصاف 2/ 530، وسر
صناعة الإعراب 1/ 391 وشرح ابن الناظم ص492، وشرح الأشموني 3/ 575،
وشرح التسهيل 4/ 60، وشرح شواهد المغني 1/ 597، وشرح المفصل 7/ 35، 60،
62، 9/ 24، والكتاب 3/ 8، واللامات ص 96، ومغني اللبيب 1/ 224،
والمقاصد النحوية 4/ 418، والمقتضب 2/ 132، والمقرب 1/ 272, وهمع
الهوامع 2/ 55.
1 في "ب": "لأنها".
2 في "ب": "أنه ضميران".
3 الإنصاف 2/ 695، المسألة رقم 98.
4 في "ب": "يا".
5 سقطت من "ب".
(2/277)
"وفي غير ذلك يجوز الإظهار" للعامل "كقوله"
وهو جرير: [من البسيط]
746-
خل الطريق لمن يبني المنار به ... وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
فأظهر العامل وهو "خل" لأن المحذر منه وهو "الطريق" خال من التكرار
والعطف. والمنار، بفتح الميم وتخفيف النون: حدود الأرض، والبرزة: الأرض
الواسعة، والباء للظرفية، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله:
423-
............................. وما ... سواه ستر فعله لن يلزما
424-
إلا مع العطف أو التكرار ... .............................
__________
746- البيت لجرير في ديوانه 1/ 211، وأمالي ابن الشجري 1/ 342،
والصاحبي في فقه اللغة ص186، والكتاب1/ 254، ولسان العرب 5/ 310 "برز"،
والمقاصد النحوية 4/ 307، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 78، والرد على
النحاة ص75، وشرح الأشموني 2/ 481، وشرح المفصل 2/ 30.
(2/278)
|