علل النحو (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا.
قَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عبد الله الْوراق، رَحمَه الله، وَغفر
لَهُ:
إِن قَالَ قَائِل: من أَيْن علمْتُم أَن الْكَلَام يَنْقَسِم ثَلَاثَة
أَقسَام؟
قيل: لِأَن الْمعَانِي الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا الْكَلَام ثَلَاثَة،
وَذَلِكَ أَن من الْكَلَام مَا يكون خَبرا ويخبر عَنهُ، فَسمى النحويون
هَذَا النَّوْع اسْما.
وَمن الْكَلَام مَا لَا يكون خَبرا وَلَا يخبر عَنهُ، فَسمى النحويون
هَذَا النَّوْع فعلا.
وَمن الْكَلَام مَا لَا يكون خَبرا وَلَا يخبر عَنهُ، فَسمى النحويون
هَذَا النَّوْع حرفا.
وَلَيْسَ هَاهُنَا معنى يتَوَهَّم سوى هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة،
فَلهَذَا لَا إِشْكَال فِيمَا عدا هَذِه الْأَقْسَام، إِذْ لَا معنى
يتَوَهَّم سواهَا.
وَوجه آخر: أَن الْمعَانِي قد أحطنا بِعلم جَمِيعهَا، والألفاظ يحْتَاج
إِلَيْهَا من أجل الْمعَانِي، فَإِذا كَانَ كل معنى لَا يُمكن أَن يعبر
عَنهُ إِلَّا بِأحد هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة، دلّ ذَلِك على أَن
جَمِيع الْأَقْسَام ثَلَاثَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خصصتم الْقسم الأول بتلقيبه بِالِاسْمِ،
وَالثَّانِي بِالْفِعْلِ، وَالثَّالِث بالحرف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
(1/137)
أَحدهمَا: أَن غَرَض النَّحْوِيين بِهَذَا
التلقيب الْفَصْل بَين هَذِه الْأَقْسَام، إِذْ كَانَت مَعَانِيهَا
مُخْتَلفَة، فَإِذا كَانَ الْقَصْد باللقب إِلَى الْفَصْل، فَلَيْسَ
لأحد أَن يَقُول: لم لقبتم هَذَا الْقسم بِهَذَا اللقب دون غَيره؟ إِذْ
لَا لقب يلقب بِهِ إِلَّا وَيُمكن أَن يعْتَرض بِهَذَا السُّؤَال، وَقد
وَجب بِحَالَة أَن يخص بلقب، فَإِذا وَجب الشَّيْء لم يجب الإعتراض
عَلَيْهِ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه يُمكن أَن يَجْعَل لكل لقب معنى من أَجله
لقب بِهِ.
وَالْوَجْه فِي تلقيب مَا صَحَّ أَن يكون خَبرا ويخبر عَنهُ ب
(الِاسْم) ، لِأَن الِاسْم مُشْتَقّ من سما يسمو، أَي: ارْتَفع،
فَلَمَّا كَانَ هَذَا لَهُ مزية على النَّوْعَيْنِ الآخرين، من أجل
أَنه شَارك النَّوْع الَّذِي يكون خَبرا فِي هَذَا الْمَعْنى، ويفضله
فِي أَن الْخَبَر يَصح عَنهُ، وَجب أَن يلقب بِمَا يُنبئ عَن هَذِه
المزية، فلقب بِالِاسْمِ، ليدل بذلك على علوه وارتفاعه على
النَّوْعَيْنِ الآخرين.
وَأما النَّوْع الثَّانِي فلقب ب (الْفِعْل) ، وَذَلِكَ أَن قَوْلك:
ضرب، يدل على الضَّرْب وَالزَّمَان، وَالضَّرْب هُوَ فعل فِي
الْحَقِيقَة، فَلَمَّا كَانَ (ضرب) يدل عَلَيْهِ لقب بِمَا دلّ
عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: فَلم صَار تلقيبه بِالْفِعْلِ الدَّال عَلَيْهِ دون
الزَّمَان، وَهُوَ أَيْضا دَال عَلَيْهِ؟
قيل: لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من لفظ الْمصدر، وَلَيْسَ مشتقا من لفظ
الزَّمَان، فَلَمَّا اجْتمع فِيهِ الدّلَالَة على الْمصدر واشتقاق
اللَّفْظ كَانَ أخص بِهِ من الزَّمَان، لوُجُود لَفظه فِيهِ.
(1/138)
فَإِن قيل: فَلم اشتق الْفِعْل من الْمصدر
دون الزَّمَان؟
قيل: لِأَن الزَّمَان دَائِم الْوُجُود، والمصادر أَفعَال تَنْقَضِي،
وَإِنَّمَا الْغَرَض فِي اشتقاق الْفِعْل من أَحدهمَا ليدل
عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا كَانَت الْأَفْعَال منقضية، وَالزَّمَان
مَوْجُودا، وَجب أَن يَقع الِاشْتِقَاق من المصادر، ليدل لفظ (2 / أ)
الْفِعْل عَلَيْهِمَا من غير تذكار، وَلم يحْتَج فِي الزَّمَان إِلَى
ذَلِك لوُجُوده، فَلهَذَا وَجب الِاشْتِقَاق من الْمصدر دون الزَّمَان.
وَوجه آخر: أَن أَسمَاء الْأَزْمِنَة قَليلَة، وَأَسْمَاء الْأَنْفس
كَثِيرَة، فَلَو اشتق من الزَّمَان لفظ الْفِعْل ضَاقَ الْكَلَام، وَلم
يكن فِيهِ مَعَ ذَلِك دلَالَة على الْمصدر، فاشتق من لفظ الْأَفْعَال
الْمصدر، لِأَنَّهَا لَا تُفَارِقهُ، وَإِن لم يكن لَهَا اسْم يحصرها.
وَأما تَسْمِيَة النَّوْع الثَّالِث بالحرف فِي اللُّغَة، فموضوع لطرف
الشَّيْء، وَكَانَ هَذَا النَّوْع إِنَّمَا يَقع طرفا للاسم وَالْفِعْل
مَعًا، خص بِهَذَا اللقب، لِقَوْلِك: أَزِيد ترى فِي الدَّار؟ فالألف
إِنَّمَا دخلت للاستفهام عَن كَون زيد، وَلم تدخل هِيَ لِمَعْنى
يختصها، وَهِي فِي اللَّفْظ طرف مَعَ ذَلِك، فاعرفه.
وَاعْلَم أَن للاسم حدا وخواص، فحده: كل مَا دلّ على معنى مُفْرد
تَحْتَهُ، غير مقترن بِزَمَان مُحَصل فَهُوَ اسْم، كَقَوْلِه: رجل،
وَفرس، وَمَا أشبه ذَلِك، أَلا ترى أَن هَذِه اللَّفْظَة دَالَّة على
شخص مُجَرّد من شَيْء سواهُ!
(1/139)
وَأما الْخَواص: فجواز دُخُول الْألف
وَاللَّام عَلَيْهِ، والتنوين، وحرف من حُرُوف الْجَرّ، ووقوعه فَاعِلا
ومفعولا، وَالْإِضَافَة، والإضمار وَمَا أشبه ذَلِك، وَأَن يحسن مَعَه
ضرّ ونفع.
وَبَعض النَّحْوِيين لَا يَجْعَل عَلامَة الِاسْم جَوَاز دُخُول هَذِه
الْأَشْيَاء، فِرَارًا من أَن تلزمهم مُعَارضَة، لقَولهم: (أَتَت
النَّاقة على مضربها) ، أَي على الزَّمَان الَّذِي يضْربهَا فِيهِ
الْفَحْل، وَذَلِكَ أَنه يَقُول: إِن المضرب قد دلّ على زمَان وَضرب،
وَهُوَ مَعَ ذَلِك اسْم، وَهَذَا ينْقض حد الِاسْم.
فَالْجَوَاب عَن هَذَا السُّؤَال أَن يُقَال: إِن المضرب وضع لدلَالَة
على زمَان فَقَط، وَإِن كُنَّا نفهم مَعَ ذَلِك الضَّرْب، لاشتقاق
اللَّفْظ من الضَّرْب، وَإِذا كَانَ الْمَفْهُوم من دلَالَة وضع
الِاسْم معنى وَاحِدًا، فقد سلم لفظ الْحَد. وَنَظِير مَا ذكرنَا أَن
الْأَفْعَال إِنَّمَا وضعت للدلالة على الزَّمَان، وَإِن كُنَّا نفهم
أَن الْفَاعِل مِنْهَا يحْتَاج إِلَى مَكَان، إِلَّا أَن ذَلِك نفهمه
بِالتَّأَمُّلِ دون اللَّفْظ، فَكَذَلِك (المضرب) يجْرِي فِي هَذَا
المجرى، يدل على صِحَة ذَلِك أَن الْعَرَب إِذا أَرَادَت الدّلَالَة
على الْمصدر فَقَط قَالَت: (المضرب) ، ففتحوا الرَّاء، فَلَو كَانَ
(المضرب) يدل على الْمصدر، لم يَحْتَاجُونَ إِلَى بِنَاء آخر؟
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي (ضَارب) وَمَا أشبهه من أَسمَاء
الفاعلين؟
(1/140)
قيل: دَالَّة على الْفَاعِل للضرب من جِهَة
اللَّفْظ، وَإِنَّمَا يفهم معنى الزَّمَان فِيهَا بِالنِّيَّةِ. وَجَاز
ذَلِك لِأَن اسْم الْفَاعِل مُشْتَقّ من الْفِعْل، فَجَاز أَن ينوى
بِهِ الزَّمَان، لاشتقاقه من لفظ يدل على الزَّمَان.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ (كَانَ وَأَخَوَاتهَا) تدل على الزَّمَان فَقَط،
فَهَلا جعلت اسْما، لدلالتها على معنى مُفْرد، كدلالة (يَوْم
وَلَيْلَة) وَمَا أشبههما؟
قيل: إِنَّهَا وَإِن كَانَت تدل على الزَّمَان فَقَط، فقد صرفت تصريف
الْأَفْعَال، وَمَعَ ذَلِك فالغرض فِي ذكرهَا الْعبارَة عَن الْمعَانِي
الَّتِي تقع فِي خبر المبتدإ، فَصَارَت كَأَنَّهَا دَالَّة على ذَلِك
الْمَعْنى وَالزَّمَان جَمِيعًا. أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: كَانَ زيد
قَائِما، دللت ب (كَانَ) على قيام فِي زمَان مَاض، فَلذَلِك وَجب أَن
تجْعَل أفعالا.
وَأما الْفِعْل: فحده أَن يُقَال: (2 / ب) كل كلمة تدل على معنى وزمان
مُحَصل فَهُوَ فعل، كَقَوْلِك: ضرب، وَانْطَلق، يدل على انطلاق فِي
زمَان.
وَله أَيْضا خَواص، فَمن خواصه التَّصَرُّف، نَحْو: ضرب يضْرب، وَذهب
يذهب، وَمَا أشبهه. وَمِنْه صِحَة الْأَمر، نَحْو: اضْرِب، واقتل،
وَمَا أشبهه.
(1/141)
وَأما الْحَرْف: فحده: مَا دلّ على معنى
فِي غَيره، نَحْو قَوْلك: أخذت درهما من مَال زيد، ف (من) تدخل
للتَّبْعِيض لِلْمَالِ، وَالْبَعْض هُوَ الدِّرْهَم من المَال. وَإِن
شِئْت اعتبرته بامتناع حد الِاسْم وَالْفِعْل مِنْهُ، أَو بامتناع
خواصهما مِنْهُ.
وَأما إِدْخَال الْهَاء فِي الْعَرَبيَّة، فَلِأَن المُرَاد
بِالْعَرَبِيَّةِ اللُّغَة الْعَرَبيَّة، واللغة مُؤَنّثَة، فَدخلت
الْهَاء على هَذَا المُرَاد.
وَإِنَّمَا قسمت الْعَرَبيَّة على أَرْبَعَة أضْرب، لِأَن أصل
الْإِعْرَاب هُوَ الْإِبَانَة، وَالْإِعْرَاب إِنَّمَا يدْخل فِي
الْكَلَام للإبانة عَن الْمعَانِي، فكأنا أردنَا أَن نقسم الْعَرَبيَّة
من حَيْثُ كَانَت مَبْنِيَّة عَلَيْهِ، لَا من وُجُوه تصاريفها، وَإِذا
كَانَ كَذَلِك فالإعراب إِنَّمَا هُوَ بحركة وَسُكُون، وَالْحَرَكَة
إِمَّا أَن تكون ضمة أَو فَتْحة أَو كسرة، لَا يُمكن أَن تُوجد حَرَكَة
مُخَالفَة لهَذِهِ الثَّلَاثَة، والسكون الرَّابِع، فَلهَذَا انقسمت
أَرْبَعَة أَقسَام.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار الرّفْع وَالنّصب يدخلَانِ على
الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال، واختص الْجَرّ بالأسماء، والجزم بالأفعال؟
قيل: لِأَن أصل الْإِعْرَاب إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاء دون
الْأَفْعَال، وَالدّلَالَة على ذَلِك أَن الْأَسْمَاء لَو لم تعرب
لأشكل مَعْنَاهَا، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: مَا أحسن
(1/142)
زيد. لَكُنْت ذاما لَهُ. وَلَو قلت: مَا
احسن زيد؟ لَكُنْت مستفهما عَن أَبْعَاضه أَيهَا أحسن. وَلَو قلت: مَا
أحسن زيدا! لَكُنْت مُتَعَجِّبا.
فَلَو أسقط الْإِعْرَاب فِي هَذِه الْوُجُوه، لاختلطت هَذِه
الْمعَانِي، فَوَجَبَ أَن تعرب الْأَسْمَاء ليزول الْإِشْكَال.
وَأما الْأَفْعَال فَإِنَّهَا لَو لم تعرب لم يشكل مَعْنَاهَا،
لِأَنَّهَا بنيت لأزمنة مَخْصُوصَة، فإعرابها أَو تَركهَا لَا يخل
بمعناها، وَالْإِعْرَاب زِيَادَة، وَمن شَرط الْحَكِيم أَلا يزِيد لغير
فَائِدَة، فَكَانَ حق الْأَفْعَال كلهَا أَن تكون سواكن، إِلَّا أَن
الْفِعْل الَّذِي فِي أَوله الزَّوَائِد الْأَرْبَع أشبه الِاسْم من
أَربع جِهَات:
أَحدهَا: أَن يكون صفة كَمَا يكون الِاسْم، كَقَوْلِك: مَرَرْت بِرَجُل
يضْرب، كَمَا تَقول: مَرَرْت بِرَجُل ضَارب.
وَالثَّانِي: أَنه يصلح لزمانين، أَحدهمَا الْحَال، وَالْآخر
الِاسْتِقْبَال، ثمَّ تدخل (السِّين وسوف) فتبينه إِلَى
الِاسْتِقْبَال، كَمَا أَن قَوْلك: ضَارب، لَا يدل على شخص بِعَيْنِه،
كَمَا اخْتصَّ الْفِعْل بِزَمَان بِعَيْنِه.
وَالثَّالِث: أَن اللَّام الَّتِي تدخل فِي خبر (إِن) تدخل على
الِاسْم، وعَلى هَذَا الْفِعْل، كَقَوْلِك: إِن زيدا لقائم، وَإِن زيدا
ليقوم، ويقبح دُخُولهَا على
(1/143)
الْمَاضِي، نَحْو: إِن زيدا لقام. فَلَمَّا
شرك الْفِعْل الْمُضَارع الِاسْم فِي حسن دُخُول اللَّام عَلَيْهِ،
علمنَا أَن بَينهمَا مشابهة.
وَإِنَّمَا قبح دُخُول اللَّام على الْمَاضِي، لِأَن هَذِه اللَّام أصل
دُخُولهَا على المبتدإ، ونقلت عَن موضعهَا لدُخُول (إِن) عَلَيْهَا،
وَحقّ خبر الْمُبْتَدَأ أَن يكون هُوَ الْمُبْتَدَأ فِي الْمَعْنى،
فَلَمَّا كَانَ الْفِعْل الْمُضَارع مشبها للاسم حسن دُخُول اللَّام
عَلَيْهِ، وَلما بعد الْمَاضِي من شبه الِاسْم، قبح دُخُولهَا
عَلَيْهِ.
وَالرَّابِع: أَن قَوْلك: ضَارب، يصلح لزمانين، وَكَذَلِكَ: يضْرب،
يصلح لزمانين. وَإِنَّمَا صَارَت هَذِه (3 / أ) المشابهة لَهَا
تَأْثِير، لِأَن الِاسْم الْوَاحِد قد يَقع لمسميات كَثِيرَة، فَلَمَّا
وَقع الْمُضَارع لزمانين، صَار كالاسم الْوَاقِع لمسميين، فَلذَلِك
صَار هَذَا الْوَجْه معتدا بِهِ فِي شبهه للاسم، وَلم يجز أَن يعْتد
بِكَوْن (ضرب) دَالا على الزَّمَان الْمَاضِي، فَيجْعَل الْمَاضِي
مشبها لَهُ فِي هَذِه الْوُجُوه، لِأَن دلَالَة الْفِعْل على معنى
وَاحِد لَا يُوجب شبها بالأسماء، لِأَن الاتساع إِنَّمَا وَقع فِي
الْأَسْمَاء، لكَون الِاسْم الْوَاحِد لمسميات، لضيق الْأَسْمَاء،
وَكَثْرَة المسمين بهَا، فَمَا أشبههَا من هَذَا الْوَجْه يجْرِي
مجْراهَا، وَمَا دلّ على معنى وَاحِد فَهُوَ على أَصله، فَلَمَّا أشبه
الْفِعْل الْمُضَارع الِاسْم من هَذِه الْجِهَات، وَجب أَن يحمل على
الِاسْم فِيمَا يسْتَحقّهُ الِاسْم، وَهُوَ الْإِعْرَاب.
وَإِنَّمَا حمل على الِاسْم فِي الْإِعْرَاب دون مَا يسْتَحقّهُ
الِاسْم من الْجمع
(1/144)
والتصغير، وَغير ذَلِك مِمَّا يخْتَص
بالأسماء دون الْأَفْعَال، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يُغير معنى الْفِعْل
بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، وَصَارَ مَا ذكرته يُوجب تَغْيِير معنى الْفِعْل
وإخراجه إِلَى أَن يكون اسْما، إِذْ كَانَت الْمعَانِي الَّتِي اخْتصَّ
بهَا الِاسْم مِمَّا لَا يَصح دُخُولهَا على الْفِعْل، وَإِنَّمَا
اخْتصَّ بهَا من حَيْثُ كَانَ اسْما، فَلذَلِك وَجب أَن يحمل الْفِعْل
على الِاسْم من أجل مَا أشبهه فِي حكم لَا يُغير مَعْنَاهُ، ويلحقه
بِمَعْنى الْأَسْمَاء، وَهُوَ الْإِعْرَاب، إِلَّا أَن الْجَزْم لم يجز
دُخُوله على الِاسْم، لِأَنَّهُ لَو دخل عَلَيْهِ لأوجب حذف
شَيْئَيْنِ، وهما: التَّنْوِين وَالْحَرَكَة، وَالِاسْم فِي نِهَايَة
الخفة، فَكَانَ ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى الإجحاف بِهِ، فَسقط الْجَزْم من
الْأَسْمَاء، وَأدْخل فِي الْأَفْعَال، إِذْ كَانَ الْفِعْل ثقيلا
يحْتَمل الْحَذف وَالتَّخْفِيف، فاستقر الْجَزْم للْفِعْل لما ذكرنَا.
وَبَقِي من الْإِعْرَاب ثَلَاثَة أضْرب، وَهُوَ: الرّفْع وَالنّصب
والجر، فالجر امْتنع من الْفِعْل، لِأَن الْجَرّ إِنَّمَا يكون
بِالْإِضَافَة، وَالْفضل بِالْإِضَافَة تَخْصِيص الْمُضَاف، وَالْفِعْل
لَو أضفت إِلَيْهِ لم تخص مَا قبله، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: هَذَا
غُلَام، لَكِن مُبْهما، فَإِذا قلت: غُلَام زيد، اخْتصَّ بِملك زيد،
فَلَو قلت: جَاءَنِي غُلَام يقوم، لم يخْتَص الْغُلَام بإضافته إِلَى
(يقوم) لِأَن الْقيام يكون من زيد، وَمن عَمْرو، وَسَائِر النَّاس،
فَلهَذَا أسقط الْجَرّ من الْفِعْل.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْمَجْرُور يقوم مقَام التَّنْوِين، وَالْفِعْل
لَا يَخْلُو من
(1/145)
فَاعل، فَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى أَن يقوم
مقَام التَّنْوِين - وَهُوَ وَجه وَاحِد ضَعِيف - شَيْئَانِ قويان،
وهما الْفِعْل وَالْفَاعِل، فَسقط الْجَرّ من الْفِعْل، وَجعل فِي
الِاسْم، إِذْ كَانَ محلا للإعراب.
وَبَقِي من الْإِعْرَاب الرّفْع وَالنّصب، وَلم يعرض فِيهَا مَا يُوجب
اختصاصهما أَو أَحدهمَا بِالْفِعْلِ وَالِاسْم، فَوَجَبَ أَن يدخلا
عَلَيْهِمَا.
وَجَازَت إِضَافَة أَسمَاء الزَّمَان إِلَى الْأَفْعَال لِأَنَّهَا
تُضَاف إِلَى المصادر، وَالْفِعْل يدل على مصدره، كَقَوْلِك: (من كذب
كَانَ شرا لَهُ) ، أَي: كَانَ الْكَذِب شرا لَهُ، فَلَمَّا جَازَ أَن
نقُول: أعجبني يَوْم خُرُوجك. جَازَ أَن تَقول: أعجبني يَوْم تخرج.
وَوجه آخر: أَن الْفِعْل يدل على مصدر وزمان، وَالزَّمَان جُزْء من
الْفِعْل، فَلَمَّا جَازَت إِضَافَة الْبَعْض إِلَى الْكل (3 / ب)
جَازَت إِضَافَة الزَّمَان إِلَى الْفِعْل، كَمَا يجوز أَن تَقول: (ثوب
خَز) .
وَقَالَ الْأَخْفَش فِي ذَلِك: إِن جَمِيع ظروف الزَّمَان يتَعَدَّى
الْفِعْل إِلَيْهَا بِغَيْر
(1/146)
توَسط حرف الْجَرّ.
وظروف الْمَكَان إِنَّمَا يتَعَدَّى الْفِعْل إِلَى الْمُبْهم مِنْهَا
بِغَيْر توَسط حرف الْجَرّ، فَجعلت إِضَافَة ظروف الزَّمَان إِلَى
الْفِعْل عوضا من ذَلِك.
فَأَما (حَيْثُ) من ظروف الْمَكَان فَيجوز إضافتها إِلَى الْفِعْل،
تَشْبِيها ب (حِين) ، لِأَنَّهَا مُبْهمَة فِي الْمَكَان كإبهام (حِين)
فِي الزَّمَان، فَلذَلِك جَازَ إضافتها إِلَى الْفِعْل.
فاستقر بِمَا ذكرنَا أَن الْجَرّ للأسماء، والجزم للأفعال، وَبَقِي
الرّفْع وَالنّصب مشتركين للأسماء وَالْأَفْعَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد قُلْتُمْ إِن أصل الْأَفْعَال السّكُون، ثمَّ
بينتم وجوب الْإِعْرَاب للمضارع، فَمن أَيْن اخْتلف فعل الْأَمر
وَالْفِعْل الْمَاضِي، فبنيتم الْمَاضِي على الْفَتْح، وَالْأَمر على
السّكُون؟ فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْفِعْل الْمَاضِي قد حصلت لَهُ
مشابهة بِالِاسْمِ من وَجه، وَذَلِكَ فِي الصّفة، نَحْو قَوْلك:
مَرَرْت بِرَجُل قَامَ، كَمَا تَقول: مَرَرْت
(1/147)
بِرَجُل قَائِم، وَيَقَع موقع الْمُضَارع
فِي الشَّرْط، كَقَوْلِك: إِن ضربت ضربت، فَهُوَ بِمَنْزِلَة: إِن تضرب
أضْرب. وَفعل الْأَمر لَا يَقع هَذَا الْموقع، فَجعل للماضي مزية على
فعل الْأَمر، وَلم تبلغ هَذِه المزية أَن توجب لَهُ الْإِعْرَاب،
فَوَجَبَ أَن يَجْعَل الْمَاضِي حكمه بَين حكم الْمُضَارع وَبَين فعل
الْأَمر، فَمنع الْإِعْرَاب، لنقصه عَن الْمُضَارع، وَفضل بحركة لمزيته
على فعل الْأَمر.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جعلت تِلْكَ الْحَرَكَة الفتحة؟
قيل: لِأَن الْغَرَض بتحريكه أَن تحصل لَهُ مزية على فعل الْأَمر،
وبالفتح نصل إِلَى غرضنا، كَمَا نصل بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، إِلَّا ان
الْفَتْح أخف الحركات، فَوَجَبَ اسْتِعْمَاله لخفته.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْجَرّ لما منع الْفِعْل، وَهُوَ كسر عَارض،
وَالْكَسْر اللَّازِم أولى أَن يمْنَع الْفِعْل، فَلهَذَا لم يجز أَن
يبْنى على الْكسر، وَلم يجز أَن يبْنى على الضَّم، لِأَن بعض الْعَرَب
تجتزئ بالضمة عَن الْوَاو، فَتَقول فِي قَامُوا: قَامَ، قَالَ
الشَّاعِر:
(1/148)
(فَلَو أَن الأطبا كَانَ حَولي ... وَكَانَ
مَعَ الْأَطِبَّاء الأساة)
فَلَو بني على الضَّم لالتبس بِالْجمعِ فِي بعض اللُّغَات، فأسقط
للالتباس، وَأسْقط الْكسر لما ذَكرْنَاهُ، فَلم يبْق إِلَّا الْفَتْح
فَبنِي عَلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا تنكرون أَن يكون الْأَمر مَجْزُومًا بلام
محذوفة، لِأَن الأَصْل فِي قُم: لتقم، وَالدّلَالَة فِي ذَلِك قِرَاءَة
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فبذلك فلتفرحوا "،
فحذفت اللَّام وَالتَّاء، وَبَقِي الْفِعْل مَجْزُومًا كَمَا كَانَ؟
قيل لَهُ: هَذَا يُفَسر من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن حُرُوف الْجَزْم أَضْعَف من حُرُوف الْجَرّ، لِأَن
الْفِعْل أَضْعَف من الِاسْم، والجر على هَذَا يجوز أَن يكون أقوى من
الْجَزْم، وعوامل الْجَرّ يجوز حذفهَا، وَمَا هُوَ أَضْعَف مِنْهَا
أولى أَلا يحذف.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن هَذِه الزَّوَائِد أوجبت للْفِعْل المضارعة
للاسم، فَوَجَبَ أَن يَزُول الْإِعْرَاب الَّذِي وَجب من أجلهَا.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن شَرط المعرب أَن تعتقب فِي آخِره الحركات
باخْتلَاف العوامل، وَشرط الْمَبْنِيّ أَن يلْزم طَريقَة وَاحِدَة.
فَلَمَّا وجدنَا فعل الْأَمر لَا يَزُول عَن السّكُون (4 / أ) وَجب أَن
يلْحق بِحكم المبنيات دون المعرب، وَلَيْسَ معني دُخُول (اللَّام) معنى
الْأَمر. والأسماء لَا يَصح دُخُول الْجَزْم عَلَيْهَا، نَحْو:
(1/149)
صه ومه، وَمَا أشبه ذَلِك، فقد بَان بِمَا
ذكرنَا أَن فعل الْأَمر يُوجب أَن يكون مَبْنِيا على السّكُون.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم صَارَت هَذِه الْأَسْمَاء السِّتَّة تخْتَلف
أواخرها، نَحْو قَوْلك: جَاءَنِي أَخُوك، وَرَأَيْت أَخَاك، ومررت
بأخيك، وَغَيرهَا من الْأَسْمَاء إِنَّمَا تخْتَلف أواخرها بالحركات؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون جعلُوا هَذِه الْأَسْمَاء مُخْتَلفَة الْأَوَاخِر،
تَوْطِئَة لما يَأْتِي من التَّثْنِيَة وَالْجمع، وَصَارَت هَذِه
الْأَسْمَاء أولى بالتوطئة من غَيرهَا، لِأَنَّهَا أَسمَاء لَا تنفك من
إِضَافَة الْمَعْنى، وَالْإِضَافَة فرع على الأَصْل، كَمَا أَن
التَّثْنِيَة وَالْجمع فرع على الْوَاحِد، فَلَمَّا شابهت هَذِه
الْأَسْمَاء التَّثْنِيَة وَالْجمع فِي هَذَا الحكم، كَانَت أولى من
غَيرهَا الَّتِي لَا مُشَاركَة بَينهَا وَبَين التَّثْنِيَة وَالْجمع
فِي هَذَا الحكم.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن هَذِه الْأَسْمَاء تفرد فِي اللَّفْظ،
فَيصير إعرابها بالحركات، نَحْو قَوْلك: هَذَا أَب، وَرَأَيْت أَبَا،
ومررت بأب. فقد لَزِمت أوساطها الحركات، فَلَمَّا ردوهَا إِلَى
أَصْلهَا فِي الْإِضَافَة، وَقد كَانَت أوساطها تدْخلهَا
(1/150)
حركات الْإِعْرَاب، أَرَادوا أَن يبقوا
هَذَا الحكم فِيهَا، ليدل بذلك على أَنَّهَا مِمَّا يَصح أَن يعرب
بالحركات فِي حَال الِانْفِرَاد، فَوَجَبَ أَن يضموا أوساطها فِي
الرّفْع، فَلَمَّا ضمُّوا وَسطهَا انْقَلب آخرهَا واوا، لِأَن أَصْلهَا
(فعل) ، فَحق أواخرها أَن تقلب ألفا، لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا،
وَالْألف مَتى انْضَمَّ مَا قبلهَا صَارَت واوا، وَكَذَلِكَ إِذا
انْكَسَرَ مَا قبلهَا صَارَت ياءا، فَلهَذَا وَجب أَن تخْتَلف أَوَاخِر
هَذِه الْأَسْمَاء بالحروف.
وَاعْلَم أَن الْإِعْرَاب فِي الْحَقِيقَة مُقَدّر فِي هَذِه
الْحُرُوف، إِذْ شَرط الْإِعْرَاب أَن يكون زِيَادَة على بِنَاء
الِاسْم، وَلَا يجوز أَن يكون مَا تفْتَقر إِلَيْهِ الْكَلِمَة من
بنائها إعرابا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فالإعراب مُقَدّر كَمَا يقدر فِي
الْأَسْمَاء الْمَقْصُورَة وسنبين لم وَجب تَقْدِيره، وَلم يسْتَحق
اللَّفْظ، فِي مَوْضِعه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَجب أَن يكون الْإِعْرَاب فِي آخر
الْكَلِمَة دون أَولهَا ووسطها؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْأَوَائِل لَا يَصح أَن تكون مَوَاضِع
الْإِعْرَاب لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن بعض الْإِعْرَاب سُكُون، فَلَو أعربت الْأَوَائِل
لَأَدَّى ذَلِك أَن يبتدأ بالساكن، وَهَذَا محَال، لِأَن الِابْتِدَاء
مهيج للنطق، فَلَا يجوز أَن يثير تهيجه حَرَكَة مَعَ الْحَرْف، وَلَو
جَازَ الِابْتِدَاء بالساكن، لَكَانَ ذَلِك شَائِعا فِي
(1/151)
أَكثر الْحُرُوف، لِأَن الْحَرَكَة غير
الْحُرُوف، فَإِذا جَازَ أَن يجرد بعض الْحُرُوف من الْحَرَكَة، جَازَ
ذَلِك فِي سَائِر الْحُرُوف، فَلَمَّا امْتنع هَذَا الحكم عِنْد من
يُخَالف فِي هَذَا الْموضع - إِلَّا فِي حرف أَو حرفين يقدر أَنَّهَا
سَاكِنة، وَإِنَّمَا هُوَ اختلاس الْحَرَكَة - صَحَّ مَا ذَكرْنَاهُ،
لِأَن الِابْتِدَاء بالساكن مُمْتَنع.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الِابْتِدَاء لَا بُد لَهُ من حَرَكَة
تختصه، لما ذَكرْنَاهُ، فَلَو أعرب الأول لم تعرف حَرَكَة الْإِعْرَاب
من حَرَكَة الْبناء، فَلهَذَا لم يجز أَن تدخل فِي الأول، وَلم يجز أَن
تدخل فِي الْأَوْسَط لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الْوسط بِهِ (4 / ب) يعرف وزن الْكَلِمَة، هَل هُوَ على
(فعل) أَو (فعل) أَو (فعِل) فَلَو أعرب الْوسط اخْتلطت أَيْضا حَرَكَة
الْإِعْرَاب بحركة الْبناء.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن من الْأَسْمَاء مَا لَا وسط لَهُ، وَهُوَ
مَا كَانَ عدده زوجا، نَحْو مَا كَانَ على حرفين، ك (يَد، وَدم) ،
وَمَا كَانَ على أَرْبَعَة أحرف، نَحْو: جَعْفَر، وَمَا كَانَ على
سِتَّة أحرف، نَحْو: عضرفوط، فَلَو أعرب الْوسط لَأَدَّى ذَلِك إِلَى
أَن يخْتَلف مَوضِع الْإِعْرَاب، إِذا كَانَ مَا ذَكرْنَاهُ من
الْأَسْمَاء لَا وسط لَهُ، فَسقط أَن تعرب الأوساط، فَلم يبْق إِلَّا
الْأَوَاخِر، فَلهَذَا صَارَت محلا للإعراب.
(1/152)
وَوجه آخر فِي الأَصْل: وَهُوَ أَن
الْإِعْرَاب قد بَينا أَنه دخل لإِفَادَة الْمَعْنى، وَهُوَ زِيَادَة
على الِاسْم، وَإِنَّمَا يعرف الشَّخْص عِنْد الْفَرَاغ من ذكر اسْمه،
فَيجب أَن يكون إِذا فهم معنى الشَّخْص أَن يزْدَاد عَلَيْهِ معنى
الْإِعْرَاب، فَإِذا كَانَت مَعْرفَته إِنَّمَا تقع عِنْد الْفَرَاغ من
الِاسْم، فَلَا سَبِيل أَن يكون الْإِعْرَاب فهم الشَّخْص وَمَعْنَاهُ،
وَلَو كَانَ على غير هَذَا لأشكل مَعْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم خصوا التَّنْوِين من بَين سَائِر الْحُرُوف
فجعلوه عَلامَة للانصراف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن أولى مَا يُزَاد من الْحُرُوف للعلامة
حُرُوف الْمَدّ أَو اللين، وَإِنَّمَا صَارَت أولى لِكَثْرَة دورها فِي
الْكَلَام، إِذْ لَا كلمة تَخْلُو مِنْهَا أَو من بَعْضهَا، فكرهوا أَن
يزِيدُوا حرفا مِنْهَا عَلامَة للانصراف، إِذْ كَانَت هَذِه الْحُرُوف
تدل على التَّثْنِيَة وَالْجمع، فَكَانَت زيادتها تُؤدِّي إِلَى أحد
أَمريْن: إِمَّا اللّبْس بالتثنية وَالْجمع، أَو يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى
ثقل اللَّفْظ، فَسَقَطت زيادتها، وَلم يكن للحروف شَيْء أقرب إِلَيْهَا
من التَّنْوِين، لِأَن التَّنْوِين نون خَفِيفَة، وَإِنَّمَا لقب
بِهَذَا اللقب ليفصل بَين النُّون الَّتِي يُوقف عَلَيْهَا وَبَين
هَذِه النُّون - أَعنِي التَّنْوِين الَّذِي لَا يُوقف عَلَيْهِ -
وشبهت بحروف الْمَدّ واللين أَنَّهَا غنة فِي الخيشوم، فَلَيْسَ على
الْمُتَكَلّم فِيهِ كلفة، إِذْ لَا يعْتَمد لَهُ فِي الْفَم فَجرى
مجْرى الْألف فِي الخفة، إِذْ كَانَت هَوَاء فِي الْحلق، فَلهَذَا وَجب
أَن يزْدَاد التَّنْوِين عَلامَة للانصراف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج إِلَى إِدْخَال التَّنْوِين
إِلَى الْفَصْل
(1/153)
الَّذِي ذكرتموه؟
قيل لَهُ: لِأَن الْأَسْمَاء كلهَا نوع وَاحِد، ثمَّ دخل على بَعْضهَا
مَا أوجب لَهُ الشّبَه بالحروف، فَهَذَا الْقسم يبْنى على حَرَكَة أَو
سُكُون، لِأَنَّهُ أشبه الْمَبْنِيّ، وَهُوَ الْحَرْف، وَذَلِكَ نَحْو:
أَيْن، وَكَيف، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَوجه شبهه بالحروف أَنه نَاب عَنْهَا، وَذَلِكَ قَول الْقَائِل: أَيْن
زيد؟ يَنُوب عَنهُ قَوْله: أَفِي الدَّار زيد؟ وَمَا أشبه ذَلِك من
الْأَمَاكِن، نَحْو: السُّوق وَغَيره، فَلَمَّا نَاب عَن حرف
الِاسْتِفْهَام وَجب أَن يبْنى لبنائه. وَمن الْأَسْمَاء مَا دخلت
عَلَيْهِ أوجبت لَهُ الشّبَه بِالْفِعْلِ، فَهَذَا الْقسم يعرب، إِلَّا
أَنه لَا يدْخلهُ الْجَرّ والتنوين، كَمَا لَا يدْخل الْفِعْل الَّذِي
أشبهه.
وَمن الْأَسْمَاء لم تعرض لَهُ عِلّة تخرجه عَن أَصله، وَهُوَ
الْإِعْرَاب، فَلَو لم يدْخل التَّنْوِين عَلَيْهِ لالتبس بالمعرب
الَّذِي يشبه الْفِعْل، فَلم يكن بُد من عَلامَة تفصل بَينهمَا،
فَهَذَا الَّذِي أوجب أَن يفصل بِالتَّنْوِينِ بَين المنصرف وَغَيره.
(5 / أ) فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم أسقطتم التَّنْوِين فِي الْوَقْف؟
قيل لَهُ: لِأَن التَّنْوِين تَابع للإعراب، أَلا ترى أَنه يدْخل فِي
الْمَرْفُوع والمنصوب وَالْمَجْرُور، فَلَمَّا كَانَ تَابعا لَهُ،
وَالْإِعْرَاب لَا يُوقف عَلَيْهِ، وَجب أَن يسْقط فِي اللَّفْظ، إِذْ
كَانَ تبعه من جِهَة اللَّفْظ، أَلا ترى أَن التَّنْوِين لَا يُوجد
إِلَّا بعد حَرَكَة، فَإِذا وَجب إِسْقَاط حَرَكَة مَا قبلهَا تبعه فِي
السُّقُوط.
(1/154)
وَوجه آخر قد ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ _ أَي
التَّنْوِين _ قد بَينا أَنه زِيَادَة على الْكَلِمَة، وَحكم الزَّائِد
أنقص من حكم الْأَصْلِيّ، فأسقطوه فِي الْوَقْف ليدلوا بذلك على نَقصه.
فَإِن قيل لَك: هلا أسقط فِي الدرج، وَأثبت فِي الْوَقْف؟ فَالْجَوَاب
فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن السُّؤَال يرجع على السَّائِل لَو صرنا إِلَى مَا قَالَ،
فَلَمَّا لم يفدنا إِلَّا مَا نَحن عَلَيْهِ من الْفرق، لم يكن لأحد
أَن يعْتَرض بِهَذَا الِاعْتِرَاض، إِذْ لَو فعلوا مَا سَأَلنَا
السَّائِل لَكَانَ جَائِزا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن مَا فَعَلُوهُ أولى مِمَّا سألناه، وَذَلِكَ
أَن الْإِعْرَاب قد اسْتَقر أَن ثَبت حكمه فِي درج الْكَلَام، وَهُوَ
زِيَادَة على الِاسْم، وَيسْقط فِي الْوَقْف، فَحمل التَّنْوِين
عَلَيْهِ، لاشْتِرَاكهمَا فِي أَنَّهُمَا علامتان زائدتان على الِاسْم،
فَلَمَّا وَجب فِي الْإِعْرَاب كَانَ مَا ذَكرْنَاهُ، لِأَنَّهُ عِنْد
الْفَرَاغ من الْكَلِمَة يجب أَن تقع رَاحَة الْمُتَكَلّم، إِذْ كَانَ
آخر نشاطه آخر كَلَامه، فأرادوا أَن يكون لَفظه فِي هَذِه الْحَال أخف
من لَفظه فِي حَال النشاط، فَجعل حَال الدرج بالحركة والتنوين،
لِأَنَّهُ مَوضِع لاستراحته. /
فَإِن قيل لكم: فَلم أبدلتم من التَّنْوِين ألفا فِي الْوَقْف، وَهَذَا
قد أدّى إِلَى التَّسْوِيَة بَين الزَّائِد والأصلي على مَا عللتم
لِأَنَّهُ قد ثَبت فِي الْوَقْف والوصل؟
[قيل] : لِأَن الْقَصْد فِي الْفَصْل بَين الزَّائِد والأصلي أَن يحصل
للزِّيَادَة حَال نقص فِي حَال الْوَقْف والدرج، وَلَا يثبت فِي حَال
وَاحِدَة، كثبات الْأَصْلِيّ، وَالْألف الَّتِي هِيَ بدل من
التَّنْوِين تسْقط فِي الدرج، كَمَا يسْقط التَّنْوِين فِي الْوَقْف،
فقد فَارق حكم الْحَرْف الْأَصْلِيّ، وَإِنَّمَا أبدلوا من التَّنْوِين
ألفا لِأَن الْألف خَفِيفَة،
(1/155)
وَأَن الْإِشَارَة إِلَى الْفَتْح متعذرة
لخفائه، فَكَانَ الْبَدَل من التَّنْوِين ألفا يجْتَمع فِيهِ
أَمْرَانِ:
أَحدهمَا: بَيَان الْإِعْرَاب فِيمَا قبله.
وَالْآخر: أَن تكون هَذِه الْعَلامَة لَهَا حَال تثبت فِي الْوَصْل
وَالْوَقْف حَتَّى لَا يسْقط حكمهَا فِي الْوَقْف بِحَال. وَإِنَّمَا
احْتِيجَ إِلَى ذَلِك لِأَن شَرط الْعَلامَة أَن تثبت فِي كل حَال.
فَلَمَّا عرض فِي ثباتها فِي جَمِيع الْأَحْوَال اللّبْس بالحرف
الْأَصْلِيّ، والتسوية بَينهَا وَبَينه، أسقط التَّنْوِين فِيمَا
ذَكرْنَاهُ، وَأثبت هَا هُنَا لِئَلَّا يخل بِحكمِهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم يجب الْوَقْف على السّكُون وعَلى الْإِشَارَة
إِلَى الضَّم وَالْكَسْر؟
قيل لَهُ: قد بَينا أَن الأَصْل إِنَّمَا يجب أَن يكون بِالسُّكُونِ،
وَالَّذِي يُشِير إِلَى الضَّم وَالْكَسْر فَإِنَّمَا غَرَضه أَن يبين
أَن لهَذَا الْحَرْف حَال حَرَكَة فِي الدرج، وَبَعْضهمْ يروم
الْحَرَكَة. والفصل بَين الرّوم والإشمام أَن الإشمام إِنَّمَا يفهمهُ
الْبَصِير دون الضَّرِير، لِأَنَّهُ عمل بالشفة بعد الْفَرَاغ من
الْحَرْف. فَأَما الرّوم فَهُوَ الاختلاس للحركة، وَهُوَ (5 / ب)
مِمَّا يُدْرِكهُ الْبَصِير والضرير.
وَهَذِه الثَّلَاثَة الْوُجُوه تجوز فِي كل اسْم قبل آخِره سَاكن،
فَإِن كَانَ قبل آخِره متحرك جَازَت الْوُجُوه الثَّلَاثَة فِيهِ.
(1/156)
وَجَاز وَجه رَابِع: وَهُوَ تَشْدِيد
آخِره، كَقَوْلِهِم فِي عمر عمر. وَفِي خَالِد: خَالِد. وَإِنَّمَا
شَدَّدُوا لِأَن الْحَرْف المدغم لَا يكون إِلَّا سَاكِنا، وَقد علمُوا
أَن الْجمع بَين ساكنين لَا يجوز فِي درج الْكَلَام، فَإِذا شَدَّدُوا
علم بِالتَّشْدِيدِ أَن الْحَرْف الآخر لَا بُد أَن يَتَحَرَّك فِي
الْوَصْل، لسكون مَا قبله، وَهُوَ التَّشْدِيد، وَالتَّشْدِيد أبين من
روم الْحَرَكَة، فَإِذا وصلت سقط التَّشْدِيد، وَهُوَ إِنَّمَا يجوز
فِي الْمَرْفُوع، وَيجوز أَيْضا فِي الْمَجْرُور، إِلَّا الإشمام
فَأَنَّهُ لَا يسْتَعْمل فِي الْمَجْرُور، لِأَن ذَلِك لَا يُؤَدِّي
إِلَى التَّسْوِيَة فِي الصُّورَة، فَلهَذَا رفض. وَأما الْمَنْصُوب
فَإِنَّهُ لَا يسْتَعْمل فِي شَيْء من هَذَا، لِأَنَّهُ يُبدل فِيهِ من
التَّنْوِين ألف، فتظهر حَرَكَة الْإِعْرَاب فِي الْوَقْف، وَيصير
هَذَا المعني عوضا مِمَّا تدخله الْألف من التَّنْوِين، وَذَلِكَ إِذا
كَانَ فِي الْمَنْصُوب ألف وَلَام، أَو كَانَ لَا ينْصَرف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَقع الْجَزْم فِي الْأَفْعَال على
ضَرْبَيْنِ: مرّة بِحَذْف حرف، وَمرَّة بِحَذْف حَرَكَة؟
قيل لَهُ: أصل الْجَزْم الْقطع، وَلَا بُد للمجزوم أَن يحذف من آخِره
عَلامَة الرّفْع. وَإِذا كَانَ الْفِعْل مُعْتَلًّا سكن آخِره عَلامَة
للرفع، وَلَا بُد أَن يكون للجزم عَلامَة وتأثير، فَلَمَّا لم يُصَادف
فِي آخر الْفِعْل إِلَّا حرفا سَاكِنا حذفه، ليَكُون بَينه وَبَين
الْمَرْفُوع فصل، وَجَاز حذف الْحَرْف لضَعْفه، إِذْ كَانَ سَاكِنا،
فَجرى مجْرى الْحَرَكَة فِي جَوَاز الْحَذف عَلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَجب حذف الْوَاو من قَوْلك: لم يقم، دون حذف
الْمِيم، وَلم وَجب الْحَذف فِي الْجُمْلَة؟
(1/157)
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَنه لَيْسَ من
كَلَام الْعَرَب الْجمع بَين ساكنين فِي الْوَصْل، لِأَن الْجمع
بَينهمَا فِي الْوَصْل محَال، وَلكنه لَيْسَ بموجود، فَلم يكن بُد من
حذف أحد الساكنين، أَو تحريكه، ليخرج إِلَى كَلَامهم.
وَقد يُمكن تَعْلِيل امْتنَاع الْجمع بَين ساكنين، بِأَن يُقَال: إِن
الْحَرْف السَّاكِن إِذا تكلم بِهِ، أَن الْمُتَكَلّم فِي حكم
الْوَاقِف عَلَيْهِ والمبتدئ بِمَا بعده، وَقد بَينا أَن الِابْتِدَاء
بالساكن محَال، فَكَانَ الْجمع بَينهمَا يشبه الِابْتِدَاء بالساكن،
فَلهَذَا امْتَنعُوا، وَإِنَّمَا وَجب الْحَذف فِي الْوَاو دون الْمِيم
لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الْمِيم لَو حذفت وَبقيت الْوَاو لجَاز أَن يلقاها
سَاكن، وَلَا بُد من حذف الْوَاو أَو تحريكها، فَلَو حذفت أدّى ذَلِك
إِلَى الإجحاف بِالْفِعْلِ، وَلَو حركتها لَأَدَّى إِلَى الاستثقال،
إِذْ كَانَت الحركات على حُرُوف مستثقلة، فَوَجَبَ أَن تحذف الْوَاو،
وَتبقى الْمِيم الَّتِي لَا يستثقل عَلَيْهَا الْحَرَكَة، وَلَا يجب
حذفهَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن حُرُوف الْمَدّ أَضْعَف من غَيرهَا،
فَلَمَّا وَجب حذف أحد الحرفين، وَجب حذف الأضعف، وَهُوَ الْوَاو.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم لم يحركوا أَحدهمَا؟
قيل: لَو حركنا الآخر، وَجب تحريكه بِالْفَتْح أَو الضَّم، إِذْ الْكسر
مَمْنُوع من الْفِعْل، وَأَن الأَصْل فِي التحريك لالتقاء الساكنين
الْكسر، وَلَو حركنا الآخر بِالضَّمِّ أَو بِالْفَتْح لم تعلم عَلامَة
الْجَزْم، لِأَنَّهُ أدّى اللَّفْظ إِلَى لفظ النصب وَالرَّفْع. وَلَو
حركنا الأول لَأَدَّى (6 / أ) إِلَى الاستثقال، إِذْ الحركات فِي هَذِه
الْحُرُوف مستثقلة.
فَإِن قَالَ: أَلَيْسَ قد حركتم إِذا لقيها سَاكن من كلمة أُخْرَى
بِالْكَسْرِ، لسكونها وَسُكُون الْوَاو؟
(1/158)
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَنَّهَا لَو حركت
بِالْكَسْرِ من أجل الْوَاو الَّتِي قبلهَا، لصار الْكسر لَازِما
لَهَا، إِذْ كَانَت الْوَاو لَازِمَة، فَلَمَّا صَار الْكسر لَازِما،
والجر عَارض لَا يدْخل الْفِعْل، كَانَ الْكسر اللَّازِم أولى
بِالْمَنْعِ.
وَأما الْكسر لأجل السَّاكِن من كلمة أُخْرَى، فَجَاز لأجل أَن الْكسر
لَا يلْزم الْحَرْف، لِأَن الْكَلِمَة الثَّانِيَة لَا تلْزم الْفِعْل،
فَلَمَّا كَانَ الْكسر عارضا استعملوه، لِأَنَّهُ الأَصْل، وَلَيْسَ
مِمَّا يلْزم وَأما اللَّازِم فتجنبوه، فَهَذَا الْفَصْل بَينهمَا.
وَوجه آخر فِي أصل الْمَسْأَلَة: وَهُوَ أَن تَقول: إِن أصل الساكنين
إِذا التقيا أَن يحذف أَحدهمَا، إِلَّا أَن يكون الْحَذف يُوجب لبسا
أَو إجحافا بِالْكَلِمَةِ، فَحِينَئِذٍ تحركه.
فَأَما إِذا خلا من هذَيْن الْوَجْهَيْنِ، فالحذف أولى بِهِ، لِأَنَّهُ
إِذا كَانَ الْجمع بَينهمَا مُمْتَنعا، وَلَيْسَ فِي حذف أَحدهمَا
ضَرَر، كَانَ الْحَذف أولى من زِيَادَة حَرَكَة مُسْتَغْنى عَنْهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد قلت: إِن الْوَاو لَا ترجع عِنْد تحرّك
الْمِيم، إِذا قلت: لم يقم الْقَاسِم. لِأَن حَرَكَة الْمِيم عارضة.
فَلم رجعت فِي قَوْلك: لم يقوما. والتثنية عارضة؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْجَزْم إِنَّمَا هُوَ دَاخل على الرّفْع،
وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالتثنية إِنَّمَا يجب أَن تعْتَبر حَالهَا فِي
الرّفْع قبل الْجَزْم، فَلَمَّا وَجب أَن تَقول: فَلَمَّا يقومان،
فتظهر الْوَاو، لِأَنَّهُ لَا شَيْء يُوجب إِسْقَاطهَا، وَدخل
الْجَزْم، حذفت النُّون، وَبَقِي الْفِعْل على صورته فِي حَال الرّفْع.
وَأما قَوْلهم: لم يقم الْقَاسِم، فالواو قد وَجب إِسْقَاطهَا قبل
مَجِيء مَا يُوجب
(1/159)
تحرّك الْمِيم، لِأَن مَا يدْخل على أول
الْكَلِمَة أسبق مِمَّا يَجِيء بعد الْفَرَاغ مِنْهَا، وَإِذا كَانَ
كَذَلِك صَارَت حَرَكَة الْمِيم عارضة، إِذْ دخلت على مَا اسْتَقر لَهُ
السّكُون والحذف، وَلَيْسَ حكم التَّثْنِيَة كَذَلِك لما ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم اخْتلفت التَّثْنِيَة وَالْجمع هَذَا
الِاخْتِلَاف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَنه لضَرُورَة أدَّت إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَن
الِاسْم الْمَرْفُوع كَانَ حَقه أَن يثنى بِالْوَاو، لِأَن الضَّمِير
بِالْوَاو، فَيُقَال: جَاءَنِي الزيدون، بِفَتْح مَا قبل الْوَاو،
وَفِي الْجمع: الزيدون، بِضَم مَا قبل الْوَاو، وَكَانَ يجب فِي
الْجَرّ أَن يُقَال مَرَرْت بالزيدين، بِفَتْح مَا قبل الْيَاء فِي
التَّثْنِيَة، وبكسره فِي الْجمع، فَيَقَع الْفَصْل بَين تَثْنِيَة
الْمَرْفُوع وَجمعه، وَبَين تَثْنِيَة الْمَجْرُور وَجمعه، باخْتلَاف
الحركات. فَإِذا بنينَا الْمَنْصُوب على هَذَا الْقيَاس لزم أَن نقُول:
رَأَيْت الزيدان، لِأَن الفتحة من الْألف، وَلَو فعلنَا هَذَا وأردنا
الْجمع، لزم أَن ترجع الْألف فِي الْجمع، كَمَا رجعت الْوَاو وَالْيَاء
فِي جمع الْمَرْفُوع وَالْمَجْرُور، وَلَو فعلنَا هَذَا لم يَقع فصل
بَين تَثْنِيَة الْمَنْصُوب وَجمعه، لِأَن الْألف لَا يكون مَا قبلهَا
إِلَّا مَفْتُوحًا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى اللّبْس بَين
التَّثْنِيَة وَالْجمع أسقطت عَلامَة الْمَنْصُوب، وَلم يكن بُد من
حمله - إِذا ثني أَو جمع - على الْمَرْفُوع أَو الْمَجْرُور، فَكَانَ
حمله على الْمَجْرُور أولى من أَربع جِهَات: أَحدهَا: أَن (6 / ب)
الْمَنْصُوب وَالْمَجْرُور قد يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَعْنى، كَقَوْلِك:
مَرَرْت بزيد، مَعْنَاهُ: جزت زيدا، فلاشتراكهما فِي الْمَعْنى حمل
النصب على الْجَرّ.
والجهة الثَّانِيَة: أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْكِنَايَة، نَحْو
قَوْلك: مَرَرْت بك، ورأيتك.
والجهة الثَّالِثَة: أَن الْجَرّ ألزم للأسماء من الرّفْع، لِأَن
الرّفْع ينْتَقل إِلَى الْفِعْل،
(1/160)
فَكَانَ حمل النصب على الألزم أولى من حمله
على الْمُنْتَقل.
والجهة الرَّابِعَة: أَن الْجَرّ أخف من الرّفْع، فَلَمَّا أردنَا حمل
الْمَنْصُوب، وَهُوَ خَفِيف، كَانَ حمله على المخفوض أولى.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم أدخلتم فِي تَثْنِيَة الْمَرْفُوع الْألف،
وَلم تبقوه على أَصله؟ قيل لَهُ: لأَنهم أَرَادوا أَن يستعملوا
الْحُرُوف الثَّلَاثَة فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع، كَمَا استعملوا
حركاتها فِي الْوَاحِد، فَلَمَّا وَجب إِسْقَاط الْألف من الْمَنْصُوب،
لما ذَكرْنَاهُ، لم يبْق مَوضِع يدْخل عَلَيْهِ سوى الْمَرْفُوع
وَالْمَجْرُور، فأدخلوها فِي تَثْنِيَة الْمَرْفُوع، لما ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا أدخلوها فِي تَثْنِيَة الْمَجْرُور؟
قيل لَهُ: إدخالها فِي تَثْنِيَة الْمَرْفُوع أولى، لِأَن الْوَاو أثقل
من الْيَاء، فَلَمَّا كَانَ لَا بُد من إِسْقَاط الْوَاو وَالْيَاء،
وَجب إِسْقَاط الأثقل.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم وَجب فتح وَاو التَّثْنِيَة، وياء التَّثْنِيَة
فِي الأَصْل؟
قيل لَهُ: لِأَن الْألف لَا يكون مَا قبلهَا إِلَّا مَفْتُوحًا،
والتثنية قبل الْجمع، فقد اسْتحقَّت التَّثْنِيَة الْفَتْح فِي النصب
لأصل الْألف، وحملت الْيَاء وَالْوَاو على الْألف وَضم مَا قبل الْوَاو
فِي الْجمع وَكسر مَا قبل الْيَاء لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الْكسر من الْيَاء، وَالضَّم من الْوَاو، فَكَانَ أولى
مَا يجر بِهِ مَا هُوَ من جِنْسهَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْفَتْح قد فَاتَ بِاسْتِحْقَاق
التَّثْنِيَة لَهُ، فَلم يبْق إِلَّا الضَّم، وَكَذَلِكَ لَو ضم مَا
قبل يَاء الْجمع انقلبت واوا، فَكَانَ يخْتَلط الْجَرّ بِالرَّفْع،
وَالرَّفْع بِالْجَرِّ وَلم يبْق إِلَّا الْكسر.
(1/161)
(بَاب)
وَاعْلَم أَن الْألف فِي التَّثْنِيَة، وَالْوَاو فِي الْجمع،
وَالْيَاء فِي [التَّثْنِيَة] وَالْجمع من حُرُوف الْإِعْرَاب عِنْد
سِيبَوَيْهٍ بِمَنْزِلَة الدَّال فِي زيد، وَالْإِعْرَاب فِيهَا
مُقَدّر، كَمَا يقدر فِي أَوَاخِر الْمَقْصُور، نَحْو: عَصا ورحى.
وَإِنَّمَا وَجب أَن تكون هَذِه الْحُرُوف حُرُوف إِعْرَاب، لِأَن معنى
الْكَلِمَة إِنَّمَا يكمل بهَا، وَصَارَت آخر حرف فِي الِاسْم، وَقد
بَينا أَن حكم الْإِعْرَاب، إِنَّمَا يكون زِيَادَة على بِنَاء
الِاسْم، فَلهَذَا وَجب أَن تكون حُرُوف الْإِعْرَاب، وَإِنَّمَا
امْتنع من الْإِعْرَاب استثقالا للحركات، فَحذف اسْتِخْفَافًا، وَقدر
فِي النِّيَّة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا لَزِمت التَّثْنِيَة وَالْجمع لقبا
وَاحِدًا وَلم تَتَغَيَّر هَذَا التَّغْيِير، كَمَا أَن الْمَقْصُور
لما قدر فِي آخِره لزم وَجها وَاحِدًا فَلم يتَغَيَّر؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن التَّغْيِير إِنَّمَا لزم فِي التَّثْنِيَة
وَالْجمع، وَلم يلْزم فِي الْمَقْصُور، وَإِن اسْتَويَا فِيمَا ذكره
السَّائِل، لِأَن الْمَقْصُور يسْتَدلّ على إعرابه بنظيره من الصَّحِيح
وبنعته، فَصَارَ مَا فِي النَّعْت والنظير من عَلامَة الْإِعْرَاب
يُغني عَن تغير آخر الْمَقْصُور، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: هَذِه عَصا
معوجة، بَان الرّفْع فِي (معوجة) وَكَذَلِكَ لَو وضعت فِي مَكَانهَا
اسْما غير معتل، لبان الْإِعْرَاب فِيهِ،
(1/162)
نَحْو: هَذَا جمل (7 / أ) وَأما
التَّثْنِيَة وَالْجمع فَلَا نعت لَهما إِلَّا بتثنية أَو جمع، وَلَا
نَظِير لَهما إِلَّا كَذَلِك، فَلَو لَزِمت وَجها وَاحِدًا، لم يكن على
إعرابها دَلِيل، فَجعل بغَيْرهَا عوضا من عدم النظير.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم دخلت النُّون فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع؟ قيل
لَهُ: عوضا من الْحَرَكَة والتنوين.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَجب أَن يعوض من الْحَرَكَة والتنوين؟ قيل
لَهُ: لِأَن من شَرط التَّثْنِيَة وَهَذَا الْجمع أَن يكون لَهُ
عَلامَة مزيدة على لفظ الْوَاحِد، فَكَانَ يجب أَن تلْحقهُ الْحَرَكَة
والتنوين، فَلَمَّا وَجب أَن يدْخل التَّنْوِين وَالْحَرَكَة
التَّثْنِيَة وَالْجمع، وَعوض مَا يمْتَنع من دخولهما، وَجب أَن يعوض
مِنْهُمَا، لِئَلَّا يخل بِمَا يُوجِبهُ تَرْتِيب اللَّفْظ، وَقد بَينا
أَن الْحَرَكَة إِنَّمَا سَقَطت استثقالا.
وَأما التَّنْوِين فَوَجَبَ إِسْقَاطه لِأَنَّهُ سَاكن، وَهَذِه
الْحُرُوف سواكن، فَلم يكن يَخْلُو من أحد أَمريْن: أما إِسْقَاط هَذِه
الْحُرُوف لسكونها وَسُكُون التَّنْوِين، فتزول عَلامَة التَّثْنِيَة
وَالْجمع، فيؤول إِلَى الاستثقال، أَو تحرّك التَّنْوِين، فَيصير نونا
لَازِمَة، وَتخرج عَن حكم الْعَلامَة الَّتِي وضع لَهَا، فَلم يبْق غير
حذفهَا، فَلهَذَا وَجب إِسْقَاط التَّنْوِين، فَلَمَّا دخلت النُّون -
عوضا لما ذَكرْنَاهُ - دخلت سَاكِنة لِأَن الْحَرْف إِنَّمَا تحرّك
لزِيَادَة الْحَرَكَة عَلَيْهِ، وَهِي غَيره، فَإِذا زدناه مُجَردا من
الْحَرَكَة بَقِي سَاكِنا، وَقَبله عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع،
وَهِي سَاكِنة، فَالتقى ساكنان، فحركت النُّون لالتقاء الساكنين.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم كسرت فِي التَّثْنِيَة، وَفتحت فِي الْجمع؟
(1/163)
فَفِي ذَلِك وُجُوه:
أَحدهَا: أَن التَّثْنِيَة قبل الْجمع، وَحقّ السَّاكِن إِذا حرك حرك
بِالْكَسْرِ، فقد اسْتحقَّت نون التَّثْنِيَة الْكسر على الأَصْل،
لِأَنَّهَا سَابِقَة للْجمع، وَجَازَت نون الْجمع، وَقد فَاتَ كسرهَا،
ففتحت لِئَلَّا تَلْتَبِس بنُون التَّثْنِيَة، فَلم يبْق لَهَا من
الحركات إِلَّا الضَّم وَالْفَتْح، وَالضَّم مستثقل، فَسقط وَبَقِي
الْفَتْح.
وَوجه ثَان: وَهُوَ أَن الْجمع يَقع قبل النُّون فِيهِ وَاو قبلهَا
ضمة، أَو يَاء قبلهَا كسرة، فكرهوا كسرة النُّون، لِئَلَّا يثقل بتوالي
الكسرات، أَو يخرجُوا من ضم إِلَى كسر، فَسقط الْكسر، وَهُوَ بالإسقاط
أولى، فَلم يبْق إِلَّا الْفَتْح، فَجعل الْكسر للأخف، وَالْفَتْح
للأثقل ليعتدلا ,
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج إِلَى الْفَصْل بَين نون
التَّثْنِيَة وَنون الْجمع، وَصِيغَة التَّثْنِيَة مباينة لصيغة
الْجمع، وَإِن سَقَطت النُّون، فَمَا الْحَاجة إِلَى الْفَصْل؟
قيل: قد يشكل جمع الْمَقْصُور فِي النصب والجر بتثنية الصَّحِيح،
كَقَوْلِك:
رَأَيْت المصطفين، فَيَقَع مَا قبل يَاء الْجمع مَفْتُوحًا، كَمَا
تَقول فِي تَثْنِيَة زيد: رَأَيْت الزيدين، ومررت بالزيدين، فَلَو لم
يكسروا نون التَّثْنِيَة، ويفتحوا نون الْجمع، لالتبس جمع الْمَقْصُور
بتثنية الصَّحِيح، فَلَمَّا وَجب الْفَصْل بَين هذَيْن أجروا كل
تَثْنِيَة وكل جمع على هَذَا، لِئَلَّا تخْتَلف طريقتهما.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم كَانَت النُّون بِالزِّيَادَةِ أولى من سَائِر
الْحُرُوف؟
قيل لَهُ: لم يُمكن زِيَادَة بعض حُرُوف الْمَدّ فِي التَّثْنِيَة
وَالْجمع استثقالا (7 / ب) لاجتماعهما، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يجب إِذا
وَقع حرف الْمَدّ بعد ألف التَّثْنِيَة أَن يهمز وَلِأَن كل حرف مد
وَقع طرفا قبله ألف زَائِدَة، فَلَا بُد من همزه، فَكَانَ ذَلِك
يُؤَدِّي إِلَى
(1/164)
تَغْيِير الْحَرْف عَن أَصله، فَوَجَبَ أَن
تزاد النُّون من بَين سَائِر الْحُرُوف، لما ذَكرْنَاهُ فِي الْجمع من
مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ، وَهُوَ الصَّحِيح عندنَا، وَأما أَبُو الْحسن
الْأَخْفَش وَأَبُو الْعَبَّاس الْمبرد، وَمن تابعهما، فَيَقُولُونَ:
هَذِه الْحُرُوف دَلَائِل على الْإِعْرَاب، وَلَيْسَت بإعراب، وَلَا
حُرُوف إِعْرَاب، وَهَذَا القَوْل فَاسد، لِأَنَّهُ يُقَال لقائله:
خبرنَا عَن قَوْلك: إِن هَذِه الْحُرُوف دَلَائِل إِعْرَاب، وَلَيْسَت
بإعراب، وَلَا حُرُوف إِعْرَاب، هَل يدل على إِعْرَاب فِي الْكَلِمَة،
أَو فِي غَيرهَا؟
فَإِن قَالَ قَائِل: تدل على إِعْرَاب فِي الْكَلِمَة، فَلَا بُد لَهُ
من أَن يقدر الْإِعْرَاب فِيهَا، إِذْ كَانَت هِيَ أَوَاخِر الْكَلم،
فَيرجع قَوْله إِلَى سِيبَوَيْهٍ، وَتسقط هَذِه الْعبارَة. أَو يَقُول:
تدل على إِعْرَاب فِي غير الْكَلِمَة.
فَيُقَال لَهُ: فَإِذا الْإِعْرَاب لَا فِي الْكَلِمَة، وَمَا عدم
إعرابه فَهُوَ مَبْنِيّ. وَمن مذْهبه أَن التَّثْنِيَة وَالْجمع
معربان، فيناقض قَوْله، وَلَو لم يعْتَرف بإعراب التَّثْنِيَة
وَالْجمع، لَكَانَ لقَوْله مساغ، وَهُوَ مَذْهَب أبي إِسْحَاق الزّجاج.
(1/165)
وَأما الْجرْمِي فَجعل انقلاب هَذِه
الْحُرُوف هُوَ الْإِعْرَاب، وَقَوله أَيْضا مختل، لِأَن أول أَحْوَال
الِاسْم الرّفْع فَإِذا هُوَ فِي حَال الرّفْع غير مُنْقَلب، وَإِذا لم
يكن منقلبا وَجب أَن يكون الِاسْم غير مُعرب، فَيُؤَدِّي إِلَى أَن
يكون بعض التَّثْنِيَة وَالْجمع معربا، وَبَعضه مَبْنِيا.
وَقد رُوِيَ عَن غير هَؤُلَاءِ أَنهم جعلُوا هَذِه الْحُرُوف هِيَ
الْإِعْرَاب، كالضمة والفتحة والكسرة، وَهَذَا القَوْل هُوَ أَضْعَف
الْأَقَاوِيل، لِأَن شَرط الْإِعْرَاب أَلا يخل سُقُوطه بِمَعْنى
الْكَلِمَة، إِذا كَانَ زَائِدا على بنائها، وَنحن لَو أسقطنا هَذِه
الْحُرُوف الَّتِي تدخل على التَّثْنِيَة وَالْجمع، لزال معنى
الْكَلِمَة، فَلهَذَا لم يجز أَن تكون أعرابا.
وَاعْلَم أَن الْمُذكر والمؤنث يستويان فِي التَّثْنِيَة، لِأَن
طَريقَة التَّثْنِيَة وَاحِدَة، إِذْ كَانَ مَعْنَاهَا لَا يخْتَلف،
وَإِذا كَانَ الِاثْنَان لَا يكونَانِ أَكثر من اثْنَيْنِ، فَجعل
لَفْظهمَا أَيْضا غير مُخْتَلف.
وَأما الْجمع وَإِن كَانَ فرعا على الْوَاحِد كالتثنية فَإِنَّهُ غير
مَحْصُور، فَلم
(1/166)
يجب أَن يكون لَفظه محصورا، فَلهَذَا جَاءَ
مُخْتَلفا، وَفَارق التَّثْنِيَة، وَإِن اسْتَويَا فِي أَنَّهُمَا
فرعان على الْوَاحِد.
وَأما الْوَاحِد فَلم يجب أَن يلْزم لفظا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ أصل
مُبْتَدأ بِهِ، مَوْضُوع على أشخاص يفصل بَينهمَا بحدود وخواص، فَلَا
بُد أَن تكون أَلْفَاظه مُخْتَلفَة، والتثنية وَالْجمع يُرَاد بهما
الشَّيْئَيْنِ، يضم بهما الشَّيْء إِلَى مثله، فَلهَذَا كَانَ يجب أَن
تكون ألفاظها متفقة، وَلَكِن وَجب الْفَصْل بَين التَّثْنِيَة وَالْجمع
لما ذكرنَا.
فَإِذا أردْت جمع الْمُؤَنَّث جمع السَّلامَة زِدْت فِي آخِره ألفا
وتاء، وَإِنَّمَا وَجب زِيَادَة هذَيْن الحرفين لما ذَكرْنَاهُ.
إِن حُرُوف الْمَدّ أولى بِالزِّيَادَةِ، وَكَانَت الْألف أولى فِي
هَذِه الْمَوَاضِع، لِأَنَّهَا أخف حُرُوف الْمَدّ، والمؤنث ثقيل،
وَالْجمع أَيْضا ثقيل، فَوَجَبَ أَن يدْخل أخف الْحُرُوف، فَكَانَت
الْألف أَحَق بذلك لخفتها، وَلم يجز أَن تزاد مَعهَا من حُرُوف الْمَدّ
واللين لما ذَكرْنَاهُ من وُجُوه قبله إِلَى غير جنسه، وَلم يجز
الِاقْتِصَار على الْألف وَحدهَا لِئَلَّا يلتبس بالتثنية، فطلبوا حرفا
يكون بَدَلا من الْوَاو الَّتِي هِيَ حُرُوف مد، فجاؤوا بِالتَّاءِ.
(8 / أ) أَلا ترى أَنَّهَا تبدل من الْوَاو فِي (تخمة وتجاه) ،
وَالْأَصْل: (وخمة ووجاه) . وَكَانَ أَيْضا إِدْخَال التَّاء أولى،
لِأَنَّهَا - مَعَ مقاربتها للواو - توجب حذف التَّاء الَّتِي فِي
الْوَاحِدَة، فَنَقُول فِي مسلمة: مسلمات، وَالْأَصْل: مسلمتات،
فأسقطوا التَّاء الأولى اكْتِفَاء بِالثَّانِيَةِ، وَكَانَت أولى
بالإسقاط، لِأَن
(1/167)
الثَّانِيَة تفِيد معنى التَّأْنِيث وَمعنى
الْجمع، فَلهَذَا كَانَت أولى بالإسقاط من الثَّانِيَة، وَإِنَّمَا
أسقطوها لِئَلَّا يجْتَمع تأنيثان.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَسْت تَقول فِي حُبْلَى: حبليات، وَالْألف فِي
حُبْلَى للتأنيث، فقد أثبتها فِي الْجمع وجمعت بَين تأنيثين، فَهَلا
جعلت ذَلِك فِي التَّاءَيْنِ؟ فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن عَلامَة التَّأْنِيث فِي حُبْلَى الْألف، فَإِذا جمعت
انقلبت الْألف، فَزَالَتْ عَلامَة التَّأْنِيث فعلى هَذَا الْوَجْه لم
يجمع بَين تأنيثين.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن عَلامَة التَّأْنِيث فِي (حُبْلَى)
مُخَالفَة لعلامة التَّأْنِيث فِي الْجمع، وَنحن فِي (مسلمات) لَو
أقررنا اللَّفْظ على هَذَا، لَكنا قد جَمعنَا بَين تأنيثين صورتهما
وَاحِدَة، فَلهَذَا حذفنا إِحْدَاهمَا. فَإِذا أقررنا عَلامَة
التَّأْنِيث فِي (حُبْلَى) مَعَ عَلامَة الْجمع، لم نَكُنْ قد جَمعنَا
بَين صُورَتي تَأْنِيث، فَيجوز الْجمع بَينهمَا لاختلافهما. وَهَذَا
الْوَجْه أَيْضا ذَكرْنَاهُ لنبين أَن بَين مَا يجْتَمع فِيهِ صورتا
تَأْنِيث وَبَين مَا تخْتَلف فِيهِ الصورتان فرقا، وَالْعلَّة الأولى
كَافِيَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد ادعيت أَن التَّاء عَلامَة التَّأْنِيث، وَنحن
نرَاهَا فِي الْوَاحِدَة هَاء فِي الْوَقْف؟
قيل لَهُ: أَصله التَّاء، وَإِنَّمَا وقف عَلَيْهَا بِالْهَاءِ ليفصل
بَين تَأْنِيث الِاسْم وتأنيث الْفِعْل.
فَإِن قيل: فَمَا الدّلَالَة على ذَلِك؟
(1/168)
قيل: من وُجُوه:
أَحدهَا: أَنا نصل بِالتَّاءِ، كَقَوْلِك: مسلمة يَا هَذَا، فَأصل
الْكَلَام الدرج، فَوَجَبَ أَن تكون التَّاء الأَصْل لثباتها.
أَلا ترى أَنَّك تَقول: رَأَيْت زيدا يَا هَذَا، فَثَبت التَّنْوِين
فِي الدرج، وتبدل مِنْهُ فِي الْوَقْف ألفا، وَكَذَلِكَ فعلت
بِالتَّاءِ، أبدلت مِنْهَا هَاء فِي الْوَقْف.
وَوجه ثَان: وَذَلِكَ أَن بعض الْعَرَب يقف على التَّاء فَيَقُول فِي
مسلمة: مسلمت، وَفِي صالحت: صالت، قَالَ الراجز:
(الله نجاك بكفي مسلمت ... من بعد مَا وَبعد مَا وَبعد مت)
(صَارَت بَنَات النَّفس عِنْد الغلصمت ... وكادت الْحرَّة أَن تدعى
أمت)
فَلَمَّا ثبتَتْ التَّاء فِي الْوَصْل وَالْوَقْف، وَلم نجد أحدا يصلها
بِالْهَاءِ، إِلَّا فِي مَوضِع لَا يعْتد بِهِ، إِذْ كَانَت فِيهِ
عِلّة توجب ذَلِك، علمنَا بذلك أَن التَّاء هِيَ الأَصْل.
وَوجه ثَالِث: وَهُوَ أَنا وجدنَا التَّاء فِي الْفِعْل قد أدخلت
عَلامَة للتأنيث، وَوجدنَا الِاسْم يدْخلهُ الْهَاء وَالتَّاء للتأنيث
فِي الْوَصْل وَالْوَقْف، فَوَجَبَ أَن يحكم على
(1/169)
التَّاء أَنَّهَا الأَصْل فِي التَّأْنِيث،
إِذْ لم نجد الْهَاء للتأنيث.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد وجدنَا الْهَاء تسْتَعْمل للتأنيث فِي قَوْله:
هَذِه أُنْثَى؟
قيل لَهُ: لَيست الْهَاء عَلامَة للتأنيث، وَإِنَّمَا هِيَ بدل من
يَاء، لأَنهم يَقُولُونَ: (هذي أمة الله) فالهاء بدل من الْيَاء
الَّتِي فِي (هذي) ، فَدلَّ أَن الْهَاء لَيست عَلامَة (8 / ب)
للتأنيث.
فَإِن قيل: فَمَا الدَّلِيل على أَنَّهَا بدل من الْيَاء؟
قيل لَهُ: الدَّلِيل على ذَلِك أَنَّك تَقول فِي تَثْنِيَة هَذِه: تان،
فَلَو كَانَت الْهَاء أصلا فِي نَفسهَا لم يجز حذفهَا فِي
التَّثْنِيَة، ولوجب أَن تَقول: هان، فَلَمَّا وجدناهم قد أسقطوا
الْهَاء فِي التَّثْنِيَة، وَرَجَعُوا إِلَى أَن قَالُوا: تان، كَمَا
قَالُوا فِي الَّذِي: اللَّذَان، وَفِي ذَا: ذان، علمنَا أَن التَّاء
هِيَ الأَصْل.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْكَلِمَة لما اسْتعْمل فِيهَا الْهَاء
وَالتَّاء، وَوجدنَا التَّاء أثقل من الْهَاء، وَلم نجد الْهَاء فِي
غير هَذَا الْموضع تحْتَمل أَن تكون للتأنيث، وَجب أَن نقدر الْهَاء
بَدَلا من التَّاء، وَذَلِكَ جَائِز، لِأَنَّهُ عدُول من الأثقل إِلَى
الأخف، فَإِذا كَانَ ذَلِك مُحْتملا وَجب حمله على مَا ذكرنَا،
لِئَلَّا يخرج عَمَّا فِي كَلَامهم.
فَإِن قيل: فَمَا الْحَاجة فِي الْفَصْل بَين تَأْنِيث الِاسْم وتأنيث
الْفِعْل.
قيل: لِأَن الْفِعْل قد تسمي بِهِ، فَإِن سمي بِفعل فِيهِ عَلامَة
التَّأْنِيث لزم أَن يُوقف عَلَيْهِ بِالْهَاءِ، كَرجل سمي ب (قَامَت)
فَيُقَال: جَاءَنِي قامه، فَيُوقف بِالْهَاءِ، فَصَارَ من الْفَصْل
بَينهمَا بَيَان وَدلَالَة على الِاسْم وَالْفِعْل.
فَإِذا قَالَ: فَلم كَانَ الِاسْم بالتغيير أولى من الْفِعْل؟
(1/170)
قيل لَهُ: لِأَن التَّاء إِنَّمَا تلْحق من
الْأَفْعَال الْفِعْل الْمَاضِي، وَالْفِعْل الْمَاضِي مَبْنِيّ على
الْفَتْح، فَلَزِمَ طَريقَة وَاحِدَة، وَالِاسْم يلْحقهُ الْإِعْرَاب
فيتغير آخِره، فَلَمَّا احتجنا إِلَى تَغْيِير أَحدهمَا، غَيرنَا مَا
يلْحقهُ التَّغْيِير، وَهُوَ الِاسْم.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم كَانَت هَذِه الْهَاء أولى بِالْبَدَلِ من
سَائِر الْحُرُوف؟ قيل: لِأَن الْهَاء حرف خَفِي، وَهُوَ من مخرج
الْألف، فكرهوا أَن يبدلوا التَّاء ألفا، فيلتبس بِالْألف الَّتِي هِيَ
بدل من التَّنْوِين، فَكَانَت الْهَاء أولى لذَلِك.
وَاعْلَم أَن التَّاء فِي جمع الْمُؤَنَّث حرف الْإِعْرَاب، فتضم فِي
حَال الرّفْع، وتكسر فِي حَال النصب والجر. وَقد بَينا أَن الْكسر
إِنَّمَا دَخلهَا فِي حَال النصب حملا على الْمُذكر، وَقد اشْتَركَا
فِي جمع السَّلامَة، فَلَمَّا سوي بَين النصب والجر فِي الْأَسْمَاء
الْمَذْكُورَة، سوي أَيْضا بَينهمَا فِي جمع الْمُؤَنَّث.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد قُلْتُمْ: إِن الْجمع السَّالِم: مَا سلم فِيهِ
بِنَاء الْوَاحِد، وَإِن المكسر مَا تغير فِيهِ بِنَاء الْوَاحِد. ثمَّ
قُلْتُمْ فِي (بنت وَأُخْت) فِي حَال الْجمع: بَنَات وأخوات. ففتحتم
أَولهمَا وَكَانَ مكسورا أَو مضموما، وجعلتم هَذَا الْجمع جمع
السَّلامَة؟
قيل: لِأَن الأَصْل فِي بنت وَأُخْت، بنوة وأخوة، ولكنهما غيرا فِي
الْوَاحِد، وَوجه التَّغْيِير أَنهم حذفوا من (أخوة وبنوة) الْوَاو
استثقالا، ثمَّ ألْحقُوا (بِنْتا) ب (جدع) و (أُخْتا) ب (قفل) .
(1/171)
وَإِنَّمَا دعاهم إِلَى هَذَا الْإِلْحَاق
لتحصل التَّاء على لَفْظَة الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة، فَيصير هَذَا
الحكم لَهما كالعوض من حذف الْوَاو.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الدَّلِيل على أصل (بنت وَأُخْت) مَا
ادعيته؟
قيل لَهُ: إِن الدَّلِيل فِيمَا ذكر أَن الْمُؤَنَّث إِذا كَانَ على
لفظ الْمُذكر وَجب أَن تكون عَلامَة التَّأْنِيث لاحقة للفظة الْمُذكر،
كَمَا تَقول: قَائِم وقائمة، فَلَمَّا كَانَ لفظ (بنت وَأُخْت) على
طَرِيق لفظ (الْأَخ وَالِابْن) وَجب أَن تكون عَلامَة التَّأْنِيث
لاحقة على لفظ الْمُذكر، فَلَمَّا كَانَ الْأَخ يُقَال فِي تثنيته:
أَخَوان، علمنَا أَن أَصله (أَخُو) وَأَن حق التَّأْنِيث أَن يدْخل على
هَذَا اللَّفْظ، فَلهَذَا (9 / أ) وَجب أَن تكون أُخْت: أخوة.
وَأما (بنت) فَكَمَا أَنا نقُول فِي الْمُذكر: بنُون، علمنَا أَن
الأَصْل الْفَتْح، وَأَن (بِنْتا) كَانَ حَقّهَا أَن تَجِيء مَفْتُوحَة
الْيَاء على حد الْفَتْح فِي (بَنِينَ) وَلكنهَا غيرت لما ذَكرْنَاهُ
من الْإِلْحَاق، فَإِذا جمعت لم يكن بُد من حذف التَّاء فِي الْوَاحِد،
لِأَنَّهَا لم تخرج بِالْكَلِمَةِ عَن حكم عَلامَة التَّأْنِيث، بل
فيهمَا حكم الْعَلامَة، وَإِن كَانَت قد أجريت مجْرى الْحَذف
الْأَصْلِيّ، وَلَيْسَت بتاء مُجَرّدَة زيدت للإلحاق الْمُجَرّد، لِأَن
مَا زيد للإلحاق الْمُجَرّد لم يتَغَيَّر، لَا فِي تَثْنِيَة وَلَا فِي
جمع، لِأَنَّهُ قد أجْرى مجْرى الْأَصْلِيّ، أَلا ترى أَن الْيَاء
زَائِدَة للإلحاق ب (قنديل) وَلَا يتَغَيَّر، فَلَمَّا كَانَت تَاء
(بنت وَأُخْت) لَيست خَالِصَة للإلحاق، ثمَّ جمعُوا الِاسْم بِالْألف
وَالتَّاء، لم يكن بُد من حذف التَّاء فِي الْوَاحِد، إِذْ فِيهَا حكم
التَّأْنِيث، فَلم يجز الْجمع بَين تأنيثين، فَلَمَّا وَجب حذفهَا بَطل
حكم الْإِلْحَاق، فَوَجَبَ أَن ترد الْكَلِمَة إِلَى
(1/172)
ٍأصلها، فَلهَذَا وَجب أَن يكون الْجمع
فِيهَا جمع سَلامَة، وَإِن تغير الأول مِنْهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم وَجب فِي الْجمع المكسر أَن يجْرِي بِوُجُوه
الْإِعْرَاب؟ قيل لَهُ: لِأَن هَذَا الْجمع استؤنف لَهُ الْبناء، كَمَا
استؤنف الْوَاحِد، فَلَمَّا أشبه الْوَاحِد فِي هَذَا الحكم، وَجب أَن
يجْرِي حكمه فِي الْإِعْرَاب بِحكم الْوَاحِد.
وَأما مَا يمتحنه بعض النَّحْوِيين بتصغير الْوَاحِد، فَإِن ثبتَتْ
التَّاء أجروا الِاسْم بِجَمِيعِ الْإِعْرَاب، فَلَيْسَ بِشَيْء،
لِأَنَّك تَقول: هَذِه بيوتات الْعَرَب، ومررت ببيوتات الْعَرَب،
وَرَأَيْت بيوتات الْعَرَب، فتكسر التَّاء، وَلَو صغرت الْبَيْت لثبتت
التَّاء، فَعلمت أَن هَذِه الْعَلامَة لَيست بِأَصْل، وَأَن الْمُوجب
لكسر التَّاء فِي النصب جمع السَّلامَة.
قَالَ أَبُو الْحسن: قد بَينا أَن من الْأَسْمَاء مَا أشبه الْفِعْل
فَمنع التَّنْوِين والجر، وَمِنْهَا مَا أشبه الْحَرْف فَاسْتحقَّ
الْبناء، وَمِنْهَا مَا لم يعرض لَهُ عِلّة، فَجرى بِوُجُوه
الْإِعْرَاب وَنون.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم كَانَ مَا أشبه الْفِعْل يمْنَع من
التَّنْوِين والجر؟
قيل لَهُ: لِأَن الْفِعْل لَا يدْخلهُ تَنْوِين وَلَا جر فَوَجَبَ أَن
يكون مَا أشبهه حكمه كحكمه. وَقد بَينا لم امْتنع الْفِعْل من الْجَرّ،
فَأَما التَّنْوِين فَإِنَّمَا امْتنع من الْفِعْل لِأَنَّهُ زِيَادَة،
وَالْفِعْل ثقيل، فَلم يحْتَمل الزِّيَادَة، وَمَعَ هَذَا فَالَّذِي من
أَجله دخل التَّنْوِين فِي الِاسْم لَيْسَ بموجود فِي الْفِعْل، فَلم
يجز أَن يدْخل الْفِعْل التَّنْوِين، وَلما حمل النصب على الْجَرّ فِي
تَثْنِيَة الْأَسْمَاء وَجَمعهَا لما بَينهمَا من المشابهة، حمل
الْجَرّ فِيمَا
(1/173)
لَا ينْصَرف على النصب.
وَأما من أَي وَجه أشبهت بعض الْأَسْمَاء الْأَفْعَال حَتَّى منع
الصّرْف فَلهُ (بَاب) يبين فِيهِ إِن شَاءَ الله.
وَإِنَّمَا وَجب فِيمَا لَا ينْصَرف الِانْصِرَاف، إِذا دخلت الْألف
وَاللَّام أَو أضيف، لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة تقوم مقَام التَّنْوِين،
وَقد بَينا أَن وجود التَّنْوِين يُوجب للاسم الِانْصِرَاف، فَمَا
قَامَ مقَامه أَيْضا يُوجب الِانْصِرَاف، فَلهَذَا انْصَرف كل مَا
تدخله الْألف وَاللَّام أَو أضيف.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الَّذِي منع الِاسْم من الِانْصِرَاف شبهه
بِالْفِعْلِ، وَالْفِعْل لَا يدْخلهُ الْألف وَاللَّام وَلَا يُضَاف،
وأصل الْأَسْمَاء الصّرْف، فَلَمَّا دَخلهَا (9 / ب) مَا يُخرجهَا من
شبه الْفِعْل، ردَّتْ إِلَى أَصْلهَا من الِانْصِرَاف.
فَإِن قَالَ قَائِل: حُرُوف الْجَرّ تمنع من الدُّخُول على الْفِعْل،
وَمَعَ هَذَا إِذا دخلت على مَا لَا ينْصَرف بَقِي على حَاله من
الِامْتِنَاع من الصّرْف، فَهَلا صرفته فِي هَذِه الْحَال، إِذْ قد خرج
من شبه الْفِعْل كَمَا خرج بِدُخُول الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ
وَالْإِضَافَة؟
قيل لَهُ: هَذَا يُفَسر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن حُرُوف الْجَرّ هِيَ أحد عوامل الْأَسْمَاء كالناصب
والرافع، فَلَو صرفناه بِدُخُول حُرُوف الْجَرّ عَلَيْهِ، لوَجَبَ
أَيْضا أَن نصرفه بِدُخُول النواصب
(1/174)
والروافع عَلَيْهِ، إِذْ كَانَت هَذِه
العوامل لَا يجوز دُخُولهَا على الْفِعْل، وَلَو فعل هَذَا لم يحصل فصل
بَين المنصرف وَغَيره، فَسقط الِاعْتِرَاض بِهَذَا السُّؤَال.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن حُرُوف الْجَرّ تجْرِي فِيمَا بعْدهَا مجْرى
الْأَسْمَاء الَّتِي تخْفض مَا بعْدهَا، وَالْأَفْعَال قد تقع فِي
مَوَاضِع الْجَرّ بِإِضَافَة ظروف الزَّمَان إِلَيْهَا، كَقَوْلِك:
هَذَا يَوْم يقوم زيد، فَصَارَ وُقُوع الِاسْم بعد حرف الْجَرّ لَا
يخلص للاسم، إِذْ كَانَ مثل هَذَا الْموقع قد تقع فِيهَا الْأَفْعَال.
فَأَما الْألف وَاللَّام وَالْإِضَافَة: فَلَا يجوز بِحَال أَن تدخل
على الْأَفْعَال، فَلَمَّا صَار هَذَا الْموقع يخلص للاسم دون الْفِعْل
وَجب أَن ينْصَرف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار التَّنْوِين يُعَاقب الْألف وَاللَّام
وَالْإِضَافَة؟
قيل لَهُ: لِأَن التَّنْوِين إِنَّمَا يدْخل على الِاسْم ليعلم أَنه
منصرف، وَقد بَينا أَن جَمِيع مَا تدخله الْألف وَاللَّام
وَالْإِضَافَة ينْصَرف، فَلَمَّا كَانَ جَمِيع الْأَسْمَاء إِذا
دَخلهَا مَا ذكرنَا انْصَرف، لم يحْتَج إِلَى فرق، فَسقط التَّنْوِين
للاستغناء عَنهُ.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: جَاءَنِي قَاض، فَالْأَصْل أَن تضم الْيَاء
فِي الرّفْع، وتجرها فِي الْجَرّ، وَلَكِن الضمة تستثقل فِي هَذِه
الْيَاء والكسرة، فحذفتا فسكنت الْيَاء، فَالتقى ساكنان: الْيَاء
والتنوين، فَتسقط الْيَاء لالتقاء الساكنين، وَكَانَت أولى من
التَّنْوِين، لِأَن التَّنْوِين عَلامَة، وَالْيَاء لَيست بعلامة،
فَكَانَ تبقية الْعَلامَة أولى، فَإِذا وقفت على الِاسْم، فَقلت: هَذَا
قَاض، فالاختيار حذف الْيَاء أَيْضا فِي الْوَقْف.
(1/175)
فَإِن قيل: فَهَلا ردَّتْ الْيَاء قبل
التَّنْوِين؟
قيل لَهُ: التَّنْوِين - وَإِن سقط فِي الْوَقْف - فَهُوَ مراعى الحكم
فِي الدرج، وكرهوا رد الْيَاء فِي الْوَقْف، لما يلْزمهُم من حذفهَا
فِي الدرج، فَكَانَ ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى تَعب ألسنتهم، وهم يقدرُونَ
على إِزَالَة التَّعَب بِهَذَا التَّأْوِيل. وَمن أثبت الْيَاء اعتل
بالسؤال الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَإِذا جررت الِاسْم، فَقلت: مَرَرْت
بقاض. فَحكمه حكم الْمَرْفُوع، وَالْعلَّة وَاحِدَة.
فَإِذا نصبت فَقلت: رَأَيْت قَاضِيا، أثبت الْيَاء لتحركها بِالْفَتْح،
فأبدلت من التَّنْوِين ألفا، كَمَا تعْمل فِي سَائِر الْأَسْمَاء
المنصرفة. فَإِذا أدخلت الْألف وَاللَّام على هَذِه الْأَسْمَاء
فالاختيار إِثْبَات الْيَاء، لِأَن التَّنْوِين قد سقط مراعاته،
لِأَنَّهُ لَا يجوز إثْبَاته مَعَ الْألف وَاللَّام بِحَال، فَلَمَّا
سقط حكمه ردَّتْ الْيَاء. وَبَعض الْعَرَب يحذفها، وَوجه ذَلِك أَنه
قدر إِدْخَال الْألف وَاللَّام على الِاسْم فِي حَال الْوَقْف، وَقد
حذف مِنْهُ، فَبَقيَ الْحَذف على حَاله (10 / أ) فَحكم الْألف
كَقَوْلِك: هَذَا قَاضِي البدو، وَحذف الْيَاء مَعَ الْألف وَاللَّام
وَالْإِضَافَة ضَعِيف، وَإِنَّمَا يحسن مثله فِي الشّعْر.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَارَت (الْوَاو) لَا تقع فِي أَوَاخِر
الْأَسْمَاء، إِلَّا وَقبلهَا سَاكن، وَلم تجر مجْرى الْيَاء؟
قيل لَهُ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَن تقع قبلهَا ضمة أَو كسرة أَو
فَتْحة، فَلم يجز أَن تثبت وَقبلهَا فَتْحة، لِأَن كل وَاو تحركت
وَقبلهَا فَتْحة يجب أَن تقلب ألفا، وَلم يجز
(1/176)
أَن تقع قبلهَا كسرة، لِأَن ذَلِك أَيْضا
يُوجب قَلبهَا يَاء، وَلم يجز أَن تقع قبلهَا ضمة، لأَنهم أَرَادوا
الْفَصْل بَين الِاسْم وَالْفِعْل فِي هَذَا الحكم، فقلبوا كل وَاو تقع
طرفا وَقبلهَا ضمة إِلَى الْيَاء، ليفصلوا بَين الِاسْم وَالْفِعْل،
نَحْو: يَغْزُو وَيَدْعُو، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنهم يَقُولُونَ فِي
جمع دلو: أدل، بِهَذَا، وَالْأَصْل: أدلو، كَمَا يُقَال فِي جمع فلس:
أفلس، فَبَان بِمَا ذَكرْنَاهُ أَنهم يقلبون كل وَاو تقع طرفا فِي
الِاسْم وَقبلهَا ضمة إِلَى الْيَاء لما ذكرنَا، وَلَا بُد من كسر مَا
قبلهَا لتسلم، لِأَنَّهُ لَو بَقِي مَا قبل الْيَاء مضموما عَادَتْ
واوا، فَبَان أَنهم قصدُوا الْفَصْل بَين الِاسْم وَالْفِعْل بِهَذَا
التَّغْيِير.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار التَّغْيِير بِالِاسْمِ أولى من
الْفِعْل؟
قيل لَهُ: إِن الِاسْم يلْحقهُ فِي آخِره عَلامَة الْإِضَافَة
وَالنِّسْبَة، ويدخله التصغير وَالْجمع المكسر والترخيم مَعَ
الْإِعْرَاب، فَصَارَت تغييرات تلْحق الِاسْم دون الْفِعْل، فَلَمَّا
احتاجوا إِلَى تَغْيِير أَحدهمَا، كَانَ التَّغْيِير لما يلْزمه
التَّغْيِير فِي كثير من أَحْوَاله ألزم وَأولى مِمَّا لَا يلْزمه
التَّغْيِير.
قَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش: اعْلَم أَن الْأَسْمَاء الْمَقْصُورَة
إِنَّمَا ألزمت وَجها وَاحِدًا، لِأَن أواخرها لَا تَخْلُو من أحد
أَمريْن: إِمَّا أَن تكون منقلبة من وَاو أَو يَاء، أَو تكون للتأنيث
غير منقلبة.
(1/177)
وَالَّذِي أوجب قَلبهَا ألفات تحركها
وانفتاح مَا قبلهَا، فَلَو حركتها رجعت همزات، فَلَمَّا كَانَ
الْإِعْرَاب لَا يسلم مِنْهَا كَرَاهِيَة إِدْخَاله مَعَ مَا يُوجب
إِسْقَاطه، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى التَّعَب، فَلم يجز تحرّك
الْمَقْصُور، وَقدر فِيهِ الْإِعْرَاب.
فَأَما ألف التَّأْنِيث فَلَو حركت لم تخل من أحد أَمريْن:
إِمَّا أَن تقلب إِلَى الْيَاء، أَو إِلَى الْوَاو، أَو إِلَى
الْهمزَة، وَلَو قلبت واوا، أَو يَاء لوَجَبَ أَن ترجع إِلَى الْألف،
لما ذكرنَا من أَن الْوَاو وَالْيَاء مَتى تحركتا وَانْفَتح مَا
قبلهمَا وَجب أَن تقلب ألفا، فَلَا يسلم الْإِعْرَاب، فَلهَذَا وَجب
أَن تقر على حَالهَا، وَمَعَ هَذَا فقلبها يبطل عَلامَة التَّأْنِيث،
فَكَانَ بَقَاء الْعَلامَة أولى من إِدْخَال الْإِعْرَاب، لِأَن
الْإِعْرَاب قد يسْقط من جَمِيع الْأَسْمَاء فِي الْوَقْف، فَكَانَ
أولى هُنَا بالإسقاط.
وَاعْلَم أَن مَا ينْصَرف من الْأَسْمَاء الْمَقْصُورَة فعلامة
انْصِرَافه إِثْبَات التَّنْوِين فِيهِ فِي الْوَصْل، فَإِذا أثبت
التَّنْوِين وَهُوَ سَاكن، وَالْألف فِي آخر الْمَقْصُور سَاكِنة،
التقى ساكنان، فَلم يكن بُد من حذف أَحدهمَا، فَكَانَ حذف الأول أولى،
لِأَن التَّنْوِين عَلامَة، وَالْألف لَيست بعلامة، فَكَانَ تبقية
الْعَلامَة أولى، فَإِن وَقعت سقط التَّنْوِين وَرجعت الْألف المحذوفة.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن هَذِه الْألف الثَّانِيَة فِي الْوَقْف هِيَ
الْألف الْأَصْلِيَّة، وَلَيْسَت بَدَلا من التَّنْوِين لوجوه:
أَحدهَا: جَوَاز الإمالة فِيهَا وحسنها، وَلَو كَانَت بَدَلا من
التَّنْوِين لقبح إمالتها.
وَوجه آخر: أَن التَّنْوِين أَصله أَن يسْقط (10 / ب) فِي الْوَقْف على
مَا ذَكرْنَاهُ، فَإِذا سقط ردَّتْ الْألف الذاهبة.
(1/178)
فَإِن قيل: كَيفَ خَالف الْمَقْصُور بَاب
(قَاض) وَقد زعمت أَن التَّنْوِين إِذا سقط فِي الْوَقْف لم ترجع
الْيَاء، فَهَلا وَجب ذَلِك فِي الْمَقْصُور مَتى سقط التَّنْوِين أَلا
ترجع الْألف؟
قيل لَهُ: الْفرق بَينهمَا من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن بَاب (قَاض) قد ثبتَتْ الْيَاء فِي حَال النصب، فَلم يكن
إِسْقَاطهَا فِي حَال الرّفْع والجر إخلالا بهَا شَدِيدا، وَلَو أسقطنا
الْألف من الْمَقْصُور فِي الْوَقْف لم يكن لَهَا حَال رُجُوع، فَكَانَ
ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَال بهَا، فَوَجَبَ أَن يردوها، إِذا
وَجب ردهَا فِي مَوضِع من الْإِعْرَاب، وَجب أَن يرجع فِي جَمِيع
الْأَحْوَال، لِأَن لَفظه وَاحِد، وَحكم إِعْرَاب الْمَقْصُور وَاحِد.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْألف خَفِيفَة، وَالْيَاء ثَقيلَة، فَمن
حَيْثُ جَازَ أَن يُبدل من التَّنْوِين ألفا فِي حَال النصب، وقبح
الْبَدَل من التَّنْوِين يَاء فِي حَال الْجَرّ، لثقل الْيَاء وخفة
الْألف، فَكَذَلِك هَا هُنَا قبح رد الْيَاء فِي (قَاض) لثقلها، وَحسن
رد الْألف فِي الْمَقْصُور لخفتها.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا الدَّلِيل على أَن الْأَزْمَان ثَلَاثَة
حَتَّى رتبتم الْأَفْعَال؟
قيل لَهُ: الدَّلِيل على ذَلِك أَن الشَّيْء قد تقع الْعدة بِهِ فَيكون
متوقعا، وَهَذَا لزمان الِاسْتِقْبَال، فَإِذا وجد فَهَذَا الزَّمَان
هُوَ زمَان الْحَال، فَإِذا مضى عَلَيْهِ وقتان أَو أَكثر صَار ماضياه
فقد حصلت لنا بِمَا ذَكرْنَاهُ أزمان ثَلَاثَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَأَي هَذِه الْأَزْمِنَة أسبق؟ فَفِيهِ جوابات:
(1/179)
أَحدهَا: أَن يكون زمَان الْحَال هُوَ
السَّابِق، لِأَن الشَّيْء أقوى أَحْوَاله حَال وجوده، فَيجب أَن يكون
وجوده أولى، ثمَّ تقع الْعدة بِهِ فَيكون متوقعا، ثمَّ يُوجد
الْمَوْعُود وَيقْضى فَيصير مَاضِيا.
وَذَلِكَ أَن الْأَزْمِنَة إِنَّمَا احتجنا إِلَيْهَا لأمر الموجودات،
وَالْأَمر فِيمَا بَينا، فَلهَذَا وَجب ترتيبها على مَا ذَكرْنَاهُ.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن الْمُسْتَقْبل قبل الْحَال والماضي،
لِأَنَّهُ بعد أَن يَقع بِمَا لَيْسَ بموجود، ثمَّ يصير مَوْجُودا،
ثمَّ يمْضِي.
فقد بَان بِمَا ذَكرْنَاهُ أَن الْمَاضِي من الزَّمَان بعد
الْمُسْتَقْبل وَالْحَال، والمستقبل يجوز أَن يكون بعد الْحَال، وَيجوز
أَن يكون الْحَال بعد الْمُسْتَقْبل.
وَالْوَجْه الثَّالِث، وَهُوَ أقوى عندنَا: فَأَما من جِهَة اللَّفْظ
فالماضي قبل الْمُسْتَقْبل، لِأَن قَوْلك: (ضرب) ثَلَاثَة أحرف، فَإِذا
قلت: (يضْرب) فقد زِدْت عَلَيْهِ حرفا مِمَّا لَا زِيَادَة فِيهِ قبل
مَا فِيهِ الزِّيَادَة؟
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جعلتم الْمُسْتَقْبل وَالْحَال عبارَة
وَاحِدَة تدل عَلَيْهِمَا، وَلم تُشْرِكُوا بَين الْمَاضِي وَالْحَال
بِعِبَارَة وَاحِدَة؟
فَفِي ذَلِك جوابان:
أَحدهمَا: أَن الْمُسْتَقْبل قد حصل مضارعا للأسماء دون الْمَاضِي،
وَوجدنَا الْأَسْمَاء قد تسْتَعْمل اللَّفْظَة الْوَاحِدَة مِنْهَا
لِأَشْيَاء مُخْتَلفَة، أَلا ترى أَنهم قَالُوا الْعين لعين
الْإِنْسَان، ولعين المَاء، ولعين الْمِيزَان، ولحقيقة الشَّيْء،
وللطليعة، وَغير ذَلِك، فَكَذَلِك أَيْضا جعلُوا عبارَة وَاحِدَة تدل
على مَعْنيين فِي الْأَفْعَال المضارعة،
(1/180)
كَمَا جعلُوا ذَلِك فِي الْأَسْمَاء. وَأما
الْمَاضِي فَإِنَّهُ لم يجب لَهُ هَذَا الحكم.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الْحَال لما كَانَ وقته قَصِيرا، لم يسْتَحق
لفظا يخص بِهِ لقصر مدَّته، فَجعل تبعا فِي الْعبارَة للزمان
الْمُسْتَقْبل، لاشْتِرَاكهمَا فِي تقدمهم للماضي، فَلهَذَا وَجب أَن
ترَتّب الْأَفْعَال على الْأَزْمِنَة (11 / أ) الثَّلَاثَة، وَقد بَينا
حكم الْأَفْعَال فِي الْإِعْرَاب وَالْبناء، فَلهَذَا لم نعده.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خص الْفِعْل الْمُضَارع بِهَذِهِ الزَّوَائِد
من بَين سَائِر الْحُرُوف؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَنا قد بَينا أَن أول مَا تزاد حُرُوف
الْمَدّ، إِلَّا أَن الْوَاو لم يجز أَن تزاد لِأَنَّهَا تستثقل، وتبدل
إِذا كَانَت أَصْلِيَّة، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الرُّسُل
أقتت} ، و (أرخ الْكتاب) ، وَالْأَصْل: وقتت، وورخ الْكتاب، فَإِذا
كَانُوا يفرون مِنْهَا إِذا كَانَت أَصْلِيَّة، وَجب أَلا يزِيدُوا مَا
يفرون مِنْهُ، فَلَمَّا بَطل أَن تزاد الْوَاو فِي أول الْمُضَارع،
جعلُوا فِي موضعهَا حرفا يُبدل مِنْهُ، وَهِي التَّاء، لِأَنَّهَا تبدل
من الْوَاو مَوَاضِع مِنْهَا: (تجاه وتخمة) . وَلم تجْعَل الْهمزَة
بَدَلا من الْوَاو، وَإِن كَانَت تبدل مِنْهَا، لأَنا نحتاج إِلَى أَن
نبدلها مَكَان الْألف، وَهِي أقرب إِلَى الْألف مِنْهَا إِلَى الْوَاو،
وَالْألف لَا يجوز أَن تزاد أَولا، لِأَنَّهَا سَاكِنة، والابتداء
بالساكن لَا يجوز، فَجعلت الْهمزَة بَدَلا من الْألف لقربها مِنْهَا،
وَبقيت الْيَاء على أَصْلهَا، واحتجنا إِلَى حرف رَابِع، فَكَانَت
النُّون أولى من سَائِر الْحُرُوف، لما ذَكرْنَاهُ من شبهها بحروف
الْمَدّ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم سكنتم الْحَرْف الَّذِي يَلِي حرف المضارعة
فِي الْأَفْعَال الثلاثية، وحركتموه فِي الرّبَاعِيّة، قُلْتُمْ: هُوَ
يضْرب، فسكنتم الضَّاد وَكَانَت
(1/181)
متحركة فِي (ضرب) وقلتم: يدحرج، فجئتم
بِالدَّال على أَصْلهَا؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَنهم لَو أَبقوا الضَّاد على حركتها لتوالى
أَربع حركات لَوَازِم، وَهَذَا لَيْسَ فِي كَلَامهم، إِلَّا أَن تكون
الْكَلِمَة محذوفة، نَحْو: علبط وهدبد، وَالْأَصْل: علابط وهدابد،
لأَنهم يستعملون الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بِمَعْنى وَاحِد، فَعلم أَنهم
خففوا اللَّفْظَة لطولها حَتَّى صَارَت: علبط وهدبد.
وَكَذَلِكَ (ضَرَبَنِي) جَازَ أَن يجْتَمع فِيهِ أَربع حركات
مُتَوَالِيَات، لِأَن الْمَفْعُول لَا يلْزم بِالْفِعْلِ، فَلم يعتدوا
بتوالي الحركات، إِذْ كَانَت غير لَوَازِم، فَإِذا صَحَّ أَنه لَيْسَ
فِي كَلَامهم مَا ذكرنَا لم يجز تبقية الضَّاد فِي (يضْرب) على حركتها.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم صَارَت أولى بالإسكان؟
قيل لَهُ: لِأَن الأول لَا يجوز إسكانه، لِأَنَّهُ ابْتِدَاء بساكن،
وَلَا يجوز بِإِسْكَان آخر الْفِعْل، لِأَن ذَلِك يُوجب بناءه، وَقد
حصل مُسْتَحقّا للإعراب بالمضارعة للاسم، فَلم يبْق إِلَّا الضَّاد،
وَالرَّاء عين الْفِعْل، وَبهَا يعرف اخْتِلَاف الْأَفْعَال مِمَّا
هُوَ على (فعل، أَو فعل، أَو فعل) فَلَمَّا كَانَ الإسكان فِي الرَّاء
يُوجب لبسا لم تسكن، وَلم يبْق إِلَّا الضَّاد، فَلهَذَا صَارَت
بالإسكان أولى.
فَأَما (يدحرج) فَلم يعرض فِيهِ توالي أَربع حركات، وَجَاء على
الأَصْل.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ (أكْرم) على وزن (دحرج) والمضارع
بِإِسْكَان الثَّانِي من (أكْرم) خلافًا ل (لدحرج) فَمَا وَجه ذَلِك؟
قيل لَهُ: الأَصْل فِي يكرم: يؤكرم، كَمَا تَقول: يدحرج، وَلَكِن
الْهمزَة حذفت، وَالسَّبَب فِي حذفهَا أَن الْمُتَكَلّم لَو أخبر عَن
نَفسه لزمَه أَن يَقُول: أَنا
(1/182)
أأكرم، فتلتقي همزتان زائدتان، وَذَلِكَ
مستثقل، وَقد وجدناهم يحذفون الْهمزَة الْأَصْلِيَّة استثقالا لَهَا،
كَقَوْلِك: خُذ وكل، وَالْأَصْل: اؤخذ واؤكل، لِأَنَّهُ من: أَخذ
وَأكل، فَكَانَ حذف الزَّائِد أولى مَعَ مَا فِيهِ من الاستثقال،
فَوَجَبَ أَن تحذف الْهمزَة (11 / ب) ثمَّ أتبعوا سَائِر حُرُوف
المضارعة الْحَذف، لِئَلَّا يخْتَلف طَرِيق الْفِعْل، والهمزة المحذوفة
هِيَ الثَّانِيَة، لِأَن الأولى دخلت لِمَعْنى، فَكَانَ حذف الَّتِي
لَا معنى لَهَا أولى، وَأَيْضًا فَإِن الثَّانِيَة هِيَ الْمُوجبَة
لثقل الْكَلِمَة، إِذْ كَانَت الأولى لَا تثقل بهَا الْكَلِمَة،
فَكَانَ الْمُوجب للثقل أولى بالحذف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم اخْتلف أول أَفعَال المضارعة، وَكَانَ
الرباعي مِنْهَا مضموم الأول وعداه مَفْتُوح الأول؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الأَصْل الْفَتْح فِي جَمِيع ذَلِك،
وَإِنَّمَا وَجب الْفَتْح لِأَنَّهُ أخف الحركات، وَنحن نتوصل بِهِ
إِلَى الِابْتِدَاء، كَمَا نتوصل بِالضَّمِّ وَالْكَسْر، فَكَانَ
اسْتِعْمَال الْفَتْح أخف وَأولى، إِلَّا أَن الْمُضَارع من الْفِعْل
الرباعي إِذا كَانَ أول الْمَاضِي همزَة، وَقد بَينا أَنه يجب
إِسْقَاطهَا فَيصير لفظ الْمُضَارع على أَرْبَعَة أحرف فِي الرباعي،
فَيصير كمضارع الْفِعْل الثلاثي، فَلَو بقيناه مَفْتُوحًا الْتبس
بالثلاثي، فضم أول مضارع الرباعي، ليفصل بَينه وَبَين مضارع الثلاثي،
ثمَّ أتبع
(1/183)
سَائِر مضارع الرباعي لهَذَا الْقسم،
لِئَلَّا يخْتَلف طَرِيقه، وَيجْرِي الْفِعْل على طَرِيق وَاحِد. فَإِن
قيل: فَلم كَانَ الْفَصْل بِالضَّمِّ أولى؟
قيل لَهُ: لِأَن الضَّم هُوَ الأَصْل، وَالْكَسْر مستثقل، إِذْ كَانَ
الْجَرّ قد منع من الْفِعْل، فَلم يبْق إِلَّا الضَّم. وَوجه آخر: أَن
الضَّم أقوى الحركات، فَأدْخل على أول مضارع الرباعي، ليَكُون عوضا من
الْحَرْف الْمَحْذُوف.
فَإِن قيل: فَلم صَار الرباعي أولى من ضم الثلاثي؟ قيل: لِأَن الرباعي
أقل فِي كَلَامهم من الثلاثي، وكرهوا ضم الثلاثي لِئَلَّا يكثر فِي
كَلَامهم مَا يستثقلون.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الضَّم أقوى من الْفَتْح، وَكَانَ الرباعي قد
حذف مِنْهُ حرف، فَوَجَبَ أَن يعْطى الرباعي الْحَرَكَة القوية،
ليَكُون فِيهِ مَعَ الْفَصْل عوضا من الْمَحْذُوف.
فَإِن سُئِلَ: لم ضممتم أول (يدحرج) وَهُوَ خَمْسَة أحرف، وَلَيْسَ
يلتبس بالثلاثي؟
قيل: لِئَلَّا يخْتَلف طَرِيق الْفِعْل الرباعي، فَلَمَّا لزم الضَّم
فِي بعضه لعِلَّة، أجري سَائِر تصاريفها عَلَيْهَا، لِئَلَّا يخْتَلف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم اسْتَوَى لفظ الْمُتَكَلّم، مؤنثا كَانَ أَو
مذكرا، وَفصل مَا بَين الْمُخَاطب وَالْغَائِب؟
قيل لِأَن الْمُتَكَلّم لَا يخْتَلط بِغَيْرِهِ، فَلَمَّا لم يَقع
فِيهِ التباس، لم يحْتَج إِلَى فصل، فَتَقول: أَنا أقوم، وَإِن كَانَ
مؤنثا وَكَذَلِكَ: نَحن نقوم، للمذكر والمؤنث، وسنبين لم اسْتَوَى لفظ
التَّثْنِيَة وَالْجمع للمتكلم فِي (بَاب الضَّمِير) ، إِن شَاءَ الله.
(1/184)
فَأَما الْمُخَاطب: فيفصل بَينه وَبَين
الْمُذكر، فَقيل: أَنْت تقوم، للمذكر، وَأَنت تقومين، للمؤنث، لِأَن
الْمُخَاطب قد يشْتَرك فِيهِ الْمُذكر والمؤنث، فَلَا يعلم المُرَاد
مِنْهُمَا إِلَّا بِالْفَصْلِ والتمييز، فاحتيج إِلَى الْفَصْل
والتمييز فزيد على لفظ الْمُؤَنَّث يَاء وَنون، فَأَما الْيَاء فَهِيَ
إِظْهَار الْفَاعِل، وفيهَا عَلامَة التَّأْنِيث، وَإِنَّمَا اخْتصَّ
الْمُؤَنَّث بالعلامة لِأَنَّهُ فرع على الْمُذكر، فَاحْتَاجَ إِلَى
زِيَادَة لفظ على لفظ الْمُذكر، كَمَا تَقول / قَائِم وقائمة، وَلم
تجْعَل الْعَلامَة بِالنَّقْصِ من اللَّفْظ الَّذِي هُوَ الأَصْل،
لِئَلَّا يَزُول مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا خص الْمُؤَنَّث بِالْيَاءِ
عَلامَة، لِأَن عَلامَة التَّأْنِيث قد تكون بِالْكَسْرِ وبالياء فِي
نَحْو: هذي أمة الله، ورأيتك ذَاهِبَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: (12 / أ) من أَيْن زعمتم أَن الْيَاء فِي (تضربين)
ضمير الْفَاعِل، دون أَن تكون عَلامَة مَحْضَة؟
قيل: إِذْ ثنينا أسقطنا الْيَاء، فَقُلْنَا: أَنْتُمَا تضربان، فَلَو
كَانَت الْيَاء عَلامَة مَحْضَة، لم يجز إِسْقَاطهَا، أَلا ترى أَنَّك
تَقول: قامتا، وذهبتا، فثبتت التَّاء مَعَ إِدْخَال الضَّمِير،
فَلَمَّا سَقَطت الْيَاء علمنَا أَنَّهَا ضمير الْفَاعِل، لِأَن الْألف
تكتفي مِنْهَا، وَلَيْسَت بعلامة مَحْضَة، وَلكنهَا عَلامَة وَضمير،
وَإِنَّمَا زيدت عَلَيْهَا النُّون، لِأَن الْفِعْل لما ظهر فَاعله،
وَالْفِعْل وَالْفَاعِل يمنزلة شَيْء وَاحِد، لم يخرج الْفِعْل
بِإِظْهَار الْفَاعِل عَمَّا يُوجب لَهُ الْإِعْرَاب، إِذْ كَانَت
المضارعة ثَانِيَة لَهُ، وَقد بَطل أَن يكون آخر الْفِعْل حرف
الْإِعْرَاب، لِأَنَّهُ قد لزمَه اللين من أجل الْيَاء، فَوَجَبَ أَن
تجْعَل عَلامَة الْإِعْرَاب، وَقد بَينا أَن النُّون تشبه حُرُوف
الْمَدّ، وَهِي أولى
(1/185)
بِالزِّيَادَةِ بعْدهَا، فزيدت النُّون،
وَجعلت عَلامَة للرفع بِمَنْزِلَة الضمة، فَلهَذَا زيدت النُّون ,
وَأما الْغَائِب فَجعل لفظ الْمُذكر الْمُخَاطب للمؤنث الْغَائِب،
كَقَوْلِهِم: هِيَ تقوم، وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك، لِأَن صِيغَة الْفِعْل
يَكْتَفِي بهَا فِي الْعَلامَة من غير زِيَادَة لفظ آخر، وَجعلُوا
للمذكر الْغَائِب الْيَاء فَرفع الْفَصْل بَينهمَا بِالْيَاءِ
وَالنُّون، كَقَوْلِك: يضربن، لجَماعَة الْمُؤَنَّث، وهم يضْربُونَ،
لجَماعَة الْمُذكر.
(1/186)
|