عمدة الكتاب لأبي جعفر النحاس

الجزء الثاني من كتاب مراتب الكتاب تصنيف أبي جعفر أحمد بن محمد النحوي

(1/233)


بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
باب الكتب في الظهور وكراهة كثرة الدعاء على العنوان
698- يستعمل ذلك من لا يتعمل له، وربما اعتذر بعضهم في ذلك، وربما جاء أحسن من الاعتذار، كما كتب بعضهم إلى آخر في ظهر، ووقع في آخره:
كتبت إليك في ظهر تفاؤلاً أن يظهرك الله على عدوك.
699- وكتب آخرى:
تعذر قرطاسي وفي الظهر بلغةٌ ... وأنت كريمٌ تقبل العذر فاعذر
700- وكتب آخر إلى أخ له في ظهر, فأجابه في ظهر, وكتب في رأسه إليه:
فأول راضي سنةً من يسيرها

(1/234)


701- فأما ما يحكى عن موسى بن أبي العباس الناشئ فقبيحٌ محظورٌ.
حكي عنه أنه كان إذا احتاج إلى ظهر أمر منادياً, فنادى: من له مظلمةٌ؟ فإذا اجتمعت القصص, قال لكاتبه: شأنكم بها.
702- وكان بعضهم يقول: أخذ القرطاس والظهر مورثٌ للعداوة.
703- كما حكي عن العباس بن يزيد بن ثوبان, أنه كان إذا مس له قرطاسٌ قال: أبق على المودة, فإنك إن أخذت منها سحاءةً تعادينا.
704- ومما يقبح بفاعله: ما روي عن حمزة بن نصير أنه دخل عليه وبيده نصف طومار, وهو منكمشٌ, يكتب ويقطع, فقيل له في ذلك, فقال: شكا إلي الوكيل بأنه محتاجٌ إلى ظهور, فأنا مذ غدوة أعمل له ظهوراً.
705- وكذا ما حكي عن العباس بن عبيد بن أخي زيد بن عبد الله أنه كان يتأنق في القراطيس, ثم يمشق فيها, ويباعد بين سطوره, ويكتب بمثل الأعدال ليري الناس أنه متملكٌ في خطه عظيم السلطان في كتبه.
706- ومتقدمو الكتاب ينكرون كثرة الدعاء على العنوان ويستقبحونه.

(1/235)


باب كتبهم سلامٌ عليك في أول الكتاب وفي آخره والسلام عليك ولم قدموا السلام على الرحمة
707- المستعمل أن يكتب في أول الكتاب: ((سلامٌ)) ؛ لأنه لما ابتدئ به ولم يتقدمه ما يكون به معرفةً وجب أن يكون نكرةً.
708- والمستعمل في آخر الكتاب ((والسلام عليك)) لأنه مشارٌ به إلى الأول. وقال الله عز وجل: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً. فعصى فرعون الرسول} .
709- وإنما قدم السلام على الرحمة لأن السلام اسمٌ من أسماء الله عز وجل, قال الله جل ثناؤه: {السلام المؤمن المهيمن} والسلام أيضاً السلامة, والسلام الجنة, قال الله جل وعز: {لهم دار السلام} ويجوز أن يكون المعنى: لهم دار الله عز وجل, أو دار السلامة؛ وقد يكون السلام جمع سلامة, فلتصرف السلام كان كان تقديمه أولى.

(1/236)


باب العلة في ترتيبهم ((أطال الله بقاءك)) في أول الدعاء, ولم أتبعوه: ((وأدام عزك)) دون غيره والذي أوجب أن يكون ((وتأييدك)) أجل من ((وأعزك)) ؛ ولم كان ((وأعزك)) أجل من ((وأكرمك)) , وكراهة من كره ((وجعلني فداك))
710- اعتل قومٌ في اصطلاحهم على تقديم ((أطال الله بقاءك)) في أول الدعاء بعلتين, فمنهم من قال: هو أجل الدعاء؛ لأن العز وما بعده إنما ينتفع به مع طول البقاء.
وقال قومٌ: هو أفخم الدعاء, فلذلك قدموه وأتبعوه ((وأدام عزك)) لأنه إذا أديم عزه كان محوطاً مصوناً, غالباً لعدوه, آمناً غنياً؛ وأتبعوه ((وتأييدك)) لأن معناه, وزاد مما دعوت به لك, وأصله من أيده الله, أي: قواه؛ ((وسعادتك)) أصله من المساعدة, أي: تساعد على ما تريد, وهذا كله أجل من ((وأكرمه)) لأنه قد يكرمه ولا يساعده.
وقد قيل: إنه كان ((وأعزك)) جليلاً, ثم حدث ((وتأييدك)) .
711- فأما كراهة من كره ((وجعلني فداك)) , فقد ذكرناه في باب مكاتبة الفقهاء والأدباء, ومن أجازه احتج بأشياء قد ذكرنا منها ما فيه كفايةٌ.

(1/237)


712- وقد احتج بعضهم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((ارم فداك أبي وأمي)) .
وقال حسان:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
باب ذكر ((أما بعد)) وما معناها
713- روى زكريا, عن الشعبي, أن زياداً قال: إن فصل الخطاب الذي أعطي داود عليه السلام ((أما بعد)) .
714- قال أبو جعفر: وروى أبو بردة, عن أبي موسى, قال: أول من قال ((أما بعد)) داود النبي صلى الله عليه, وهو فصل الخطاب.
715- وزعم ابن الكلبي أن أول من قال ((أما بعد)) قس بن ساعدة.
716- وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: أول من قال: ((أما بعد)) كعب ابن لؤي, وهو أول من سمى يوم الجمعة يوم الجمعة, وكان يقال له: العروبة.
717- وقد روي عن ابن عباس أن فصل الخطاب ((أما بعد)) .

(1/238)


718- وقال مجاهد وكعبٌ: فصول الخطاب الشهود والأيمان.
719- وقال الحسن: هو الفهم في القضاء.
720- وقال الضحاك: هو العلم بالقضاء.
721- وقال شريحٌ: فصل الخطاب الشهود على المدعي واليمين على المدعى عليه.
722- وقال أبو عبد الرحمن السلمي: لما أمر داود عليه السلام بالقضاء انقطع به, فقيل له: سلهم البينة واستحلفهم. قال: وفصل الخطاب الخصوم.
723- وسمعت أبا إسحاق يسأل عن معنى ((أما بعد)) وذكر قول سيبويه: معناها: مهما يكن من شيء؛ قال أبو إسحاق: إذا كان رجلٌ في حديث وأراد أن يأتي بغيره, قال: أما بعد.
724- وهذا الذي قاله أبو إسحاق هو الذي عليه النحويون, ولهذا لم يجيزوا في أول الكلام ((أما بعد)) , لأنها إنما ضمت لما حذف منها مما يرجع إلى ما تقدم, وسنشرح هذا في المرتبة التي نذكر فيها النحو, إن شاء الله.

(1/239)