نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي

باب الإعراب
مسألة
الإعراب الذي هو الرفع والنصب والخفض محله أواخر الكلم، ولبعض
النحويين في تعليل ذلك كلام يرغب عنه!
والحكمة فيه عندي - والله أعلم - أن الإعراب دليل على المعاني التي تلحق الاسم نحو كونه فاعلًا أو مفعولًا وغير ذلك.
وتلك المعاني لا تلحق الاسم إلا بعد حصول العلم بحقيقته ومعناه.
فوجب أن لا يتقدم الإعراب الاسم ولا يتوسطه في الوجود، وأن يترتب بعده كما ترتب مدلوله - وهو الوصف - بعد مدلول الاسم، وهو المسمى الموصوف بذلك الوصف، والله أعلم.
* * *
مسألة
في الحركة والحرف
الحركة عبارة عن تحريك العضو الذي هو الشفتان عند النطق بالصوت الذي
هو الحرف، والحرف عبارة عن جزء من الصوت.

(1/66)


ومحال أن تقوم الحركة بالحرف حتى يقال: حرف متحرك، حقيقة، لأن
الحرف الذي هو جزء من الصوت عرض عند جميع العقلاء إلا النَّظَّام.
وقوله لا ينسق مع الصواب في نظام فإذا ثبت أن الصوت عرض والحركة عرض آخر، فقولنا:
(حرف) متحرك أو ساكن، مجاز لأن السكون أيضاً ضد الحركة ومحله محلها.
وهو العضو، إذ لا تقوم الحركة والسكون إلا بجسم أو جوهر، فإذا ثبت ذلك فالضمة عبارة عن تحريك الشفتين بالضم عند النطق بالحرف، فيحدث عن ذلك صوت خفي مقارن للحرف، وإن امتد كان " واواً " وإن قصر كاناً ضمة ".
وصورتها عند حذاق الكتاب صورة " واو " صغيرة لأنها بعض واو.
والفتحة عبارة عن فتح الشفتين عند النطق بالحرف وحدوث الصوت الخفي
الذي يسمى فتحة أو نصبة، وإن امتدت كانت ألفاً، وإن قصرت فهي بعض ألف.
وصورتها كصورة ألف صغيرة.
وكذلك القول في الكسرة والياء أن إحداهما بعض
الأخرى، وحدوثهما عند تحريك العضو بالكسر مع مقارنة الحرف.
والسكون عبارة عن خلو العضو من الحركات عند النطق بالحرف، فلا
يحدث بعد الحرف صوت فينجزم عند ذلك، أي: ينقطع، فتسميه جزما، اعتباراً بالصوت وانجزامه، وتسميه سكونا، اعتباراً بالعضو الساكن.
فقولنا إذاً: فتح، وضم، وكسر، وسكون، هو من صفة العضو، وإذا سميناها رفعاً ونصباً وخفضاً وجزما، فهي من صفة الصوت، لأنه يرتفع عند ضم الشفتين، وينتصب عند فتحهما، وينخفض عند كسرهما، وينجزم عند سكونهما.

(1/67)


ولهذه الحكمة عبر أرباب الصنعة بالرفع والنصب والجزم والخفض عن
حركات الإعراب، إذ الإعراب لا يكون إلا بعامل وسبب، كما أن هذه الصفات التي تضاف إلى الصوت من رفع ونصب وخفض إنما يكون بسبب وهو تحرك العضو فاقتضت الحكمة اللطيفة والصنعة البديعة أن يعبر بما يكون عن سبب عما يكون لسبب وهو الإعراب، وأن يعبر بالفتح والضم والكسر والسكون عن أحوال البناء، فإن البناء لا يكون بسبب، أعني بالسبب العامل.
فاقتضت الحكمة أن يعبر عن تلك الأحوال بما يكون وجوده بغير آلة، إذ
الحركات الموجودة في العضو لا تكون بآلة، كما تكون الصفات المضافة إلى
الصوت.
فمن تأمل هذه الحكمة من أرباب الصناعة، رأى من بعد غورهم، ودقة
أذهانهم، ورجاحة أحلامهم، وثقابة أفهامهم، ما يستدل به على أنهم مؤيدون بالحكمة في جميع أغراضهم وكلامهم.
ولعلنا أن نعطف عنان الكلام بعد هذا إلى الخفض وتسميتهم إياه جرًّا.
والتكلم على صورته في الخط، إلى غير ذلك مما يليق ذكره بذلك المقام، والله المستعان.
* * *
مسألة
(في بعض علامات الأسماء)
قوله: " تنفرد الأسماء بالخفض والتنوين ".
قال بعضهم في حد التنوين: التنوين نون ساكنة تلحق أواخر الأسماء
المتمكنة.
وتصحيح هذه العبارة عندي أن يقال: " التنوبن: إلحاق الاسم نوناً ساكنة! ، لأن التنوين مصدر " نونت الحرف "، أي: ألحقته نوناً، كما أن التنعيل مصدر

(1/68)


" نعلت الرجل ": إذا جعلت له نعلاً، وليس التنعيل هو النعل، وكذلك التنوين ليس هو النون بمجردها، وهذا يطرد في الحروف، تقول: " سينت الكلمة "، أي: ألحقت بها سينا، و " كوفتها " أي: ألحقت بها كافا، ومن الزاي: زينتها - في قول بعضهم -
والصحيح: " زويتها " حكي عن بعض الأعراب أنه قال: (إنها زاي فزوها،.
فإن قيل: ما الحكمة في إلحاق هذه النون الأسماء، وسقوطها في الوقف.
وإبدالها ألفاً في حال النصب، وغير ذلك من أحوالها؟
فالجواب: أن أكثر مسائل هذا الباب قد تكلم الناس فيه بحكمة وصواب، إلا أشياء أغفلوها منها مسائل كثيرة من باب ما ينصرف وما لا ينصرف ونُتَفٌ في أبواب أخر، لعلنا - إن شاء الله تعالى - أن نكشف عنها، ويشفى منها، ونقدم لها هاهنا أصلاً فنقول:
التنوين فائدته التفرقة بين المنفصل والمتصل، فلا يدخل في الاسم إلا
علامة لانفصاله مما بعده، ولذلك يكثر في النكرات لفرط احتياجها إلى التخصيص بالإضافة، فإذا لم تضف احتاجت إلى التنوين تنبيهاً على أنها غير مضافة، ولا تكاد المعارف تحتاج إلى ذلك إلا فيما قل من الكلام، لاستغنائها في أكثره عن زيادة نخصيص، وما لا يتصور فيه الإضافة بحال لا ينون بحال كالمضمر والمبهم، وكذلك ما دخلته الألف واللام لا يحتاج إلى التنوين في شيء من الكلام.
وهذه علة عدمه في الوقف، لأن الوقوف عليه لا يكون مضافاً إلى غيره، إذ
المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، ولا يوقف على بعض الاسم دون بعض، وبالله التوفيق.

(1/69)


فإن قيل: ما الحكمة في اختيار " النون " الساكنة لهذا المعنى دون سائر
الحروف؟
فالجواب: أن الأصل في الدلالة على المعاني الطارئة على الأسماء حروف
المد واللين، وأبعاضها - وهي الحركات - متى قدر عليها فهي أخف من غيرها، ومتى لم يمكن كان أشبه الحروف بها وأقربها إليها أولى بذلك مما هو أبعد منها.
وأواخر الأسماء المعربة قد لحقتها حركات الإعراب فلا يصح أن يلحقها علامة للانفصال إلا غير الحركات وغير حروف المد واللين، لأن حروف المد واللين هي أنفس الحركات، إلا أنها مدت وطول بها الصوت، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فإذا لم يمكن الحركة، ولا ما هي بعضها من الحروف، فأشبه الحروف
بحروف المد واللين " النون " الساكنة لخفائها وسكونها، وأنها من حروف الزيادة، وأنهم قد جعلوها من علامات الإعراب في الأمثلة الخمسة، واختيرت علامة لتمكن الاسم، وتنبيها على انفصاله، ولذلك لا نجد فعلاً منونا أبداً، لاتصاله بفاعله واحتياجه إلى ما بعده.
* * *
مسألة
(في التصغير)
قوله: " تنفرد الأسماء بالتصغير ".
والتصغير عبارة عن تغيير الاسم ليدل على صغر المسمى وقلة أجزائه، إذ
الكبير ما كثرت أجزاؤه، والصغير بعكس ذلك.
فإن قيل: وما الحكمة في أن ضم أوله، وفتح ثانيه، وزيدت فيه ياء ثالثة، وقد كان يمكن في لفظ التصغير دروب من التغيير غير هذا؟

(1/70)


فالجواب: أن التصغير هو تقليل أجزاء المصغر بخلاف الجمع، فهو مقابل لما
جمع على " فعالل " لأنه ضده، وقد زيد في جمع " فعالل " ألف ثالثة، فزيد في
التصغير " ياء " ثالثة في أضعاف الكلمة، ولم تكن آخراً مثل علامة التأنيث، لأن الزيادة في اللفظ إنما تكون على حسب الزيادة في المعنى، والصفة التي هي صغر الجسم لا يختص بجزء منه دون جز لخلاف صفة التأنيث فإنها مختصة في جميع الحيوانات بطرف يقع به الفرق بين الأنثى والذكر، فكانت العلامة في اللفظ (المنبئة عن معنى التأنيث طرفاً في اللفظ) .
بخلاف " الياء " في التصغير فإنها منبئة عن صفة واقعة على جملة المصغر، وكانت " ياء " ولم تكن ألفاً لأن الألف قد اختصت
بجمع التكثير، وكانت به أولى كما كانت الفتحة التي هي أختها بذلك أولى، لأن الفتح ينبئ عن الكثرة ويشار به إلى السعة، ولذلك تجد الأخرس والأعجم بطبعه إذا أخبر عن شيء كثير، فتح شفتيه، وباعد ما بين يديه.
وإذا كان الفتح ينبئ عن السعة والكثرة، فالضم الذي هو ضده ينبئ عن القلة والحقارة، ولذلك تجد المقلل للشيء يشير إليه بضم فم أو يد، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الساعة التي في يوم الجمعة، وأشار بيده يقللها، لأنه ضم بين إبهامه وأصبعه - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا بين في الحكمة لمن تأمله، ونافع في التعليل لمن
حصله.
وأما " الواو " فلا معنى لها في التصغير لوجهين:
أحدهما: دخولها في درب من الجموع نحو " الفعول "، فلم يكونوا ليجعلوها
علامة في التصغير، فيلتبس التقليل بالتكثير.
والثاني: أنه لا بد من كسر ما بعد علامة التصغير إذا لم يكن حرف إعراب.
كما كسر ما بعد علامة التكثير في نحو " مفاعل "، ليتقابل اللفظان كما تقابل المعنيان.
وكثيراً ما تفعل العرب ذلك، توازن ما بين اللفظين، إذا كان معناهما

(1/71)


متضادين، ألا ترى أن " علماً على وزن " جهل ".
و" روى " على وزن " عطش "، وشرف فهو شريف، على وزن وضع فهو وضيع؟
وهذا كثير في كلامهم من أن يحصى، فلم يمكن إدخال " الواو " مكان " الياء " لئلا يخرج منها إلى الكسر الذي هو ضدها.
فإذا امتنعت الواو - والألف قد اختص بها الجمع - فلم يبق إلا الياء.
و (قد) جعلت مفتوحاً ما قبلها من أجل الضمة التي هي في أول الكلمة، لئلا
يخرج من ضم إلى كسر، والله أعلم.
* * *
مسألة
(الجزم خاص بالأفعال والخفض بالأسماء)
سؤالهم عن امتناع دخول الجزم في الأسماء والخفض في الأفعال، سؤال غير
لازم عند شيخنا (أبي الحسين) (رحمه الله تعالى) ، لأن المعاني المدلول عليها
في الأسماء ثلاثة أفسام: مخبر عنه، وداخل في حديث غيره، ومضاف إليه - فلا يحتاج إلى إعراب رابع، لأنه لا مدلول له.
وكذلك الأفعال، المعاني المدلول عليها ثلاثة أقسام: فعل واقع موفع الاسم
فله الرفع، وفعل في تأويل اسم فله النصب، لأن الرفع والنصب من إعراب الأسماء، فاستحقه من الأفعال ما هوفي تأويل الاسم أو واقع موقع اسم، (وفعل لا في تأويل اسم ولا واقع موقع اسم) فله الجزم، لأن الجزم ليس من إعراب الأسماء.
وليست هذه عبارة الشيخ (أبي الحسين) في الأفعال، ولكنه قال:
" الأفعال واجب وممكن ومنتف، أو في حكم المنتفى، فالرفع للواجب، والنصب للممكن.
والجزم الذي هو عدم الحركة وانتفاؤُها للمنفي أو ما هو في حكمه.
وكل ما قاله صحيح إلا أن قوله: " لا يحتاج في الأسماء إلى رابع، ولا في
الأفعال "، فإن للسائل أن يقول: لم أرد إعرابا رابعا، وإنما أردت أن يكون الجزم بدلاً من الخفض، والخفض بدلاً من الجزم.
فيجاب حينئذ بما اعتل به النحويون

(1/72)


من اختلال الأسماء عند ذهاب الحركة والتنوين، مع أن الأسماء أخف، فكانت أحمل لثقل الحركة، والأفعال بعكس ذلك.
* * *
مسألة
(في الإضافة)
قوله: (ولم تخفض الأفعال لأن الخفض لا يكون إلا بالإضافة ".
هذا لا يلزم، لأن نصب الأفعال ورفعها لم يكن بعوامل الأسماء، فلزم مثل
ذلك في خفضها لو خفضت، ولكن العلة ما قدمناه.
وقوله: " ولا معنى للإضافة إلى الأفعال، لأنها لا تملك شيئاً ولا تستحقه ".
صحيح من وجه الخبر ساقط من جهة التعليل، لأن عدم الملك والاستحقاق
ليس علة في وجوب انتفاء الإضافة، وإنما العلة في ذلك أن الأفعال عبارات عن وقوع أحداث، وإنما الإضافة إلى المعبر عنه لا إلى أنفس العبارات، والإخبار عن المشار إليه لا عن التلويحات والإشارات.
فاستحالت إضافة الأسماء إلى الأفعال.
فإن قيل: إن ظروف الزمان أسماء وقد أضيفت إلى الأفعال؟
نعم، وأضيفت إليها أسماء أخر كحيث، وريث، وذي من ذي تسلم، وآية من قوله:
بآية ما يحبون الطعاما

(1/73)


فالجواب: أنه ما أضيف إلى الأفعال في الحقيقة شيء، وإنما أضيفت
هذه وما هو في معناها من الأسماء التي تقدم ذكرها إلى الاسم الذي اشتق منه
الفعل، وهو الحدث، وذلك أن ظروف الزمان إنما تذكر من أجل الأحداث الواقعة فيها، فتضاف إليها إذ هي أوقات لها.
وربما أضيفت إلى الحدث وليست بوقت له، لاتصالها بوقته، فتضاف إليه لتخصص وتعرف بالإضافة إليه، وإن لم يكن واقعا
فيها، نحو قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ)
فالليلة من ظروف الزمان، وقد أضيفت إلى الصيام وليس بواقع فيها فلما كان جائزاً في بعض الكلام أن يضاف الظرف إلى الاسم الذي هو الحدث - وإن لم يكن واقعا فيه - أضافوه إلى الفعل لفظاً، وهو مضاف إلى الحدث معنى، وأقحم لفظ الفعل إحرازاً للمعنى، وتحصينا
للغرض، ورفعا لشوائب الاحتمال، حتى إذا سمع المخاطب قولك:
" يوم قام زيد "، علم أنك تريد: اليوم الدي قام فيه زيد.
ولو قلت مكان قولك " ليلة الصيام "؟ ليلة صيام زيد، ما كان له معنى إلا وقوع الصيام في الليل.
فهذا الذي حملهم على إقحام لفظ الفعل عند إرادتهم إضافة الظروف إلى الأحداث، وقس على ذلك المبتدأ والخبر.
وأما (ريث) فبمنزلة الظرف وقد صارت في معناه.
وكذلك (حيث) و (ذي تسلم) لأن المعنى في قول بعضهم: " اذهب لوقت ذي تسلم "، أي: ذي سلامتك.
فلما حذفت المنعوت وأقمت النعت مقامه، أضفته إلى ما كنت تضيف إليه
المنعوت وهو الوقت هذا أحد قولي السيرافي، وهو عندي على الحكاية، حكوا قول الداعي " تسلم " كلما تقول: " تعيش " و " تبقى "، فقولهم: اذهب بذي تسلم، أي: اذهب بهذا القول مني، ولم يقولوا: اذهب بتسلم، لئلا يكون اقتصاراً على دعوة واحدة، ولكن قالوا: بذي تسلم، أي: بقول يقال فيه: " تسلم "، أو يجمع معانيه

(1/74)


" تسلم "، فوصفوا القول بذي تسلم، يريدون هذا المعنى، وحذفوا القول المنعوت بذي، اكتفاء بدلالة الحال عليه.
ونحو من هذا قول كثير:
وإن تامريني بالذي فيه أفعل
أي: بالأمر أو بالقول الذي فيه هذا الكلام.
وأما " آية ما تحبون الطعاما "، فالآية هي العلامة، وهي هاهنا بمعنى الوقت.
لأن الوقت علامة للمؤقت، وبالله التوفيق.
وليس جميع ظروف الزمان يجوز إضافته إلى الفعل، بل ذلك يختص ببعضها.
فما كان منها مفرداً متمكناً جاز إضافته إليها، وما كان مثنى نحو " يومين " و " ساعتين " لم يجز إضافته إلى الفعل، لأن الحدث إنما يقع مضافاً لظرفه الذي هو وقت له، فلا معنى لذكر وقت آخر.
ووجه آخر وهو أن الجملة المضاف إليها (هي) نعت للظرف في المعنى.
فقولك: " يوم قام زيد "، كقولك: " يوم قام زيد فيه " في المعنى، والفعل لا يدخله التثنية فلا يصح أن يضاف إليه الاثنان، كما لا يصح أن ينعت الاثنان بالواحد.
ووجه ثالث، وهو أن قولك: قام زيد يوم قام عمرو لا يصح إلا أن يكون جواباً لمتى، واليومان جواب لكم، وما هو جواب لكم لا يكون جواباً لمتى أصلاً، فإن أضفت اليومين إلى الفعل صرت مناقضا، لجمعك بين الكمية وبين ما لا يكون إلا لمتى.
فأما الجمع نحو الأيام فإنما جاز إضافتها إلى الفعل، لأنها قد يراد بها معنى
المفرد كالشهر والأسبوع والحول وغير ذلك.
وكذلك إن كان غير متمكن كقبل وبعد، فإنك لو أضفتها إلى الفعل لاقتضت إضافتها إليه ما يقتضيه قولك: " يوم قام زيد "، أي: اليوم الذي قام فيه، وذلك محال في " قبل " و " بعد "، لأنه يؤول إلى إبطال معنى القبلية والبعدية.

(1/75)


وأما سحر - ليوم بعينه - فيمنع من إضافنه إلى الفعل ما فيه من معنى الألف
واللام.
فقس على هذا الأصل ما يضارعه من الكلام.
* * *
مسألة
(من باب معرفة علامات الإعراب)
قوله: " الواو: علامة الرفع في خمسة أسماء معتلة ".
اعتلال هذه الأسماء على غير قياس، إذا كان قياس " الواو " إذا تحركت وانفتح - ما قبلها إن انقلبت ألفاً، فيكون الاسم مقصوراً، وهذه الأسماء حذفت أواخرها في حال الإفراد والانفصال عن الإضافة.
قال لي بعض أشياخنا في تعليل الحذف: إن التنوين لما أوجب حذف الألف
المنقلبة لالتقاء الساكنين، حذفوها رأساً، كما قال الأول:
رأي الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا
فإذا أضيفت وزالت علة التنوين، رجعت الحروف المحذوفة، وكان الإعراب
فيها مقدراً كما هو مقدر في الأسماء المقصورة.
وقد قال بهذا القول طائفة من النحويين.

(1/76)


الأمر فيها عندي أنها علامات إعراب، وليست حروف إعراب، والمحذوف
منها لا يعود إليها في الإضافة، كما لا يعود المحذوف من " يد " و " دم "، وبرهان ذلك أنك تقول: أخي وأبي إذا أضفت إلى نفسك، كما تقول: يدي ودمي، لأن حركات الإعراب لا تجتمع مع ياء المتكلم، كما لا تجتمع معها واو الجمع، فلو كانت الواو في " أخوك " حرف إعراب لقلت في الإضافة إلى نفسك: هذا أخي، كما تقول:
هؤلاء مسلمي، فتدغم الواو في الياء لأنها حرف إعراب عند سيبويه، وهي عند غيره علامات إعراب، فإذا كانت " واو " الجمع ثبتت مع " ياء " المتكلم وهي زائدة علامة إعراب عند بعض النحويين، فكيف يحذف ما هو " لام " الفعل وأحق بالثبات منها؟
فقد وضح لك أنها ليست الحروف المحذوفة الأصلية.
فإن قيل: فلم كان إعرابها بالحروف دون الحركات؟
ولم أعلت بالحذف دون القلب خلافاً لنظائرها مما علته كعلتها، وهي الأسماء المقصورة؟
قلنا: في ذلك جواب فلسفي لطيف، وهو أن اللفظ جسد والمعنى روح، فهو تبع له في صحته واعتلاله، والزيادة فيه والنقصان منه، كما أن الجسد مع الروح كذلك، فجميع ما يعتري اللفظ من زيادة فيه أو حذف، فإنما هو بحسب ما يكون في المعنى، اللهم إلا أن يكثر استعمال كلمة فيحذف منها تخفيفا على اللسان لكثرة

(1/77)


دورها فيه، ولعلم المخاطب بمعناها، كقولهم: " أيش؟ "، و " لم أبل ".
وهذه الأسماء الخمسة مضافة في المعنى، فإذا قطعت عن الإضافة وأفردت.
نقص المعنى فنقص اللفظ تبعاً له، مع أن أواخرها حروف علة، فلا بد من تغييرها إما بقلب وإما بحذف، وكان الحذف فيها أولى لما قدمنا.
وكان بنبغي على هذا أن يتم لفظها في حال الإضافة كما تم معناها، إلا أنهم
كرهوا أن يخلو " الخاء " من أخ، و " الباء " من أب من الإعراب الحاصل فيها، إذ ليس في الكلام ما يكون حرف إعراب في حال الإفراد ولا يكون حرف إعراب في حال الإضافة، فجمعوا بين الغرضين ولم يبطلوا أحد القياسين، فمكنوا الحركات التي هي علامات الإعراب في حال الإفراد فصارت حروف مد ولين في الإضافة.
وقد تقدم أن الحركة بعض الحرف الذي هو حرف المد، فالضمة التي هي
علامة الوفع في قولك " أخ "، هي بعينها علامة الوفع في " أخوك "، إلا أن الصوت بها مد، ليتمموا اللفظ كما تمموا المعنى بالإضافة إلى ما بعد الاسم، ولم يحتاجوا مع تطويل حركات الإعراب إلى إعادة ما فد حذف من الكلمة رأسا، كما لا يعاد ما حذف من (يد) و (دم) .
وأما التثنية فإنهم صححوا اللفظ فيها بإعادة المحذوف تنبيهاً على الأصل
الذي هو الانقلاب إلى الألف، فقالوا: " أخوان " و " أبوان " كما قالوا: " عصوان " و " رجوان " لأن قياسه في الأصل كقياسه، بخلاف " يد " و " دم " فإن الأصل فيهما يدي ودمي فلم يكن بابهما كباب " عصا " و " رجا "، فاستمر الحذف فيهما في التثنية والإفراد
فإن قيل: فما بال " ابن " وهو اسم إضافي، ووزنه في الأصل " فعل "، كما

(1/78)


كان (أخ) و (أب) كذلك، ثم لم يعد إليه ما حذف منه في تثنية ولا إضافة؟
قلنا: إنهم قد عوضوا من المحذوف ألف الوصل في ابن واسم، فلم يكونوا
ليجمعوا بين العوض والمعوض منه، بخلاف " أخ " و " أب " ومنعهم أن يعوضوا من المحذوف في " أخ " و " أب " الهمزة التي في أولهما، فراراً من اجتماع همزتين.
وأما " حم " فقد كان الأصل فيها " حمأ " بالهمزة، فلم يكونوا ليعوضوا من الهمزة همزاً آخر، فجعلوه كأب وأخ.
فإن قيل: فما بالهم يقولون في جمع ابن: (بنون) ، وهو جمع على حد التثنية.
فلم لم يقولوا: (ابنون) كما قالوا: (ابنان) ؟
ْقلنا: إن الجمع قد يلحقه التغييرات (بالتكسير وغيره) ، بخلاف التثنية فإنها
لا يتغير فيها لفظ الواحد بحال، مع أنهم رأوا أن جمع السلامة لا بد فيه من " واو " في الرفع و " ياء " مكسور ما قبلها في النصب والخفض، فأشبهت حاله حال ما لم يحذف منه شيء إذ المحذوف منه " ياء " أو " واو "، ففتحوا أوله كما كانوا يفعلون لو لم يحذف منه شيء وليست هذه العلة في التثنية إذا تأملتها.
وأما قولهم في المؤنث " بنات " - بفتح الباء - ولم يقولوا: (ابنات) كما قالوا: (ابنتان) فإنهم حملوا جمع المؤنث على جمع المذكر، لئلا يختلف، والله أعلم.
وأما " أخت " و " بنت " فالتاء من " أخت " مبدلة من " الواو " وكما أبدلت منها في " تراث " و " تخمة "، وإنما حملهم على ذلك هاهنا أنهم رأوا المذكر قد حذفت لامه في الإفراد فقالوا: أخ، وكان القياس أن يقولوا في المؤنث: " أخته "، بهاء في الوقف، فلو فعلوا ذلك لكانت تلك التاء حرف إعراب في الإضافة والإفراد، ولم يمكنهم أن يعيدوا المحذوف في الإضافة تتميماً للفظ فيخالف لفظه لفظ المذكر، ولا أمكنهم من تطويل الصوت بالحركات ما أمكنهم في التذكير، لأن ما قبل (تاء) التأنيث ليس بحرف إعراب، ولا أمكنهم نقصان اللفظ في الموطن الذي تم فيه المعنى، فجمعوا بين الأغراض بإبدالها تاء، لتكون في حال الإفراد علماً للتأنيث،

(1/79)


وفي حال الإضافة من تمام الاسم كالحرف الأصلي، إذ هو موطن تتميم كما تقدم، وسكنوا ما قبلها لتكون بمنزلة الحرف الأصلي، وضموا أول الكلمة إشعاراً بالواو، وكسروها في " بيت " إشعاراً بالياء، لأنها من (بنيت) .
وقالوا في تأنيث ابن: ابنة وبنت، ولم يقولوا في تأنيث أخ إلا أخت، والعلة
في ذلك مستقرأة مما تقدم من الكلام، والله أعلم.
وأما قولهم: " فوك " في الرفع، و " فاك " في النصب، و " فيك " في الخفض.
فحروف المد فيها حروف إعراب بخلاف ما تقدم في " أخيك "، و " أبيك "
و" حميك "
والفرق بينهما وبين أخواتها أن " الفاء " لم تكن قط حرف إعراب لانفرادها، فلم يلزم فيها ما لزم في " الخاء " و " الباء " ألا تراهم يقولون: " هذا في ".
و" جعلته في " كما يقولون: " هؤلاء مسلمي "، فيثبتونها مع ياء المتكلم.
وهذا يدلك على أنها حرف إعراب بخلاف أخواتها، ألا تراهم في حال الإفراد كيف أبدلوا من الواو ميماً ليتعاقب عليها حركات الإعراب ويدخلها التنوين، إذ لو لم يبدلوها ميما لأذهبها التنوين في الإفراد وبقيت الكلمة على حرف واحد، فإذا أضيفت زالت العلة حيث أمنوا التنوين، فلم يحتاجوا إلى قلبها ميماً.
فإن قيل: فأين علامات الإعراب في حال الإضافة؟
قلنا: الإعراب مقدر فيها، وإن شئت قلت تغير صيغتها في الأحوال الثلاثة هو الإعراب، والمتغير هو حرف الإعراب.
فإن قيل: فلم لم تثبت الألف في حال النصب إذا أضيفت إلى ضمير المتكلم
فتقول: " فتحت فاي "، كما تقول: " عصاي "؟
قلنا: الفرق بينهما أن الألف من عصاي ثابتة في جميع أحوال الكلمة، وهذه
لا تكون إلا في حال النصب، وقد قلبت تلك " ياء " في لغة طيء فقالوا: عصي وقفي، فهذه أحرى بالقلب وأولى، والله الموفق لما يرضى.
وأما " ذو مال " فكان الأظهر فيه أن يكون حرف العلة حرف إعراب، وأن

(1/80)


يكون الاسم على حرفين كما هو في بعض الأسماء المبهمة كذلك، يدلك على
(ذلك) قولهم في الجمع: " ذو مال "، و " ذوات مال "، إلا إنه قد جاء في القرآن: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) و (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ) ، وهذا ينبئ أن الاسم ثلاثي ولاماه ياء، انقلبت ألفاً في تثنية المؤنث خاصة.
وقولهم في التثنية: " ذواتي " ليس هو القياس، وإنما القياس " ذاتي "
وفي الجمع: " ذويات "، والجمع كان أحق بالرد إلى الأصل من التثنية، لأن التثنية أقرب إلى لفظ الواحد، لأنها أقرب إليه في المعنى، ألا تراهم يقولون: " أخت وأختان "، ويقولون في الجمع: " أخوات "
وكذلك: " ابنة وابنتان " ولا يقولون في الجمع: " ابنات "، فكذلك كان القياس حين قالوا: " ذوات "، فلم يردوا لام الكلمة ألا يردوا
في التثنية، وإنما يكون منها أبعد، والحمد لله.
والعلة في ذلك أن " ذات " وإن كان ألفها منقلبة عن واو، فإن انقلابها ليس
بلازم، وإنما هو عارض لدخول التأنيث، ولولا التأنيث لكانت " واواً " في حال الرفع غير منقلبة، و " ياء " في حال الخفض.
والتثنية أقرب إلى الواحد لفظاً ومعنى، فلذلك حين ثنوها جعلوها " واواً " كما
هي في الواحد إذا كان مرفوعا ومثنى ومجموعاً، فكان حكم " الواو " أغلب عليها من حكم " الياء " و " الألف ".
ثم ردوا لام الفعل لأنهم لو لم يردوها لقالوا: " ذوتا مال " في حال الرفع.
فيلتبس بالفعل نحو: " رمتا "، و " قضتا "، إذا أخبرت عن امرأتين.
وكذلك: " ذوتا " من (الذوي) ، إذا أخبرت عن روضتين أو شجرتين، فكان في رد اللام رفع لهذا اللبس، وفرق بين ما يصح عينه في المذكر نحو " ذات "، و " ذو "، وبين ما لا يصح عينه في مذكر ولا في جمع نحو " شاة "، فإنك تقول في تثنيته: شاتان

(1/81)


كما كان القياس في " ذات "، وليس في جمع ذات ما يوجب رد لامها كما في
تثنيتهما كما تقدم.
وأما " سنتان "، و " شفتان، (فليس) يلزم فيهما من الالتباس بالفعل ما لزم في
" ذوتا "، لو قيل، لأن " نون " الاثنين لا تحذف منهما حذفا لازماً، لأنهما غير مضافين في أكثر الكلام، بخلاف " ذواتا " فإن " النون " لا توجد فيها ألبتَّة، لأنها لا تنفك عن الإضافة.
* * *
مسألة
(في المثني والجمع السالم)
الواو والألف في " يفعلون " و " يفعلان "، أصل للواو والألف في " الزيدون "
و" الزيدان " و " المسلمون " و " المسلمان "، وإنما جعلنا ما هو في الأفعال أصلاً لما هو في الأسماء، لأنها إذا كانت في الأفعال كانت اسماً وعلامة جمع، وإذا كانت في الأسماء كانت حرفاً علامة جمع، وما يكون اسماً وعلامة في حال هو الأصل لما يكون حرفاً في موضع آخر، أذا كان اللفظ واحداً، كما تقول في كاف الإضمار وكاف المخاطبة وهذا الأصل أولى بنا من أن نجعل الحرف أصلاً والاسم فزعا له.
يدلك على ذلك أنهم لم يجمعوا بالواو والنون من الأسماء إِلا ما كان فيه معنى
الفعل، كقولنا: " المسلمون " و " الصالحون "، ولم يقولوا في جمع رجل وكلام:
(رجلون) و (غلامون) ، فقد وضح لك أن الفعل في هذه المسألة هو الأصل، وإن لم تقل ذلك دخل عليك ما هو أشنع مما تفرضه، وهو أن تجعل ما هو حرف أصلاً لما هو اسم، فتقول في الواو التي هي حرف وعلامة جمع في " الزيدون ": إنها الأصل، وفي الواو التي في " يفعلون ": إنها الفرع.
فإن قيل: فالأسماء الأعلام ليس فيها معنى الفعل، وقد جمعوها كما تجمع
المشتقة من الفعل؟
فالجواب: أن الأسماء الأعلام لا تجمع هذا الجمع إلا وفيها الألف واللام.
لا يقال: جاءني زيدون، ولا: رأيت زيدين، فدلَّ ذلك أن على أنهم أرادوا معنى

(1/82)


الفعل، أي: الملقبون بهذا الاسم، والمعروفون بهذه العلامة، فعاد الأمر إلى ما ذكرنا.
وأما التثنية فمن حيث قالوا في الفعل: " فعلا " و " صنعا " فيما يعقل وفيما لا
يعقل ولما لم يقولوا: " فعلوا " و " صنعوا " إلا فيما يعقل، لم يجعلوا " الواو " علامة
للجمع في الأسماء إلا فيما يعقل، إذ كان فيه معنى الفعل، ومن حيث اتفق معنى التثنية ولم يختلف، اتفق لفظها كذلك في جميع أحوالها ولم يختلف، واستوى فيها ما يعقل وما لا يعقل.
ومن حيث اختلفت معاني الجموع بالكثرة والقلة اختلفت ألفاظها.
ولما كان الإخبار عن جمع ما لا يعقل يجري مجرى الجملة والأمة والثُّلَّة، لا يقصد به في الغالب إلا الأعيان المجتمعة على التخصيص، لا كل واحد منها على التعيين، كان الإخبار عنها بالفعل كالإخبار عن الأسماء المؤنثة، إذ الجملة والأمة وما هو في معنى ذلك أسماء مؤنثة، ولذلك قالوا في جموع ما لا يعقل: " الجمال ذهبت "، و " الثياب بيعت "، و " الدور اشتريت "، وما أشبه ذلك، إذ لا يتعين في قصد الضمير كل واحد
منها في غالب الكلام والتفاهم بين الأنام.
ولما كان الإخبار عن جمع ما يعقل بخلاف ذلك، وكان كل واحد من الجمع
فيه يتعين غالباً في القصد إليه والإشارة، وكان اجتماعهم في الغالب عن ملأ منهم وتدبير وأغراض عقلية، جعلت لهم علامة تختص بهم تنبئ عن الجمع المعنوي كما هي في ذاتها جمع لفظي، وهي " الواو "، لأنها ضامة بين الشفتين أو جامعة لهما، وكل محسوس يعبر به عن معقول فينبغي أن يكون مشاكلاً له، فما خلق الله - تعالى - الأجساد في صفاتها المحسوسة إلا مطابقة للأرواح في صفاتها المعقولة.
ولا وضع الألفاظ في لسان آدم - عليه السلام - وذريته إلا موازنة للمعاني التي هي أرواحها، فهذا سر " الواو " في اختصاصها بالجمع لمن يعقل، وعلى نحو ذلك خصت بالعطف لأنه جمع في معناه، وبالقسم لأن واوه في معنى واو العطف، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما اختصاص (الألف) بالتثنية، فلقرب التثنية من الواحد في المعنى وجب أن

(1/83)


يقرب لفظها من لفظه، ولذلك لا يتغير بناء الواحد فيها كما يتغير في أكثر
الجموع.
وفعل الواحد مبني على الفتح فوجما أن يكون فعل الاثنين كذلك، وذلك لا
يمكن مع غير " الألف "، فلما ثبتت " الألف " بهذه العلة ضميراً للاثنين كانت علامة للاثنين في الأسماء، كما فعلوا في " الواو " حين كانت ضميراً للجماعة في الفعل جعلت علامة للجمع في الأسماء، والحمد لله.
وأما إلحاق " النون " بعد حروف المد في هذه الأفعال الخمسة، فحملت على
الأسماء التي في معناها المجموعة جمع السلامة والمثناة، نحو: " مسلمون "
و" مسلمان "، وهي في تثنية الأسماء وجمعها عوض من التنوين كما ذكروا، ثم شبهوا بها هذه الأمثلة الخمسة، فألحقوا النون فيها في حال الرفع، لأنها إذا كانت مرفوعة كانت واقعة موقع الاسم، فاجتمع فيها وقوعها موقع الاسم ومضارعتها له في اللفظ، لأن آخرها حرف مد ولين، ومشاركتها له في المعنى، فألحق فيها النون عوضاً من حركة الإعراب حملاً على الأسماء كما حملت الأسماء عليها فجمعت بالواو والياء.
وقد ققدم ذكر ذلك.
فالنون في تثنية الأسماء وجمعها أصل للنون في تثنية الأفعال وجمعها.
وحروف المد في تثنية الأفعال وجمعها - أعني علامة الإضمار - هي أصل
لحروف المد في ثثنية الأسماء وجمعها، التي هي علامات إعراب، أو حروف
إعراب كما تقدم.

(1/84)


فإن قيل: فلم لم يثبتوا هذه النون في حال النصب والجزم من الأمثلة
الخمسة؟
قلنا: لعدم العلة المتقدمة وهي وقوعها موقع الاسم، وأنت إذا أدخلت
النواصب والجوازم لم تقع موقع الأسماء، لأن الأسماء لا تكون بعد عوامل الأفعال، فبعدت عن الأسماء، ولم يبق فيها إلا مضارعتها لها في اتصال حروف المد بها، مع الاشتراك في معنى الفعل.
فإن قيل: فأين الإعراب فيها في حال النصب والجزم؟
قلنا: مقدر، كما هو في كل اسم وفعل آخره حرف مد ولين، سواء كان حرف المد زائداً أو أصلياً، ضميراً أو غير ضمير، فالأصلي نحو: يرمي والقاضي، ونحو: عصا ورحى، والزائد نحو: سكرى، والضمير نحو: غلامي وصاحبي، إلا أنه مع هذه الياء مقدر قبلها - أعني الإعراب - وهو في (يرمي) و (يخشى) و (سكرى)
ونحو ذلك مقدر في نفس الحرف لا قبله، لأنه لا يتقدر إعراب اسم في غيره، وإذا ثبت ذلك فقولك: " لن يفعلوا " و " لن تفعلي " إعرابه مقدر قبل الضمير في لام الفعل،

(1/85)


كما هو كذلك في غلامي، وليس زوال النون وحذفها هو الإعراب، لأنه مستحيل أن يحول بين حرف الإعراب وبين إعرابه اسم فاعل أو غير فاعل، مع أن العدم ليس بشيء فيكون إعراباً وعلامة لشيء في أصل الكلام ومعقوله، والله أعلم.
وأما فعل جماعة النساء فكذلك أيضاً إعرابه مقدر قبل علامة الإضمار كما هو
مقدر قبل الياء في غلامي.
فعلامة الإضمار منعت من ظهوره لاتصالها بالفعل وأنها
كبعض حروفه، فلا يمكن تعاقب الحركات على لام الفعل معها، كما لم يمكن ذلك مع ضمائر الفاعلين المذكورين، ولا مع الياء من غلامي، ولا يمكن أيضاً أن يكون الإعراب في نفس النون لأنها ضمير الفاعل، فهي غير الفعل، ولا يكون إعراب شيء في غيره، ولا يمكن أيضاً بعدها، فإنه مستحيل في الحركات وبعيد كل البعد في غير الحركات أن بكون إعراباً وبينه وبين (حرف) الإعراب اسم أو فعل، فثبت أنه مقدر كما هو في جميع الأسماء والأفعال المعربة (التي) لا يقدر على ظهور الإعراب فيها لعلة مانعة على نحوما تقدم.
فإن قيل: فقد أثبتم أن فعل جماعة المؤنث معرب، وهذا خلاف لسيبويه ومن
وافقه من النحويين، فإنهم زعموا أنه مبني وإن اختلفوا في علة بنائه! .

(1/86)


قلنا: بل هو وفاق لهم، لأنهم علمونا وأصلوا لنا أصلاً صحيحاً فلا ينبغي لنا أن ننقضه ونكسره عليهم، وهو وجود المضارعة الموجبة للإعراب، وهو موجود في " يفعلن " و " تفعلن "، فمتى وجدت الزوائد الأربع
وجدت المضارعة، وإذا وجدت المضارعة وجد الإعراب.
فإن قيل: فهلا عوضوا من حركة الإعراب في حال رفعه نونا، كما فعلوا في
(يفعلون) لأنه أيضاً واقع موضع الاسم؟
قلنا: تقدم ما في " يفعلون "، و " يفعلان " من وجوه الشبه بينه وبين جمع
السلامة في الأسماء، فمنها الوقوع موقع الاسم، ومنها المضارعة في اللفظ من جهة حروف المد واللين.
وهذا الشبه معدوم في " يفعلن " من جهة اللفظ، لأنه ليس
مثل لفظ " فاعلين " ولا " فاعلات "، وإن كان واقعاً موقعه في حال الرفع، والله المستعان.
مسألة
(في علامات الإعراب)
قوله في هذا الباب: " وجميع ما يعرب به الكلام تسعة أشياء ".
وذكر الحروف والحركات والحذف والسكون.
وكلها أشياء في الحقيقة إلا الجزم والحذف، فإنهما عبارتان عن معدوم، والمعدوم ليس بشيء، وهو معلوم.
وأما الحركات فأعراض، لأنها لحروف المد أبعاض، والحروف أصوات.
وهي عند جميع المحققين من المتكلمين أعراض إلا (إبراهيم النَّظَّام) ، وقد تقدم
ذكرمذهبه فيما مضى.
والعرض شيء لأنه موجود، وكل موجود شيء، وكل شيء
موجود، بخلاف المعدوم.
ولم نقصد التعقيب على أبي القاسم في عبارته، لأن
التسامح من شأنهم في هذه الصناعة والله المستعان.

(1/87)