علل النحو (6 - بَاب حُرُوف الْقسم)
إِن سَأَلَ سَائل فَقَالَ: لم زعمتم أَن أصل حُرُوف الْقسم (الْبَاء) ؟
قيل لَهُ: فِي ذَلِك جوابان:
أَحدهمَا: أَن الْمقسم بِهِ مُعَلّق بِفعل مَحْذُوف، وَذَلِكَ أَن
قَوْلك: بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ، مَعْنَاهُ: أَحْلف بِاللَّه، وَهَذَا
الْفِعْل إِذا ظهر لَا يجوز أَن يسْتَعْمل مَعَه إِلَّا الْبَاء،
فَدلَّ ذَلِك على أَن الأَصْل الْبَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم لَا يجوز: أَحْلف وَالله؟
قيل لَهُ: لِأَنَّهُ يلتبس، أَنَّك قد حَلَفت بيمينين، وَذَلِكَ أَن
الْقَائِل قد يَكْتَفِي بقوله: أَحْلف، وَيجْرِي مجري الْقسم،
فَيَقُول: أَحْلف لَأَفْعَلَنَّ، فَلَو قَالَ: أَحْلف وَالله، لجَاز
أَن يتَوَهَّم أَنه يمينان، فَلذَلِك لم يسْتَعْمل، وَأما إِذا قلت:
أَحْلف بِاللَّه، لم يتَوَهَّم فِي ذَلِك إِلَّا يَمِين وَاحِدَة،
لِأَن من شَأْن الْبَاء أَن يلصق مَا بعْدهَا بِحكم مَا قبلهَا، وَلَا
يَصح الِابْتِدَاء بهَا.
فَإِن قيل: أَيْضا قَالُوا: وَلَا يبتدأ بهَا؟
قيل لَهُ: لَو كَانَت الْوَاو غير مبدلة من الْبَاء، لَصَارَتْ فِي
الْقسم قَائِمَة بِنَفسِهَا، لِأَنَّهَا لَيست من الْحُرُوف الَّتِي
تكون موصلة الْأَفْعَال إِلَى مَا بعْدهَا، كحروف الْجَرّ، فَلهَذَا
وَجب أَن يَقع اللّبْس بِالْوَاو، وَلَا يَقع مثله فِي الْبَاء.
وَهَذَا الْفَصْل الَّذِي ذَكرْنَاهُ يجوز أَن يَجْعَل دلَالَة على أَن
الْبَاء هِيَ الأَصْل للواو.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم لَا يجوز: أَحْلف وَالله، إِذا ثَبت أَن
الْوَاو بدل من الْبَاء،
(1/211)
وَقد علم أَنَّهَا إِذا اتَّصَلت
بِالْفِعْلِ الَّذِي قبلهَا أَنَّهَا لَيست بمبتدأة؟
قيل: إِنَّمَا ذكرنَا ذَلِك على الْوَجْه الَّذِي قدرناها فِيهِ
أَنَّهَا أصل فِي نَفسهَا، فَأَما الَّذِي منع من اسْتِعْمَالهَا مَعَ
الْفِعْل على هَذَا الْوَجْه أَيْضا فلأجل أَنَّهَا فرع، فكرهوا أَن
يستعملوها مَعَ إِظْهَار الْفِعْل، فَيصير بِمَنْزِلَة الأَصْل، وَلَا
يكون على إبدالها دَلِيل، فأسقطوها مَعَ إِظْهَار الْفِعْل، ليدلوا على
أَنَّهَا فرع.
فَإِن قيل: فَلم صَار إبدالها مَعَ حذف الْفِعْل أولى من إبدالها مَعَ
إظهارها؟
قيل لَهُ: يجوز أَن يَكُونُوا خصوا الْبَدَل عِنْد إِضْمَار الْفِعْل،
لِأَن حُرُوف الْجَرّ لَا يبْدَأ بهَا، وَقد تقع الْوَاو فِي
الِابْتِدَاء فِي بعض الْمَوَاضِع، كَقَوْلِك: ضربت زيدا وَأَبوهُ
قَائِم، فَهَذِهِ الْوَاو تسمى وَاو الْحَال، وَمَا بعْدهَا مُبْتَدأ،
فَلَمَّا كَانَت الْوَاو تقع للمبتدإ حسن إبدالها عِنْد حذف الْفِعْل
لما ذَكرْنَاهُ.
وَدلَالَة أُخْرَى فِي أصل الْمَسْأَلَة، وَهُوَ مَأْخُوذ من
اسْتِبْرَاء كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ أَنا وجدنَا الْعَرَب تسْتَعْمل
الِاسْم الْمُضمر والمظهر بعد الْبَاء، كَقَوْلِك: بِاللَّه، وَبِه،
وَلَا يسْتَعْمل الْمُضمر بعد الْوَاو، فلولا أَن الْوَاو فرع لما منعت
مَا يسْتَعْمل فِي غَيرهَا، فَلَمَّا منعت ذَلِك دلّ على أَنَّهَا فرع.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَي وَجه جَازَ أَن تبدل الْوَاو من الْبَاء
دون غَيرهَا؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك أَن الْوَاو من مخرج الْبَاء، وَهِي مَعَ ذَلِك
كَثِيرَة الدّور فِي الْكَلَام، وتزاد فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، فلقربها
من الْبَاء، وَمَا فِيهَا مِمَّا ذَكرنَاهَا،
(1/212)
كَانَت أولى من غَيرهَا.
فَإِن قَالَ: أَلَيْسَ عنْدكُمْ أَنه لَا يجوز حذف الْفِعْل إِذا كَانَ
يتَعَدَّى بِحرف جر، فَكيف جَازَ فِي الْقسم أَن تَقول: بِاللَّه،
وَأَنت تقدر فعلا يتَعَدَّى بِالْبَاء، وَلَا يجوز أَن تَقول: بزيد،
وَأَنت تُرِيدُ: مَرَرْت بزيد؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا سَاغَ ذَلِك فِي الْقسم لِأَنَّهُ كثير الدّور فِي
كَلَامهم، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُ يحْتَاج إِلَى جَوَاب، فَصَارَ
افتقاره إِلَى الْجَواب كالعوض من حذف الْفِعْل مَعَ كَثْرَة
الِاسْتِعْمَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل الْوَاو الَّتِي هِيَ بدل من الْبَاء فِي
الْقسم تجْرِي مجْرى الْوَاو الَّتِي هِيَ عوض من (رب) ، هِيَ وَاو
الْعَطف، فالخفض بعْدهَا بإضمار (رب) ؟
قيل لَهُ أما الْوَاو فِي الْقسم فَهِيَ بدل من الْبَاء، والخفض يَقع
بِالْوَاو دون الْبَاء، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنه يحسن أَن تدخل على
وَاو الْعَطف، كم تدخل على الْبَاء، فَتَقول: وَوَاللَّه
لَأَفْعَلَنَّ، كَمَا تَقول: وَبِاللَّهِ، فَدلَّ على أَنَّهَا
بِمَنْزِلَة الْبَاء.
فَأَما الْوَاو الَّتِي هِيَ عوض من (رب) فَلَا يصلح دُخُول وَاو
الْعَطف عَلَيْهَا، فَدلَّ ذَلِك على أَنَّهَا وَاو الْعَطف،
وَإِنَّمَا عوض وَلَيْسَت بِبَدَل.
وَأما (التَّاء) فَهِيَ بدل من الْوَاو، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن
الْحَرْف لَا يجوز أَن يُبدل من الْحُرُوف، إِلَّا أَن تكون بَينهمَا
مُنَاسبَة، وَلَا مُنَاسبَة بَينهَا وَبَين الْبَاء، لِأَنَّهَا لَيست
من مخرحها، وَلَا قريبَة مِنْهَا، فَلَا يَشْتَرِكَانِ فِي شَيْء، فَلم
تجْعَل بَدَلا مِنْهَا.
(1/213)
وَأما الْوَاو فَهِيَ تشابه التَّاء،
لِأَنَّهَا من حُرُوف الزَّوَائِد وَالْبدل، وَالتَّاء أقرب حُرُوف
الْبَدَل إِلَى الْوَاو، فَلهَذَا كَانَت بَدَلا من الْوَاو دون
الْبَاء، وَكَانَت أولى من سَائِر الْحُرُوف أَيْضا، وَالَّذِي يدل على
أَنَّهَا لَيست بِأَصْل مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْوَاو، وَإِنَّمَا خصت
باسم وَاحِد، لِأَنَّهَا لَو اسْتعْملت فِي اسْمَيْنِ لم يكن بَينهمَا
وَبَين مَا عداهما حرف، فَوَجَبَ أَن يلْزم اسْما وَاحِدًا، ليدل بذلك
على أَنَّهَا بدل من بدل، وَأَنَّهَا أَضْعَف حكما من الْوَاو، وَمَعَ
هَذَا فالتاء أنقص حكما مِنْهَا، لِأَنَّهَا تدخل على اسْم الله
تَعَالَى فَقَط، فَدلَّ على أَنَّهَا لَيست بِأَصْل، وَقد بَينا فِي
الشَّرْح لم صَار اختصاصها باسم الله تَعَالَى أولى من سَائِر
الْأَسْمَاء، وَلم منعت الدُّخُول على غَيره، بِمَا يُغني عَن
إِعَادَته.
وَأما (أَيمن الله) فاشتقاقها من أحد أَمريْن:
إِمَّا أَن يكون من الْيمن، لِأَن الْعَرَب قد تخْتَلف بِلَفْظ
الْيَمين، فَتَقول: يَمِين الله لَأَفْعَلَنَّ، ثمَّ غير إِلَى لفظ
(ايمن) وَقد بَينا حكمه أَيْضا.
فَإِن قيل: فَكيف جَازَ أَن يُقَال: ايم الله لَأَفْعَلَنَّ، فَتدخل
ألف الْوَصْل على الْمِيم وَهِي متحركة؟
قيل: فِي ذَلِك جوابان:
أَحدهمَا: أَن الأَصْل فِي الْكَلِمَة (ايمن الله) فالألف دَاخِلَة على
الْيَاء وَهِي سَاكِنة، فَلَمَّا حذفت وَلم يكن حذفهَا لَازِما بَقِي
حكمهَا، وَلم تحذف ألف الْوَصْل
(1/214)
لتحرك مَا بعْدهَا، إِذْ لم يكن لَازِما.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن حَرَكَة الْمِيم حَرَكَة الْعرض، تسْقط فِي
الأَصْل، فَلم تصر الْحَرَكَة لَازِمَة، فَلذَلِك بقيت ألف الْوَصْل،
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعَرَب تَقول فِي (الْأَحْمَر) إِذا حذفوا
همزَة أَحْمَر: (الاحمر) ، فَلَا يحذفون الْألف، لِأَن حَرَكَة اللَّام
لَيست بلازمة، وَبَعْضهمْ يَقُول (لحمر) فيحذف ألف الْوَصْل لتحرك مَا
قبلهَا، وَلم يجز ذَلِك فِي (ايمن الله) عوضا مِمَّا حذف.
وَأما قَوْلهم: (هَا) ، فِي قَوْلك: (لَاها الله) ، فَهِيَ بدل من
الْبَاء، وَلَيْسَ طَرِيق بدلهَا من الْبَاء كطريق بدل الْوَاو
مِنْهَا، وَلَكِن (هَا) الَّتِي للتّنْبِيه تضارع الْبَاء من جِهَة أَن
(هَا) يتَوَصَّل بهَا فِي التَّنْبِيه إِلَى المنبه، وَالْبَاء موصلة
أَيْضا بالإلصاق، فَلَمَّا تضارعا من هَذَا الْوَجْه أبدلت مِنْهَا،
فاعرفه.
(1/215)
(7 - بَاب الْحُرُوف الَّتِي ترفع
الْأَسْمَاء والنعوت وَالْأَخْبَار)
اعْلَم أَنا ذكرنَا تَفْسِير هَذَا الْبَاب فِي الشَّرْح، وتسامح
الْجرْمِي فِيهِ، ولكننا نذْكر هَاهُنَا مَا فَاتَ مِنْهَا وَعذر أبي
عمر الْجرْمِي، فَأَما جَوَاز إِطْلَاقه على مَا ذكر فِي الْبَاب من
تَسْمِيَة ذَلِك بالحروف، فَلِأَن الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة فِي هَذَا
الْبَاب مَبْنِيَّة لمضارعتها الْحُرُوف، فَجَاز أَن يسميها باسم مَا
ضارعته.
وَأما جَوَاز قَوْله: لِأَنَّهَا ترفع، فَإِنَّهُ لما رأى أَن
الْأَسْمَاء أَكثر مَا تسْتَعْمل مُبتَدأَة بعد هَذِه الْحُرُوف نسب
الرّفْع إِلَيْهَا للمجاورة، فَهَذَا تَخْرِيج قَوْله، فاعرفه.
وَاعْلَم أَن الْحُرُوف تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام:
قسم يخْتَص بِالِاسْمِ.
وَقسم يخْتَص بِالْفِعْلِ.
وَقسم يدْخل عَلَيْهِمَا.
فَأَما مَا يخْتَص بِالِاسْمِ وَلَا يكون كجزء مِنْهُ، وَلَا بُد
أَيْضا من عمله أَن يعْمل فِيهِ، فنحو: إِن وَأَخَوَاتهَا، وحروف
الْجَرّ، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَأما مَا يخْتَص بِالْفِعْلِ وَلَا يكون كجزء مِنْهُ، وَلَا بُد
أَيْضا من عمله فِيهِ، فنحو: (أَن وَلنْ) وَمَا أشبه ذَلِك.
وَأما مَا يدْخل عَلَيْهِمَا وَلَا يعْمل شَيْئا، فنحو: حُرُوف
الِاسْتِفْهَام،
(1/216)
وحروف الْعَطف وَمَا أشبههَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فالألف وَاللَّام يخْتَص بِالِاسْمِ وَلَا يعْمل
فِيهِ، وَكَذَلِكَ (السِّين وسوف) قد يخْتَص بِالْفِعْلِ وَلَا يعْمل
فِيهِ؟
قيل لَهُ: قد أخبرنَا فِي الأَصْل بِأَن قُلْنَا: إِن الْعَامِل من
الْحُرُوف مَا لزم الِاسْم وَالْفِعْل، وَلم يكن كجزء مِنْهُ، أَلا ترى
أَنَّهَا تحدث فِي الِاسْم النكرَة تعريفا، والتعريف قد يَصح فِي
النكرات لمواطآت المخاطبين، فَدلَّ أَنه لَيْسَ لَهَا زِيَادَة حكم
الِاسْم، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تدخل لتعيينه، وَكَذَلِكَ (السِّين وسوف)
تعين الْأَفْعَال الَّتِي كَانَ مِنْهَا تحْتَمل الْحَال والاستقبال،
وَإِنَّمَا عينت بهما ذَات الْفِعْل الَّذِي كَانَ يَصح أَن يفهم
تَخْصِيصه بِغَيْرِهِمَا.
وَكَذَلِكَ (قد) إِنَّمَا هِيَ لتوقع ذَات الْفِعْل، فَلم تدل على
أَكثر مَا تحتمله نفس الْفِعْل، فجرت مجْرى بعض حُرُوفه، فَلهَذَا لم
تعْمل شَيْئا، وَفَارَقت سَائِر العوامل.
وَإِنَّمَا وَجب أَن يكون مَا دخل على الِاسْم مرّة، وعَلى الْفِعْل
مرّة لَا يعْمل شَيْئا، لِأَن الْأَفْعَال نوع مُخَالف لنَوْع
الْأَسْمَاء، فَيجب أَن يكون عاملها مُخْتَلفا، فَإِذا اتّفق دُخُول
الْحَرْف عَلَيْهَا، وَلم يخْتَص أَحدهمَا دون الآخر لم يجز أَن يعْمل
فِيهَا، لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي أَن يصير مَا يعْمل فِيهَا شَيْئا
وَاحِدًا، وَقد بَينا أَن اخْتِلَاف نوعيهما يُوجب اخْتِلَاف عواملهما،
فَلهَذَا لم يعْمل هَذَا النَّوْع من الْحُرُوف.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم شَرط فِي (هَل) أَن يكون بعْدهَا اسمان؟
(1/217)
قيل لَهُ: لِأَن اصل حُرُوف الِاسْتِفْهَام
أَن يَليهَا الْفِعْل، وقبيح أَن تَلِيهَا الْأَسْمَاء إِذا كَانَ
بعْدهَا سوى ألف الِاسْتِفْهَام نَحْو قَوْلك: زيد قَائِم، فَلهَذَا
شرطنا مَا ذَكرْنَاهُ. وسنفسر أَحْكَام الِاسْتِفْهَام فِي بَابه إِن
شَاءَ الله.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم صَارَت (لَيْت) إِذا دَخَلتهَا (مَا) أَكثر فِي
الْعَمَل من أخواتها؟
قيل لَهُ: إِن (لَيْت) استعملتها بعض الْعَرَب بِمَنْزِلَة وددت،
فعداها إِلَى مفعولين، وأجراها مجْرى الْأَفْعَال كَقَوْلِك: ليتما
زيدا شاخصا، فبدخول هَذَا الْمَعْنى فِيهَا صَارَت أقوى من أخواتها.
وَاعْلَم أَن سِيبَوَيْهٍ لم يجز فِي (إِن وَلَكِن) الْعَمَل إِذا
دخلتهما (مَا) ، وَأَجَازَ ذَلِك أَبُو بكر بن السراج فِي (كتاب
الْأُصُول) وأظن ذَلِك
(1/218)
سَهوا مِنْهُ على مَذْهَب أَصْحَابنَا.
وَالْوَجْه فِي إِبْطَالهَا ومخالفتها لأخواتها: أَن (إِن وَلَكِن)
لَهما معَان فِي أَنفسهمَا أَكثر من الْإِيجَاب الَّذِي يسْتَحقّهُ
الْمُبْتَدَأ، وَإِنَّمَا يدخلَانِ لتوكيد الْإِيجَاب. وَكَانَ
حَقّهمَا أَلا يعملا شَيْئا وَلَكِن شبها بِالْفِعْلِ من جِهَة
لَفْظهمَا دون مَعْنَاهُمَا، فَصَارَ عملهما ضَعِيفا، فَإِذا أدخلت
عَلَيْهِمَا (مَا) حَالَتْ بَينهمَا وَبَين مَا يعملان فِيهِ فضعفا عَن
الْعَمَل، وَأما أخواتها فَفِيهَا مَعَاني الْأَفْعَال، نَحْو:
التَّشْبِيه والترجي وَالتَّمَنِّي، وتزيل أَيْضا معنى الِابْتِدَاء
فَقَوِيت، فَجَاز أَن تعْمل مَعَ وجود الْحَائِل بَينهَا وَبَين مَا
تعْمل فِيهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار عمل هَذِه الْحُرُوف - إِذا دخلت
بَينهَا وَبَين مَا تعْمل فِيهِ - أَضْعَف من حُرُوف الْجَرّ إِذا دخلت
بَينهَا وَبَين مَا تعْمل فِيهِ؟
قيل لَهُ: إِن حُرُوف الْجَرّ تعْمل على أَنَّهَا أصل فِي الْعَمَل،
وَلَيْسَت مشبهة بغَيْرهَا. فَأَما هَذِه الْحُرُوف فَإِنَّهَا تعْمل
تَشْبِيها بِالْفِعْلِ، فَمَا هُوَ أصل فِي نَفسه أقوى مِمَّا هُوَ
مشبه بِغَيْرِهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَارَت (مَا) بِالزِّيَادَةِ أولى من سَائِر
الْحُرُوف؟
قيل لَهُ: لِأَنَّهَا تصرف على جِهَات كَثِيرَة، وَلَيْسَ مَعَ هَذَا
لَهَا معنى فِي نَفسهَا إِذا كَانَت زَائِدَة، فَحسن إلغاؤها من بَين
سَائِر الْحُرُوف، لِكَثْرَة تصرفها وَزَوَال مَعْنَاهَا، وَقد يُمكن
أَن تجْعَل (مَا) فِي قَوْله تَعَالَى: {فبمَا نقضهم ميثاقهم} غير
زَائِدَة، وَتَكون اسْما بِنَفسِهَا مُبْهما، ونقضهم: بدل مِنْهَا.
(1/219)
فعلى هَذَا الْوَجْه لَا تكون قد فصلت بَين
الْبَاء وَمَا تعْمل فِيهِ، فَإِذا صَحَّ هَذَا الْوَجْه لم يلْزم
الِانْفِصَال الأول بَين (لَيْت) وَأَخَوَاتهَا، وَبَين حُرُوف
الْجَرّ، وَإِن كَانَت أصلا فِي الْعَمَل، فَهِيَ وَمَا تعْمل فِيهِ
كالشيء الْوَاحِد، وَلَا يجوز تَقْدِيم مَا تعْمل فِيهِ، وَلَا
تَأْخِيره، فضعف الْفَصْل بَينهَا وَبَين مَا تعْمل فِيهِ، كَمَا ضعف
التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير.
وَأما حُرُوف النصب وَإِن كَانَت مشبهة بالأفعال، فَيجوز أَن يتَأَخَّر
مَا تعْمل فِيهِ عَنْهَا، كَقَوْلِك: لَيْت فِي الدَّار زيدا، فَلهَذَا
لم يقبح وَلم يضر الْفَصْل فِيهَا، كَمَا لم يقبح التَّأْخِير فِيهَا.
وَاعْلَم أَن بعض النَّحْوِيين يعْتَقد أَن (مَا) فِي قَوْلك: إِنَّمَا
زيد قَائِم، وَمَا أشبههَا من أخواتها اسْم، وموضعه نصب، وَالْجُمْلَة
الَّتِي بعْدهَا فِي مَوضِع الْخَبَر، وَشبه ذَلِك بِالْهَاءِ الَّتِي
هِيَ ضمير الْأَمر والشأن، نَحْو قَوْلك: إِنَّه زيد قَائِم.
وَقَول هَذَا الرجل بَاطِل من جِهَات:
[أَحدهَا] : أَنه لَو كَانَت فِي هَذَا الْموضع اسْما وَمَا بعْدهَا
خبر، لوَجَبَ أَن يرجع من الْجُمْلَة ذكر إِلَى (مَا) ، فَلَمَّا لم
يرجع إِلَيْهَا ضمير، علمنَا أَنَّهَا زَائِدَة، وَلَيْسَت باسم.
وَوجه آخر: أَن ضمير الْأَمر والشأن لَا يضمر إِلَّا بعد تقدم الذّكر،
وَتصير الْجُمْلَة الَّتِي بعْدهَا مفسرة لَهُ. إِن هَذَا الضَّمِير
إِنَّمَا يعْتَمد على الذّكر الَّذِي قد جرى، فَلهَذَا احتاجوا إِلَى
تَفْسِير، وَلَيْسَ كضمير يخْتَص اسْما بِعَيْنِه.
(1/220)
وقولك: إِنَّمَا زيد قَائِم، لَا يَصح
الْكَلَام بِهِ من غير تقدمة خبر بِوَجْه من الْوُجُوه، على أَن (مَا)
نصب ب (إِن) . فَعلم بذلك أَن (مَا) لَا تشبه ضمير الْأَمر والشأن،
لِأَنَّهُ لَا يضمر إِلَّا بعد تقدمة الذّكر، وَتصير الْجُمْلَة
الَّتِي بعده مفسرة لَهُ.
(18 / ب) وَوجه ثَالِث: أَن (مَا) إِذا أدخلت على (إِن) غيرت
مَعْنَاهَا، ويدخلها معنى التقليل، كَقَوْلِك: إِنَّمَا زيد قَائِم،
وَهَذَا أَن (مَا) تسْتَعْمل إِذا ذكرت لزيد أَحْوَال، فتخص أَنْت
بَعْضهَا، وتقصد بذلك إِلَى بعض أَحْوَاله، فَلَمَّا كَانَت (مَا) إِذا
دخلت على (إِن) تزيل مَعْنَاهَا، علمنَا أَنَّهَا لَيست باسم، لِأَن
شَرط الِاسْم أَن يُغير معنى عمله عَن مَعْنَاهُ.
فَهَذَا الْوَجْه يُقَوي مَا ذَكرْنَاهُ عَن سِيبَوَيْهٍ فِي إبِْطَال
عمل (مَا) ، ويضعف قَول ابْن السراج.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد حصل فِي هَذَا الْبَاب أَسمَاء مَبْنِيَّة
نَحْو: (مَتى وَكَيف وَحَيْثُ) وَمَا أشبههَا، وَهِي أبنية مُخْتَلفَة
الْبناء، فَمَا الْوَجْه فِي بنائها واختلافها؟
فَالْوَجْه فِي ذَلِك: أَنا قد بَينا أَن أصل الْأَسْمَاء الْإِعْرَاب،
وَإِنَّمَا الْبناء مِنْهَا فِيمَا أشبه الْحَرْف.
فَأَما (مَتى) : فَالَّذِي أوجب لَهَا الْبناء أَنَّهَا نائبة عَن حرف
الِاسْتِفْهَام فِي الِاسْتِفْهَام، وَعَن حرف الْجَزَاء فِي
الْجَزَاء، وَذَلِكَ قَول الْقَائِل: مَتى تخرج؟ هُوَ نَائِب عَن
قَوْلك: أتخرج يَوْم الْخَمِيس أَو يَوْم السبت؟ وَنَحْو ذَلِك،
فَلَمَّا تَضَمَّنت [معنى] حرف الِاسْتِفْهَام وَالْجَزَاء، والحروف
مَبْنِيَّة، وَجب أَن يبْنى
(1/221)
مَا قَامَ مقَامه، وناب مَنَابه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج إِلَى إِقَامَة (مَتى) مقَام
حرف الِاسْتِفْهَام، وهلا استغني بِحرف عَنْهَا؟
قيل لَهُ: فِي اسْتِعْمَال ذَلِك حِكْمَة عَظِيمَة واختصار، وَذَلِكَ
أَن الْقَائِل لَو قَالَ: أتخرج يَوْم السبت؟ لجَاز أَلا يُرِيد
الْمُخَاطب الْخُرُوج إِلَّا فِي الْيَوْم الثَّانِي، فَيَقُول: لَا،
فَيلْزم السَّائِل تَكْرِير السُّؤَال مرَارًا كَثِيرَة.
ووجدوا (مَتى) تستثقل على الْأَوْقَات، فأقاموها مقَامهَا، ليلزموا
المسؤول الْإِجَابَة بِوَقْت خُرُوجه، وينحذف هَذَا التَّطْوِيل،
فَلهَذَا دخلت (مَتى) فِي الِاسْتِفْهَام.
وَكَذَلِكَ حكمهَا فِي الْجَزَاء، إِذا قلت: مَتى تخرج أخرج، فَهَذَا
اللَّفْظ يُوجب التَّعْيِين عَن خُرُوجك للَّذي تخاطبه.
فَإِن قلت: إِن تخرج يَوْم السبت أخرج مَعَك، فقد يجوز أَن تخرج فِي
غَيره من الْأَيَّام، وَلَا يجب عَلَيْك الْخُرُوج، فَلَمَّا صَارَت
(مَتى) فِيهَا عُمُوم للأوقات اسْتعْملت فِي الْجَزَاء، وتضمنت معنى
حُرُوف الشَّرْط، فَلهَذَا بنيت، وَالله أعلم.
وَاعْلَم أَن المبنيات على قسمَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن يبْنى الِاسْم على حَرَكَة.
وَالْآخر: أَن يبْنى على السّكُون.
فَالَّذِي يسْتَحق أَن يبْنى على حَرَكَة: كل اسْم كَانَ معربا قبل
اسْتِحْقَاق الْبناء،
(1/222)
نَحْو: قبل وَبعد، أَلا ترى أَنَّهُمَا
كَانَا ينصبان ويخفضان قبل حَال الْبناء، نَحْو: جِئْت قبلك وبعدك.
وَالَّذِي يسْتَحق أَن يبْنى على السّكُون: كل اسْم لم تكن لَهُ حَال
إِعْرَاب، وَلم يَقع إِلَّا مُسْتَحقّا للْبِنَاء، وَإِنَّمَا وَجب
ذَلِك، لِأَن مَا كَانَ لَهُ حَال تمكن أقوى فِي اللَّفْظ مِمَّا لَا
تمكن لَهُ، والتمكين يسْتَحق الْإِعْرَاب، فَيجب أَن يكون مَا قرب
(الِاسْم) مِنْهُ أقوى فِي اللَّفْظ مِمَّا بعد مِنْهُ، وَالْحَرَكَة
أقوى من السّكُون، فَلهَذَا وَجب مَا ذَكرْنَاهُ.
وَأما (مَا) : فبنيت على السّكُون لِأَنَّهَا لم تقع متضمنة [لِمَعْنى]
الْحَرْف الَّذِي يُوجب لَهُ الْبناء، فَلهَذَا لم يزدْ على السّكُون.
وَأما (أَيْن) : فسؤال عَن الْمَكَان، بِمَنْزِلَة (مَتى) فِي
السُّؤَال عَن الزَّمَان، وَهِي متضمنة لحرف الِاسْتِفْهَام
وَالْجَزَاء على مَا شرحنا فِي (مَتى) ، فاستحقت الْبناء لِأَنَّهَا لم
تقع إِلَّا متضمنة [لِمَعْنى] الْحَرْف، وَجب أَن تبنى على السّكُون،
إِلَّا أَنه التقى فِي آخرهَا ساكنان، وَهِي الْيَاء (19 / أ)
وَالنُّون، وَلَا يجوز الْجمع بَينهمَا، فحركت النُّون بِالْفَتْح،
فَكَانَ الْفَتْح أولى، وَإِن كَانَ الْكسر الأَصْل، لِأَن الْكسر بعد
الْيَاء مستثقل، فَسقط لاستثقاله، وَالضَّم أثقل مِنْهُ، فَلم يبْق
إِلَّا الْفَتْح، وَهُوَ مَعَ ذَلِك أخف الحركات، وَلم يجز تَحْرِيك
الْيَاء، لِأَنَّهَا لَو حركت انقلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا،
وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجمع بَين ساكنين، لِأَن الْألف
(1/223)
لَا تكون إِلَّا سَاكِنة، فَلَمَّا كَانَ
تَحْرِيك الْيَاء لَا يسلم لَهَا سقط حكمه، وَوَجَب تَحْرِيك مَا
ذَكرْنَاهُ.
وَأما (كَيفَ) : فسؤال عَن حَال، وَهُوَ يَنُوب عَن حرف
الِاسْتِفْهَام، ويتضمن معنى حرف الشَّرْط، وَإِن لم تجزم ك (مَتى
وَأَيْنَ) لعِلَّة سنذكرها.
فَلَمَّا تضمن معنى الْحَرْف، وَجب أَن يبْنى على السّكُون ك (أَيْن) ،
وَعلة تحريكه كعلة (أَيْن) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَارَت (مَتى وَأَيْنَ) تدخل عَلَيْهِمَا
حُرُوف الْجَرّ وَلَا تدخل على (كَيفَ) ، وَقد تشاركت فِيمَا ذكرْتُمْ؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (كَيفَ) هِيَ الِاسْم الَّذِي بعْدهَا،
وَذَلِكَ أَن قَول الْقَائِل: كَيفَ زيد؟ مَعْنَاهُ: أصحيح زيد؟
مَعْنَاهُ: أصحيح زيد أم سقيم؟ وَالصَّحِيح والسقيم هُوَ زيد، فَلَمَّا
كَانَ دُخُول حرف الْجَرّ على مَا نابت عَنهُ (كَيفَ) لَا يجوز،
فَكَذَلِك لَا يجوز دُخُول حرف الْجَرّ على (كَيفَ) . أَلا ترى أَنَّك
لَا تَقول: أَمن صَحِيح زيد، وَكَذَلِكَ لَا تَقول: من كَيفَ زيد.
فَأَما (أَيْن وَمَتى) : فَإِنَّهُمَا نائبان عَن قَوْلك: أَفِي
الدَّار زيد؟ وَفِي أَي وَقت يخرج زيد؟ فَلَمَّا نابتا عَمَّا يدْخل
عَلَيْهِ حرف الْجَرّ، دخل عَلَيْهِمَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار قَوْلك: من صَحِيح زيد، لَا يجوز،
وَجَاز فِيمَا نابت عَنهُ (أَيْن وَمَتى) ؟
قيل لَهُ: لِأَن (كَيفَ) هِيَ الِاسْم الَّذِي بعْدهَا على مَا
ذَكرْنَاهُ. وَكَانَ خبر المبتدإ - إِذا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدَأ - لَا
يحْتَاج إِلَى وَاصل يصل بَينه وَبَين المبتدإ، لم يحْتَج إِلَى حرف.
(1/224)
وَأما (أَيْن وَمَتى) : فهما غير الِاسْم
الَّذِي بعدهمَا، وَلَا بُد لخَبر المبتدإ - إِذا كَانَ غير المبتدإ -
من واصلة توصل بَينه وَبَين المبتدإ، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: زيد
عَمْرو قَائِم، فعمرو قَائِم غير زيد، وَلَيْسَ بَينه وَبَين
الْجُمْلَة علقَة، فَلم يحسن الْكَلَام حَتَّى تَقول: من أَجله، أَو:
فِي دَاره، فَتعلق الْجُمْلَة الَّتِي هِيَ غير زيد بِمَا ذَكرْنَاهُ
من الضَّمِير، لِأَنَّهَا غير الأول. وَكَذَلِكَ لما كَانَتَا (مَتى
وَأَيْنَ) غير الِاسْم الَّذِي بعدهمَا احتاجا إِلَى حرف، فاعلمه.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جَازَ الْجَزْم ب (مَتى وَأَيْنَ) وَلم يجز
الْجَزْم ب (كَيفَ) ، كَقَوْلِك: أَيْن تكن أكن، وَمَتى تقم أقِم، وَلم
يجز: كَيفَ تكن أكن؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وُجُوه:
أَحدهَا: أَن قَول الْقَائِل: كَيفَ تكن أكن، إِنَّمَا شَرط لَهُ، مَتى
كَانَ فِي بعض الْبِقَاع أَن يكون هُوَ أَيْضا فِي تِلْكَ الْبقْعَة،
وَكَذَلِكَ شَرط فِي (مَتى) فِي أَي زمَان قَامَ أَن يقوم هُوَ فِيهِ،
وَهَذَا غير مُتَعَذر.
فَأَما (كَيفَ) : فَهِيَ سُؤال عَن حَال، فَظَاهر الشَّرْط لَو شَرط
بهَا يَقْتَضِي فِي أَي حَال كَانَ الْمُخَاطب أَن يكون السَّائِل هُوَ
المستفهم فِيهَا، وَهَذَا لَا يجوز، لِأَنَّهُ قد يكون الْمُخَاطب
المسؤول عَن أَحْوَال كَثِيرَة، يتَعَذَّر أَن يتَّفق للمجازي أَن يكون
عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ متعذرا ذَلِك عَلَيْهِ سقط الْجَزَاء ب
(كَيفَ) ، وَجَاز فِي (مَتى وَأَيْنَ) .
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ قد أجزتم: كَيفَ تكون أكون، فَظَاهر
هَذَا يَقْتَضِي مَا منعتموه، إِذْ جزتموه؟
فَقيل: الْفرق بَينهمَا أَنا إِذا رفعنَا (19 / ب) الْفِعْل بعد
(كَيفَ) ، فَإنَّا نقدر أَن هَذَا الْكَلَام قد خرج عَن حَال عرفهَا
الْمجَازِي فَانْصَرف اللَّفْظ إِلَيْهَا، فَلهَذَا صَحَّ الْكَلَام.
(1/225)
فَإِن قيل: فَهَلا كَانَ أَيْضا
التَّقْدِير فِي الْجَزْم هَذَا التَّقْدِير، حَتَّى يخرج عَن حَاله؟
قيل لَهُ: الأَصْل فِي الْجَزَاء ب (إِن) ، وَأَنت إِذا قلت: إِن تأتني
آتِك، فوقت الْإِتْيَان غير مَعْلُوم، فَلَمَّا كَانَ أصل الْجَزَاء
أَن يَقع مُبْهما، وَكَذَلِكَ (مَتى وَأَيْنَ) ، قَدرنَا (كَيفَ)
أَنَّهَا وَاقعَة على حَال مَعْلُومَة عِنْد الْمجَازِي، خرجت من
الْإِبْهَام، وباينت حُرُوف الْجَزَاء، فَلهَذَا لم يجز الْجَزْم بهَا
على تَقْدِير حَال مَعْلُومَة.
وَوجه ثَان فِي أصل الْمَسْأَلَة: أَن الْجَزَاء أَصله يَقع بالحروف
إِلَّا أَن يضْطَر إِلَى الْأَسْمَاء، لما ذَكرْنَاهُ من الْفَائِدَة،
فَإِذا لم يضْطَر إِلَى اسْتِعْمَال الْأَسْمَاء، لم يجز أَن يجازى
بالأسماء.
وَوجدنَا (أيا) تنوب عَن معنى (كَيفَ) ، فاستغني بهَا عَن (كَيفَ) .
أَلا ترى أَن الْقَائِل إِذا قَالَ: فِي أَي حَال تكن أكن، فَهُوَ فِي
معنى: كَيفَ تكن أكن، فَلَمَّا كَانَت (أَي) تَتَضَمَّن الْأَحْوَال
وَغَيرهَا، استغني بهَا عَن (كَيفَ) .
وَوجه ثَالِث: أَن الْجَزَاء إِنَّمَا هُوَ ب (إِن) ، وسنبين ذَلِك فِي
بَابه، و (إِن) لم يخْتَص بالمعرفة دون النكرَة، أَلا ترى أَنَّك
تَقول: إِن يقم زيد أقِم، وَإِن يقم رجل من النَّاس أقِم. وَكَانَت
(مَتى وَأَيْنَ) يَصح أَن يَقع جوابهما معرفَة ونكرة، كَقَوْلِك: أَيْن
زيد؟ فَيَقُول: فِي الدَّار، وَإِن شِئْت قلت: فِي دَار، فِي مَوضِع
كَذَا وَكَذَا، وَكَذَلِكَ حكم (مَتى) فِي الْأَوْقَات.
وَأما (كَيفَ) : فَلَا يَقع جوابها إِلَّا نكرَة، فخالفت حُرُوف
الْجَزَاء.
(1/226)
وَأما (حَيْثُ) : فَالَّذِي أوجب لَهَا
الْبناء أَنَّهَا مُبْهمَة لَا تخْتَص بمَكَان دون مَكَان، فَوَجَبَ
أَن تحْتَاج إِلَى مَا يوضحها، كَمَا أَن (الَّذِي) اسْم مُبْهَم
يحْتَاج إِلَى مَا يُوضحهُ، فَمن حَيْثُ وَجب أَن يبْنى (الَّذِي) وَجب
أَن يَبْنِي (حَيْثُ) وَالَّذِي أوجب ل (الَّذِي) أَن يبْنى أَنه اسْم
لَا يتم إِلَّا بِمَا يُوضحهُ، فجري مَا بعده مجْرى بعض اسْم مَبْنِيّ،
فَوَجَبَ أَن يبْنى (الَّذِي وَحَيْثُ) لما فيهمَا من الشّبَه لبَعض
الْأَسْمَاء.
وَكَذَلِكَ حكم (إِذْ) لِأَنَّهَا للزمان كُله، بِوَقْت دون وَقت،
فَاحْتَاجَ إِلَى إِيضَاح.
فَأَما (إِذا) : فَفِيهَا من الْإِبْهَام مَا فِي (إِذْ) ، لِأَنَّهَا
للزمان الْمُسْتَقْبل كُله، وفيهَا مَعَ ذَلِك شبه ب (إِن)) الَّتِي
للجزاء من جِهَة الْمَعْنى، أَلا ترى أَن (إِذا) تحْتَاج إِلَى
الْجَواب كاحتياج (إِن) إِلَى ذَلِك، فَوَجَبَ لما ذَكرْنَاهُ أَن
يبْنى.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا أضفتم (حَيْثُ) إِلَى اسْم مُفْرد، نَحْو
زيد وَعَمْرو، فقلتم: زيد حَيْثُ عَمْرو، كَمَا تضيفون أَسمَاء
الْأَمَاكِن إِلَى اسْم مُفْرد، نَحْو: خلف عَمْرو؟
قيل: قد بَينا أَن (حَيْثُ) مُبْهمَة لَا تخْتَص بِجِهَة دون جِهَة،
كاختصاص غَيرهَا من أَسمَاء الْأَمَاكِن، والأسماء الدَّالَّة على
الشَّخْص لَا تخص الْجِهَات، وَإِنَّمَا يعرف بِمَا يُضَاف إِلَيْهَا،
فَإِذا قُلْتُمْ: زيد خلف عَمْرو، عرفت هَذِه الْجِهَة
(1/227)
الْمَخْصُوصَة بِعَمْرو، فاختصت بِهِ دون
سَائِر الْأَشْخَاص، فَإِذا قلت: زيد حَيْثُ عَمْرو، تخبر عَنهُ أَنه
فِي مَكَان عَمْرو، وَمَكَان عَمْرو مُبْهَم، يجوز أَن يكون خَلفه
وقدامه، وَفِي جَمِيع أقطاره، فَلم يخرج بِهَذِهِ الْإِضَافَة إِلَى
أَن يخْتَص جِهَة دون جِهَة، فَوَجَبَ بِهَذَا الْمَعْنى أَن يُضَاف
إِلَى جملَة، لِأَن الْجمل تَتَضَمَّن معنى الْفِعْل، فَتَصِير
(حَيْثُ) مُخْتَصَّة بِالْفِعْلِ فتتعين، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت:
رَأَيْتُك حَيْثُ قَامَ زيد، اخْتصّت (حَيْثُ) مَوضِع الْقيام،
فَلَمَّا صَارَت الْجُمْلَة تفِيد فِيهَا تَخْصِيصًا أضيف (20 / أ)
إِلَيْهَا، وَلم تضف إِلَى اسْم مُفْرد، إِذْ كَانَ لَا يخْتَص.
وَإِن شِئْت قلت: إِن (حَيْثُ) لما كَانَت مُبْهمَة فِي الْمَكَان
كإبهام (إِذْ) فِي الزَّمَان، فَمن حَيْثُ جَازَ إِضَافَة (إِذْ) إِلَى
الْجُمْلَة، جَازَ إِضَافَة (حَيْثُ) إِلَيْهَا، لاشْتِرَاكهمَا فِي
الْإِبْهَام.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ الضَّم فِي (حَيْثُ) ، وخالفت (أَيْن
وَكَيف) ، وَقبل آخر كل حرف مِنْهَا يَاء؟
قيل لَهُ: إِن (حَيْثُ) قد أشبهت (قبل وَبعد) من جِهَة، وَهُوَ مَا
بَيناهُ، وَهُوَ أَن أصل (حَيْثُ) أَن تُضَاف إِلَى اسْم مُفْرد كإضافة
أخواتها من الظروف، فَلَمَّا منعت مَا تستحقه من الْإِضَافَة، وأضيفت
إِلَى الْجمل أشبهت (قبل وَبعد) من حَيْثُ حذف مِنْهُمَا الْمُضَاف
إِلَيْهِ، فَمن هَذَا الْوَجْه حرك آخر (حَيْثُ) بِالضَّمِّ، وَإِن
كَانَ الضَّم فِي (حَيْثُ) لالتقاء الساكنين، وَفِي (قبل وَبعد)
لاسْتِحْقَاق ذَلِك. وَمن كسر فِي (حَيْثُ) فعلى أصل مَا يجب من التقاء
الساكنين، وَلم يَجْعَل بِالْيَاءِ.
(1/228)
فَإِن قَالَ قَائِل: مِمَّن حَيْثُ
اسْتحقَّت (قبل وَبعد) الْبناء؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (قبل وَبعد) يضافان إِلَى الْأَسْمَاء،
والمضاف والمضاف إِلَيْهِ كالشيء الْوَاحِد، فَلَمَّا حذف مَا أضيف
إِلَيْهِ ودلا عَلَيْهِ جرى مجْرى بعض الِاسْم، وَبَعض الِاسْم
مَبْنِيّ، فَلهَذَا وَجب أَن يبْنى.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم استحقا أَن يبنيا على حَرَكَة، وَلم يبنيا
على السّكُون ك (أَيْن وَكَيف) ؟
(فَالْجَوَاب فِي ذَلِك) : لما بَينا أَن مَا بني من الْأَسْمَاء، وَله
حَال تمكن يجب أَن يبْنى على حَرَكَة، وَجب أَن يبنيا على حَرَكَة.
فَإِذا قيل: لم كَانَت الْحَرَكَة الضَّم دون الْفَتْح وَالْكَسْر؟
فَفِي ذَلِك جوابان:
أَحدهمَا: أَن (قبل وَبعد) يدخلهما فِي حَال الْإِعْرَاب النصب والجر،
فَلَو بنيا على الْفَتْح وَالْكَسْر، لجَاز أَن يتَوَهَّم أَن حركتهما
حَرَكَة إِعْرَاب، فعدلا إِلَى الضَّم بهما، ليزول هَذَا اللّبْس.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن الضَّم أقوى الحركات، فَلَمَّا كَانَت (قبل
وَبعد) قد حذف مِنْهُمَا الْمُضَاف، حركا بأقوى الحركات، ليَكُون ذَلِك
عوضا من الْمَحْذُوف.
فَأَما (من وَمَا وَالَّذِي) : فَإِنَّمَا وَجب بناؤها، لِأَن
(الَّذِي) لَا يتم إِلَّا بصلَة، فَصَارَت كبعض اسْم.
(1/229)
وَمن وَمَا: إِذا كَانَا استفهاما أَو
جَزَاء فبناؤهما أَيْضا وَاجِب، لتضمنهما معنى حرف الِاسْتِفْهَام
وَمعنى حرف الْجَزَاء، وبنيا على السّكُون لِأَنَّهُمَا لم يكن لَهما
وَلَا ل (الَّذِي) حَال تمكن.
فَأَما (أَي) : فَهِيَ معربة فِي جَمِيع الْوُجُوه، إِلَّا فِي مَوضِع
سنبينه، وَإِنَّمَا اسْتحقَّت الْإِعْرَاب لِأَنَّهَا متضمنة للإضافة،
وَهِي مَعَ هَذَا متمكنة مستعملة فِي مَوضِع الرّفْع وَالنّصب والجر،
فلتمكنها فِي الْإِخْبَار عَنْهَا، وتضمنها للإضافة اسْتحقَّت
الْإِعْرَاب، لِأَن الْإِضَافَة تقوم مقَام التَّنْوِين، وَمَا تلْحقهُ
على هَذَا السَّبِيل الْإِضَافَة، فَلَا بُد من أَن يكون معربا،
فَلهَذَا خَالَفت (من وَمَا وَالَّذِي) .
وَأما الْموضع الَّذِي تبنى فِيهِ (أَي) : فَهُوَ أَن تجريها مجْرى
(الَّذِي) وتصلها باسم مُفْرد، كَقَوْلِك: لَأَضرِبَن أَيهمْ قَائِم،
وَكَانَ الأَصْل: لَأَضرِبَن أَيهمْ هُوَ قَائِم، فَيكون (هُوَ)
الْمُبْتَدَأ، و (قَائِم) الْخَبَر، وَالْجُمْلَة صلَة (أَي) ، كَمَا
تكون صلَة (الَّذِي) ، وَحذف (هُوَ) وَهُوَ قَبِيح، وَإِنَّمَا قبح
لِأَنَّهُ يجوز أَن يَقع موقعه أَخُوهُ وَأَبوهُ، وَمَا أشبه ذَلِك،
فَيَقَع لبس فِي الْكَلَام، وَمَعَ هَذَا فَإِن الْمُبْتَدَأ لَا بُد
مِنْهُ، وَإِنَّمَا يجب الْحَذف للفضلات لما لَا بُد مِنْهُ، إِلَّا
أَن الْعَرَب قَلما تسْتَعْمل حذف المبتدإ مَعَ (الَّذِي) ، وَقد
استعملوا حذفه مَعَ (أَي) . (20 / ب) قَالَ سِيبَوَيْهٍ: لما جَاءَت
(أَي) فِي هَذَا الْموضع الَّذِي ذَكرْنَاهُ مُخَالفَة لما تَجِيء
عَلَيْهِ أخواتها بنيت على الضَّم لمخالفتها أخواتها - أَعنِي:
(1/230)
(الَّذِي وَمن وَمَا) .
وَقَالَ الْخَلِيل، رَحمَه الله: هِيَ معربة فِي هَذَا الْموضع،
وَإِنَّمَا رفعت على الْمَعْنى للحكاية، وَالتَّقْدِير عِنْده:
لَأَضرِبَن الَّذِي يُقَال لَهُ: أَيهمْ قَائِم.
وَقَالَ يُونُس: الْفِعْل ملغى، وَشبهه بِأَفْعَال الْقُلُوب الَّتِي
يجوز إلغاؤها.
وَقَول يُونُس ضَعِيف جدا، لن (ضربت) فعل مُؤثر، ومحال أَن يلغى مَا
لَهُ تَأْثِير.
وَقَول الْخَلِيل أقرب، وَإِن كَانَ فِيهِ بعض الْبعد؛ لِأَن تَقْدِير
الْحِكَايَة إِنَّمَا يسوغ فِيمَا جرى لَهُ ذكر، وَنحن نبتدئ الْكَلَام
بِالْمَسْأَلَة الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَلم يبْق مَا يعْمل عَلَيْهِ
إِلَّا قَول يُونُس، وَقد طعن عَلَيْهِ أَبُو بكر بن السراج، فَإِن
قَالَ: وجدت الْمُفْرد مِمَّا يسْتَحق الْبناء فَإِذا أضيف أعرب،
نَحْو: (قبل وَبعد) فَصَارَت الْإِضَافَة توجب إِعْرَاب الِاسْم،
وَوجدنَا (أيا) إِذا أفردت أعربت، وَهَذَا نقض الْأُصُول، وَهَذَا
الَّذِي حكيناه معنى قَوْله.
قَالَ أَبُو الْحسن: وَالَّذِي قدره أَبُو بكر لَيْسَ بِصَحِيح،
وَذَلِكَ أَن الْإِضَافَة ترد الِاسْم إِلَى حَال الْإِعْرَاب، إِذا
اسْتحق الْبناء فِي حَال الْإِفْرَاد، فَإِذا كَانَ الْمُوجب للْبِنَاء
فِي حَال الْإِضَافَة ذَلِك الشَّيْء، كَانَ حَال الِاسْم مُفردا أَشد
افتقارا إِلَى الْبناء، أَلا ترى أَن (لدن) مَبْنِيَّة، وَهِي مَعَ
هَذَا مُضَافَة؛ لِأَنَّهَا اسْتحقَّت الْبناء فِي حَال إضافتها،
(1/231)
وَإِذا كَانَ ذَلِك على مَا ذَكرْنَاهُ سقط
مَا اعْتمد عَلَيْهِ أَبُو بكر، وَصَحَّ مَا قَالَ سِيبَوَيْهٍ.
وَإِنَّمَا وَجب أَن تعرب (أَي) فِي حَال الْإِفْرَاد؛ لِأَن
الْإِضَافَة تعاقب التَّنْوِين وَهِي متضمنة للإضافة، فَلَمَّا زَالَ
لفظ الْإِضَافَة رَجَعَ التَّنْوِين، وَمَتى حصل التَّنْوِين الَّذِي
هُوَ عَلامَة الِانْصِرَاف فِي الِاسْم، وَجب أَن يعرب.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ الْإِضَافَة تقوم مقَام التَّنْوِين فقد
اسْتَويَا، فَلم صَار فِي حَال الْإِضَافَة أولى من حَال الْإِفْرَاد؟
قيل لَهُ: لِأَنَّهَا إِذا بنيت فِي حَال الْإِضَافَة، فَإِنَّمَا
دَخلهَا نقص وَاحِد بِالْبِنَاءِ، فَيحمل بناؤها فِي هَذِه الْإِضَافَة
لخفة حكمه، فَإِذا أفردت كَرهُوا ان يجمعوا عَلَيْهَا حذف الْمُضَاف
وَالْبناء، فَإِذا تمت بصلتها فَلَا بُد من إعرابها، وَهَذَا يُقَوي
مَا قَالَ سِيبَوَيْهٍ، لِأَن معنى الْحِكَايَة لَا يتَغَيَّر
بِإِظْهَار المبتدإ بعد (أَي) ، فَلَمَّا جدنا الْعَرَب تنصب (أيا)
إِذا تمت بصلتها، وتضمها إِذا حذفت مِنْهَا الْمُبْتَدَأ، علمنَا أَن
الضَّم بناؤها دون مَا سواهُ، وتمامها أَن تَقول: لَأَضرِبَن أَيهمْ
هُوَ قَائِم. وَبَعض الْعَرَب يعربها، وَإِن حذفت مِنْهَا
الْمُبْتَدَأ، وَهِي لُغَة جَيِّدَة، ووجهها: أَن (أيا) قد بَينا
تمكنها واستحقاقها للإعراب، وَسبب الْحَذف بعْدهَا للاستخفاف، وَلَا
يَنْبَغِي أَن يكون مَا حذف للاستخفاف يُؤثر فِي إِزَالَة تمكن
الِاسْم.
فَإِن قيل: فَلم قبح اسْتِعْمَال (الَّذِي) إِذا حذف من صلته
الْمُبْتَدَأ، وَلم يقبح ذَلِك مَعَ (أَي) ؟
قيل: يجوز أَن يكون ذَلِك؛ لِأَن (أيا) لَا تنفك من الْإِضَافَة،
فَيصير
(1/232)
الْمُضَاف إِلَيْهِ كالعوض من حذف المبتدإ،
فَلهَذَا كثر فِي (أَي) الْحَذف من بَين سَائِر أخواتها.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرت فِي الْبَاب أَن (إِذا) لَا بُد أَن يذكر
بعْدهَا فعل، وَقد وجدنَا الْعَرَب تَقول: خرجت فَإِذا زيد قَائِم،
وَقَائِمًا؟
قيل لَهُ: إِن (إِذا) تسْتَعْمل على (21 / أ) ضَرْبَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن تكون للزمان الْمُسْتَقْبل، وَيدخل فِيهَا معنى الشَّرْط
وَالْجَزَاء، فَهَذِهِ الَّتِي لَا بُد أَن يذكر بعْدهَا الْفِعْل.
وَالضَّرْب الثَّانِي: أَن تكون (إِذا) بِمَعْنى المفاجأة، وظاهرها أَن
تكون ظرفا من الْمَكَان، فَهَذِهِ لَا تحْتَاج إِلَى الْفِعْل، إِذْ
لَيْسَ فِيهَا معنى الشَّرْط وَالْجَزَاء، فَإِذا قلت: خرجت فَإِذا زيد
قَائِم، فزيد: رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَإِذا: فِي مَوضِع خَبره، ونصبت
(قَائِما) على الْحَال، وَالْعَامِل فِي الْحَال فعل تَقْدِيره: خرجت
فحضرني زيد فِي حَال قِيَامه، أَو فاجأني زيد، فَتكون (إِذا) فِي
مَوضِع نصب بِهَذَا الْفِعْل.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم لَا تكون ظروف الزَّمَان خَبرا عَن الجثث؟
قيل لَهُ: لِأَن المُرَاد بالْخبر فَائِدَة الْمُخَاطب وإعلامه مَا
يجوز أَن يجهله، فَإِذا قيل: الْقِتَال الْيَوْم، فقد يجوز أَن يَخْلُو
الْيَوْم من الْقِتَال، فَإِذا أخْبرت الْمُخَاطب بِوُقُوعِهِ فِي
الْيَوْم، فقد أخْبرته مَا كَانَ يجوز أَن يجهله، وَإِذا قلت: زيد
الْيَوْم، فَالْمَعْنى: أَن زيدا فِي الْيَوْم، وَنحن نعلم والمخاطب
أَن زيدا لَا يَخْلُو من الْيَوْم حَيا كَانَ أَو مَيتا، وَكَذَلِكَ
سَائِر النَّاس، فَلم يصر فِي الْخَبَر فَائِدَة، وَمَا لَا فَائِدَة
فِيهِ لَا يجوز اسْتِعْمَال الْكَلَام بِهِ، فَلهَذَا لم يجز أَن تكون
ظروف الزَّمَان خَبرا للجثث.
(1/233)
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد يُقَال: الْهلَال
اللَّيْلَة، والهلال جثة، وَاللَّيْلَة ظرف من ظروف الزَّمَان فقد
جَازَ ذَلِك؟
قيل: إِنَّمَا يَقع هَذَا الْكَلَام عِنْد توقع حُدُوث الْهلَال،
فالتقدير: اللَّيْلَة حُدُوث الْهلَال، والحدوث مصدر، فَحذف وأقيم
الْهلَال مقَامه توقيعا واختصارا، وَكَذَلِكَ يجوز أَن تَقول: الْيَوْم
زيد، إِذا كنت تتَوَقَّع قدومه، أَي: الْيَوْم قدوم زيد، وَالدَّلِيل
على أَن المُرَاد مَا ذَكرْنَاهُ أَنه لَا يجوز أَن تَقول: اللَّيْلَة
الْقَمَر، وَلَا: الْيَوْم الشَّمْس، لِأَنَّهُمَا لَا يتوقعان، وَلَا
بُد من طلوعهما.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج أَن تجْعَل الْعَرَب فِي
الْأَسْمَاء أَسمَاء نواقص؟
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون الَّذِي أحْوج إِلَى ذَلِك الْأَسْمَاء
النكرات تنْعَت بالجمل، فجاؤوا باسم يحْتَاج أَن يُوصل بالجمل، وَهُوَ
فِي نَفسه معرفَة بِالْألف وَاللَّام، أَي (الَّذِي) وَالْجُمْلَة
توضحه فتوصلها بِالَّذِي إِلَى أَن صَارَت الْجُمْلَة فِي الْمَعْنى
كالنعت للمعرفة، فَهَذَا الَّذِي أحْوج إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ، وحملت
(من وَمَا وَأي) على (الَّذِي) وَلم يَصح الْوَصْف بهَا؛ لِأَنَّهَا
لَا معنى لَهَا فِي نَفسهَا وَلَا فِيهَا مَا يدل على الْعَهْد كالألف
وَاللَّام فِي (الَّذِي) ، فجرت مجْرى الْأَسْمَاء الْأَعْلَام، وسنبين
أَحْكَام النعوت فِي بَابهَا، وانه لَا يَنْبَغِي أَن ينعَت إِلَّا
بِفعل أَو باسم فِيهِ معنى الْفِعْل، والأسماء الْأَعْلَام خَالِيَة من
ذَلِك، فَلهَذَا لم ينعَت بهَا وَلَا بِمَا جرى مجْراهَا.
(1/234)
(8 - بَاب الْحُرُوف الَّتِي تنصب
الْأَسْمَاء والنعوت وترفع الْأَخْبَار)
فَإِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن تنصب هَذِه الْحُرُوف الِاسْم وترفع
الْخَبَر، هلا رفعت الِاسْم ونصبت الْخَبَر؟ وَبِالْجُمْلَةِ لم وَجب
أَن تعْمل؟
فَالْجَوَاب فِي وجوب عَملهَا: أَنَّهَا حُرُوف تخْتَص بِالِاسْمِ،
وَلَا تدخل على الْفِعْل، وَبَعضهَا يحدث معنى فِي الِاسْم، وأواخرها
كأواخر الْفِعْل الْمَاضِي، فَلَمَّا شاركت الْفِعْل فِي لَفظهَا
ولزومها (21 / ب) الِاسْم، وَجب أَن تعْمل عمله، وَالَّذِي أوجب لَهَا
أَن تعْمل عملين: الرّفْع وَالنّصب، انها عبارَة عَن الْجمل، وَلَيْسَ
لَهَا معنى فِي الْعبارَة عَن الِاسْم الْمُفْرد، فَلَمَّا اقْتَضَت
اسْمَيْنِ، وَجب أَن تعْمل - لما ذَكرْنَاهُ - فيهمَا، وَلَا يَخْلُو
عَملهَا فيهمَا من أحد ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا أَن ترفعهما
جَمِيعًا، أَو تنصبهما جَمِيعًا، أَو ترفع أَحدهمَا وتنصب الآخر، فَم
يجز رفعهما جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا قد جرت مجْرى الْفِعْل فِي الْعَمَل،
وَالْفِعْل لَا يجوز أَن يرفع فاعلين بِغَيْر اشْتِرَاك وَلَا
تَثْنِيَة، فَلَو رفعت الاسمين لخالفت مَا شبهته بِهِ، وَهُوَ
الْفِعْل، وَلم يجز أَن تنصبهما جَمِيعًا؛ لِأَن الْفِعْل الَّذِي شبهت
بِهِ لَا يجوز أَن ينصب بِغَيْر فَاعل يكون مَعَه، فَلَو نصبنا بهَا
الاسمين لَصَارَتْ بِمَنْزِلَة فعل نصب مَفْعُوله بِغَيْر فَاعل،
وَهَذَا لَا يُوجد فِي الأَصْل وَالْفرع، وَأولى أَلا يُوجد فِيهِ،
فَلم يبْق من الْأَقْسَام إِلَّا أَن تعْمل فِي أَحدهمَا رفعا، وَفِي
الآخر نصبا، ليَكُون الْمَرْفُوع كالفاعل وَيكون الْمَنْصُوب كالمفعول،
وَإِنَّمَا وَجب أَن يكون الْمَرْفُوع مُؤَخرا والمنصوب مقدما، وَإِن
كَانَ الأَصْل فِي الْفِعْل أَن يكون فَاعله قبل مَفْعُوله
لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنا لَو رفعنَا الأول ونصبنا الْخَبَر، لجرى الْمَفْعُول
مجْرى الْفَاعِل فَكَانَ
(1/235)
يجوز إضماره، وَلَو أضمرناه لم يخل من أَن
يكون الْمُضمر غَائِبا أَو متكلما أَو مُخَاطبا، وإضمار الْغَائِب
مستتر فِيمَا عمل فِيهِ، كَقَوْلِك: قَامَ زيد، فَلَو قيل لَك: أضمر
زيدا، لَقلت: قَامَ، فَلَو جَازَ أَن ترفع (إِن وَأَخَوَاتهَا) الِاسْم
الَّذِي يَليهَا لوَجَبَ أَن يسْتَتر ضَمِيره فِيهَا، إِذا كَانَ
غَائِبا، وَيظْهر تَاء الْمُتَكَلّم، نَحْو قَوْلك: إنت، لَو تكلم
بِهِ، فلكان ذَلِك يُؤدى إِلَى اللّبْس ب (أَنْت) وَإِلَى إِضْمَار فِي
الْحُرُوف، والحروف لَا يجوز الْإِضْمَار فِيهَا؛ لِأَنَّهَا جوامد لَا
تتصرف، وَإِنَّمَا جَازَ الْإِضْمَار فِي الْأَفْعَال، لِأَن فِي
أوائلها حروفا تدل على الضَّمِير، وَحمل مَا لَا دلَالَة فِيهِ على مَا
فِيهِ الدّلَالَة، لاشتراكها فِي الفعلية. فَهَذَا الَّذِي يجوز فِي
الْأَفْعَال دون الْحُرُوف والأسماء.
فَإِن قَالَ قَائِل: أليست قد شبهت بِالْفِعْلِ وَهِي حرف، وَمَعَ
هَذَا فقد رفعت الِاسْم ونصبت الْخَبَر، فَلم يجب من حَيْثُ رفعت أَن
تضمر فِيهَا مَرْفُوعا، فَهَلا عملت (إِن) الرّفْع فِيمَا يَليهَا؟
قيل: لم يكن على كَونهَا حرفا دلَالَة، إِذْ كَانَ لَفظهَا لفظ
الْفِعْل، وعملها عمله، وَترك التَّصَرُّف فِي الشَّيْء لَا يدل على
أَنه حرف؛ لِأَن من الْأَفْعَال مَا لَا تتصرف، نَحْو: نعم وَبئسَ،
فَلَو رفعت (إِن) الِاسْم لم يعلم أَنا حرف، فَجعل عَملهَا فِيهَا
بعْدهَا مُخَالفا لعمل الْفِعْل، ليدل بذلك على أَنَّهَا حرف،
وَلَوْلَا مَا ذَكرْنَاهُ لَكَانَ حَقّهَا أَن ترفع الِاسْم وتنصب
الْخَبَر، لتجري مجْرى الْفِعْل الَّذِي شبهت بِهِ.
وَأما (مَا) فَلم تشبه الْفِعْل من جِهَة اللَّفْظ، وَإِنَّمَا أشبهته
من جِهَة الْمَعْنى،
(1/236)
فَأعْطيت عمله، لِأَن اللّبْس يرْتَفع،
فَأَما مَا ذَكرْنَاهُ فِي (إِن) من الْإِضْمَار فَلَيْسَ يعرض فِي
(مَا) ، لِأَن الضَّمِير إِذا اتَّصل بِهِ لَا يُوجب لبسا فِي
اللَّفْظ، كَمَا يُوجِبهُ فِي (إِن) ، وَإِنَّمَا لم يلْزم فِي (مَا)
وَلزِمَ فِي (إِن) من الْإِضْمَار فِيهَا لِأَن (إِن) تعْمل فِي جَمِيع
اللُّغَات عمل الْفِعْل، فَكَانَ يجب أَن يَقع الْإِضْمَار فِيهَا
كوقوعه فِي الْفِعْل، وَلم يجز أَن يسْتَتر الضَّمِير فِي (مَا) ،
وَلَا يتَّصل بهَا وَإِن عملت الرّفْع، لِأَنَّهُ قد يبطل عَملهَا فِي
جَمِيع اللُّغَات، إِذا تقدم خَبَرهَا، فَلم يعْتد بهَا وَجَرت مجْرى
مَا لَا يعْمل (22 / أ) من الْحُرُوف، فَلهَذَا لم يجب فِيهَا من الحكم
مَا وَجب فِي (إِن وَأَخَوَاتهَا) وَقد دخل فِي هَذَا الْفِعْل من
عِلّة مُخَالفَة عَملهَا لعمل الْفِعْل فِي نصبها لما يَليهَا ورفعها
للْخَبَر.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ إِذا نصبت الِاسْم وَرفعت الْخَبَر فقد
عملت فِي الْخَبَر، وَقد قلت: إِن مَا تعْمل فِي الِاسْم رفعا يجب أَن
يسْتَتر فِيهَا ضَمِيره، وَهَذَا الشَّرْط غير مَوْجُود فِيهَا وَإِن
رفعت؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الَّذِي منع من استتار ضمير مَا رفعته إِذا
كَانَ مُؤَخرا، أَنه لَا يجوز تَقْدِيمه إِذا كَانَ مظْهرا، فَلَمَّا
كَانَ الظَّاهِر لم يجز تَقْدِيمه إِذا كَانَ مظْهرا، لم يجز أَيْضا
تَقْدِيم ضَمِيره، فَلهَذَا لم يجز أَن يسْتَتر ضمير مَا رفعته إِذا
كَانَ مُؤَخرا، وَيجب استتاره لَو وَقع مقدما، إِذْ لَا مَانع يمْنَع
من ذَلِك.
فَإِن قيل: فَهَلا كَانَ الْمَانِع مِمَّا رفعته (إِن) لَو وَقع
مُتَقَدما هُوَ أَنَّهَا حُرُوف لَا يَصح الْإِضْمَار فِيهَا؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا يجب مَا ذكرته لَو كَانَ لَا طَرِيق إِلَى إعمالها
إِلَّا على هَذَا الْوَجْه، فَأَما إِذا جَازَ أَن تعْمل عمل الْفِعْل
على طَرِيق يشبه عمل الْفِعْل، كَانَ أولى من أَن تعْمل عمله، وَلَا
تجْرِي مجْرَاه.
(1/237)
فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي منع من
التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير؟ قيل لَهُ: ضعفها فِي أَنْفسهَا إِذْ كَانَت
حروفا لَا تتصرف فِي أَنْفسهَا، فَإِنَّمَا عملت بالتشبيه بِهِ فألزمت
وَجها وَاحِدًا.
فَإِن قَالَ: فَلم خصت الظروف وحروف الْجَرّ بِالْفَصْلِ بَينهَا
وَبَين مَا تعْمل فِيهِ؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الظروف وحروف الْجَرّ لَيست مِمَّا تعْمل
فِيهَا (إِن) وَذَلِكَ أَنَّك إِذا قلت: إِن زيدا عنْدك، فعندك:
مَنْصُوب بإضمار فعل تَقْدِيره اسْتَقر عنْدك، فاستقر فِي التَّحْقِيق
هُوَ مَوضِع الْخَبَر، والظروف مفعولة فِيهَا، فَإِذا قدمت فَلم نقدم
شَيْئا قد عملت فِيهِ (إِن) ، وَإِنَّمَا لم يجز تَقْدِيم مَا عملت
فِيهِ (إِن) لِضعْفِهَا فَأَما تَقْدِيم مَا عمل فِيهِ غَيرهَا
فَلَيْسَ بمنكر، إِذا كَانَ ذَلِك الْعَامِل فعلا، وَالْفِعْل يعْمل
فِي مَفْعُوله مقدما ومؤخرا.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ عنْدكُمْ أَنه لَا يجوز: كَانَت زيدا
الْحمى تَأْخُذ، لِأَن (زيدا) مَنْصُوب ب (تَأْخُذ) ، وَتَأْخُذ:
الْخَبَر، كَمَا أَن الظّرْف مَنْصُوب ب (اسْتَقر) ، وَاسْتقر: هُوَ
الْخَبَر، فمنعتم من وُقُوع (زيد) بَين (كَانَ) وَاسْمهَا، لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ، فَلم يجز الْفَصْل بَين (كَانَ) وَاسْمهَا،
إِذا كَانَ الْفِعْل وَالْفَاعِل كالشيء الْوَاحِد، فَهَلا منعتم من
جَوَاز الْفَصْل بَين (إِن) وَاسْمهَا بالظرف، إِذْ قد صَار
كَالْأَجْنَبِيِّ، وَحكم اسْم (إِن) كَحكم اسْم (كَانَ) ، وَإِن كَانَ
أَحدهمَا مَنْصُوبًا وَالْآخر مَرْفُوعا، لاشْتِرَاكهمَا فِي
أَنَّهُمَا كَانَا مبتدأين دخلت عَلَيْهِمَا (إِن وَكَانَ) ؟
(1/238)
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (كَانَ وَإِن)
حكمهمَا وَاحِد فِيمَا سَأَلت عَنهُ، وَنَظِير مَسْأَلَتنَا أَنه يفصل
بَين (كَانَ) وَاسْمهَا بظرف قد عمل فِيهِ الْخَبَر، كَمَا جَوَّزنَا
الْفَصْل بَين (إِن) وَاسْمهَا بظرف قد عمل فِيهِ خَبَرهَا، فَلَو قلت:
كَانَ خَلفك زيد قَائِما، لجَاز، وَلَو قلت: إِن زيدا عمرا ضَارب، لم
يجز فِي (كَانَ) .
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن خَالَفت الظروف لسَائِر الْأَسْمَاء
حَتَّى جَازَ الْفَصْل بهَا؟ فَالْجَوَاب فِي ذَلِك من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الظروف قد تقوم مقَام الْأَخْبَار، نَحْو قَوْلك: إِن
زيدا خَلفك، فَلَمَّا (22 / ب) كفت عَن الْخَبَر وَقَامَت مقَامه لم
يصر كَالْأَجْنَبِيِّ من الِاسْم، وَإِن كَانَت فِي تَقْدِير مفعول
الْخَبَر، فَجَاز الْفَصْل بهَا، لِأَنَّهَا قد صَارَت كالخبر، فَأَما
غَيرهَا من الْأَسْمَاء فَلَا تقوم مقَام الْخَبَر فَصَارَ أَجْنَبِيّا
مَحْضا، فَلم يجز أَن تتخلل بَين شَيْئَيْنِ، أَحدهمَا مَعَ الآخر
كالشيء الْوَاحِد.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الظروف فِيهَا اشْتِمَال على الْجُمْلَة
الَّتِي تتَعَلَّق بهَا، فَقدمت الظروف وأخرت، فقد صَارَت بِهَذَا
الاشتمال على الْجُمْلَة والتعلق بهَا والاحتواء عَلَيْهَا بِمَنْزِلَة
بعض الْجُمْلَة، وَمَا لَيْسَ بأجنبي من الِاسْم وَالْخَبَر، فَجَاز
لَك أَن تفصل بِهِ، فَجَاز الْفَصْل بهَا، وَلم يجز بغَيْرهَا تَقْدِير
هَذَا الْمَعْنى والفصل بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَذَا الْمَعْنى
الَّذِي فِي الظروف.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج إِلَى تَقْدِير فعل مَعَ
الظروف غير الِاسْم الْمُتَقَدّم، نَحْو قَوْلك: إِن زيدا خَلفك،
وَالْخلف غير زيد، وَهُوَ فِي مَوضِع خَبره؟
(1/239)
قيل لَهُ: لَا يجوز أَن يكون ضمير فَاعله،
وَذَلِكَ الضَّمِير يرجع إِلَى الْمخبر عَنهُ، فَبَان بِمَا ذكرنَا أَن
الْخَبَر فِي الْحَقِيقَة (اسْتَقر) ، وَأَنه لابد من تَقْدِيره لما
ذَكرْنَاهُ.
فَأَما الْفِعْل الْمَاضِي والمستقبل إِذا وَقعا فِي خبر (إِن) لم
يتغيرا عَن حَالهمَا؛ لِأَن (إِن) قد بَينا أَنَّهَا من عوامل
الْأَسْمَاء، وعوامل الْأَسْمَاء لَا تعْمل فِي الْأَفْعَال، فَسلمت
الْأَفْعَال من عَامل فِيهَا، فَبَقيَ الْمَاضِي على فَتحه، وارتفع
الْمُسْتَقْبل لوُقُوعه موقع الِاسْم.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَت (إِن) لَا يجوز أَن تعْمل فِي
الْمَاضِي والمستقبل، كَمَا لم تعْمل فِي الظروف، وَقد جوزتم تَقْدِيم
الظروف، فَهَلا جوزتم تَقْدِيم الْفِعْل؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الْفِعْل - وَإِن لم تعْمل فِيهِ (إِن) -
فقد عملت فِي مَوْضِعه رفعا، وَيصير فِي الْمَعْنى كأنا قدمنَا مَا
عملت فِيهِ.
وَأما الظروف فقد بَينا أَن الْعَامِل فِيهَا (اسْتَقر) وَلَيْسَ ل
(إِن) عمل فِيهَا، وَلَا فِي موضعهَا، فَلذَلِك جَازَ تَقْدِيمهَا.
وَكَذَلِكَ حكم الْجُمْلَة إِذا حلت مَحل الْخَبَر لَا يجوز
تَقْدِيمهَا. فَهَذِهِ هِيَ الْعلَّة فِي الْمَنْع من تَقْدِيم
الْفِعْل.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن (إِن) مشبهة بِالْفِعْلِ، فَكَمَا لَا يجوز أَن
يَلِي فعل فعلا، فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يَلِي مَا شبه بِهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ الْعَطف على مَوضِع (إِن وَلَكِن) وَلم
يجز الْعَطف على مَوضِع بَاقِي الْحُرُوف - أَعنِي أخواتها؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (إِن وَلَكِن) لَا يغيران معنى
الِابْتِدَاء، و (كَأَن وليت وَلَعَلَّ) تحدث مَعَاني من التَّشْبِيه
وَالتَّمَنِّي والترجي، فيزول معنى الِابْتِدَاء.
(1/240)
وَجَاز الْعَطف على مَوضِع (إِن وَلَكِن)
لبَقَاء الْمَعْنى مَعَ دخولهما، وَلم يجز فِي (كَأَن) وأختيها لزوَال
الْمَعْنى مَعهَا واستيلاء الْمعَانِي الْمَذْكُورَة قبل هَذَا مَعَ
دُخُولهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: هَل الْعَطف وَقع على مَوضِع (إِن) وَحدهَا، أَو
على مَوضِع (زيد) ، أَو على موضعهما جَمِيعًا؟
قيل لَهُ: بل على موضعهما جَمِيعًا، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن (إِن)
عاملة فِيمَا بعْدهَا غير مُنْفَصِلَة مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهَا فِي
نَفسهَا حكم فَيجوز الْعَطف عَلَيْهَا.
فَأَما زيد فِي نَفسه فَلَا يَصح أَن يُقَال: مَوْضِعه رفع، لأَنا
إِنَّمَا نقُول: مَوضِع الشَّيْء رفع أَو نصب، إِذا لم يبن فِيهِ أثر
الْعَامِل، نَحْو قَوْلك: إِن هَذَا زيد، ف (هَذَا) تَقول: إِن
مَوْضِعه نصب، لِأَن (إِن) لم تُؤثر فِي لفظ (هَذَا) ، وَلَو جَازَ أَن
تَقول: إِن مَوضِع (زيد) رفع (23 / أ) لَأَدَّى ذَلِك إِلَى تنَاقض،
وَذَلِكَ أَنه لَو جَازَ أَن تَقول: مَوضِع (زيد) رفع، لَكنا إِذا
قُلْنَا: إِن هَذَا زيد، يجب أَن تَقول: إِن (هَذَا) مَوْضِعه نصب
وَرفع، لحلوله مَحل (زيد) فِي اللَّفْظ وَالْمعْنَى، فقد بَان بِمَا
ذَكرْنَاهُ أَنه لَا يصلح أَن يكون مَوضِع (إِن) رفعا وَحدهَا، وَلَا
مَوضِع (زيد) ، وَإِنَّمَا استحقا هَذَا الحكم باجتماعهما.
وَقد امْتنع بعض النَّحْوِيين من جَوَاز الْعَطف على مَوضِع (لَكِن) ،
لدُخُول معنى الِاسْتِدْرَاك فِي إبِْطَال حكم الِابْتِدَاء، كدخوله
معنى التَّشْبِيه فِي (كَأَن) وَالتَّمَنِّي فِي (لَيْت) وَهَذَا
الَّذِي قَالَه لَيْسَ بِشَيْء، وَذَلِكَ أَن (لَكِن) يسْتَدرك بهَا
بعد النَّفْي، فَتَصِير الْجُمْلَة المستدركة بِمَنْزِلَة الِابْتِدَاء
وَالْخَبَر، أَلا ترى أَن الْقَائِل إِذا قَالَ: مَا زيد ذَاهِبًا
لَكِن عَمْرو شاخص، فَأدى مَا يَسْتَفِيد لَو قَالَ: عَمْرو شاخص،
فَصَارَ
(1/241)
حكم الِاسْتِدْرَاك لَا تَأْثِير لَهُ فِي
رفع حكم الْمُبْتَدَأ، وَإِذا خففنا (لَكِن) كَانَ رفعا مَا بعْدهَا
بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر، وَحكم الِاسْتِدْرَاك بَاقٍ، فَثَبت بِمَا
ذَكرْنَاهُ أَن دُخُول هَذَا الْمَعْنى فِي (لَكِن) لَا يُؤثر فِي حكم
الْمُبْتَدَأ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم صَار الْعَطف على مَوضِع (إِن) أَجود من
الْعَطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع من غير توكيد؟
قيل: هُوَ ضَعِيف فِي كل مَوضِع، وَإِنَّمَا ضعف لِأَن الْفِعْل
وَالْفَاعِل كالشيء الْوَاحِد، وَرُبمَا يسْتَتر الضَّمِير الْفَاعِل
فِي الْفِعْل، فَلَو عطفنا على الضَّمِير من غير توكيد، لصرنا قد عطفنا
على بعض الْفِعْل، أَو على نفس الْفِعْل، فقبح الْعَطف لهَذَا
الْمَعْنى، فَإِذا أكد الضَّمِير صَار التوكيد عوضا من اتِّصَال
الضَّمِير بِالْفِعْلِ واختلاطه بِهِ، فكأنا قد عطفنا على ظَاهر.
وَأما الْعَطف على مَوضِع (إِن وَلَكِن) فَحسن فِي نَفسه، لِأَنَّهُ
لَا مَانع مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَطف على الْموضع يعرض فِيهِ مَا
ذكرنَا من الْقبْح، وَكَانَ الْعَطف على مَوضِع الضَّمِير الْمَرْفُوع
فِي كل مَوضِع قبيحا من غير توكيد، فَاجْتمع مَعَ شَيْء غير مستقبح،
وَجب أَن يكون الْعَطف على الْموضع أقوى من الْعَطف على الضَّمِير،
لسلامته من الْقبْح، وَحُصُول الْقبْح فِي الْعَطف على الضَّمِير يدل
على صِحَة مَا ذَكرْنَاهُ، أَنه لَا فرق بَين أَن تَقول: جَاءَنِي
هَذَا وَعَمْرو، وَبَين قَوْلنَا: جَاءَنِي زيد وَعَمْرو، وَإِن كَانَ
(زيد) يتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب، و (هَذَا) لَا يتَبَيَّن فِيهِ
الْإِعْرَاب، فَكَذَلِك حكم (إِن) وَمَا بعْدهَا، لَا فرق بَين الْعَطف
على الْموضع وَبَين الْعَطف على الْمُبْتَدَأ لَو تجرد من (إِن) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يجوز أَن تعطف على الْموضع قبل تَمام
الْخَبَر، نَحْو قَوْلك: إِن زيدا وَعَمْرو قائمان؟
(1/242)
قيل لَهُ: لَا، فَإِن قَالَ: فَمَا
الْفَصْل بَين جَوَازه بعد تَمام الْخَبَر وامتناعه قبل الْخَبَر؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن الَّذِي منع من الْمَسْأَلَة الأولى، أَن
شَرط مَا يعْمل فِي الِاسْم أَن يعْمل فِي الْخَبَر، فَإِذا قُلْنَا:
إِن زيدا قَائِم، ف (زيد) : نصب ب (إِن) ، وقائم: رفع ب (إِن) . وَإِذا
قُلْنَا: إِن زيدا وَعَمْرو قائمان، وَجب أَن يرفع (عَمْرو)
بِالِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ عطف على مَوضِع الِابْتِدَاء، وَوَجَب أَن
يعْمل فِي خبر عَمْرو الِابْتِدَاء، وَفِي خبر زيد (إِن) ، وَقد
اجْتمعَا فِي لَفْظَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَوْله: قائمان، فَكَانَ
يُؤَدِّي إِلَى أَن يعْمل فِي اسْم وَاحِد عاملان، وَهَذَا فَسَاد،
فَلهَذَا صحت الْمَسْأَلَة.
وَالْفراء (23 / ب) يُجِيز مثل الْمَسْأَلَة الأولى إِذا كَانَ اسمان،
أَحدهمَا مكني، أَو مُبْهَم لَا يتَبَيَّن فيهمَا الْإِعْرَاب، نَحْو:
إِنَّك وَزيد ذاهبان، وَإِن هَذَا وَعَمْرو منطلقان. وَمَا ذَكرْنَاهُ
من الْحجَّة فِيمَا يتَبَيَّن فِيهِ الْإِعْرَاب، لَا يُغير حكم
الْعَامِل عَن عمله، بل حكمه فِيهَا وَفِيمَا يتَبَيَّن فِيهِ
الْإِعْرَاب سَوَاء. فَإِن قلت: إِن زيدا وَعَمْرو قَائِم، فَأَرَدْت
الْخَبَر، جَازَت الْمَسْأَلَة، والأجود فِي تقديرها أَن يكون
الْمَحْذُوف خبر الِاسْم الثَّانِي، وَإِنَّمَا اخترنا الْوَجْه الأول،
لِأَن الْخَبَر يَلِي الِاسْم الثَّانِي، فَلَا يبْقى علينا من
التَّوَسُّع فِي الْمَسْأَلَة إِلَّا حذف خبر الأول، وَلَو قَدرنَا حذف
الثَّانِي، لأوجب ذَلِك اتساعين فِي الْمَسْأَلَة، وهما حذف الأول
وَالتَّقْدِير فِي الْخَبَر الْمَذْكُور الْمُتَقَدّم، وَقد جَاءَ فِي
الشّعْر كَقَوْل الشَّاعِر:
(1/243)
(فَمن يَك أمس بِالْمَدِينَةِ رَحْله ...
فَإِنِّي وقيار بهَا لغريب)
فَأتى بِخَبَر وَاحِد اكْتِفَاء بِمَا ظهر، وَإِنَّمَا جَوَّزنَا
الْوَجْه الثَّانِي لِأَنَّهُ صَحِيح الْمَعْنى، وَهَذَا التَّقْدِير
الَّذِي جوزناه لَيْسَ بممتنع مثله فِي الْكَلَام إِن شَاءَ الله،
وَيدل على حسن الْوَجْه الثَّانِي إِدْخَال اللَّام فِي قَوْله: لغريب،
وَإِنَّمَا يحسن دُخُول هَذِه اللَّام فِي خبر (إِن) ، فَأَما
دُخُولهَا فِي خبر الْمُبْتَدَأ فضعيف، وَإِنَّمَا يجوز ذَلِك على
تَقْدِير مُبْتَدأ مَحْذُوف: كَأَنَّك وقيار لَهو غَرِيب، لِأَن حق
هَذِه اللَّام أَلا تدخل على الْمُبْتَدَأ، فَلَمَّا رأيناها فِي هَذَا
الْبَيْت دَاخِلَة على الْخَبَر، دلّ ذَلِك على أَن الْخَبَر للْأولِ.
(1/244)
|