من تاريخ النحو العربي نشأة الخلاف واحتكاك
المدرستين
مدخل
...
2- نشأة الخلاف واحتكاك المدرستين:
أول ما يعرف من الخلاف بين البصريين والكوفيين ما أثبته سيبويه في
"الكتاب" من حكاية أقوال "الكوفي" أبي جعفر الرؤاسي على ما علمت آنفا.
والظاهر أن مرافقة الرؤاسي للخليل في القراءة على عيسى بن عمر جعلت
بينهما نوعا من الأنس سمح للخليل أن يطلب من الرؤاسي كتابه، فروى منه
بعض أقوال لتلميذه سيبويه، فأثبتها هذا في كتابه.
ولم يكن في هذا الخلاف ولا في غيره مما حدث بين البصريين أنفسهم يومئذ،
أكثر من المذاكرة وحكاية الأقوال المخالفة والرد عليها أحيانا. فأنت
كثيرا ما تجد سيبويه يورد لشيخيه يونس والخليل أقوالا يخالفها فيقول:
"وزعم الحليل"، "وزعم يونس".
ولم تدخل الدنيا بين المشهورين من رجال هذه الطبقة، فالخليل والرؤاسي
مثلا كلاهما صالح عفيف، ومتى خلت المناقشات العلمية مما يؤرثها من
حوافز المادة أو الجاه بقيت هادئة جميلة صافية.
فلما قرّب العباسيون الكسائي وتلاميذه وخصوهم بتربية أولادهم,
وبالإغداق عليهم إذ كان أهل الكوفة بالجملة أخلص لهم
(1/45)
وأحسن سابقة معهم على عكس أهل البصرة،
اجتهد المقربون في التمسك بدنياهم التي نالوها، ووقفوا بالمرصاد
للبصريين الذين يفوقونهم علما, فحالوا بينهم وبين النجاح المادي أو
المعنوي بكل ما يستطيعون من قوة؛ وإذا كان لبصري كالأصمعي مثلا حظوة
عند خليفة ولم يقدروا على إبعاده ماديا، اجتهدوا في الغض من علمه.
وأنا أعرض أنماطا من خلافهم في المجالس الرسمية تفصح عن العصبية والحدة
وحب النيل من المنافس، أعرض ذلك ليكون مدخلا للكلام على المذهبين بعد
أن عرفنا رجالهما الأولين. ولا تستغربن أن تكون الحدة والعصبية أظهر
على الكوفيين، وحب الغلبة عندهم أشد، فهم عن دنياهم وجاههم يدافعون، إذ
علموا علم اليقين أن علمهم إزاء علم البصريين قليل1؛ ولذا كان الخطر من
هؤلاء ماثلا أمام الكوفيين، ولعين الكسائي منهم خاصة، ولم يرو عن كوفي
عنف مثل عنف الكسائي هذا، ولا حرص على الإجهاز على الخصم المنافس كما
روي عنه، وإليك الشواهد:
__________
1 قال أبو حاتم: "لم يكن لجميع الكوفيين علم بالقرآن ولا كلام العرب،
ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا ذكره لم يكن شيئا، وعلمه مختلط
بلا حجج ولا علل إلا حكايات عن الأعراب مطروحة؛ لأنه كان يلقنهم ما
يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه
يرجعون" مراتب النحويين ص84.
هذا, وقد علمت آنفا أن الرؤاسي شيخ الكسائي أقام بالبصرة فلم يرتفع له
فيها ذكر، ولا عد علمه شيئا إزاء علم البصريين. ومهما جعلت للمبالغة
نصيبا في قول أبي حاتم, فأنت مطمئن إلى ستر الكوفيين قصورهم عن
منافسيهم بالشعب, والسلطان الذي كان لهم.
(1/46)
بين الكسائي
والأصمعي:
حدث أحمد بن يحيى ثعلب أحد أئمة الكوفيين قال:
كان الكسائي والأصمعي بحضرة الرشيد، وكانا ملازمين له يقيمان بإقامته
ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي:
أنَّى جزوا عامرا سوءى بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوءى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوقُ به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن
فقال الأصمعي: "إنما هو رئمان أنف، بالنصب" فقال له الكسائي: "اسكت ما
أنت وذاك؟ يجوز بالرفع والنصب والخفض: أما الرفع فعلى الرد على "ما"
لأنها في موضع رفع بـ "ينفع" فيصير التقدير: "أم كيف ينفع رئمان أنف"،
والنصب بـ "تعطي"، والخفص على الرد على الهاء التي في "به"". فسكت
الأصمعي ولم يكن له علم بالعربية، وكان صاحب لغة, لم يكن صاحب إعراب1.
__________
1 إرشاد الأريب 13/ 183, وأمالي الزجاجي ص34 "المطبعة المحمودية
التجارية بالأزهر بمصر". والبيتان لأفنون التغلبي "انظر المفضليات
للضبي 2/ 63 طبعة دار المعارف بالقاهرة".
العلوق: الناقة تفقد ولدها بنحر أو موت، فيسلخ جلده ويحشى تبنا ويقدم
إليها لترأمه "أي: تعطف عليه" ويدر لبنها فينتفعوا به، فهي تشمه وينكره
قلبها فتعطف عليه ولا ترسل اللبن، فشبه ذلك بهذا.
والبيت مثل يضرب لمن يعدك بلسانه كل جميل ولم يفعل منه شيئا؛ لأن قلبه
منطو على ضده، كأنه قيل له: كيف ينفعني قولك الجميل إذا كنت لا تفي به.
ا. هـ عن المصدر الأول بتصرف يسير.
هذا وقد علق ابن الشجري حين عرض هذه القضية بقوله:
"ولنحاة الكوفيين في أكثر كلامهم تهاويل فارغة من حقيقة" 1/ 32.
(1/47)
عدوا الكسائي فائزا في هذه المناظرة، ولعل
المجلس تقوّض على ذلك، ولكننا الآن لا نعده كذلك. فالأصمعي راوية ثبت
صدوق وهو في الرواية والأخبار أقوى من الكسائي، والكسائي أورد وجوه
الإعراب المحتملة، أما الأصمعي فإنما يرد صاحبه إلى الرواية1 وشتان ما
بين الأمرين.
وللأصمعي مجلس آخر مع الكسائي أمام الرشيد كال له فيه الصاع صاعين,
وحكم له الرشيد حكما لزم الكسائي عاره:
قال له الأصمعي وهما عند الرشيد: "ما معنى قول الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا؟
قال الكسائي: "كان محرما بالحج" قال الأصمعي: "فقوله:
قتلوا كسرى بليل محرما ... فتولى لم يمتع بكفن
هل كان محرما بالحج"؟؟؟
فقال هارون للكسائي: "يا علي, إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي"2.
__________
1 بل إن المعني لينصر رواية الأصمعي ويرفض رواية الرفع "وصوب ابن
الشجري إنكار الأصمعي فقال: لأن رئمانها للبو بأنفها هو عطيتها إياه لا
عطية لها غيره، فإذا رفع لم يبق لها عطية في البيت؛ لأن في رفعه إخلاء
"تعطي" من مفعوله لفظا وتقديرا، والجر أقرب إلى الصواب قليلا؛ وإنما حق
المعني والإعراب النصب". انظر مغني اللبيب بحث "أم".
وللكسائي مثل هذا التخبط مع عيسى بن عمر؛ ألقى عيسى مسألة فذهب يوجه
احتمالاتها, فقال عيسى: "عافاك الله، إنما أريد كلام العرب، وليس هذا
الذي تأتي به بكلامها". إنباه الرواة 2/ 377.
2 أخبار النحويين البصريين ص59, محرم أي: لم يحل من نفسه شيئا يوجب
القتل، وقوله "محرما" في كسري يعني حرمة العهد الذي له في أعناق
أصحابه. هذا وقد سجلوا للكسائي طلبه الهدنة من الأصمعي، قال الأصمعي:
أرسل إلي الكسائي بأبي نصر وقال: "لست أعرض لك في الشعر والغريب
والمعاني, فدعني والنحو" فوجهت إليه: "ما كلمتك قط في النحو إلا بحجة
أصحابي, وقد تركت ذلك لك" إنباه الرواة 2/ 272.
(1/48)
2- بين الكسائي
وسيبويه:
قال الفراء: "قدم سيبويه على البرامكة فعزم يحيى بن خالد أن يجمع بينه
وبين الكسائي وجعل لذلك يوما، فلما حضر تقدمت وابن الأحمر1 فدخل فإذا
بمثال في صدر المجلس فقعد عليه يحيى، وقعد إلى جانب المثال جعفر والفضل
ومن حضر بحضورهم، وحضر سيبويه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألة فأجابه
فيها سيبويه فقال له: "أخطأت"، ثم سأله عن ثانية وثالثة كل ذلك يقول
له: "أخطأت" فقال سيبويه:" هذا سوء أدب".
فأقبلت عليه فقلت: إن في هذا الرجل حدة وعجلة، ولكن ما تقول فيمن قال:
"هؤلاء أبون، ومررت بأبين" كيف تقول على مثال ذلك من "وأيت" أو "أويت"؟
فأجاب فأخطأ فقلت له: "أعد النظر ثلاث مرات تجيب ولا تصيب2, فلما كثر
عليه ذلك قال: لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره".
فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: "أتسألني أم أسألك؟ " فقال: "بل
سلني أنت". فقال له الكسائي: "كيف تقول: قد
__________
1 هو علي بن الحسن الأحمر تلميذ الكسائي وخليفته على تعليم أولاد
الرشيد كما سيأتي. وفي المغني وحاشية الدسوقي عليه "1/ 129" أنه خلف
الأحمر وهذا سهو منهما رحمهما الله، إذ إن خلفا بصري ولا تعرف له تلمذة
على الكسائي، بل أين هذا من هذا؟
2 قال ابن هشام الأنصاري بعد شرحه هذه المسألة: وليس هذا مما يخفى على
سيبويه ولا على أصاغر الطلبة, ولكنه كما قال أبو عثمان المازني: "دخلت
بغداد فألقيت علي مسائل, فكنت أجيب فيها على مذهبي ويخطئونني على
مذاهبهم" وهكذا اتفق لسيبويه رحمه الله. مغني اللبيب "مادة إذا".
(1/49)
كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا
هو هي، أو "فإذا هو إياها"؟ " فقال سيبويه: "فإذا هو هي, ولا يجوز
النصب" فقال له الكسائي: "لحنت".
ثم سأله عن مسائل من هذا النوع: "خرجت فإذا عبد الله القائمُ" أو
"القائمَ"؟ فقال سيبويه في ذلك كله بالرفع دون النصب، فقال الكسائي:
"ليس هذا من كلام العرب، العرب ترفع في ذلك كله وتنصب" فدفع سيبويه
قوله، فقال يحيى بن خالد: "قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا
يحكم بينكما؟ " فقال له الكسائي: "هذه العرب في بابك قد جمعتهم من كل
أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين،
وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم، فيحضرون ويسألون" فقال يحيى وجعفر:
"قد أنصفت" فأمر بإحضارهم فدخلوا, فهم: أبو فقعس وأبو دثار وأبو الجراح
وأبو ثروان, فسئلوا عن المسائل التي جرت بين الكسائي وسيبويه فتابعوا
الكسائي وقالوا بقوله، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: "قد تسمع أيها
الرجل" فاستكان سيبويه1.
__________
1 إرشاد الأريب 13/ 185-188, ومغني اللبيب في بحث إذا. وأقبل الكسائي
على يحيى فقال: "أصلح الله الوزير، إنه قد وفد عليك من بلده مؤملا, فإن
رأيت ألا ترده خائبا" فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصير وجهه نحو
فارس, فأقام هناك حتى مات ولم يعد إلى البصرة. ا. هـ.
فيقال: إن هؤلاء الأعراب رشوا فوافقوا الكسائي، وقيل: تملقوه إرضاء
للوزير، ولم ينطقوا بالنصب وإنما قالوا: القول قول الكسائي.
وقد ختم ابن الشجري هذا المجلس بأن الكسائي "إنما قصد سؤاله عما علم
أنه لا وجه له في العربية، واتفق هو والفراء على ذلك؛ ليخالفه سيبويه
فيكون الرجوع إلى السماع، فيقطع المجلس عن النظر والقياس" أمالي ابن
الشجري 1/ 206.
(1/50)
ولم يختلف البصريون حتى اليوم في أن القول
ما قال سيبويه, وأن الموضع ليس بموضع نصب، وأن هؤلاء الأعراب أعراب
الحطمية الذين كان الكسائي يقوم بهم ويأخذ عنهم. ثم جاء ثعلب فاحتال
وجها للنصب فقال: "وإنما أدخل الفاء في قوله: "فإذا هو إياها" لأن
"فإذا" مفاجأة أي: فوجدته ورأيته، فـ "وجدت ورأيت" ينصب شيئين ويكون
معه خبر؛ فلذلك نصبت العرب".
قلت: وهو وجه غير صحيح, ولو صح أن "فإذا=وجدت" لوجب أن يقال: "فإذا
إياه إياها"، ولم يدَّعِ ذلك حتى الكوفيون.
(1/51)
بين الكسائي
والبريدي
...
3- بين الكسائي واليزيدي:
لقد سلط الله على الكسائي من يثأر منه للأصمعي وسيبويه، فأذاقه على يد
يحيى بن المبارك اليزيدي ما كان كفاء لعصبيته على البصريين. ويحيى هذا
بصري قرأ على أبي عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد، واتصل بخال المهدي
يزيد بن منصور الحميري فأدب أولاده، وإليه نسب فقيل "اليزيدي". ولم
يستطع الكسائي أن يغلبه بجاهه, فعاش حياته تنزل عليه منه الضربات في
المناظرة والهجاء بالأشعار. ثم كان مؤدب المأمون كما كان الكسائي مؤدب
الأمين، وإليك مجلسين من مجالسهما أولهما قبل مناظرة سيبويه وثانيهما
بعدها:
(1/51)
1- قال اليزيدي:
"كنا في بلد مع المهدي في شهر رمضان قبل أن يستخلف بأربعة أشهر,
فتذاكروا عنده النحو والعربية، وكنت متصلا بخاله يزيد بن منصور
والكسائي مع ولد الحسن الحاجب، فبعث إلي وإلى الكسائي، فصرت إلى الدار
فإذا الكسائي بالباب قد سبقني فقال لي: "أعوذ بالله من شرك يا أبا
محمد" فقلت: "والله لا تؤتى من قبلي, أو أوتى من قبلك".
فلما دخلنا على المهدي أقبل علي فقال: كيف نسبوا إلى البحرين فقالوا:
"بحراني" وإلى الحصنين فقالوا: "حصني"؟ هلا قالوا: حصناني كما قالوا
بحراني؟ فقلت: "أيها الأمير، لو قالوا في النسب إلى البحرين "بحري"
لالتبس فلم يدر: آلنسبة إلى "البحرين" وقعت أم إلى البحر؟ فزادوا ألفا
للفرق بينهما كما قالوا في النسب إلى الروح: روحاني؛ ولم يكن لـ
"حصنين" شيء يلتبس به فقالوا: "حصني" على القياس".
فسمعت الكسائي يقول لعمرو بن بزيغ: "لو سألني الأمير عنهما لأجبته
بأحسن من هذه العلة". فقلت: "أصلح الله الأمير، إن هذا يزعم أنك لو
سألته أجاب بأحسن من جوابي" قال: "فقد سألته" قال: "كرهوا أن يقولوا
"حصناني" فيجمعوا بين نونين، ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة فقالوا
"بحراني" لذلك".
قلت: "كيف تنسب إلى رجل من "بني جنّان"؟ إن لزمت
(1/52)
قياسك فقلت: "جني" جمعت بينه وبين المنسوب
إلى الجن، وإن قلت: "جناني" رجعت عن قياسك وجمعت بين ثلاث نونات".
ثم تفاوضنا إلى أن قلت له: "كيف تقول: إن من خير القوم وأفضلهم أو
خيرهم بتة زيد؟ " فأطرق مفكرا وأطال الفكرة فقلت: "أصلح الله الأمير،
لأن يجيب فيخطئ فيتعلم أحسن من هذه الاطالة". فقال: "إن من خير القوم
وأفضلهم أو خيرهم بتة زيدا" فقلت: "أخطأ أيها الأمير" قال: "وكيف؟ "
قلت: "لرفعه قبل أن يأتي باسم إن، ونصبه بعد الرفع، وهذا لا يجيزه
أحد".
فقال شيبة بن الوليد عم ذفافة متعصبا له: "أراد بـ "أو": بل" فقلت:
"هذا لعمري معنى"، فلقنه الكسائي فقال: "ما أردت غيره". فقلت: "أخطأتما
جميعا؛ لأنه غير جائز أن يقال: إن من خير القوم وأفضلهم، بل خيرهم
زيدا" فقال المهدي: "يا كسائي، ما مر بك مثل اليوم". قال: "فكيف الصواب
عندك؟ " فقلت: "إن من خير القوم وأفضلهم أو خيرَهم بتة زيد، على معنى
تكرير إن". فقال المهدي: "قد اختلفتما وأنتما عالمان، فمن يفصل بينكما؟
" قلت: "فصحاء العرب المطبوعون" فبعث إلى أبي المطوق، فعملت أبياتا إلى
أن يجيء، وكان المهدي يميل إلى أخواله من اليمن "وابن منصور الحميري
حاضر" فقلت:
يا أيها السائلي لأخبره ... عمن بصنعاء من ذوي الحسب
حمير ساداتها تقر لها ... بالفضل طرا جحاجح العرب
فإن من خيرهم وأفضلهم ... أو خيرهم بتة أبو كرب
(1/53)
فلما جاء أبو المطوق أنشدته الأبيات,
وسألته عن المسألة فوافقني1.
2- في حضرة الرشيد:
سأل الرشيد اليزيدي والكسائي عن قصر "الشراء" ومده فقال الكسائي:
"مقصور لا غير" وقال اليزيدي: "يقصر ويمد" فقال الكسائي: "من أين لك؟ "
فقال اليزيدي: "من المثل السائر: لا يغتر بالحرة عام هدائها ولا بالأمة
عام شرائها". فقال الكسائي: "ما ظننت أن أحدا يجهل مثل هذا" فقال
اليزيدي: "ما ظننت أن
__________
1 أمالي الزجاجي ص40 ثم قال الزجاجي: المسألة مبنية على الفساد
للمغالطة, فأما جواب الكسائي فغير مرضٍ عند أحد, وجواب اليزيدي غير
جائز عندنا؛ لأنه أضمر "إن" وأعملها وليس من قوتها أن تضمر فتعمل,
والصواب عندنا في المسألة أن يقال: "إن من خير القوم وأفضلهم أو خيرهم
البتة زيد" فتضمر اسم إن فيها وتستأنف بعدها. ا. هـ. قلت: يريد أن
اسمها ضمير شأن محذوف.
هذا والقصة في الأغاني "18/ 76" وفيها ثمة اختلاف يسير وبعض نقص
وإخلال، أما الزيادة فيها فطريفة لدلالتها على أن العصبية في النحو لم
تقتصر على النحاة, بل تناولت كبار رجال الدولة وأغرتهم بالتحيز، ولم
ينج شيبة بن الوليد هذا وهو أحد قواد المهدي من شرها، وإليك تتمة الخبر
برواية الأغاني على لسان أبي محمد نفسه:
"فقال لي المهدي: كيف تنشده أنت؟ " فقلت: "أو خيرَهم بتة أبو كرب" على
إعادة "إن" كأنه قال: "أو إن خيرهم بتة أبو كرب"" فقال الكسائي: "هو
والله قالها الساعة" فتبسم المهدي وقال: "إنك لتشهد له وما تدري" ثم
طلع الأعرابي الذي بعث إليه فألقيت عليه المسائل, فأجاب فيها كلها
بقولي فاستفزني السرور حتى ضربوا بقلنسيتي الأرض وقلت: "أنا أبو محمد"
فقال لي شيبة: "أتتكنى باسم الأمير؟ " فقال المهدي: "والله ما أراد
بذلك مكروها، ولكنه فعل ما فعل للظفر، وقد لعمري ظفر" فقلت: "إن الله
عز وجل أنطقك أيها الأمير بما أنت أهله وأنطق غيرك بما هو أهله" فلما
خرجنا قال لي شيبة: "أتخطئني بين يدي الأمير؟ أما لتعلمن؟ " قلت: "قد
سمعت ما قلت, وأرجو أن تجد غبها" ثم لم أصبح حتى كتبت رقاعا عدة، فلم
أدع ديوانا إلا دسست إليه رقعة فيها أبيات قلتها فيه، فأصبح الناس
يتناشدونها وهي:
عش بجد ولا يضرك نوك ... إنما عيش من ترى بالجدود
عش بجد وكن هبنقة القيـ ... ـسي نوكا أو شيبة بن الوليد
(1/54)
أحدا يفتري بين يدي أمير المؤمنين مثل
هذا"1.
3- في حضرة الرشيد أيضا:
سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد قال: "انظر، في هذا الشعر عيب؟ "
وأنشده:
ما رأينا خربا نـ ... ـقر عنه البيض صقر2
لا يكون العير مهرا ... لا يكون، المهر مهر
فقال الكسائي: "قد أقوى الشاعر" فقال اليزيدي: "انظر فيه" فقال: "أقوى،
لا بد أن ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان".
فضرب اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال: "أنا أبو محمد، الشعر صواب، وإنما
ابتدأ فقال: المهر مهر".
فقال له يحيى بن خالد: "أتكتني بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟ والله
لخطأ الكسائي مع أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء فعلك".
فقال: "لذة الغلبة أنستني من هذا ما أحسن"3.
__________
1 قوله "مثل هذا" ساقط "من المصباح المنير" وعنه روينا الخبر وهو موجود
في التاج نقلا عن المصباح, فلعل الكلمة سقطت من مطبوعة المصباح
الأميرية.
2 إرشاد الأريب 13/ 178. الخرب: ذكر الحبارى، والمعنى: لا يحاول الصقر
استخراج صقر من بيضة الحبارى, و"يكون" الثانية التي في البيت الثاني
توكيد لفظي للأولى وأراد الكسائي بـ "أقوى" التي بعد البيتين: لحن.
3 المصدر السابق، هذا ولليزيدي كلمة في المقابلة بين أبي عمرو بن
العلاء والكسائي لا يحسن إغفالها, فقد جمع الفضل بن الربيع بينه وبين
علي الأحمر الكوفي وسألهما: "من كان أعلم بالنحو: الكسائي أو أبو عمرو
بن العلاء؟ " فكان مما قال اليزيدي وكان تلميذ أبي عمرو: "لم يكن أحد
بالنحو أعلم من أبي عمرو؛ لأنه جاور البدو أربعين سنة ولم يقم الكسائي
بالبدو أربعين يوما!! " مجالس العلماء للزجاجي ص171 طبعة حكومة الكويت.
(1/55)
4- بين المازني ونحاة كوفيين:
حضر المازني ونحاة كوفيون مجلس الواثق يوما فقال الواثق -وهذه رواية
المازني نفسه:
"يا مازني هات مسألة" قلت: "ما تقولون في قول الله تبارك وتعالى:
{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28] لم لم يقل: "بغية" وهي
صفة لمؤنت؟ " فأجابوا بجوابات غير مرضية، فقال لي: "هات". قلت: "لو كان
بغي" على تقدير "فعيل" بمعنى "فاعلة" للحقتها الهاء مثل كريمة وظريفة،
وإنما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعولة في نحو: "امرأة قتيل، وكف
خضيب"؛ و"بغي" ههنا ليس بفعيل إنما هو "فعول" لا تلحقه الهاء في وصف
التأنيث نحو: "امرأة شكور وبئر شطون إذا كانت بعيدة الرشاء"، وتقدير
"بغي": "بغُوي" قلبت الواو ياء، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ياء
ثقيلة نحو "سيد وميت" فاستحسن الجواب1.
5- بين المازني وابن السكيت:
قال المازني:
حضرت يوما مجلس المتوكل وحضر يعقوب بن السكيت, فقال المتوكل: "تكلما في
مسألة نحوية" فقلت له: "اسأل" فقال: "اسأل أنت" فقلت له:
__________
1 طبقات النحويين واللغويين ص95.
(1/56)
ما وزن {نَكْتَلْ} اللفظة الواردة في الآية
المذكورة فيها قصة إخوة يوسف؟
فتسرع وقال: وزنها "نفعل".
فقلت له: "اتئد وانظر". فأفكر ثم قال:
وزنها "نفتعل".
فقلت: "نكتل" أربعة أحرف و"نفتعل" خمسة أحرف، فكيف تقدر الرباعي
بالخماسي؟ فبهت ولم يحر جوابا.
فقال المتوكل: فما تقول أنت يا مازني؟
قلت: وزنها في الأصل "نفتعل" لأنها "نكتيل" فلما تحرك حرف العلة وهو
الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصارت "نكتال" ولما دخل الجازم صارت
"نكتل" "ووزنها نفتل".
فقال المتوكل: هذا هو الحق وانخذل ابن السكيت ووجم، وظهر ذلك عليه.
فلما خرجنا قال ابن السكيت في الطريق: "بالغت اليوم في ذاي" فقلت له:
"لم أقصدك بشيء مما جرى، وإنما مسألة كانت قريبة من خاطري، فذكرتها"1.
6- بين المبرد والثعلب:
"حكي أن بعض الأكابر من بني طاهر سأل أبا العباس ثعلبا أن يكتب له
مصحفا على مذهب أهل التحقيق، فكتب {وَالضُّحَى} بالياء، ومذهب الكوفيين
أنه إذا كان كلمة من هذا النحو
__________
1 إنباه الرواة 1/ 250, وطبقات النحويين واللغويين ص94.
(1/57)
أولها ضمة أو كسرة كتبت بالياء وإن كانت من
ذوات الواو، والبصريون يكتبون بالألف. فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال:
ينبغي أن يكتب "والضحا" بالألف؛ لأنه من ذوات الواو، فجمع ابن طاهر
بينهما:
فقال المبرد لثعلب: "لم كتبت {وَالضُّحَى} بالياء؟ " فقال: "لضمة أوله"
فقال له: "ولم إذا ضم أوله وهو من ذوات الواو تكتبه بالياء؟ ".
فقال: لأن الضمة تشبه الواو، وما أوله واو يكون آخره ياء، فتوهموا أن
أوله واو, فقال المبرد: "أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة؟!! "1.
وفي كتاب "مجالس العلماء" للزجاجي عدد من المجالس بين المبرد وثعلب
تظهر الفارق الكبير بين سداد المبرد وملكته وعلمه، وتخبط ثعلب في نقله
وقياسه، ويفيد الاطلاع على هذا
__________
1 إرشاد الأريب 19/ 118.
هذا, وقد تمثلت في الخصومة بينهما الخصومة بين البصريين والكوفيين
عامة, واشترك فيها الشعر على هوى قائليه: فمحب للوفاق يقول:
أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرد أو ثعلب
وبصري يقول:
رأيت محمد بن يزيد يسمو ... إلى الخيرات في جاه وقدر
وكان الشعر قد أودى فأحيا ... أبو العباس داثر كل شعر
وقالوا ثعلب رجل عليم ... وأين النجم من شمس وبدر
وقالوا ثعلب يفتي ويملي ... وأين الثعلبان من الهزبر
.. إلخ.
والظاهر أن حيوية هذه الخصومة جلبت إليها الوقود الكافي من المتعصبين
حتى ذهبت مثلا في الأدب, فقال أحد المحبين يحن ويتشوق:
فأبداننا في بلدة والتقاؤنا ... عسير كأنا ثعلب والمبرد
انظر بغية الوعاة ص116.
(1/58)
الكتاب جملة، وبين ص119 و126 شيء من هذه
المجالس بينهما "طبعة حكومة الكويت سنة 1962".
6- بين ثعلب والزجاج:
قال الزجاج:
دخلت على أبي العباس ثعلب في أيام المبرد وقد أملى شيئا من "المقتضب"
فسلمت عليه وعنده أبو موسى الحامض وكان يحسدني شديدا ويجاهرني
بالعداوة, وكنت ألين له وأحتمله لموضع الشيخوخة.
فقال لي ثعلب: "قد حمل إلي بعض ما أملاه هذا الخلدي "يعني المبرد"
فرأيته لا يطوع لسانه بعبارة" فقلت له: "إنه لا يشك في حسن عبارته
اثنان، ولكن سوء رأيك فيه يعيبه عندك" فقال: "ما رأيته إلا ألكن
متغلقا".
فقال أبو موسى: "والله إن صاحبكم "يعني سيبويه" ألكن" فأحفظني ذلك ثم
قال:
بلغني عن الفراء أنه قال: "دخلت البصرة فلقيت يونس وأصحابه فسمعتهم
يذكرون سيبويه بالحفظ والدراية وحسن الفطنة، فأتيته فإذا هو أعجم لا
يفصح، سمعته يقول لجارية: "هات ذيك الماء من ذاك الجرة" فخرجت من عنده
ولم أعد إليه" فقلت له: هذا لا يصح عن الفراء، وأنت غير مأمون في هذه
الحكاية، ولا يعرف أصحاب سيبويه من هذا شيئا، وكيف تقول هذا لمن يقول
في أول كتابه: "هذا باب علم ما الكلم من
(1/59)
العربية"؟ وهذا يعجز عن إدراك فهمه كثير من
الفصحاء فضلا عن النطق به, فقال ثعلب: "قد وجدت في كتابه نحوا من هذا:
يقول: "حاشا" حرف يخفض ما بعده كما تخفض "حتى" وفيها معنى الاستثناء".
فقلت: "هذا كذا في كتابه، وهو صحيح؛ ذهب في التذكير إلى الحرف، وفي
التأنيث إلى الكلمة".
قال: "والأجود أن يحمل الكلام على وجه واحد".
قلت: "كل جيد، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ... } 1 وقرئ: "ويعمل صالحا"، وقال عز
وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} 2 ذهب إلى المعنى ثم
قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} 3 ذهب إلى اللفظ, وليس لقائل
أن يقول: لو حمل الكلام على وجه واحد في الآيتين كان أجود؛ لأن كلا
جيد.
فأما نحن "يريد البصريين" فلا نذكر حدود الفراء؛ لأن صوابه فيه أكثر من
أن يعد، ولكن هذا أنت يا ثعلب عملت كتاب "الفصيح" للمبتدئ المتعلم, وهو
عشرون ورقة أخطأت في عشرة مواضع منه ... إلخ.
وفصل الزجاج هذه المواضيع مستشهدا بكلام العرب, فانظرها في مظنتها.
__________
1 سورة الأحزاب 33 الآية 31.
2 سورة يونس 10 الآية 42.
3 الآية التالية 10/ 43.
(1/60)
ثم قال الزجاج: "فما قرئ عليه كتاب الفصيح
بعد ذلك علمي، ثم بلغني أنه سئم ذلك، فأنكر كتاب الفصيح أن يكون له"1.
وهم يصفون ثعلبا بغزارة الحفظ، لكنه "لم يكن مع ذلك موصوفا بالبلاغة،
فإذا كتب كتابا إلى بعض أصحاب السلطان ما خرج عن طبع العامة"2.
في أكثر هذه الأخبار مجال لمن شك فيها أو توقف، فما فاز فيه الكسائي
على خصمه عرفناه من رواية أنصاره الكوفيين, فراوي خبر الأصمعي والكسائي
ثعلب وهو من أئمتهم، وراوي خبر سيبويه والكسائي هو الفراء تلميذ
الكسائي، وراوي خبر اليزيدي هو اليزيدي نفسه, ولم نسمع رواية الطرف
الآخر ممن شاهد الوقائع. ومع هذا نستطيع اعتبارها واقعة كما رووها لنا
ونمضي في بحثنا جاعلين عدم نقض البصريين لهذه الرواية -فيما علمنا-
إقرارا منهم بمضمونها. ونلاحظ بعد ذلك الأمرين الآتيين:
1- لا يحتاج القارئ إلى كثير روية حتى يطمئن إلى أن الحق في كل هذه
المناظرات كان بجانب البصريين: الأصمعي, وسيبويه، واليزيدي، والمبرد؛
وأن حجج الكوفيين في هذه المسائل واهية.
__________
1 إرشاد الأريب 1/ 137-143 وانظر إنباه الرواة 3/ 141.
2 طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص157.
(1/61)
2- لم تكن أكثر هذه المجالس عادلة، فميل
السلطان إلى أحد الخصمين وتقريبه له ومكانته عنده، كل ذلك قوى نفسه
فاستطال على خصمه بدالته ولسانه وجاهه في القصر وعند الشهود، وتحدثت
هذه المجالس بغلبته، إلى أن مضت الأيام وانقضت تلك الاعتبارات, وحكم
التاريخ فرد الحق إلى أهله.
وبعد، فقد بلغ هذا الخلاف أجله، ودرج العلماء والمؤرخون على أن هناك
مذهبا بصريا وآخر كوفيا، فما معالم كل من المذهبين. وما أهم الميزات
لهذا وذاك؟
أبادر قبل بسط هذه المعالم إلى تسجيل أمرين لا بد منهما إذا أردنا
الدقة في البحث والاحتياط في الأحكام:
1- نحن اليوم نملك من كتب البصريين عددا صالحا يساعدنا في إرسال
الأحكام بشيء من الاطمئنان، فقد راجت في الأقطار منذ تأليفها حتى
اليوم، وشرح منها الشيء الكثير، وتداولته الطلبة على مر السنين. ثم كان
الذين ألفوا في طبقات النحويين وأخبارهم ممن طبعت كتبهم ينصر أكثرهم
المذهب البصري، وكان النحو في الشام ومصر والمغرب والأندلس بصري الطابع
في أكثر مسائله أغلب الأزمان، وهذا كله قد خدم كتب البصريين ونحوهم
خدمة لم يحظ ببعضها المذهب الآخر.
أما الكوفيون, فلم يطبع من كتبهم النحوية حتى الآن شيء فيما
(1/62)
أعلم1, وإنما اطلعنا على أقوالهم في كتب
المتأخرين منثورة على المسائل، أي: إن آراءهم وردت في كتب خصومهم -مع
شيء من التجوز2- للرد عليها، فإن نحن اعتمدنا على ذلك في إصدار
الأحكام، لم نكن إلى العدل في شيء. والحق يقضي ألا نرسل حكما بين
فريقين إلا بعد الاستماع إلى حجج كل من فيه, وهذا مع الأسف ليس ميسورا
الآن.
2- هذه الميزات والمعالم الآتية بعد، ليست جامعة مانعة؛ فليست هناك
قاعدة أجمع عليها نحاة البصرة وتوارد على معارضتها نحاة الكوفة، أو قال
بها الآخرون جميعا وعارضها الأولون جميعا. بل كثيرا ما نجد العالم
الواحد من أهل الكوفة مثلا يذهب إلى أحكام يوافق فيها مذهب خصومه
ويخالف أهل مصره.
وطالما تجد هذه الظاهرة في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف
__________
1 بل إني سردت تراجم النحاة في "بغية الوعاة للسيوطي" فلا أذكر أنه مر
بي كتاب في النحو لكوفي بعد أئمته الأولين غير ما جاء في ترجمة أبي
جعفر التنوخي المتوفى سنة 318هـ من أن له مؤلفا في النحو على مذهب
الكوفيين، إلا أن يكون مر شيء وغفلت عنه.
2 وقفني قول الزجاجي وهو ممن خلط المذهبين -في كتاب الإيضاح "ص80":
"أكثر ما أذكر من احتجاجات الكوفيين إنما أعبر عنه بألفاظ البصريين"؛
حتى إذا مضيت في مطالعة الكتاب وجدت علة ذلك في ص"131" في قوله: "إذ لو
تكلفنا حكاية ألفاظ الكوفيين بأعيانها لكان في نقل ذلك مشقة علينا من
غير زيادة في الفائدة، بل لعل أكثر ألفاظهم لا يفهمها من لم ينظر في
كتبهم، وكثير منها قد هذبها من نحكي عنه مذهب الكوفيين مثل ابن كيسان
وابن شقير وابن الخياط وابن الأنباري" ا. هـ.
قلت: وهذا فارق هام بين المدرستين حين لا يتضح مراد الواحدة إلا
باستعارة عبارات الأخرى.
(1/63)
لابن الأنباري"1 وفي كتب النحو الأخرى2. وما أكثر ما نقرأ فيها: "قال
البصريون إلا فلانا وفلانا كذا، وذهب الكوفيون إلا فلانا إلى كذا".
ولم يطرد الصواب في أحد المذهبين اطرادا، بل تجده تارة مع هؤلاء وتارة
مع أولئك، وحينا وسطا بينهما. |