من تاريخ النحو العربي 3- الفروق بين المذهبين البصري والكوفي:
بعد الاحتياط المتقدم نحصر الكلام على المذهبين في ناحيتين اثنتين
إليهما مرد الأمر كله، وهما: السماع والقياس.
أمر السماع:
تقع البصرة على سيف البادية، وأكثر عربها من قيس وتميم، وقد عرفت
شأنهما في الاحتجاج، وتحف بها قبائل عربية سليمة السليقة لم تفسد لغتها
بمخالطة الأعاجم، فكانت هذه القبائل ترد سوق البصرة المشهورة "المربد"،
وأنت تعلم أن المربد كانت عكاظ الإسلام، ففيها تناشد وتفاخر كما فيها
تجارة وبيع3،
__________
1 انظر مثلا المسألة الثالثة "1/ 19" في خلافهم حول الألف والواو
والياء في التثنية والجمع: هل هي إعراب كالفتحة والضمة والكسرة أو هي
حروف إعراب؟ فتجد الكوفيين قالوا بالأول، والبصريين بالثاني، ووافق
قطرب "البصري" مذهب الكوفيين.
وانشق المازني والمبرد والأخفش عن البصريين برأي ثالث.
2 انظر مثلا مغني اللبيب: مادة "كلا" فقد اختلف في معناها الكسائي
والفراء وكلاهما كوفي؛ قال الأول: هي بمعني حقا, وقال الثاني: هي بمعني
"ألا" الاستفتاحية.
3 انظر بسط ذلك في كتابنا "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام".
(1/64)
وذلك له أثره في فصاحة أهل البصرة وسلامة
لغتهم. ثم كانت هناك رحلات متبادلة، فعلماء البصرة دائمو الترحال إلى
البادية والجزيرة يتلقون عن أعرابها، والأعراب دائمو الورود إلى البصرة
لشئون معايشهم، فقد ضرب في بوادي الجزيرة الأصمعي وأبو عبيدة ويونس
وأبو زيد والخليل وغيرهم، ثم كانوا يتحرون في الأخذ: أما العربي
فيتحرون فيه سلامة لغته وسليقته1, وأما الراوي فالصدق والضبط، ثم كانوا
لا يعتدون بالشاهد إذا لم يعرف قائله أو لم يروه عربي يوثق بلغته2, ومن
هنا عجت بلدهم بفصحاء الأعراب المعروفين في كتب الأدب الذين كانوا من
مفاخر البصرة التي يعتدها البصريون.
أما الكوفة فهي أدخل في العراق وأقرب إلى الاختلاط بالأعاجم، ولغة
أعرابها ليست لها سلامة لغة أعراب البصرة، فأكثرهم يمن وبها قليل من
قبائل أخرى، واليمن -كما رأيت في الكلام على الاحتجاج- لا يحتج بلغتها
لتغيرها بالاختلاط بالفرس والأحباش، ثم بين الكوفة وجزيرة العرب صحراء
السماوة الشاسعة؛ فلذا لم تكن رحلات علمائها إلى الجزيرة كرحلات علماء
البصرة، والكسائي الذي ارتحل لم يرتحل إلا لما تتلمذ على الخليل وسأله,
فأرشده إلى الرحلة, وقد مر بك أن أبا
__________
1 استضعف أبو عمرو بن العلاء فصاحة أبي خيرة الأعرابي لما سأله: كيف
تقول: "استأصل الله عرقاتهم! " ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو:
"هيهات أبا خيرة، لان جلدك" الخصائص 2/ 13.
2 في كتاب سيبويه "1050" شاهدا, خمسون منها لم يعرف قائلوها، فاعتذروا
بأن سيبويه وثق برواتها. ومع هذا كان بين هذه الخمسين ما وضع وضعا, وهو
نزر يسير لا يعتد به.
(1/65)
عمرو بن العلاء جاور البدو أربعين سنة, ولم
يقم الكسائي بالبدو غير أربعين يوما1! بل نقلوا أن الكسائي "حمل إلى
الأخفش البصري خمسين دينارا, وقرأ عليه كتاب سيبويه سرا"2.
نعم كان للكوفة سوق أرادوا بها أن تحاكي مربد البصرة وهي "سوق كناسة"،
لكن لم يكن لها ذلك الشأن، وهي إلى أن تكون داعية إفساد اللغة أقرب
منها إلى أن تكون عاملا في صيانتها؛ لأن الأعراب الذين يؤمونها غير
سليمي السلائق.
كل هذه العوامل صرفت الكوفيين إلى رواية الشعر، فذلك هو الميسور لهم،
وزعموا أن سبب علمهم بالشعر وسبقهم فيه أهل البصرة: أن المختار بن أبي
عبيد لما خرج بالكوفة قيل له: "إن تحت القصر الأبيض الذي كان للنعمان
كنزا"، فاحتفر فوجد الطنوج التي كان النعمان أمر أن ينسج فيها أشعار
العرب، فأخرجها. قالوا: فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالشعر، هذه رواية
حماد الراوية الكوفي3.
هذا حال من ينقلون عنه من حيث السليقة وسلامة اللغة، وأما الجهة
الثانية وهي صدق الراوي وضبطه فلم يعنوا بها؛ ولذا كثر الموضوع المصنوع
في أكثر رواياتهم، قال أبو الطيب اللغوي: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع
منه بالبصرة، ولكن
__________
1 مجلس العلماء للزجاجي ص171 طبعة حكومة الكويت.
2 انظر مثلا مراتب النحويين ص74.
3 انظر الخصائص 1/ 387. الطنوج: الكراريس, والخبر كله أسطورة من الصعب
تصديقها، ولعله وضع كما توضع أشباهه من الأخبار النافخة في العصبية
للبلدان.
(1/66)
أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك
بين في دواوينهم"1 وأبعد من ذلك في الدلالة قصة خلف الأحمر راويتهم
الكبير فقد قال:
"أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول
وآخذ الصحيح. ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم، أنا تائب إلى الله تعالى؛ هذا
الشعر لي". فلم يقبلوا مني وبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب2.
أما راويتهم الأكبر "حماد" فهو الشمس شهرة في كذبه ووضعه، و"قد سلط على
الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا ... فلا يزال يقول الشعر
يشبه به مذهب رجل من الأقدمين ويدخله في شعره، ويحمل عنه ذلك في الآفاق
فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين
ذلك"3.
ولا تنس استشهاده باللحن أيضا حتى امتنع الكميت الشاعر عن إملاء شعره
عليه, وقد طلب ذلك منه, وقال له: "أنت لحان, ولا أكتبك شعري"4.
وقد عجب يونس "كيف يأخذ الناس عن حماد وهو يلحن
__________
1 عن مراتب النحويين ص74.
2 وفيات الأعيان 1/ 393.
3 كلمة المفضل الضبي, إرشاد الأريب 10/ 265. وعلى أن المفضل الضبي هذا
"أعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة" بتعبير ابن سلام "طبقات الشعراء
ص21" فقد وقع هو نفسه فيما خاف منه، فذكر ابن سلام في كلامه على عدي بن
زيد أنه "حمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد واضطرب فيه خلف وخلط فيه
المفضل فأكثر" ص117.
4 الموشح للمرزباني ص195.
(1/67)
أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك
بين في دواوينهم"1 وأبعد من ذلك في الدلالة قصة خلف الأحمر راويتهم
الكبير فقد قال:
"أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول
وآخذ الصحيح. ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم، أنا تائب إلى الله تعالى؛ هذا
الشعر لي". فلم يقبلوا مني وبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب2.
أما راويتهم الأكبر "حماد" فهو الشمس شهرة في كذبه ووضعه، و"قد سلط على
الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا ... فلا يزال يقول الشعر
يشبه به مذهب رجل من الأقدمين ويدخله في شعره، ويحمل عنه ذلك في الآفاق
فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين
ذلك"3.
ولا تنس استشهاده باللحن أيضا حتى امتنع الكميت الشاعر عن إملاء شعره
عليه, وقد طلب ذلك منه, وقال له: "أنت لحان, ولا أكتبك شعري"4.
وقد عجب يونس "كيف يأخذ الناس عن حماد وهو يلحن
__________
1 عن مراتب النحويين ص74.
2 وفيات الأعيان 1/ 393.
3 كلمة المفضل الضبي, إرشاد الأريب 10/ 265. وعلى أن المفضل الضبي هذا
"أعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة" بتعبير ابن سلام "طبقات الشعراء
ص21" فقد وقع هو نفسه فيما خاف منه، فذكر ابن سلام في كلامه على عدي بن
زيد أنه "حمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد واضطرب فيه خلف وخلط فيه
المفضل فأكثر" ص117.
4 الموشح للمرزباني ص195.
(1/67)
ويكسر الشعر ويكذب ويصحف"1 ولا تنس أنه
ديلمي من السبي.
وحتى كانوا إذا بالغوا في الثناء على علم كوفي شبهوا روايته برواية أهل
البصرة, فقالوا في ترجمة ابن الأعرابي تلميذ المفضل الضبي: "ولم يكن
أحد من الكوفيين أشبه رواية برواية البصريين منه"2.
كان من الطبيعي إذًا أن يطرح الثقات روايات أهل الكوفة وقد ملأها حماد
وخلف وغيرهما بالمصنوع، وصار ذلك مما يميز مدرسة الكوفة من مدرسة
البصرة، وعرف ذلك الخاص والعام، حتى أتى من ألف في طبقات النحويين فسجل
الظاهرة الآتية:
"لا يعلم أحد من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة إلا
أبا زيد الأنصاري البصري، فقد روى عن المفضل الضبي الكوفي"3.
أما أهل الكوفة فيروون عن أهل البصرة إذ كانوا أساتذتهم،
__________
1 مراتب النحويين ص73.
2 نزهة الألباء لابن الأنباري ص175.
3 بغية الوعاة ص42.
(1/68)
حتى الكسائي الذي قرأ على الخليل ويونس
وعيسى بن عمر، ورأى تحريهم فيما ينقلون وفيمن يشافهون؛ زايل التحري حين
انتقل إلى بغداد وكان أمره كما قال أبو زيد الأنصاري: "قدم علينا
الكسائي البصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحوا كثيرا، ثم
صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمية فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن،
فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله"1.
كل ما تقدم مشهور متعارف عند أهل العلم قديما، حتى إن ابن سلام لما نقل
قوله المفضل الضبي: "للأسود بن يعفر ثلاثون ومائة قصيدة" عقب عليه
بقوله: "ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبا منه، وقد علمت أن أهل الكوفة
يروون له أكثر مما نروي, ويتجوزون في ذلك بأكثر مما تجوزنا"2.
ولا تظنن هذا الطابع طبع مدرسة الكوفة في علوم العربية فحسب، بل هو
سمتهم في كل ما يعتمد السماع، وإليك حكم الخطيب البغدادي على المدرسة
الكوفية ومدرسة البصرة في الحديث قال: "ولأهل البصرة من السنن الثابتة
بالأسانيد الواضحة ما ليس لغيرهم مع إكثارهم. والكوفيون مثلهم في
الكثرة غير أن رواياتهم كثيرة الدغل, قليلة السلامة من العلل"3.
هذا فرق ما بين المدرستين في أمر السماع وصحته والتحري فيه.
__________
1 إرشاد الأريب 13/ 182. الحطمية: قرية على فرسخ من شرقي بغداد، وذكر
الأصمعي "أن الكسائي يأخذ اللغة عن أعراب الحطمية, ينزلون بقطربل "قرية
بين بغداد وعكبرا" وغيرها من قرى سواد بغداد، فلما ناظر سيبويه استشهد
بكلامهم, واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه" 13/ 181.
2 طبقات الشعراء ص123.
3 نقله المرحوم جمال الدين القاسمي في كتابه قواعد التحديث ص58.
(1/69)
الفروق بين المذهبين
البصري والكوفي
أمر السماع
...
3- الفروق بين المذهبين البصري والكوفي:
بعد الاحتياط المتقدم نحصر الكلام على المذهبين في ناحيتين اثنتين
إليهما مرد الأمر كله، وهما: السماع والقياس.
أمر السماع:
تقع البصرة على سيف البادية، وأكثر عربها من قيس وتميم، وقد عرفت
شأنهما في الاحتجاج، وتحف بها قبائل عربية سليمة السليقة لم تفسد لغتها
بمخالطة الأعاجم، فكانت هذه القبائل ترد سوق البصرة المشهورة "المربد"،
وأنت تعلم أن المربد كانت عكاظ الإسلام، ففيها تناشد وتفاخر كما فيها
تجارة وبيع1،
__________
1 انظر بسط ذلك في كتابنا "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام".
(1/64)
وذلك له أثره في فصاحة أهل البصرة وسلامة
لغتهم. ثم كانت هناك رحلات متبادلة، فعلماء البصرة دائمو الترحال إلى
البادية والجزيرة يتلقون عن أعرابها، والأعراب دائمو الورود إلى البصرة
لشئون معايشهم، فقد ضرب في بوادي الجزيرة الأصمعي وأبو عبيدة ويونس
وأبو زيد والخليل وغيرهم، ثم كانوا يتحرون في الأخذ: أما العربي
فيتحرون فيه سلامة لغته وسليقته1, وأما الراوي فالصدق والضبط، ثم كانوا
لا يعتدون بالشاهد إذا لم يعرف قائله أو لم يروه عربي يوثق بلغته2, ومن
هنا عجت بلدهم بفصحاء الأعراب المعروفين في كتب الأدب الذين كانوا من
مفاخر البصرة التي يعتدها البصريون.
أما الكوفة فهي أدخل في العراق وأقرب إلى الاختلاط بالأعاجم، ولغة
أعرابها ليست لها سلامة لغة أعراب البصرة، فأكثرهم يمن وبها قليل من
قبائل أخرى، واليمن -كما رأيت في الكلام على الاحتجاج- لا يحتج بلغتها
لتغيرها بالاختلاط بالفرس والأحباش، ثم بين الكوفة وجزيرة العرب صحراء
السماوة الشاسعة؛ فلذا لم تكن رحلات علمائها إلى الجزيرة كرحلات علماء
البصرة، والكسائي الذي ارتحل لم يرتحل إلا لما تتلمذ على الخليل وسأله,
فأرشده إلى الرحلة, وقد مر بك أن أبا
__________
1 استضعف أبو عمرو بن العلاء فصاحة أبي خيرة الأعرابي لما سأله: كيف
تقول: "استأصل الله عرقاتهم! " ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو:
"هيهات أبا خيرة، لان جلدك" الخصائص 2/ 13.
2 في كتاب سيبويه "1050" شاهدا, خمسون منها لم يعرف قائلوها، فاعتذروا
بأن سيبويه وثق برواتها. ومع هذا كان بين هذه الخمسين ما وضع وضعا, وهو
نزر يسير لا يعتد به.
(1/65)
عمرو بن العلاء جاور البدو أربعين سنة, ولم
يقم الكسائي بالبدو غير أربعين يوما1! بل نقلوا أن الكسائي "حمل إلى
الأخفش البصري خمسين دينارا, وقرأ عليه كتاب سيبويه سرا"2.
نعم كان للكوفة سوق أرادوا بها أن تحاكي مربد البصرة وهي "سوق كناسة"،
لكن لم يكن لها ذلك الشأن، وهي إلى أن تكون داعية إفساد اللغة أقرب
منها إلى أن تكون عاملا في صيانتها؛ لأن الأعراب الذين يؤمونها غير
سليمي السلائق.
كل هذه العوامل صرفت الكوفيين إلى رواية الشعر، فذلك هو الميسور لهم،
وزعموا أن سبب علمهم بالشعر وسبقهم فيه أهل البصرة: أن المختار بن أبي
عبيد لما خرج بالكوفة قيل له: "إن تحت القصر الأبيض الذي كان للنعمان
كنزا"، فاحتفر فوجد الطنوج التي كان النعمان أمر أن ينسج فيها أشعار
العرب، فأخرجها. قالوا: فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالشعر، هذه رواية
حماد الراوية الكوفي3.
هذا حال من ينقلون عنه من حيث السليقة وسلامة اللغة، وأما الجهة
الثانية وهي صدق الراوي وضبطه فلم يعنوا بها؛ ولذا كثر الموضوع المصنوع
في أكثر رواياتهم، قال أبو الطيب اللغوي: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع
منه بالبصرة، ولكن
__________
1 مجلس العلماء للزجاجي ص171 طبعة حكومة الكويت.
2 انظر مثلا مراتب النحويين ص74.
3 انظر الخصائص 1/ 387. الطنوج: الكراريس, والخبر كله أسطورة من الصعب
تصديقها، ولعله وضع كما توضع أشباهه من الأخبار النافخة في العصبية
للبلدان.
(1/66)
أمر القياس:
رسم البصريون خطتهم في النحو بعد أن جعلوا نصب أعينهم الهدف الذي إليه
يرمون، وهو عصمة اللسان من الخطأ، وتيسير العربية على من يتعلمها من
الأعاجم؛ ولذا تحروا ما نقلوا عن العرب ثم استقروا أحواله فوضعوا
قواعدهم على الأعم الأغلب من هذه الأحوال، فإن تناثر هنا وهناك نصوص
قليلة لا تشملها قواعدهم سلكوا بها -بعد التحري من صحة نقلها عن العرب
المحتج بكلامهم- إحدي طريقتين: إما أن يتأولوها حتى تنطبق عليها
القاعدة، وإما أن يهملوا أمرها لقلتها فيحفظوها ولا يقيسوا عليها،
جاعليها من الصنف الذي سموه مطردا في السماع شاذا في القياس، وذلك مثل
"استحوذ واستصوب" والقياس فيها الإعلال مثل: "استقال، استجاد، استطال
... إلخ" فقالوا: تحفظ الكلمات النادرة التي وردت عن العرب في هذا
الباب ولا يقاس عليها، بل منهم من ذهب إلى أن اتخاذ القياس فيها
"استحاذ، استصاب" غير خطأ.
وهم الذين أمعنوا في أحوال الكلام العربي، واستنبطوا علله، وحكموا فيها
المنطق والعقل حتى جاءت قواعدهم في القياس والنحو الذي بني عليها
متماسكة متناسقة في الجملة، ولا بد في كل تنسيق من تشذيب يخرج بعض
النتوء من الهيكل المشذب. ولم يكن إلى الصواب من عاب عليهم من المحدثين
(1/70)
أنهم بتعميم هذه القواعد قد أهدروا شيئا من
اللغة, فهم حين يختارون بين اللغتين أشيعهما وأقربهما إلى القياس، قد
قاموا بخير ما يمكن أن يقوم به من يريد حفظ اللغة، ومع أن الكوفيين
جمعوا ما هب ودب ولم يفرطوا شيئا مما وصل إليهم، لم يدعوا ولم يدع لهم
أحد أنهم لموا اللغة من أطرافها وأحصوها، وإنا نجد عندهم كل لغات العرب
بلهجات قبائلها؛ بل نحن أحرى أن نجد عند البصريين المنظمين المنسقين ما
لا نجده عند غيرهم، فالنظام يحفظ في نسق ما لا يستطيع غيره أن يحفظه.
أما الكوفيون فلم يكن لهم أصول يبنون عليها غير ما أخذوه عن أساتذتهم
البصريين ولم يحسنوه، ثم جعلوا من عدم المنهج في سماعهم منهجا خاصا
لهم، فسمعوا الشاذ واللحن والخطأ، وأخذوا عمن فسدت لغته من الأعراب
وأهل الحضر؛ فلما اقتضتهم المنافسة أن يكون لهم قياس كما لأولئك بنوه
على ما عندهم مما يتنزه عن روايته البصري، ثم جعلوا كل شاذ ونادر قاعدة
لنفسه، فانتشرت عليهم قواعدهم ولم يعد لها ما يمسكها من نظام أو منطق،
وضاعت الغاية من وضع النحو فلم يعد -في أيديهم- أداة تيسير لتعلم
العربية، بعد أن أصبحت له قواعد بعدد ما جمعوا من شواهد، وهذا شيخهم
وكبيرهم الكسائي: "كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن وشعر
غير أهل الفصاحة، والضرورات، فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد
النحو"1 وحتى ضاق به وبقياسه
__________
1 إرشاد الأريب 13/ 183. ويقول ابن درستويه: "كان الكسائي يسمع الشاذ
الذي لا يجوز إلا في الضرورة, فيجعله أصلا ويقيس عليه؛ فأفسد النحو
بذلك" بغية الوعاة ص236.
(1/71)
وبسماعه اليزيدي فقال:
كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول
فجاءنا قوم يقيسونه ... على لغى أشياخ قطر بل
فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي
إن الكسائي وأشياعه ... يرقون بالنحو إلى أسفل1
وغلب هذا الانحراف على الكوفيين حتى قال الأندلسي شارح المفصل:
"الكوفيون لو سمعوا بيتا واحدا فيه جواز شيء مخالف للأصول, جعلوه أصلا
وبوبوا عليه"2.
أما قياسهم نفسه ومقدار جودته, فقد مر بك في المناظرات نمط منه، وعرفت
وهيه حين يعللون بالتوهم مرة في رسم {وَالضُّحَى} ، وبتسليط فعل مقدر
على أحد المتعاطفين دون الثاني في قضية "فإذا هو إياها".
اتجه بعض الباحثين المحدثين إلى عد المذهب الكوفي مذهب سماع, على حين
عدوا المذهب البصري مذهب قياس، فذهب الأستاذ أحمد أمين إلى أنهم
"يحترمون كل ما جاء عن العرب, ويجيزون للناس أن يستعملوا استعمالهم"3،
وبالغ المرحوم طه الراوي فقال: "أما مذهب الكوفيين فلواؤه بيد السماع،
لا يخفر له ذمة ولا ينقض له عهدا، ويهون على الكوفي نقض أصل من أصوله
أو نسف قاعدة من قواعده ولا يهون عليه
__________
1 أخبار النحويين البصريين ص44, وبغية الوعاة ص336, وإرشاد الأريب 20/
31.
2 الاقتراح 100.
3 ضحى الإسلام 2/ 295.
(1/72)
عليه إطراح المسموع على الأكثر"1.
وأود هنا -بعد ما مر بك- أن أحرر هذا الأمر فأفرق بين القياس ذي الأصول
المقررة والقياس المشوش الذي لا ضبط له. فالصحيح أن الفريقين كانا
يقيسان، وربما كان الكوفيون أكثر قياسا إذا راعينا "الكم" فهم يقيسون
على القليل والكثير والنادر والشاذ، ولم نعلم لهم مناهج محررة في
القياس. أما البصريون فهم أقيس إذا راعينا "الكيف" -والحق مراعاته- فهم
لا يقيسون إلا على الأعم الأغلب، ولهم في القياس أصول عامة يراعونها.
والزمن حكم لعلمهم بالبقاء؛ إذ كان الأنسب والأضبط, فكان نحو الناس حتى
هذا اليوم بصريا في أغلبه.
تصرفت الحياة في هذا الأمر بما لا يشعر به البصريون ولا الكوفيون، إذ
إن لها اختيارها الخاص الملائم: تقبل ما يروقها وتحييه غير آبهة لما
يقول هؤلاء ولا ما يقول أولئك، وإنما السليقة اللغوية الخفية في نفوس
المتكلمين هي التي احتفظت بما كان أقرب لروح العربية الأولى, فمات بل
لم يولد ما جانف هذه السليقة، فما أحد قال ولا يقول اليوم: "الرجال
قام" وإن قال المذهب الكوفي بتقديم الفاعل على الفعل.
أما السماع فهل كان الكوفيون "يحترمونه" حقا كما قال الأستاذ أحمد
أمين؟ "وهل كان لواؤه بيدهم لا يخفرون له ذمة" كما قال المرحوم الأستاذ
طه الراوي؟ لعلك بعد ما سبق لك موقن معي أن السماعيين هم البصريون لا
الكوفيون؛ فمن
__________
1 نظرة في النحو: مجلة المجمع العلمي العربي 14/ 319.
(1/73)
احترام السماع صيانته وحفظه من كل موضوع،
ومن احترامه تحري حال المسموع منه، فلا يدس فيه كلام الذين فسدت لغتهم
من أعراب الحطمية وأشياخ قطربل، ومن احترامه ألا نساوي بين القليل
النادر والأكثر الشائع فنغمط حق هذا الأخير, وإن حشرنا فيه الضعيف
والشاذ والخطأ مما يقع فيه أعراب السواد، والشعر المصنوع مما دسه حماد
وخلف الكوفيان؛ خفر لذمته ونقض لعهده1.
الحق أن البصريين عنوا بالسماع فحرروه وضبطوه "واحترموه", على حين زيفه
الكوفيون وبلبلوه، والأمر في القياس على هذه الوتيرة، نظمه وحرر قواعده
وأحسن تطبيقه البصريون، على حين هو في يد الكوفيين مشوش غير واضح
المعالم ولا منسجم في أجزائه، ولا مطرد. بل نجد فيه ظاهرة غريبة جدا،
وهي إطلاقهم -وهم المتقيدون بالسماع- الاشتقاق فيما لم يسمع عن العرب،
فقد ذهبوا إلى قياس مفعل وفعال على نحو مثنى وثلاث من خمسة إلى تسعة
على حين لم يسمع عن العرب ذلك إلا من واحد إلى أربعة، والبصريون أنفسهم
-وهم القياسيون- منعوه "إلا المبرد منهم" لعدم السماع، ولأن يكون ذلك
من البصريين أحرى إذ هو بمذهبهم أشبه وعن مذهب الكوفيين أبعد. وهذا
يؤكد لك ما ذهبت إليه من أنه مذهب غير منسجم الأجزاء.
أميل إذًا إلى أن المذهب الكوفي لا هو مذهب سماع صحيح, ولا
__________
1 كان يونس بن حبيب يقول: إن لم يكن بزرج النحوي "الكوفي" أروى الناس
فهو "أكذب الناس" كان كذابا، وكثيرا ما يحدث بالشيء عن رجل ثم عن غيره.
انظر ترجمته في الفهرست وفي إنباه الرواة.
(1/74)
مذهب قياس منظم، لكن التاريخ يؤيد وجود
المذهبين: مذهب السماع ومذهب القياس، وهما حقا وجدا، ولكن في البصرة لا
في الكوفة. أما القياس فليست بصريته موضع خلاف، وأما السماع الصحيح
فإني أوثر أن أنقل فيه كلام الأستاذ أحمد أمين نفسه في أن هذه المدرسة
مدرسة بصرية، قال:
"كانت هاتان النزعتان في البصرة في أيامها الأولى، فهم يقولون: إن ابن
أبي إسحاق الحضرمي وتلميذه عيسى بن عمر كانا أشد ميلا للقياس, وكانا لا
يأبهان بالشواذ ولا يتحرجان من تخطئة العرب؛ وكان أبو عمرو بن العلاء
وتلميذه يونس بن حبيب البصريان أيضا على عكسهما: يعظمان قول العرب
ويتحرجان من تخطئتهم، فغلبت النزعة الأولى على من أتى بعد من البصريين،
وغلبت النزعة الثانية على من أتى بعد من الكوفيين, ولا سيما الكسائي
الكوفي".
وهذا حق مع استدراك واحد، هو أن أبا عمرو ويونس يعظمان قول العرب بعد
التحري والتثبت من أنه كلام العرب المحتج بهم، أما الكوفيون فلا
يتحرون، ولو قال الأستاذ: "فغلبت النزعة الثانية مشوهة ... إلخ" لطبق
المفصل، وجميل ما حكم به بعد ذلك بين المذهبين:
"ونرى في هاتين النزعتين أن البصريين كانوا أكثر حرية وأقوى عقلا، وأن
طريقتهم أكثر تنظيما وأقوى سلطانا على اللغة، وأن الكوفيين أقل حرية
وأشد احتراما لما ورد عن العرب, ولو موضوعا "كذا"، فالبصريون يريدون أن
ينشئوا لغة
(1/75)
يسودها النظام والمنطق، ويميتوا كل أسباب
الفوضى من رواية ضعيفة أو موضوعة أو قول لا يتمشى مع المنطق, والكوفيون
يريدون أن يضعوا قواعد للموجود حتى الشاذ، من غير أن يهملوا شيئا حتى
الموضوع"1.
وبهذا لا يكون من الدقة -في رأيي- إطلاق النزعة السماعية على المذهب
الكوفي, والنزعة القياسية على المذهب البصري. والدقة التي يؤيدها
التاريخ والإمعان فيه وفي أقوال الكوفيين والبصريين ألا يكون مذهب بصري
يقابله مذهب كوفي, بل نزعة سماعية يقابلها نزعة قياسية يختلف حظ كل
منهما صحة وحالا ومقدارا بين البلدين، بل بين نحاة كل بلد على حدة. على
ذلك الأساس يصح أن نعيد النظر في النحو وتاريخه ورجاله بهذا التصنيف
الجديد، بعد أن علمنا أن النزعتين تتمثلان على حقهما بالبصرة لا
بالكوفة.
وبعد, فهذه أحكام تقريبية لا مطردة، إذ إن في المذهب الكوفي مسائل
جيدات تختار على مثيلاتها في المذهب البصري، كإعمالهم مثلا اسم المصدر
عمل المصدر، فحكمهم في ذلك صحيح واضح تؤيده روح القواعد والمنطق،
وشاهداهم عليه صحيحان قويان2
__________
1 ضحى الإسلام 2/ 296.
هذا وللقاضي الجرجاني في كتابه "الوساطة" الذي ألفه للدفاع عن المتنبي
الكوفي والحكم بينه وبين خصومه، حكم يسرني إثباته له؛ لما فيه من توضيح
الأمر هنا على رغم سوقه مساق الدفاع عن الكوفيين, قال:
ولأهل الكوفة رخص لا تكاد توجد لغيرهم من النحويين, غير أنهم لا يبلغون
بها مرتبة "الإهمال" للقواعد العامة. انظر الوساطة ص466.
2 قول القطامي يمدح زفر بن الحارث الكلابي:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
والحديث الشريف: "من قبلة الرجل امرأته الوضوء".
ففزع البصريون في رد القاعدة إلى أن الحديث مروي بالمعنى، وإلى أن
البيت فيه ضرورة. لكن الزمن حكم للكوفيين فصحت قاعدتهم وسار عليها
الناس, وقبلها النحاة حتى يومنا هذا. ونحو من هذا: القاعدة التي وضعها
البصريون في وجوب إعادة الجار قبل المعطوف على المجرور ولم يلتزم العرب
ذلك.
(1/76)
وما اتجهوا إليه في إعراب "نعم وبئس"1 أيسر
وأقرب إلى الفطرة اللغوية من مذهب إخوانهم البصريين، وكذهاب بعضهم في
قضية "أشياء" وأنها جمع لشيء, منعت من الصرف لشبه ألفها بألف التأنيث2،
ولهم أشباه هذه المسائل.
وبذلك تدرك صواب الظاهرة التي قدمت بها هذا الكلام من أن الحق يصيبه
هؤلاء تارة, وهؤلاء تارة.
ونختتم هذه الفقرة بمثل صغير من الخلاف بين المدرستين ننتزعه من كتاب
"الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري" نموذجا لقضايا جاوزت المائة
في هذا الكتاب، يبسط في كل منها رأي الكوفيين وحججهم, ثم رأي البصريين
وحججهم مع ردودهم على حجج الكوفيين غالبا.
__________
1 انظرها في كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" ص66.
2 المصدر السابق ص482, فقد ركب البصريون في هذه المسألة متن عمياء
واضطروا إلى الاستغاثة بأوهى العلل حتى بانحراف اللسان, وكان من حججهم
قول بعض العرب: "ما أيطبه" بدل "ما أطيبه"!.
(1/77)
|