علل النحو (2 - بَاب ارْتِفَاع الْفِعْل الْمُضَارع)
وَاعْلَم أَن الْفِعْل الْمُضَارع إِنَّمَا يرْتَفع عِنْد أهل
الْبَصْرَة بِوُقُوعِهِ موقع الِاسْم، وَسَوَاء كَانَ الِاسْم
مَرْفُوعا أَو مَنْصُوبًا أَو مجرورا، كَقَوْلِك فِي الْمَرْفُوع: زيد
يقوم، وَهُوَ فِي موقع: زيد قَائِم.
فَأَما الْمَنْصُوب فنحو قَوْلك: كَانَ زيد يقوم، فِي مَوضِع: كَانَ
زيد قَائِما.
وَأما الْمَجْرُور فنحو قَوْلك: مَرَرْت بِرَجُل يقوم، فَهُوَ فِي
مَوضِع: مَرَرْت بِرَجُل قَائِم.
وَإِنَّمَا اسْتحق الرّفْع لوُقُوعه موقع الِاسْم لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: بِأَن وُقُوعه موقع الِاسْم معنى لَيْسَ بِلَفْظ، وَهُوَ
مَعَ ذَلِك متجرد من العوامل اللفظية، فَمن حَيْثُ اسْتحق الْمُبْتَدَأ
الرّفْع، أعطي الْفِعْل فِي هَذَا الْموضع الرّفْع.
وَالْوَجْه الثَّانِي: هُوَ أَن الْفِعْل لَهُ ثَلَاثَة أَحْوَال:
أَحدهَا: أَنه يَقع موقع الِاسْم وَحده، كَقَوْلِك: زيد يقوم، وَهُوَ
فِي مَوضِع (قَائِم) .
وَالثَّانِي: أَنه يَقع موقع الِاسْم مَعَ غَيره، كَقَوْلِك: أُرِيد
أَن تذْهب، فَهُوَ بِمَنْزِلَة: أُرِيد ذهابك.
وَالْحَالة الثَّالِثَة: أَلا يَقع موقع الِاسْم بِنَفسِهِ، ولامع
غَيره، كَقَوْلِك: إِن تأتني آتِك، وَكَذَلِكَ: لم يقم زيد، لَا يَصح
أَن يَقع الِاسْم موقع مَا ذَكرْنَاهُ، وَيكون
(1/187)
بِمَعْنَاهُ، فَلَمَّا كَانَ الْفِعْل قد
حصل على الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة، وَكَانَ الِاسْم هُوَ الأَصْل فِي
الْإِعْرَاب، كَانَ وُقُوع الْفِعْل فِي مَوْضِعه أقوى أَحْوَاله،
فَوَجَبَ أَن يعْطى أقوى الحركات، وَهُوَ الرّفْع، وَلما كَانَ وُقُوعه
مَعَ غَيره موقع الِاسْم دون ذَلِك فِي الرُّتْبَة، جعل لَهُ النصب،
وَلما كَانَ وُقُوعه فِي مَوضِع لَا يَصح وُقُوع الِاسْم فِيهِ، فَبعد
بذلك من شبه الِاسْم بعدا شَدِيدا، أعطي من الْإِعْرَاب مَا لَا يَصح
دُخُوله على الِاسْم، لبعد شبهه مِنْهُ، وَهُوَ الْجَزْم.
وَالْفراء يَقُول: إِن الْفِعْل الْمُضَارع يرْتَفع بسلامته من النواصب
والجوازم.
وَعند الْكسَائي: (12 / ب) إِنَّه يرْتَفع بِمَا فِي أَوله من
الزَّوَائِد.
فَأَما قَول الْكسَائي فَظَاهر الْفساد، لِأَن هَذِه الزَّوَائِد لَو
كَانَت عاملة رفعا، لم يجز أَن يَقع الْفِعْل مَنْصُوبًا وَلَا
مَجْزُومًا، وَهِي مَوْجُودَة فِيهِ، لِأَن عوامل النصب لَا يجوز أَن
تدخل على عوامل الرّفْع، لِأَنَّهُ لَو دخل عَلَيْهِ لَكَانَ يجب أَن
يبْقى حكمهَا، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى أَن يكون الشَّيْء مَرْفُوعا
مَنْصُوبًا فِي حَال، وَهَذَا محَال، فَلَمَّا وجدنَا هَذَا الْفِعْل
ينصب ويجزم، والحروف فِي أَوله مَوْجُودَة، علمنَا أَنَّهَا لَيست
عِلّة فِي رَفعه.
(1/188)
وَأما الْفراء فَقَوله أقرب إِلَى
الصَّوَاب، وفساده مَعَ ذَلِك، وَهُوَ أَنه جعل النصب والجزم قبل
الرّفْع، لِأَنَّهُ يرْتَفع بسلامته من النواصب والجوازم، وَأول
أَحْوَال الْإِعْرَاب الرّفْع، وَقَوله يُوجب أَن يكون الرّفْع بعد
النصب والجزم، فَلهَذَا فسد، فاعلمه.
(1/189)
(3 - بَاب حُرُوف النصب)
وَاعْلَم أَن حُرُوف النصب على مَا ذكرنَا تَنْقَسِم قسمَيْنِ:
قسم [يعْمل] بِنَفسِهِ، وَقسم يعْمل بإضمار (أَن) .
وَإِنَّمَا وَجب النصب ب (أَن) وَأَخَوَاتهَا، لِأَن (أَن) الْخَفِيفَة
مشابهة ل (أَن) الثَّقِيلَة فِي الصُّورَة وَالْمعْنَى، فَمن حَيْثُ
وَجب أَن تنصب تِلْكَ الِاسْم، نصبت هَذِه الْفِعْل، وَمَا ذَكرْنَاهُ
من أخواتها مَحْمُول عَلَيْهَا، وَوجه الْحمل: أَن هَذِه الْحُرُوف -
أَعنِي (أَن وكي وَإِذن) - تقع للمستقبل كوقوع (أَن) لَهُ، فَلَمَّا
كَانَت مشابهة ل (أَن) فِي إِيجَابهَا لكَون الْفِعْل الْمُسْتَقْبل،
نصبت لَا غير، كنصب (أَن) .
وَقد ذكرنَا فِي الْفَصْل الْمُقدم عِلّة أُخْرَى فِي نصب (أَن) ،
فأغنى عَن إِعَادَته. وَاعْلَم أَن ل (إِذن) ثَلَاثَة أَحْوَال:
أَحدهَا: أَن تنصب لَا غير.
وَالثَّانيَِة: أَن يجوز إلغاؤها وإعمالها.
وَالثَّالِثَة: أَلا يجوز إعمالها.
وَالْحَال الأولى: أَن تقع مُبتَدأَة، كَقَوْلِك: إِذن أكرمك.
وَالْحَال الثَّانِيَة: أَن تقع وَقبلهَا الْوَاو وَالْفَاء،
كَقَوْلِك: أَنا أحبك وَإِذن أكرمك، فَإِن شِئْت رفعت وَإِن شِئْت نصبت
(1/190)
فَمن نصب قدر الْوَاو عاطفة جملَة على
جملَة، فَصَارَت (إِذن) فِي الحكم كالمبتدأة، فَلهَذَا نصب.
وَمن رفع جعل الْوَاو عاطفة على الْفِعْل الَّذِي قبله، وألغى (إِذن) .
وَإِنَّمَا سَاغَ إلغاؤها لشبهها ب (ظَنَنْت) ، إِذْ توسطت بَين
الِاسْم وَالْخَبَر، وَهَذَا التَّشْبِيه إِنَّمَا سَاغَ، لِأَن
الْعَرَب قد ألغت (إِذن) فِي الْعَمَل كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَإِذا لَا
يلبثُونَ خَلفك إِلَّا قَلِيلا} .
وَيجوز إِنَّمَا حملهمْ على إلغائها ليَكُون فِي الْحُرُوف الَّتِي
هِيَ أَضْعَف من الْأَفْعَال مَا يجوز فِيهِ الإعمال والإلغاء، كَمَا
جَازَ فِي الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ أقوى، فَلهَذَا جَازَ إلغاؤها
وإعمالها.
وَالْحَالة الثَّالِثَة: لَا يجوز أَن تعْمل فِيهَا، وَهِي تقع بَين
كلامين لَا بُد لأَحَدهمَا من الآخر، كالمبتدإ وَالْخَبَر، وَالشّرط
وَالْجَزَاء، كَقَوْلِك: زيد إِذا يكرمك، وَإِن تأتني إِذن آتِك
وأكرمك.
وَكَذَلِكَ إِن وَقعت بَين الْقسم والمقسم بِهِ، كَقَوْلِك: وَالله
إِذن لأَقوم.
وَإِنَّمَا ألغيت فِي هَذِه الْمَوَاضِع، لاحتياج مَا قبلهَا إِلَى مَا
بعْدهَا، فَجَاز أَن يطْرَح حكمهَا، لاعتماد مَا قبلهَا على مَا
بعْدهَا.
وَأما (كي) : فللعرب فِيهَا مذهبان:
(1/191)
أَحدهَا: أَن يعملوها فِي الْفِعْل كعمل
(أَن) ، لما ذَكرْنَاهُ من التَّشْبِيه.
وَالْمذهب الثَّانِي: أَن يجروها مجْرى لَام الْجَرّ، فَيكون النصب
بعْدهَا بإضمار (أَن) ، وَذَلِكَ (13 / أ) أَن بعض الْعَرَب
يَقُولُونَ: كيمه، كَمَا يَقُولُونَ: لمه، فَلَمَّا أجريت مجْرى لَام
الْجَرّ، لم يجز أَن تعْمل فِي الْفِعْل، فَوَجَبَ أَن تضمر (أَن)
بعْدهَا.
وَاعْلَم أَنه قد حكى الْخَلِيل - رَحمَه الله - أَن أصل (لن) : لَا
أَن، وَلكنهَا حذفت، فَبَقيت (لن) تَخْفِيفًا، فَردُّوا ذَلِك عَلَيْهِ
بِأَن قَالُوا: إِن مَا بعد (أَن) لَا يعْمل فِيمَا قبلهَا، وَلَو
كَانَت (لن) على مَا زعم الْخَلِيل لم يجز: زيدا لن أضْرب، فَتقدم مَا
بعد (لن) عَلَيْهَا.
وللخليل أَن ينْفَصل من هَذَا بِأَن يَقُول: وجدت الْحُرُوف مَتى ركبت
خرجت عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ، فَمن ذَلِك (هَل) أَصْلهَا
الِاسْتِفْهَام، وَلَا يجوز أَن يعْمل مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا، لَو
قلت: زيدا هَل ضربت، لم يجز، فَإِذا زيد على (هَل) (لَا) ودخلها معنى
التحضيض، جَازَ أَن يتَقَدَّم مَا بعْدهَا عَلَيْهَا، قَوْلك: زيدا هلا
ضربت.
(1/192)
فَإِذا كَانَ تركيب الْحُرُوف يُخرجهَا عَن
حكم مَا كَانَت عَلَيْهِ قبل التَّرْكِيب، لم يلْزم الْخَلِيل فِي (لَا
أَن) الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
إِلَّا أَن قَول الْخَلِيل وَالْجُمْلَة ضَعِيف من وَجه آخر:
هُوَ أَن اللَّفْظ مَتى جَاءَنَا على صفة مَا، وَأمكن اسْتِعْمَال
مَعْنَاهُ، لم يجز أَن يعدل عَن ظَاهره إِلَى غَيره من غير ضَرُورَة
تَدْعُو إِلَى ذَلِك، فَلَمَّا وجدنَا أَن مَعْنَاهَا مَفْهُوم بِنَفس
لَفظهَا لم يجز أَن ندعي أَن أَصْلهَا شَيْء آخر من غير حجَّة
قَاطِعَة، وَلَا ضَرُورَة.
وَيدل أَيْضا على ضعف قَول الْخَلِيل: انه يجوز أَن يَليهَا الْمَاضِي،
وَأَن (أَن) لَا يَليهَا إِلَّا الْمُسْتَقْبل، فَعلمنَا أَن حكم (أَن)
سَاقِط، وَأَن (لن) حرف قَائِم بِنَفسِهِ وضع للْفِعْل الْمُسْتَقْبل.
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن زعمتم أَن (أَن) تضمر بعد (حَتَّى
وَاللَّام وَالْفَاء وَالْوَاو وأو) ، وَلم تجعلها مقدرَة بعد (إِذن
وكي وَلنْ) ؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (لن وَإِذن وكي) تلْزم الْأَفْعَال، وَيحدث
فِيهَا معنى، وَإِن كَانَ بعض العوامل قد يَقع عمله بالتشبيه
بِاللَّفْظِ دون الْمَعْنى، فَإِذا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن يكون حكم
هَذِه الْحُرُوف فِي أَنَّهَا عاملة فِيمَا بعْدهَا كَحكم (أَن وَلنْ)
لاشْتِرَاكهمَا فِي لُزُوم الْفِعْل، وَأما (حَتَّى وَالْفَاء
وَالْوَاو) فالدلالة قد دلّت على أَن (أَن) مضمرة بعْدهَا.
وَذَلِكَ أَن (حَتَّى) قد ثَبت حكمهَا أَن تخْفض الْأَسْمَاء، وَلَا
يجوز لعامل الِاسْم أَن يعْمل فِي الْفِعْل، فَلَمَّا وجدنَا الْفِعْل
بعد (حَتَّى) مَنْصُوبًا وَقد اسْتَقر لَهَا الْخَفْض، وَأمكن أَن
تجْعَل فِي هَذَا الْموضع على بَابهَا، بِأَن تقدر بعْدهَا (أَن) ؛
(1/193)
لِأَن (أَن) وَالْفِعْل بِمَنْزِلَة
الْمصدر، فَتَصِير (حَتَّى) فِي الْمَعْنى خافضة ل (أَن) وَمَا تعلق
بهَا، وَجب أَن تقدر (أَن) بعْدهَا، لِئَلَّا يُخرجهَا عَن أَصْلهَا
وَعَن أَحْكَام العوامل.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جعلتم أَصْلهَا النصب للْفِعْل إِذا كَانَ
إِظْهَار (أَن) لَا يجوز، إِذْ صَار أَصْلهَا النصب للْفِعْل، احتجتم
إِلَى إِضْمَار حرف يخْفض الِاسْم إِذا وَليهَا، كَمَا فَعلْتُمْ فِي
إِضْمَار مَا ينصب الْفِعْل؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن حُرُوف الْجَرّ من شَأْنهَا أَن تقوم
بِنَفسِهَا، وَمن شَرط الْمَحْذُوف أَلا يحذف حَتَّى تقوم دلَالَة على
حذفه، فَلَمَّا وجدناهم يَقُولُونَ: ضربت الْقَوْم حَتَّى زيد،
ويخفضون، علمنَا أَنَّهَا خافض.
فَإِن قَالَ: أَلَيْسَ (13 / ب) يحسن أَن تَقول: ضربت الْقَوْم حَتَّى
انْتَهَيْت إِلَى زيد؟
قيل لَهُ: هَذَا لَا يجوز، لأَنا نَكُون قد أضمرنا فعلا وحرفا،
وَالْأَفْعَال الَّتِي تصل بِحرف الْجَرّ لَا يجوز إضمارها، فَلهَذَا
سقط أَن نقدر الْخَفْض بعد (حَتَّى) بِحرف سواهَا.
وَأما إِضْمَار (أَن) فَلهُ نَظِير، لِأَنَّهُ تَخْفيف بعض الِاسْم،
وَبَعض الِاسْم مَوْجُود فِي كَلَامهم، فَلهَذَا كَانَ جعل (حَتَّى)
خافضة للاسم أولى من جعلهَا ناصبة للْفِعْل.
وَوجه آخر: أَن (حَتَّى) مَعْنَاهَا وَمعنى (إِلَى) مُتَقَارب، وَقد
ثَبت أَن (إِلَى) خافضة، فَيجب أَن تكون خافضة لقربها من (إِلَى) فِي
الْمَعْنى.
وَأما اللَّام: فَوَجَبَ إِضْمَار (أَن) بعْدهَا لِأَنَّهَا خافضة،
وَقد بَينا أَن
(1/194)
عوامل الْأَسْمَاء لَا تعْمل فِي
الْأَفْعَال، وَيمْنَع هَذَا أَن إِضْمَار (أَن) بعْدهَا حسن،
كَقَوْلِك جِئْت لِأَن تقوم، فَدلَّ على أَن النصب بإضمار (أَن) لَا
بِاللَّامِ.
وَاعْلَم أَن هَذِه اللَّام إِذا كَانَ قبلهَا نفي، لَا يحسن إِظْهَار
(أَن) بعْدهَا، كَقَوْلِك: مَا كَانَ زيد ليقوم، وَلَا يحسن: مَا كَانَ
زيد لِأَن يقوم. وَإِنَّمَا لم يحسن ذَلِك، لِأَنَّهُ جَوَاب
لِقَوْلِك: كَانَ زيد سيقوم، فَتَقول: مَا كَانَ زيد ليقوم، فَلَمَّا
كَانَت جَوَابا لشيئين، و (مَا) حرف لَا يعْمل، أَرَادوا أَن يكون
الْجَواب أَيْضا بِحرف لَا يعْمل فِي الْفِعْل، ليشاكل كل الْجَواب مَا
هُوَ جَوَاب لَهُ، فَلهَذَا لم يحسن إِظْهَار (أَن) .
فَأَما (الْفَاء وَالْوَاو وأو) : فحروف عطف، وحروف الْعَطف لَا تعْمل
شَيْئا، لِأَنَّهَا لَا تخْتَص بِالدُّخُولِ على الْفِعْل دون الِاسْم،
وَلَا بِالدُّخُولِ على الِاسْم دون الْفِعْل، وكل حرف كَانَ على هَذَا
السَّبِيل لم يعْمل شَيْئا، فَلَمَّا وجدنَا الْفِعْل بعد هَذِه
الْحُرُوف مَنْصُوبًا، علمنَا أَنه انتصب بغَيْرهَا، وَهُوَ (أَن) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَارَت (أَن) بالإضمار أولى من أخواتها؟
فَفِي ذَلِك وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن (أَن) هِيَ الأَصْل لهَذِهِ الْحُرُوف فِي الْعَمَل لما
ذَكرْنَاهُ، فَوَجَبَ أَن يكون الْمُضمر (أَن) لقوتها فِي بَابهَا،
وَأَن يكون مَا حمل عَلَيْهَا يلْزم موضعا وَاحِدًا وَلَا يتَصَرَّف.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن (أَن) يَليهَا الْمَاضِي والمستقبل،
فَصَارَت أَشد تَصرفا من أخواتها، لِأَنَّهُ لَا يَليهَا إِلَّا
الْمُسْتَقْبل، فَلَمَّا حصلت لَهَا مزية على أخواتها فِي الْإِظْهَار
(1/195)
كَانَت أولى بالإضمار.
وَأَيْضًا فَإِن (أَن) لَيْسَ لَهَا معنى فِي نَفسهَا، كمعنى (لن
وَإِذن وكي) ، وَلأَجل أَن نضعها فِي مَعْنَاهَا جَازَ أَن تحذف، وَلم
يجز إِضْمَار أخواتها، لِكَثْرَة فائدتها.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يجوز الْقيَاس على هَذَا حَتَّى يجوز
إِضْمَار (أَن) بِكُل مَوضِع؟
قيل لَهُ: لَا.
فَإِن قَالَ: فَلم خصت هَذِه الْمَوَاضِع بِهَذَا؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا لم يجز إِضْمَار (أَن) فِي كل مَوضِع، لِأَنَّهُ
عَامل ضَعِيف، وَلَيْسَ من شَرط الْعَامِل الضَّعِيف أَن يعْمل مضمرا،
وَإِنَّمَا جَازَ إضماره فِي هَذِه الْمَوَاضِع لِأَن هَذِه الْحُرُوف
والعوامل - أَعنِي (اللَّام وَحَتَّى وأخواتهما) - صَارَت عوضا
مِنْهَا، فجرت فِي الْعِوَض مجْرى (الْوَاو) الَّتِي تقع عوضا من (رب)
، كَقَوْلِه:
وبلد عامية أعماؤه [وَكَقَوْلِه] :
(وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس ... إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس)
(1/196)
وَكَقَوْلِه:
وبلدة قطعت
أَي: رب بَلْدَة قطعت، فَلَمَّا صَارَت عوضا من (أَن) حسن حذفهَا.
(1/197)
(4 - بَاب حُرُوف الْجَزْم)
فَإِن قَالَ قَائِل: لم (14 / أ) صَارَت (لم) وَأَخَوَاتهَا وحروف
الشَّرْط تخْتَص بِالْجَزْمِ دون غَيرهَا من الْإِعْرَاب؟
قيل لَهُ: قد بَينا أَن الْجَزْم لَا بُد من دُخُوله على الْفِعْل،
ليَكُون بِإِزَاءِ الْجَرّ فِي الِاسْم، وَوَجَب أَن تكون هَذِه
العوامل عاملة، لِأَنَّهَا قد لَزِمت الْفِعْل وأحدثت فِيهِ معنى،
وَإِنَّمَا خصت بِالْجَزْمِ لِأَن الشَّرْط وَالْجَزَاء يَقْتَضِي
جملتين، كَقَوْلِك: إِن تضرب أضْرب، فلطول مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْط
وَالْجَزَاء اختير لَهُ الْجَزْم، لِأَنَّهُ حذف وَتَخْفِيف.
وَأما لم اختير الْجَزْم بهَا: فَلِأَنَّهَا ضارعت حُرُوف الْجَزَاء من
أجل أَن الْفِعْل الْمُضَارع يَقع بعْدهَا بِمَعْنى الْمَاضِي، كَمَا
يَقع الْمَاضِي بعد حُرُوف الْجَزَاء بِمَعْنى الِاسْتِقْبَال،
فَلَمَّا تشابها من هَذَا الْوَجْه جعل عملهما الْجَزْم.
وَأما (لَا) فِي النَّهْي: فَإِنَّمَا اخْتصّت بِالْجَزْمِ، لِأَن
النَّهْي نقيض الْأَمر، وَالْأَمر مَبْنِيّ على السّكُون، إِذْ لم يكن
فِي أَوله اللَّام، فَجعل النَّهْي نظيرا لَهُ فِي اللَّفْظ، فَلهَذَا
خص بِالْجَزْمِ.
وَأما (لَام الْأَمر) : فَجعلت لَازِمَة للجزم، لاشتراك الْأَمر
بِاللَّامِ وَغير
(1/198)
اللَّام فِي الْمَعْنى، وخصت (اللَّام)
بذلك، لِأَنَّهَا تدخل على الْغَائِب، فشابهت لَام التَّعْرِيف،
لِأَنَّهَا لَا تسْتَعْمل للْعهد وَلمن هُوَ غَائِب، فأدخلت اللَّام من
بَين سَائِر الْحُرُوف لهَذَا الْمَعْنى.
وَأما قَوْلنَا فِي الْكتاب: (أفلم وأفلما) ، فَالْأَصْل (لم) ، تدخل
عَلَيْهَا فَاء الْعَطف، وواو الْعَطف، وَألف الِاسْتِفْهَام، والجزم
إِنَّمَا هُوَ ب (لم) إِذْ كَانَ مَا دخل عَلَيْهَا لَا تَأْثِير لَهُ.
وَأما (لما) : فالجزم يَقع بهَا، وَبَينهَا وَبَين (لم) فرق، وَذَلِكَ
أَن (لم) نفي لِقَوْلِك: قَامَ زيد، ثمَّ تَقول: لم يقم زيد، فَإِذا
قلت: قد قَامَ، فنفيه: لما يقم، وَذَلِكَ أَن (قد) فِيهَا معنى التوقع،
فزيدت (مَا) على (لم) يإزاء (قد) الدَّاخِلَة على الْفِعْل فِي أول
الْكَلَام.
وَالدَّلِيل على أَن (لما) مُخَالفَة فِي الحكم ل (لم) : أَنه يجوز
السُّكُوت عَلَيْهَا، فَيُقَال فِي الْجَواب: لما، وَلَا يذكر بعْدهَا
شَيْء، وَلَا يجوز ذَلِك فِي (لم) فَعلم الْفرق بَينهمَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج إِلَى إمالة لفظ الْمَاضِي
بعد (لم) إِلَى لفظ الْمُسْتَقْبل؟
قيل لَهُ: لما وَجب ل (لم) عمل للْفِعْل بِمَا ذَكرْنَاهُ، فَلَو
ألزموه الْمَاضِي لما بَان عمله، فَوَجَبَ أَن ينْقل لفظ الْمَاضِي
إِلَى لفظ الْمُسْتَقْبل حَتَّى يتَبَيَّن الْجَزْم.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ أصل حُرُوف الشَّرْط أَن يَليهَا الْمُسْتَقْبل،
كَقَوْلِك: إِن تضرب
(1/199)
أضْرب، ثمَّ جوزوا أَن يَليهَا الْمَاضِي،
فَهَلا استقام مثل هَذَا فِي (لم) وأوقعتم من بعْدهَا الْمَاضِي
والمستقبل جَمِيعًا؟
قيل لَهُ: الْفَصْل بَينهمَا أَن أصل حُرُوف الْجَزَاء أَن يَليهَا
الْمُسْتَقْبل، لِأَن الْجَزَاء إِنَّمَا يكون فِي الْمُسْتَقْبل،
وَالْفِعْل الْمُضَارع أثقل من الْمَاضِي، إِذْ كَانَ أخف مِنْهُ.
وَأما (لم) : فَالْأَصْل أَن يَليهَا الْمَاضِي، وَقد أوجبت الْعلَّة
إِسْقَاط الأَصْل وَاسْتِعْمَال الثقيل - أَعنِي الْمُضَارع - فَلم يجز
أَن يرجع إِلَيْهِ، لأَنهم لَو استعملوا الأَصْل الَّذِي هُوَ
الْخَفِيف، وَقع الْجَازِم على غير مَا بني لَهُ، وَالْمعْنَى لَا يشكل
الْمُضَارع، فَوَجَبَ إِسْقَاط الأَصْل رَأْسا، وَاسْتِعْمَال
الْمُضَارع فِي مَوْضِعه، فَلذَلِك افْتَرقَا، فاعرفه.
وَاعْلَم أَن الْأَمْثِلَة الَّتِي تعلم نَحْو: يفْعَلَانِ وتفعلان
ويفعلون وتفعلون، وَأَنت تفعلين، فَإِنَّمَا وَجب أَن يكون إعرابها
بالنُّون، لِأَن هَذِه الْأَفْعَال لما لحقتها ضمائر الفاعلين (14 / ب)
وَكَانَ الْفِعْل وَالْفَاعِل كالشيء الْوَاحِد، وَجب أَن يظْهر
الضَّمِير مَعهَا كبعض حروفها، وَهَذِه الضمائر - أَعنِي: الْألف
وَالْوَاو، وَالْيَاء فِي تضربين - إِنَّمَا لَا يكون مَا قبلهَا من
حُرُوف الْإِعْرَاب، لِأَنَّهُ لَو جعل مَا قبلهَا من حُرُوف
الْإِعْرَاب لجَاز أَن يسكن فِي الْجَزْم، فيلتقي ساكنان، فَكَانَ
يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى حذف الضَّمِير لالتقاء الساكنين، وَكَانَ أَيْضا
يجب أَن تنْقَلب الْألف واوا إِذا انْضَمَّ مَا قبلهَا، وَكَذَلِكَ
الْيَاء، فتختلط العلامات.
فَلَمَّا كَانَ يُؤَدِّي إِعْرَاب مَا قبل هَذِه الْمُضْمرَات إِلَى
مَا ذكرنَا، بَطل أَن يكون مَا قبلهَا حرف الْإِعْرَاب، وَلم يكن لحاق
هَذِه الضمائر بمزيل للْفِعْل عَن اسْتِحْقَاق الْإِعْرَاب، لِأَن
مضارعته لم تزل، وَلَا بُد من إِعْرَاب، وَقد فَاتَ حرف إعرابه أَن
(1/200)
يعرب، فَجعلُوا النُّون بِمَنْزِلَة الضمة،
وَجعلت بعد هَذِه الضمائر، وَلم يجز أَن تجْعَل هَذِه الضمائر حُرُوف
الْإِعْرَاب، كَمَا جعلت (الْألف وَالْوَاو وَالْيَاء) فِي تَثْنِيَة
الْأَسْمَاء وَجَمعهَا، لِأَن هَذِه الضمائر لَيست بِجُزْء من الْفِعْل
فِي الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا هِيَ أَسمَاء فِي نَفسهَا، وَلم يجز أَن
يكون إِعْرَاب الْفِعْل فِي غَيره، لِأَنَّهَا من جِهَة اللَّفْظ قد
جعلت كجزء من الْفِعْل، فَوَجَبَ أَن يكون الْإِعْرَاب بعْدهَا،
وَكَانَت النُّون من سَائِر الْحُرُوف لما ذَكرْنَاهُ من شبهها بِحرف
الْمَدّ، وَجعل تثنيتها عَلامَة للرفع بِمَنْزِلَة الضمة، وأسقطت فِي
الْجَزْم كَمَا تسْقط الضمة، وَحمل النصب على الْجَزْم،
إِذْ كَانَ لفظ هَذِه الْأَفْعَال قد صَار كألف تَثْنِيَة الْأَسْمَاء
وَجَمعهَا، وَحمل النصب على الْجَزْم فِي هَذِه الْأَفْعَال، لِأَن
الْجَزْم فِي الْأَفْعَال نَظِير الْجَرّ فِي الْأَسْمَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: (أَنْت تذهبين) ، إِنَّمَا هُوَ خطاب للواحدة،
فَلم اسْتَوَى نَصبه وجزمه، وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء المفردة مَا حمل
نَصبه على جزمه؟
قيل لَهُ: إِن قَوْلنَا: (أَنْت تضربين) ، وَإِن كَانَ خطابا للواحدة،
فَهُوَ مشبه للفظ الْجمع، أَلا ترى أَن الْجمع فِي حَال النصب والجر
يكون آخِره يَاء قبلهَا كسرة، كَمَا أَن فِي (الزيدين) قبل الْيَاء
كسرة، وَالنُّون بعْدهَا كَمَا هِيَ بعد الْيَاء فِي الْجمع، فَلَمَّا
شابه لفظ الْجمع أجري مجْرَاه لهَذِهِ الْعلَّة، وَفتحت النُّون
تَشْبِيها بنُون الْجمع فِي اللَّفْظ.
فَأَما كسر النُّون فِي (تضربان) ، وَفتحهَا فِي (تضربين) : فالعلة
فِيهَا كالعلة فِي تَثْنِيَة الْأَسْمَاء وَجَمعهَا، وَاعْلَم أَن
الْأَفْعَال لَا تثنى وَلَا تجمع، وَإِنَّمَا تلحقها عَلامَة
التَّثْنِيَة وَالْجمع على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن تكون الْألف وَالْوَاو ضمير الْأَسْمَاء إِذا تقدّمت،
نَحْو قَوْله:
(1/201)
الزيدان يقومان، والزيدون يقومُونَ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تكون الْأَسْمَاء الظَّاهِرَة بعد الْفِعْل،
فَتَصِير الْألف وَالْيَاء لاحقتين للْفِعْل عَلامَة للتثنية وَالْجمع،
وَلَيْسَت بضمير، وَإِنَّمَا زادوها ليدلوا أَن الْفِعْل لاثْنَيْنِ
وَجَمَاعَة، كَمَا يلحقون الْفِعْل عَلامَة التَّأْنِيث، كَقَوْلِك:
قَامَت هِنْد، ليدلوا أَن الْفِعْل لمؤنث، فَتَقول على هَذَا: قاما
الزيدان، وَقَامُوا الزيدون، وَلَيْسَ ذَلِك بالكثير فِي كَلَام
الْعَرَب.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم لم يلزموا الْفِعْل عَلامَة للتثنية
وَالْجمع، كَمَا ألزموا الْفِعْل عَلامَة التَّأْنِيث؟
قيل لَهُ: الْفَصْل بَينهمَا أَن التَّثْنِيَة لَيست بلازمة فِي جَمِيع
الْأَحْوَال، فَلم تلْزم (15 / أ) علامتها كَمَا تلْزم هِيَ فِي
نَفسهَا. فَأَما التَّأْنِيث فلازم فِي الِاسْم لَا يُفَارِقهُ،
فَلهَذَا لَزِمت عَلامَة التَّأْنِيث الْفِعْل.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم زعمتم أَن الْفِعْل لَا يثنى وَلَا يجمع؟
قيل لَهُ: فِي ذَلِك وُجُوه:
أَحدهَا: أَنه لَو جَازَت تثنيته مَعَ الاسمين لجَاز تثنيته مَعَ
الْوَاحِد، لِأَن الْوَاحِد يفعل من الْجِنْس الْوَاحِد من الْأَفْعَال
مَا يَفْعَله الِاثْنَان وَالثَّلَاثَة، وَلَو كَانَ ذَلِك شَائِعا
لوجد فِي كَلَامهم جمع الْفِعْل مَعَ الِاسْم الْوَاحِد، فَكَانَ
يُقَال: زيد قَامُوا، فَلَمَّا خلا ذَلِك من كَلَامهم، علمنَا [أَنه]
لَا يثنى وَلَا يجمع، وَمَا لحقه من عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع
إِنَّمَا هُوَ على مَا شرحناه.
وَوجه آخر: أَن الْفِعْل يدل على مصدر، وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفسه بِذَات
يقْصد إِلَيْهَا حَتَّى يضم إِلَيْهَا مثلهَا، كَمَا يجب ذَلِك فِي
الْأَسْمَاء، فَلذَلِك لم يثن وَلَا يجمع.
وَوجه ثَالِث: وَهُوَ أَن الْفِعْل على مصدره، والمصدر لَا يثنى وَلَا
(1/202)
يجمع، لِأَنَّهُ اسْم للْجِنْس يَقع على
الْوَاحِد فَمَا فَوْقه، كَقَوْلِك: ضرب وَأكل وَشرب، إِلَّا أَن
يخْتَلف، فَحِينَئِذٍ يجوز جمعه، كَقَوْلِك: ضربت ضروبا، إِذا كَانَ
ضربا مُخْتَلفا، فَلَمَّا كَانَ الْفِعْل إِنَّمَا دلّ على مصدر
وَاحِد، وَالْوَاحد من المصادر جنس وَاحِد، بَينا أَنه لَا يثنى على
هَذَا الْوَجْه، فَكَذَلِك لَا يثنى مَا يدل عَلَيْهِ.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْفِعْل لما كَانَ دَالا على الزَّمَان
والمصدر، علم فِي الْمَعْنى أَنه اثْنَان، فاستغني عَن تثنيته.
وَاعْلَم أَن الْفِعْل لجَماعَة الْمُؤَنَّث تلْحقهُ النُّون على
وَجْهَيْن، كَمَا لحقت الْوَاو الْمُذكر على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون اسْما مضمرا يرجع إِلَى مَا قبله، كَقَوْلِك:
الهندات يضربن.
وَالثَّانِي: أَن يكون عَلامَة الْجمع، فَيكون على هَذَا الْوَجْه
حرفا، كَقَوْلِك: يضربن الهندات.
وَاعْلَم أَن هَذِه النُّون إِذا دخلت على الْفِعْل أوجبت بناءه على
السّكُون، وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك لِأَنَّهُ اسْم، وَمن شَرط
الْأَسْمَاء الْمُضْمرَات أَن تبنى على حَرَكَة، لِأَنَّهَا على حرف
وَاحِد، وكرهوا أَن يبنوها على السّكُون فَيكون إجحافا بهَا، فَإِذا
أدخلناها على الْفِعْل الْمَاضِي، نَحْو قَوْلك: الهندات ضربن، وَجب
إسكان حرف من الْفِعْل؛ كَرَاهِيَة أَن يجْتَمع فِي كلمة وَاحِدَة
أَربع متحركات مُتَوَالِيَات لَوَازِم، لِأَن الْفِعْل وَالْفَاعِل
كالشيء الْوَاحِد، إِذْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي أَحدهمَا عَن الآخر،
وَلَيْسَ فِي كَلَامهم نَظِير هَذَا، وَقد بَيناهُ قبل هَذَا، فَلم يكن
بُد من إسكان حرف من جملَة هَذِه الْكَلِمَة.
وَإِنَّمَا كَانَت الْبَاء بِالسُّكُونِ أولى من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الأول لَا يجوز إسكانه، لِأَنَّهُ لَا يبتدأ بساكن،
وَلَا يجوز
(1/203)
إسكان الثَّانِي، لِأَنَّهُ بِهِ يعرف
اخْتِلَاف الْأَبْنِيَة، وَلَا يجوز إسكان النُّون لما ذَكرْنَاهُ من
الإجحاف، فَلم يبْق غير الْبَاء، فَوَجَبَ إسكانها.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن أصل الْفِعْل السّكُون، فَلَمَّا احتجنا
إِلَى تسكين حرف، كَانَ مَا أَصله السّكُون أولى، لِأَن ذَلِك رد إِلَى
أَصله، فَلهَذَا وَجب إسكان الْبَاء.
وَأما (تضربن) : فَحمل على (ضربن) ، وَإِن لم تكن فِيهِ عِلّة (ضربن)
إِلَّا من وَجه النِّسْبَة أَن (يضربن) من جنس (ضربن) ، وَالْبَاء
الَّتِي سكنت فِي (يضربن) هِيَ الْبَاء الَّتِي سكنت فِي (ضربن) ،
فحملوا الْمُسْتَقْبل على الْمَاضِي من الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ،
لِئَلَّا يخْتَلف طَرِيق الْفِعْل، فَإِذا ثَبت أَن الْفِعْل (15 / ب)
الْمُضَارع إِذا لحقته نون جمَاعَة النِّسَاء بني على السّكُون، وَجب
أَن يلْزم طَريقَة وَاحِدَة فِي حَال الرّفْع وَالنّصب والجزم، لِأَن
ذَلِك شَرط المبنيات، وَمَا ذكرنَا فِي الشَّرْح من أَن النُّون لَو
حذفت لالتبس بِفعل الْمُذكر، وَأَيْضًا فَإِن حذف النُّون لَا يجوز
بِحَال، فَإِنَّهَا اسْم مُضْمر، وَلَا يجوز حذف الِاسْم للجزم، كَمَا
لَا يجوز حذف الْيَاء من قَوْلك: (لم تضربي) ، إِذا خاطبت مؤنثا،
لِأَنَّهَا اسْم وعلامة تَأْنِيث.
وَاعْلَم أَن الْفِعْل المعتل إِنَّمَا خَالف مَا آخِره وَاو أَو يَاء
لما آخِره الْألف، لِأَن الْألف قد بَينا فِي عِلّة الْمَقْصُور
أَنَّهَا لَا تحرّك فِي حَال الْإِعْرَاب، فَذَاك يُغني عَن الاعتلال
هَا هُنَا، لِأَن حكمهَا سَوَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: للاسم أَن يخْفض اسْما مثله، وَمن شَرط الْعَامِل
أَلا يكون من نوع الْمَعْمُول فِيهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ من نَوعه لم
أجدهما بِأَن يعْمل فِي الآخر أولى من الآخر أَن يعْمل فِيهِ.
(1/204)
قيل لَهُ: أصل الْجَرّ إِنَّمَا هُوَ
بالحروف دون الْأَسْمَاء، وَالْإِضَافَة فِي الْأَسْمَاء على مَعْنيين:
أَحدهمَا: بِمَعْنى اللَّام.
وَالْآخر: بِمَعْنى (من) .
فَإِذا قَالَ الْقَائِل: (جَاءَنِي غُلَام زيد) ، فَالْأَصْل: غُلَام
لزيد، فزيد جر بِاللَّامِ، وَإِذا حذفت اللَّام قَامَ الْغُلَام
مقَامهَا، فَيبقى جر زيد على مَا كَانَ عَلَيْهِ، إِذْ كَانَ قد قَامَ
مقَام مَا يخفضه شَيْء، وَهُوَ الْغُلَام.
وَكَذَلِكَ إِذا قلت: (ثوب خَز) ، فَالْأَصْل: ثوب من خَز، فَلَمَّا
حذفت (من) قَامَ الثَّوْب مقَامهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا الْفَائِدَة فِي حذف اللَّام و (من) ؟
قيل لَهُ: الْفَائِدَة فِي ذَلِك أَنَّك إِذا قلت: جَاءَنِي غُلَام
لزيد، فَإِنَّمَا تخبر أَن وَاحِدًا من غلْمَان زيد جَاءَك، وَلَيْسَ
مَعْرُوفا بِعَيْنِه، فَإِذا أَرَادوا غُلَاما بِعَيْنِه حذفوا
اللَّام، ووصلوا بَين الْغُلَام وَزيد، وَجعلُوا هَذَا الِاتِّصَال من
جِهَة اللَّفْظ دلَالَة على اخْتِصَاصه من سَائِر غلمانه، فَإِذا قلت:
جَاءَنِي غُلَام زيد، فَمَعْنَاه: جَاءَنِي الْغُلَام الْمَعْرُوف
لزيد.
وَأما قَوْلهم: (ثوب خَز) فَإِنَّمَا حذفت (من) تَخْفِيفًا.
(1/205)
(5 - بَاب حُرُوف الْخَفْض)
فَإِن قَالَ قَائِل: لم صَارَت هَذِه (اللَّام وَمن) وَسَائِر مَا يجر
من الْحُرُوف يعْمل الْجَرّ دون النصب وَالرَّفْع؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن حُرُوف الْجَرّ تكون موصلة للأفعال إِلَى
مَا بعْدهَا، فَتدخل مرّة على الْفَاعِل، وَمرَّة على الْمَفْعُول
بِهِ، كَقَوْلِك فِي الْفَاعِل: مَا جَاءَنِي من أحد، وَالْأَصْل: مَا
جَاءَنِي أحد، وَتدْخل على الْمَفْعُول، كَقَوْلِك: مَا رَأَيْت من
أحد، وَمَعْنَاهُ: مَا رَأَيْت أحدا، فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْحُرُوف
تدخل على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول، جعل حركتها بَين حَرَكَة الْفَاعِل
وَالْمَفْعُول متوسطا، وَهُوَ الْكسر، لِأَنَّهُ وسط اللِّسَان،
وَالضَّم من الشّفة، وَالْفَتْح من أقْصَى الْحلق، فَلهَذَا خص
بِالْجَرِّ.
وَاعْلَم أَن (عَن) تكون اسْما وحرفا، إِذا كَانَت اسْما دخل عَلَيْهَا
حرف الْجَرّ وَصَارَت بِمَنْزِلَة النَّاحِيَة، كَقَوْلِك: زيد من عَن
يَمِين عَمْرو، قَالَ الشَّاعِر: ( ... فَقلت: اجعلي ضوء الفراقد كلهَا
... يَمِينا ومهوى النَّجْم من عَن شمالك ... )
وَإِذا كَانَت حرفا لم يحسن دُخُول حرف الْجَرّ عَلَيْهَا، كَقَوْلِك:
رميت عَن الْقوس، وَمَا أشبه ذَلِك.
(1/206)
وَأما (على) فَتكون (16 / أ) اسْما وحرفا
وفعلا.
فالفعل نَحْو قَوْلك: علا يَعْلُو، وَالِاسْم نَحْو قَوْلك: جَاءَ
النّظر من عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: ( ... أَتَت من عَلَيْهِ
تنفض الطل بعد مَا ... رَأَتْ حَاجِب الشَّمْس اسْتَوَى وترفعا ... )
(من عَلَيْهِ) : أَي: من فَوْقه.
وَإِذا كَانَت حرفا لم يحسن شَيْئا مِمَّا ذَكرْنَاهُ فِيهَا، نَحْو
قَوْلك: على زيد مَال.
وَأما (حاشى) فَلَا تكون إِلَّا حرفا عِنْد سِيبَوَيْهٍ، وَتَكون حرفا
وفعلا عِنْد الْمبرد، وسنستقصي الْحجَج فِي ذَلِك إِذا انتهينا
إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله.
وَأما (خلا) فَتكون حرفا وفعلا بِلَا اخْتِلَاف، وَإِذا قدرتها حرفا
خفضت بعْدهَا، وَإِذا قدرتها فعلا نصبت بعْدهَا.
وَأما (الْكَاف) الَّتِي للتشبيه فَتكون حرفا واسما، فَإِذا كَانَت
اسْما قدرتها تَقْدِير (مثل) ، وَجَاز أَن يدْخل عَلَيْهَا حرف
الْجَرّ، كَقَوْل الشَّاعِر:
(1/207)
( ... وصاليات ككما يؤثفين ... )
فالكاف الأولى حرف الْجَرّ، وَالثَّانيَِة اسْم. وَاعْلَم أَن كل حرف
من حُرُوف الْجَرّ لَهُ معنى.
فَأَما (من) فَتَقَع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع:
أَحدهَا: أَن تكون لابتداء الْغَايَة، كَقَوْلِك: مَرَرْت من الْكُوفَة
إِلَى الْبَصْرَة، أَي: ابْتِدَاء سيري كَانَ من الْكُوفَة.
وَالثَّانِي: أَن تكون للتبيين، كَقَوْلِه عز وَجل: {فَاجْتَنبُوا
الرجس من الْأَوْثَان} لِأَن سَائِر الأرجاس يجب أَن يجْتَنب، فَدخلت
(من) لتبين الْمَقْصُود بالاجتناب من الأرجاس.
وَالثَّالِث: أَن تدخل مَعَ النكرات لنفي الْجِنْس، كَقَوْلِك: مَا
جَاءَنِي من رجل، نفيت جَمِيع جنسه. فَإِذا قلت: مَا جَاءَنِي من أحد،
ف (من) أَيْضا مفيدة، وَإِن كَانَ (أحد) لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي
النَّفْي، فَإِنَّهُ قد اسْتعْمل فِي بعض الْمَوَاضِع بِمَنْزِلَة
(الْوَاحِد) ، فَلَو قلت: مَا جَاءَنِي أحد، جَازَ أَن يتَوَهَّم: مَا
جَاءَنِي وَاحِد، فَإِذا قلت: من أحد، جَازَ هَذَا التَّوَهُّم.
(1/208)
وَالْوَجْه الرَّابِع من وُجُوه (من) : أَن
تكون للتَّبْعِيض، كَقَوْلِك: أخذت درهما من مَال زيد.
وَبَعض النَّاس يعْتَقد فِي الْوَجْه الثَّالِث أَن (من) فِيهِ
زَائِدَة، فِي نَحْو قَوْلك:
مَا جَاءَنِي من أحد، وَقد بَينا أَن لَهُ فَائِدَة.
وَاعْلَم أَن (من) مَعَ هَذِه الْأَوْجه الْأَرْبَعَة يجوز أَن تجْعَل
كلهَا للتَّبْعِيض، وَإِن شِئْت جَعلتهَا لابتداء الْغَايَة إِلَّا
الْموضع الَّذِي تدخل فِيهِ الْأَجْنَاس، وَلأَجل تقديرها زَائِدَة لم
يثبت حكمهَا كالأوجه الثَّلَاثَة، فاعرفه.
وَأما (إِلَى) : فَمَعْنَاه الْغَايَة، كَقَوْلِك: سرت إِلَى
الْبَصْرَة / أَي انْتَهَيْت إِلَيْهَا.
وَأما (اللَّام) : فمعناها الْملك والاستحقاق، كَقَوْلِك: المَال لزيد.
أَي: هُوَ يملكهُ ويستحقه.
وَأما (الْبَاء) : فَمَعْنَاه للإلصاق، وَقد تكون باستعانة وَغير
استعانة، كَقَوْلِك مَرَرْت بزيد. أَي: ألصقت مروري بِهِ والاستعانة:
كتبت بالقلم. أَي: ألصقت كتابي بِهِ وَفِيه استعانة مَعَ ذَلِك.
وَأما (الْكَاف) : فَتكون للتشبيه، نَحْو قَوْلك: زيد كعمرو. أَي:
شبهه.
وَأما (عَن) : فَلَمَّا عدا الشَّيْء، كَقَوْلِك: أخذت عَنهُ حَدِيثا.
أَي: عدا إِلَيّ مِنْهُ حَدِيثا.
(1/209)
وَأما (على) : فمعناها الاستعلاء،
كَقَوْلِك: زيد على الْجَبَل. أَي: قد علا، وَكَذَلِكَ: على زيد دين.
أَي: قد علاهُ، وَهَذَا التَّمْثِيل بِالْأولِ.
وَأما (حاشى وخلا) فنفسرهما فِي بَاب (الِاسْتِثْنَاء) إِن شَاءَ الله.
(1/210)
|