علل النحو

 (14 - بَاب ظَنَنْت وحسبت وَعلمت وخلت وَأَخَوَاتهَا)

إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن تتعدى هَذِه الْأَفْعَال إِلَى مفعولين؟
قيل لَهُ: لِأَن أَصْلهَا أَن تدخل على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، والمبتدأ لَا بُد لَهُ من خبر، فَوَجَبَ لدخولها عَلَيْهِمَا أَن ينتصبا.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَنْت إِذا قلت: ظَنَنْت زيدا خَارِجا، فالشك إِنَّمَا وَقع فِي خُرُوجه لَا فِي زيد، فَلم وَجب أَن ينْتَصب زيد؟
فَأَما الْفَائِدَة من ذكره فَليعلم من الَّذِي وَقع الشَّك فِي خُرُوجه، فَلَو لم يذكر زيد لم يعلم صَاحب الْخُرُوج، فَلهَذَا وَجب ذكر زيد. وَإِنَّمَا عمل فِيهِ الْفِعْل نصبا إِذْ كَانَ هُوَ وَالْخَبَر شَيْئا وَاحِدًا، وَالْفِعْل قد اسْتغنى بفاعله، فَوَجَبَ نَصبه، إِذْ قد جرى مجْرى الْمَفْعُول الْمَحْض.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ التَّعَدِّي فِي هَذِه الْأَفْعَال فِي الْجُمْلَة، وَلَيْسَت بمؤثرة فِي الْمَفْعُول، إِذْ كَانَ الْفَاعِل يخبر عَمَّا اسْتَقر فِي قلبه من علم أَو شكّ؟
قيل لَهُ: هِيَ وَإِن لم تكن مُؤثرَة فقد تعلق الظَّن بمظنون، وَلَيْسَ كل فعل يعْمل يكون مؤثرا، أَلا ترى أَنَّك تَقول: ذكرت زيدا، وَإِن كَانَ مَيتا، فَإِذا حصل الْفِعْل تعلق بمفعول تعدى إِلَيْهِ، فَلهَذَا جَازَ أَن تتعدى هَذِه الْأَفْعَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ إلغاؤها إِذا توسطت بَين المفعولين أَو تَأَخَّرت؟
قيل لَهُ: لِأَنَّك إِذا ابتدأت بِالِاسْمِ، فقد حصل على لفظ الْيَقِين، كَانَت هَذِه

(1/286)


الْأَفْعَال ضَعِيفَة فِي الْعَمَل، وَوَجَب أَن يحمل الْخَبَر على مَا اعْتقد عَلَيْهِ الْكَلَام، وَهُوَ الْيَقِين، وَجعل الْفِعْل فِي هَذَا الْموضع فِي تَقْدِير الظّرْف، وَإِن أوجب شكا فِي الْجُمْلَة، كَقَوْلِك: زيد منطلق فِي ظَنِّي فَلَمَّا كَانَ قَوْلك: (فِي ظَنِّي) لَا يعْمل فِيمَا قبله، جعل أَيْضا: زيد منطلق ظَنَنْت، كَأَنَّك قلت: فِي ظَنِّي.
وَأما من أعمل الْفِعْل إِذا توَسط أَو تَأَخّر، فَلِأَنَّهُ حمل الْكَلَام على مَا فِي نِيَّته من الشَّك، فَصَارَ الْفِعْل - وَإِن تَأَخّر - مقدما فِي الْمَعْنى، فَلهَذَا جَازَ إعماله.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد وجدنَا الْعَرَب تَقول: حسبت ذَاك، فتكتفي باسم وَاحِد، وَكَذَلِكَ تَقول: حسبت أَن زيدا منطلق، ف (أَن) وَمَا بعْدهَا فِي تَقْدِير اسْم، لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة الْمصدر، كَأَنَّك قلت: حسبت انطلاق زيد، وَلما تكلم بِهَذَا التَّقْدِير لم يَصح؟
قيل: أما قَوْلهم: حسبت ذَاك. فَفِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن يكون ذَاك إِشَارَة إِلَى الْمصدر، كَأَنَّك قلت: حسبت ذَاك الحسبان، وكل فعل يجوز أَن يقْتَصر على فَاعله، إِن شِئْت عديته إِلَى الْمصدر أَو الظّرْف أَو الْحَال، فَلَمَّا كَانَ لَيْسَ يُرَاد بِهِ الْمُبْتَدَأ حَتَّى يحْتَاج إِلَى خبر، جَازَ قَوْلك: حسبت ذَاك، فَجرى مجْرى (حسبت) فَقَط.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن (ذَاك) يعبر بِهِ عَن الْجُمْلَة، فَلَمَّا صَار عبارَة عَن الْجُمْلَة

(1/287)


جَازَ أَن يكْتَفى بِهِ عَن المفعولين، أَلا ترى أَن الْقَائِل يَقُول: زيد منطلق (33 / ب) فَتَقول لَهُ: قد بَلغنِي ذَاك، تُرِيدُ بِهِ مَا تقدم من الْجُمْلَة، وَأما اقتصارهم ب (أَن) وَمَا بعْدهَا عَن المفعولين، فَلِأَن (أَن) تدخل على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، كدخول (ظَنَنْت) عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا حصل بعد (أَن) مَا تَقْتَضِيه هَذِه الْأَفْعَال اسْتغنى الْكَلَام بذلك، لِأَن الْفَائِدَة قد حصلت، وَصَارَ دُخُول (أَن) لتوكيد الظَّن، وَأما إِذا أسقطت لفظ الْجُمْلَة بعد (أَن) وَجئْت بِلَفْظ الْمصدر لم يجز الِاقْتِصَار على ذَاك، إِذْ كَانَت لَيْسَ فِي لفظ الْجُمْلَة، وَإِنَّمَا هُوَ اسْم مُفْرد، وَقد بَينا أَن هَذِه الْأَفْعَال لدخولها على الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر لَا يقْتَصر بهَا على مفعول وَاحِد.
وَفِي إِيجَاب المفعولين بعد هَذِه الْأَفْعَال عِلّة أُخْرَى، وَهُوَ أَن قَوْلك: حسبت زيدا مُنْطَلقًا، قد بَينا أَن الحسبان قد وَقع فِي الانطلاق، فَلَو اقتصرت على ذكر الانطلاق لم يعلم لمن هُوَ، وَلَو ذكرت (زيدا) وَحده كنت قد أتيت باسم لم يَقع فِيهِ شكّ، فاقتصرت عَلَيْهِ، وَلَا يجوز أَن تَأتي بِلَفْظ لَا فَائِدَة بِهِ، فَصَارَ كل وَاحِد من المفعولين لَا بُد لَهُ من الآخر، فاعرفه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار بعض هَذِه الْأَفْعَال قد يجوز أَن يتَعَدَّى إِلَى وَاحِد مرّة، وَإِلَى اثْنَيْنِ، وَهُوَ: (ظَنَنْت وَرَأَيْت وَعلمت وَوجدت) وَالْقسم الثَّانِي لَيْسَ لَهُ إِلَّا طَريقَة وَاحِدَة؟
قيل لَهُ: لِأَن (حسبت وخلت) قد علمت أَن بَابهَا الشَّك، وَهُوَ التَّعَدِّي إِلَى مفعولين، وحولت (ظَنَنْت) من بَاب الشَّك إِلَى بَاب التُّهْمَة، إِذْ كَانَ ذَلِك إخراجا لَهَا عَن أَصْلهَا، وَجَوَاز هَذَا الْمَعْنى فِي وَاحِدهَا يُغني عَن سائرها، فَلهَذَا خَالَفت (ظَنَنْت) أخواتها.

(1/288)


فَأَما (علمت وَرَأَيْت وَوجدت) فاستعملت على الْمَعْنيين اللَّذين ذكرناهما فِي الشَّرْح، فَجَاز أَن يخْتَلف عَملهَا لاخْتِلَاف مَعْنَاهَا.
وَأما الْأَفْعَال الَّتِي تتعدى إِلَى مفعولين إِذا لم يسم فاعلها، نَحْو: أعلمت وأريت وأنبئت، ونبئت، فَالْأَصْل: علم وَرَأى ونبأ وأنبأ، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهَا الْهمزَة، وشددوا عين الْفِعْل، صَارَت متعدية إِلَى ثَلَاثَة مفعولين، وَقد بَينا أَن الْمَفْعُول كَانَ فِي الأَصْل مصدرا، فَلم يجز إِلَّا تعديتها، وَكَانَ أَبُو عُثْمَان الْمَازِني يُجِيز الِاقْتِصَار على الْمَفْعُول الأول، كَقَوْلِك: أعلمت زيدا، وتسكت، وعَلى هَذَا الْقيَاس يجوز ذَلِك فِي ثَانِي الْأَفْعَال، ليجري الْأَمر فِيهَا مجْرى وَاحِدًا، وَاعْلَم أَن (أعلمت) إِذا لم تسم الْفَاعِل فِيهَا، ثمَّ وسطتها بَين المفعولين، فَالْقِيَاس فِيهَا أَلا تلغى كإلغاء (ظَنَنْت) لِأَنَّهَا قد صَارَت بِالنَّقْلِ الَّذِي دخل فِيهَا بِمَنْزِلَة الْفِعْل الْمُتَعَدِّي فِي الْحَقِيقَة، أَلا ترى أَنَّك إِذا قلت: أعلمت زيدا عمرا خير النَّاس، فقد أوصلت إِلَى زيد علما، كَمَا أَنَّك إِذا قلت: أَعْطَيْت زيدا درهما، فقد أوصلت إِلَى زيد درهما، فَلهَذَا خَالَفت بَاب (ظَنَنْت وأخواته) فاعلمه.

(1/289)


(15 - بَاب نعم وَبئسَ)

إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب أَن يلْزم (نعم وَبئسَ) الْجِنْس؟
فَفِي ذَلِك وَجْهَان:
أَحدهمَا: يحْكى عَن الزّجاج أَنَّهُمَا لما وضعا للمدح والذم الْعَام خصا بِأَن يليهما لفظ عَام.
وَالْوَجْه الآخر: أَن لفظ الْجِنْس إِنَّمَا وَجب تَقْدِيره إِلَى جنب (نعم وَبئسَ) ليدل بذلك على أَن الممدوح قد حصل لَهُ من الْفضل مَا فِي الْجِنْس، فَإِذا قلت: نعم الرجل زيد، دللت بِلَفْظ (الرجل) أَنه فَاضل فِي الرِّجَال، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: نعم الظريف زيد، دللت بذلك أَن زيدا (34 / أ) ممدوح فِي الظراف، فَلهَذَا وَجب تَقْدِير الْجِنْس.
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن جَازَ فِي (نعم وَبئسَ) أَربع لُغَات، وَكَذَلِكَ جَمِيع مَا ثَانِيه حرف حلقي، مِمَّا هُوَ على ثَلَاثَة أحرف، اسْما كَانَ أَو فعلا، نَحْو: فَخذ، وحروف الْحلق سِتَّة، وَهِي الْهمزَة وَالْهَاء والحاء وَالْخَاء وَالْعين والغين؟

(1/290)


فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن حُرُوف الْحلق لما كَانَ بَعْضهَا مستعليا، وَبَعضهَا قريب من الْألف، فالهمزة مقاربة الْألف، وَالْفَتْح قريب من الكسرة، أتبع الْفَتْح الْكسر، ليَكُون الْكَلَام على طَريقَة وَاحِدَة، كَمَا يتبع الْفَتْح الْألف الممالة، فَلَمَّا جَازَ إتباع الكسرة تتَابع فِي الْفِعْل كسرتان، فسكن الثَّانِي للاستثقال.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ الإسكان جَائِزا فِي أصل الْفِعْل قبل إتباعه، فَفِيمَ الإسكان بعد ذَلِك؟
قيل لَهُ: لِأَن الإسكان بعد الِاتِّبَاع أقوى، لِأَن إسكان فَتْحة بعْدهَا كسرة أقوى من إسكان كسرة قبلهَا فَتْحة، لثقل الكسرتين، فَيجوز أَن يكون أتبعوا ليَكُون أَعلَى فِي الإسكان.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن زعمتم أَن أصل هذَيْن الْفِعْلَيْنِ (فعل) ، وهلا كَانَ على (فعل) أَو (فعول) ؟
قيل لَهُ: الدَّلِيل على أَن (فعل) لَا يجوز إسكانه لخفة الْفَتْح، فَيسْقط أَن يكون على (فعل) ، وَجَوَاز كسر أَولهمَا دلَالَة (فعل) دون (فعل) ، لِأَن الثَّانِي لَو كَانَ مضموما فيهمَا لم يجز كسر الأول، لِأَنَّهُ لَا كسر بعده، فتكسر الأول للكسرة الَّتِي بعده، وَلَا يجوز أَن يكون الأَصْل فيهمَا كسر الأول وَضم الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أبنيتهم، وَلَا يُوجد فِي كَلَامهم كسرة بعْدهَا ضمة لَازِمَة، فَوَجَبَ أَن يَكُونَا (فعل) لما ذَكرْنَاهُ.

(1/291)


فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم زعمتم أَنَّهُمَا فعلان، وَقد وجدنَا الْعَرَب تدخل عَلَيْهِمَا حرف الْجَرّ كَقَوْل الشَّاعِر:
(أَلَسْت بنعم الْجَار يؤلف بَيته ... )

وَرُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا بشر بمولودة فَقيل لَهُ: نعم المولدة مولودتك، فَقَالَ: وَالله مَا هِيَ بنعم المولودة، نصرها بكاء، وبرها سَرقَة؟
قيل لَهُ: أما الدَّلِيل على أَنَّهُمَا فعلان ثبات عَلامَة التَّأْنِيث فيهمَا على حد ثباتهما فِي الْفِعْل، نَحْو: نعمت وبئست، كَمَا تَقول قَامَت وَقَعَدت، فَلَو كَانَا اسْمَيْنِ، لَكَانَ الْوَقْف عَلَيْهِمَا بِالْهَاءِ، فَلَمَّا وقف عَلَيْهِمَا بِالتَّاءِ، علم أَنَّهُمَا فعلان، وليسا باسمين.
وَأما كَونهمَا حرفين فَلَا شُبْهَة فِي بُطْلَانه، لاستتار الضَّمِير فيهمَا، وَلَا يسْتَتر ضمير الْفَاعِل إِلَّا فِي الْأَفْعَال. وَأما جَوَاز دُخُول الْبَاء عَلَيْهِمَا فَإِن ذَلِك عندنَا على معنى الْحِكَايَة، كَأَنَّهُ حكى مَا قَالَ لَهُ، وحروف الْجَرّ تدخل على الْفِعْل الَّذِي

(1/292)


لَا شُبْهَة فِيهِ على هَذَا الْوَجْه، كَمَا قَالَ:
(وَالله مَا زيد بنام صَاحبه ... )

فَإِذا جَازَ دُخُول الْبَاء على طَرِيق الْحِكَايَة، فَلَيْسَ بمنكور دُخُول الْبَاء على (نعم) الَّتِي فِيهَا بعض الْإِشْكَال، فقد ثَبت بِمَا أوردناه أَنَّهَا فعل لَا اسْم، وَالله أعلم.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا نصبتم النكرَة بعد (نعم وَبئسَ) على التَّشْبِيه بالمفعول بِهِ، لِأَن فيهمَا إِضْمَار الْفَاعِل، فَهَل يجوز إِظْهَار ذَلِك الْفَاعِل مَعَ بَقَاء الْمَنْصُوب؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن سِيبَوَيْهٍ يمْنَع مِنْهُ، وَأما أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد فقد اخْتَارَهُ، وَهُوَ قَوْلك: نعم الرجل رجلا زيد. فَأَما امْتنَاع جَوَازه فَلِأَن أحد الرجلَيْن يكفى عَن الآخر، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا اسْم للْجِنْس، فَلَا وَجه للْجمع بَينهمَا، (34 / ب) وَأَبُو الْعَبَّاس أجَازه على طَرِيق التوكيد.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خصت بِجَوَاز الْإِضْمَار قبل الذّكر؟
قيل لَهُ: لِأَن الْمُضمر قبل الذّكر على شريطة التَّفْسِير فِيهِ شُبْهَة من النكرَة، إِذْ كَانَ لَا يفهم إِلَى من يرجع حَتَّى تفسره، وَقد بَينا أَن (نعم وَبئسَ) لَا يجوز أَن يليهما معرفَة مَحْضَة، فَصَارَ الضَّمِير على شريطة التَّفْسِير لما فِيهِ الْألف وَاللَّام من أَسمَاء الْجِنْس.

(1/293)


فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الْفَائِدَة فِي هَذَا الْإِضْمَار، وهلا اقتصروا على قَوْلهم: نعم الرجل زيد؟
قيل لَهُ: الْفَائِدَة تَخْفيف اللَّفْظ، وَذَلِكَ أَنهم إِذا أضمروا فِيهَا، احتاجوا إِلَى مُفَسّر نكرَة مَنْصُوبَة وَهِي أخف من معرفَة فِيهَا الْألف وَاللَّام، فَلَمَّا كَانَ الْمُضمر لَا يظْهر، وَكَانَ مَا يفسره خَفِيفا، أضمروا فِيهَا، ليخف اللَّفْظ عَلَيْهِم، وَلَو اقتصروا على إِضْمَار الْفَاعِل، لَكَانَ ذَلِك شَائِعا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا ثنوا الضَّمِير وجمعوه، كَمَا يثنون الِاسْم الظَّاهِر، نَحْو: نعم الرّجلَانِ الزيدان؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَنهم إِنَّمَا أضمروا على شريطة التَّفْسِير، ليخف اللَّفْظ، فَلَمَّا كَانَ الْمُفَسّر يثنى وَيجمع، وَفِيه دلَالَة على أَن الْمُضمر يجْرِي مجْرَاه، استغنوا عَن تَثْنِيَة الضَّمِير بِمَا أظهرُوا من تَثْنِيَة الْمُفَسّر وَجمعه، فَلَو ثنوا الضَّمِير وجمعوه، لوَلِيّ (نعم وَبئسَ) اسمان لَيْسَ فِي لَفْظهمَا دلَالَة على الْجِنْس، فَلهَذَا لم يثن وَيجمع الْمُضمر فيهمَا.
إِذا قلت نعم الرجل زيد، فزيد رفع بِالِابْتِدَاءِ، وَنعم الرجل: خَبره، وَلَيْسَ فِي الْجُمْلَة ضمير يرجع إِلَى المبتدإ، وَمثل هَذَا لَا يجوز فِي غير هذَيْن الْفِعْلَيْنِ؟
قيل لَهُ: لم يجز فِي غَيرهمَا من الْأَفْعَال لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن قَوْلك: زيد قَامَ الرجل، لَو جوزناه لالتبس الْكَلَام، لِأَن قَوْلك: قَامَ الرجل، يجوز أَن يكون كلَاما تَاما قَائِما بِنَفسِهِ، فَلَا يعلم هَل هُوَ خبر الِابْتِدَاء، أَو هُوَ اسْتِئْنَاف جملَة أُخْرَى مُنْقَطِعَة مِمَّا قبلهَا، وَأما (نعم الرجل) فَلَا

(1/294)


يتَوَهَّم فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يقْتَصر عَلَيْهِ، فَصَارَ تعلقه بِمَا قبله كتعلق الضَّمِير بِمَا قبله، كَقَوْلِك: زيد قَامَ، فَجرى الْمظهر بعد (نعم وَبئسَ) مجْرى الْمُضمر فِي غَيرهمَا من الْأَفْعَال.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن قَوْلك: زيد نعم الرجل، مَحْمُول على مَعْنَاهُ، إِذْ كَانَ قَوْلك: نعم الرجل، يقوم مقَام (زيد) الممدوح فِي الرِّجَال، فَلَمَّا قَامَ مقَامه فِي الْمَعْنى اكْتفي بِهِ، وَلم يكن فِي غَيره من الْأَفْعَال هَذَا الْمَعْنى، فَلهَذَا اخْتلفَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن حسن إِسْقَاط عَلامَة التَّأْنِيث من (نعم وَبئسَ) إِذا وليهما مؤنث، وَلم يجز فِي غَيرهمَا من الْأَفْعَال؟
قيل لَهُ: قد ذكرنَا فِي الشَّرْح وَجها آخر أَجود مِنْهُ، وَهُوَ أَن الْمُؤَنَّث الَّذِي يَلِي (نعم وَبئسَ) يجب أَن يكون اسْم جنس يجْرِي مجْرى الْجمع، وَالْفِعْل إِذا كَانَ للْجَمَاعَة - وَإِن كَانُوا مؤنثين - ذكر فعلهم، كَقَوْلِك: قَامَ النسْوَة، فَلهَذَا حسن التَّذْكِير فِي هذَيْن الْفِعْلَيْنِ.

(1/295)


(16 - بَاب حبذا)

إِن قَالَ قَائِل: مَا الأَصْل فِي (حب) ؟
قيل لَهُ: الأَصْل فِيهِ (فعل) على وزن (كرم) ، فحذفت الضمة من الْبَاء الأولى وأدغمت فِي الْبَاء الثَّانِيَة.
وَإِنَّمَا حكمنَا عَلَيْهَا ب (فعل) من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن اسْم الْفَاعِل مِنْهَا (حبيب) ، و (فعيل) أَكثر مَا يكون (35 / أ) لما ماضيه على (فعل) ، نَحْو: كرم فَهُوَ كريم، وَلِأَن الْأَفْعَال إِذا أُرِيد مِنْهَا على مَا يُرَاد فِي (نعم وَبئسَ) ، فَأكْثر مَا يسْتَعْمل على (فعل) كَقَوْلِك: حسن رجلا زيد، فَلَمَّا اسْتعْملت (حبذا) اسْتِعْمَال (نعم) - وَإِن كَانَت نعم على وزن (فعل) - وَجب أَن يحمل (حبذا) على (فعل) ، لِكَثْرَة (فعل) فِي هَذَا الْبَاب.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي أحْوج أَن يَجْعَل (حب) مَعَ (ذَا) اسْما وَاحِدًا؟
قيل: يجوز أَن يكون الْغَرَض تَخْفيف اللَّفْظ، لأَنهم إِذا قدروها بِمَنْزِلَة شَيْء استغنوا عَن تَثْنِيَة (ذَا) وتأنيثه، فَلهَذَا جعلا شَيْئا وَاحِدًا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم صَار لفظ التَّذْكِير أولى من لفظ التَّأْنِيث؟
قيل لَهُ: لِأَن الْمُذكر قبل الْمُؤَنَّث، وَهُوَ كالأصل لَهُ، فَلَمَّا أَرَادوا تركيب حرف اسْم، كَانَ تركيبه مَعَ الْمُذكر السَّابِق للمؤنث أولى من الْمُؤَنَّث.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خص بالتركيب مَعَ (ذَا) من بَين سَائِر الْأَسْمَاء؟

(1/296)


قيل لَهُ: لِأَن (ذَا) اسْم مُبْهَم ينعَت بأسماء الْأَجْنَاس، وَقد بَينا أَن لفظ الْجِنْس يسْتَحق أَن يَقع بعد (نعم وَبئسَ) ، فَوَجَبَ أَن يجْرِي مجْراهَا، فركبوها مَعَ اسْم يَقْتَضِي النَّعْت بِالْجِنْسِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم غلبتم على (حبذا) الاسمية، وقلتم: إنَّهُمَا صَارا بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد؟
قيل: وجدنَا فِي الْأَسْمَاء اسْمَيْنِ جعلا بِمَنْزِلَة اسْم وَاحِد، فَوَجَبَ أَن يحمل (حبذا) على حكم الاسمية، لوُجُود النظير فِي الْأَسْمَاء، وَلم يجز حملهَا على الْفِعْل لعدم النظير.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن الِاسْم أقوى من الْفِعْل، فَلَو جعلا شَيْئا وَاحِدًا، وَجب أَن يغلب عَلَيْهِمَا حكم الاسمية، لقُوَّة الِاسْم وَضعف الْفِعْل، فَإِذا وَجب هَذَا، جَازَ أَن تَقول: حبذا زيد، فتجعل (حبذا) اسْما مُبْتَدأ، وَزيد: خَبره، فاعرفه.

(1/297)


(17 - بَاب الْإِضْمَار)

إِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه تَكْرِير الْعَرَب: الْأسد الْأسد، وَالطَّرِيق الطَّرِيق، إِذا أَرَادوا التحذير؟
قيل لَهُ: وَجه ذَلِك أَنهم جعلُوا أحد الاسمين عوضا من الْفِعْل الْمَحْذُوف، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَنهم إِذا أسقطوا أحد الاسمين جوزوا إِظْهَار الْفِعْل، كَقَوْلِك: احذر الْأسد، فَإِذا كرروا لم يظهروا الْفِعْل، فَدلَّ ذَلِك على أَنهم جعلُوا [أحد] الاسمين عوضا من الْفِعْل، وَالْوَجْه أَن يكون الْعِوَض هُوَ الأول، كَمَا أَن الْفِعْل يجب أَن يكون مقدما على الْمَفْعُول.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم قدرتم الْفِعْل فِي (إياك) بِغَيْر تَكْرِير، كَقَوْلِك: إياك، تُرِيدُونَ: إياك احذر؟
قيل لَهُ: لِأَن (إياك) لَا يجوز أَن يَقع فعل قبلهَا، لِأَنَّك لَا تقدر الْكَاف وَلَا يجوز أَن تَقول: ضربت إياك، لِأَنَّك تقدر أَن تَقول: ضربتك، فَلهَذَا وَجب تَقْدِير الْفِعْل بعد (إياك) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم لَا تضمر الْفِعْل إِذا كَانَ يتَعَدَّى بِحرف جر؟
قيل لَهُ: لَو أضمرنا لوَجَبَ أَن يبْقى الِاسْم مجرورا، لتقدير حرف الْجَرّ، وَلَو

(1/298)


فعلنَا هَذَا لَكنا قد أضمرنا حرف الْجَرّ، وَهَذَا لَا يجوز، لِأَن حرف الْجَرّ يجْرِي فِي الضعْف مجْرى حُرُوف الْجَزْم، وحروف الْجَزْم لَا تضمر، وَكَذَلِكَ حُرُوف الْجَرّ، وَجُمْلَة الْأَمر أَن جَمِيع الْحُرُوف لَا يجوز إضمارها لِضعْفِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ إِضْمَار الْفِعْل لقُوته، إِذْ كَانَ متصرفا فَيعْمل فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْحُرُوف نَاقِصَة عَن حكم الْفِعْل، لم يجز أَن تعْمل مضمرة، وَأَيْضًا فَإِن (35 / ب) الْمصدر إِذا كَانَ يُمكن أَن يقدر فعلا ينصب بِنَفسِهِ، وَأمكن أَن يقدر فعلا يصل بِحرف جر، وَجب تَقْدِير شَيْء وَاحِد، إِذْ كَانَ تَقْدِيره يَنُوب عَن شَيْئَيْنِ، وَصَارَ بذلك أولى لخفة حكمه.
وَاعْلَم أَن إِضْمَار الْفِعْل يَقع فِي كَلَام الْعَرَب على ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: لَا يجوز إِظْهَاره.
وَالْآخر: يجوز أَن يضمر وَيظْهر.
وَالثَّالِث: لَا يجوز إضماره فَأَما مَا لَا يجوز إِظْهَاره: فنحو مَا ذَكرْنَاهُ من: إياك وزيدا، وَكَذَلِكَ مَا تكَرر من الْأَسْمَاء، نَحْو: الطَّرِيق الطَّرِيق، وَكَذَلِكَ إِن كَانَ أحد الاسمين مَعْطُوفًا على الآخر لم يجز إِظْهَار الْفِعْل، كَقَوْلِك: رَأسك والجدار.
وَأما مَا يجوز إِظْهَاره وإضماره فَإِنَّهُ يجْرِي ذكر الْفِعْل، أَو يكون الاسمان فِي حَال الْفِعْل، كَقَوْلِك: زيدا، إِذا سَمِعت ذكر ضرب، أَو رَأَيْت إنْسَانا يُرِيد أَن يضْرب، فَأَنت بِالْخِيَارِ إِن شِئْت قلت: اضْرِب زيدا، وَإِن شِئْت حذفت الْفِعْل لدلَالَة الْحَال عَلَيْهِ.
فَأَما الْوَجْه الثَّالِث: فَأن تَقول: زيدا، فتضمر الْفِعْل، وَهُوَ لم يجر لَهُ ذكر، فَهَذَا لَا يجوز، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أَنَّك تُرِيدُ: اضْرِب زيدا، أَو أكْرمه، فَلَمَّا لم يكن

(1/299)


على الضَّمِير دَلِيل لم يجز.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم خصت الْعَرَب (إياك) وَحدهَا من بَين سَائِر أخواتها، فَلم يستعملوا مَعهَا الْفِعْل - وَإِن أفردت - كَقَوْلِك: إياك، إِذا أردْت: احذر؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (إياك) أقاموها مقَام فعل الْأَمر، فَلم يجز إِظْهَار الْفِعْل مَعهَا، أما غَيرهَا من الْأَسْمَاء فَلم يقم مقَام الْفِعْل مَعَه، فَجَاز إِظْهَار الْفِعْل مَعَه، وَإِنَّمَا خص (إياك) بِهَذَا، لِأَنَّهُ اسْم لَا يَقع إِلَّا عَلامَة للمنصوب، فَصَارَ لَفظه يدل على كَونه مَفْعُولا، وَأما غَيره من الْأَسْمَاء فَيصح أَن يَقع مَنْصُوبًا أَو مَرْفُوعا أَو مجرورا، فَلَمَّا لم يخْتَص من الْأَسْمَاء اخْتِصَاص النصب الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْفِعْل الناصب، لم يقم مقَامه، وَلما اخْتصّت (إياك) بِهَذَا الْمَعْنى، جَازَ أَن تقوم مقَام الْفِعْل، فاعرفه.

(1/300)


(18 - بَاب اسْم الْفَاعِل)

إِن قَالَ قَائِل: لم وَجب لاسم الْفَاعِل أَن يجْرِي مجْرى الْفِعْل، إِذا أُرِيد بِهِ الْحَال والاستقبال، وَلم يجز هَذَا الْمَعْنى فِيهِ، إِذا أُرِيد بِهِ الْمُضِيّ، وَلزِمَ وَجها وَاحِدًا، وَهُوَ الْجَرّ؟
قيل لَهُ: لِأَن أصل الْأَسْمَاء أَلا تعْمل إِلَّا الْجَرّ، وأصل الْأَفْعَال أَن تعْمل فِي الْمَفْعُول إِلَّا أَن الْفِعْل الْمُضَارع قد أشبه الِاسْم من وُجُوه، قد ذَكرنَاهَا فِي صدر الْكتاب، أوجبت لَهُ الْإِعْرَاب بعد أَن كَانَ مُسْتَحقّا للْبِنَاء على السّكُون، فَكَذَلِك الِاسْم أَيْضا حمل على الْفِعْل الْمُضَارع فَعمل عمله، وَأما الْفِعْل الْمَاضِي فَلم يشابه الِاسْم مشابهة قَوِيَّة، فَلهَذَا لم يزدْ على الْبناء على الْفَتْح، وَكَذَلِكَ يجب فِي الِاسْم الَّذِي مَعْنَاهُ أَلا يزَال عَن أَصله، وَالْأَصْل فِي الْأَسْمَاء أَلا تعْمل إِلَّا الْجَرّ، لما ذَكرْنَاهُ أَيْضا فِي (بَاب الْجَرّ) فَبَقيَ اسْم الْفَاعِل إِذا أُرِيد بِهِ الْمَاضِي على أَصله، وَجَاز فِي اسْم الْفَاعِل أَن ينصب إِذا أُرِيد بِهِ الْحَال والاستقبال، حملا على الْمُضَارع لما بَينهمَا من الشّبَه.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ فِي اسْم الْفَاعِل - إِذا أُرِيد بِهِ الْحَال والاستقبال - الْجَرّ، وَقد اسْتَقَرَّتْ مشابهته للْفِعْل، وهلا امْتنع من الْجَرّ، كَمَا امْتنع (36 / أ) الْفِعْل الْمُضَارع من الْبناء، إِذْ كَانَ بِحُصُول شبهه بالأسماء يسْتَحق الْإِعْرَاب؟

(1/301)


قيل لَهُ: لِأَن اسْم الْفَاعِل - وَإِن أجري مجْرى الْفِعْل - لم يخرج عَن حكم الاسمية، وَلأَجل كَونه اسْما، جَازَ أَن يجر مَا بعده، وَلأَجل مَا بَينه وَبَين الْمُضَارع من الشّبَه، جَازَ أَن ينصب، وَأما الْفِعْل الْمُضَارع فقد جَازَ فِيهِ أَيْضا الرَّد إِلَى أَصله، وَهُوَ السّكُون، وَذَلِكَ إِذا لحقته عَلامَة جمَاعَة النِّسَاء، كَقَوْلِك: الهندات يضربن، فقد اسْتَوَى حكم نون الْفَاعِل وَالْفِعْل الْمُضَارع، فِيمَا سَأَلت عَنهُ، وَأَيْضًا فَإِن بَين حمل اسْم الْفَاعِل على الْفِعْل الْمُضَارع، وَبَين حمل الْفِعْل على الِاسْم فرقا، وَذَلِكَ أَن الْفِعْل حمل فِي التَّثْنِيَة بِمَا يخْتَص الِاسْم، حمل على الْفِعْل بِهَذَا الْمَعْنى أَيْضا، فَصَارَ حمل الِاسْم على الْفِعْل أنقص حكما من حمل الْفِعْل على الِاسْم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك، وَجب أَلا يَزُول عَن الِاسْم مَا كَانَ يسْتَحقّهُ من جَوَاز الْجَرّ بِهِ، وَلم يجز فِي الْفِعْل السّكُون، لِأَنَّهُ قد انْتقل عَن أَصله، لحُصُول الشّبَه فِيهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ فِي اسْم الْفَاعِل إِذا أُرِيد بِهِ الْمُضِيّ أَن يتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول الثَّانِي، نَحْو قَوْلك: زيد معطى عَمْرو درهما أمس؟
قيل لَهُ: فِي ذَلِك وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن يكون الِاسْم مَنْصُوبًا بِفعل مُقَدّر، تَقْدِيره: أَخذ درهما أمس.
وَالْوَجْه الثَّانِي، وَهُوَ أجودهما: أَن الْفِعْل الْمَاضِي لما كَانَ قد بني على حَرَكَة لما بَينه وَبَين الِاسْم من الشّبَه، وَجب أَن يكون لهَذَا الشّبَه تَأْثِير فِي الِاسْم، فَجعل هَذَا فِي الْمَعْنى يجوز أَن يتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُول الثَّانِي.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جَازَ أَن تَقول: هَذَانِ الضاربان زيدا، وَأَنت تُرِيدُ الْمَاضِي بِهَذَا القَوْل؟

(1/302)


فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن أصل الْكَلَام: هَذَانِ اللَّذَان ضربا زيدا، فانتصب (زيد) بِالْفِعْلِ، لِأَن الْعَرَب تختصر بعض كَلَامهَا فتنقل لفظ (اللَّذين) إِلَى الْألف وَاللَّام، لِأَن الْفِعْل لَا يَصح دُخُول الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، فَلَا بُد أَن ينْقل إِلَى لفظ الِاسْم وَهُوَ (ضَارب) ، ليَصِح دُخُول الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، وَصَارَ لفظ (الضاربان زيدا) مَنْصُوبًا بِمَعْنى الْفِعْل الْمُقدر، فَلهَذَا جَازَت الْمَسْأَلَة، فاعلمه.
وَاعْلَم أَن الْمَفْعُول لَا يتَقَدَّم على اسْم الْفَاعِل إِذا كَانَ فِيهِ الْألف وَاللَّام، نَحْو
قَوْلك، هَذَا الضَّارِب زيدا، فَلَو قلت: زيدا هَذَا الضَّارِب، لم يجز، وَإِنَّمَا لم يجز لِأَن الْألف وَاللَّام بِمَعْنى (الَّذِي) فَمَا بعْدهَا فِي صلَة (الَّذِي) ، وَمَا فِي الصِّلَة لَا يتَقَدَّم على الْمَوْصُول، فَلهَذَا لم يجز.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمن أَيْن جَازَت الْإِضَافَة مَعَ الْألف وَاللَّام، مَعَ التَّثْنِيَة وَالْجمع فِي هَذَا الْبَاب، كَقَوْلِك: هَذَانِ الضاربا زيد، والضاربو عَمْرو، وَلم يجز ذَلِك فِي الْمُفْرد، نَحْو قَوْلك: الضَّارِب زيد؟
قيل: أما جَوَاز الْإِضَافَة فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع، فَلِأَن النُّون إِذا ثبتَتْ وَجب نصب الِاسْم بعْدهَا، كَمَا يجب نَصبه إِذا نونت الِاسْم فِي قَوْلك: ضَارب عمرا، فَكَمَا أَنه إِذا حذفت النُّون خفضت الِاسْم، وَجب أَيْضا إِذا حذفت النُّون من التَّثْنِيَة وَالْجمع أَن

(1/303)


تخْفض الِاسْم. وَأما قَوْلك: هَذَا الضَّارِب زيدا، فالألف وَاللَّام قد قَامَت مقَام التَّنْوِين، فَلم يكن فِي الِاسْم شَيْء يحذف مِنْهُ لأجل الْإِضَافَة، فَلهَذَا لم يجز الْجَرّ فِيهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد قَالُوا: زيد الضَّارِب (36 / ب) الرجل، فأضافوا إِلَى مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام، وَإِن لم يكن فِيهِ تَنْوِين؟
قيل لَهُ: جَازَت الْإِضَافَة تَشْبِيها من جِهَة اللَّفْظ، كَقَوْلِك: زيد الْحسن الْوَجْه، وكما قَالُوا: الْحسن الْوَجْه، تَشْبِيها بِقَوْلِك: الضَّارِب الرجل، وسنبين وَجه الشّبَه بَينهمَا فِي (بَاب الصّفة) ، فَصَارَ جَوَاز إِضَافَة (الضَّارِب) إِلَى مَا فِيهِ الْألف وَاللَّام من الْأَسْمَاء، نَحْو قَوْلك: هَذَانِ الغلاما زيد، كَمَا قلت: الضاربا زيد.
قيل لَهُ: الْفَصْل بَينهمَا أَن جَوَاز الْإِضَافَة فِيمَا بعد (الضَّارِب) لما ذَكرْنَاهُ من جَوَاز وُقُوعه مَنْصُوبًا بعْدهَا بِحَال، فَلهَذَا لم تجز إضافتها، أَلا ترى أَنَّك لَو قلت: هَذَانِ الغلامان زيد، لم يجز، فَلهَذَا لم تجز الْإِضَافَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جوزت الْإِضَافَة فِي هَذَا من غير هَذَا التَّقْدِير؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا لم تجز، لِأَن الْفَصْل فِي الْإِضَافَة تَخْصِيص الْمُضَاف وتعريفه، فَإِذا كَانَت فِي الْمُضَاف الْألف وَاللَّام تعرف بهما، وَلم يحْتَج إِلَى تَعْرِيف آخر من جِهَة الْإِضَافَة، فَلهَذَا لم يجز، فاعرفه.

(1/304)