علل النحو 57 - بَاب حُرُوف الْقسم الَّتِي يجر بهَا
اعْلَم أَن الْغَرَض فِي الْقسم تَقْدِيم الْخَبَر، وَذَلِكَ إِذا قلت:
وَالله لأقومن، إِنَّمَا زيدت النُّون توكيداً لخبرك بِوُقُوع الْقيام،
ليزول الشَّك عَن الْمُخَاطب، وَإِنَّمَا جعل جَوَاب الْقسم يَنْقَسِم
قسمَيْنِ: نقياً وإثباتاً، لِأَن الْأَخْبَار على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا
إِيجَاب، وَالْآخر نفي، وهما اللَّذَان يَقع عَلَيْهِمَا الْقسم،
فَلذَلِك جعل جَوَاب الْقسم على ضَرْبَيْنِ.
وَاعْلَم أَن الْمقسم بِهِ لَا يتَعَلَّق بالمقسم عَلَيْهِ إِلَّا
بتوسط حرف إِيجَاب، أَو حرف نفي، وَإِنَّمَا لم يتَعَلَّق بِهِ إِلَّا
بِمَا ذكرنَا، لِأَن قَول الْقَائِل: وَالله، مَعْنَاهُ: أَحْلف
بِاللَّه، وَهَذَا الْكَلَام تَامّ، فَلَو جِئْت بعده بِقَوْلِك: زيد
فِي الدَّار، فقولك: زيد فِي الدَّار، كَلَام أَيْضا تَامّ، وكل كَلَام
قَائِم بِنَفسِهِ فَلَيْسَ يجوز أَن يتَعَلَّق بِهِ من غير شَيْء يعلقه
بِهِ، إِذْ كَانَ مستغنياً بِنَفسِهِ، فَجعلُوا إِمَارَة تعلق أَحدهمَا
بِالْآخرِ توَسط النَّفْي والإيجاب، وَجعلُوا النَّفْي: (مَا، وَلَا) ،
والإيجاب (إِن، وَاللَّام) . وَإِنَّمَا احْتِيجَ لكل وَاحِد من
الْإِيجَاب وَالنَّفْي حرفان، ليَكُون أحد الحرفين يخْتَص بِالِاسْمِ،
وَاللَّام تدخل على الِاسْم وَالْفِعْل، كَقَوْلِك: وَالله مَا قَامَ
زيد مُنْقَطِعًا، و (لَا) تدخل على الْفِعْل الْمُضَارع، وتجعله
للاستقبال، (89 / أ) وَإِنَّمَا أدخلوها على الْمَاضِي وهم يُرِيدُونَ
الِاسْتِقْبَال، كَقَوْلِك:
(1/562)
وَالله لَا آتِيك أبدا، وَلَا تدخل على
الِاسْم.
وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ، لِأَن الْإِيجَاب
وَالنَّفْي قد يقعان بالأسماء وَالْأَفْعَال.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا اكْتفي ب (مَا) وَحدهَا، إِذْ كَانَت تقع
على الْفِعْل وَالِاسْم، وَاللَّام وَحدهَا، إِذا كَانَت تقع على
الِاسْم وَالْفِعْل أَيْضا؟
قيل لَهُ: لِأَن (لَا) جعلت لنفي الْمُسْتَقْبل الْمَحْض، و (مَا)
تَنْفِي الْفِعْل الْمَاضِي، وَيَقَع الْفِعْل الْمُسْتَقْبل، فيصلح
لزمانين: للْحَال والاستقبال، فَلَمَّا لم تصلح (مَا) لنفي
الِاسْتِقْبَال، احتاجوا إِلَى حرف يخْتَص بذلك، فجاؤوا ب (لَا) ،
فَلَمَّا ثَبت للنَّفْي حرفان، جاؤوا أَيْضا للْإِيجَاب بحرفين،
أَحدهمَا يخْتَص الِاسْم، وَهُوَ (إِن) ، ليعادلوا بذلك حكم (لَا) .
وَلَو قيل: إِنَّهُم فعلوا ذَلِك اتساعاً، لِئَلَّا يضيق عَلَيْهِم،
كَانَ وَجها.
وَاعْلَم أَن النُّون إِنَّمَا لَزِمت اللَّام، لِأَن الْفِعْل
الْمُضَارع يصلح لزمانين، فَلَو أسقطت النُّون وَقلت: وَالله لَا يقوم
زيد، لم يعلم أَنَّك تقسم على الْحَال والاستقبال، فَجعلُوا النُّون
تخص الْفِعْل الْمُضَارع بالاستقبال، كَمَا تخصه بِالسِّين وسوف،
وَإِنَّمَا كَانَت النُّون أولى بذلك، لِأَنَّهَا تدخل زَائِدَة
مُؤَكدَة، وَلكُل فعل غير وَاجِب، نَحْو: الْأَمر وَالنَّهْي
وَالنَّفْي والاستفهام، وَمَا أشبه ذَلِك، لِقَوْلِك: اضربن زيدا،
وَلَا تقتلن عمرا، وَهل تأتين خَالِدا، وَمَا تكرمن من عمرا، فَلَمَّا
كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء غير وَاجِبَة، وَكَانَ الْفِعْل الْمُضَارع
لم يَقع على وَاجِب، خصوا النُّون بِهَذَا الْفِعْل، ليدلوا بِهِ أَنه
غير وَاقع فِي الْحَال، فَلذَلِك لم يجز حذفهَا.
(1/563)
فصل
وَإِنَّمَا حسن دُخُول اللَّام على الْفِعْل الْمَاضِي، إِذا توسطت
بَينهمَا (قد) ، لِأَن (قد) تقرب الْمَاضِي من الْحَال، إِذا كَانَت
للتوقع، فَصَارَ الْمَاضِي لدُخُول (قد) عَلَيْهِ، تقربه من الِاسْم،
لأجل الْحَال، وتقربه من الْفِعْل الْمُضَارع، لأجل الزَّوَائِد فِي
أَوله.
وَإِنَّمَا لم يجز أَن تحذف من أجوبة الْقسم سوى (لَا) ، لِأَن
(اللَّام) لَو حذفت، لوَجَبَ أَن ينحذف مَعهَا النُّون، إِذْ كَانَا
جَمِيعًا قد اختصا بِالْحَال، لأجل الْقسم، وَإِذا كَانَا زائدين
مَعًا، وَجب إِذا اسْتحق أَحدهمَا الْحَذف أَن تحذف الآخر، إِذا لم
يعرض فِي اللَّفْظ مَا يمْنَع من ذَلِك، فَلَمَّا لم يجز حذف الحرفين
من الْفِعْل، لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى إجحاف، لم يجز حذف اللَّام.
فَأَما (إِن) فَلَا يجوز حذفهَا، لِأَنَّهَا عاملة، وعملها ضَعِيف،
فَلم يجز أَن تحذف، وتزاد لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى أَنَّهَا تعْمل
وَهِي مضمرة، وَلَيْسَ أَصْلهَا، فَلَمَّا كَانَ الْحَذف ينْقض
أَصْلهَا، لم يجز أَن تحذف.
وَحكم (مَا) فِي أَنه لَا يجوز حذفهَا، كَحكم (إِن) ، إِذْ كَانَت
تعْمل فِي الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، فَلم يبْق مَا يجوز حذفه سوى (لَا)
. وَإِنَّمَا سَاغَ ذَلِك لِأَن حذفهَا لَا يشكل، إِذْ كَانَت قد
اسْتَقر أَن الْقسم لَا بُد لَهُ من حرف يصل بَينه وَبَين الْمقسم
عَلَيْهِ، فقد سقط أَنه لَا يجوز حذف حرف سوى
(1/564)
(لَا) ، إِذْ صَار حذفهَا لَا يشكل، وساغ
فِيهَا ذَلِك، لِأَنَّهَا غير عاملة، وَلِأَن حذفهَا لَا يُؤَدِّي
إِلَى حذف شَيْء آخر سواهَا، وَالله أعلم.
(1/565)
58 - بَاب مَا يكون من الْمُؤَنَّث بِغَيْر
هَاء (89 / ب) وَلم يجروه على الْفِعْل
نَحْو قَوْلهم: جَاءَنِي نابل، أَي: ذُو نبل، ورامح، أَي: ذُو رمح،
وَلَيْسَ يُرِيد فَهُوَ رامح ونابل، وَسَوَاء قلت: امْرَأَة رامح، أَو
رجل رامح، لِأَن التَّأْنِيث إِنَّمَا يلْحق أَسمَاء الفاعلين تجْرِي
هَاء على الْفِعْل، إِذْ كُنَّا قد بَينا أَن أصل التَّأْنِيث للأفعال،
والأسماء يجب تأنيثها على مثل هَذَا، وَكَذَلِكَ إِذا جَاءَ النّسَب لم
يفصلوا بَين الْمُذكر والمؤنث، وَكَأَنَّهُم اكتفوا بِالْمَعْنَى، إِذْ
كَانَ قَوْلهم: رامح، كَقَوْلِهِم: ذُو رمح، ومرأة رامح، بِمَنْزِلَة:
ذَات رمح، فَلَمَّا كَانَ فِي الْكَلَام تَقْدِيره: ذُو، وَذَات،
استغنوا بِهَذَا الْفَصْل من أَن يفصلوا بَين اسْم الْفَاعِل وَمعنى
قَوْلهم: ذُو رمح، وَكَذَلِكَ إِذا قلت: امْرَأَة حَائِض، كَأَنَّك
قلت: ذَات حيض، ( ... .) فَلَمَّا نَوَيْت بِالْحيضِ الْمصدر ذكرت اسْم
الْفَاعِل، فَإِن أجريت هَذِه الْأَسْمَاء على الْفِعْل، جَازَ أَن
تؤنثها، فَتَقول: امْرَأَة طالقة، أَي: طلقت، وَمن ذَلِك قَول
الشَّاعِر:
(أيا جارتا بيني فَإنَّك طالقه ... كَذَاك أُمُور النَّاس غاد وطارقه)
وَأما قَوْلهم: امْرَأَة معطار، وودود، وولود، وشكور، ومحسار، فَإِن
هَذِه النعوت معدولة عَن الْفِعْل بِمَعْنى الْمُبَالغَة، فَلَمَّا لم
تجر على لفظ الْفِعْل، وَعدل عَنهُ، صَارَت بِمَنْزِلَة اسْم لَيْسَ
بمشتق من الْفِعْل، جَازَ أَن تقع على الْمُذكر والمؤنث.
(1/566)
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ من (فعيل) يُرَاد
بِهِ (مفعول) ، كَقَوْلِهِم: (كف خضيب، ولحية دَهِين) ، وَالْمعْنَى:
مدهونة ومخضوبة. وفعيل بَابه أَن يكون اسْم الْفَاعِل من (فعل يفعل) ،
نَحْو: كرم يكرم، فَهُوَ كريم وظرف يظرف، فَهُوَ ظريف، فَلَمَّا جَاءَ
(خضيب ودهين) على لفظ اسْم الْفَاعِل، وَالْمرَاد بِهِ (مفعول) ،
علمنَا أَنه معدول عَن الْفِعْل، غير جَار عَلَيْهِ، فَلم يجب تأنيثه.
وَأما قَوْلهم: رجل صرورة، للَّذي لم يجح، وَرجل عَلامَة، ونسابة،
وَإِنَّمَا ألْحقُوا هَذِه الهاءات للْمُبَالَغَة، وَجعلُوا زِيَادَة
اللَّفْظ دَلِيلا على مَا يقصدونه من الْمَدْح أَو الذَّم، فَأَما مَا
تعلق بالمدح، فقد ذَكرْنَاهُ. وَأما الذَّم فَقَوْلهم: رجل فقاقة
وبقاقة، للَّذي يكثر الْكَلَام فِي غير مَوْضِعه، وَرجل جخابة، للأحمق
فَصَارَت الْهَاء دَلِيلا على مَا ذَكرْنَاهُ من الزِّيَادَة،
وَالزِّيَادَة فِي الْمَدْح، وَالزِّيَادَة فِي الْعقل وَالْفضل. تمّ
الْكتاب بِحَمْد الله وَحسن عونه وَالصَّلَاة على سيدنَا ومولانا
مُحَمَّد خير النَّبِيين وَسيد الْمُرْسلين، وَكَانَ الْفَرَاغ مِنْهُ
يَوْم الثَّلَاثَة من شهر رَمَضَان الْمُبَارك جعلنَا الله فِي بركته،
سنة ثَمَان وَتِسْعمِائَة - كتبه العَبْد الْفَقِير الراجي رَحْمَة
مَوْلَانَا الْغَنِيّ بفضله عَمَّا سواهُ بلقاسم بن أَحْمد بن
سُلَيْمَان، كتبه لنَفسِهِ غفر الله " لَهُ " ولوالديه
(1/567)
وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين وَلَا حولا وَلَا
قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم، ونسأل الله أَن يجعلنا من
أهل الْعلم والعاملين بِهِ، نَحن وَجَمِيع الْمُسلمين؛ آمين.
(1/568)
|