نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
باب أقسام الكلام
قال فيه أبو القاسم (رحمه الله) : أقسام الكلام (ثلاثة) : اسم وفعل
وحرف.
وهذه العبارة - على طولها - واهية مردودة، وعبارة سيبويه - على إيجازها
- صحيحة مفيدة قال سيبويه: " الكلم: اسم وفعل وحرف ".
ووجه الرد على أبي القاسم في عبارته من وجهين:
أحدهما: أنه عبر بالكلام عن الكلم الذي هو جمع كلمة، إذ الاسم والفعل
والحرف، كل واحد منها كلمة.
وجمع الكلمة كلم، كما تقول: لبنة ولبن.
وأما الكلام فهو اسم مفرد يعبر به عن المعنى القائم في النفس الذي تدل
عليه العبارات، وما يصطلح عليه من الإشارات.
ثم قد يسمى اللفظ الدال عليه كلاماً، على مذهب العرب في تسميتهم الشيء
باسم الشيء الذي اتصل به أو كان سبباً له.
والوجه الثاني أنه قال: " أقسام الكلام ثلاثة "، فنوع الكلام ثلاثة
أنواع، وجعل الكلام جنسا جامعاً لها، فخرج من مضمون ذلك أن الاسم على
حدته يسمى كلاماً
وكذلك الحرف والفعل، كما أنك لو قلت: " الحيوان ينقسم قسمين: إنسانا
وبهيمة "
لكان كل قسم من الحيوان يسمى حيواناً، وكذلك جميع الأنواع الواقعة تحت
الأجناس.
وليس كذلك مسألتنا، فإن " زيداً " ليس كلاماً على حدته، ولا " من "،
(1/49)
و " عن "، ولا " قام "، بل كل واحد منهن
كلمة وليست بكلام.
قال سيبويه:
" وإنما يحكى ما كان كلاماً لا قولاً، وما لم يكن هكذا سقط القول عليه
".
وأصح من هذه العبارة عبارة من قال: " الكلام (ما) يتألف من ثلاثة
أشياء:
اسم وفعل وحرف "، إلا أنها (أيضاً) معترضة من وجه واحد، وهو أنه قد
يوجد في الكلام ما يتألف من شيئين، نحو: قام زيد، فليس الكلام كله
يتألف من هذه الثلاثة، بل أكثره.
فإن قيل: فما تصحيح عبارة من قال: الكلام ينقسم ثلاثة أقسام؟
فالجواب أن يقال: صحيحها أن يقال: ثلاثة أقسام: خبر، واستخبار
وطلب.
فكل واحد من هذه كلام، وليس كذلك الاسم والفعل والحرف.
* * *
مسألة
[في الاسم]
قوله: (الاسم ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً) .
لا يخلو أن يكون أراد بالاسم المسمى، أو أراد به اللفظ الدال عليه، فإن
كان أراد بالاسم المسمى - على مذهب من يقول ذلك - فعبارة صحيحة، إلا
قوله: " أو دخل حرف من حروف الخفض ".
فإن حرف الخفض لا يدخل على المسمى، وإنما يدخل على اللفظ الدال عليه،
وهو الاسم.
وإن كان أراد بالاسم اللفظ الدال على المسمى، فظاهر عبارته أيضاً
الفساد، لأن الذي يكون فاعلاً أو مفعولاً في الحقيقة إنما هو المسمى
دون الاسم.
والعذر له - رحمه الله - أنه تسامح، إرادة التقريب، ولم يقصد إحراز
ألفاظه
(1/50)
من اعتراض الطاعن، وتلك عادة في أكثر هذا
الكتاب وليس مذهباً له ولا لأحد من النحويين أن يريد بالاسم المسمى،
ولكنه أراد به الكلمة الدالة.
وقولهم في الكلمة: فاعل أو مفعول، لفظ اصطلحوا عليه، ومعناه ارتفع،
لأنه عبارة عن فاعل، وانتصب لأنه عبارة عن مفعول به.
وقوله إذاً في الاسم: " ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً "، قول صحيح
في صناعة النحو، ولا يلتفت إلى غيرها.
فإن قيل: ما بال سيبويه قد حدَّ الفعل والحرف ولم يحدَّ الاسم حين قال:
" والاسم زيد وعمرو "؟
فالجواب: أن الاسم وقع في عبارة النحويين على ما هو في كلام العرب، فلم
يحتج إلى تبيينه بحد ولا رسم.
وأما الفعل والحرف فعبارتان مصطلح عليهما عند النحويين، لأن الفعل عند
العرب هو الحدث، وعند النحويين هو: اللفظ الدال
على الحدث والزمان.
والحرف عند النحويين: ما دل على معنى في غيره.
وليس يفهم من العرب من الحروف ذلك المعنى.
وجميع ألفاظ النحويين ينقسم إلى قسمين، منها ما تواضعوا واصطلحوا عليه.
ولا يعبر العرب به إلا عن معنى آخر، نحو: " الظرف "، و (الحرف) ، فهذا
لا بد من تبيينه للمبتدئ بالحد والرسم.
ومنها ما هو على أصل موضوعه في كلام العرب
نحو: " الاسم " و " الفاعل " و " المفعول بها.
فهذا لا إشكال فيه على ناظر في صناعة النحو، والله أعلم.
(1/51)
مسألة
" ما جاز أن يكون فاعلاً أو مفعولاً ".
قوله: " فاعلاً، هاهنا حال وقع فيها الفعل، والفعل العامل فيه " كان "،
لأنها
هاهنا تامة تكتفي باسم واحد وليست " كان " الناقصة التي هي عبارة عن
الزمان، لأن تلك لا يجوز أن تعمل في الحال، على ما سيأتي بيانه، إن شاء
الله تعالى.
* * *
مسألة
فإن قيل: ولم لا يجوز أن يكون " فاعلاً " هاهنا خبراً ليكون، وتجعلها
ناقصة؟
فالجواب أن يقال: يمنع من ذلك أمران: المعنى وسياقة الكلام، فإن الكلام
ورد في معرض التبيين لماهية الاسم وحقيقته، فوجب أن يكون تأويله: ما
جاز أن يوجد فاعلاً أو مفعولاً، لأن " كان " التي هي عبارة عن الزمان
إنما هي داخلة على المبتدأ والخبر، فلا تدخل إلا على ما ثبت معناه وعرف
وجوده، والأمر ها هنا بخلاف ذلك.
مسألة
[في تعريف الفعل]
قوله: " والفعل ما دل على حدث وزمان ".
دلالة الفعل على الحدث بالتضمين لا بالمطابقة، كنحو دلالة " البيت "
على
(1/52)
" السقف "
وأما دلالته على الزمان فقال النحويون: بالبنية.
وهو لا يدل على الزمان ألبتَّة، وإنما يدل اختلاف أبنيته على اختلاف
أحوال الحدث من المضي والاستقبال والحال.
وأما الزمان الذي هو حركة للفاعل، إن كان مقارناً له، لأن حركة فاعل لا
تدل على حركة فاعل آخر، وكذلك قال سيبويه في أول الكتاب: " أخذت من لفظ
أحداث الأسماء فبنيت لما مضى، ولما يكون ولما يقع، ولما هو كائن لم
ينقطع ".
يعني لما مضى من الحدث ولما هو كائن منه لأنه لم يتقدم غير ذكر
الأحداث.
* * *
فصل
في اشتقاق الفعل من المصدر
وفائدة اشتقاق الفعل من المصدر أن المصدر اسم كسائر الأسماء يخبر عنه
(1/53)
كما يخبر عن سائر الأسماء، نحو قولك: "
أعجبني خروج زيد "، " سرني قدوم بكر ".
فإذا ذكر هو وأخبر عنه كان الاسم الذي هو فاعل له مخفوضاً مضافاً إليه،
والمضاف إليه تابع للمضاف، ومستحق للخفض لما سنذكره بعد.
فإذا أرادوا أن يخبروا عن الاسم الفاعل للحدث، لم يمكن الإخبار عنه وهو
مخفوض تابع في اللفظ لغيره، وحق المخبر (عنه) أن يكون مرفوعاً مبتدأ به
للحكمة المذكورة في باب المبتدأ، فلم يبق إلا أن يدخلوا عليه حرفاً يدل
على أنه مخبر عنه كما تدل الحروف على معان في الأسماء، هذا لو فعلوه
لكان الحرف حاجزاً (بينه) وبين الحدث في اللفظ، والحدث - الذي هو حركة
الفاعل في المعنى - يستحيل انفصاله عن الفاعل كما يستحيل انفصال الحركة
عن محلها، فوجب أن يكون اللفظ غير منفصل، لأنه تابع للمعنى. ولما بطل
جعل الاسم مخبراً عنه مع بقاء لفظ الحدث على حاله، وبطل إدخال حرف يدل
على كونه مخبراً عنه، لم يبق إلا أن تشتق من لفظ الحدث لفظاً يكون
كالحرف في النيابة عنه، دالاً على معنى في غيره، ويكون متصلاً اتصال
المضاف بالمضاف إليه، وهو الفعل المشتق
من لفظ الحدث، فإنه يدل على الحدث بالتضمين، ويدل على أن الاسم مخبر
عنه لا مضاف إليه، (إذ يستحيل إضافة لفظ الفعل إلى الاسم) كما يستحيل
إضافة الحرف، لأن المضاف هو الشيء بعينه، والفعل ليس هو الشيء بعينه
ولا يدل على معنى في نفسه (وإنما يدل على معنى في الفاعل، وهو كونه
مخبراً عنه)
فإن قيل: كيف لا يدل على معنى في نفسه وهو يدل على الحدث؟ .
(1/54)
قلنا: إنما يدل عليه بالتضمين كما سبق،
دلالة " الفرس " على " القوائم ".
ودلالة السقف على البيت.
واللفظ الذي يدل على الحدث بالمطابقة إنما هو الضرب والقتل، وأما
" ضرب " و " قتل " فلا، وإذا ثبت أنه لا يدل على معنى في نفسه
بالمطابقة، فمن ثَمَّ وجب (أن ألا يضاف ولا أن يعرف بشيء من آلات
التعريف، إذ التعريف يتعلق بالشيء بعينه لا بلفظ يدل على معنى في غيره.
(ومن ثَمَّ وجب ألا يثنى ولا يجمع، كما لا يثنى الحرف ولا يجمع) .
ومن ثَمَّ وجب أن يبنى كما تبنى الحروف لمضارعته لها، من حيث دل على
معنى في غيره كالحرف، ومن ثم وجب أن يكون عاملاً في الاسم كما أن الحرف
لما دل على معنى في غيره وجب أن يكون له أثر
في لفظ ذلك الغير، كما له أثر في معناه.
وإنما أعرب المستقبل الذي هو أوله الزوائد لأنه تضمن معنى الاسم، إذ
" الهمزة " تدل على المتكلم، و " التاء " على المخاطب، و " الياء " على
الغائب، فلما تضمن بلفظ معنى الاسم ضارع الاسم فأعرب، كما أن الاسم إذا
تضمن معنى الحرف بني.
وأما الماضي وفعل الأمر فإنهما - وإن تضمنا معنى الحدث، وهو اسم - فما
شاركا فيه الحرف من الدلالة على معنى في غيره، وهي حقيقة الحرف، أوجب
(1/55)
بناءهما، حتى إذا ضارع الفعل الاسم من وجه
آخر غير التضمن للحدث، خرج عن مضارعة الحرف، فكان أقرب شبهاً بالأسماء
كما تقدم.
ولما قدمناه من دلالة الفعل على معنى في الاسم - وهو كون الاسم مخبراً
عنه - وجب أن لا يخلو عن ذلك الاسم مضمراً أو مظهراً، بخلاف الحدث فإنك
تذكره ولا تذكر الفاعل مضمراً ولا مظهراً، نحو قوله تعالى:
(أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا
مَقْرَبَةٍ (15) .
ونحو قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وغير
ذلك.
والفعل لا بد من ذكر الفاعل بعده كما لا بد بعد الحرف من ذكر الاسم
الذي دخل لمعنى فيه.
* * *
فصل
(في صيغ الفعل)
فإن قيل وإذا ثبت المعنى في اشتقاق الفعل من المصدر، وهو كونه دالاً
على
معنى في الاسم، فلا يحتاج من الأفعال الثلاثة إلا إلى صيغة واحدة، وتلك
الصيغة هي لفظ الماضي لأنه أخف وأشبه بلفظ الحدث، إلا أن تقوم الدلالة
على اختلاف أحوال الحدث فتختلف حينئذ صيغة الفعل، ألا ترى كيف لم تختلف
صيغته بعد " ما " الظرفية من قولهم: " لا " أفعله ما لاح برق، ولا ما
طار طائر، لأنهم يريدون الحدث مخبراً (به) على الإطلاق من غير تعرض
لزمان ولا من حال من أحوال الحدث.
فاقتصروا على صيغة واحدة وهي أخف أبنية الفعل.
وكذلك فعلوا بعد التسوية نحو قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ) .
ونحو قوله تعالى: (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) الآية.
أراد التسوية بين الدعاء والصمت على الإطلاق من غير تقييد
بوقت ولا حال، فذلك لم يحتج إلا (إلى) صيغة واحدة، وهي صيغة الماضي.
كما سبق.
فالحدث إذاً على ثلاثة أضرب:
(1/56)
ضرب يحتاج إلى الإخبار عن فاعله، وإلى
اختلاف أحوال الحدث، فيشتق
منه الفعل دلالة على كون الفاعل مخبراً عنه، وتختلف أبنيته دلالة على
اختلاف أحوال الحدث.
وضرب يحتاج (إلى) الإخبار عن فاعله على الإطلاق من غير تقييد بوقت
ولا حال.
فيشتق منه الفعل، ولا تختلف أبنيته نحو ما ذكرناه من الفعل الواقع بعد
التسوية، وبعد " ما " الظرفية.
وضرب لا يحتاج إلى الإخبار عن فاعله ولا إلى اختلاف أحوال الحدث.
بل يحتاج إلى ذكره خاصة على الإطلاق مضافاً إلى ما بعده، نحو: سبحان
الله، فإن سبحان اسم ينبنئ عن العظمة والتنزيه، فوقع القصد إلى ذكره
مجرداً من التقييدات بالزمان أو بالأحوال.
ولذلك وجب نصبه كما يجب نصب كل مقصود إليه بالذكر.
نحو " إياك " ونحو " ويل زيد وويحه "، وهما أيضاً مصدران لم يشتق منهما
فعل، حيث لم يحتج إلى الإخبار عن فاعلهما، ولا احتيج إلى تخصيصهما
بزمن، فحكمهما حكم سبحان الله ونصبهما كنصبه، لأنه مقصود إليه.
ومما انتصب لأنه مقصود إليه بالذكر: " زيداً ضربته " في قول النحويين،
وهو
مذهب شيخنا " أبي الحسين "، وكذلك " زيداً ضربت "، بلا ضمير، لا يجعله
مفعولًا مقدماً لأن المعمول لا يتقدم على عامله، وهو مذهب قوي.
ولكن لا يبعد عندي قول النحويين أنه مفعول مقدم، وإن كان المعمول لا
يتقدم على العامل.
والفعل كالحرف لأنه عامل في الاسم وذلك على معنى فيه، فلا ينبغي للاسم
أن يتقدم، كما لا يتقدم على الحرف.
ولكن الفعل في قولك: " زيداً ضربت " فد أخذ
معموله وهو الفاعل، فمعتمده عليه، ومن أجله صيغ، وأما المفعول فلم
يبالوا به، إِذ ليس اعتماد الفعل عليه كاعتماده على الفاعل، ألا ترى
أنه يحذف والفاعل
(1/57)
لا يحذف، فليس تقديمه على الفعل العامل فيه
بأبعد من حذفه.
وأما " زيداً ضربته " فينصب بالقصد إليه، كما قال الشيخ.
* * *
مسألة
(في المصدر)
هاهنا سؤال لطيف، وهو أن يقال: المصدر في اصطلاح النحويين أمصدر هو
أم اسم غير مصدر؟
ومعنى هذا السؤال أن مصدر مفعل، ومفعل يكون عبارة عن
الحدث نحو " ذهبت مذهباً "، ويكون عبارة عن الموضع الذي يكون فيه
الفعل، فتسمية النحويين الحدث مصدراً هل هو مفعل الذي يراد به الحدث،
أو مفعل الذي يراد به الموضع؟
فإن قلت: هو مفعل الذي يراد به الحدث، خرجت إلى قول الكوفيين في
قولهم: إن المصدر صادر عن الفعل (والفعل) أصل له، وذلك أنك إذا جعلته
مصدراً صار بمعنى الصدور والصدر، وصار الضرب ونحوه إذا سميته مصدراً
كقولك: " رجل صوم وزور وفطر " أي: صائم وزائر ومفطر، فيكون الحدث أيضاً
صادراً من حيث جعلت المصدر مفعلًا بمعنى الصدور والصدر.
فإن قلت: وكيف أجعله اسما غير مصدر وهو عبارة عن الحدث، والحدث هو
المصدر؟
قلنا: تسمية الحدث عندنا مصدراً على جهة الاستعارة، كأنه الموضع
الذي صدرت عنه الأفعال، والأصل الذي نشأت عنه، ولا بد من المجاز على
القولين جميعاً، لأن الكوفي إذا قال إنه بمعنى " الصدود فلا بد من حذف
عنده في تسمية الضرب مصدراً، كما لا بد من حذف في تسمية الرجل صوماً
وزوراً، أي: ذو صوم وذو زور.
وإذا جعلناه اسماً للحدث على جهة المجاز والنقل من المصدر الذي
هو المكان فهو مجاز، وتسميته كتسمية الشجاع أسداً، وكتسمية المجاز
مجازاً، فإن أصل موضوع المجاز في المحسوسات للشيء مجاز عليه، ثم نقله
أهل الصناعة للمعنى الذي تجوز بسببه في نقل الألفاظ عن أصل موضوعها،
وتسمية الشيء باسم
(1/58)
غيره لمعنى جامع بينهما جائز، فذلك الوجه
هو المجاز، إذ بسببه انتقل اللفظ عن أصل موضوعه، وجاز أن يسمى به غيره،
والله أعلم.
* * *
مسألة
(في الحرف)
قوله: " والحرف: ما دل على معنى في غيره ".
وذلك الغير إما اسم وإما فعل، وليس للحرف معنى في نفسه، وأما الذي له
معنى على الحقيقة هو الاسم، ومن ثم وجب أن لا يكون عاملاً في غيره على
الحقيقة، ووجب أن يكون الحرف عاملاً في كل ما دل على معنى فيه، لأن
الألفاظ تابعة للمعاني، فكما تشبث الحرف بما دخل عليه معنى، وجب أن
يتشبث به لفظاً، وذلك هو العمل.
فاصل كل كل حرف أن يكون عاملاً، فإذا وجدت حرفاً غير عامل فسبيلك أن
تسأل، وأما الفعل فلا بد أن يكون عاملاً في الاسم لما بين في المسألة
قبل هذا.
فإن قيل: فما بال حروف كثيرة لا تعمل؟
قلنا: لا نجد حرفاً لا يعمل إلا حرفا دخل على جملة قد عمل بعضها في
بعض، وسبق إليها عمل الابتداء أو نحوه، وكان الحرف داخلاً لمعنى في
الجملة لا لمعنى في اسم مفرد فاكتفى بالعامل السابق قبل هذا الحرف، وهو
الابتداء ونحوه.
وذلك نحو: هل زيد قائم؟ ونحو: أعمرو خارج؟ في الاستفهام.
فإن الحرف دخل لمعنى في الجملة، ولايمكن الوقوف (عليه) ولا يتوهم
انقطاع الجملة عنه، لأنه حرف مفرد لا يوقف عليه، ولو توهم ذلك فيه لعمل
في الجملة ليؤكدوا
(1/59)
بظهور أثره فيه تعلقه بها ودخوله عليها،
كما فعلوا في " إنَّ " وأخواتها حيث
كانت كلمات من ثلاثة أحرف فصاعداً يجوز الوقف على كل واحدة منهن.
تقول: إنه، وليته، ولعله، فأعملوها في الجملة إظهاراً لتشبثهن بالحديث
الواقع بعدهن.
وسيأتي بيان ذلك - إن شاء الله تعالى - بأكثر من هذا.
نعم وربما أرادوا توكيد تعلق الحرف بالجملة إذا كان الحرف مؤلفاً من
حرفين، نحو " هل "، فربما يوهم الوقف عليه، أو خيف ذهول السامع عنه
فادخل في الجملة حرف زائد ينبه السامع عليه، وقام ذلك الحرف مقام
العمل، نحو قولك: هل زيد بقائم وما زيد بقائم، فإذا سمع المخاطب "
الباء " وهي لا تدخل في الوجوب، تأكد عنده ذكر النفي
والاستفهام وأن الجملة غيو منفصلة عنه، ولذلك أعمل أهل الحجاز " ما "
النافية تأكيداً لتشبثها بالجملة.
ومن العرب من اكتفى في التأكيد بإدخال الباء ورآها نائبة (في الثأثير)
عن
العمل الذي هو النصب.
وإنما اختلفوا في " ما " ولم يختلفوا في " هل "، لمشاركة " ما " لـ ليس
في
النفي، فحين أرادوا أن يكون لها أثر في الجملة (يؤكد) تشبثها بها جعلوا
ذلك
الأثر كأثر (ليس) وهو النصب، والعمل في باب " ليس " أقوى، لأنها كلمة
كليت و " لعل " و " كان "، والوهم إلى انفصال الجملة عنها أسرع منه إلى
توهم انفصال الجملة عن " ما " و " هل " فلم يكن بد من إعمال " ليس "،
وإبطال معنى الابتداء السابق.
ولذلك إذا قلت: ما زيد إلا قائم، لم يعملها أحد منهم، لأنه لا يتوهم
انقطع " زيد " عن " ما " لأن " إلا " لا يكون إيجاباً إلا بعد نفي، فلم
يتوهم انفصال الجملة عن " ما "، وكذلك لم يعملوها عند تقدم الخبر نحو:
" ما قائم زيد " لأنه ليس من رتبة النكرة أن يكون مبدوءاً بها مخبراً
عنها إلا مع الاعتماد على ما قبلها، فلم يتوهم المخاطب انقطاع الجملة
عن " ما " قبلها لهذا السبب، فلم يحتج إلى إعمالها وإظهار أثرها، وبقي
الحديث كما كان قبل دخولها، مستغنياً عن تأثيرها فيه.
وأما حرف " لا " فإنه إن كان عاطفاً فحكمه حكم حروف العطف، وليس من
حروف العطف شيء عامل، وإن لم يكن " لا " حرف عطف نحو: " لا زيد قائم
ولا عمرو "، فلا حاجة إلى إعمالها في الجملة لأنه " لا " يتوهم انفصال
الجملة بقوله
(1/60)
" ولا عمرو "، ولأن الواو مع لا الثانية
تشعر بالأولى لا محالة، وتربط الكلام فيها، فلم يحتج إلى إعمالها،
وبقيت الجملة عاملاً فيها الابتداء كما كانت قبل دخول " لا ".
فإن قلت: فإن لم تعطف على الجملة بحرف عطف وقلت: " لا زيد قائم ".
فما حكم لا؟
قلت: هذا لا يجوز، لأن " لا " ينفى بها في أكثر الكلام ما قبلها، تقول:
هل قام زيد؟ فيقال: لا.
وقال سبحانه: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) ، وليست " لا " هاهنا
نفياً لما بعدها، كما لو قلت: " ما أقسم "، ألا ترى أن " ما " لا تكون
أبداً لا نفياً لما بعدها، فلذلك قالوا: " ما زيد قائم " ولم يخشوا
توهم انقطاع الجملة عنها، ولو قالوا:
لا زيد قائم لخيف أن يتوهم أن الجملة موجبة وأن " لا " كنحو " ما " هي
في
" لاأقسم " إلا أن تعطف فتقول: " لا زيد في الدار ولا عمرو "، وكذلك في
النكرات نحو: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) إلا أنهم في النكرات
قد أدخلوها على المبتدأ والخبر تشبيهاً لها بليس لأن النكرة أبعد في
باب الابتداء من المعرفة، والمعرفة أشد استبداداً بأول الكلام.
وأما التي للتبرئة فللنحويين فيها اختلاف، أهي عاملة أم لا؟
فإن كانت عاملة فكما أعملوا " أن " حرصاً على إظهار تشبثها بالحديث،
وإن
كانت غير عاملة - كما ذهب إليه سيبويه، والاسم بعدها مركب معها مبني
على الفتح - فليس كلامنا في المبنيات.
وأما حروف النداء فعاملة في المنادى عند بعضهم.
والذي يظهر لي الآن أن (يا) تصويت بالمنادى، نحو " جوت "، و " ها "،
ونحو ذلك، والمنادى منصوب بالقصد إليه وإلى ذكره، كما تقدم من قولنا في
كل مقصود إلى ذكره مجرداً عن الإخبار عنه: أنه منصوب.
ويدلك على أن حرف النداء ليس بعامل وجود العمل في الاسم دونه
نحو: " صاحب زيد أقبل "، و (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) .
وإن كان مبنياً عندهم
(1/61)
فإنه بناء كالعمل، ألا تراه ينعت على اللفظ
كما ينعت المعرب، ولو كان حرف النداء عاملاً لما جاز حذفه وبقاء العمل.
* * *
فصل
(في الحروف الناصبة والجازمة للمضارع)
فإن قيل: ما بال الحروف الناصبة للأفعال المضارعة والجازمة لها قد عملت
في الأفعال، والفعل مع فاعله جملة قد عمل بعضها في بعض؟
ثم إن الفعل المضارع قبل دخول العامل عليه كان مرفوعاً، ورفعه - لا شك
- بعامل، وذلك العامل - في قولهم - هو وقوعه موقع الاسم، فهلا منع هذا
العامل هذه الحروف الداخلة من العمل، كما منع العامل - الذي هو
الابئداء - الحروف الداخلة على الجملة من العمل، إلا أن يخشى انقطاع
الجملة كما خيف في " أن " وأخواتها؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما أن العامل في المبتدأ - وإن كان معنوياَ - كما
أن الرافع للفعل المضارع معنوي، لكنه أقوى منه، لأن حق كل مخبر عنه أن
يكون مرفوعاَ لفظاً وحسًّا كما أنه مرفوع معنى وعقلاً، ولذلك استحق
الفاعل الرفع دون المفعول، لأنه المحدث عنه بالفعل، فهو أرفع رتبة من
المفعول في المعنى، فوجب أن يكون في اللفظ كذلك، لأن تابع للمعنى.
وأما رفع الفعل المضارع فلوقوعه موقع الاسم المخبر به والاسم التابع له
فلم يقو قوته في استحقاق الرفع، فلم يمنع شيئاً من الحروف اللفظية عن
العمل، إذ اللفظي أقوى من المعنوي، وامتنع ذلك في
(1/62)
بعض الأسماء المبتدأة لضعف الحروف، وقوة
العامل السابق للمبتدأ، كما تقدم بيانه.
والجواب الآخر: أن هذه الحروف لم تدخل في معنى الجملة، إنما دخلت
لمعنى في الفعل المتضمن للحدث من نفي أو إمكان أو نهي أو جزاء، وذلك
كله يتعلق بالفعل خاصة لا بالجملة، فوجب عملها فيه كما وجب عمل حروف
الجر في الأسماء من حيث دلت على معنى فيها، ولم تكن داخلة على جملة قد
سبق إليها عامل معنوي ولا لفظي، وهذا الجواب أولى أن يتمسك به.
* * *
مسألة
ومما يجب الوقوف عليه هاهنا أيضا أن النواصب والجوازم لا تدخل على
الفعل الواقع موقع الاسم لحصوله في موضع الأسماء، فلا سبيل لنواصب
الأفعال وجوازمها أن تدخل على الأسماء، ولا على ما هو واقع موقعها، فهي
إذا دخلت على الفعل خلصته للاستقبال ونفت عنه معنى الحال، وهذا معنى
يختص بالفعل لا بالجملة.
* * *
فصل
وأما " إلا " في الاستثناء فقد زعم بعضهم أنها عاملة.
وقد نقض ذلك عليه بما لا قبل له به من قولهم: " ما قام أحد إلا زيد "
و" ما جاءني إلا عمرو ".
والصحيح أنها موصلة الفعل إلى العمل في الاسم بعدها، كتوصيل واو
المفعول معه الفعل إلى العمل فيما بعدها.
وليس هذا بكسر الأصل الذي قدمناه،
(1/63)
وهو استحقاق جميع الحروف للعمل فيما دخلت
عليه عن الأسماء المفردة والأفعال، لأنها إذا كانت موصلة للفعل، والفعل
عامل، فكأنها هي العاملة، فأنت إذا قلت: " ما قام إلا زيد " فقد أعملت
الفعل على معنى الإيجاب، كما (لو) قلت: " قام زيد لا عمرو،، وقامت " لا
" مقام نفي الفعل عن عمرو، فكذلك قامت " إلا " مقام (إيجاب الفعل لزيد
إذا قلت: ما جاءني إلا زيد، فكأنها هي العاملة) ، فاستغنوا عن إعمالها
عملاً آخر.
وكذلك حروف العطف، وإن لم تكن عوامل، فإنما جاءت " الواو " الجامعة
منها تجمع بين الاسمين في الإخبار عنهما، فقد أوصلت الفعل إلى العمل في
الثاني، وسائر حروف العطف يتقدر بعدها العامل، فنكون في حكم الحروف
الداخلة على الجمل، فإذا قلت: " قام بعدها العامل " فتكون في حكم
الحروف
الداخلة على الجمل، فإذا قلت: " قام زيد وعمرو " فكأنك قلت: " قام زيد
وقام عمرو ".
وإذا قلت: " زيد وعمرو في الدار "، فكأنك قلت: " زيد في الدار وعمرو
فيها أيضاً ".
فصارت هذه الحروف كالداخلة على الجمل.
وقد تقدم في الحروف الداخلة على الجمل أنها لا تستحق من العمل فيها ما
تستحق الحروف الداخلة على الأسماء المفردة والأفعال.
ونقيس على ما تقدم لام التوكيد، وتركهم لإعمالها في الجملة، مع أنها لا
تدخل لمعنى في الجطه فقط، بل لتربط ما قبلها من القسم بما بعدها.
هذا هو الأصل فيها، حتى إنهم ليذكرونها دون القسم فتشعر عند المخطاب
باليمين، كما قال الشاعر:
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل
(1/64)
لأنه حين قال: " لأمنحك " علم أنه قد أقسم،
فلذلك قال: " قسماً ".
وهذا الأصل محيط بجميع أصول أعمال حروف الجر وغيرها من العوامل.
وكاشف عن أسرار العمل للأفعال وغيرها من الحروف في الأسماء، ومنبهة على
سر امتناع الأسماء من أن تكون عوامل في غيرها، والحمد لله على ما علم.
(1/65)
|