نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي باب الابتداء أو
الرفع
الرافع للاسم المبتدأ كونه مخبراً عنه، لآن كل مخبر عنه مقدم في
الرتبة، فاستحق من الحركات أثقلها، لأن أوائل الألفاظ والكلام أولى
بالثقل وأحمل له، ألا ترى أن الحذف والتغييرات إنما تلحق الأواخر
تخفيفا.
ووجه آخر في استحقاق المخبر عنه الرفع، وذلك أنه أقوى حظاً في الحديث
من المفعولات والمجرورات، فلما كان حظه من الخبر أقوى، كان أولى
الحركات به أقواها، وقوة الضمة وثقلها معلوم بالحس وموجود بالضرورة،
فاختيرث للمخبر عنه ليتشاكل اللفظ
المقول، والمعنى المنقول، كما تقدم فيما مضى من الأصول، فقد اشترك
الفاعل والمبتدأ في استحقاق الرفع، إلا أن العامل في الفاعل لفظي فلا
يدخل عليه ما يزيله، لأن العامل اللفظي أقوى من المعنوي، إذ هو متضمن
اللفظ والمعنى جميعاً بخلاف المعنوي.
(1/312)
ومن ثم يبطل الرفع في المبتدأ بدخول (إن
وأخواتها) (وظن وأخواتها) .
وقد تقدم في باب أقسام الأفعال في التعدي شرح عملها في المبتدأ، فأغنى
عن
إعادته ههنا.
* * *
فصل
(في تقديم الخبر)
وأما رفع الخبر فمن حيث كان هو الاسم الأول في المعنى، كما في النعت
(والبدل) الجريان على المنعوت والمبدل منه واتباعه في الإعراب لازماً.
وإذا كان الأمر كذلك فالقول إذاً ما قاله الخليل - رحمه الله تعالى -
في امتناع تقديم الخبر عليه قياساً على النعت والبدل والتوكيد.
إلا أن حال الخبر في التقديم أخفّ من تقديم التوابع، لأن التوابع من
تمام الاسم المتبوع، وليس الخبر من تمام المبتدأ
ولكنه من تمام الكلام الذي فيه المبتدأ، ألا ترى أن النعت مع المنعوت
لا يكون كلاماً كما يكون الخبر مع المبئداً كلاماً، فقد صار النعت كجزء
من الاسم المنعوت فلا يتقدم عليه بإجماع، وخبر المبتدأ - وإن كان
العامل فيه معنوياً - فالعامل المعنوي لا يتقدم معموله عليه للسر الذي
ذكرناه في غير هذا الموضع، ولكنه يفارق النعت والبدل قليلاً بما قدمناه
من الفرق.
فإن قيل: كيف يستقيم من الخليل منع تقديم الخبر مع كثرته في القرآن
والكلام الفصيح نحو قوله سبحانه: (وآية لهم الليل) .
ونحو ما استشهد به سيبويه من قولهم: " مسيء أنت " و " مسكين فلان "،
لاسيما
(1/313)
وفي الحديث:
"مسكين رجل لا زوجة له! مسكينة امرأة لا زوج لها ".
قلنا: لا يخفى على مثل الخليل مثل هذه الشواهد ولكنه أراد منع
تقديم الخبر الذي هو خبر محض مجردٌ من المعاني التي هي نحو المدح والذم
والترحم والتعظيم وغير ذلك، لأن تلك المعاني إِذا دخلت في الكلام
حسَّنت تأخيرَ المبتدأ، لأنه قد صار بسببها مفعولا في المعنى؛ ألا ترى
أنك إذا قلت:
" حسنٌ زيد! "، فإن المعنى: أستحسن زيداً.
وإذا قلت: "مسيءٌ عمرو! "، فالمعنى: أذُمّ عمراً.
وإذا قلت: " مسكين فلان! "
فالمعنى: أرحم فلاناً وأرق له.
وأشعرتْ هذه الصفات كلها بهذا المعنى الذي
لو لُفظ به مصرحاً لكان مقدماً والاسم مؤخرا.
وذلك الاسم هو المبتدأ في اللفظ وهو المذموم أو المرحوم في المعنى.
وأما إذا تجرد الخبر من هذه القرائن كلها مثل قولك: " قائم زيد "
و"ذاهب عمرو " و "خياط أخوك "
فهو الذي أراد الخليل أنه يقبح تقديمه.
والله أعلم.
وأما ما حكاه سيبويه من قولهم: " قائم أنا "، فليس " أنا " مبتدأ، إنما
هو
تأكيد للمضمر في " قائم "؛ لأن " قائم " خبر لمبتدأ محذوف؛ وكان قائلاً
قال له: ما أنت؟!
فقال: " قائم ".
ثم أكد بقوله: " أنا ".
ولا يمنع الخليل مثل هذا.
فقد يجوز على هذا " فائمٌ زيد! "
إذا سألك سائل أو توهمت منه إرادة السؤال عن زيد، فتقول:
" قائم "، أي: " هو قائم "، فيكون حينئذ " زيد " بدلاً من الضمير
المستتر في قائم، وذلك الضمير عائد على أول الكلام لا على " زيد ".
فإن عاد على " زيد " لا على شيء في أول الكلام فـ " زيد " مبتدأ
و" قائم " خبر عنه مقدم، وهو الذي منعه الخليل.
فقف على هذا الأصل تُحكِمْ جميعَ هذا الفصل - إن شاء الله تعالى -
وأكثر هذا الكلام قد رأيته للأستاذ
" أبي الحسين بن الطراوة " رحمه الله.
(1/314)
فصل
(في مسوغات الابتداء بالنكرة)
وحد المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً وإلا فلا فائدة في الإخبار عنه
فإن لم يكن منعوتاً ولا مخصوصاً ولامستفهماً (عنه) ولامنفياً نحو:
(لَا لَغْوٌ فِيهَا) ، فلا يخبر عنه، إلا أن يكون الخبر مجروراً معرفة
مقدماً (عليه) ، لأن الخبر إذا كان مقدماً ومعرفة فإن كان في اللفظ خبر
المبتدأ فإنه في المعنى مخبر عنه، لأن التعريف والتقديم يجران إليه ذلك
المعنى، فكأنك إذا قلت: " على زيد دين " إنما قلت: " زيد مديان " وإذا
قلت: " في الدار امرأة "
إنما أردت: " الدار فيها امرأة ".
فلذلك حسن الإخبار عن النكرة ههنا في اللفظ لأنه ليس خبراً عنهما في
الحقيقة، ألا ترى أنك إذا قدمت الاسم المبتدأ فقلت: " رجل في الدار "،
كيف يبقى الكلام ناقصاً؛ لأن النكرة تطلب الوصف طلباً حثيثاً، فيسبق
إلى الوهم أن الجار والمجرور وصف لها لا خبر عنها، إذ ليس من عادتها أن
يخبر عنها إلا بعد الوصف لها.
فإذا قدمت الجار والمجرور عليها استحال أن يكون وصفاً لها، لأن الوصف
لا
يتقدم الموصوف فذهب الوهم إلى أن الاسم المجرور المعرفة الذي هو في
موضع خبر عن النكرة هو المخبر عنه في المعنى وإن كان مجروراً في اللفظ.
فكم من مجرور في اللفظ مخبر عنه في الحقيقة، مثل قولهم: له صوت صوت
" حمار "، ونظائره أكثر من أن تحصى.
فهذا موضع يكون المبتدأ فيه نكرة مع ما تقدم
من ذكر المستفهم عنه والمنفي.
وفي العربية أبواب رفعت فيها النكرة بالابتداء سوى ما ذكرناه، ولكن
لمعان
مازجت الكلام، وقرائن أحوال حسنت النظام.
من ذلك التفضيل نحو قول عمر
(1/315)
- رضي الله عنه - " تمرة خير من جرادة "،
ونحو ما قدر سيبويه
من قوله تعالى: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)
أي: طاعة أمثل، ولم يقل: " مثيلة " ولا حسنة، لأن
النكرة لا يخبر عنها كما تقدم إلا على الشروط المذكورة أو تريد التفضيل
فتقول: " تمرة أفضل من كذا " أو: " طاعة أفضل "، لأنك حين قلت:
أفعل من كذا، علم أنك تريد أن تقول: أفضل تمرة لم وأوثر طاعة، ونحو هذا
المعنى.
فخرجت النكرة عن أن تكون مبتدأ محضاً ومخبراً عنه حقيقة، والله تعالى
أعلم.
* * *
فصل
(في بعض مسوغات الابتداء)
ومما ابتدى به - وهو نكرة - ما دخله معنى الدعاء أو معنى يخرجه عن أن
يكون الكلام خبراً محضاً كما تقدم في التفضيل.
فمن ذلك ما أريد به التزكية نحو قوهم: " أمت في الحجر لا فيك "، لأنهم
لم
يقولوا: " أمت في الحجر "، ويسكنوا ههنا حيت قرنوه بقول:
" لا فيك "، فصار معنى الكلام: إضافة " الأمت " إلى " الحجر " أقرب من
إضافته إليك، والأمت والحجر أليق به منك ونحو هذا، لأنهم أرادوا تزكية
المخاطب ونفي العيب عنه ولم يريدوا الأخبار عن " أمت " أنه في الحجر،
بل هو في حكم النفي عن الحجر وعن المخاطب معاً، إلا أن نفيه عن المخاطب
أوكد.
وإذا دخل الحديث معنى النفي فلا غرو أن يبتدأ بالنكرة، فقد تقدم حسن
الإخبار عنها في النفي لما فيه من العموم والفائدة، وهو بديع لمن
تأمله.
ويشبهه: " شر ما جاء به " و " شر ما جاء به إلى مخه عرقوب ".
لأن معنى الكلام " ما جاء به إلا شر "، فقامت " ما " الزائدة مقام
شيئين:
حرف النفي، وحرف الإيجاب، كما أدت هذين المعنيين في قولك: إنما زيد
قائم، أي: ما زيد إلا قائم.
وفي قوله عز وجل: (قليلًا ما يؤمنون) ، أي: ما يؤمنون إلا قليلاً.
و (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) ، أي: ما لعناهم إلا
بنقض ميثاقهم.
(1/316)
فإن قيل: من أين أفادت " ما " الزائدة
معنيين، وهي إذا كانت موضوعة موضعها لا تفيدُ إلا معنى النفي وحده؟
قلنا: لم تفد النفي والإيجاب بمجردها، ولكن باجتماعها مع القرائن
المتصلة
بها. أما في قولهم: " شر ما جاء به " فبانتظامها بالاسم النكرة،
والنكرة لا يبتدأ بها، فلما قصد إلى تقديمها علم أن فائدة الخبر مخصوصة
بها، ووكد ذلك التخصيص بما، وانتفى الأمر من غير الاسم المبتدأ أو لم
يكن إلا له، وصار ذلك بمنزلة من يقول: ما جاء به إلا شر.
واستغنينا بما ههنا عن " ما " النافية، وبالابتداء بالنكرة عن
" إلا ".
وأما قولك: " إنما زيد قائم " فقد انتظمت بإن وامتزجت معها، وصارتا
كلمة واحدة. و " إن " تعطي الإيجاب الذي تعطيه " إلا "، و " ما " تعطي
النفي، ولذلك جاز " إنما يقوم أنا، و " أنا " لا تكون فاعلة إلا إذا
فصلت من الفعل بإلا، تقول: " ما يقوم إلا أنا "، ولا تقول: " يقوم أنا
"، فإذا قلت: " إنما " صرت كأنك قد لفظت بما مع " إلا ".
قال الشاعر:
أدافع عن أعراض قومي وإنما ... يدافع عن أعراضهم أنا أو مثلي
وكذلك فعلت مع اتصالها بحرف الجر.
نحو قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) .
وبالمنصوب نحو قوله: (قَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) ، دلت على النفي
بلفظها.
وعلى الإيجاب بتقدم ما حقه التأخير وارتباطها به، كما تقدم في قولهم:
" شر ما جاء وأما ما دخله معنى الدعاء فابتدئ به وهو نكرة، فلا يكون
إلا في معنى الأحداث والمصادر فما ارتفع منه نحو: " سلام عليكم ".
و" ويل له "، فإنما يرتفع لوجهين:
أحدهما: أنك لما كنت داعياً، وكان الاسم المبتدأ نكرة هو المطلوب
بالدعاء، صار كالمفعول ووقع موقعه، كأنك قلت:
" أسال الله سلاماً عليك "، أو: " أطلب منه ويلاً للكافرين ".
(1/317)
ولكنك لم تنصبه (كما نصبت) : سقياً ورعياً
وجدعاً وعقراً، لأنك تريد أن
تشوب الدعاء بالخبر، كأنك تريد: " سلام مني عليكم "، فصار السلام في
حكم المنعوت بقولك: " متى " فقوي الرفع فيه على الابتداء، لأن النكرة
المنعوتة يبتدأ بها.
وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين المحسنين للابتداء بها والتقديم لها،
ألا ترى
أن كل من يقول: " سلام عليكم " إنما تريد أن يشعر بأنه مسلم ومحيي،
فالسلام صادر منه لأنه في معنى التحية.
وليس كذلك: سقياً وجدعاً، لأن المتكلم بها ليس بساق
ولا جادع ولا عاقر، وإنما هو طالب من الله تعالى هذه الأشياء، فهي
مفعولة.
وأما " خيبة له "، و " ويحا " و " ويساً " و " ويلاً "، فيجوز فيها
النصب، لأنها في
حكم المطلوب بالدعاء، ويجوز فيها الرفع إذا كان المتكلم بها يريد أن
يجعل لنفسه حظاً في هذه المعاني، فإذا قال للسائل: " خيبة له "، فلا
يريد محضَ الدعاء كما أراد بقوله: " عقراً "، و " جدعا ".
ولكن يريد: " تخيبت مني "، كأنه يخبر عن الخيبة وأنها
صادرة منه، كما كان ذلك في السلام إذا أراد به التحية، ولو أراد به
السلامة والعافية لقال: " سلاماً لك "، " سلامة لك " بالنصب، لأن سلامة
المخاطب ليست من فعل المتكلم.
وكذلك " السقي " " والرعي "، فلا بدَّ من النصب على هذا الوجه، وأما "
ويح " و " ويل " فترحم واستقباح، و " ويس " استصغار، فتارة تكون نصباً
كما تكون " خيبة " وذلك إذا أردت محض الدعاء، وإن أردت أن تشوب الدعاء
بخبر عن نفسك رفعت كلما رفعت " سلام عليك " إذا أردت التسليم والتحية،
لأنك مترحم كما أنك مسلم.
فيكون التقدير " ويح مني لك " و " استقباح مني له "، لأن الويل قبوح،
ولا يتصور هذا في " تباً له " ولذلك منع " سيبويه " الرفع " تباً،،
وأنكر على من أجازه، ولم يبين العلة ولا كشف السر لا هو ولا من شرح "
الكتاب ".
(1/318)
وقس على هذا " مرحبا بك " فإنه يجوز فيه
الرفع والنصب، لأنك مرحب إذا
رفعت، وإذا نصبت فإما سائل الرحب وأما مبشر للضيف بأن قد صادفت الرحب.
فتأمل هذه الدقائق، وتعرف هذه الحقائق، والله - تعالى - يهدينا لأحسن
الطرائق بمنه وكرمه.
* * *
فصل
(في سرِّ آية من سورة الذاريات)
مما يتصل بما تقدم قوله - عز وجل -: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ)
.
نصب الأول لأنه لم يقصد الحكاية، ولكنه جعله قولاً حسناً، وسماه سلاماً
لأنه يؤدي معنى السلام في رفع الوحشة ووقوع الأنس.
وحكى عن ابراهيم - عليه السلام - قوله، فرفع بالابتداء، وحصل من الفرق
بين الكلامين في حكاية هذا ورفعه ونصب ذلك، إشارة لطيفة وفائدة شريفة،
وهو أن السلام من دين الإسلام، والإسلام ملة إبراهيم عليه السلام، وقد
أمرنا بالاتباع والاقتداء به، فحكي لنا قوله ولم يحك لنا قول أضيافه،
إذ لا فائدة في تعريف كيفيته، وإنما الفائدة في تبيين قول إبراهيم
وكيفية تحيته، ليقع الاقتداء به.
وأخبر عن قول الأضياف على الجملة، إلا على التفصيل، وعن قول إبراهيم -
عليه السلام - مفصلاً محكياً لهذه الحكمة، والله أعلم.
(1/319)
فصل
(في مواضع تصريف كلمة السلام)
إدخال " الألف واللام " على " سلام " يشعر بذكر الله سبحانه.
لأن السلام من أسمائه تعالى، ويشعر أيضاً بطلب معنى السلامة منه، لأنك
متى ذكرت اسما من أسمائه ففد تعرضت لطلب المعنى الذي اشتق ذلك الاسم
منه أيضاً.
ويشعر أيضاً - في بعض المواضع - بعموم التحية التحية وأنها غير مقصورة
على المتكلم، فأنت ترى أنه ليس قولك: (سلام عليك) .
أي: " سلام مني "، بمنزلة قولك: السلام في العموم. فقف على هذا الأصل
تلح لك أسرار كثيرة، منها: إِجماع الأمة على أن
السلام من الصلاة بالألف واللام، إذ الصلاة كلها ذكر لله - تعالى - فلا
يدخل فيها إلا باسم من أسمائه، قال الله سبحانه: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) ، فسبح من " السبحة "، وهي الصلاة.
وكذلك لا يخرج منها إلا باسم من أسمائه، وهو السلام معرفاً بالألف
واللام، فاجتمع فيه الذكر والتحية معاً.
ومن أسرار هذا الفصل أيضاً حذف الألف واللام في القرآن من قوله تعالى:
(سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) و (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ) ، لاستغناء هذه
المواطن عن
الفوائد الثلاث التي تقدم ذكرها في " الألف واللام "، لأن المتكلم ههنا
هو الله
سبحانه فلم يقصد تبركا بذكر الاسم الذي هو السلام، ولا تعرضاً وطلباً
كما يقصده العبد، ولا عموما في التحية منه ومن غيره، لأن سلاماً منه -
سبحانه - كاف من كل سلام، ومغن عن كل تحية، ومرب على كل أمنية، فلم يكن
لذكر " الألف واللام " معنى ههنا، كما كان لها في قول المسيح - عليه
السلام -: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) ، لأن هذا العبد
الصالح يحتاج كلامه إلى هذه الفوائد الثلاثة، وأوكدها
كلها العموم، لأنه مستحيل أن يقع سلامه على نفسه خاصة، ويبعد أيضاً
رغبته عن ذكر مولاه، وتركه التعرض لمعنى الاسم ومقتضاه!
(1/320)
ومن فوائد هذا الأصل أيضاً إجماعهم في الرد
على قولهم: (السلام
عليك) :
بالألف واللام، لأنها لو سقطت ههنا لصار الكلام خبراً محضاً كما تقدم
في
قوله: " عليك دين "، و " في الدار رجل " أنه خبر عن المجرور في
الحقيقة، وإذا صار خبراً بطل معنى التحية والدعاء، لأن المسلم يبدأ
بالأهم وهو ذكر السلام، فليس بمسلم من قال: (عليك) ، إنما المسلم من
قال: " السلام عليك) ، لأن موضوع السلام للأحياء إنما هو للأنس ورفع
الوحشة والإشعار بسلامة الصدور، والدعاء لا بد فيه من ذكر المدعو، وهو
السلام بالألف واللام، فإن نكرته فليس باسم من أسمائه، فعرف بالألف
واللام إشعاراً بالدعاء للمخاطب وأنك راد عليه التحية لا مخبر، فلم يكن
بدٌّ من
" الألف واللام " فاعرفه، والله المستعان.
وأما أوائل الرسائل فقد أجمع على إسقاط الألف واللام فيها، إذ قد تقدم
أنها
مشعرة بالعموم، والكاتبُ مؤكد لخصوص نفسه بالتسليم، مشعر بسلامة وده
للمكتوب إليه، ولا سيما عند افتتاح الكلام، ليشعر المكتوب إِليه الأنس
والسلام من الكاتب على الخصوص من غير التفات إلى طلب العموم.
وهذا المعنى كله إنما يحصل بإسقاط " الألف واللام ".
فإذا ختم الرسالة قال: " والسلام عليك " معرفاً، وذلك لثلاث فوائد:
إحداها: أن الخصوص بسلام الكاتب قد حصل في أول الكتاب ووقع الأنس
به، فكان العموم هنا أبلغ في الدعاء، فإنه لا يخص نفسه بل يجمع له
سلامة وسلام غيره.
والفائدة الثانية: أن يختم باسم من أسماء الله تعالى، كما فعل في
الصلاة.
طلباً للأجر وتبركا بالذكر. واكتفى في أول الرسالة بـ بسم الله الرحمن
الرحيم.
وحسبك به ذكراً.
والفائدة الثالثة بديعة جداً، وهي أن " الواو " العاطفة توجب بناء
الكلام على ما تقدم لا تقول كما قال القتبي: " إنهم أرادوا السلام
المتقدم عليكم "، لما رأى أن
(1/321)
" الألف واللام " تكون للعهد، فإن في ذلك
نقصاً في الأدب، وشحا بسلام مجدد، وإخلالاً بمقاصد السلف، لأنهم لا
يردون: السلام المتقدم عليك. وهذا غث من القول! ولكن أشعرت " الواو "
بعطف فصل على فصل من الكتاب، فلما فرغ منها قال: " والسلام عليك "
يريد: وبعد هذا كله " السلام عليك ".
وقد تقدم أن " السلام " إذا انبنى على اسم مجرور قبله كان بالألف
واللام.
كقولك: (عليك السلام) ، وإن لم يكن ههنا مجرور فالواو مشعرة به ومغنية
عن ذكره.
وهذا المعنى الذي لحظه كتَّابُ السلف وقلدهم فيه الخلف، بل ما تقول إلا
أنها حكمة نبوية وفصاحة شرعية موروثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والسعيد من فهم عنه، واقتبس العلم من لدنه، والحمد لله.
* * *
فصل
خبر المبتدأ إذا كان جملة فلا بد من مضمر يعود على المبتدأ، لأن الجملة
كلام مستقل بنفسه، فإن لم يكن فيه ضمير يعود على المبتدأ وإلا انقطع
الكلام منه واستغنى عنه، فإن كان اسماً مفرداً جامداً لم يحتج إلى رابط
يربطه بالأول، لأن المخاطب يعرف أنه مسند إليه من حيث (كان) لا يقوم
بنفسه، لا كما زعم المنطقيون أن الرابط بينهما لا بدَّ منه مضمراً أو
مظهراً!
وكيف يكون مضمراً ويدل على ارتباط أو غيره والمخاطب لا يستدل إلا بلفظ
يسمعه لا بشيء تضمره في نفسك.
ولو احتجنا إلى " هو " مضمرة أو مظهرة لاحتجنا إلى " هو " أخرى تربط
الخبر
بها، وذلك تسلسل.
فإن كان الخبر اسماً مفرداً مشتقا من فعل، كان فيه ضمير فاعل بذلك
الفعل.
لا من حيث كان خبر للمبتدأ، ولكن من حيث كان فيه معنى الفعل، والفعل لا
بد له من فاعل فإن قيل: وما برهانه أن فيه ضميراً في اعتقاد العرب؟
قلنا: تأكيدهم له وإبدالهم منه، وليس له ظهور في التثنية ولا في الجمع.
أعني إذا كان اسما، إنما يكون له علامة في التثنية والجمع إذا كان
فعلاً نحو:
" يذهبان " ويذهبون.
وأما " ذاهبان " و " ذاهبون "، فالواو والألف علامتا إعراب
(1/322)
لا علامتا إضمار، فهما حرفان، وهما في
الفعل اسمان، برهان ذلك أنهما - أعني الواو والألف إذا كانتا في الاسم
انقلبتا " ياء " في الثثنية والجمع في حال النصب والخفض، كما تنقلب
فيما لا ضمير فيه، نحو: " الزيدين "
و" الرجلين "، ولو كانت هي ضمير الفاعل لبقيت على لفظ واحد، كما تقول
في الفعل: " هؤلاء رجال يذهبون "، و " مررت برجال يذهبون "، ورأيت
رجالاً يذهبون، فلا يتغير لفظها.
لأنها هي الفاعل وليست علامة إعراب للفعل.
فتثبث بها صحة دعوى النحويبن على العرب، حيث زعموا أن الضمير المستتر
في الاسم المشتق لا يظهر في تثنية ولا جمع، وأن الضمير المستتر في
الفعل يظهر في التثنية والجمع، ولولا الدليل المتقدم
لما عرف هذا أبداً، لأن العرب لم تشافهنا بهذا مشافهة، ولا أفصحت عن
أغراضها في هذا ونحوه إلا باستقراء كلامها والتتبع لأنحائها ومقاصدها،
الموصل إلى غرائب هذه اللغة وفرائدها.
فإن قيل: فقد عرفنا صحة دعوى النحويين في الفرق بين الموضعين، فما
الحكمة التي هن أجلها فرق واضع اللغة بين الموطنين، فجعلها علامة إضمار
في الأفعال ولم يجعلها كذلك في الأسماء المشتقة من الأفعال، مع أن
الضمير فيها في التثنية والجمع والإفراد، ولكن لا علامة له في اللفظ،
وإنما يستدل عليه بالتوكيد والبدل والعطف؟
قلنا: الحكمة في ذلك بديعة، وهي أن الأسماء لما كان أصلها الإعراب.
كانت أحوج إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار، والأفعال أصلها
البناء.
ولم يكن لها بد من الفاعل ضرورة، كانت أحوج إِلى علامة إضمار الفاعلين
منها إلى علامة إعراب، مع أن هذه العلامة في الأسماء علامة تثنية وجمع
وحرف إعراب أيضاً، والأفعال لا تثنى ولا تجمع، إذ هي مشتقة من المصدر
وهو لا يثنى ولا يجمع، لأنه يدل على الفليل والكثير من جنسه.
ولعلة أخرى أصح منها وأدق وأجدر أن تكون هي الحق، ذكرناها في أول
الكتاب، فلترها هنالك.
وإذا ثبت أنها لا تثنى ولا تجمع، وعلامة التثنية والجمع هي حروف
الإعراب، فلا تكون " الواو " و " الألف " إلا علامة إضمار، ولا تكون في
الأسماء - وإن احتملت
(1/323)
الضمائر - إلا علامة تثنية وجمع، أو حرف
إعراب على قول سيبويه، أو هي إعراب على قول محمد بن المستنير، أو دليل
إعراب على قول سعيد، ومحمد بن يزيد.
* * *
فصل
(في متعلق الخبر إذا كان ظرفاً)
خبر المبتدأ إذا كان ظرفا أو مجروراً يُعلق بالفعل، ويقدر تقدير "
مستقر "
وكذلك إذا كان في موضع نعت أو حال أو صفة أو صلة، وكان في ذلك
الاستقرار ضمير يعود على المبتدأ، كما يكون في " مستقر " إذا لفظ به،
لأن تعلق الجار به يدل عليه دلالة اللفظ، لكنه لا يجوي مجرى العوامل
اللفظية في تقدم الحال عليه، ولا في نصب المفعول معه.
فإن قيل: فهل تقديره تقدير الفعل المحض أو تقدير الاسم المشتق من
الفعل؟
فالجواب: أن النحويين إنما يقدرونه تقدير الاسم المشتق فيقولون:
" زيد في الدار "، أي: مستقر في الدار.
وكان الظاهر أن يذكروا الفعل لأنه الأصل في تعلق الجار به، لأن حرف
الجر
إنما تعلق بالاسم المشتق من حيث كان فيه معنى الفعل لا من حيث كان
اسما. وقد سأل ابن جنى أبا علي عن هذه المسألة فلم يراجعه بجواب بين
ولا شاف أكثر من أن قال له: " تقدير الاسم ههنا أولى، لأن خبر المبتدأ
في أغلب أحواله اسم ".
ولم يبين ابنُ جنى فيه شيئاً أيضا..
والصحيح في التعليل والتقدير أن يقال: الجار
هنا لا يتصور تعلقه بفعل محض، إذ الفعل المحض ما دل على حدث وزمان.
ودلالته على الزمان ببنيته فإن لم يكن له وجود في اللفظ لم يكن له بنية
تدل على الزمان مع أن الجار لا تعلق له بالزمان ولا يدل عليه، إنما هو
في أصل وضعه
(1/324)
التقييد الحدث وجره إلى الاسم على وجه ما
من الإضافة، فلا تعلق له إلا
بالحدث، والحدث الذي هو المصدر لا يمكن تقديره ههنا لأنه خبر المبتدأ،
والمبتدأ ليس هو الحدث، فبطل أن يكلون التقدير: زيد استقر في الدار،
وبطل أيضاً أن يكون التقدير: " زيد استقر في الدار ".
ألا ترى أنه يقبح أن يقال: " زيد في الدار أمس ".
أو: " أول من أمس ".
وإذا بطل القسمان، أعني إضمار المصدر وإضمار
الفعل، لم يبق إلا القسم الثالث وهو إضمار اسم الفاعل لتصح الفائدتان:
إحداهما: أن يكون خبراً عن المبتدأ، ويضمر فيه ما يعود عليه، إذ لا
يمكن
ذلك في المصدر.
والثانية: أن يصح تعلق الجار به، إذ مطلوبه الحدث، واسم الفاعل متضمن
للحدث لا للزمان، والله المستعان.
* * *
فصل
(في إعراب الاسم المرفوع بعد الظرف)
إذا ثبت هذا فلا يصح ارتفاع اسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه
فاعل، وإن كان في موضع خبر أو نعت، وإنما يرتفع بالابتداء كما يرتفع في
قولك: " قائم زيد " بالابتداء، لا بقائم، خلافاً للأخفش على ما سيأتي
برهانه، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: أليس قد يرتفع الاسم بقائم إذا كان " قائم " معتمداً على
مبتدأ، أو
كان نعتاً، أو حالاً، أو كان قبله الاستفهام وما يطلب الفعل، فيرتفع
أيضاً ههنا به؟
قلنا: قد توهم: قوم أن هذا هو مذهب سيبويه، وأنه يجيز أن يرتفع
بالظرف إذا قلت: " وزيد في الدار أبوه " و " مررت برجل معه صقر ".
وليس هذا مذهب الرجل، وقد بين أبو سعيد السيرافي مراد سيبويه، وشرح وجه
الغلط عليه بما فيه غنية.
والفرق بين الظرف وبين اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل موجود، فإذا
(1/325)
اقترنت به ألف الاستفهام أو قرينة من
القرائن المتقدمة التي يقوي بها معنى الفعل، عمل عمل الفعل.
والظرف في قولك: " زيد في الدار أبوه " لا لفظ للفعل فيه، إنما
هو معنى معلق به الحرف ويدل عليه، فلم يكن في قوة القرينة التي اعتمد
عليها أن تجعله كالفعل، كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظاً به دون
قرينة أن يكون كالفعل.
حتى يجتمع (الاعتماد) المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الفعل.
فيعمل حينئذ عمل الفعل، فتقول: " زيد ذاهب غلامه ".
و" مررت برجل قائم أبوه ".
ووجه آخر من الفرق بين المسألتين، وهو أنك إذا قلت: مررت برجل قائم
أبوه، فالقيام - لا محالة - مسند إلى الأب في المعنى، وهو في اللفظ جار
على ما قبله، وفي المعنى مسند إلى ما بعده، فأما الظرف والمجرور فليس
للصفة المشتقة لفظ يجري على ما قبله، إنما هو معنى يتعلق به الجار،
وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه، فصح أنه مبتدأ والمجرور
خبر عنه، والجملة في موضع نعت أو خبر.
فإن قيل: فيلزمكم إذا قدمتم الظرف في موضع الخبر وقدرتم فيه ضميراً
يعود
على المبتدأ أن تجيزوا: " في الدار نفسه زيد و " فيها أجمعون إخوتك "
وهذا لا يجيزه أحد وفي هذا حجة للأخفش ولمن رفع بالظرف.
قلنا: إنما قبح توكيد المضمر إذا كان الظرف خبراً مقدماً، لأن الظرف في
الحقيقة ليس هو الحامل للضمير، إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير
وذلك
الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال: إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى،
وإذا لم يكن ملفوظاً به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأ، والمجرور
المقدم قبل
المبتدأ دال عليه، والدال على الشيء غير الشيء، فلذلك قبح:
" فيه أجمعون الزيدون "، لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد، ولذلك صح
تقديم خبر " إن " على اسمها إذا كان ظرفا، لأن الظرف ليس هو الخبر في
الحقيقة، إنما هو متعلق بالخبر.
والخبر منوي في موضعه مقدر في مكانه ولذلك لم ينكسر أصل الخليل في منعه
تقديم خبر المبتدأ مع كثرة هذا النحو في الكلام، أعني: " في الدار زيد
"، ولذلك
(1/326)
عدل " سيبويه " في قولهم: " فيها قائما رجل
" و " لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ "
إلى أن جعلها حالاً من نكرة، ولم يجعلها من الضمير الذي في الخبر.
لأن الخبر مؤخر في النية هو العامل في الحال، وهو معنوي، والحال لا
تتقدم على العامل المعنوي.
فهذا كله ينبئك أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة، ولا الحامل
للضمير، ولا العامل في شيء من الأشياء، لا في حال، ولا في ظرف، ولا في
فاعل.
ومن جهة العقل أن " الدار " إذا انفردت بلفظها لم يصح أن تكون خبراً عن
" زيد " ولا عاملة، ولا حاملة للضمير.
وكذلك (في) و (من) سائر حروف الجر أو انفردت لم يكن فيها شيء من ذلك،
فقد وضح لك أن الخبر هو غيرها، وموضعه
موضعه، والحمد لله.
* * *
فصل
(في إعراب الوصف غير المعتمد)
وأما ما حكاه الزجاجى في هذا الباب عن بعض النحويين من قولهم:
" قائم زيد " أن " قائم " مبتدأ، و " زيد " فاعل، فقد قدمنا أن هذا
باطل في القياس، لأن
(1/327)
اسم الفاعل اسم محض، واشتقاقه من الفعل لا
يوجب له عمل الفعل، إذا كنا نعمل كل اسم مشتق من الفعل كمسجد، ومرقد،
ومروحة، ومغرفة. ولكن إنما نعمل إذا تقدم ما يطلب الفعل أو كان في موضع
لا يدخل عليه العوامل اللفظية نحو النعت والخبر، فيقوي حينئذ معنى
الفعل فيه.
ويعضد هذا من السماع أنهم لم يحكوا عن
العرب: " قائم الزيدان " ولا: " ذاهب إخوتك "، إِلا على الشرط الذي
ذكرناه.
ولو وجد الأخفش ومن قال بقوله مسموعا لاحتجوا به على الخليل وسيبويه،
فإذا لم يكن مسموعاً، وكان بالقياس مدفوعا، فأخلق به أن يكون باطلاً
ممنوعاً!
* * *
فصل
(في إعراب الوصف المعتمد)
وإذا ثبت هذا فجائز أن يكون اسم الفاعل في حال الاعتماد على ما قبله،
ومع القرائن المقوية رافعاً للفاعل، وخبراً مقدماً والاسم بعده مبتدأ،
الوجهان جائزان.
نحو: " زيد قائم أخواه " و " زيد قائمان أخواه "، إلا في موضع واحد وهو
أن يكون الفاعل ضميراً منفصلاً نحو: " زيد قائم أنت إليه " " أقائم هو؟
".
فإن هذا لا يكون إلا مبتدأ وخبراً، لأن المنفصل لا يكون فاعلاً مع
اتصاله بالعامل، إنما يكون فاعلاً إذا لم يمكن اتصاله به نحو: " ما
قائم إلا أنت "
ونحو: " الضاربة هو "، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - لورقة
بن نوفل:
" أو مخرجي هم؟ ".
لم يروه أحد إلا بتشديد " الياء " لأنه خبر مقدم، و " هم " مبتدأ، فجمع
من أجل الضمير الذي في الخبر، وصار تقديره:
" أو مخرجوي هم "، ثم أدغم " الواو " في " الياء "، ولو كان " هم "
فاعلاً لقال: " أو مخرجي هم؟! بتخفيف الياء، كما تقول: " أضاربي إخوتك
"
فإن جعلته مبتدأ قلت: أضاربيَّ، بالتشديد، والحمد لله.
* * *
فصل
ذكر: ظروف الزمان لا تكون إخباراً عن الجثث، ولكن تكون إخباراً عن
(1/328)
المصادر.
ولم يعلل النحويون هذا الأصل باكثر من أن قالوا: إنما لم يجز ذلك لأنه
لا
فائدة فيه. . ولم يكشفوا عن سر عدم الفائدة.
وسره أن الزمان لما كان أحداثاً تحدث عن حركة الفلك، وكان البشر
يحتاجون إلى تقييد إحداثهم وتأريخها بأحداث تقارنها معلومة عند
المخاطب.
كما يقيدونها بالأماكن التي تقع فيها، جعل الله - تعالى - لهم في حركات
الفلك حوادث تختلف بما يقارنها من النور والظلمة، وارتفاع الشمس
وانحدارها، لأن الحركات لا تختلف لذواتها ولا تمييز بأنفسها.
ولما كانت هذه الحوادث التي هي أجزاء الزمان معلومة عند جميع
المخاطبين، جعلوها تأريخا وتقييداً لأفعالهم وحياتهم وموتهم وجميع
الأمور
النازلة بهم، فلا معنى لوقت الفعل إلا أنه حادث يقارنه حادث معلوم عند
من
يخاطبه، فإذا أخبرته أن فعلك قارن ذلك الحادث المعلوم عنده توقت له
وتقيد، فسميناه وقتا، وهو في الأصل مصدر: " وقت الشيء أوقته ": إ
ذا حددته وقدرته.
ولو أمكن أن تقيد وتؤرخ بما يقارن الفعل من الحوادث التي هي غير الزمان
استغنيت عن الزمان، نقول: قمت عند خروج الأمير، وخرجت عند قدوم الحاج،
أو: مع قدوم الحاج، لكان ذلك أيضا توقيتاً وتأريخاً.
ولكن الذي هو معلوم عند جميع المخاطبين إنما هي أجزاء الزمان كالشهر
والسنة واليوم وما دون ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لقولك: " زيد
اليوم "
و" الغلام غدا " لأن الجثث ليست بأحداث فيحتاج إلى تقييدها بما يقارنها
وتأريخها بما يحدث معها، ولذلك تقول: " إن أول مخلوق خلقه الله - تعالى
- لم يكن في وقت "، ولو كان في وقت لافتقر ذلك الوقت إلى وقت، إلى غير
نهاية، وهذا محال فقد وضح لك أن الذي ليس بحدث فلا معنى لتقييده بالحدث
الذي هو الزمان.
ومع هذا فإذا أردت حدوث الجثة ووجودها فهو أيضاً حادث، فجائز أن تخبر
عنه بالزمان إذا كان الزمان يسع مدتها، مثل ما يقول:
" نحن في زمان كذا "، و " كان الحجاج في زمن ابني أمية "، وإن جهل
المخاطب وجود زمن قيدته بزمان يسعه، فإن
(1/329)
كان الزمان أقصر من مدة الوجود لم يجز في
شيء من الحوادث، كما لا يجوز: " شب زيد غدوة "، ولا: " شاخ ضحوة "، لأن
الوقت أقل من المؤقت، كذلك لا تقول على هذا: نحن يوم السبت " ولا:
الحجاج يوم الخميس ".
فإن قلت: فقد قالوا: " زيد حين بقل وجهه "؟
قلنا: إنما جاز ذلك لقرينة أخرجته عن معنى الظرف من الزمان إلى معنى
الوصف بمقدار السنين، وهي إضافة الوجه إليه حين قلت: " بقل وجهه " و "
طر شاربه ".
ولو قلت: " يوم بقل وجهه -، لم يجز، لما في " حين " من لفظ " حان
يحين الذي يصح أن يكون خبراً عن زيد.
* * *
فصل
ومما ألحق بهذا الفصل قوله سبحانه: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) و (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) .
زعم بعض النحويين أن " سواء " خبر، وأن المبتدأ محذوف، وأن التقدير:
سواء عليهم الإنذار وتركه، ثم فسرته الجملة المصدرة بألف الاستفهام.
وصاحب هذا القول يلزمه أن يجيز: " سواء أقمت أم قعدت "، دون أن يقول: "
عليَّ " أو " عليك ".
ويلزمه أن يجيز: " سيان أذهب زيد، أم جلس "
و" متفقان أقام زيد أم قعد ".
وما كان نحو هذا مما لا يجوز فىِ الكلام ولا روي عن أحد.
وقالت طائفة: سواء ههنا مبتدأ والجملة الاستفهامية في موضع الخبر.
وإنما قالوا هذا - وإن كان " سواء " نكرة - لأن الجمل لا تكون في موضع
المبتدأ أبداً ولا في موضع الفاعل.
(1/330)
ثم لزمهم أن يكون في الجملة ضمير يعود على
" سوا " إذ لا تكون جملة في
موضع خبر إلا وفيها عائد يعود على المبتدأ.
فأجابوا عن هذا بأن قالوا: " سواء " مبتدأ في اللفظ وهو في المعنى خبر،
لأن المعنى: " سواء عليهم الإنذار وتركه "، ولا يلزم
أن يعود من المبتدأ ضمير على الخبر، فلما كان خبراً في المعنى دون
اللفظ روعي ذلك المعنى، كما لم يعد على " ضربي "، من قولك:
" ضربي زيد قائماً " ضمير من الحال التي سدت مسد الخبر، لأن معناه:
اضرب زيداً، أو: ضربت زيداً، والفعل
لا يعود عليه ضمير، وكذلك: " أقائم أخوك "، لأن " أخوك "
وإن سد مسد الخبر فإنه فاعل في المعنى، و " قائم " معناه كمعنى الفعل
الرافع للفاعل، فروعيت المعاني في هذه المواضع وترك حكم اللفظ إلا من
جهة الرفع بالابتداء، فهي كلها مرفوعة بالابتداء متضمنة لمعنى يخالف
معنى الابتداء المخبر عنه، فحكم لذلك المعنى.
فلم يعد على اللفظ ضمير.
وهذا كله حسن، إلا أنه في هذه المسألة خاصة على خلاف ما قالوه، لأن
العرب لم تنطق بمئل هذا في " سواء " حتى قرنته بالضمير المجرور بعلى،
نحو (سواء عليهم) و " سواء عليَّ أقمت أم قعدت ".
ولا يقولون: " سيان أقمت أم قعدت "
ولا: " مثلان " ولا: " شبهان ".
ولا يقولون ذلك إلا في " سواء " مع المجرور بـ على.
فوجب البحث عن السر في ذلك، وعن مقصد القوم في هذا الكلام.
وعن المساواة بين أي شيئين هي؟ وفي أي الصفات هي من الاسمين الموصوفين
بالتساوي؟
فوجدنا معنى الكلام ومقصوده إنما هو تساو في عدم المبالاة بقيام أو
قعود، أو إنذار أو ترك إنذار.
ولو أرادوا المساواة في صفة موجودة في الذات لقالوا: " سواء الإقامة
والشخوص "، كما تقول: " سواء زيد وعمرو،. و " سيان "
و" مثلان " تعني استواءهما في صفة لذاتهما، فإذا أردت أن تسوي بين
أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما وأنهما قد هانا عليك وخفا
عليك، قلت: " سواء عليَّ أفعل أم لم يفعل ".
كما تقول: " لا أبالي أفعل أم لم يفعل "، لأن المبالاة، فعل من أفعال
القلب، وأفعال القلب تلغي إذا وقعت بعدها الجمل المستفهم عنها أو
المؤكدة باللام، تقول
(1/331)
" لا أدري أقام زيد أم قعد،) ، و: " علمت
ليقومن زيد ".
ولكن لا تلغى هذه الأفعال القلبية حتى يذكر فاعلها في اللفظ أو في
المعنى، فتكون حينئذ في موضع المفعول بالعلم.
* * *
فصل
فإذا ثبت هذا فسواء مبتدأ في اللفظ، و " على " أو " عليهم " مجرور في
اللفظ.
وهو فاعل في المعنى المتضمن في مقصود الكلام، إذ قولك: " سواء على " في
معنى: " لا أبالي "، " وفي أبالي " فاعل، فذلك الضمير الفاعل هو
المجرور
بـ على في المعنى، لأن الأمرين إِنما استويا عليك في عدم المبالاة،
وإذا لم تبال بهما لم تلتفث بقلبك إليهما، وإذا لم تلتفت فكأنك قلت:
" لا أدري أقمت أم قعدت "، فلما صارت الجملة الاستفهامية في معنى
المفعول بفعل من أفعال القلب، لم يلزم أن
يكون بها ضمير يعود على ما قبلها، إذ ليس قبلها في الحقيقة إلا معنى
فعل يعمل فيها، وكيف يعود من المفعول فيه ضمير يعود على عامله؟
ولولا قولك: " على " و " عليهم " ما قوي ذلك المعنى، ولا عمل في
الجملة.
ولكن لما تعلق الجار به صار في حكم المنطوق به، وصار المجرور هو الفاعل
في المعنى كالفاعل في " علمت " و " دريت " و " باليت " ونحو ذلك.
ألا ترى كيف صار المجرور في قولهم: " له صوت صوت غراب ".
بمنزلة الفاعل في " يصوت " حتى كأنك تصف، فنصبت " صوت غراب " لذلك.
وإذا قلت: " عليه نوح نوح الحمام "، رفعت: نوح الحمام لأن الضمير
المخفوض بـ على ليس هو الفاعل الذي ينوح، كما كان في مسألة
" له صوت صوت حمار ".
وكذلك المجرور في (سواء عليهم) هو الفاعل الذي في قولك: لا يبالون
ولا يلتفتون إذ المساواة إنما هي في عدم المبالاة والالتفات، والمتكلم
لا يريد غير هذا بوجه، فصار الفاعل مذكوراً، والمبالاة مفعولة مقصودة،
فوقعت الجملة الاستفهامية مفعولاً لها.
ونظير هذه المسألة - حذو النعل بالنعل - قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا
لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ) .
(1/332)
بدا: فعل ماض، فلا بد له من فاعل، والجملة
المؤكدة باللام "
لا تكون في موضع فاعل أبداً، وإنما تكون في موضع مفعول بعلمت أو علموا،
فهي ههنا في موضع المفعول، وإن لم تكن في اللفظ " علموا " ففي اللفظ ما
هو في معناه، لأن قوله: " بدا " معناه: ظهر للقلب لا للعين، وإذا ظهر
الشيء للقلب فقد علم.
والمجرور من قوله: " لهم " هو الفاعل، فلما حصل معنى العلم وفاعله
متقدماً
على الجملة المؤكدة باللام، صارت الجملة مفعولاً لذلك العلم، كما تقول:
" علمت ليقومن زيد "، و " لام " الابتداء و " ألف " الاستفهام يكون
قبلهما أفعال القلب ملغاة، فكذلك، (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ) ، وقعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من
أفعال القلب وبعد فاعله، كما تقدم بيان ذلك، حين قدرناه بقولك: " لا
يبالون ".
فالواو في " يبالون " هو الفاعل، والضمير في " عليهم " هو الفاعل في
المعنى.
ألا ترى كيف اختص بـ على من بين حروف الجر، لأن المعنى إذا كان يرجع
إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصار أخف شيء على من لا
يباليهما، ولا يلتفت إليهما.
فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز.
فكذلك نبت عنه كثير من الإفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي أصلوها،
واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي ألزموها، مع ما غاب عنهم من
فوائد هذه الآيات وإعجازها، وسمانة هذه الكلمات على إيجازها، وبالله
التوفيق.
* * *
فصل
فإن قيل: فما بال الاستفهام في هذه الجملة، والكلام خبر محض؟.
قلنا: الاستفهام مع " أم " يعطي معنى التسوية، فإذا قلت: " أقام زيد أم
قعد؟ "، فقد سويت بينهما في علمك.
فهذا جواب فيه مقنع.
وأما التحقيق في الجواب فأن تقول: ألف الاستفهام لم يخلع منها ما وضعت
له ولا عزلت عنه، وإنما معناه: " علمت أقام زيد أم قعد؟ ".
أي: علمت ما كنت أقول فيه هذا القول، وأستفهم عنه بهذا اللفظ، فحكيت
الكلام كما
(1/333)
كان، ليعلم المخاطب أن ما كان مسنفهماً عنه
معلوم، كما تقول: قام زيد فترفعه لأنه فاعل ثم تقول: " ما قام زيد "
فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها، لتدل على أن ما
كان خبراً متوهما عند المخاطب فهو الذي نفي بحرف النفي.
ولهذا نظائر يطول ذكرها، فكذلك قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ) .
لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا دخل في قلوبهم منه شيء، صار في
حكم
المستفهم عنه أكان أم لم يكن.
فلا تسمي الألف ألف التسوية، كما فعل بعضهم.
ولكن " ألف " الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم تزل عنه.
* * *
فصل
فإن قيل: فلم جاء بلفظ الماضي - أعني قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) ،
وكذلك:
(أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) .
و" أقام زيد أم قعد " - ولم يجئ بلفظ الحال ولا المستقبل؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن في الكلام معنى الشرط، والشرط يقع بعده المستقبل بلفظ
الماضي، تقول: " إن قام زيد غداً قمت "، وههنا يتقدر ذلك المعنى كأنك
قلت: " إن قام زيد أو قعد لم أباله "، ولا ينفع القوم إن أنذرتهم
أو لم تنذرهم ".
فلذلك جاء بلفظ الماضي.
وقد قال الفارسي قولاً غير هذا ولكنه قريب منه في
اللفظ، قال: " إن ألف الاستفهام تضارع " إن " التي للجزاء، لأن
الاستفهام غير واجب كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم الشروط ".
وهذه العبارة، فاسدة من وجوه يطول ذكرها، ولو راعى المعنى الذي قدمناه
لكان أشبه، على أنه عندي مدخول أيضاً لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال
خاصة دون الحال والمضي.
وقوله: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) و (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ) لا يختص
بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال، بل هي أظهر
في فعل الحال، ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه.
والتحقيق في الجواب أن تقول: قد أصلنا في " نتائج الفكر " أصلاً، وهو
أن
الفعل لم يشتق من المصدر مضافاً إلا ليدل على كون الاسم مخبراً عنه -
أعني
(1/334)
الفاعل الذي كان المصدر مضافاً إلا ليدل
على كون الاسم مخبراً عنه - أعني
الفاعل الذي كان المصدر مضافاً إليه - ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من
المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي واستقبال، فإن كان قصد المتكلم
ألا يقيد الحدث بزمان دون زمان، ولا بحال استقبال دون حال مضي، بل
يجعله مطلقاً بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه، فيكون أخف على اللسان
وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه، ألا ترى أنهم يقولون:
" لا أفعله ما لاح برق " و " ما طار طائر "، بلفظ
الماضي خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير مقيدة، وأنه لا يفعل هذا الشيء
في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك، فلم يجاوز لفظ الماضي لأنه
لا يريد استقبالاً ولا حالاً على الخصوص.
فإن قلت: ولا يريد أيضاً ماضياً، فكيف جاء بلفظ الماضي؟.
قلنا: قد قرن معه " لا أكلمه "، فدل على أن قوله: " ما لاح برق "
يريد به لوحاً قد انقضى وانقطع، وإنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل
الآخر في المدة على الإطلاق والدوام، فليس في قوله " لاح " إلا معنى
اللوح خاصة، غير أنه ترك لفظ المصدر ليكون " البرق " مخبراً به عنه كما
تقدم.
فإذا أردت هذا ولم ترد تقييداً بزمام فلفظ الماضي أخف وأولى.
وكذلك قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) .
أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه به.
فاشتق من الإنذار الفعل ليدل على أن المخاطب هو فاعل الإنذار، وترك
الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله، وأن القوم لم يبالوا بهذا
ولا يبالون، ولا هم في حال مبالاة، فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع
معنى، إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بآن.
فإن قلت: لفظ الماضي تخصيصه بالانقطاع؟.
قلنا: " حدث حديثين امرأة "، فيما قدمناه ما يفى عن الجواب، مع ما في
قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) من ثبوت هذه الصفة فيهم
وحصولها في الحال وفي المآل، ولا تقول: سواء ثوباك أو غلاماك، إذا كان
الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان.
فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي، كما كان لفظ
الحال في قولك: إلا أكلمه ما دامت السماوات والأرض " ينفي الانقطاع
المتوهم في
(1/335)
" دام ".
وإذا انتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحديث مطلقا غير مقيد
في
المسألتين جميعاً.
فتأمل هذا تجده صحيحا، والحمد لله.
* * *
فصل
(في مسألة من باب الاشتغال)
ومن باب اشتغال الفعل عن المفعول بضميره، ربطوا في هذا الباب اختيار
النصب على الرفع بالأمر والنهي والاستفهام والجحد والجزاء.
وليس مقصوراً على هذه المواضع، بل كل موضع يكون القصد فيه إلى الفعل
والفائدة في ذكره أقوى كان النصب فيه هو الوجه، ألا ترى إلى قوله
سبحانه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
كيف أجمع القراء على نصبه، ودل ذلك على قبح الرفع فيه، لأن مقصد الآية
المدح بالفعل والاقتدار على خلق الأشياء وتقديرها، مع أنه لو قال: "
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ "، لذهب الوهم إلى الصفة لا إلى الخبر في قوله:
(خَلَقْنَاهُ) ، فكان يكون فيه للقدرية متعلق بأن يقولوا: " نعم " كل
شيء خلقه فهو بقدر يقدره، وكل شيء لم يخلقه فهو بخلاف ذلك، لأن فعل
الإنسان عندهم غير مخلوق للرب. تعالى عن قولهم.
وكذلك قول الشاعر:
فلو أنها إياك عضتك مثلها
(1/336)
ينصب لأنه موضع يقصد فيه إلى الفعل، والله
أعلم -
* * *
فصل
ومن هذا الباب ما ذكره سيبويه على وجه ضرورة الشعر، ثم اعترف أنه في
الكلام بمنزلة في الشعر، أي: إنه لو جاء على الأصل لم بنكسر الشعر، وهو
قولهم:
عليَّ ذنباً كلُّه لم أَصْنَعِ
ثلاث كلهن قتلت عمداً
جعله في القبح مثل: " زيد ضربت "، برفع زيد، مع عدم الضمير.
وليس مثله لوجوه منها:
أن الجملة هنا في موضع صفة، فلو نصب لولى الاسم غير الصفة، لأن
الفعل والفاعل والجملة هي الصفة، فإذا قدمت مفعولها عليها لم تل
موصوفها، فإذا رفعت بالابتداء وليت الجملة التي هي في موضع الصفة
موصوفها.
ووجه آخر، وهو أن (كلا) يقبح أن يليه العوامل اللفظية، لأنه في الأصل
توكيد، والتوكيد لا يليه العوامل اللفظية ويحسن رفعه بالابتداء، إذ
الابتداء
(1/337)
ليس بعامل لفظي فأما ما ذكر من قولهم: "
شهر ترى، وشهر ثرى، وشهر مرعى ".
وجعله من هذا الباب بمنزلة " كله لم أصنع " و " زيد ضربته "، فيا بعدما
بينهما هذا نكرة وما بعدها صفة لها لا خبر عنها، فلم يصح نصبه بها، لأن
الصفة لا تعمل في الموصوف.
وحسن حذف الضمير لأن الحذف في الصفة أحسن منه في الخبر.
وزاده حسناً ههنا ازدواج الكلام وطلب السجع، فشهر في هذه الكلمات مبني
على ما قبله، كأنه يقول: والسنة شهر ترى، وشهر ثرى ".
أو: " من السنة ".
وكذلك ما بعده من قوله:
فثوب نسيت وثوب أجر
والله أعلم.
انتهى الكلام في نتائج الفكر والْحَمْدُ لِلَّهِ حمداً كثيراً كما هو
أهله.
والصلاة والسلام الأطيبان الأكملان على سيد سائر خلقه سيدنا محمد - صلى
الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً
والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(1/338)
|