علل النحو (19 - بَاب مَا يعْمل من المصادر)
إِن قَالَ قَائِل: من أَيْن جَازَ أَن يعْمل الْمصدر - وَهُوَ أصل
الْفِعْل - عمل الْفِعْل؟
قيل لَهُ: من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْفِعْل لما كَانَ مشتقا مِنْهُ، وَكَانَ فِي الْمصدر
لفظ الْفِعْل جَازَ أَن يعْمل عمله، إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا يدل على
الآخر.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّك إِذا قلت: أعجبني ضرب زيد عمرا،
فَالْمَعْنى: [أعجبني] أَن ضرب زيد عمرا، فَلَمَّا كَانَ الْمصدر
مُقَدرا ب (أَن وَالْفِعْل) ، صَار الْعَمَل فِي الْمَعْنى للْفِعْل،
فَلَمَّا حذف لفظ الْفِعْل بَقِي حكمه، فَلهَذَا جَازَ أَن يَقع بعد
الِاسْم مَرْفُوعا ومنصوبا، إِذا نونته أَو أدخلت فِيهِ ألفا ولاما،
وَإِذا أسقطت الْألف وَاللَّام أَو التَّنْوِين وَجَبت الْإِضَافَة،
لِأَن الْمصدر اسْم، مَا لم يحل بَينه وَبَين مَا يعْمل فِيهِ
الْحَائِل - أَعنِي التَّنْوِين - وَجب خفض مَا بعده.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد ادعيت أَن الْمصدر اسْم للْفِعْل، فَمن أَيْن
وَجب لَهُ ذَلِك؟
قيل لَهُ: فِي ذَلِك وُجُوه:
أَحدهَا: إِجْمَاع النَّحْوِيين على تَسْمِيَته مصدرا، والمصدر فِي
اللُّغَة: هُوَ الْموضع الَّذِي تصدر مِنْهُ الْإِبِل وترده، فَلَمَّا
اسْتحق هَذَا الِاسْم، وَجب أَن يكون الْفِعْل هُوَ الصَّادِر عَنهُ.
وَوجه آخر: وَهُوَ أَن الْفِعْل يدل على مصدر وزمان، والمصدر يدل على
نَفسه فَقَط، فَلَمَّا كَانَ الْمصدر أحد الشَّيْئَيْنِ اللَّذين دلّ
عَلَيْهِمَا الْفِعْل بِالْوَاحِدِ من
(1/305)
الِاثْنَيْنِ، فَلهَذَا وَجب أَن يكون
الْمصدر أصلا للْفِعْل.
وَوجه ثَالِث: وَهُوَ أَن الْمصدر اسْم، وَالِاسْم يقوم بِنَفسِهِ،
كَقَوْلِك: ضربك وجيع، كَمَا تَقول: والدك عَالم، فقد لحق الْمصدر
بالأسماء بِالْقيامِ بِنَفسِهِ، وَالْفِعْل لَا يَسْتَغْنِي عَن
الِاسْم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك وَجب أَن مَا لَا يحْتَاج إِلَى غَيره
أصلا فِي نَفسه، وَهُوَ الِاسْم، وَمَا افْتقر إِلَى غَيره فرعا،
وَهُوَ الْفِعْل، وَهَذَا الدَّلِيل على أَن الْفِعْل مَأْخُوذ من
الْمصدر، لَا أَن الْمصدر مَأْخُوذ من الْفِعْل.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد وجدنَا الْمصدر يُؤَكد بِهِ الْفِعْل،
كَقَوْلِك: ضربت ضربا، والتأكيد بعد الْمُؤَكّد؟
قيل: هَذَا غلط، (37 / أ) وَذَلِكَ أَن الْمصدر - وَإِن أطلقنا
عَلَيْهِ أَنه توكيد - فَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنه بعد الْمُؤَكّد فِي
اللَّفْظ، كَمَا أَنَّك لَو قلت: ضربت ضربت، وَجَاءَنِي زيد زيد، وكررت
الِاسْم وَالْفِعْل، لَكَانَ المكرر توكيدا للْأولِ، وَلَيْسَ الأول
أصلا لَهُ، من سَبَب أَنه جَاءَ قبله، وَأَيْضًا فَإِن قَوْلك: ضربت
ضربا، مَعْنَاهُ: أَنَّك أوقعت فعلا، فالمصدر مفعول، كَقَوْلِك: ضربت
زيدا، فَلَو اعْتبرنَا تَرْتِيب اللَّفْظ، وَكَون الْفِعْل عَاملا
فِيمَا بعده، وجعلناه أصلا لهَذِهِ الْعلَّة، لوَجَبَ أَن يكون
الْفِعْل قبل الِاسْم - أَعنِي: قبل (زيد) فِي قَوْلك: ضربت زيدا،
وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَسْمَاء - وَوَجَب مَا هُوَ أقبح من هَذَا،
وَهُوَ أَن تكون الْحُرُوف أصلا للْفِعْل وَالِاسْم، إِذا كَانَت عوامل
فيهمَا، فَلَمَّا بَطل هَذَا سقط الْإِلْزَام.
(1/306)
فَإِن قَالَ قَائِل: قد وجدنَا الْمصدر
يعتل باعتلال الْفِعْل، وَيصِح بِصِحَّتِهِ، كَقَوْلِك: قَامَ قيَاما،
وَالْأَصْل: قواما، فقلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا، وَجرى
الْمصدر على فعل وَقد اعتل، فَإِذا قلت: قاوم، فَصحت الْوَاو، قلت فِي
الْمصدر: قواما، فَلم تقلب الْوَاو لصِحَّة الْفِعْل، فَلَمَّا كَانَ
الْمصدر يتبع الْفِعْل فِي اعتلاله وَصِحَّته، وَجب أَن يكون الْفِعْل
أصلا لَهُ؟
قيل لَهُ: هَذَا غلط بَين، وَذَلِكَ أَن الشَّيْء يحمل على الشَّيْء،
لِأَنَّهُمَا من نوع وَاحِد، لِأَن أَحدهمَا أصل للْآخر يحمل عَلَيْهِ،
لِئَلَّا يخْتَلف طَرِيق تصاريف الْكَلِمَة، أَلا ترى أَنَّك تَقول:
وعد يعد، فتحذف الْوَاو، لوقوعها بَين يَاء وكسرة، [وَقَالُوا: أعد
ونعد وتعد. وَالْأَصْل فِيهِ: أوعد ونوعد وتوعد، فحذفوا الْوَاو وَإِن
لم تقع بَين يَاء وكسرة] وَلَيْسَ (يعد) أصلا فِي (عد) وَلكنه من
نَوعه، فَحمل عَلَيْهِ، لِئَلَّا يخْتَلف تصريف الْفِعْل، وَكَذَلِكَ
الْمصدر لما كَانَ مشتقا من لَفظه، صَار بَينهمَا مُنَاسبَة من جِهَة
اللَّفْظ فَحمل عَلَيْهِ، وَمِمَّا يدل أَيْضا على فَسَاد مَا ألزمنا
الْمُخَالف أَنه من مذْهبه فِي الْفِعْل الْمَاضِي فِي الْقبْح على أَن
التَّثْنِيَة فرع على الْوَاحِد، فَإِذا جَازَ للفراء أَن يحمل الأَصْل
على الْفَرْع،
(1/307)
وَهُوَ الْمُخَالف لنا فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة، جَازَ لنا أَن نحمل الْمصدر وَإِن كَانَ أصلا للْفِعْل
فِي بَاب الإعلال، وَقد استقصينا هَذِه الْمَسْأَلَة بِأَكْثَرَ من
هَذَا الشَّرْح فِي (شرح كتاب سِيبَوَيْهٍ) .
وَاعْلَم أَن الْمصدر يقدر ب (أَن وَالْفِعْل) مَتى لم يعْمل فِيهِ
فعله الْمُشْتَقّ مِنْهُ، فَإِن عمل فِيهِ فعله لم يقدر ب (أَن) ،
مِثَال قَوْلك: أعجبني ضرب زيد عمرا، فَلَو قلت: ضربت زيدا ضربا، لم
يجز أَن تقدره ب (أَن) فَتَقول: ضربت زيدا، وَإِنَّمَا وَجب مَا
ذَكرْنَاهُ، لِأَن لفظ الْمصدر لَا يدل على معنى معِين، فَإِذا قلت:
أعجبني ضرب زيد، لم يعلم أَنه ضرب مَاض أَو مُسْتَقْبل أَو حَال، فتفصل
ب (أَن وَالْفِعْل) لِأَن لفظ الْفِعْل يدل على زمَان مَخْصُوص،
فَلهَذَا قدر ب (أَن) إِذا عمل فِيهِ غير فعله، وَأما إِذا عمل فِيهِ
فعله فَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى تَقْدِيره، لِأَن الْفِعْل الْمُتَقَدّم
قد دلّ على الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ. وَأما قَوْله تَعَالَى: {أَو
إطْعَام فِي يَوْم ذِي مسغبة يَتِيما ذَا مقربة} إِن قيل: أَيْن فَاعل
(الْإِطْعَام) ؟
قيل: هُوَ مَحْذُوف من الْكَلَام، للدلالة عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي يدل عَلَيْهِ؟
قيل: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاك مَا الْعقبَة} {37 / ب} هَذَا
خطاب للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دلّ ذَلِك على
أَن الْفَاعِل هُوَ الْمُخَاطب، وَالتَّقْدِير: أَو إطْعَام أَنْت
يَتِيما.
(1/308)
فَإِن قيل: فَهَلا كَانَ الْفَاعِل مضمرا
فِي (الْإِطْعَام) كَمَا يضمر فِي اسْم الْفَاعِل، كَقَوْلِنَا: أَنْت
مطعم، فَفِي (مطعم) ضمير مستتر، كَمَا استتر فِي الْفِعْل، إِذا قلت:
تطعم؟
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن المصادر لَا تقبل الضَّمِير، وَإِن عملت
عمل الْفِعْل، وَإِنَّمَا لم يَصح فِيهَا هَذَا لِأَنَّهَا أصل
الْأَفْعَال، فجرت مجْرى أَسمَاء الْأَجْنَاس، نَحْو: رجل وَفرس،
فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْأَسْمَاء لَا تقبل الضَّمِير، وَجب أَن يكون
الْمصدر كَذَلِك، فَإِذا لم يظْهر الْفَاعِل بعْدهَا، فَإِنَّمَا ذَلِك
لأجل حذفه للدلالة عَلَيْهِ لَا لاستتاره.
فَإِن قيل: ألستم تَزْعُمُونَ أَن الْفِعْل لَا يَخْلُو من فَاعل مظهر
أَو مُضْمر، فالمصادر أجريتموها فِي الْعَمَل مجْرى الْفِعْل، فَكيف
جَازَ أَن يَخْلُو من لفظ الْفَاعِل؟
قيل لَهُ: إِن الْمصدر، وَإِن عمل عمل الْفِعْل فَيظْهر فِي نَفسه
اسْم، وَهُوَ مُتَعَلق بالفاعل وَالْمَفْعُول، فَهُوَ فِي نَفسه اسْم،
وَهُوَ مُتَعَلق بالفاعل وَالْمَفْعُول، كَمَا قلت، إِذا كَانَ
الْفَاعِل أحدثه، وَالْمَفْعُول بِهِ وَقع بِهِ، فَصَارَ مَا تعلق بِهِ
مَعَه كالشيء الْوَاحِد، وكما يجوز أَن يحذف فِي بعض الْكَلَام للدلالة
عَلَيْهِ، جَازَ أَيْضا حذف الْفَاعِل.
فَإِن قيل: فَهَلا أجري اسْم الْفَاعِل مجْرى الْمصدر لِأَنَّهُ اسْم
من الْمصدر، وَكَيف جَازَ أَن يقبل الضَّمِير وَلم يقبله الْمصدر؟
قيل لَهُ: لِأَن اسْم الْفَاعِل وَالْفِعْل جَمِيعًا فرعان للمصدر،
فَلَمَّا جَازَ استتار الْفَاعِل فِي الْفِعْل جَازَ استتاره أَيْضا
فِي اسْم الْفَاعِل، لاشْتِرَاكهمَا فِي الفرعية، إِلَّا أَن بَين
استتار الْفَاعِل فِي الْفِعْل وَبَين استتاره فِي اسْم الْفَاعِل
فرقا، وَهُوَ أَن ضمير الْفَاعِل الْمُسْتَتر فِي الْفِعْل يظْهر فِي
التَّثْنِيَة وَالْجمع، كَقَوْلِك: الزيدان يضربان، والزيدون
يضْربُونَ، وَفِي اسْم الْفَاعِل يسْتَتر فِي النِّيَّة وَلَا يظْهر
فِي، اللَّفْظ فَإِنَّمَا وَجب ذَلِك فِي اسْم الْفَاعِل، لِأَنَّهُ
اسْم فِي نَفسه، فَلَا بُد أَن تلْحقهُ تَثْنِيَة تخصه لنَفسِهِ، فَلم
يجز إِظْهَار تَثْنِيَة الضَّمِير مَعَ تَثْنِيَة الِاسْم، لِأَن ذَلِك
يُوجب الْجمع بَين تثنيتين، وَهَذَا محَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تقدرون قَوْلهم: أعجبني أكل الْخبز،
وَالْخبْز مفعول؟
(1/309)
قيل لَهُ: فِي ذَلِك تقديران:
أَحدهمَا: أَن يكون الْمصدر مُقَدرا ب (أَن) وَفعل لم يسم فَاعله،
فالتقدير: أعجبني أَن أكل الْخبز.
وَالثَّانِي: أَن الْمصدر اسْم مُتَعَلق بالفاعل وَالْمَفْعُول، وَقد
بَينا أَنه يجوز أَن يكْتَفى بالفاعل مَعَ الْمصدر وَحده، وَكَذَلِكَ
يكْتَفى بالمفعول مَعَ الْمصدر، فَجَاز إِضَافَة الْمصدر إِلَى
الْمَفْعُول، إِذْ لَيْسَ مفتقرا إِلَيْهِ من جِهَة اللَّفْظ، فاعرفه.
(1/310)
(20 - بَاب مَا يشْتَغل عَنهُ الْفِعْل)
اعْلَم أَنَّك إِذا قلت: زيد ضَربته، فالاختيار الرّفْع فِي (زيد) ،
وَالنّصب جَائِز، وَإِنَّمَا اختير الرّفْع لِأَن الرّفْع بِغَيْر
إِضْمَار، وَالنّصب بإضمار، فَكَانَ ترك الْإِضْمَار أولى، لِأَنَّهُ
أخف مؤونة من النصب، وَلَيْسَ أَيْضا فِي الْكَلَام مَا يَقْتَضِي
إِضْمَار فعل، فَهَذَا كَانَ الرّفْع أولى، وَأما إِذا قلت: ضربت زيدا
وعمرا كَلمته، فالاختيار نصب عَمْرو (38 / أ) ، وَالرَّفْع جَائِز،
وَإِنَّمَا اختير النصب فِي (عَمْرو) لِأَن وَاو الْعَطف حَقّهَا أَن
يكون مَا بعْدهَا مشاكلا لما قبلهَا، فَلَمَّا بدأت بِالْفِعْلِ، كَانَ
إِضْمَار الْفِعْل بعد الْوَاو أولى، لتَكون قد عطفت فعلا على فعل،
فَلهَذَا اختير النصب، وَالرَّفْع جَائِز على أَن يَجْعَل مَا بعد
الْوَاو النصب، مَتى كَانَ الْفِعْل الَّذِي بعد الْوَاو ابْتِدَاء
وخبرا، فَتَصِير عاطفا جملَة على جملَة.
وَاعْلَم أَنه مَتى كَانَ الْمُبْتَدَأ بِهِ الْفِعْل فلاختيار فِيمَا
بعد الْوَاو النصب، مَتى كَانَ الْفِعْل الَّذِي بعد الْوَاو ناصبا
لضمير الِاسْم الَّذِي يَلِي الْوَاو عَاملا فِي سَببه، وَسَوَاء كَانَ
الْفِعْل الْمُبْتَدَأ بِهِ مِمَّا ينصب أَو يرفع أَو يتَعَدَّى بِحرف
جر، كَقَوْلِك فِيمَا يرفع: جَاءَ زيد وعمرا كَلمته، وَكَذَلِكَ لَو
قلت: جَاءَنِي زيد وعمرا كلمت أَبَاهُ، لِأَنَّك بدأت فِي جَمِيع هَذِه
الْمسَائِل بِالْفِعْلِ، فَإِن قلت:
(1/311)
إِن زيد قَائِما وعمرا كَلمته، فالاختيار
فِي (عَمْرو) الرّفْع، لِأَنَّك لم تبتدئ بِفعل، إِذْ كَانَت (إِن)
حرفا، وَهِي وَإِن غيرت اللَّفْظ فَمَا بعْدهَا فِي حكم المبتدإ،
فَلهَذَا اختير الرّفْع فِي (عَمْرو) ، وَيجوز النصب، كَمَا جَازَ فِي
الِابْتِدَاء بإضمار فعل مثل الْفِعْل الَّذِي قد عمل فِي الضَّمِير،
فَإِن قلت: ضربت زيدا وَعَمْرو قَائِم، أَو يقوم، لم يجز فِي (عَمْرو)
إِلَّا الرّفْع، لِأَنَّك لم تذكر بعد الْوَاو فعلا يجوز أَن يعْمل فِي
(عَمْرو) وَلَيْسَ بمعطوف على الِاسْم الأول فَيدْخل فِي حكمه، وَلكنه
عطف جملَة قَائِمَة بِنَفسِهَا على جملَة مثلهَا، فَلهَذَا لم يجز نصب
مَا بعد الْوَاو، لِأَنَّك لَو نصبت بَقِي الْفِعْل أَو الِاسْم
الَّذِي بعده مُتَعَلقا إِذْ لَا يتَعَلَّق بِمَا قبله من الْكَلَام.
فَإِن قلت: زيد ضَربته وَعَمْرو كَلمته، كنت فِي (عَمْرو)
بِالْخِيَارِ، إِن شِئْت نصبته، وَإِن شِئْت رفعته، وَإِنَّمَا اعتدل
النصب وَالرَّفْع هَاهُنَا، لِأَنَّك بدأت بِالِاسْمِ فِي أول
الْكَلَام وشغلت الْفِعْل بِالضَّمِّ، وَإِن قدرت مَا بعد الْوَاو
كَأَنَّهُ مَعْطُوف على الْهَاء، اختير النصب فِي (عَمْرو) ، ليَكُون
مَا بعد الْوَاو الْفِعْل، كَمَا أَن الْمُضمر مَحْمُول على الْفِعْل،
فَإِن قدرت مَا بعد الْوَاو اسْما مُبْتَدأ بِمَنْزِلَة الْمَعْطُوف
عَلَيْهِ رفعت، واختير الرّفْع، فَإِن دخلت ألف الِاسْتِفْهَام على
الِاسْم وَقد اشْتغل الْفِعْل، اختير النصب، كَقَوْلِك: أزيدا ضَربته؟
وَإِنَّمَا اختير النصب، لِأَن الِاسْتِفْهَام وَقع على الْفِعْل
فَصَارَ حرف الِاسْتِفْهَام يطْلب الْفِعْل، فَيجب أَن يضمر الْفِعْل
وَيكون الْموضع الَّذِي يَقْتَضِي الْفِعْل أولى بالإضمار، فَإِذا وَجب
إِضْمَار الْفِعْل قبل الِاسْم وَجب النصب، وَالرَّفْع جَائِز على
المبتدإ وَالْخَبَر، وَإِنَّمَا جَازَ الرّفْع لِأَن الِاسْتِفْهَام قد
يَقع بعده الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، كَقَوْلِك: أَزِيد قَائِم؟ فَكَمَا
جَازَ الِابْتِدَاء بعد حرف
(1/312)
الِاسْتِفْهَام، وَإِن كَانَ خبر المبتدإ
اسْما، فَكَذَلِك يجوز الرّفْع فِي الِاسْم، وَإِن كَانَ خبر المبتدإ
فعلا، إِذْ الْفِعْل المشتغل بالضمير لَا تسلط لَهُ على المبتدإ، فَجرى
مجْرى الِاسْم، فَلهَذَا جَازَ، فاعرفه. وَكَذَلِكَ إِذا أدخلت
عَلَيْهِ (38 / ب) حرف النَّفْي، كَقَوْلِك: مَا زيد ضَربته عمرا
كَلمته، وَإِنَّمَا اختير النصب، لِأَن النَّفْي لما كَانَ غير وَاجِب
ضارع الِاسْتِفْهَام، فاختير فِيهِ النصب، كَمَا يخْتَار فِي
الِاسْتِفْهَام، وَالرَّفْع أحسن فِي الِاسْتِفْهَام، لِأَن النَّفْي
تَقْدِيره أَن يدْخل على الْمُوجب، كَأَنَّك أدخلت (مَا) على قَوْلك:
زيد ضَربته، فَلَمَّا دخل النَّفْي على شَيْء قد اسْتَقر فِيهِ
الرّفْع، كَانَ بَقَاؤُهُ على مَا كَانَ عَلَيْهِ حسنا.
فَإِن قيل: فَهَلا كَانَ الرّفْع الْمُخْتَار لأجل هَذِه الْعلَّة؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا ذكرنَا أَن النَّفْي يدْخل على لفظ الْإِيجَاب على
طَرِيق التَّقْدِير، وَلَيْسَ ذَلِك بِوَاجِب، أَلا ترى أَنَّك تَقول:
مَا جَاءَنِي أحد، وَلَو قدرت الْكَلَام مُوجبا لم يجز، فَبَان أَن
النَّفْي قَائِم بِنَفسِهِ، وَرُبمَا دخل على الْكَلَام الْمُوجب،
فَإِذا كَانَ كَذَلِك يدْخل النَّفْي بَطل الْإِيجَاب، وَصَارَ الحكم
للنَّفْي، وَحصل مضارعا للاستفهام، واختير النصب بِحُصُول مضارعته
للاستفهام فِي اللَّفْظ، وَحسن الرّفْع لما ذَكرْنَاهُ من التَّقْدِير.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا جِئْت فِيهِ بِالْأَمر وَالنَّهْي والمجازاة،
فالرفع فِيهَا بعيد، كَقَوْلِك: زيد اضربه وَزيد لَا تضربه، وَإِن زيد
تكرمه يأتك، وَالنّصب هُوَ الْمُخْتَار، وَالرَّفْع قبح، وَإِنَّمَا
قبح الرّفْع، لِأَنَّهَا أَشْيَاء لَا تكون إِلَّا بِالْفِعْلِ، فبعدت
من الرّفْع، وَإِنَّمَا جَازَ الرّفْع، لِأَنَّك بدأت ب (زيد) وشغلت
(1/313)
الْفِعْل عَنهُ بضميره، فَامْتنعَ من
الْعَمَل فِي (زيد) فَشبه بِقَوْلِك: زيد ضَربته، إِذْ كَانَ الرّفْع
لَا يُغير الْمَعْنى، واستخف إِذْ كَانَ فِيهِ إِسْقَاط تَقْدِير فعل
مُضْمر، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ يجوز فِي الْأَمر وَالنَّهْي.
فَإِن قَالَ قَائِل: من شَرط خبر المبتدإ أَنه يجوز فِيهِ الصدْق
وَالْكذب، وَالْأَمر وَالنَّهْي لَا يجوز أَن يكون فيهمَا، فَكيف جَازَ
أَن يقعا خَبرا للمبتدإ؟
قيل: جَازَ ذَلِك بِحمْل الْكَلَام على مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ أَن
الأَصْل: اضْرِب زيدا، فَإِذا قدمت (زيدا) مَرْفُوعا، وشغلت الْكَلَام
بضميره، فَمَعْنَى الْكَلَام بَاقٍ، وَإِنَّمَا رفع بشبه لَفظه
بالمبتدإ وَالْخَبَر، فَلَمَّا وجدنَا مساغ جَوَاز رَفعه، لِأَن فِيهِ
تَقْدِير إِسْقَاط تَقْدِير الْفِعْل الْمُضمر، جَوَّزنَا رَفعه، وَحمل
فِي الحكم على مَعْنَاهُ، وَأما إِذا رفعت الِاسْم بعد حرف الْجَزَاء،
فَلَا يجوز أَن ترفعه بِالِابْتِدَاءِ، لِأَن حُرُوف الشَّرْط أَلْفَاظ
تَقْتَضِي الْفِعْل، فَلَا يجوز أَن يَخْلُو مِنْهُ، وَمَعَ ذَلِك
فَلَو رفعت الِاسْم بِالِابْتِدَاءِ، لم يجز جزم الْفِعْل بعده، لفصلها
بَين حرف الشَّرْط وَمَا قد عمل فِيهِ الِاسْم، لِأَن الْجَازِم مَعَ
المجزوم، كالجار مَعَ الْمَجْرُور، وأضعف حَالا، فَلهَذَا جَاءَ فِي
الْجَزَاء الْأَمر وَالنَّهْي، وَإِن اشْتَركَا فِي قبح الرّفْع فيهمَا
فَإِن قَالَ قَائِل: فَبِأَي شَيْء يرفع الِاسْم بعد حرف الْجَزَاء،
وَقد شغلت الْفِعْل بضميره، وَهُوَ مفعول فِي الْمَعْنى؟
قيل لَهُ: يرفع على إِضْمَار فعل مَا لم يسم فَاعله، كَأَنَّك قلت: إِن
يكرم زيد تكرمه يأتك، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن الْفِعْل إِذا لم
يسم فَاعله لَا يتَغَيَّر معنى، وَلَو سميت فَاعِلا لم يكن ينْقض عمله،
فجريا مجْرى وَاحِدًا، فَوَجَبَ إِضْمَار فعل مَا لم يسم فَاعله،
ليَصِح رفع (زيد) .
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ (39 / أ) إِذا رفعت (زيدا) بِالْفِعْلِ
الْمُضمر فقد جزمت الْفِعْل الظَّاهِر ب (إِن) ، وَقد فصلت بَينهمَا،
فَكيف جَازَ ذَلِك وَقد امْتنعت مِنْهُ، إِذْ لم يظْهر الْفِعْل؟
(1/314)
فَالْجَوَاب فِي ذَلِك: أَن (إِن) عملت فِي
الْفِعْل الْمُضمر، وَالْفِعْل الظَّاهِر تَبْيِين لَهُ وتوكيد، والفصل
بَين التوكيد والمؤكد، وَالْبَيَان والمبين، بِشَيْء يتَعَلَّق
بِالْأولِ جَائِز، فَلهَذَا حسن جزم الثَّانِي إِذا أضمرت الْفِعْل.
وَاعْلَم أَن حكم (هلا، وَألا، وَلَوْلَا، ولوما) فِي اخْتِيَار النصب
بَينهَا كَحكم حُرُوف الْجَزَاء، كَقَوْلِك: هلا زيدا ضَربته، فَإِن
رفعت فعلى إِضْمَار فعل مَا لم يسم فَاعله، وَلَا يجوز رَفعه
بِالِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهَا حُرُوف تَقْتَضِي الْفِعْل، إِذْ كَانَ
فِيهَا معنى الْأَمر والتحضيض، فجرت مجْرى الْجَزَاء.
وَاعْلَم أَن الْفِعْل إِذا كَانَ لَا يصل إِلَّا بِحرف جر لم يضمر،
وَلَكِن يضمر فعل فِي مَعْنَاهُ، لِأَن حرف الْجَرّ لَا يجوز إضماره،
وحرف الْجَرّ مَعَ الْمَجْرُور كالشيء الْوَاحِد، وَعمل حُرُوف الْجَرّ
كعمل حُرُوف الْجَزْم، فَكَمَا لَا يجوز إِضْمَار الْجَازِم، فَكَذَلِك
لَا يجوز إِضْمَار الْجَار، وَعلة ذَلِك أجمع أَنَّهَا عوامل ضِعَاف،
إِذْ كَانَت حروفا، وَإِنَّمَا يحذف الْعَامِل لقُوته، كالفعل لجَوَاز
عمله مقدما ومؤخرا، فَلَمَّا كَانَت هَذِه الْحُرُوف لَا يعْمل فِيهَا
مَا قبلهَا، وَهِي جوامد فِي أَنْفسهَا، لم يجز إضمارها، إِذْ كَانَ
عَملهَا مؤخرة أَضْعَف من عَملهَا فِيمَا قبلهَا، فاعرفه
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد أجزتم إِضْمَار (رب) فِي قَوْله:
وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا جَازَ ذَلِك لِأَن الْوَاو صَارَت عوضا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَلم جوزتم إِضْمَار (من) بِاتِّفَاق النَّحْوِيين
فِي قَوْلهم:
(1/315)
بكم دِرْهَم اشْتريت ثَوْبك؟
قيل لَهُ: إِنَّمَا جَازَ إِضْمَار (من) هُنَا لدُخُول الْبَاء فِي
(كم) ، لأَنهم استثقلوا إحاطة حرفين خافضين باسم، وَالْمعْنَى لَا
يشكل، وَقَوي (من) فِي هَذَا الْكَلَام، فَكَانَ قُوَّة مَعْنَاهَا فِي
قَوْلهم: بكم درهما، عوضا مِنْهَا.
(1/316)
|