من تاريخ النحو العربي نموذج من الخلاف بين
المذهبين:
92- مسألة سوف:
ذهب الكوفيون إلى أن السين التي تدخل على الفعل المستقبل نحو "سأفعل"
أصلها "سوف"، وذهب البصريون إلى أنها أصل بنفسها.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك؛ لأن سوف كثر
(1/77)
استعمالها في كلامهم وجريها على ألسنتهم،
وهم أبدا يحذفون لكثرة الاستعمال كقولهم: "لا أدر، ولم أبل، ولم يك،
وخذ, وكل" وأشباه ذلك، والأصل:
"لا أدري، ولم أبال، ولم يكن، واأخذ، واأكل" فحذفوا في هذه المواضع وما
أشبهها لكثرة الاستعمال, فكذلك ههنا: لما كثر استعمال "سوف" في كلامهم
حذفوا منها الواو والفاء تخفيفا.
والذي يدل على ذلك أنه قد صح عن العرب أنهم قالوا في "سوف أفعل": "سو
أفعل" فحذفوا الفاء، ومنهم من قال: "سف أفعل" فحذف الواو, وإذا جاز أن
يحذف الواو تارة والفاء أخرى لكثرة الاستعمال جاز أن يجمع بينهما في
الحذف مع تطرق الحذف إليهما في اللغتين لكثرة الاستعمال. والذي يدل على
ذلك أن السين تدل على ما تدل عليه سوف من الاستقبال، فلما شابهتها في
اللفظ والمعنى دل على أنها مأخوذة منها, وفرع عليها.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك؛ لأن الأصل في كل حرف
يدل على معنى ألا يدخله الحذف وأن يكون أصلا في نفسه، والسين حرف يدل
على معنى، فينبغي أن يكون أصلا في نفسه لا مأخوذا من غيره.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: إن "سوف" لما كثر استعمالها
في كلامهم حذفوا الواو والفاء لكثرة الاستعمال قلنا: هذا فاسد؛ فإن
الحذف لكثرة الاستعمال ليس بقياس ليجعل أصلا لمحل الخلاف، على أن الحذف
ولو وجد كثيرا
(1/78)
في غير الحرف من الاسم والفعل فقلما يوجد
في الحرف، وإن وجد الحذف في الحرف في بعض المواضع فهو على خلاف القياس,
فلا يجعل أصلا يقاس عليه.
وأما ما رووه عن العرب من قولهم في "سوف أفعل": "سو أفعل" و"سف أفعل"
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إن هذه رواية تفرد بها بعض الكوفيين؛ فلا يكون فيها حجة.
والوجة الثاني: إن صحت الرواية عن العرب, فهو من الشاذ الذي لا يعبأ به
لقلته.
والثالث: أن حذف الفاء والواو على خلاف القياس؛ فلا ينبغي أن يجمع
بينهما في الحذف؛ لأن ذلك يؤدي إلى ما لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس
في كلامهم حرف حذف جميع حروفه طلبا للخفة على خلاف القياس, حتى لم يبق
منه إلا حرف واحد, والمصير إلى ما لا نظير له في كلامهم مردود.
وأما قولهم: "إن السين تدل على الاستقبال كما أن "سوف" تدل على
الاستقبال" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان ينبغي أن
يستويا في الدلالة على الاستقبال على حد واحد، ولا شك أن "سوف" أشد
تراخيا في الاستقبال من السين، فلما اختلفا في الدلالة دل على أن كل
واحد منهما حرف مستقل بنفسه غير مأخوذ من صاحبه, والله أعلم"1.
__________
1 الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري ص379 "مطبعة الاستقامة في
القاهرة".
(1/79)
جرى بعض الباحثين قديما وحديثا على رد
الخلاف النحوي بين هذين المصرين العربيين إلى السياسة، وهو رأي سطحي لا
يثبت عند التدقيق؛ فأهل النظر في كل فن تتباين أنظارهم كثيرا دون أن
يكون للسياسة أو غيرها في ذلك أثر، وإنما هو الاجتهاد المحض، وهؤلاء
أئمة البصريين يختلفون -فيما بينهم- اتجاها واجتهادا في مسائل كثيرة.
نعم ربما كان للسياسة أثر ما في ميل الأمراء العباسيين إلى الكوفيين،
لكن هذا شيء وتوجيه الفن إلى اتجاه خاص شيء آخر.
(1/80)
أثر العصبية في
الخلاف:
أما هذه الأحداث التي كانت تكون بين كوفي وبصري في قصور الحكام فنوع من
الدفاع عن القوت أولا، وميل إلى العصبية البلدية1 آخرا. ولا تظن أن ما
مر بك من مشاحنات بينهم كان يصرف بعضهم عن الانتفاع بعلم بعض، وحسبك أن
تعلم أن الفراء مات "وتحت رأسه كتاب سيبويه" وأن الكسائي وهب للأخفش
خمسين دينارا لقراءته كتاب سيبويه عليه، وأنه "سلخ كتابه في معاني
القرآن من كتاب الأخفش"2 وأن
__________
1 لما نعي الأحمر إلى الفراء وكلاهما كوفي "وكانت بينهما وحشة"، ذكره
بخير وأثنى عليه، فقال أهل زمانه: "لم يذكره لمحبة له، وإنما ذكره
ليكاثر أهل البصرة بأهل الكوفة" إنباه الرواة 2/ 317.
2 بغية الوعاة ص358 وانظر إنباه الرواة 2/ 37 حيث قول الأخفش: سألني
الكسائي أن أؤلف له كتابا في معاني القرآن، فألفت كتابي في المعاني
فجعله إماما، وعمل عليه كتابا في المعاني, وعمل الفراء كتابه في
المعاني عليهما. هذا وذكروا أن "معاني الكسائي" لو قرئ عشر مرات لاحتاج
من يقرؤه أن يقرأه. إنباه الرواة 2/ 265.
(1/80)
الجاحظ لما عدد مفاخر البصرة على الكوفة
قال: "وهؤلاء يأتونكم بفلان وفلان وبسيبويه الذي اعتمدتم على كتبه
وجحدتم فضله". ولما اشترى الجاحظ كتاب سيبويه من ميراث الفراء رآه أثمن
ما يهدى إلى محمد بن عبد الملك الزيات، فلما دخل عليه وقد افتصد سأله:
"ما أهديت لي يا أبا عثمان؟ " قال: "أطرف شيء: كتاب سيبويه بخط الكسائي
وعرض الفراء! ". إلى غير ذلك من الأخبار التي إن صدقتها, فدلالتها على
العصبية البلدية ظاهرة، وإن ذهبت إلى وضعها أو التزيد فيها فالدلالة
أظهر.
لم يختلف نحاة المصرين تبعا لاختلاف سياسة بلديهما، فليس للسياسة تأثير
مباشر في ذلك، وإنما كان التكتل استجابة للعصبية ليس غير:
أنشئت البصرة والكوفة على عهد عمر بن الخطاب؛ وانقضت سنون من عهد عثمان
والمصران كالبلد الواحد ولبعض القبائل جماعات في كل منهما، فلما كان
الشغب أيام عثمان أسهم العراقيون فيه؛ وآلت الأمور إلى قتل الخليفة
والفتن المتلاحقة بعد أن انضم البصريون في وقعة الجمل إلى عائشة وطلحة
والزبير وانضم الكوفيون إلى علي، وكانت الملحمة بينهما، واستحرَّ
القتل، وكان لكل فريق مجزرة هائلة في الفريق الآخر.
فمن ثم العداوة والتخاصم والتنافس بين البلدين. فلما انقضى عهد القلاقل
خلف في أذهان الفريقين قصصا وأدبا وشعرا
(1/81)
ووقائع تذكر بالفخر تارة, وبالوجيعة تارة
أخرى1.
فهذا ما ولدت العصبية والتنافس بين وفود الفريقين ورجالاتهم في الأسمار
ومجالس الأمراء.
ولئن كانت أحداث سياسية خاصة هي المفرقة قديما، فإنها تطورت مع الزمن
وتحول اتجاهها، حتى تبلورت في عصبية للبلد2 وثبتت عليه كما نجد أنماطا
من ذلك في مثل كتاب البلدان للهمداني، بل إن بعضهم كان يؤلف في مفاخر
بلده كما فعل الهيثم بن عدي الكوفي "209", فألف كتابه "فخر أهل الكوفة
على أهل البصرة" 3.
__________
1 انظر أخبارها في معجم البلدان لياقوت، وفي كتاب البلدان للهمداني,
ففيهما طرائف، وانظر على سبيل التمثيل أبيات أعشى همدان ينتصر للكوفة
على البصرة:
اكسع البصري إن لاقيته ... إنما يكسع من قل وذل
واجعل الكوفي في الخيل ولا ... تجعل البصري إلا في النفل
وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما صنعنا بكم يوم الجمل
بين شيخ خاضب عثنونه ... وفتى أبيض وضاح رفل
جاءنا يخطر في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الجمل
وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأجلّ
كسعه: ضربه بصدر قدمه على مؤخره, الرفل: المتبختر الكثير اللحم,
السابغة: الدرع الطويلة. وانظر في ذلك كتابنا "عائشة والسياسة".
2 قال الجاحظ في كتاب "البلدان" وقد ذكر فضل البصرة ورجالها: وفينا
اليوم ثلاثة رجال لغويون ليس في الأرض مثلهم، ولا يدرك مثلهم -يعني في
الاعتلال والاحتجاج والتقريب- أبو عثمان المازني, والثاني العباس بن
الفرج الرياشي، والثالث أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن الزيادي,
وهؤلاء لا يصاب مثلهم في شيء من الأمصار".
وكتب كتابه هذا في شهر ربيع الأول سنة 248هـ, من إنباه الرواة 1/ 248.
3 إرشاد الأريب 19/ 310.
(1/82)
المدافعة عن أسباب العيش أولا وقبل كل شيء,
ثم العصبية للبلد لا للسياسة "عاملا ثانويا" هما اللذان لوّنا الخلاف
النحوي ولم يوجداه، لوناه بشيء من العنف. رأيت أنماطا منه في المناظرات
التي مرت بك؛ وفي مثل قول اليزيدي يمدح نحويي البصرة ويهجو الكسائي
وأصحابه:
يا طالب النحو ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد
وابن أبي إسحاق في علمه ... والزين في المشهد والنادي
عيسى وأشباه لعيسى، وهل ... يأتي لهم دهر بأنداد
هيهات، إلا قائلا عنهم ... أرسوا له الأصل بأوتاد
فهو لمنهاجهم سالك ... لفضلهم ليس بجحاد
ويونس النحوي لا تنسه ... ولا خليلا حية الوادي
وقل لمن يطلب علما: ألا ... ناد بأعلى شرف ناد
يا ضيعة النحو به مغرب ... عنقاء أودت ذات إصعاد
أفسده قوم وأزروا به ... من بين أغتام وأوغاد
ذوي مراء وذوي لكنة ... لئام آباء وأجداد
لهم قياس أحدثوه همُ ... قياس سوء غير منقاد
فهم من النحو -ولو عمروا ... أعمار عاد- في أبي جاد
أما الكسائي فذاك امرؤ ... في النحو حار غير مرتاد
وهو لمن يأتيه جهلا به ... مثل سراب البيد للصادي1
وهجا المبرد البصري ثعلبا الكوفي بقوله:
__________
1 أخبار النحويين البصريين ص4, رجل أغتم من قوم أغتام: لا يفصح. الحار:
الحائر.
"أبي جاد: أبجد، هوز ... إلخ" يريد أنهم لا يتجاوزون أول العلم؛ لضعف
استعدادهم كما أن الصبي في الكتاب أول ما يتعلمه حروف "أبجد هوز".
(1/83)
أقسم بالمبتسَم العذب ... ومشتكى الصب إلى
الصب
لو أخذ النحو عن الرب ... ما زاده إلا عمى القلب
فتمثل ثعلب:
يشتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعض الكلب إن عضا1
وأراد ثعلب هذا أن يقرأ على المبرد البصري، فأنكر عليه أصحابه الكوفيون
وقالوا: مثلك لا يصلح أن يمضي إلى بصري فيقال غدا: إنه تلميذه2،
فاستجاب لهم عصبية وحرم نفسه الخير.
لكن ختنه "زوج ابنته" أحمد بن جعفر الدينوري لم يبال ذلك، فكان يخرج من
منزل ثعلب وهو جالس على باب داره، فيتخطاه ويتخطى أصحابه، ويتوجه إلى
المبرد ومعه محبرته ودفتره ليقرأ عليه كتاب "سيبويه"، وكان ثعلب يعاتبه
في ذلك ويقول: "إذا رآك الناس تمضي إلى هذا الرجل وتقرأ عليه، يقولون
ماذا؟ " فلم يكن يلتفت إلى قوله3.
وما بلغت العصبية والنضال عن أسباب الرزق بين الفريقين مدى سافرا هذا
السفور الذي تراه في الخبر الآتي:
"لما أصاب الكسائي الوضح "البرص" كره الرشيد ملازمته أولاده, فأمره أن
يختار لهم من ينوب عنه ممن يرضاه، وقال:
__________
1 ترجمة ثعلب في بغية الوعاة ص173.
2 إرشاد الأريب 5/ 115، ثم ذكر ياقوت أن ابن الأنباري أورد هذه القصة
ليرفع من ثعلب والكوفيين عصبية، فوضع منهم.
3 انظر ترجمته في إنباه الرواة للقفطي "1/ 33" وبغية الوعاة للسيوطي.
(1/84)
"إنك كبرت، ولسنا نقطع راتبك" فدافعهم خوفا
أن يأتيهم برجل يغلب على موضعه، إلى أن ضيق الأمر عليه وشدد، وقيل له:
"إن لم تأت برجل من أصحابك اخترنا لهم من يصلح"، وكان بلغه أن سيبويه
يريد الشخوص إلى بغداد والأخفش، فقلق لذلك، وعزم على أن يدخل عليهم من
لا يخشى غائلته، فقال لعلي الأحمر: "هل فيك خير؟ " قال: "نعم" قال: "قد
عزمت على أن أستخلفك على أولاد الرشيد" فقال الأحمر: "لعلي لا أفي بما
يحتاجون إليه! " فقال الكسائي: "إنما يحتاجون كل يوم إلى مسألتين في
النحو، وثنتين من معاني الشعر وأحرف من اللغة، وأنا ألقنك "ذلك" كل يوم
قبل أن تأتيهم فتحفظه وتعلمهم" وكذلك كان1.
هذا, ومن الخير ألا نغفل هنا خبرا يرد الأمور إلى نصابها فيما عرف عن
بعض الكوفيين من أعمال علمية، فقد قال سعيد بن مسعدة الأخفش: "سألني
الكسائي أن أؤلف له كتابا في "معاني القرآن" فألفت كتابي في المعاني،
فجعله إماما لنفسه، وعمل عليه كتابا في المعاني، وعمل الفراء كتابه في
المعاني عليهما! "2 وقد مر بك الخبر آنفا. وتحفظ كتب الأخبار حادثا
صريحا في استغلال نفوذ الحكم لنصرة الكوفة على البصرة يرويه أبو حاتم،
قال:
__________
1 بغية الوعاة ص334 عن إرشاد الأريب. وقد اعترض أصحاب الرشيد وقالوا:
"إنما اخترت رجلا من أهل النوبة "الجند" وليس متقدما في العلم"،
فدافعهم وشهد له.
ولم يزل الأحمر يتعلم من الكسائي ويعلم أبناء الرشيد حتى صار مع طول
الأيام نحويا, وقد أتحفنا هذا الخبر بنموذج من برامج التعليم الخاص
يومئذ.
2 طبقات النحويين واللغويين ص71.
(1/85)
قدم علينا "بالبصرة" محمد بن مسلم الكوفي
عاملا على الخراج والصدقات، فصرت إليه مسلما فقال لي: "من علماؤكم
بالبصرة؟ " فقلت:
"المازني من أعلمهم بالنحو، والرياشي من أعلمهم باللغة، وهلال الرأي من
أفقههم، وابن الشاذكوني من أعلمهم بالحديث، وابن الكلبي من أعلمهم
بالشروط، وأنا أنسب إلى علم القرآن" فقال لكاتبه: "اجمعهم في غد".
فلما اجتمعنا قال: "أيكم المازني؟ " فقال أبو عثمان: "هأنذاك أصلحك
الله" فقال: "ما تقول في كفارة الظهار: أيجوز فيه عتق غلام أعور؟ "
فقال له: "أصلحك الله، وما علمى بهذا؟ "هذا" يحسنه هلال الرأي" فالتفت
إلى هلال الرأي فقال: "أرأيت قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} 1, بم انتصب هذا الحرف؟ " فقال:
"أعزك الله، أنا لا أحسن هذا، إنما يحسنه الرياشي".
فقال: "يا رياشي, كم حديثا روى ابن عون عن الحسن؟ ".
فقال: "أصلحك الله، هذا يحسنه ابن الشاذكوني".
فالتفت إلى ابن الشاذكوني فقال: "كيف تكتب كتابا بين رجل وامرأة أرادت
مخالعته على إبرائه من صداقها؟ " فقال: "أعزك الله، هذا يحسنه ابن
الكلبي".
__________
1 سورة المائدة، الآية 105.
(1/86)
فقال لابن الكلبي: من قرأ "ألا إنهم
تثنوْني صدورهم"؟ 1.
فقال: "أعزك الله, هذا يحسنه أبو حاتم".
فقال لأبي حاتم: "كيف تكتب كتابا إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل
البصرة, وما جرى عليهم العام في ثمارهم؟ " فقلت له: "أعزك الله، لست
صاحب بلاغة وكتب، إنما أنسب إلى علم القرآن".
فقال: "انظر إليهم, قد أفنى كل واحد منهم ستين سنة في فن واحد من
العلم, حتى لو سُئل عن غيره لساوى فيه الجهال؛ لكن عالمنا بالكوفة لو
سُئل عن هذا كله أصاب" يعني الكسائي ا. هـ. المصون للعسكري ص132.
أثرت العصبية ما رأيت فيما كان بينهم، أما النحو نفسه فلم يتأثر بشيء
من ذلك، وإنما حمل طابع العلماء أنفسهم في التفكير والتنسيق سعة وضيقا
ونظاما وبلبلة.
ولما تقدم الزمن، واستوى عند الحكام نحويو البصرة ونحويو الكوفة، غاب
السبب الأول، وبقيت العصبية للبلد تخالط بعض النفوس حتى صرت ترى العالم
الذي ينبغي أن يتنزه عن العصبية في العلم -ولو بعد ذهاب أسبابها
المادية على الأقل- تداعبه هذه النزعة، فيجمع بين شيئين متنافرين لا
لسبب إلا أنهما نبتا في بلد يعزه. وأنا أقدم لك نموذجا لهذه الظاهرة:
__________
1 سورة هود الآية 5. وهذه هي قراءة ابن عباس وعلي بن الحسين وولديه زيد
ومحمد، ومجاهد وابن يعمر، ونصر بن عاصم، والجحدري، وابن أبي إسحاق,
وغيرهم. والكلمة مضارع اثنونى على وزن "افعوعل"، وقراءة الأمصار اليوم:
{يَثْنُونَ} .
(1/87)
الخليل بن أحمد السجزي القاضي المتوفى سنة
"378هـ" فقد كان حنفيا في الفقه وكوفيا في النحو، وفاخر بذلك يقول:
سأجعل لي النعمان في الفقه قدوة ... وسفيان في نقل الأحاديث سيدا
وأجعل في النحو الكسائي قدوة ... ومن بعده الفراء ما عشت سرمدا
وإن عدت للحج المبارك مرة ... جعلت لنفسي كوفة الخير مشهدا1
ومن كان حنفيا, فأشبه مذاهب النحو بالمذهب الحنفي مذهب البصرة لإحكام
القياس فيه، ولكنه الميل النفسي الشديد إلى الكوفة، والولوع بكل ما
أنتجت حَدَوَا القاضي على أن يكون كوفيا في النحو والفقه والحديث مهما
تنافرت أصول هذه الفنون في الكوفة.
وقد كان لهذه العصبية شيء من "رد الفعل" عند العلماء جعلهم يشكون في كل
ما ينقل من علم كوفي: هذا أبو حاتم السجستاني يسمع تغالي الكوفيين في
حمزة الزيات -أحد قراء الكوفة- فيسأل عنه أبا زيد والأصمعي ويعقوب
الحضرمي وغيرهم من العلماء، فيجمعون على أنه لم يكن شيئا "ولم يكن يعرف
كلام العرب ولا النحو ولا كان يدعى ذلك" قال أبو حاتم: "وإنما أهل
الكوفة يكابرون فيه ويباهتون، فقد صيّره الجهال من الناس شيئا عظيما
بالمكابرة والبهت،
__________
1 تهذيب تاريخ ابن عساكر "مطبعة روضة الشام" 5/ 173.
(1/88)
وقول ذوي اللحى العظام منهم: "كانت الجن
تقرأ على حمزة" وكيف يكون رئيسا وهو لا يعرف الساكن من المتحرك، ولا
مواضع الوقف والاستئناف، ولا مواضع القطع والوصل والهمز؟! وإنما يحسن
هذا أهل البصرة؛ لأنهم علماء بالعربية، قراء, رؤساء1.
وكان يكفي أن يشوب علم العالم أو تأليف الكتاب أخذ عن الكوفيين حتى
ينبز بذلك عند النقاد2.
والظاهر أنه كان بين أهل البلدين فيما بعد، تنكيت وإرسال قصص وأخبار
يحمل فيها أهل البلد على أهل البلد الآخر، وراجت هذه النكات -على نحو
ما نرى اليوم بين بلدتين متجاورتين كحمص وحماة في الشام- وزاد هذا
الأمر حتى استحق أن تؤلف فيه المؤلفات؛ فهذا ابن حبان البستي "354" على
جلالة قدره يؤلف كتابا في عشرة أجزاء في "ما أغرب الكوفيون عن
البصريين"، وكتابا في ثمانية أجزاء في "ما أغرب البصريون عن
الكوفيين"3.
تستطيع بعد هذا البيان أن تطمئن إلى شيئين:
__________
1 مراتب النحويين ص27.
2 انظر كلامهم على أبي عبيد القاسم بن سلام, وعلى كتابه المشهور
"الغريب المصنف" مراتب النحويين ص93.
3 معجم البلدان: "مادة بست" ولم أطمئن إلى كون هذين الكتابين في الخلاف
النحوي، إذ لم ينقل عن ابن حبان تأليف في النحو ولا تصدر لتدريسه، أما
الأخبار فله بها ولوع وله فيها تأليف.
(1/89)
1- ليست السياسة عاملا في تكوين النحو
الكوفي على ما كان عليه.
2- إن الصورة التي في نفوس الناس قديما وحديثا عن حدة التجاذب والتدافع
بين النحو الكوفي, والنحو البصري مبالغ فيها.
(1/90)
كتب الخلاف بين
المذهبين
...
كتب الخلاف:
عرفت أن النحاة -والبصريين منهم خاصة- قد انتزعوا علل النحو من كتب
محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة بالملاطفة والرفق "ص100". فاعلم
الآن أن منهم من ألف في الخلاف بين النحاة، على نمط ما صنع الفقهاء في
كتبهم التي ألفوها في الخلاف بين الحنفية والشافعية، وهذا ابن الأنباري
يقول في مقدمة كتابه "الإنصاف في مسائل الخلاف" بصراحة:
"سألوني أن ألخص لهم كتابا لطيفا يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية
بين نحويي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي
وأبي حنيفة؛ ليكون أول كتاب صنف في علم العربية على هذا الترتيب، وألف
على هذا الأسلوب؛ لأنه ترتيب لم يصنف عليه أحد من السلف، ولا ألف عليه
أحد من الخلف, واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة
أو البصرة، على سبيل الإنصاف لا التعصب والإسراف".
وهكذا تجد تأثير العلوم الدينية واضحا بارزا في علوم اللغة
(1/90)
كلها مادتها ومنهجها. وإذا رجعت إلى كتاب
الاقتراح للسيوطي وجدتهم يصرحون تصريحا سافرا أيضا بأنهم وضعوا للخلاف
في النحو ولمناقشات مسائله أصولا كأصول الخلاف بين الشافعية والحنفية.
أقدم من ألف في الخلاف، فيما علمت، أحمد بن يحيى ثعلب الكوفي "291هـ"،
ولم نعرف هل أداره على أصول الخلاف الفقهي أو لا، وأي كان فإليك ما
عثرت عليه من الكتب التي ألفت في الخلاف، مرتبة على وفيات أصحابها:
1- اختلاف النحويين, لثعلب "291".
2- المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون1, لابن
كيسان "320" وقد رد فيه على ثعلب.
3- المقنع في اختلاف البصريين والكوفيين, لأبي جعفر النحاس "338"2. وقد
رد فيه على ثعلب.
4- الرد على ثعلب في "اختلاف النحويين" لابن درستويه "347".
5- كتاب الاختلاف لعبيد الله الأزدي "348".
6، 7- الخلاف بين النحويين للرماني "384". وله كتاب آخر أخص هو "الخلاف
بين سيبويه والمبرد".
8- كفاية المتعلمين في اختلاف النحويين لابن فارس
__________
1 في بغية الوعاة: "ما اختلف فيه البصريون والكوفيون" فأثبتنا الاسم
كاملا من الفهرست لابن النديم.
2 بغية الوعاة وإرشاد الأريب 4/ 228، وفي بغية الوعاة: "المبتهج في
اختلاف البصريين والكوفيين".
(1/91)
"395"1.
9، 10- الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين لأبي البركات
الأنباري "577" وقد طبع. وله كتاب آخر في الخلاف اسمه: "الواسط"، ذكره
ابن الشجري في أماليه ونقل منه. "انظر 2: 120، 148، 154" من الأمالي
لابن الشجري.
وقد استدرك ابن إياز على ابن الأنباري مسائل خلافية كثيرة فاتته في
كتابه "الإسعاف" الآتي ذكره قريبا.
11- التبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين2 لأبي البقاء
العكبري "616".
12- الإسعاف في مسائل الخلاف لابن إياز "681"3.
والظاهر أن هناك كتبا كثيرة في الخلاف، وأنه كانت له ضجة في المجالس
والبيئات العلمية، وكان التعصب على أحد الفريقين باديا في بعض هذه
الكتب؛ ولذا استدرك صاحب "الإنصاف" الذي قدمت لك فقرة من مقدمته محترسا
بقوله: "على سبيل الإنصاف, لا التعصب والإسراف".
__________
1 إرشاد الأريب 4/ 84, وذكر في بغية الوعاة باسم "اختلاف النحاة".
2 في بغية الوعاة "التعليق في الخلاف" وقد رأيت هذا الكتاب مخطوطا في
دار الكتب المصرية, وهو رسالة صغيرة في 18 ورقة ضمن مجموع رقمه "نحو
ش28" أوله: هذا كتاب مسائل خلافية في النحو, تكلم فيها باختصار على 14
مسألة.
3 وممن تكلم على الخلاف ولم يخصص له كتابا مستقلا أحمد بن جعفر
الدينوري "289هـ" ختن ثعلب, وقد مر ذكره ص84 فذكروا أنه ألف كتابا في
النحو سماه "المهذب" وذكر في صدره اختلاف الكوفيين والبصريين, وعزا كل
مسألة إلى صاحبها، ولم يعتل لواحد منهم ولا احتج لمقالته، فلما أمعن في
الكتاب ترك الاختلاف ونقل مذهب البصريين, إنباه الرواة 1/ 34 وبذلك
يكون أول الخائضين في هذا الموضوع وفاة ممن ذكرناهم.
(1/92)
|