نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي (باب العطف)
العامل في المعطوف مضمر يدل عليه حرف العطف، وهو في معنى العامل في
الاسم الأول وكأنك إذا قلت: قام زيد وعمرو، قلت: قام زيد وقام عمرو،
وأغنت الواو عن إعادة الفعل، وإنما قلنا ذلك للقياس والسماع.
أما القياس فإنه ما بعد حرف العطف لا يعمل فيه ما قبله، ولا يتعلق به
إلا في باب المفعول معه، لعلة تذكر هناك.
ووجه آخر، وهو: أن النعت هو المنعوت في المعنى، وليس بينه وبين المنعوت
واسطة، ومع ذلك فلا يعمل فيه ما يعمل في
المنعوت في أصح القولين، فكيف بالمعطوف الذي هو غير المعطوف عليه.
وبينهما واسطة وهو الحرف؟
وأما ما يدل على إضمار العامل من السماع، فقول الأنماري:
بل بني النجار إن لنا ... فيهم قتلى وإن تره
(1/195)
أرادة قتلى وترة، ثم أظهر " إن "، فدل على
ما قلناه.
وهذا الأصل مستتب في جميع حروف العطف إلا في " الواو " الجامعة، وهي
التي تعطف الاسم على اسم لا يصح انفراده، كقولك: اختصم زيد وعمرو،
وجلست بين زيد وعمرو، فإن " الواو " ها هنا تجمع بين الاسمين في
العامل، فكأنك قلت: اختصم هذان، واجتمع الرجلان، إذا قلت: اجتمع زيد
وعمرو.
ومعرفة هذه الواو أصل ينبني عليه فروع كثيرة، منها أنك تقول: رأيت الذي
قام زيد وأخوه، على أن تكون " الواو " جامعة، وإن كانت عاطفة لم يجز،
لأن التقدير: قام زيد وقام أخوه، فخلت الصلة من عائد يعود على الموصول.
ومنه قوله سبحانه: (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) .
غلب المذكر على المؤنث لاجتماعهما، ولو قلت: طلع الشمس والقمر، يقبح
ذلك، إلا أن تريد الواو الجامعة، وأما فى الآية فلا بد أن تكون جامعة،
لأن لفظ " جمع " يدلُّ عليها.
* * *
(فصل)
وأما " الفاء " فهي موضوعة للتعقيب، وقد تكون للتسبيب والترتيب، وهما
راجعان إلى معنى التعقيب، لأن الثاني بعدهما أبداً إنما يجيء في عقب
الأول.
والتسبيب نحو: " ضربتُه فبكى "، والترتيب مثل قوله سبحانه وتعالى:
(أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) ، دخلت الفاء لترتيب اللفظ، لأن
الهلاك يجب تقديمه في الذكر، لأن الاهتمام به أولى، وإن كان مجيء البأس
قبله في الوجود. ومثله:
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد بعد ذلك جده
(1/196)
دخلت " ثم " لترتيب الكلام، لا لترتيب
المعنى في الوجود.
وأما قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) .
فالفاء على أصلها من التعقيب، وإن كانت الاستعاذة قبل القراءة، إلا أن
العرب تخبر بالفعل عن ابتدائه تارة، وتعبر به عن انتهائه والفراغ منه
أخرى، فعلى هذا يكون معنى (قرأت) في الآية: أي شرعت في القراءة.
وأخذت في أسبابها.
ونحو منه ما جاء في الحديث من قوله:
" فصلى الصبح حين طلع الفجر " يريد ابتداء الصلاة.
وأما قوله: ثم صلاها من الغد بعد أن أسفر يريد الفراغ منها.
وحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في إِمامة جبريل: صلى الظهر حين
زالت الشمس، معناه ابتداء الصلاة.
وأما قوله: (وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله)
فيحتمل أن يكون عبر بالفعل عن ابتدائه، أو عن الفراغ منه.
ومن ههنا نشأ الخلاف بين الفقهاء في دخول الظهر على العصر، والعصر على
الظهر.
* * *
مسألة
وأما " حتى " فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها، وغاية
كل شيء حده، ولذلك كان لفظها كلفظ الحد: " حاء " قبل تاءين.
والحد: حاء قبل دالين، والدال كالتاء في خرجها وشدتها، لا تفارقها إلا
في الجهر، فكانت لقوة الجهر أولى بالمعنى القوي وهو الاسم والفعل.
و" حتى " حرف معناه في غيره لا في نفسه بخلاف الاسم، ومن حيث كانت
" حتى " للغاية خفضوا بها كما يخفضون بـ (إلى) التي لانتهاء الغاية.
(1/197)
والفرق بينهما أن " حتى " غاية لما قبلها
وهو منه، وما بعد (إلى) ليس مما
قبلها، بل عنده انتهى ما قبل الحرف، ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها.
ولم تكن " إلى " عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها، بخلاف " حتى ".
ومن حيث دخلت " حتى " في حروف العطف، لم يجز دخولها على المضمر
المخفوض إذا كانت خافضة، لا تقول: قام القوم حتاك، كما لا تقول: قام
القوم وك.
ومن حيث كان ما بعدها غاية لما قبلها لم يجز في العطف: قام زيد حتى
عمرو، ولا: أكلت خبزاً حتى تمراً، لأن الثاني ليس بحد للأول ولا طرف.
* * *
مسألة
أو: وضعت للدلالة على أحد الشيئين المذكورين معها، ولذلك وقعت في
الخبر المشكوك فيه، من حيث كان الشك تردداً بين أمرين من غير ترجيح
لأحدهما على الآخر، لا أنها وُضِعت للشك، فقد تكون في الخبر ولا شك فيه
إذا أبهمتَ على المخاطب ولم تقصد أن تبين له.
كقوله سبحانه: إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) .
أي: إنهم من الكثرة بحيث يقال فيهم: هم مائة ألف أو يزيدون.
فـ (أَوْ) على بابها دال على أحد الشيئين، إما مائة ألف بمجردها.
وأما مائة ألف مع زيادة، والمخبر في كل هذا لا يشك.
وقوله تعالى: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) .
ذهب الزجاج في هذه، والتي في قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) .
إلى أنها (أَوْ) التي للإباحة، أي: فقد أبيح للمخاطبين، أن يُشَبَّهوا
بهذا أو هذا.
وعندي أن (أَوْ) لم توضع للإباحة في شيء من الكلام، ولكنها على بابها.
أما قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) فإنه ذكر مثلين
مضروبين للمنافقين في حالتين مختلفتين، فهم لا يخلون من (إحدى)
الحالتين، فـ (أَوْ) على بابها من الدلالة على أحد المعنيين.
(1/198)
وهذا كما تقول: " زيد لا يخلوا أن يكون في
الدار أو في المسجد "، ذكرت
(أَوْ) لأنك أردت أحد الشيئين.
وتأمل الآية مع ما قبلها في التفسير تجدها كما ذكرت لك.
وأما قوله تعالى: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) .
فإنه ذكر قلوباً ولم يذكر قلباً واحداً، فهي على الجملة قاسية، وعلى
التعيين: إما كالحجارة، ففيها ما هو كذلك.
وإما أشد قسوة ففيها ما هو كذلك أيضاً.
ومثل هذا قول ابن عُلْيَة:
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما
أي: لا بد منهما على الجملة: ثم قال:
صدور رماح أشرعت أو سلاسل
يريد في حق كل منهم على التعيين، لا بد له من هذا أو من هذا.
وأما في الجملة فالأمران واقعان جميعاً.
وقد يجوز في قوله عز وجل: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) أن يكون مثل قوله:
(مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) .
وأما أو التي للتخيير فعلى أصلها، لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين.
وأما (أَوْ) التي زعموا أنها للإباحة نحو: جالس الحسن أو ابن سيرين،
فلم
توجد الإباحة من لفظ (أَوْ) ولا من معناها، وإنما أخذَتْ من صيغة الأمر
مع قرائن الأحوال.
و (أَوْ) غير معتمدة في هذا الكلام، وإنما دخلت لغلب العادة في أن
المشتغل
بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، وأن المجالس للحسن أو ابن سيرين غير
جامع بينهما معاً، ألا ترى أن المأمور بهذا لو جمع بين الشيئين
المباحين لم يكن عاصياً، علماً بأن (أَوْ) ليست ههنا معتمدة. والله
أعلم.
(1/199)
مسألة
وأما " لَكِنَّ " فأصح القولين فيها: أنها مركبة من " لا " و " إنَّ ".
و" الكاف ". و " الكاف " التي هي للخطاب - في قول الكوفيين - ما أراها
إلا كاف التشبيه، لأن المعنى يدل عليها إِذا قلت: ذهب زيد لكنَّ عمراً
مقيم، تريد: لا كفعل عمرو.
فلا لتوكيد النفي عن الأول، وإن لإيجاب الفعل الثاني، وهو المنفي عن
الأول، لأنك ذكرت الذهاب الذي هو ضده فدل على انتفائه.
فلا تقع " لَكِنَّ " إلا بين كلامين متنافيين، فلذلك تركبت من " لا " و
" الكاف
و" إن "، إلا أنهم لما حذفوا " الهمزة " المكسورة، كسروا الكاف
إِشعاراً بها. ولا بد بعدها من جملة إذا كان الكلام قبلها موجباً،
شَدَّدْتَ نونها أو خَفَّفْت، فإذا كان ما قبلها منفياً اكتفيت بالاسم
المفرد بعدها إذا خففت النون منها، لعلم المخاطب أنه لا يضاد النفي إلا
الإيجاب، فلما اكتفت باسم مفرد - وكانت إذا خففت نونها لا تعمل - صارت
كحروف العطف، فألحقوها بها، لأنهم حين استغنوا عن خبرها بما تقدم من
الدلالة، كان إجراء ما بعدها على ما قبلها أولى وأحرى، ليتفق اللفظ كما
اتفق المعنى.
فإن قيل: أليس مضادة النفي للوجوب بمثابة مضادة الوجوب للنفي، وهي في
كل حال لا تقع إلا بين كلامين متضادين، فلم قالوا: ما قام زيد لكن
عمرو، اكتفاء بدلالة النفي على نقيضه وهو الوجوب، ولم يقولوا: قام زيد
لكن عمرو اكتفاء بدلالة الوجوب على نقيضه وهو النفي؟
فالجواب: أن الفعل الموجب قد يكون له معان تضاده وتناقض وجوده، كالعلم
فإنه يناقض وجوده الظن والشك والغفلة والموت، وأخص أضداده به الجهل،
فلو
(1/200)
قلت: قد علمت الخبر لكن زيد، لم يدر ما
تضيف إلى زيد، أظن أم شك أم غفلة أم جهل؟ فلم يكن بُدٌّ من جملة قائمة
بنفسها ليعلم ما تريد، فإذا تقدم النفي نحو قولك: ما علمت الخبر لكن
زيد، اكتفىِ باسم واحد، لعلم المخاطب أنه لا يضاد نفي العلم إلا وجوده،
لأن النفي يشتمل على جميع الأضداد المنافية للعلم.
* * *
(فصل)
فإن قيل: ولم إذاً خففت " لكن " وجب إلغاؤها، بخلاف " إن " و " أن "
و" كأن " فإنه يجوز فيها الوجهان مع التخفيف، كما قال:
كأنه ظبية تعطو إلى وارق السلم؟
قلنا: زعم الفارسي أن القياس فيهن كلهن الإلغاء إذا خففن، ولذلك ألزموا
" لَكِن " إذا خففت الإلغاء، تنبيها على أن ذلك هو الأصل في جميع
الباب.
وهذا القول مع ما يلزم عليه من الضعف والوهن ينكسر عليه بأخواتها،
فيقال له: فلم خصت " لكن " بذلك دون " إن " و " أن " و " كأن "؟
ولا جواب له على هذا.
وإنما الجواب في ذلك إنما لما كانت مركبة من " لا " و " إن " ثم حذفت
الهمزة
اكتفاء بكسر (الكاف) ، بقي عمل (إن) لبقاء العلة الموجبة للعمل، وهى
فتح
آخرها، وبذلك ضارعت الفعل، فلما حذفت النون المفتوحة وقد ذهبت الهمزة
للتركيب، ولم يبق إلا النون الساكنة - وجب إبطال حكم العمل بذهاب
طرفيها وارتفاع علة المضارعة للفعل، بخلاف أخواتها إذا خففن، فإن معظم
لفظها باق،
(1/201)
فجاز أن يبقى حكمها، على أن الأستاذ أبا
القاسم بن الزماك - رحمه الله تعالى - قد أفادني رواية عن (يونس) أنه
حكى الإعمال في (لكن) مع تخفيفها. وكان أبو القاسم - رحمه الله -
يستغرب هذه الرواية، ورأيته حين ذكرني بها متعجباً منها، وكان إماماً
في هذه الصناعة رحمه الله تعالى.
* * *
فصل
(في دخول الواو على لكن)
واعلم أن " لكن " لا تكون حرف عطف مع دخول (الواو) عليها، لأنه لا
يجتمع حرفان من حروف العطف، فمتى رأيت حرفا من حروف العطف مع الواو،
فالواو هي العاطفة دونه، فمن ذلك " إما " إذا قلت:
إما زيد وإما عمرو.
وكذلك " لا " إذا قلت: ما قام زيد ولا عمرو ودخلت " لا " لتوكيد النفي.
وكذلك لا لتوكيد النفي، ولئلا يتوهم أن " الواو " جامعة، وأنت نفيت
قيامها في وقت واحد.
* * *
فصل
(في لا العاطفة)
ولا تكون " لا " عاطفة إلا بعد إيجاب، وشرط آخر، وهو: أن يكون الكلام
قبلها يتضمن مفهوم الخطاب نفي الفعل عما بعدها، كقولك: جاءني رجل لا
امرأة، ورجل عالم لا جاهل.
ولو قلت: مررت برجل لا زيد، لم يجز، وكذلك: مررت برجل لا عاقل، لأنه
ليس في مفهوم الكلام ما ينفي الفعل عن الثاني، وهى لا تدخل إلا لتوكيد
نفي.
(1/202)
فإن أردت ذلك المعنى جئت بلفظ (غير) فتقول:
مررت برجل غير زيد.
وبرجل غير عالم، ولا تقول: برجل غير امرأة، ولا بطويل غير قصير، لأن في
مفهوم " الخطاب " ما يغنيك عن معنى النفي الذي في " غير "، وذلك المعنى
الذي دَلَّ عليه المفهوم حين قلت: بطويل لا قصير.
وأما إذا كانا اسمين مُعَرفين نحو: مررت بزيد لا عمرو، فجائز هنا دخول
(غير) لجمود الاسم العلم، وأنه ليس له مفهوم خطاب عند الأصوليين إلا
(الضيْرَفي) من الشافعية، بخلاف الأسماء المشتقة وما جرى مجراها كرجل،
فإنه بمنزلة قولك " ذكر "، ولذلك دَلَّ بمفهومه على انتفاء الخبر عن
المرأة، ويجوز أيضاً: مررت بزيد لا عمرو، لأنه اسم مخصوص بشخص فكأنك
حين خصصته بالذكر، نفيت المرور عن عمرو، ثم أكدت ذلك النفي بلا.
أما الكلام المنفي فلا يعطف عليه بلا، لأن نفيك الفعل عن " زيد " إذا
قلت:
ما قام زيد، لا يفهم منه نفيه عن " عمرو "، فيؤكد بلا.
فإن قلت: أُؤكد بها النفي المتقدم.
قيل لك: وأي شيء يكون حينئذ إعراب " عمرو "، وهو اسم مفرد، ولم يدخل
(1/203)
عليه عاطفٌ بعطفه على ما قبله؟ فهذا لا
يجوز إلا أن تجعله مبتدأ وتأتي له بخبر، فتقول: مما قام زيد لا عمرو
وهو القائم، وأما أن أردت تشريكهما في النفي فلا بد من الواو، إما
وحدها وإما مع " لا "، ولا تكون " الواو " عاطفة ومعها " لا " إلا بعد
نفي.
وأما قوله سبحانه وتعالى: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ) .
فإن معنى النفي موجود في " غير ".
فإن قيل: فهلا قلت: " لا المغضوب عليهم ولا الضالين؟.
فالجواب: أن في ذكر (غَيْرِ) بيان الفضيلة للذين أنعم الله عليهم،
وتخصيصاً
لنفي صفة الغضب والضلال عنهم، وأنهم الذين أنعم الله عليهم بالنبوة
والهدى دون غيرهم.
ولو قال: " ولا المغضوب عليهم " لم يكن ذلك إلا تأكيد نفي إضافة
الصراط إلى المغضوب عليهم، كما تقول: هذا غلام زيد لا عمرو، أكدت نفي
الإضافة عن عمرو، بخلاف قولك: هذا غلام الفقيه غير الفاسق ولا الخبيث،
فإنك جمعت بين إضافة الغلام إلى الفقيه دون غيره، وبين نفي الصفة
المذمومة عن الفقيه، فافهمه.
فإن قيل: وأي شيء أكدت " لا " حين أدخلت عليها الواو، وقد قلت: إنها لا
تؤكد النفي المتقدم، وإنما تؤكد نفياً يدل عليه اختصاص الفعل الواجب
بوصف ما، كقولك: جاءني عالم لا جاهل؟
فالجواب: أنك حين قلت: ما جاءني زيد، لم يدل الكلام على نفي المجيء
عن " عمرو " كما تقدم، فلما عطف بالواو دل الكلام على انتفاء الفعل عن
عمرو، كما انتفى عن الأول، لمقام الواو مقام تكرار حرف النفي، فدخلت لا
لتأكيد النفي عن الثاني.
(1/204)
مسألة
(في أم العاطفة)
قوله وأما أم فلا يعطف بها إلا بعد استفهام.
هو كما قال، إذا أردت المعادلة بين أمرين متساويين، إما على جهة
الاستفهام وإما على جهة التقرير أو التوبيخ، ثم قد تكون أم إضراباً
ولكن ليس بمنزلة بل كما زعم بعضهم، ولكن إذا مضى كلامك على اليقين ثم
أدركت الشك مثل قولهم: " إنها لإبل. أم شاء؟ "
أضرب عن اليقين ورجع إلى الاستفهام حين أدركه الشك.
ونظيره قول الزباء حين تكلمت بعسى،، ثم أدركها اليقين فقالت: " عسى
الغوير " وهي متوقعة شراً، ثم غلب على ظنها الشر فختمت الكلام بحكم ما
غلب على ظنها لا بحكم عسى، لأن عسى لا يكون خبرها اسماً غير حدث،
فكأنها قالت: " صار الغويرا بؤسا ".
وهذه أم التي هي مشوبة المعنى بالإضراب والاستفهام، ولا ينبغي أن تكون
في القرآن، وإن كانت فعلى جهة التقرير، نحو قوله (أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هَذَا الَّذِي. . .؟) .
وأحسب جميع ما وقع منها في القرآن إنما هو على أصلها الأول من
المعادلة.
وإن لم يكن قبلها ألف استفهام، نحو قوله: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ)
و (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ. . .؟) .
لأن القرآن كله مبني على تقريع الجاحدين
(1/205)
وتبكيت المعاندين، وهو كله كلام واحد، كأنه
معطوف بعضه على بعض، فإذا وجدت أم وليس قبلها استفهام في اللفظ، فهو
متضمن في المعنى معلوم بقوة الكلام، كأنه يقول: أتقولون كذا، أم تقولون
كذا؟
و: أبلغك كذا أم حسبت أن الأمر كذا؟
ونظيره ما يتكرر في القرآن من قوله سبحانه: (وإذ قلنا) و (إذ فرقنا) .
بواو العطف من غير ذكر عامل يعمل في " إذ "، لأن الكلام في معرض تعداد
النعم وتكرار الأقاصيص، فيشير بالواو العاطفة إليها، كأنها مذكورة في
اللفظ، لعلم المخاطب بالمراد.
ومن هذا الباب الواو المتضمنة لمعنى (رب) ، فإنك تجدها في أول الكلام
كثيراً إشارة منهم إلى تعداد المذكور قبلها، من فخر أو مدح أو غير ذلك.
فهذه كلها معان مضمرة في النفس، وهذه الحروف عاطفة عليها، وربما
صرحت العرب بذلك المضمر، كقول ابن مسعود - رضي الله عنه -:
(دع ما حاك في نفسك، وإن أفتوك عنه وأفتوك. .) .
ولذلك حذف كثير من الجوابات في القرآن لدلالة الواو عليها، لعلم
المخاطب أن الواو عاطفة، ولا يعطف بها إلا على شيء، كقوله تعالى:
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ) .
وكقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) .
وهو كثير مما يحذف فيه الجواب، وعطف بالواو على المحذوف.
ومن المسألة الأولى قوله تعالى: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ
كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)
ليس على معنى بل، ولكن عطفاً على الاستفهام المتضمن في
الكلام، كأنه يقول: أحضر أم كان من الغائبين؟
ألا تراه يقول: (مَا لِيَ) كالمستفهم عن نفسه.
إن كان حاضراً فمالي لا أراه؟
ولولا هذا التقدير والإضمار لقال: ما للهدهد لا أراه؟
ولم يقل: لا أرى الهدهد.
(1/206)
مسألة
(في حذف حرف العطف)
لا يجوز إضمار حروف العطف، خلافاً للفارسي ومن قال بقوله، لأن الحروف
أدلة على معان في نفس المتكلم، فلو أضمرت لاحتاج المخاطب إلى وحي يسفر
به عما في نفس مُكلِّمه وحكم حروف العطف في هذا حكم حروف النفي
والتوكيد والتمني والترجي وغير ذلك، اللهم إلا أن حروف الاستفهام قد
يسوغ إضمارها في بعض المواطن، لأن للمستفهم هيئة تخالف هيئة المخبر،
إلا أنهم احتجوا لمذهبهم بآي من كتاب الله تعالى، وأشياء من كلام العرب
هي عند التأمل والتحصيل حجة
عليهم، كقول الشاعر:
كيف أصبحت كيف أمسيت ... مما يثبت الود في فُؤاد الكريم
هو عندهم على إضمار حرف العطف، ولو كان كذلك لانحصر إثبات الود في
هاتين الكلمتين من غير مواظبة ولا استمرار عليهما.
ولم يرد الشاعر ذلك، وإنما أراد أن يجعل أول الكلام ترجمة على سائره.
يريد الاستمرار على هذا الكلام والمواظبة عليه، كما تقول: قرأت ألفاً
باء، جعلت ذكر هذين الحرفين ترجمةً لسائر الباب وعنواناً للغرض
المقصود.
ولو قلت: قرأت ألفاً وباء، لأشعرت بانقضاء المقروء حيث عطفت الباء على
الألف دونما بعدها، فكان مفهوم الخطاب أنك لم تقرأ غير هذين الحرفين.
ألا ترى كيف أشعرت الواو العاطفة في قوله سبحانه:
(وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، على انقضاء العدد المتنازع فيه.
وما مثلوا به من قولهم: " اضرب زيداً عمراً خالداً "، ليس كما ظنوه من
إضمار الواو ولو كان كذلك لاختص الأمر بالمذكورين، وإنما المراد
الإشارة بهم إلى ما
(1/207)
بعدهم ومنه قولهم: " بَوَّبتُ الكتاب باباً
باباً "
و" قَسَمت المالَ درهماً درهماً "، ليس على إضمار حرف العطف، ولو كان
كذلك لانحصر الأمر في " درهمين وبابين "
وأما ما احتجوا به من قوله سبحانه:
(وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا
أَجِدُ) .
فليس على معنى الواو كما توهموه.
ولكن جواب إذا في قوله: قلت: لا أجد، وقوله تعالى: (تولوا وأعينهم)
إخبار عنهم وثناء عليهم، لأنها نزلت في قوم مخصوصين، وهم سبعة ذكرهم
ابن إسحاق وغيره، والكلام غير محتاج إلى العطف بالواو، لأنه مرتبط بما
قبله كالتفسير له.
وبلغني عن بعض أشياخنا الجلَّة أنه جعل من هذا الباب قول عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه -:
" لا يَغُرنك هذه التي أعجبك حسنها حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- لها ".
وقال: المعنى: حسنها وحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها.
وبلغ الاستحسان بالسامعين لهذا القول إلى أن علقوه في الحواشي من كتاب
الصحيح للبخاري، رحمه الله تعالى وليس الأمر كذلك، ولكن الحبَّ بدلٌ من
قوله (هذه) بدل اشتمال في موضع رفع.* * *
مسألة
(في أن " الواو " لا تدل على الترتيب ولا التعقيب)
تقول: صمت رمضان وشعبان، وإن شئت: شعبان ورمضان.
بخلاف الفاء وثم إلا أنهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم، وهو ببيانه
أعنى، وإن كانا جميعا
(1/208)
يهمانهم ويعنيانهم.
هذا لفظ سيبويه، وهو كلام مجمل يحتاج إلى بسط وتبيين.
فيقال: متى يكون أحد الشيئين أحق بالتقديم ويكون المتكلم ببيانه أعنى؟
والجواب: أن هذا أصل يجب الاعتناء به، لعظم منفعته في كتاب الله تعالى.
وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ لا بد من الوقوف على الحكمة في
تقديم ما قدم في القرآن وتأخير ما أخر، كنحو: (السمع والبصر) .
و (الظلمات والنور) ، و (الليل والنهار) و (الجن والإنس) في أكثر الآي.
وفي بعضها: (الإنس والجن)
وتقديم السماء على الأرض في الذكر، وتقديم الأرض عليها في بعض الآي
ونحو قوله تعالى: (سميع عليم) ، ولم يجئ: (عليم سميع) ، وكذلك: (عزيز
حكيم) ، و (غفور رحيم) ، وفي آية أخرى: (الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) إلى
غير ذلك
مما لا يكاد ينحصر، وليس شيء من ذلك يخلو عن فائدة وحكمة، لأنه كلام
الحكيم الخبير.
وسنقدم بين يدي الخوض في هذا الغرض أصلًا يقف بك على الأصح.
ويرشدك بعون الله إلى الطريق الأوضح، فنقول:
ما تقدم من الكلام فتقديمه في اللسان على حسب تقدم المعاني في الجنان.
والمعاني تتقدم بأحد خمسة أشياء: إما بالزمان، وإما بالطبع، وإما
بالرتبة، وإما بالسبب وإما بالفضل والكمال.
فإذا سبق معنى من المعاني إلى الخلد والفكر بأحد هي الأسباب الخمسة، أو
بأكثرها سبق اللفظ الدال على ذلك المعنى السابق، وكان ترتيب الألفاظ
بحسب ذلك.
نعم، وربما كان ترتيب الألفاظ بحسب الخفة والثقل لا بحسب المعنى.
كقوله: (ربيعة ومضر) وكان تقديم مضر أولى من جهة الفضل، ولكنهم آثروا
الخفة، لأنك لو قدمت (مضر) في اللفظ كثرت الحركات وتوالت، فلما أخرت
وقف عليها بالسكون.
قلت: ومن هذا النحو " الجن والإنس "، فإن الإنس أخف لفظاً لمكان النون،
(1/209)
الخفيفة والسين المهموسة، فكان (تقديم)
الأثقل أولى بأول الكلام من الأخف
لنشاط المتكلم وجماحه.
وأما في القرآن فلحكمة أخرى سوى هذه قدم الجن على الإنس في الأكثر
والأغلب.
وسنشير إليها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
وأما ما تقدم بتقدم الزمان فكـ (عاد وثمود) ، و (الظلمات والنور) .
فإن الظلمة سابقة للنور في المحسوس والمعقول، وتقدمها في المحسوس معلوم
بالخبر المنقول، وتقدم الظلمة المعقولة معلوم بضرورة العقل.
قال سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) .
وانتفاء العلم ظلمة معقولة، وهي متقدمة بالزمان على نور الإدراكات،
ولذلك قال سبحانه ونعالى: (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) ، فهي ثلاث محسوسات:
ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وثلاث معقولات
وهي: عدم الإدراكات الثلاثة المذكورة في الآية المتقدمة، إذ لكل آية
ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع، قال علي رضي الله عنه: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إن الله خلق عباده في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره ".
ومن المتقدم بالطبع نحو: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) ، ونحوه: (مَا
يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) الآية.
وما يتقدم من الأعداد بعضها على بعض إنما يتقدم بالطبع كتقدم الحيوان
على الإنسان، والجسم على الحيوان.
ومن هذا الباب تقدم العزيز على الحكيم، لأنه عزَّ فلما عزَّ حكم.
وربما كان هذا من تقدم السبب على المسبب، ومثله كثير في القرآن
والكلام، نحو قوله: (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ) ، لأن التوبة سبب
(1/210)
الطهارة، وكذلك: (كل أفاك أثيم) ، لأن
الإفك سبب الإثم.
وكذلك: (كل معتد أثيم) .
وأما تقدم (هَمَّازٍ) على (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) فبالرتبة، لأن المشي
مترتب على
القعود في المكان، والهَمَّازٍ هو: المغتاب، وذلك لا يفتقر إلى حركة
وانتقال من موضعه، بخلاف النميمة.
وأما تقدم (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) على (مُعْتَدٍ) فبالرتبة أيضاً، لأن
المناع يمنع خير
نفسه، والمعتدي يعتدي على غيره، ونفسه في الرتبة قبل غبره.
ومن المقدم بالرتبة قوله تعالى: (يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ) ، لأن
الذي يأتي رجالًا يأتي من المكان القريب، والذي يأتي على الضامر يأتي
من المكان البعيد، على أنه قد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه
قال: " وددت أني حججت راجلًا) ، لأن الله قدم الرجالة على الركبان في
القرآن.
فجعله ابن عباس رضي الله عنهما من تقديم الفاضل على المفضول، والمعنيان
موجودان، وربما قدم الشيء لثلاثة معاني وأربعة وخمسة، وربما قدم لمعنى
واحد من الخمسة.
ومما قدم للفضل والشرف قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ)
وقوله تعالى: (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) .
ومنه تقديم " السمع " على " البصر "، (وتقديم (سميع) على (بصير) .
ومنه تقديم (الجن) على (الإنس) في أكثر المواضع، لأن الجن يشتمل
على الملائكة (وغيرهم) مما اجتن على الأبصار، قال الله سبحانه وتعالى:
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) .
وقال الأعشى:
وسَخَّرَ من جِنِّ الملائِكِ تِسعةً ... قِياماً لَدَيْهِ يَعْمَلونَ
بلا أَجْرِ
(1/211)
وأما قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) .
وقوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) .
وقوله: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) .
فإن لفظ الجن هاهنا لا يتناول الملائكة بحال، لنزاهتهم عن
العيوب، وأنهم لا يتوهم عليهم الكذب ولا سائر الذنوب.
فلما لم يتناولهم عموم لفظ الجن، لهذه القرينة، بدأ بلفظ الإنس لفضلهم
وكمالهم.
وأما تقديم " السماء " على " الأرض " فبالرتبة أيضاً وبالفضل والشرف.
وأما تقديم (الأرض) من قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ
مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)
فبالرتبة، لأنها منتظمة بذكر ما هي أقرب إليه، وهم
المخاطبون بقوله تعالى: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) .
فاقتضى حسن النظم تقديمها مرتبة في الذكر مع المخاطبين الذين هم أهلها،
بخلاف الآية التي في " سبأ "، فإنها منتظمة بقوله تعالى: (عَالِمِ
الْغَيْبِ) .
وأما تقديم المال على الولد في كثير من الآي، فلأن الولد بعد وجود
المال
نعمة ومسرة، وعند الفقر وسوء الحال هم ومضرة، فهذا من تقديم السبب على
المسبب، لأن المال سبب تمام النعمة بالولد.
وأما قوله تعالى: (حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) .
فتقديم النساء على البنين بالسبب، وتقديم البنين على الأموال بالرتبة.
ومما قدم بالرتبة ذكر بالسمع والعلم من قوله تعالى: (سميع عليم) ، حيث
وقع، فإنه خبر يتضمن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلقه بما قرب
كالأصوات وهمس الحركات، فإن من يسمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك - في
العادة - ممن يقال لك: إنه يعلم، وإن كان علم الباري - سبحانه - متعلقا
بما ظهر وبطن، وواقعاً على ما قرب وشطن، ولكن ذى السميع أوقع في باب
التخويف من ذلك العليم.
فهو أولى بالتقديم.
وأما تقديم (الغفور) على (الرحيم) فهو أولى بالطبع، لأن المغفرة سلامة
(1/212)
والرحمة غنيمة، والسلامة مطلوبة قبل
الغنيمة، ألا ترى لقوله عليه السلام لعمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
" أبعثُك وجهاً يسلمك الله تعالى ويغنمك، وأرغب لك
رغبة من المال ".
فهذا من الترتيب البديع، بدأ بالسلامة قبل الغنيمة، وبالغنيمة
قبل الكسب، والعطية الأولى من التقدم بالطبع، والثانية من التقدم
بالسبب.
وأما قوله: (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) في (سبأ) ، فالرحمة هناك
متقدمة على
المغفرة، إما بالفضل والكمال، وإما بالطبع، لأنها منتظمة بذكر أوصاف
الخلق من المكلفين وغيرهم من الحيوان، فالرحمة تشمهلم والمغفرة تخصهم،
والعموم بالطبع قبل الخصوص كقوله تعالى: (فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ) .
وكقوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) .
افتتح بالعموم، الذي هو متقدم بالطبع على الخصوص.
ومما قدم للفضل قوله: (اسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، لأن
السجود
أفضل، قال عليه السلام:
" أقرب ما يكون العبد إلى الله إذا كان ساجداً ".
فإن قيل: فالركوع قبل السجود بالزمان والطبع والعادة لأنه انتقال من
علو إلى انخفاض والعلو بالطبع قبل الانخفاض فهلا قدم في الذكر على
السجود لهاتين العلتين؟
فالجواب أن يقال لهذا السائل: انتبه لمعنى هذه الآية من قوله:
(ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، ولم يقل: اسجدي مع الساجدين، فإنما
عبر بالسجود عن الصلاة كلها، وأراد صلاتها في بيتها، لأن صلاة المرأة
في بيتها أفضل لها من صلاتها مع قومها.
ثم قال لها: (ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي: صلي مع المصلين في
بيت
المقدس، ولم يرد أيضاً الركوع وحده دون سائر أجزاء الصلاة، ولكنه عبر
بالركوع
(1/213)
عن الصلاة كلها، كما تقول: ركعت ركعتين
وركعت أربع ركعات، إنما تريد الصلاة لا الركوع بمجرده، فصارت الآية
متضمنة لصلاتين: صلاتها وحدها، عبر عنها بالسجود، لأن السجود أفضل
حالات العبد، وكذلك صلاة المرأة في بيتها أفضل لها، ثم صلاتها في
المسجد عبر عنها بالركوع، لأنه في الفضل دون السجود، وكذلك صلاتها مع
المصلين دون صلاتها وحدها في بيتها ومحرابها، وهذا نظم بديع وفقه دقيق،
وبالله التوفيق.
وهذه نبذ تشير لك إلى ما وراء، أو تنبذن وأنت صحيح
بالعراء، إن شاء الله تعالى.
ومما يليق ذكره بهذا الباب ما تضمنه قوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) من الحكم
الباهرة، والفوائد الباطنة والظاهرة، فإنه تعالى بداً بالطائفين للرتبة
والقرب من البيت المأمور بتطهيره من أجل الطوافين، وجمعهم جمع السلامة،
لأن جمع السلامة أدلُّ على لفظ الفعل الذي هو علة يتعلق بها حكم
التطهير، ولو قال مكان الطائفين: الطواف، لم يكن في هذا اللفظ من بيان
قصد الفعل ما في قوله: (الطائفين) .
ألا ترى أنك تقول: يطوفون، كما تقول:
طائفون، فاللفظ مضارع للفظ.
فإن قيل: فهلا أتي بلفظ الفعل بعينه فيكون أبين، فيقول: طهر بيتي للذين
يطوفون؟.
فالجواب: أن الحكم معلل بالفعل لا بذوات الأشخاص.
ولفظ (الذين) ينبئ عن الشخص والذات، ولفظ " الطواف " يخفي معنى الفعل
ولا يبينه، فكان لفظ (الطائفين) أولى بهذا الموطن.
ثم يليه في الترتيب (القائمين) ، لأنه في معنى العاكفين، وهو في معنى
قوله
تعالى: (إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) ، أي: مثابراً ملازماً،
وهو كالطائفين في تعلق حكم التطهير به، ثم يليه بالرتبة لفظ الركع، لأن
المستقبلين البيت بالركوع لا يختصون بما قرب منه كالطائفين والعاكفين،
ولذلك لم يتعلق حكم النطهير بهذا الفعل الذي هو الركوع، وأنه لا يلزم
أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجئ
(1/214)
بلفظ الجمع المسلم، إذ لا يحتاج فيه إلى
بيان لفظ الفعل كما احتيج فيما قبله.
ثم وصف الركع بالسجود، ولم يعطف بالواو كما عطف ما قبله، لأن الركع هم
السجود، والشيء لا يعطف بالواو على نفسه، ولفائدة أخرى، وهو أن "
السجود " في الأغلب عبارة عن المصدر، والمراد به هاهنا الجمع، فلو عطفت
بالواو لتوهم أنه يريد السجود الذي هو المصدر دون الاسم الذي هو النعت.
وفائدة ثالثة، وهو أن الراكع إن لم يسجد فليس براكع في حكم الشريعة،
فلو عطفت بالواو لتوهم أن الركوع حكم يجري على حياله.
فإن قيل: فلم قال: (السجود) على وزن فعول، ولم يقل السُّجَّد كما قال
الرُّكَّع، وكما قال في آية أخرى: (رُكَّعًا سُجَّدًا) ؟
وما الحكمة في جمع ساجد على سجود، ولم يجمع راكع على ركوع؟
فالجواب: أن السجود - في أصل موضوعه - عبارة عن الفعل، وهو في
معنى الخشوع والخضوع، وهو يتناول السجود الظاهر والباطن، ولو قال: "
السُّجَّد " جمع ساجد لم يتناول إلى المعنى الظاهر.
وكذلك الرُّكَّع، ألا تراه يقول: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) : يعني
رؤية العين، وهي لا تتعلق إلا بالظاهر، والمقصود هاهنا الركوع
الظاهر لعطفه على ما قبله مما يراد به قصد البيت، والبيت لا يتوجه إليه
إلا بالعمل الظاهر، وأما الخشوع والخضوع الدي يتناوله لفظ الركوع، دون
لفظ الركع فليس مشروطاً بالتوجه إلى البيت.
وأما السجود فمن حيث أنبأ عن المعنى الباطن، جعل وصفاً للركع ومتمماً
لمعناه، إذ لا يصح الركوع الظاهر إلا بالسجود الباطن، ومن حيث تناول
لفظه أيضاً السجود الظاهر الذي يشترط فيه التوجه إلى البيت، حسن
انتظامه أيضاً بما قبله، مما هو معطوف على الطائفين الدين ذكرهم بذكر
البيت، فمن لحظ هذه المعاني بقلبه، وتدبر هذا النظم البديع بلُبِّه،
ترفع في معرفة الإعجاز عن التقليد، وأبصر بعين اليقين أنه تنزيل من
حكيم حميد.
(1/215)
مسألة
من باب التوكيد
قوله: " الأسماء التي يؤكد بها المذكر: كله، ونفسه، وعينه "
إلى آخر الفصل.
الكلام في كل في ثلاثة فصول: في كونه توكيداً، وفي كونه مبتدأ مضافاً،
وفي كونه مفرداً عن الإضافة مخبراً عنه، والأصل من هذه الثلاثة أن يكون
توكيداً لجملة أو ما هو في حكم الجملة مما يتيقن، لأن موضوعه الإحاطة
من حيث كان لفظه مأخوذاً من لفظ الإكليل والكلة، والكلالة، مما هو في
معنى الإحاطة بالشيء.
وهو اسم واحد في لفظه جمع في معناه، أو لم يكن معناه معنى الجمع لما
جاز أن
يؤكد به الجمع، لأن التوكيد تكرار للمؤكد فلا يكون إلا مثله، إن كان
جمعا فجمع، وإن كان واحداً فواحد.
وأما كونه مضافاً غير توكيد فحقه أن يكون مضافاً إلى اسم منكور شائع في
الجنس من حيث اقتضى الإحاطة، فإن أضفته إلى جملة معرفة كقولك: كل إخوتك
ذاهب، قبح إلا في الابتداء، لأنه إذا كان مبتدأ في هذا الموطن كان خبره
بلفظ الإفراد، تنبيها على أن أصله أن يضاف إلى نكرة، لأن النكرة شائعة
في الجنس.
وهو إنما يطلب جنسا يحيط به (فكأنما تقول) : كل واحد من إخوتك ذاهباً.
فيدل إفراد الخبر على المعنى الذي هو الأصل، وهو إضافة إلى اسم مفرد
نكرة.
فإن لم تجعله مبتدأ وأضفته إلى جملة معرفة، كقولك: رأيت كل إخوتك.
وضربت كل القوم لم يكن في الحسن بمنزلة ما قبله، لأنك لم تضفه إلى جنس،
ولا معك في الكلام خبر مفرد يدل على معنى إضافته إلى جنس كما كان في
قولهم: كلهم ذاهب، وكل القوم عاقل، فإن أضفته إلى جنس معرف بالألف
واللام
(1/216)
كقوله عز وجل: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ)
حسن ذلك، لأن الألف واللام للجنس لا للعهد ولو كانت للعهد لقبح، كقولك:
خذ من كل الثمرات التي عندك
والتي من شأنها كذا، لأنها إذا كانت جملة معرفة معهودة، وأردت معنى
الإحاطة فيها، فالأحسن أن تأتي بالكلام على أصله، فتؤكد المعرفة بـ كل،
فتقول: خذ من الثمرات كلها، لأنك لم تضطر إلى إخراجها عن التوكيد، كما
اضطررت في النكرة حين قلت: " لقيت كل رجل "، لأن النكرة لا تؤكد، وهي
أيضاً شائعة في الجنس كما تقدم.
فإن قيل: فإذا استوى الأمران في قوله: كل من كل الثمرات، وكل من
الثمرات كلها، فما الحكمة في اختصاص أحد الجائزين بأن يكون من نظم
القرآن دون الآخر؟
قلنا: لو كان هذا السؤال من كلام غير هذا الكلام العزيز لم يحفل به،
لأن
الفصيح يتكلم بما شاء من الوجوه الجائزات ولا اعتراض عليه، ولكن الكلام
الإلهي والنظم المعجز الخارق للعادات يقتضي حكمة ومزيد فائدة في اختصاص
أحد الوجهين دون الآخر.
أما قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)
فمن هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض والمجرور في موضع المفعول لا في موضع
الظرف، إنما يريد الثمرات بأنفسها، لا أنه أخرج منها شيئا، وأدخل من
لبيان الجنس كله.
ولو قال: أخرجنا به (من) الثمرات كلها، لقيل؟ أي شيء أخرج منها؟
وذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف، وأن مفعول أخرجنا فيما بعد،
ولم يتوهم ذلك مع تقديم كل، لعلم المخاطبين أن كلا إذا تقدمت تقتضي
الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت - وكانت - توكيداً - اقتضت الإحاطة بالمؤكد
خاصة، جنساً شائعاً كان أو معهوداً معروفا.
وأما قوله عز وجل: (كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) .
ولم يقل: من الثمرات كلها، ففيها الحكمة التي في الآية قبلها.
ومزيد فائدة وهو أنه قد تقدمت في النظم
قوله: (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ) ، لأن الألف
واللام إنما تردك إلى المعهود
(1/217)
عندك، أو المتقدم في الخطاب، فكان الابتداء
بـ كل أحصن للمعنى، وأجمع
للجنس، وأرفع للبس، وأبدع في النظم المعجز لذوي الألباب.
والله الموفق للصواب.
وأما الفصل الثالث، وهو أن تكون مقطوعة عن الإضافة مفردة مخبراً عنها.
فحقها أن تكون ابتداء، ويكون خبرها جمعاً، ولا بد من مذكورين قبلها،
لأنها إن لم يذكر قبلها جملة، ولا أضيفت إلى جملة، بطل معنى الإحاطة
فيها، ولم يعقل لها معنى.
وإنما وجب أن يكون خبرها جمعاً لأنها اسم في معنى الجمع، فتقول: كل
ذاهبوان إذا تقدم ذكر قوم، لأنك معتمد في المعنى عليهم، وإن كنت مخبراً
عن كل فصارت بمنزلة قولك: الرهط ذاهبوان والنفر منطلقون.
لأن الرهط والنفر اسمان مفردان، ولكنهما في معنى الجمع.
والشاهد لما قلناه قوله سبحانه وتعالى:
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ، و (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) ،
(وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) .
فإن كانت مضافة إلى ما بعدها في اللفظ، لم تجد خبرها إلا مفرداً،
للحكمة
التى قدمناها قبل، وهي أن الأصل إضافتها إلى النكرة المفردة، فتقول:
" كل إخوتك ذاهب " أي: كل واحد منهم ذاهب، ولم يلزم ذلك حين قطعتها عن
الإضافة فقلت:
كلهم ذاهبون لأن اعتمادها إذا أفردت على المذكورين قبلها، وعلى ما في
معناها من معنى الجمع، واعتمادها إذا أضفتها على الاسم المفرد، إما
لفظاً وإما تقديراً، كقوله عليه الصلاة والسلام
" كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته ".
ولم يقل: " راعون "
ولا " مسؤولون "، وكقوله:
" أحسنوا الملأ، كلكم سيروي "
وكقول عمر - رضي الله عنه -:
" أو كُل الناس يجد ثياباً ".
ولم يقل: " يجدون "
ومثله قوله سبحانه وتعالى:
(1/218)
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ولم يقل:
فانون، كما قال عز وجل: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)
وقوله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا
آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) .
إلى غير ذلك من الشواهد التي يغني عن غايتها الشاهد.
فإن قيل: فقد ورد في القرآن موضعان أفرد فيها الخبر عن " كل "، وهي غيم
مضافة إلى شيء بعدها، وهما قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى
شَاكِلَتِهِ)
و (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) ، ولم يقل: كذبوا؟.
فالجواب: أنه في هاتين الآيتين قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ
دون غيره أما قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)
فلأن قبلها ذكر فريقين مختلفين، وذكر مؤمنين وظالمين، فلو قال: " كل
يعملون "
وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف، فكان لفظ الإفراد أدل على
المراد، كان يقول: " كل فريق يعمل على شاكلته ".
وأما قوله تعالى: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) ، فلأنه ذكر قروناً
وأمماً، وختم ذكرهم
بذكر قوم تُبَّع، فلو قال: كل كذبوا، و (كُلٌّ) إذا أفردت إنما تعتمد
على أقرب المذكورين إليها، فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تبع
خاصة، أنهم كذبوا الرسل، فلما قال: (كُلٌّ كَذَّبَ) علم أنه يريد كل
قرن منهم كذب، لأن إفراد الخبر عن (كُلٌّ) حيث وقع إنما يدل على هذا
المعنى كما تقدم، ومثله قوله تعالى: (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) .
وأما قولنا في: (كُلّ) إذا كانت مقطوعة عن الإضافة فحقها أن تكون
مبتدأة
فإنما تريد أنها مبتدأة مخبر عنها، أو مبتدأة منصوبة بفعل بعدها لا
قبلها، أو مجرورة يتعلق خافضها بما بعدها، كقولك: كلًّا ضربت، وبكل
مررت، قال الشاعر:
كلًّا بلوت فلا النعماء تبطرني
(1/219)
وقال الخثعمي:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
ويقبح تقديم الفعل العامل فيها إذا كانت منفردة، كقولك: ضربت كلا.
ومررت بكل من أجل أن يقطعها عن المذكورين قبلها في اللفظ، لأن العامل
اللفظي له صدر الكلام، وإذا قطعتها عما قبلها في اللفظ لم يكن لها شيء
تعتمد عليه قبلها ولا بعدها، قبح ذلك.
وأما إذا كان العامل معنوياً نحو: كل ذاهبون، فليس بقاطع لها عما قبلها
من
المذكورين، لأنه لا وجود له في اللفظ، فإذا قلت: ضربت (زيداً) وعمراً
وخالداً، وشتمت كلاً، أو ضربت كلًّا، وما أشبه ذلك، لم يجز ولم يعد
بخبر لما قدمناه، والله أعلم.
وأما " كلا " فاختلاف النحويين فيها مشهور، واحتجاج البصريين والكوفيين
مذكور، لكننا نشير إلى ضروب من الترجيح لكل فريق، ترشد الناظر فيها إلى
واضح الطريق، فنقول:
أما من ذهب إلى أنها اسم مفرد وألفها لام الفعل وليست ألف التثنية،
فمعظم
حجته أنها في الأحوال الثلاثة مع الظاهر على صورة واحدة، أعني حال
الرفع
والنصب والخفض، وإنما تنقلب ياء في حال الخفض والنصب مع المضمر خاصة
كما ينقلب ما ليس بألف التثنية، نحو: لديهما وعليهما.
وهذا معنى قول الخليل وسيبويه، ولمْ يبعد عن الصواب من عول
عليه.!
ومما احتج لهذا المذهب قول العرب: كلاهما ذاهب، ولم يقل: ذاهبان.
(1/220)
وكِلا يَومَيْ أُمامةَ يوْمُ صَدٍّ.
وقوله سبحانه وقعالى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا) ،
فأفرد الخبر عن (كلا) .
ولا حجة فيه، ولذلك عدل سيبويه في الاستدلال عنه، بما تقدم من أنك تضيف
كلى كلا فتفرد الخبر عنه، فتقول: " كلكم راع " حملا على المعنى، إذ
المعنى: كل واحد منكم راع.
وكذلك (كلا) إنما معناه: كل واحد مئهما ذاهب.
فإن قيل: إنما أفرد الخبر عن " كل " لأنه اسم مفرد، وكذلك (كلا) لا
للعلة
الني ذكرت؟
قلنا: فلم وكد الجمع بها، والجمع لا يوكد بالواحد، كما لا ينت بالواحد.
وهو في التوكيد أبعد، لأنه تكرار للمؤكد؟
ولم يقل عز وجل: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)
و (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ)
وقد ثبت بما تقدم من الشواهد السمعية والأدلة القياسية أنه
اسم للجمع بمنزلة قوم، وأنت لا تقول: قوم ذاهب، ولا قومك خارج فثبت أنه
ليس باسم مفرد، وإنما هو اسم للجمع.
وإنما التعديل لمن ذهب مذهب سيبويه على الحجة الأولى، على أنها معارضة
بضروب من الاحتجاج، منها: أنها توكيد للاثنين ولا يؤكد الاثنان بواحد،
كما لا ينعت الاثنان بواحد، وليس لقائل أن يقول فيها كما في " كل "
إنها اسم للجمع، لأن الجمع تختلف صوره فيكون مسلما ومكسراً وأسماء
الجمع لا واحد لها كرهط وقوم.
ولا يكون للتثنية إلا صورة واحدة وحد واحد، وإذا بطل أن يكون واحداً في
معنى التثنية، وبطل توكيد الاثنين بواحد ولم يبق إلا أن يكون (كلاهما)
لفظاً مثنى تقلب ألفه ياء في النصب والخفض مع المضمر خاصة، لأنك إذا
أضفته إلى مظهر استغنيت عن قلب ألفه ياء فى الخفض والنصب، بانقلاب ألف
المظهرين اللذين تضيف إليهما إذا قلت رأيت كلا أخويك.
ولو قلت: رأيت كلا أخويك، كنت قد جمعمتا بين علامتي
إعراب في اسم واحد، لأنهما لا ينفصلان أبداً ولا تنفك " كلا " هذه عن
الإضافة
(1/221)
بحال، ألا ترى كيف رفضوا: ضربت رأسي
الزيدين، وعدلوا إلى أن قالوا:
رؤوسهما، لما رأوا المضاف والمضاف إليه كاسم واحد.
هذا مع أن الرؤوس اسم ينفصل عن الإضافة في أكثر الكلام، وكذلك القلوب
من قوله تعالى: (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، فإذا كانوا قد رفضوا علامة
التثنية هناك مع أن الإضافة عارضة فما ظنك بهذا الموضع الذي لا تفارقه
الإضافة ولا ننفك عنه؟
فهذا الذي حملهم على أن لا يقولوا: ضربت كل أخويك، ومررت بكلى أخويك
وألزموها الألف في جميع الأحوال مع الظاهر، ولم يبعد ذلك كما لم يبعد
في لغة طيء وخثعم وبني الحارث بن كعب أن يقولوا: رأيت الزيدان، ومررت
بالزيدان، فلم يستنكروا هذا في كلامهم والتزموه بوجود التثنية في الاسم
اللازم له، وهو المضاف إليه، فإذا
أضافوه إلى المضمرين قلبوا ألفه في النصب والخفض ياء، لأن المضاف إليه
لا يثنى بالياء في نصبه ولا في خفضه، ولكنه أبداً بالألف، كقولك: ضربت
كلاهما، ومررت بكليهما، فقد زالت العلة التي رفضوها في كلا أخويك حين
لم يجتمع علامتا نصب ولا علامتا خفض في المضمر.
ومن الحجة لهذا القول الآخر أيضا أن (كلا) يفهم من لفظه ما يفهم من لفظ
(كل) ، وهو موافق له في فاء الفعل وعينه، وأما اللام فمحذوفة كما حذفت
في كثير من الأسماء فمن ادعى أن لام الفعل " واو "، وأنه من غير لفظ
" كل "، فليس له دليل يعضده ولا اشتقاق يشهد له ويؤيده.
فإن قيل لهم: ولم كسرت الكاف من " كلا " وهي في " كل " مضمومة؟
فلهم أن يقولوا: كسرت إشعاراً وتنبيهاً على معنى الاثنين، كما يبدأ لفظ
الاثنين بالكسر، ألا تراهم كسروا العين من عشرين إشعاراً بتثنية العشر.
ومن حجتهم أن كلتا بمنزلة " بنتا " و " ثنتا "، والألف في " ثنتا " لا
خلاف أنها
ألف تثنية، فكذلك كلتاهما.
ومن ادعى أن الأصل فيهما " كلواهما "، فقد ادعى ما تستبعده العقول، ولا
يقوم عليه الدليل ولا البرهان.
(1/222)
ومن حجتهم أيضاً أن تقول في التوكيد: مررت
بإخوتك ثلاثتهم وأربعتهم.
فتؤكد بالعدد فاقتضى القياس أن تقول في الثثنية كذلك: مررت بأخويك
اثنيهما، فاستغنوا عنه بكليهما لأنه في معناه، وإذا كان في معناه فهو
تثنية مثله -
فإن قيل: فإنك تقول: كلا أخويك جاء، ولا تقول: اثنا أخويك جاء، فكيف
يكون في معناه؟
قلنا: العدد الذي تؤكد به إنما يكون توكيداً مؤخراً تابعاً لما قبله،
فأما إذا قدم لم يجز ذلك، لأنه في معنى الوصف، والوصف لا يقدم على
الموصوف، فلا تقول: ثلاثة إخوتك جاءوني.
وهذا بخلاف كل وكلا، لأن فيهما معنى الإحاطة، فصار كالحرف الداخل
لمعنى فيما بعده، فحسن تقديمهما في حال الإخبار عنهما، وتأخيرهما في
حال
التوكيد (بهما) والله المستعان.
* * *
مسألة
(في التوكيد بأجمع وأجمعين)
أما أجمع فاسم يؤكد به الاسم الذي لا يتبعض، ولا يؤكد به من يعقل، لأن
حقيقته لا تتبعض.
فإن قيل: فقد تقول: رأيت زيداً أجمع، إذا رأيته بارزاً من طاق أو نحوه.
فليس هذا توكيداً لزيد في الحقيقة، لأنك لا تريد نفسه وحقيقته، وإنما
تريد بدنه أو ما تدرك العين منه.
وأجمع هذا اسم معرفة، تعرف بمعنى الإضافة، لأن معنى
" قبضت المال أجمع " بمعنى " قبضته كله "، فلما كان مضافا في المعنى
تعرف ووكد به المعرفة.
وإنما استغنى عن التصريح بلفظ المضاف إليه معه، ولم يستغن عن لفظ
المضاف إليه مع كل إذا قلت: قبضت المال كله، لأن " كلا " تكون توكيداً
وغير توكيد،
(1/223)
وتتقدم في أول الكلام إذا قلت: كلكم ذاهب،
فصار بمنزلة نفسه وعينه، لأن كل واحد منهما يكون توكيداً وغير توكيد،
وإذا أكدت به لم يكن بدٌّ من إضافته إلى ضمير المؤكد حتى يعلم أنه
توكيد، وليس كذلك " أجمع " لأنه لا يجيء إلا تابعاً لما قبله، فاكتفى
بالاسم الظاهر المؤكد، واستغنى به عن التصريح بضميره كما فعل بـ " سحر
" حين أردته ليوم بعينه، فإنه عرف بمعنى الإضافة واستغنى عن التصريح
بالمضاف إليه اتكالاً على ذكر اليوم قبله.
فإن قيل: ولم لم يقدم " أجمع " كما قدم " كل "، فتقول: " قبضت أجمع
مالك؟ "
فالجواب: أن " أجمع " فيه معنى الصفة، لأنه مشتق من جمعت فلم يقع
إلا تابعاً، بخلاف (كل) .
ومن أحكامه أنه لا يثنى ولا يجمع على لفظه، لا تقول: قبضت الدرهمين
أجمعين، ولا يقال في جمعه: أجامع، كما تقول في جمع الأفضل: الأفاضل،
ولا جمع كلما تقول في أحمر: حمراً.
أما امتناع التثنية فيه فلأنه وضع لتوكيد الاسم المفرد الذي يتبعض، فلو
ثنيته
وقلت: هذا الدرهمان أجمعان، لم يكن في قولك " أجمعان " توكيد لمعنى
التثنية، كما يكون في قولك " كلاهما "، لأن التوكيد تكرار لمعنى
المؤكد، إِذا قلت
" درهمان ": علم أنهما اثنان، فإذا قلت " كلاهما " أكدت ذلك المعنى،
كأنك قلت: " اثناهما ".
ولا يستقيم ذلك في قوله " أجمعان "، لأنه بمنزلة من يقول: " أجمع
وأجمع " كما أن (الزيدان) بمنزلة زيد وزيد، فلم يفدك أجمعان تكرار
بمعنى
التثنبة، وإنما أفادك تثنية واحدة، بخلاف (كلاهما) إلا أنه ليس بمنزلة
قولك: (كلًّا) و (كل) ، وكذلك " اثناهما " الذي استغنى عنه بكلاهما لا
ينفرد فيقال فيه: اثن واثن، (فإنما هي) تثنية لا تنحل ولا تنفرد، فلم
يصلح لمعنى التوكيد تثنية غيرها، فلا ينبغي أن يؤكد معنى التثنية
والجمع إلا بما لا واحد له من لفظه، لئلا يكون بمنزلة الأسماء المفردة
المعطوفة بعضها على بعض بالواو
(1/224)
وهذه علة امتناع الجمع فيه، لأنك لو جمعنه
كان جمعاً لواحد من لفظه، ولا
يؤكده معنى الجمع إلا بجمع لا ينحل إلى الواحد.
وسنبين بعد هذا أن " أجمعين " و " أكتعين " لا واحد له من " لفظه، وإن
شئت
قلت: إن أجمع فيه معنى " كل "، و " كل " لا يثنى ولا يجمع، إنما يثنى
الضمير الذي يضاف إليه كل.
وأما قولهم في تأنيثه: جمعاء ولم يقولوا: جمعى،، كما يقولون في تأنيث
" الأكبر " الكبرى، " والأصغر ": الصغرى، إذا كان فيه الألف واللام، أو
كان مضافاً فلأنه أقرب إلى باب " أحمر " و " حمراء " منه إلى باب "
الأفعل "
و" الفعلى "، لأنه لا يدخله الألف واللام.
ولا يضاف إضافة مصرحاً بها في اللفظ، فكان أقرب إلى باب " أفعل، الذي
مؤنثه " فعلاء "، وإن كان قد يخالف أيضاً من وجوه، ولكنه أشبه به.
فإن قيل: كيف قلتم إنه لا يجمع، وأنتم تقولون: جاء الزيدون أجمعون، وهل
" أجمعون " إلا كقولك " الأكرمون " جمع أكرم؟
وقلتم: إنه أقرب إلى باب " أحمر وحمراء " والعرب لا تقول: الأحمرون
والأصفرون، وإنما تقول: الحمر والصفر؟
والجواب: ما تقدم من أن (أجمعين) ليس جمعاً لأجمع، ولا له واحد من
لفظه، وإنما هو بمنزلة قولك: الياسمين، وبمنزلة قولك: أبَينُون تصغير
أبناء.
فهذا جمع مسلم وليس له واحد من لفظه.
ولو كان واحد " أجمعين " أجمع، لما قالوا في مؤنثه جمع، لأن " فعل " -
بفتح
العين - لا يكون واحده فعلاً، وجمعاء التي هي مؤنث أجمع ولو جمعت لقيل:
جمعاوات أو " جمع " - على وزن حُمْر - وأما فعل فإنما هو جمع لفعلي،
بضم الفاء.
وإنما جاء أجمعون بناء على " الأكرمون " و " الأرذلون "، لأنه طرفاً من
معنى التفضيل كما في الأكرمين والأرذلين، وذلك أن الجموع تختلف
مقاديرها فإذا كثر العدد احتيج إلى كثرة التوكيد، حرصاً على التحقيق
ورفع المجاز، فإذا قلت: جاء القوم كلهم، وكان العدد كثيراً، توهم أنه
قد شذ منهم البعض فاحتيج إلى توكيد أبلغ من الأول، وهو أجمعون وأكتعون،
فمن حيث كان أبلغ من التوكيد الذي قبله، دخله
(1/225)
معنى التفضيل، ومن حيث دخله معنى التفضيل
جمع جمع السلامة، كما يجمع
" أفعل " الذي فيه ذلك المعنى، وجمع مؤنثه على " فعَل " كما يجمع مؤنث
ما فيه التفضيل.
وأما أجمع الذي هو توكيد الاسم الواحد، فليس فيه من معنى التفضيل شيء،
فكان كباب " أحمر "، ولذلك استغني أن يقال: " كلاهما أجمعان "، كما
يقال: " كلهم أجمعون " لأن التثنية أقل من أن تحتاج في توكيدها إلى هذا
المعنى فثبت أن " أجمعون " لا واحد له من لفظه، لأنه توكيد لجمع من
يعقل، وأنت لا تقول فيمن يعقل: " جاءني زيد أجمع "، فكيف يكون:
" جاءني الزيدون أجمعون " جمعاً له، وهو غير مستعمل في الإفراد؟.
وحكمة هذا ما تقدم من أنهم لا يؤكدون معنى الجمع والتثنية إلا بجمع لا
واحد له من لفظه، أو تثنية لا واحد لها مستعملاً، ليكون توكيداً على
الحقيقة، لأن كل جمع ينحل لفظه إلى واحد فهو عارض في معنى الجمع، فكيف
يؤكد به معنى الجمع، والتوكيد تحقيق وتثبيت ورفع للبس والإبهام، فوجب
أن يكون فيما يثبث لفظاً ومعنى.
وأما حذف التنوين من " جمع " فكحذفه من " سحر "، لأنه مضاف في المعنى.
فإن قيل: ونون الجمع أيضا محذوفة في الإضافة.
قلنا: الإضافة المعنوية لا تقوى على حذف النون المتحركة التي هي كالعوض
من الحركة والتنوين، ألا ترى أن نون الجمع تئبت مع الألف واللام مع
أنهما مانع لفظي وتثبت في الوقف، والتنوين بخلاف ذلك، فقويت بالإضافة
المعنوية على حذفه، ولم تقو على حذف النون إلا الإضافة اللفظية.
فإن قيل: ولم كانت الإضافة اللفظية أقوى من المعنوية، والعامل اللفظي
أقوى من المعنوي؟
قلنا: اللفظ لا يكون إلا متضمناً لمعناه، فاجتمعا معاً، بخلاف المعنى
المفرد
عن اللفظ، فوجب أن يكون أضعف، وهذا بديع لمن أنصف.
(1/226)
مسألة
(في التوكيد بنفسه وعينه، وتحقيق معني العين والذات)
أما قولهم: (جاءني زيد عينهاً، فالعين هنا يراد بها حقيقة الشيء
المدركة
بالعيان، أو ما يقوم مقام العيان، وليست اللفظة على أصل موضوعها، لأن
أصلها أن تكون مصدراً وصفةً لمن قامت به، ثم عُبِّر عن حقيقة الشيء
بالعين، كما عُبِّرَ عن الوحش بالصيد، وإنما الصيد في أصل موضوعه مصدر،
من (صاد يصيد) .
ومن هاهنا لم ترد في الشريعة عبارة عن نفس الباري سبحانه، لأن نفسه
- سبحانه - غير مدركة بالعيان في حقنا اليوم، وأما عين القبلة وعين
الذهب وعين الميزان، فراجعة إلى هذا المعنى.
وأما العين الجارية فشبيه بعين الإنسان لموافقتها لها في كثير من
صفاتها، وأما
عين الإنسان فمسماة بما هو أصله أن يكون صفة ومصدراً، لأن العين في أصل
الوضع مصدر كالزين والدين والبين والأين وما جاء على بنائه، ألا تراهم
يقولون:
" رجل عيون وعائن " ويقولون: " عنته ": أصبته بالعين و: " عاينته:
رأيته
(بالعين) ، فرقوا بين المعنيين، وجاء: " عاينته " على وزن " فاعلته "،
لأنه يتضمن معنى قابلته، لأن الرؤية في العادة لا تكون إلا مع مقابلة،
بخلاف رؤية الباري سبحانه، ولذلك تقول في الباري - تعالى -: (رأى) ،
ولا تقول: (عاين) لتقدسه عن معنى قابل.
ومما يدلك (أيضاً) أنها مصدر في الأصل قوله سبحانه: (عين اليقين) .
كما قال تعالى: (علم اليقين) ، فكما أن العمل المضاف إلى اليقين مصدر
وصفة فكذلك العين.
وإذا ثبت هذا فالعين التي هي الجارحة سميت عيناً لأنها آلة ومحل لهذه
الصفة التي هي العين، وهذا من باب قولهم: " امرأة ضعيف وعدل ".
وهو تسمية
(1/227)
الفاعل بالمصدر، والعين - التي هي حقيقة
الشيء ونفسه - من باب تسمية المفعول بالمصدر، كصيد.
فإذا علمت هذا فاعلم أن العين إذا أضيفت إلى الباري - سبحانه - كقوله
تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) فهي حقيقة لا مجاز، كما توهم أكثر
الناس، لأنها صفة في معنى الرؤية والإدراك، وإنما المجاز في تسمية
العضو بها، وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى الباري حقيقة ولا
مجازاً، ألا ترى كيف كفر الرومية النصارى حين قالوا في عيسى عليه
السلام: " إنه ولد، على المجاز لا على الحقيقة "، فكفروا ولم يعذروا
ألا ترى كيف لم يضف - سبحانه إِلى نفسه ما هو في معنى عين الإنسان
كالمقلة والحدقة حقيقة ولا مجازاً، نعم ولا لفظ الإبصار، لأنه لا يعطى
معنى البصر والرؤية مجرداً، ولكنه يقتضى مع معنى البصر معنى التحديق
والملاحظة ونحوهما، وكذلك لا يضاف إليه سبحانه شيء من آلات الإدراك
كالأذن ونحوها، لأنها في أصل الوضع عبارة عن الجارحة لا عن الصفة التي
هي آلة لها، فلم ينقل لفظها إلى الصفة، أعني السمع مجازاً ولا حقيقة،
إلا أشياء وردت على جهة المثل، مما يعرف بأدق نظر أنها أمثال مضروبة،
نحو قوله في الحجر الأسود:
" يمين الله في الأرض ".
و" قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ".
وأشباه ذلك مما عرفت العرب المراد به بأول وهلة.
وأما اليد فهي عندي في أصل الوضع كالمصدر، عبارة عن صفة لموصوف.
ألا ترى قول الشاعر:
يَدَيْتُ على ابنِ حَسْحاسِ بنِ وَهبٍ ... بأَسْفَلِ ذِي الجِذاةِ يَدَ
الكَريمِ
(1/228)
فيديت: فعل مأخوذ من مصدر لا محالة والمصدر
صفة لموصوف، ولذلك
مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله تعالى:
(الأيدي والأبصار) .
ولم يمدحهم بالجوارح لأن المدح لا يتعلق إلا بالصفات لا بالجواهر.
وإذا ثبت هذا فصح قول أبي الحسن الأشعري: أن (اليد) من قوله:
(وخلق آدم بيده) ، ومن قوله تعالى: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ، صفة
ورد بها الشرع، ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من
أصحابه، ولا في معنى (النعمة) ، ولا قطع بشيء من التأويلات تحرزاً منه
لمخالفة السلف، وقطع بأنها صفة تحرزاً منه عن مذاهب أهل التشبيه
والتجسيم.
فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يفهمون ولا يستعملون، إذ اليد بمعنى الصفة
لا يفهم معناه؟
قلنا: ليس الأمر كذلك، بل كان معناها مفهوماً عند القوم الذين نزل
القرآن بلغتهم، ولذلك لم يستفت أحد من المؤمنين رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن معناها، ولا خاف على نفسه توهم التشبيه، ولا احتاج مع
فهمه إلى شرح وتنبيه.
(1/229)
وكذلك الكفار لو كانت اليد عندهم لا تعقل
إلا في الجارحة لتعلقوا بها في
دعوى التناقض واحتجوا بها على الرسول، ولقالوا: زعمت أنه ليس كمثله شيء
ثم تخبر أن له يداً كأيدينا، وعينا كأعيننا؟
ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر علم أن الأمر كان فيها عندهم جلياً
لا خفياً، وأنها صفة سميت الجارحة بها مجازاً، ثم
استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة. ورب مجاز كثر واستعمل حتى نسي
أصله وتركته حقيقته.
والذي يلوح في معنى هذه الصفة أنها قريب من معنى القدرة، إلا أنها أخص
منها معنى، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فكل شيء أحبه
الله فقد أراده، وليس كل شيء أراده أحبه، وكذلك كل شيء حادث فهو واقع
بالقدرة وليس كل واقع بالقدرة واقعاً باليد، (فاليد) أخص معنى من
القدرة، ولذلك كان فيها تشريف لآدم عليه السلام.
ومن فوائد هذه المسألة أن يسأل عن المعنى الذي من أجله قال:
(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) بحرف " على ".
وقال في موضع آخر: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) .
وكذلك: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) .
والفرق بين الموضعين أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفياً
وإبداء ما
كان مكتوبا، فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون سراً، فلما أراد
الله أن يصنع موسى ويغذي ويربي على حال أمن وظهور أمر، لا تحت خوف
واستسرار، دخلت " على " في اللفظ تنبيها على المعنى، لأنها تعطى معنى
الاستعلاء، والاستعلاء ظهور وابتداء، فكأنه يقول سبحانه:
ولتصنع على أمن لا تحت خوف، وذكر (العين) لتضمنها معنى الرعاية
والكلاءة.
وأما قوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ، فإنه إنما يريد: برعاية
منا وحفظ، ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم، فلم يحتج في الكلام
إلى معنى على بخلاف ما تقدم.
وأما (النفس) فعلى أصل موضوعها، إنما هي عبارة عن حقيقة الموجود دون
(1/230)
معنى زائد، وقد استعمل أيضاً من لفظها:
النفاسة والشيء النفسي، فصلحت للتعبير
عن الباري سبحانه وتعالى. بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية.
وأما " الذات "، فقد استهوى أكثر الناس - ولا سيما المتكلمين - القول
فيها، إنها في معنى النفس والحقيقة، ويقولون: (ذات الباري هي نفسه) ،
ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته، ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله عليه السلام
في قصة إبراهيم:
" ثلاث كذبات كلها في ذات الله ".
وقول خبيب:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا، ولو كان
كذلك لجاز أن يقال: " عبدت ذات الباري سبحانه "، و " احذر ذاته ".
كما قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) ، أو: " فعلت ذاته
":.
وذلك غير مسموع، ولا يقول إلا بحرف (في) الجارة، وحرف " في " للوعاء،
وهو معنى مستحيل على نفس الباري سبحانه، إذا قلت:
" جاهدت في الله "، و " أحببتك في الله " محال أن يكون هذا
اللفظ حقيقة، لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء، وإنما هو على حذف
المضاف، أي: في مرضاة الله وطاعته، فيكون الحرف على بابه ومعناه، كأنك
قلت: فعلى هذا محسوب في الأعمال التي فيها مرضاة الله - تعالى - وطاعة
له.
وأما أن تدع اللفظ على ظاهره فمحال، وإذا ثبت هذا فقوله:
" في ذات الله " و " في ذات الإله "، إنما يريد في الديانة أو الشريعة
التي هي ذات الله، فذات وصف للديانة.
وكذلك هي في أصل موضوعها نعت لمؤنث، ألا ترى أن فيها " تاء " التأنيث؟
وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله - عز
وجل - لا عن نفسه.
وهذا هو المفهوم من كلام العرب، ألا ترى إلى قول النابغة:
مَجَلَّتُهم ذاتُ الإِله ودِيُنهم قَوِيم.
(1/231)
فقد بانَ غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن
نفس ما أضيفت إليه، وبانَ غلط من قال من الفقهاء: " إنه فوق عرشه
المجيد بذاته "، وغلط من جهة اللفظ والمعنى.
أما اللفظ فهو ما قدمناه، وأما المعنى فمذكور في كتب الأصول، ومعلوم
بأدلة العقول.
* * *
مسألة
(من باب البدل)
استشهد في هذا الباب بقوله عز وجل: (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) .
فإن قيل: ما فائدة البدل من المعرفة وتبيينها بالنكرة، فإن كانت
الفائدة في
النكرة المنعوتة فلم ذكرت المعرفة؟
وإن كانت الفائدة في المعرفة فما بال ذكر النكرة والتبيين بها؟
فالجواب أن تقول: الآية نزلت في رجل بعينه، وهو أبو جهل، ثم تعلق
حكمها بكل من اتصف بصفته، فلو اقتصر على الاسم المعرفة لاختص الحكم به
دون غيره، ولو اقتصر على الاسم النكرة لخرج عن هذا الوعيد الشديد من
نزلت الآية بسببه.
وكذلك حكم المعرفة إذا أبدل منها النكرة أن تكون النكرة منعوتة، وإلا
لم يقع بها فائدة، ولا كانت بيانا لما قبلها.
وأما قوله سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ
لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
(1/232)
ثم قال: (شَيْئًا) ، على البدل من
(رِزْقًا) ، و " رزق " أبين من " شيء ".
لأنه أخص منه، والأخص أبين من الأعم، فإنما ذلك من أجل تقدم النفي، لأن
النكرة إنما تفيد بالإخبار عنها بعد النفي، فلما اقتضى النفي العام ذكر
الاسم العام الذي هو أنكر النكرات، ووقعت الفائدة به من أجل النفي، صلح
أن يكون بدلاً من (رِزْقًا) ألا ترى أنك لو طرحت الاسم الأول واقتصرت
على الثاني لم يكن إخلالاً بالكلام.
على أنه قد قيل: إن (شَيْئًا) هاهنا مفعول بالرزق، وأن الرزق مصدر.
والأشهر أنه اسم لأنه على وزن الطحن والذبح، ولو أراد المصدر لفتح
الراء، كما جاء في الشعر من نحو قوله في عمر بن عبد العزيز - رحمه الله
-:
واقصد إلى الخير ولا توقه ... وارزق عيال المسلمين رزقه
* * *
مسألة
واستشهد أيضا بقوله سبحانه:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ)
وفي هذه الآية ضروب من الأسئلة، منها أن يقال:
ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان،
والبدل
يقصد به بيان الاسم الأول؟
(1/233)
ومنها أن يقال: ما فائدة تعريف الصراط
المستقيم بالألف واللام، وهلَّا أخبر
بمجرد اللفظ دونهما، كما قال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (52) ، وكما قال: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) .
ومنها أن يقال: ما معنى الصراط؟
ومن أي شيء اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فعال؟
ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ.
وذكر في سورة الأحقاف بلفظ الطريق، فقال: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ؟
ومنها أن يقال: ما الحكمة في إضافته إلى (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ)
بهذا اللفظ، ولم يقل: النبيين ولا الصالحين، وجاء باللفظ مبهماً غير
مفسر؟
ومنها أن يقال: لم عبر عنه بلفظ " الذين " موصولة بصلتها، وقد كان أوجز
وأخصر أن يقال: المنعم عليهم، إذ الألف واللام في معنى الذي، كما قال:
(المغضوب عليهم) ولم يقل: " الذين غضبت عليهم؟ ".
ومنها أن يقال: لم وصفهم بـ (غير) ، وقد كان الظاهر أن يقول هاهنا
" لا المغضوب عليهم "، كما تقول: " مررت بزيد لا عمرو، وبالعاقل لا
الأحمق ".
ومنها أن يقال: لم استحق اليهود دون النصارى اسم المغضوب عليهم.
والمغضوب عليهم أيضاً النصارى؟
ولم استحق النصارى اسم (الضالين) ، وقد ضلت اليهود؟
ومنها أن يقال: لم قدم (المغضوب عليهم) على (الضالين) في اللفظ؟
ولم جاء لفظ (الضالين) على وزن " الفاعلين "، ولم يجئ على وزن
" المفعولين "، كماجاء ما قبله، من قوله تعالى: (المغضوب عليهم)
ومن قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، لأن معناه: المنعم
عليهم، بلفظ المفعول؟.
ومنها أن يقال: ما فائدة العطف بـ " لا " من قوله: (ولا الضالين) .
ولو قال: (الضالين) ، لما اختل الكلام، وكان أوجز؟
ولم عطف بـ " لا "، وهي لا يعطف بها
(1/234)
مع " الواو " إلا بعد نفي، ولو كانت وحدها
لعطف بها بعد إيجاب، كقولك: مررت بزيد لا عمرو؟.
والجواب عن السؤال الأول، وهو: ما فائدة البدل في الدعاء؟
أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد الدعاء، وحقُّ الداعي أن يستشعر
عند دعائه ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به.
إذ " الدعاء مخ العبادة ".
والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا تحت دم ولحم، فإذا وجب
إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، وجب أن يكون الطلب ممزوجاً بالثناء،
فمن ثم جاء لفظ الطلب: للهداية ولفظ الرغبة مشوبا بالخير تصريحاً من
الداعي به بمعتقده، وتوسلاً من الداعي بذلك
المعتقد إلى ربه، فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) .
والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا، والداعي يجب
عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبين ليمرن
اللسان على ما اعتقده الجنان، فأخبر مع الدعاء أن الصراط المستقيم هو
صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
لا من خالفهم من الكافرين.
وأما تعريف (الصِّرَاط) بالألف واللام، فإن الألف واللام إذا دخلت على
اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، ألا ترى قولك: جالس فقيها
أو عالما، ليس كقولك: جالس الفقيه أو العالم؟
ولا: أكلت طيباً، كقولك: أكلت الطيب؟
ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:
" أنت الحق ووعدك الحق "، ثم قال: " ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق "،
فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة، وأدخلها على اسم الباري -
سبحانه وتعالى - وما هو صفة له، وهو القول والوعد.
فإذا ثبت هذا فلو قال: " صراطاً مستقيماً " لكان الداعي إنما يطلب
الهداية على صراط مستقيم على الإطلاق، وقد علم أنه على صراط مستقيم وهو
الإسلام، فإنما يطلب ما هو أقوى من طريقته التي هو عليها في علمه، لأن
كل فريق من المسلمين
(1/235)
مستقصر لنفسه في العمل، وراغب إلى ربه، في
التوبة والهداية إلى الأفضل، حتى ينتهي الأمر إلى محمد - صلى الله عليه
وسلم - فيقولها أيضاً، لأنها أخوف لربه، وأكثر استقصاراً لعمله، وكان
يستغفر ربه - عز وجل - ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، وقال في الحديث:
" نظرت إلى جبريل كأنه حلس لاط، فعرفت فضل عمله علي ".
فإن قيل: فقد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَيَهْدِيَكَ
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقد كان على الصراط الأقوم، فضلاً عن صراط
مستقيم على الإطلاق؟
فالجواب: أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وكان المسلمين قد كرهوا
ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله
تعالى هذه الآية، فلم يرد صراطاً مستقيماً في الدين، وإنما أراد صراطاً
مستقيماً في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تعالى:
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراطٍ مستقيم.
ولو قال في هذا الموطن: " الصراط المستقيم "، لجعل للكفر والضلال حظاً
من الاستقامة، إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء
الموصوفة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما قرن
به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طرف منه.
وأما اشتقاق الصراط فمن " سرطت الشيء أسرطه "، إذا بلعته بلعاً سهلاً.
فالصراط هو الطريق السهل القويم، وجاء على وزن " فعال "، لأنه مشتمل
على سالكة اشتمال الحلق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في
المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء، وكذلك الشكال والعنان،
إلى سائر الباب.
وأما ذكره بلفظ (الطريق) في سورة الأحقاف خاصة، فلأنه انتظم بقوله
سبحانه: (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) .
وإنما أراد أنه سبيل مطروق قد
(1/236)
مرت عليه الرسل قبله، وأنه ليس ببدع، كما
قال في السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ " الطريق "، لأنه "
فعيل " بمعنى " مفعول ".
أي: إنه مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل، وليس في المواضع الأُخر
ما يقتضي هذا المعنى.
فكان لفظ الصراط بها أولى، لأنه أمدح من جهة الاشتقاق والوزن كما تقدم.
وأما إضافته إلى اللفظ المجمل، ولم يقل: " صراط النبيين والصالحين ".
فلفائدتين: إحداهما: نفي التقليد عن القلب، واستشعار العمل بأن من هدي
إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، ولو ذكرهم بأعيانهم لم يكن فيه هذا
المعنى.
والفائدة الأخرى أن الآية عامة في طبقات المسلمين مسيئهم وصالحهم.
والمسيء لا يطلب درجة العالي حتى ينال التي هي أقرب إليه، ولفظ
(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشمل الجميع، وجميع المأمورين بهذا
الدعاء يطلب صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم أصناف، كما أن السائلين
لدرجاتهم أصناف.
وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، ولم يقل: "
المنعم عليهم "، فلأن
ذكر نعمة المنعم والثناء بها عليه وذكر النعم شكر، وإبراز ضمير الفاعل
العائد على الله سبحانه من قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ذكر لله
تعالى باللسان والقلب، ولو قال: " المنعم عليهم " لخلا هذا اللفظ من
هذه الفوائد المقرونة بالدعاء، وهي الشكر والذكر، ألا ترى إلى قول
إبراهيم عليه السلام: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ؟
فأضاف الفعل إلى ربه، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) .
ولم يقل: " أمرضني "، كما قال: (يُطْعِمُنِي) ، إذ ليس في قولك
" أمرضني " إلا الإخبار المجرد عن الشكر والثناء، وربما اقترن به تسخط
وتضجر، فعدل عنه إلى قوله: (مَرِضْتُ) .
ولذلك قال سبحانه: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ولم يقل:
" الذين غضبت عليهم "، إذ ليس في الإخبار عنه بالغضب من الشكر والإحسان
ما في قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ؟
فكان اللفظ الوجيز أولى.
ولفائدة أخرى وهي أن الغضب صفة ينبغي للعبد أن يشترك فيها مع الرب
فيغضب لغضب الله تعالى، فاليهود قد غضب عليهم لغضب الله وجميع
المؤمنين،
(1/237)
فاستشعر الداعي هذا المعنى فلم يقل: "
الذين غضبت عليهم ".
إذ لو قال ذلك لأخرج نفسه عن أن يغضب لغضب الله، كما أخرج نفسه عن أن
ينعم، وأفرد الرب بالإنعام فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
وفائدة أخرى، وهو أن الألف واللام في (المغضوب) ، وإن كانت بمعنى
" الذين " فليست مثلها في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات الاسم، فإن
قولك: " الذين فعلوا " معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك:
" الضاربون والمضربون " ليس فيه ما في قولك " الذين ضَرَبوا أو ضُرِبوا
"، وإذا صح هذا وتأملته فالذين أنعمت عليهم بلفظ (الذين) إشارة إلى
تعرفهم بأعيانهم، وتعرفهم من الدين ولا سيما النبيين.
بخلاف من غضب الله عليهم فوجب الإعراض عنهم وترك الالتفات إلى ذاتهم،
فاقتصر على الصفة المذمومة دون أن يعينوا بالذين.
وأما قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) نعتاً للذين، ولم يقل: " إلا الغضوب
عليهم "
فلفائدة وهو أن اليهود والنصارى يدعون أن الله - تعالى - أنعم عليهم
بالكتابين، وأنهم على الصراط المستقيم، فبين سبحانه أن الذين أنعم
عليهم هم غير المغضوب عليهم، وهم اليهود، ولم يقل اليهود، " تجريداً
للفظ، ليخرجهم بذكر الغضب عن صفة المنعم عليهم، وكذلك الضالين.
وقد تقدم في باب العطف ذكر " لا " في هذا الموضع، وأنها تعطي العطف بعد
إيجاب فلو عطف بها هاهنا لم يكن في الكلام أكثر من نفي إضافة الصراط
إلى اليهود والنصارى، فلما جاء بغير، وهي اسم ينعت بها، زاد في الكلام
فائدة الوصف والثناء للذين أنعم عليهم.
وأما استحقاق اليهود لهذا الاسم فلنزول غضب الله بهم في الدنيا،
لتسليطه
الملوك عليهم وانتزاع الملك منهم، كما قال تعالى:
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ
مِنَ اللَّهِ) .
فمن حيث أخبر عنهم أنهم قد باؤوا بغضب سماهم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)
.
وأما تقديمهم على (الضالين) فقد تقدم من أصول التقديم في باب العطف ذكر
التقديم بالزمان، وذكر التقديم بالرتبة.
واليهود متقدمون
(1/238)
بالرتبة والمكان، لأنهم كانوا مجاورين
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمخاطبين بالآية.
وأقرب إليهم (ذكراً) من النصارى.
وأما ذكر (الضالين) بلفظ " فاعلين "، ولم يرد بلفظ المفعولين، لئلا
يكون
كالعذر لهم، وإنما ينبغي أن يخبر عنهم باكتسابهم ضلالهم، لا بإضلال
الله - عز وجل - إياهم وأما فائدة العطف بلا مع " الواو " فلتأكيد
النفي الذي تضمنه (غير) ، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف بلا مع
" الواو ".
وفائدة هذه التوكيد أن لا يتوهم أن " الضالين " داخل في حكم
(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، أو وصف لهم، ألا ترى أنك إذا قلت:
" ما مررت بزيد وعمرو "، توهم أنك إنما تنفي الجميع بينهما خاصة، فإذا
قلت: " ما مررت بزيد وعمرو "، علم أنك تنفي
الفعل عنهما جميعاً، على كل حال من اجتماع وافتراق؟
* * *
مسألة
(في ذكر بدل البعض من الكل وبدل المصدر من الاسم)
وهما جميعاً يرجعان في المعنى والتحصيل إلى بدل الشيء من الشيء، وهما
لعين واحدة، إلا أن البدل في هذين الموضعين لا بد من إضافته إلى ضمير
المبدل منه، بخلاف (بدل) الشيء من الشيء وهما لعين واحدة.
أما اتفاقهم في المعنى فلأنك إذا قلت: رأيت القوم أكثرهم أو نصفهم،
فإنما
تكلمت بالعموم وأنت تريد الخصوص، وهو شائع في اللغة لا ينكر جوازه أحد،
وإذا كان كذلك فإنما أردت: لقيت بعض القوم، وجعلت أكثرهم أو نصفهم
تبييناً لذلك البعض وأضفته إلى ضمير القوم، كما كان الاسم المبدل
مضافاً أيضاً إلى القوم، فقد آل الكلام إلى أنك أبدلت شيئاً من شيء
وهما لعين واحدة.
وأما بدل المصدر من الاسم فكذلك أيضاً، لأن الاسم من حيث كان جوهراً أو
جسما لا يعجب ولا ينفع ولا يضر، وإنما يتعلق المدح والإعجاب وغير ذلك
من المعاني بصفات وأعراض قائمة بالجسم، وعلم ذلك ضرورة حتى استغني عن
ذكرها
(1/239)
لفظاً وهي معلومة المعنى، فإذا قلت: "
نفعني عبد الله "، علم أن النافع فيه صفة وعرض مضاف إليه، فبينت ذلك
العرض ما هو، فقلت: " علمه أو رأيه،، ثم أضفت العلم إلى ضمير الاسم،
كما كان الاسم المبدل منه مضافاً إليه في المعنى، فصار التقدير: "
نفعني صفة زيد أو خصلته "
ثم بينت بقولك: " علمه "، فعلم ما هي - تلك الخصلة، فآل المعنى إلى بدل
الشيء من الشيء وهما لعين واحدة.
وإذا ثبت هذا فلا يصح في بدل الاشتمال أن يكون الاسم الثاني جوهراً،
لأنه لا يبدل جوهر من عرض، ولا بد من إضافته إلى ضمير الاسم لأنه بيان
لما هو مضاف إلى ذلك الاسم.
والعجب كل العجب من إمام صنعة النحو في زمانه، وفارس هذا الشأن ومالك
عنانه، يقول في كتاب " الإيضاح " في قوله سبحانه:
(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ) : إنها بدل من (الأخدود) بدل الاشتمال،
والنار جوهر وليست بعرض، ثم ليست مضافة إلى ضمير الأخدود، وليس فيها
شرط من شروط بدل الاشتمال. . . وذهل أبو علي عن هذا، وترك ما هو أصح في
المعنى وأليق بصناعة النحو، وهو حذف المضاف وإقامة
المضاف إليه مقامه، كأنه قال: " قتل أصحاب الأخدود، أخدود النار ذات
الوقود ".
فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، كما قال:
رَضيعَيْ لِبانِ ... ثَدْيِ أُمٍّ تَحالَفَا
وفي رواية الخفف، أراد: لبان ثدي أم، فحذف المضاف إيجازاً واختصاراً.
* * *
مسألة
واستشهد في هذا الباب بقول الله عز وجل:
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا) .
و (حِجُّ الْبَيْتِ) مبتدأ، خبره في أحد المجرورين قبله، والذي يقتضيه
المعنى
أن يكون في قوله (عَلَى النَّاسِ) ، لأنه وجوب، والوجوب متعد بـ على.
(1/240)
فإن قيل: إذا كان موضع الخبر ومقر الفائدة
فيه، فلم أخر وقد قال سيبويه:
" متى جعلته مسنقراً قدمته ".
فالجواب: إن تقديم المجرور الأول لفائدتين:
إحداهما: أنه اسم للموجب لهذا الغرض، فيقدم تقدم السبب على
المسبب.
والفائدة الأخرى: أن الاسم المجرور من حيث كان اسماً لله - سبحانه -
وجب الاهتمام بتقديمه، تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه، وتخويفا من
تضييعه، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره.
وأما (مَن) فهي بدل كما ذكره.
وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها
فاعل بالمصدر، كأنه قال: " أن يحج البيت من استطاع ".
وهذا القول يضعف من وجوه:
أحدهما: من جهة المعنى، وهو أن الحج فرض على التعيين بلا خلاف، ولو
كان التأويل ما ذكروه لكان فرض كفاية، فإذا حج المستطيعون برئت ذمم
غيرهم وفرغت ساحتهم من التكليف، وليس الأمر كذلك، بل الحج فرض على جميع
الناس حج المستطيعون أو قعدوا، ولكنه عذر بعدم الاستطاعة إلى أن توجد
الاستطاعة، ألا ترى أنك إذا قلت:
" واجب على أهل هذا القطر أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد "،
فإذا جاهدت تلك الطائفة سقط وجوب الجهاد عن
الباقين، مستطيعين كانوا أو غير مستطيعين، بخلاف الحج.
ومما يضعف به ذلك القول، أن إضافة المصدر إلى الفاعل - إذا وجد -
أولى من اضافته إلى المفعول، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول أو
معقول، فلو كان " مَن " هو الفاعل لأضيف المصدر إليه.
وإذا ثبت أن " من " بدل بعض من كل، وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود
(1/241)
إلى الناس، كأنه قال: " من استطاع منهم "،
وحذف هذا الضمير قبيح في أكثر الكلام، وحسنه هاهنا أمور، منها:
أن " مَن " واقعة على من يعقل كالاسم المبدل منه، فارتبطت به.
ومنها أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول، ولو كانت أعم لقبح حذف
الضمير العائد مثال ذلك أنك لو قلت: " رأيت إخوتك مَن ذهب إلى السوق "،
تربد: مَن ذهب منهم، لكان قبيحاً، لأن الذاهب إلى السوق زعم من الإخوة.
وكذلك لو قلت: " البس الثياب ما حسن وكمل "، تريد: ما حسن منها، ولم
تذكر الضمير، لكان أبعد في الجواز، لأن لفظ ما أعم من لفظ الثياب،
وكذلك الحسن والكامل.
وحق بدل البعض من الكل أن يكون أخصَّ المبدل منه، فإن كان أعم وأضفته
إلى ضمير، أو قيدته بضمير يعود إلى الأول، ارتفع العموم وبقي الخصوص.
ومما حسن حذف الضمير في هذه الآية أيضا مع ما تقدم، طول الكلام بالصلة
والموصول.
وأما المجرور من قوله: (إليه) فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون في موضع حال من (سبيلاً) ، كأنه نعت نكرة قدم عليها.
لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل.
والثاني: أن يكون متعلقاً بسبيل.
فإن قيل: وكيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل؟
قلنا: " السبيل " هاهنا عبارة عن الموصل إلى البيت من قوة وزاد
ونحوهما.
فلما كان في معنى الفعل الموصل، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق،
صار فيه معنى (الفعل) وصلح تعلق المجرور به، واقتضى حسن النظم وإعجاز
اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير، لأنه ضمير يعود على البيت،
والبيت هو المقصود به الاعتناء، وإنما يقدمون في كلامهم ما هم به أهم،
وهم ببيانه أعنى.
(1/242)
مسألة
واستشهد أيضاً في الباب بقوله سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) الآية في هذه الآية دليل على أن ما وقع به
الفعل - أو فيه - فإنه مشتمل
عليه كما يشتمل الفاعل على الفعل الذي هو حركة له أو صفة فيه، ولذلك
أضيف المصدر إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، وأخبر (به) عما لم يسم
فاعله، وبني بناء فاعل في نحو قوله تعالى: (عيشة راضية) في أحد
الأقوال.
وإذا ثبت هذا صح البدل في قوله، وهو عمر - رضي الله عنه - لحفصة: " لا
يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنها، حبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إياها) ، فحب بدل من (هذه) ، وإن لم يكن فعلاً لها، وإنما هو واقع بها،
كما أن " القتال " بدل من الشهر فإن لم يكن فعلاً له، وإنما هو واقع
فيه.
ومن فوائد هذه الآية أن يسأل عن قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ) : " لم قدم الشهر الحرام؟ ، ولم يقل: يسألونك عن
قتال الشهر الحرام، وهم
لم يسألوا عن الشهر إلا من أجل القتال فيه، فكان الاهتمام بالقتال
والتقديم له أولى في الظاهر؟.
والجواب أن يقال: هذا السؤال لم يقع إلا بعد وقوع القتال في الشهر،
وتشنيع الكفرة عليهم انتهاك حرمة الشهر، فاغتمامهم واهتمامهم بالسؤال
إنما وقع من أجل حرمة الشهر، فلذلك قدم في الذكر.
وفيها سؤال آخر، وهو أنه أعاد ذكر القتال بلفظ الظاهر، وكان القياس أن
يعيد بلفظ المضمر فيقول: " قل: هو كبير "، كما لو سأل إنسان عن رجل في
الدار لقال: هو فلان، أو: هو طويل أو قصير، بلفظ المضمر، ويقبح أن يقول
بلفظ الظاهر، لأن المضمر - إذا عرف المعنى - أوجز وأولى.
(1/243)
والجواب أن يقال: في إعادة لفظ الظاهر هنا
فائدة، وهي عموم الحكم، ولو
جاء بلفظ المضمر فيقول: " هو كبير "، لاختص الحكم بذلك القتال الواقع
في
القصة، وليس الأمر كذلك، وإنما هو عام في كل قتال وقع في شهر حرام.
ونظير هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قيل له: أنتوضأ
بماء البحر؟ فقال: " هو الطهور ماؤه ".
ولم يقل: نعم، توضؤوا منه، لئلا يتوهم أن الحكم مخصوص
بالسائل، فلما أخبر عنه أنه الطهور ماؤه استمر الحكم فيه على العموم
ولم يتوهم قصره على السبب.
وكذلك هذا حين قال: (قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ، فجعل الاسم المخبر عنه
(قِتَالٌ) .
وخصصه بالمجرور الذي هو ضمير الشهر، فتعلق الحكم به على العموم متى
وقع، لأن اللفظ المضمر لا تقتضي صيغته إلا تخصيص الخبر بما يعود عليه.
* * *
مسألة
وأنشدوا في هذا الباب قول كثير:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلتِ
(1/244)
أجاز بعض النحويين في " رجل صحيحة " أرجلًا
صحيحة، على أنها حال موطأة بالنعت، مثل قوله تعالى: (لِسَانًا
عَرَبِيًّا) لأن الحال من النكرة غير ممتنع من حيث كان الاسم الأول
نكرة كما تقدم في باب النعت.
وقالوا: هي حال من المضاف إليه، لأن الحال من المضاف إليه كثير نحو
قوله:
كأن حواميه مدبرا
وهذا غلط، لأن الحال من المضاف إليه لا يجوز على الإطلاق، لأنها مفعول
فيها فهي كالظرف والمفعول، فلا بد لها من عامل يعمل فيها، ولا يجوز أن
يعمل فيها معنى الإضافة، لأنه أضعف من لام الإضافة، ولام الإضافة لا
يعمل معناه في ظرف ولا حال، فمعناها - إذا لم يلفظ بها - أضعف وأجدر
ألا يعمل.
لو قلت: " هذا غلام هند ضاحكة "، لم يجز لما ذكرناه.
فإن قلت: يعمل فيها ما يعمل في الغلام المضاف، فهو محال.
لأن " ضاحكة " من صفة هند، لا من صفة " الغلام "، فبطل من كل وجه،
ولكنه يجوز الحال من المضاف إليه إذا كان في المضاف معنى الفعل نحو:
" هذا ضارب هند قائمة "
(1/245)
أو: أعجبني خروجها راكبة "، ونحو قوله
تعالى: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا) ، لأن ما في المضاف
من معنى الفعل واقع على المضاف إليه وعامل فيما هو حال منه، بخلاف
الغلام ونحوه مما ليس فيه معنى فعل.
وقد يجوز أيضاً الحال من المضاف إليه نحو: " رأيت وجه هند قائمة "، لأن
البعض يجري عليه حكم الكل، فيعمل في الحال ما يعمل في البعض من حيث
أجروا البعض مجرى الكل في قوله: " ذهبت بعض أصابعه " و: " شرقت صدر
القناة "، و: " تواضعت سور المدينة "، وهو كثير، فعلى هذا جاء:
كأن حواميه مدبرا
ومنه قول حبيب:
والعلم في شهب الأرماح لامعة
وأنشد في هذا الباب قول الأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضى لبانات ويسأم سائم
نصب " يسأم " بإضمار (أن) كيلا ينعطف الفعل على الاسم، وإنما استحال
أن ينعطف الفعل على الاسم كيلا يشترك معه في العامل الذي يعمل فيه، إذ
لا تعمل عوامل الأسماء في الأفعال، فأضمروا (أن) لأنها مع الفعل في
تأويل الاسم.
فإن قيل: وكيف يجوز إضمار الناصب وأنتم لا تجيزون إضمار الخافض
(1/246)
ولا الجازم، نعم ولا إضمار الحروف الناصبة
للأسماء، وعوامل الأسماً عندكم
أقوى من عوامل الأفعال؟
فالجواب: أنا لا نجيز إضمار " أن " إلا بإحدى شرائط، أما مع الواو
العاطفة
على مصدر، نحو قوله:
للبس عباءة وتقر عيني
تقضي لبانات ويسأم سائم
ألا ترى أنك لو جعلت مكان " اللبس " و " التقضي " اسماً غير مصدر فقلت:
يعجبني زيد ويذهب عمرو " لم يجز، وإنما جاز هذا مع المصدر لأن الفعل
المنصوب بأن مشتق من المصدر ودال عليه بلفظه، فكأنك عطفت مصدراً على
مصدر.
فإن قيل: فكان ينبغي إذاً أن يستغنى بمجرد لفظ الفعل عن إضمار " أن "؟
قلنا: هو فعل مضارع معرب، وعطفه بالواو على ما قبله يشركه معه في
الإعراب والعامل، وهما لا يشتركان في عامل واحد، فأضمرت " أن " واكتفي
بأثرها وعملها عن ظهور لفظها، وكانت " الواو " كالعوض منها كما كانت "
حتى " و " لام " العلة، و " لام " الجحود و " الفاء " في باب الجواب
وغير ذلك كالعوض من " أن " الناصبة للفعل، وكما كان الاستفهام كالعوض
من الجار في قولك: " الله لأفعلن؟ " ونحوه.
وقد جاء عطف الفعل على الاسم في معنى الفعل، نحو قوله تعالى:
(صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) ونحو: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) .
(1/247)
لأن الاسم المعطوف عليه حامل للضمير، فصار
بمنزلة الفعل مع
الاسم، ولو كان مصدراً لم يجز، كما تقدم في:
للبس عباءة وتقر عيني
لأن المصدر ليس بحامل للضمير، فلا يجوز العطف عليه إلا بإضمار " أن ".
فإن قيل: فإذا جاز عطف الفعل على الاسم الحامل للضمير، فينبغي أن يجوز
عطف الاسم على الفعل، فيقول: " مررت برجل يقوم وقاعد "؟
قلنا: هذا ممتنع على قبح، والزجاج قد أجازه في (المعاني) قياسا على
الأول، وليس هو مثله، لأنك إذا عطفت الفعل على الاسم المشتق منه رددت
الفرع إلى الأصل، لأن الاسم المشتق من الفعل فرع للفعل، فهو متضمن
لمعناه، فجاز عطف الفعل عليه.
وإذا عطفت الاسم المشتق على الفعل كنت قد رددت الأصل فرعاً، وصيرت
الفعل في المعنى الاسم، وهو فعل محف، وإن كان قد وقع موقع الاسم فلم
يقع موقع اسم جامد، وإنما وقع موقع اسم في تأويل فعل، فلم يخرجه ذلك
إلى أن يكون في تأويل الاسم. وإنما هو فعل محض فلا يجوز عطف الاسم
عليه، لأنك تشرك الاسم مع الفعل في عامل واحد، وإذا قلت: " مررت برجل
قائم ويقعد "، ففي يقعد ضمير فاعل، كما في " قائم " ضمير فاعل، فكأنك
إنما عطفت جملة على جملة، وتوهمت في " قائم " الفعل المحض من حيث كان
مشتفا منه وفرعاً عليه، ولم يمكنك أن تتوهم في " يقوم " الاسم المحض
ولا الاسم المشتق أيضا، لأن الفرع يتضمن الأصل ويدل عليه، والأصل لا
يدل على الفرع بنفسه، لأنه كالمستغنى عنه.
فافهمه فإني لم أقصد الإطالة إلا لأسد أبواب الاعتراض، وأحمي جنبات
الكلام من الطعن عليه، والله الموفق لما يزلف لديه.
وأبين من هذه العبارة أن يقال: عطف الفعل على الاسم في مثل قوله
تعالى: (صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ)
ونحو: " مررت برجل قائم ويقعد "، لأن
الاسم معتمد على ما قبله، وإذا كان (اسم الفاعل) معتمداً على عمل
الفعل،
(1/248)
والاعتماد أن يكون نعتاً أو خبراً، والذي
بعد (الواو) ليس بمعتمد، ولو عكست المسألة فقلت: " برجل يقوم وقاعد "
أو: " يصففن وقابضات "، قبح، لأن ما بعد (الواو) اسم محض وليس بمعتمد
فيجري مجرى الفعل.
* * *
مسألة
(من باب أقسام الأفعال)
الفعل غير المتعدي هو الذي لزم محله ولم يجاوزه إِلى غيره، فهو فعل
الفاعل في نفسه، ولذلك جاء مصدره مثقلاً بالحركات، إذ الثقل من صفة ما
لزم محله ولم ينقل وجميع مصادر الأفعال المتعدية الواقعة بمحل غير
الفاعل الحامل لها والمتصف بها، فكان خفة اللفظ في هذا الباب موازياً
للمعنى الذي هو ثبوت في محل الفعل واختصاص به وعدم تجاوز له، فما لزم
مكانه فهو الثقيل، وما تجاوزه وتعداه فهو الخفيف لفظا ومعنى.
ومن ههنا يرجح قول سيبويه إن " دخلت البيت " غير متعد إلى مفعول، لأن
مصدره الدخول، فهو كالخروج والقعود ونحوه، إِلا أن الفعل منه لم يجئ
على " فعل " لأنه ليس بطبع في الفاعل ولا خصلة ثابتة فيه، فإن كان
الفعل عبارة عما هو طبع وخصلة ثابتة، ثقل بضم العين، كظرف وكرم.
فهذا الباب ألزم للفاعل من باب " قعد "، فكان أثقل منه لفظا.
وباب " قعد "
(1/249)
ألزم للفاعل من المتعدي إلى المفعول، فكان
أثقل منه مصدراً، وإن اتفقا على لفظ الفعل.
ولزم مصدر " فعل " - الذي هو طبع وخصلة - وزن الفعل نحو: الجمال
والكمال والبهاء والسناء والجلال والعلاء، هذا إذا كان المعنى عاماً
يشتمل على خصال ولا يختص بخصلة واحدة، فإن اختص المعنى بخصلة واحدة صار
كالمحدود ولزمته " هاء " التأنيث لأنَّ هاءالتأنيث تدل على نهاية ما
دخلت عليه كالضربة من الضرب، وحذفها في هذا الباب وفي أكثر الأبواب يدل
على انتفاء النهاية، ألا ترى أن الضرب يقع على القليل والكثير إلى غير
نهاية، وكذلك التمر والبر وسائر الأجناس، وإنما استحقت " الهاء " ذلك
لأن مخرجها من منتهى الصوت وغايته فصلحت للغايات، ولذلك قالوا: علامة
ونسابة أي: غاية في صفتيهما.
فإذا ثبت هذا فالجمال والكمال كالجنس العام من حيث لم يكن فيه " الهاء
"
المخصوصة بالتحديد والنهاية.
وقولك: ملح ملاحة، وفصح فصاحة، على وزن: جمل جمالاً، كمل كمالاً، إلا
في تاء التأنيث، لأن الفصاحة خصلة من خصال الكمال، فحددت بالهاء، لأنها
ليست بجنس عام كالجمال، فصارت تشبه باب الضربة والتمرة من الضرب
والتمر، لمكان التحديد والنهاية، ألا ترى إلى قول خالد بن صفوان - وقد
قالت له عرسه -: " إنك لجميل "، فقال:
" أتقولين ذلك وليس عندي عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه؟
ولكن قولي: إنك لمليح ظريف ".
فجعل الملاحة خصلة من خصال الجمال، فبان صحة ما قلناه.
وعلى هذا قالوا: الحلاوة والأصالة والرجالة، وكذلك في ضد هذا المعنى
نحو: السفاهة والوضاعة والرذالة والحماقة، لأنها كلها خصال محدودة
بالإضافة إلى السفال، والسفال في مقابلة العلاء والكمال، لأنه جنس يجمع
الأنواع التي تحته.
(1/250)
وهذا الأصل في هذا الباب، ولا يشرد عن هذا
القياس شيء إلا ويمكن رده
إليه، إلا أن تكون ألفاظ قد أدخلت في هذا الباب بوجه من المجاز، فنجد
مصادرها مخالفة لهذا الأصل في وزنها أو شيء من أحكامها، وليس ذلك إلا
لنقلها بالاستعارة والمجاز عن أصل موضوعها، لقولهم: شرف الرجل شرفاً،
ولم يقولوا: شرافا، كقولك: جمالاً وكمالاً ولا: شرافة، كقولك: جلالة،
لأن الشرفْ رفعة في الآباء.
والآباء شيء خارج عن محل الفعل، فهو مستعار من شرف الأرض، والشرف في
الأرض كالهدف والعلم، فاستعيد للرجل الرفيع في قومه، كأنَّ آباءه الذين
ذكر بهم وارتفع بسببهم شرف له، إذ الشرف من الأرض يرتفع بسببه ويظهر
منه.
وكذلك قالوا في هذا الباب: الحسب، لأنه من باب القبض والقنص، وليس
من باب المصادر، لأن الحسب ما يحسب الإنسان لنفسه من خصال كرام
وخصال حميدة، فقد تبين أنه لا يخرج عن هذا الباب شيء إلا لسبب ما، وأن
الأصل ما تقدم، واستحق الاسم العام في هذا الباب الفعال - بفتح الفاء
والعين - بعدهما ألف والألف فتح، ليكون اللفظ بتوالي الفتح فيه موازيا
لانفتاح المعنى واتساعه.
وكذلك اطرد في الجمع الكثير نحو: " مفاعل، و " فعائل "، وبابه، واطرد
في باب " تفاعل " نحو: تقاتل، وتخاصم، ونحو: تمارض، وتغافل، وتراقد،
لأنه إظهار للأمر وانتشار له.
ومن هذا الباب مما يوافقه في وجهٍ ويخالفه في وجه آخر حلم، لأنه يدل
على
ثبات الصفة، فوافق ما قبله في الضم وخالفه: في المصدر مخالفته له في
المعنى.
لأنه صفة نفي، وليس بصفة عرضية معنوية، وإنما هو عبارة عن تملك
المعاقبة
ونفيها.
ومن هذا الباب: " كبر " و " صغر "، هو موافق لما قبل في ثبوت الفعل
فجاء على وزنه، وهو مخالف له في الحدث، لأن الصغر والكبر وما كان على
هذا البناء عبارة عن كثرة أجزاء الجسم وقلتها، لا عن عرض ومعنى زائد
كالجمال ونحوه.
واستقصاء المصادر والأفعال وتتبع نوادرها وأسرارها، يأتي في بابها إن
شاء الله تعالى.
(1/251)
فصل
ومن غير المتعدي " انفعل "، نحو: " انطلقاً، وهو أيضاً فعل الفاعل في
نفسه
بعد تقدم منع واستدعاء من فعل آخر، فيسمونه فعل المطاوعة، ونحو: كسرته
فانكسر، وشويته فانشوى، فمن حيث كان فعل الفاعل في نفسه لم يتعد، ومن
حيث لم يقع من فاعله إلا بعد استدعاء وسبب زيدت النون في أوله قبل
الحروف الأصلية، وزيدت ساكنة كيلا تتوالى الحركات، ثم وصل إليها بهمزة
الوصل.
وقد تقدم أن الزوائد في الأفعال والأسماء موازية للمعاني الزائدة على
معنى
الكلمة، فإن كان المعنى الزائد مترتبا قبل المعنى الأصلي، كان الحرف
الزائد قبل الحروف الأصلية، كالنون في انفعال، وكحروف المضارعة في
بابها، وإن كان المعنى الزائد على الكلمة آخراً كان الحرف الزائد على
الحروف الأصلية آخراً، كعلامة التأنيث وعلامة التثنية.
ومن هذا الباب: " تفعلل " و " تفاعل " و " تفعل ".
أما " تفعلل " فلا يتعدى ألبتَّة، لأن التاء فيه بمثابة النون في
انفعل، إلا أنهم خصوا الرباعي بالتاء، وخصوا الثلاثي بالنون فرفاً
بينهما، ولم تكن التاء ههنا ساكنة كالنون، لسكون عين الفعل.
فلم يلزم فيها من توالي الحركات ما لزم هناك.
وأما " تفاعل " فقد توجد متعدية لأنها لا يراد بها المطاوعة كما أريد
بتفعلل.
وإنما هو فعل دخلته التاء زيادة على " فاعل " المتعدية، فصار حكمه - إن
كان متعدياً إلى مفعولين قبل دخول التاء أن يتعدى بعد دخول التاء إلى
مفعول
نحو: " نازعت زيداً الحديث "، ثم تقول: " ما تنازعنا الحديث "
وإن كان متعدياً إلى مفعول لم يتعد بعد دخول " التاء " إلى شيء آخر،
نحو: خاصمث زيداً.
وتخاصمنا.
وأما " احمرَّ " و " احمارَّ " ففعل مشتق من الاسم، كانتعل من النعل،
وتمسكن من المسكنة، لأن الحمرة والصفرة ونحوهما أسماء لأعراض ثابتة عند
الفلاسفة، أو في حكم الثابتة عند الأشعرية، إذ ليس عندهم عرض ثابت.
(1/252)
وسيأتي استقصاء هذا الفصل والبحث عليه في
باب التعجب، إن شاء الله
تعالى.
إلا أن أبا سليمان الخطابي زعم أن معنى " احمرَّ " مخالف لمعنى "
احمارَّ "
وبابه، وذهب إلى أن " افعلَّ " يقال فيما لم يخالطه لون آخر، وافعالَّ
يقال لما
خالطه لون آخر.
والخطابي ثقة في نقله، والقياس يقتضي صحة قوله، لأن الألف لم تزد في
أضعاف حروف الكلمة إلا لدخول معنى زائد بين أضعاف معناها - وقد تقدم
هذا الأصل.
* * *
مسألة
وقال في الفعل المتعدي إلى مفعولين: " أعطى زيد عمراً درهما ".
وهذا وأشباهه من المنقول الذي صير فاعله مفعولاً.
وقد اختلفوا: أهو قياس مستتب في جميع الأفعال أم لا؟
وليس مذهب سيبويه فيه طرد القياس في جميع
الأفعال، وهو الصحيح.
ولكني أشير لك إلى أصل ينبني عليه هذا الباب، وهو أن تنظر إلى كل فعل
حصل منه في الفاعل صفة ما، فهو الذي يجوز فيه النقل، لأنك إذا قلت:
أفعلته، فإنما معناه: جعلته على هذه الصفة.
وقلما ينكسر هذا الأصل في غير المتعدي إِذا
كان ثلاثيا نحو: قعد وأقعدته، وطال وأطلته.
وأما المتعدي فمنه ما يحصل للفاعل منه صفة في نفسه ولا يكون اعتماده في
الثاني على المفعول فيجوز نقله، مثل: طعم زيد الخبز وأطعمته، وكذلك:
جرع الماء وأجرعته، وكذلك بلع، وشم وسمع، لأنها كلها يحصل منها للفاعل
صفة في نفسه، غير خارجة عنه، ولذلك جاءت أو أكثرها على فعل - بكسر
العين -
(1/253)
مشابهة لباب: فزع وحذر وحزن ومرض، إلى غير
ذلك مما له أثر في باطن الفاعل وغموض معنى فيه، ولذلك كانت حركة العين
كسراً، لأن الكسر خفض للصوت وإخفاء له، فشاكل اللفظ المعنى.
ومن هذا النحو: لبس الثوب وألبسه إياه، لأن الفعل - وإن كان متعدياً -
فحاصل معناه في نفس الفاعل، كأنه لم يفعل بالثوب شيئا، وإنما فعل
بنفسه.
ولذلك جاء على فعل مقابلة لعرى، وكذلك كسى، ولم يقولوا: أكسيته الثوب،
لأن الكسوة ستر للعورة، فجاء على وزن سترته وحجبته ونحو ذلك.
وأما أكل وأخذ وضرب فلا تنقل، لأن الفعل واقع بالمفعول، ظاهر أثره فيه
غير حاصل في الفاعل منه صفة، فلا تقول: أضربت زيداً عمراً، ولا: أقتلته
خالداً.
لأنك لم تجعله على صفة في نفسه كما تقدم.
وأما " أعطيته " فمنقول من: " عطا يعطو " إذ أشار للتناول، وليس معناه
الأخذ.
ألا تراهم يقولون: " عاط بغيو أنواط "، فنفوا أن يكون وقع هذا الفعل
بشيء، فلذلك نقل كما نقل غير المتعدي لقربه منه، فقالوا: أعطيت زيداً
درهماً، أي: جعلته عاطياً له.
وأما " أنلت " فمنقول من " نال " المتعدية، وهي بمنزلة " عطا يعطو "،
لا تنبئ
إلا عن وصول إلى المفعول دون تأثير فيه ولا وقوع ظاهر به، ألا ترى إلى
قوله سبحانه: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى) .
ولو كان فعلاً مؤثراً في مفعوله لم يجز هذا، إنما هو منبئ هو الوصول
فقط.
وأما " آتيت المال زيداً " فمنقول من " أتى "، لأنها غير مؤثرة في
المفعول، وقد
حصل منها للفاعل صفة.
فإن قيل: يلزمك أن تجيزت " أتيت زيداً عمراً، أو المدينة "، أي: جعلته
يأتيهما؟
قلنا: بينهما فرق، وهو أن إتيان المال زيداً كسب وتمليك، فلما اقترن به
هذا المعنى صار كقولك: أكسبته مالاً أو: أملكته إياه، وليس كذلك: " أتى
زيد عمراً، فهذا الفرق بينهما.
(1/254)
وأما " شرب زيد الماء " فلم يقولوا فيه:
أشربته، لأنه بمثابة الأكل والأخذ
ومعظم أثره في المفعول، وإن كان قد جاء على " فعل " مثل (بلع) ، ولكنه
ليس مثله، إلا أن تريد أن الماء خالط أجزاء الشارب له وحصلت من الشرب
صفة في الشارب فيجوز حينئذ، كما قال سبحانه: (وَأُشْرِبُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) .
وعلى هذا يقال: " أشربت الخبز اللبن،، لأن شرب الخبز اللبن والماء ليس
كشرب زيد له، فتأمله.
وأما " ذكر زيد عمراً " فإن كان من ذكر اللسان لم تنقله، لأنه بمنزلة
شتم
ولطم.
وإن كان من ذكر القلب نقلته فتقول: " أذكرته الحديث "، بمنزلة أفهمته
وأعلمته، أي: جعلته على هذه الصفة.
* * *
مسألة
وقال في الباب: " اخترت الرجال زيداً "، واستشهد بالآية.
والأصل في هذا التعدي بحرف الجر وهو (مِن) ، لأن المعنى إخراج شيء من
شيء، وإنما حذف لتضمن الفعل معنى فعل آخر متعد، كأنك حين قلت: اخترت من
الرجال، أردت: نخلت الرجال ونقدتهم فأخذت منهم زيداً، فمن ههنا أسقط
حرف الجر كما أسقط في: " أمرتك الخير " إذا كان الأمر تكليفاً، كأنك
قلت: كلفتك هذا الأمر.
وإذا ثبت هذا فللمسألة أحكام نذكرها، منها: أن الاختيار تقديم الاسم
المجرور إذا لم يسقط حرف الجر، يجوز فيه التأخير، تقول: " اخترت من
الرجال عشرةً " ولو قدمت العشرة لم يحسن، لأن المخاطب يتوهم أن المجرور
في موضع النعت للعشرة وليس في موضع المفعول الثاني.
وأيضاً فإن الرجال معرفة فتقديمه أحق بالاهتمام، كما لزم تقديم المجرور
الذي هو خبر عن النكرة من قولك: " في الدار رجل "، لكون المجرور معرفة،
فكأنه المخبر عنه.
فإذا حذفت حرف الجر لم يكن بدٌّ من التقديم للاسم الذي كان مجروراً
نحو:
(1/255)
" اخترت الرجال عشرةً " ولو قلت: " اخترت
عشرة قومك " أو اخترت فرساً الخيل، لم يجز.
والحكمة في ذلك أن المعنى الذي من أجله حذف حرف الجر هو
معنى غير لفظ، فلم يقو على حذف الجر إلا بعد اتصاله به وقربه منه.
ولوجه آخر أيضاً وهو أن القليل الذي اختير من الكثير إذا كان مما يتبعض
ثم
ولي الفعل الذي هو " اخترت " يوهم أنه مختار منه أيضاً، لأن كل ما
يتبعض يجوز أن يختار منه وأن يختار، فألزموه التأخير وقدموا الاسم
المختار منه، وكان أولى بذلك لما سبق من القول، فإن كان مما لا يتبعض
نحو: زيد، وعمرو، فربما جاز على قلة من الكلام نحو قوله:
منا الذي اختير الرجال سماحة
وليس حكم هذا حكم قولك: " اخترت فرسا الخيل "، لأن الفرس اسم جنس فقد
يتبعض مثله ويختار منه، و " زيد " من حيث كان جسما يتبعض، ومن حيث كان
" زيداً "، أي: اسما علما للشيء بعينه لا يتبعض، فتأمل هذا ولا تغفله،
فقلما رأيت مشتغلاً به، وهو أصل يجب تفقده، والقياس والسماع يعضده،
وبالله التوفيق.
* * *
مسألة
وقال في هذا الباب: " استغفر زيدٌ ربَّه ذنبه ".
هذه المسألة في تأخير الاسم المسقط منه حرف جر، بخلاف التي قبلها،
(1/256)
لأن التي قبلها وهي: " اخترت الرجال " كان
الأصل فيها حرف الجر، فأسقط للمعنى الذي ذكرناه في الفعل عند اتصال
الفعل به.
وأما هذه فالأصل فيها سقوط حرف الجر، وأن يكون " الذنب " مفعولاً
بالغفران الذي لا يتعدى بحرف، لأنه من " غفرت الشيء "، إذا غطيته
وسترته، مع أن الاسم الأول هو فاعل في الحقيقة وليس كذلك " زيد "
وسبعين رجلاً في باب (اختار) فلذلك تقول: " استغفر زيد ذنبه ربه! في
جيد الكلام.
فإن قيل: فإن كان سقوط حرف الجر هو الأصل، فمن إذاً زائدة، كما قال
الكسائي، وليس كما قال سيبويه ولا الزجاجي: إنما حذفت حرف الجر ثم
نصبت.
قلنا: إنما سقوط حرف الجر أصل في الفعل المشتق منه نحو: " غفر "، وأما
إذا
قلت: " أستغفر "، أو " أستغفر أنا الله "، ففي ضمن الكلام ما لا بد له
من حرف الجر، لأنك لا تطلب كفراً مجرداً من معنى التوبة والخروج من
الذنب، وإنما تريد الاستغفار خروجا من الذنب وتطهيراً منه، فلزمت " مِن
" في الكلام لهذا المعنى فهي متعلقة بالمعنى لا بنفس اللفظ، فإن حذفتها
تعدى الفعل ونصب، وكان بمنزلة قولك: " أمرتك الخير ".
(1/257)
فإن قيل: فما قولكم في نحو قوله تعالى:
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ)
و (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ) ؟.
قلنا: هي متعلقة بمعنى الإنقاذ والخروج من الذنوب، وإنما دخلت لتؤذن.
بهذا المعنى ولكن لا يكون ذلك في القرآن إلا حيث يذكر الفاعل الذي هو
المذنب، نحو قوله: لكم، لأنه المنقذ المخرج من الذنوب بالإيمان، ولو
قلت: (يغفر من ذنوبكم) - دون أن تذكر الاسم المجرور - لم يحسن إلا على
معنى التبعيض، لأن الفعل الذي كان في ضمن الكلام وهو الإنقاذ، قد ذهب
بذهاب الاسم الذي هو واقع عليه.
فإن قلت: فقد قال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)
وقال في سورة الصف: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)
فما الحكمة في سقوطها ههنا؟ وما الفرق؟.
فالجواب: أن هذا إخبار عن المؤمنين الذين قد سبق لهم الإنقاذ من ذنوب
الكفر بإيمانهم، ثم وعدوا على الجهاد بغفران ما اكتسبوا في الإسلام من
الذنوب، وهي غير محيطة بهم كإحاطة الكفر المهلك بالكافر، فلم يتضمن
الغفران معنى الاستنقاذ، إذ ليس ثم الإحاطة من الذنب بالمذنب، وإنما
تضمن معنى الإذهاب والإبطال للذنوب، لأن الحسنات يذهبن السيئات، بخلاف
الآيتين المتقدمتين فإنهما خطاب للمشركين وأمر لهم بما ينقذهم وبخلصهم
مما أحاط بهم وهو الكفر، وأما المؤمنون فقد أنقذوا.
وأما قوله في آية الصدقات: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)
.
فهي في موضع (مِن) التي للتبعيض، لأن الصدقة لا تذهب جميع الذنوب
كالجهاد.
ومن هذا النحو قوله عليه السلام:
" فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ".
فأدخل في كلامه " عن " لتؤذن بمعنى الخروج عن اليمين، لما ذكر الخارج
الفاعل وهو الضمير المستتر في (يكفر) فكأنه قال: فليخرج بالكفارة عن
يمينه، ولما لم يذكر الفاعل المكفر في قوله سبحانه: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ) .
لم يدخل " عن " ولا احتيج إليها، وأضيفت (الكفارة) إلى (الأيمان) إضافة
المصدر إلى المفعول، وإن كانت الأيمان لا تكفر وإنما يكفر الحنث
والإثم، ولكن الكفارة حل لعقدة اليمين،
(1/258)
فمن هنالك أضيفت إلى اليمين كما يضاف الحل
إلى العقد، إذ اليمين عقد والكفارة حل له، والله المستعان.
* * *
فصل
(من مسألة النقل والتعدية)
المفعول (الثاني) من نحو قولك: " ألبست زيداً الثوب " ليس منتصباً
بأفعلت.
لما تقدم من أنك لا تنقله عن الفاعل ويصير الفاعل مفعولاً، حتى يكون
الفعل
حاصلاً في الفاعل ولكن المفعول الثاني منتصب بما كان منتصبا به قبل
دخول الهمزة والنقل، وذلك أنهم اعتقدوا طرحها حين كانت زائدة، كما
فعلوا في تصغير " حميد " و " زهير "، وكما فعلوا حين قالوا: (أورث
النبت فهو وارس) ، ولم يبنوه على " أورس ".
وقال الله - سبحانه وتعالى -: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَبَاتًا) .
فلم يجئ بالمصدر على " أنبت ".
ومما يوضح لك هذا أنهم أعلوا الفعل فقالوا: " أطال الصلاة وأقامها "،
فلم
يقولوا: " أطول "، ولا " أقوم "، مراعاةً لحكم الفعل قبل دخول " الهمزة
"، ألا ترى أنهم حيث نقلوه في التعجب واعتقدوا ثبات " الهمزة " لم
يعدوه إلى مفعول ثان، بل قالوا: ما أضرب زيداً لعمرو باللام، لأن
التعجب تعظيم لصفة المتعجب منه، وإذا كان الفعل صفة في الفاعل لم يتعد،
ومن ثم صححوه في التعجب فقالوا: ما أقومه وأطوله، حيث لم يعتقدوا سقوط
الهمزة، كما صححوا الفعل من " استحوذ " و " استنوق الجمل "، حيث كانت
الهمزة والزوائد لازمة له غير عارضة فيه، والحمد لله.
* * *
مسألة
حذف " الباء " من " أمرتك الخير " إنما يكون بشرطين:
(1/259)
أحدهما: اتصال الفعل بالمجرور فإن تباعد
منه لم يكن بد من " الباء ": نحو
قولك: " أمرت الرجل يوم الجمعة بالخير " يقبح حذف الباء، لأن المعنى
الذي من أجله حدفث " الباء " ليس بلفظ، وإنما هو معنى في الكلمة، وهو
ما تضمنته في معنى " كلفتك " فلم يقو على الحذف إلا مع القرب من الاسم
كما كان ذلك في (اخترت) ، وقد تقدم، ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى:
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ)
كيف أعاد حرف الجر في البدل لما طال الأول بالصلة
وكذلك قوله: (يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ
بَقْلِهَا) ، على أحد القولين، فإذا أعيد حرف الجر مع البدل لطول الاسم
الأول، فإثبات الحرف من نحو: " أمرتك الخير " إذا طال الاسم أجدر
والشرط الثاني: أن يكون المأمور به حدثاً، فإن كان جسماً أو جوهراً، لم
تحذف الباء من نحو: " أمرتك بزيد "، ولا تقول: أمرتك زيداً، لأن الأمر
في الحقيقة ليس به ولا للتكليف به متعلق، وإنما تدخل الباء عليه
مجازاً، كأنك قلت: أمرتك بضرب زيد أو إكرامه "، ثم حدفت.
وأما " نهيتكن عن الشر " فلا يجوز حذف الحرف الجار فتقول: نهيتك
الشر، لأنه ليس في ضمن الكلام ما يتضمن النصب، والنهي عن الشيء إبعاد
عنه وكف وزجر، وكل هذه المعاني متعدية بـ عن، فلم يكن بد منها، بخلاف
الأمر فإنه إغراء بالشيء وإلزاق به فمن ثم تعدى بالباء وهو أيضا بمعنى
التكليف والإلزام، فمن ثّمَّ جاز إسقاط الباء.
* * *
مسألة
(في " عرفت " و " علمت " ونحوهما)
أما " عرفت " فأصل وضعها لتمييز الشيء وتعيينه حتى يظهر للذهن منفرداً
من
معنى زائد عليه، وهذه اللفظة مأخوذة من لفظ " العرف "، وهو ما ارتفع من
الأرض حتى يظهر ويتميز.
وأما " علمت " فأصل موضوعها للمركبات لا لتمييز المعاني المفردة، ومعنى
(1/260)
التركيب إضافة الصفة إلى المحل، وذلك أنك
تعرف " زيداً " على حدته، وتعرف معنى " القيام " على حدته، ثم تضيف
القيام إلى " زيد " فإضافة
القيام إلى زيد هو التركيب، وهو متعلق العلم.
فإذا قلت: (علمت) فمطلوبها ثلاثة معان:
جوهر وهو المحل، وصفة وهو القيام، وإضافة الصفة إلى المحل، فهي ثلاث
معلومات متلازمة في العقل: الجوهر (منها معروف) وماهية الصفة معروفة
على حدتها، والحدث الذي هو مركب من الجوهر والصفة معلوم متضمن ثلاث
معلومات.
إذا ثبت هذا فلا يضاف إلى الله - سبحانه - إلا العلم.
ولا يقال فيه: " عرف " ولا " يعرف "، لأن علمه متعلق بالأشياء كلها،
مركبها ومفردها، تعلقاً واحداً، بخلاف
علم المحدثين فإن معرفتهم بشيءآخر.
ومازعموه من قولهم: قد يكون " علمت "
بمعنى " عرفت "، واستشهادهم بالآي التي استشهدوا بها، ليس هو حقيقة،
لأن تعدي " علمت " إلى مفعول واحد في اللفظ
لا يخرجها إلى معنى " عرفت "، ولكن على جهة المجاز والاختصار.
فقوله: (لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ، ليس ينفي عنه معرفة
أعيانهم
وأسمائهم، وإنما ينفي عنه العلم بعداوتهم ونفاقهم، وما تقدم من الكلام
يدل على ذلك.
وكذلك توله عز وجل: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ) ،
فربما كانوا
يعرفونهم ولا يعلمون أنهم أعداء، فيتعلق العلم بالصفة المضافة إلى
الموصوف، وذاته، وإنما مثل من يقول: إن " علمت " يكون بمعنى " عرفت "،
من أجل أنه رآها
(1/261)
متعدية إلى مفعول واحد في اللفظ، كمثل من
يقول: إن (سألت) تتعدى إلى غير الآدميين فيقول: اسالت الحائط والدابة،
ويحتج بقوله تعالى:
(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) وإنما هذا جهل بالمجاز والحذف، وكذلك ما تقدم.
وأما نصب (علمت) و (ظننت) لمفعولين، فليس هما مفعولان في الحقيقة.
وإنما هو المبتدأ والخبر، وهو حديث إما معلوم وإما مظنون، فكان حق
الاسم الأول أن يرتفع بالابتداء والثاني بالخبر، ويلغى الفعل؛ لأنه لا
تأثير له في الاسم، وإنما التأثير لعرفت المتعلقة بالاسم المفرد
تعييناً وتمييزاً، ولكنهم أرادوا تشبث " علمت " بالجملة التي هي
الحديث، كيلا يتوهم الانقطاع بين المبتدأ وبين ما قبله.
لأن الابتداء عامل في الاسم وقاطع له مما قبله، وهم إنما يريدون إعلام
المخاطب بأن هذا الحديث معلوم، فكان إعمال (علمت) فيه ونصبه له إظهاراً
لتشبثها، ولم يكن عملها في أحد الاسمين أولى من الآخر، فعملت فيهما
معا.
وكذلك " ظننت "؛ لأنه لا يتحدث بحديث حتى يكون عند المتكلم إما مظنونا
وإما معلوما، فإن كان مشكوكاً فيه أو مجهولًا عنده لم يسغ له الحديث،
فمن ثم لم يعملوا (شككت) ولا (جهلت) فيما عملت فيه ظننت وعلمت، لأن
الشك تردد بين أمرين من غير اعتماد على أحدهما، بخلاف الظن فإنك معتمد
فيه على أحد الأمرين، وأما العلم فأنت فيه
قاطع بأحدهما، ومن ثم تعدى الشك بحرف (في) لأنه مستعار من " شككت
الحائط بالمسمار ".
* * *
شَكَّ الفَريصَةَ بالمِدْرى. . ..
وشك الحائط إيلاج فيه من غير ميل إلى أحد الجانبين، كما أن الشك في
الحديث تردد فيه من غير ترجيح لأحد الجانبين.
ونظير إعمالهمم " علمت " وأخواتها في المبتدأ والخبر اللذين هما بمعنى
الحديث، إعمالهم " كان " وأخواتها في الجملة، وإنما (كان) أصلها أن
ترفع فاعلا
(1/262)
واحداً نحو: " كان الأمر "، أي: حدث، فلما
خلعوا منها معنى الحدث ولم يبق فيها إلا معنى الزمان، ثم أرادوا أن
يخبروا بها عن الحدث الذي هو
(زيد قائم) أي: إن زمان هذا الحديث ماض أو مستقبل - أعملوها في الجملة
ليظهر تشبثها بها ولا يتوهم انقطاعها عنها، لأن الجملة قائمة بنفسها.
و" كان " كلمة قد يوقف عليها أو تكون خبراً عما قبلها، فكان عملها في
الجملة دليلًا على تشبثها بها، وأنها خبرٌ عن
هذا الحديث، ولم تكن لتنصب الاثنين لأن أصلها أن ترفع ما بعدها، ولم
تكن لترفعهما معا فلا يظهر عملها، فلذلك رفعت أحدهما ونصبت الآخر.
نعم، ومنهم من يقول: " كان زيد قائم "، فيجعل الحديث هو الفاعل بكان،
فيكون معمولها معنوياً لا لفظياً، كأنك قلت كان هذا الحديث.
وإن أضمرت الأمر والشأن ودلت عليه قرينة حال فالمسألة على حالها، لأن
الجملة، حينئذ بدل من ذلك المضمر لأنها في معنى الحديث، وذلك الحديث هو
الأمر المضمر، فهذا بدل
الشيء من الشيء وهما لعين واحدة.
ونظير هذا المعمول المعنوي الذي هو الحديث، معمول (علمت) و (ظننت)
إذا ألغيت نحو: " زيد ظننت قائم "، كأنك قلت: ظننت هذا الحديث، فلم
تعملها لفظا إنما أعملتها معنى.
ومن هذا الباب إعمالهم " إن " وأخواتها، وإنما دخلت لمعان في الجملة
والحديث، إلا أنها كلمات يصح الوقف عليهن، لأن حروفهن ثلاثة فصاعداً،
ألا ترى إلى قوله:
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
(1/263)
وقال الآخر:
ليث شعري. . وأين مني ليت؟ . . ..
وقال حبيب:
. . . . . . . . . . . . . . . . عسى وطن يدنوا بهم ولعلما
وإذا كان هذا حكمها فلو رفع ما بعدها بالابتداء على الأصل، لم يظهر
تشبثها بالحديث الذي دخلت لمعنى فيه، فكان إعمالها في الاسم المبتدأ
إظهاراً لتشبثها بالجملة وكيلا يتوهم انقطاعها عنها، وكان عملها نصباً
لأن المعاني التي تضمنتها لو لفظ بها لنصبت نحو: التوكيد والترجي
والتنمي، فإنها معان في نفس المتكلم تقديرها: أؤكد وأتمنى، وليست هذه
المعاني مضافة إلى الاسم المخبر عنه، فإن (زيداً) من قوله: (إِن زيداً)
، و (ليت زيداً) لم يؤكد شيئا ولا تمناه، ولكن الحديث هو المؤكد أو
المتمني، فكان عملها نصباً بهذا، وبقي الاسم الآخر مرفوعاً لم يعمل
فيه، حيث لم تقل أفعالاً كعلمت وظننت فتعمل في الجملة كلها، وإنما
أرادوا إظهار تشبثها بالجملة فاكتفوا بتأثيرها في الاسم الأول، يدلك
على أنها لم تعمل في الاسم
الثاني أنه لا يليها، لأنه لا يلي العامل ما عمل فيه غيره، فلو عملت
فيه لوليها، كما يلي (كان) خبرها، ويلي الفعل مفعوله.
نعم، ومن العرب من أعملها في الاسمين جميعاً، وهو قوي في القياس،
(1/264)
لأنها دخلت لمعانٍ في الجملة فليس أحد
الاسمين أولى بأن يعمل فيه من الآخر.
قال الراجز:
إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا
واعلم أن معاني هذه الحروف لا تعمل في حال ولا ظرف، ولا يتعلق بها
مجرور، لأنها في نفس المتكلم كالاستفهام والنفي وسائر المعاني التي
جعلت
الحروف أمارات لها وليس لها وجود في اللفظ، فإذا قلت: هل زيد فائم؟
فمعناه: استفهم عن هذا الحديث.
وكذلك " لا " معناها أن الحديث نفي، وكذلك " ليس معناها
انتفاء الحديث. وكذلك حين أرادوا إظهار تشبثها بالجملة لم ينصبوا بها
الاسم
الأول، كما نصبوا بأن، حيث لم يكن معناها يقتضي نصباً إذا لفظ به، كما
يقتضي معنى (إن) و (لعل) إذا لفظ به.
وأما (كأنَّ) فمفارقة لأخواتها من وجه، وهي أنها تدل على التشبيه، وهو
معنى في نفس المتكلم واقع على الاسم الذي بعدها فكأنك تخبر عن الاسم
بعدها أنه مشبه غيره، فصار معنى التشبيه مسنداً إلى الاسم بعدها، كما
أن معاني الأفعال مسندة إلى الأسماء بعدها، فمن ثَمَّ عملت في الحال
والظرف، تقول: " كأن زيداً يوم الجمعة أمير "، فيعمل التشبيه في القول،
ومن ذلك قوله:
كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند
مُفْتَأَدِ
ومن ثم وفعت في موضع الحال والنعت، كما تقع الأفعال المخبر بها عن
الأسماء، تقول: " مررت برجل كأنه أسد "، و: " جاءني رجل كأنه أمير "،
وليس ذلك في أخواتها لا تكون في موضع نعت ولا في موضع حال، بل لها صدر
الكلام كما لحروف الشرط والاستفهام لأنها داخلة لمعان في الجمل فانقطعت
مما قبلها، وإنما
(1/265)
كانت " كأن " مخالفة لأخواتها من وجه
وموافقة من وجه، من حيث كانت مركبة من " كاف " التشبيه، و " أن " التي
للتوكيد، فكان أصلها: " إن زيداً الأسد "، أي: مثل الأسد، ثم أرادوا أن
يبينوا أنه ليس هو بعينه فأدخلوا الكاف على الحديث المؤكد إن، لتؤذن أن
الحديث مشبه به.
وحكم " إن " إذا دخل عليها عامل أن تفتح الهمزة منها، فصار اللفظ: (كأن
زيداً الأسد "، فلما في كلمة من التشبيه المخبر به عن " زيد "، صار
" زيد " بمنزلة من أخبر عنه بالفعل، فوقع موقع النعت والحال، وعمل ذلك
المعنى وتعلقت به المجرورات ومن حيث كان في الكلمة وعني إن دخلت في هذا
الباب، ووقع في خبرها الفعل نحو قولك: " كأن زيداً يقوم ".
والجملة نحو: " كأن زيداً أبوه أمير ".
ولو لم يكن إلا مجرد التشبيه لم يجز هذا، لأن الاسم لا يشبه بفعل ولا
بجملة، ولكنه حديث مؤكد بإن، والكاف تدل على أن خبراً أشبه من هذا
الخبر، وذلك الخبر الذي شبه بهذا الخبر هو الذي دل عليه " زيد "، فكان
المعنى: زيد قائم وكأنه قاعد.
و" زيد أبوه وضيع وكأن أبوه أمير "، فشبهت حديثا بحديث، والذي يؤكد
الحديث " أن " والذي يدل على التشبيه " الكاف "، فلم يكن بد من
اجتماعهما.
* * *
فصل
وكل هذه الحروف تمنع ما قبلها أن يعمل فيما بعدها لفظا أو معنى.
أما اللفظ فلأنه لا يجتمع عاملان في اسم واحد، وهذه الحروف عوامل.
وأما المعنى فلا تقول: " سرني زيد قائم "، أي: سرني هذا الحديث.
ولا " كرهت زيد قائم " أي: كرهت هذا الحديث، كما يكون ذلك في كان
وليس لأن كان ليست بفعل محض فجاز أن تقول: " كأن زيد قائم ".
أي: كأن هذا الحدبث، ولم يجز في " سرني " ولا " بلغني ".
فإن أدخلت " ليت " أو " لعل " أو " إن " المكسورة لم يجز أيضا، لأن هذه
المعاني ينبغي أن يكون لها صدر الكلام فلا يقع قبلها فعل معمل ولا
ملغى.
(1/266)
فإن جئت بـ " أن " المفتوحة قلت: " بلغني
أن زيداً منطلقاً، فأعملت الفعل في معمول معنوي، وهو الحديث، لأن
الجملة الملفوظ بها حديث في المعنى.
وإنما جاز هذا لامتناع الفعل أن يعمل فيما عملت فيه " أن "، ولا بد له
من
معمول فيه، فتسلط على المعمول المعنوي وهو الحديث، حيث لم يمكن أن يعمل
في اللفظي الذي عملت فيه " أن ".
وكذلك: " كرهت أن زيداً منطلق "، المفعول وهو الحديث، وهو معنى لا
لفظ.
فإن قيل: وهلَّا كان لأن صدر الكلام كما كان لليت ولعل ولجميع الحروف
الداخلة على الجمل؟.
قلنا: ليس في " أن " معنى زائد على الجملة أكثر من التوكيد، وتوكيد
الشيء
هو بمثابة تكراره لا بمثابة معنى زائد فيه، فصح أن يكون الحديث المؤكد
بها معمولاً لما قبلها، حيث منعت هي من عمل ما قبلها في اللفظ الذي
بعدها، فتسلط العامل الذي قبلها على الحديث، ولم يكن له مانع في صدر
الكلام يقطعه عنه كما كان ذلك في غيرها.
فإن كسرت همزتها كان الكسر فيها إشعاراً بتجريد المعنى الذي هو التأكيد
عن توطئة الجملة للعمل في معناها.
فليس بين المكسورة والمفتوحة فرق في المعنى، إلا أنهم إذا أرادواً
توطئة
الجملة لأن يعمل الفعل الذي قبلها في معناها وأن يصيروها في معنى
الحديث.
فتحوا الهمزة، وإذا أرادوا قطع الجملة مما قبلها وأن يعتمدوا على
التوكيد اعتمادهم على الترجي والتمني كسروا الهمزة ليؤذنوا بالابتداء
والانقطاع عما قبل، وأنهم قد جعلوا التوكيد صدر الكلام، لأنه معنى
كسائر المعاني، وإن لم يكن في الفائدة مثل غيره.
وكان الكسر بهذا الموطن أولى لأنه أثقل من الفعل، والثقل أولى ما يعتمد
عليه ويصدر الكلام به، والفتح أولى بما جاء بعد الكلام لخفته، وأن
المتكلم ليس في عنفوان نشاطه وجمامه، مع أن المفتوحة قد تلي الضم
والكسر من قولك: لأنك، وبأنك، وعلمت أنك، فلو كسرت لتوالي الثقل.
فإن قيل: فما المانع من أن تكون هي وما بعدها في موضع المبتدأ، كما
كانت
(1/267)
فى موضع الفاعل والمفعول والمجرور؟
أليس قد صيرت في الجملة في معنى الحديث فلم لا تقول " أنك منطلق معجب
لي "، وما الفرق بينها وبين أن التي هي وما بعدها في تأويل الاسم نحو:
" أن يقوم زيد خير من أن يجلس "، فلم تكون تلك في موضع المبتدأ، ولا
تكون هذه كذلك؟.
والجواب: أن المبتدأ يعمل فيه عامل معنوي، والعامل المعنوي لولا أثره
في
المعمول اللفظي لما عقل، وهذه الجملة المؤكدة بأن إنما يصح أن تكون
معمولا
لعامل لفظي، لأن العامل معنى والمعمول معنى أيضاً، وهذا لا يفهمه
المخاطب
ولا يصل إلى علمه إلا بوحي، فامتنع أن تكون هذه الجملة المؤكدة في موضع
المبتدا لأنه لا ظهور للعامل ولا للمعمول، ومن ثم لم تدخل عليها عوامل
الابتداء من " كان " وأخواتها و " إن " وأخواتها، لأنها قد استغنت
بظهور عملها في الجملة عن حرف يصير الجملة في معنى الحديث المعمول فيه،
فلا تقول: " كان أنك منطلق "، لا حاجة إلى " أن " مع عمل هذه الحروف في
الجملة.
وجواب آخر، وهو أنهم لو جعلوها في موضع المبتدأ لم يسبق إلى الذهن إلا
الاعتماد على مجرد التوكيد دون توطئة الجملة للإخبار عنها، فكأنك تكسر
همزتها.
وقد تقدم أن الكسر إشعار بالانقطاع عما قبل، واعتماد على المعنى الذي
هو
التوكيد، فلم يتصور فتحها في الابتداء إلا بتقدم عامل لفظي يدل على
المراد
بفتحها، لأن العامل اللفظي يطلب معموله، فإن وجده لفظا فهذا غير ممنوع
منه، وإلا تسلط على المعنى، والابتداء بخلاف هذا.
فإن قيل: فلم قالوا: " علمت أن زيداً قائم "
و" ظننت أنك ذاهب "، هلا اكتفوا بعمل هذه الأفعال في الأسماء عن تصيير
الجملة في معنى الحديث، كما اكتفوا في باب (كان) و (أن) ؟.
والجواب: أن الفرق بينهما أن هذه أفعال تدل على الحدث والزمان، وليست
بمنزلة (ليس) و (كان) ، ولا بمنزلة (إن) و (ليت) ، فأجريت مجرى (كرهت)
و (أحببت) .
(1/268)
فلذلك فالوا: علمت أنك منطلق، كما قالوا:
أحببت أنك منطلق إلا أنها تخالف كرهت وأحببت وسائر الأفعال، لأنها لا
تطلب إلا الحديث خاصة ولا تتعلق إلا به، فمن ثم قالوا: علمت زيداً
منطلقاً وزيد - عملت - منطلق،، ولم يقولوا: " كرهت زيداً أخاك، لأنه لا
متعلق لكرهت وسائر الأفعال بالحديث، إنما متعلقها الأسماء، إلا أن
تمنعها " أن " من العمل في الأسماء، فتصير متعلقة بالحديث، فافهمه.
* * *
فصل
إن قيل: فما العامل في هذا الحديث المؤكد بأن من قولك: لو أنك ذاهب
فعلت، لا سيما و (لو) لا يقع بعدها إلا الفعل، ولا فعل ههنا؟
فما موضع (أن) وما بعدها؟.
فالجواب: أن " أن " في معنى التوكيد، وهو تحقيق وتثبيت، فذلك المعنى
الذي هو التحقيق اكتفت به (لو) ، حتى كأنه فعل وليها، ثم عملت ذلك
المعنى في الحديث كأنك قلت: " لو ثبت أنك منطلق "، فصارت كأنها من جهة
اللفظ عاملة في الاسم الذي هو لفظ، ومن جهة المعنى عاملة في المعنى
الذي هو الحديث.
فإن قيل: ألم يتقدم أن لا يعمل عامل معنوي في معمول معنوي؟.
قلنا: هذا في الابتداء حيث لا لفظ يسد مسد العامل اللفظي، فأما ههنا
فلو
لشدة مقارنتها للفعل وطلبها له، تقوم مقام اللفظ بالعمل الذي هو
التحقيق والتثبيت الذي دلت عليه " أن " بمعناها. ومن ثم عمل حرف النفي
المركب مع (لو) من قولك " لولا زيد " عمل الفعل، فصار زيد فاعلاً بذلك
المعنى حتى كأنك قلت: لو انعدم زيد، أو: غاب زيد، ما كان كذا وكذا.
ولولا مقارنة (لو) لهذا الحرف لما جاز هذا، لأن الحروف لا تعمل في
الأسماء
معانيها أصلاً، فالعامل في هذا الاسم الذي بعد (لولا) كالعامل في هذا
الاسم الذي هو الحديث من قولك: " لو أنك ذاهب لفعلت كذا ".
(1/269)
وأما اختصاص " لا " بالتركيب معها في باب "
لولا زيد ذاهب لفعلت كذا ".
فلأن " لا " قد تكون منفردة تغني عن الفعل، إذ قيل لك: هل قام زيد؟
فتقول: لا.
فقد أخبرت عنه بالقعود.
وإذا قيل لك: هل قعد؟ فقلت: لا. فكأنك مخبر بالقيام.
وليس شيء من حروف النفي يكتفى به في الجواب حئى يكون بمنزلة الإخبار
إلا هذا الحرف، فمن ثم صلح الاعتماد عليه في هذا الباب، وساغ تركيبه مع
حروف لا تطلب إلا الفعل، فصارت الكلمة بأسرها بمنزلة حرف وفعل، وصار "
زيد " بعدها بمنزلة الفاعل.
ولذلك قال سيبويه: " إنه " مبني على " لولا ".
وهذا هو الحق، لأن ما يهذون به من أنه مبتدأ وخبره محذوف، لا يظهر،
وخامل لا يذكر.
* * *
مسألة
(أعلمت زيداً عمراً قائما)
زكر سيبويه أنه لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول.
وتأول أصحابه قوله، قالوا: " لا يجوز: لا يحسن، لأن المعمول الأول هو
الفاعل في المعنى، والفاعل يجوز الاقتصار عليه فتقول: علم زيد.
وإنما الذي لا يجوز الاقتصار عليه المفعول الثاني الذي هو الأول قبل
النقل.
وعندي أن كلام سيبويه محمول على الظاهر، لأنك لا تريد بقولك:
" أعلمت زيداً " أي: جعلته عالماً على الإطلاق، وهذا محال، إنما تريد:
أعلمته بهذا - الحديث، فلاِ بد إذاً من ذكر الحديث الذي أعلمته به.
فإن قيل: فهل يجوز: " أظننت زيداً عمراً قائما "، كما تقول: أعلمت؟ .
(1/270)
قلنا: الصحيح امتناعه، لأن الظن إن كان بعد
علم - والعلم ضروري - فمحال أن يرجع ظنا، وإن كان العلم نظرياً لم يرجع
العالم إلى الظن إلا بعد النسيان أو الذهول عن ركن من أركان النظر.
وهذا ليس من فعلك أنت به، فلا تقول: " أظننته "
بعد أن كان عالما.
وإن كان قبل الظن شاكاً أو جاهلاً أو غافلاً فلا يتصور أيضاً أن تقول:
" أظننته "، لأن الظن لا يكون عن دليل يوفقه عليه أو خبر
صادق يخبر به كما يكون العلم.
لأن الدليل لا يقتضى ظنا ولا يقتضيه أيضاً شبهة
كما بينه أصحاب الأصول.
فثبت أن الظن لا تفعله أنت به، ولا تفعل شيئاً من أسبابه، فلم يجز:
" أظننته " أي: جعلته ظاناً، وكذلك يمتنع: " أشككته " من الشك، أي:
جعلته شاكاً ولكنهم قد يقولون " شككته "، إذا حدثته بحديث يصرفه عن حال
الظن إلى حال الشك.
فلذلك جاء على وزن " حدثته ". والله أعلم.
* * *
مسألة
وقوله: " وفعل يتعدى بحرف جر وبغير حرف جر ".
أصل هذا الفصل أن كل فعل يقتضي مفعولاً ويطلبه، فلا يصل إلى ما بعده
إلا بحرف الجر، ثم قد يحذف المفعول لعلم السامع به ويبقى المجرور.
وربما تضمن الفعل معنى فعل آخر متعد بغير حرف، فيسقط حرف الجر من
أجله، وربما كان الفعل يتعدى بغير حرف وفي ضمن الكلام ما يطلب الحرف،
فيدخل الحرف من أجله، فالأول نحو: " نصحت لزيد ".
و" شكرت له "، و " كلت له ": المفعول في هذا كله محذوف، والفعل واصل
إلى ما بعده بحرف، لأن " نصحت " مأخوذ من قولك: نصح الخائط الثوب: إذا
أصلحه وضم بعضه إلى بعض، ثم استعير في الرأي فقالوا: " نصحت له رأيه ".
والتوبة النصوح إنما هي لما تمزق من الدين كنصح الثوب، ولكنهم يقولون:
نصحت زيداً، فيسقطون الحرف، لأن النصيحة متضمنة للإرشاد، فكأنهم قالوا:
أرشدت زيداً.
وكذلك " شكرت " إنما هو تفخيم للفعل وتعظيم له، من " شكر بطنه ": إذا
امتلأت،
(1/271)
فالأصل: " شكرت لزيد فعله "، ثم قد يحذف
المفعول فتقول:
شكرت لزيد، ثم يحذف الحرف لأن " شكرت " متضمنة لحمدت أو مدحت، لأن من
شكر فعلاً للرجل فقد حمده، أو مدحه.
وأما " كلت لزيد "، ووزنت له فمفعولها غير " زيد "، لأن مطلوبهما ما
يكال أو بوزن فالأصل دخول اللام، ثم قد يحذف لزيادة فائدة، لأن كيل
الطعام ووزنه يتضمن معنى المبايعة والمعاوضة إلا مع حرف اللام، فإن
قلت:
كلت لزيد، أخبرت بكيل الطعام خاصة، وإذا قلت: " كلت زيداً " فقد أخبرت
بمعاملة ومبايعة مع الكيل، كأنك قلت: بايعت زيداً بالكيل والوزن.
قال الله - سبحانه وتعالى -: (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ)
أي: بايعوهم كيلاً ووزناً.
وأما قوله: (اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) ، فإنما دخلت " على " لتؤذن أن
الكيل
على البائع للمشتري، ودخلت التاء في (اكتالوا) لأن افتعل في هذا الباب
كله للأخذ، لأنها زيادة على الحروف الأصلية تؤذن بمعنى زاد على معنى
الكلمة، لأن الأخذ للشيء كالمبتاع والمكتال والمشتري ونحو ذلك يدخل
فعله من التناول والاحتراز إلى نفسه والاحتمال إلى رحله ما لا يدخل فعل
المعطي والبائع، ولهذا قال سبحانه:
(لَهَا مَا كَسَبَتْ) يعني من الحسئات، (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)
، يعني من
السيئات، لأن الذنوب يوصل إليها بواسطة الشهوة والشيطان، والحسنة تنال
بهبة من الله - تعالى - من غير واسطة شهوة ولا إغواء عدو، فهذا الفرق
بينهما.
وأما قولهم: " سمع الله لمن حمده "، فمفعول (سمع) محذوف، لأن السمع
متعلق بالأقوال والأصوات دون ما عداها، فاللام على بابها، إلا أنها
تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع، فاجتمع في الكلمة
الإيجاز والدلالة على المعنى الزائد وهو الاستجابة لمن حمده.
وهذا مثل توله تعالى: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) .
ليست " اللام " لام المفعول - كما زعموا - ولا هي زائدة، ولكن ردف فعل
متعمد ومفعولها غير هذا الاسم، كما كان مفعول " سمع " غير الاسم
المجرور، ومعنى ردف: تبع وجاء على
(1/272)
الأثر، فلو حملته على الاسم المجرور، لكان
المعنى غير صحيح إذا تأملته، ولكن المعنى: ردف لكم استعجالكم وقولكم،
لأنهم قالوا:
(متى هذا الوعد) ، ثم حذف المفعول الذي هو القول والاستعجال، اتكالاً
على فعل السامع، ودلت اللام على الحذف لمنعها الاسم الذي دخلت عليه أن
يكون مفعولاً، وآذنت أيضاً بفائدة أخرى
وهي معنى " عجل لكم "، فهي متعلقة بهذا المعنى.
فصار معنى الكلام: قل: عسى أن يكون عجل لكم " بعض الذي تستعجلون، فردف
قولكم واستعجالكم فدلت ردف على أنهم قالوا: واستعجلوا، ودلت اللام على
المعنى الآخر، فانتظم
ْالكلام أحسن نظام واجتمع الإيجاز مع التمام.
ومما يتصل بهذا الفصل: " قرأت الكتاب واللوح ونحوهما "، فإنها متعدية
بغير
حرف، وأما قرأت بأم القرآن و " قرأت بسورة كذا "، فإنما يكون إذا أرددت
هذا المعنى، ولا بد من حذفها إذا لم ترده.
وأما (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) ، فالباء متغلقة بما تضمنه الخبر من
معنى الأمر
بالاكتفاء لأنك إذا قلت: " كفى الله " أو: " كفاك زيد "، فإنما تريد أن
يكتفي هو به، فصار اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الأمر، فدخلت الباء
لهذا، فليست زائدة في الحقيقة، وإنما هي كقولك: حسبك بزيد، ألا ترى أن
حسبك مبتدأ وله خبر، ومع هذا فقد يجزم الفعل في جوابه فتقول:
" حسبك ينم الناس "، فينم جزم على جواب
الأمر الذي في ضمن الكلام.
حكى هذا سيبويه عن العرب.
* * *
مسألة
من باب ما تتعدى إليه الأفعال المتعدية وغير المتعدية.
وهي تعدي الفعل إِلى المصدر وتعديه إليه على ثلاثة أنحاء، على أن يكون
المصدر مفعولًا مطلقا، أو توكيداً، أو حالاً، قال سيبويه:
" وإنما تذكرة لتبيين أي فعل فعلت، أو توكيداً ".
وأما الحال فنحو: مشيت مشياً، وأنت تريد ماشياً، فقد تقول: مشيت
ماشياً،
(1/273)
وقعدت قاعداً، يجعلها حالاً مؤكدة.
وعلى وجه أقرب من هذا وهو أن تريد نعت
المصدر نحو قوله: مشيت مشياً شديداً أو مشيت مشياً، تريد: مشيا ما،
فيكون مثل قوله: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) ، وهي الحال الموطأة، لأن الصفة
وطأت الاسم الجامد أن يكون حالاً، فإن حذفت الاسم وبقيت الصفة وحدها لم
يكن في الحال إشكال.
ويبين ما قلناه نحوه: سرت شديداً، وهي أيضاً حال من المصدر الذي دل
عليه الفعل، فإذا أردت بالمصدر هذا المعنى كان بمنزلة الحال.
ويجوز تقديمه وتأخيره إذا كان مفعولاً مطلقا أو حالاً، ولا يجوز تقديمه
على
الفعل إذا كان توكيداً له، لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد.
والعامل فيه إذا أردت معنى الحال الفعل نفسه، والعامل فيه إذا كان
مفعولاً مطلقا ليس هو لفظ الفعل بنفسه، وإنما هوما يتضمنه من معنى فعل
- الذي هو: فاء
(1/274)
وعين ولام - لأنك إذا قلت: - ضربت ضرباً،
فالضرب ليس بمضروب، ولكنك حين قلت: ضربت تضمن ضربت معنى قلت لأن كل ضرب
فعل، وليس كل فعل ضرباً.
فصار هذا بمنزلة تضمن الإنسان والحيوان، إذ كل إنسان حيوان، وليس كل
حيوان إنساناً.
وإذا كان الأمر هنا كذلك، فضرباً منصوب بفعلت المدلول عليها بضربت.
حتى كأنك قلت: فعلت ضرباً.
ولا يكون المصدر مفعولاً مطلقاً حتى يكون منعوتا أو في حكم المنعوت.
وإنما يكون توكيداً للفعل لأن الفعل يدل عليه دلالة مطلقة ولا يدل
علمِه محدداً ولا منعوتا.
وقد يكون مفعولاً مطلقاً وليس له نعت في اللفظ إذا كان في حكم
المنعوت، كأنك تريد: ضربا ما، فلا يكون حينئذ توكيداً، إذ لا يؤكد
الشيء بما فيه معنى زائد على معناه، لأن التوكيد تكرار محض.
وقد احتج القتبي على القائلين من المعتزلة بأن تكليم الله لموسى - عليه
السلام - مجاز، بقوله: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) ، فأكد
الفعل بالمصدر، ولا يصح المجاز مع التوكيد.
فذاكرت بقوله هذا شيخنا أبا الحسين - رحمه الله تعالى - فقال: هذا حسن
لولا أن سيبويه قد أجاز في مثل هذا أن يكون مفعولًا مطلقا، وإن لم يكن
منعوتا في اللفظ فيحتمل على هذا أن يريد، تكليماً ما، فلا يكون في
الآية حجة قاطعة.
والحجاج عليهم كثيرة لا يحتاج معها إلى الاحتجاج بالمحتملات.
وقد سألته عن العامل في المصدر إذا كان توكيداً للفعل، والتوكيد لا
يعمل فيه المؤكد إذ هو هو في المعنى، فما العامل فيه؟
فسكت قليلاً ثم قال: ما سألني عنه أحد قبلك!
فأرى أن العامل فيه ما كان يعمل في الفعل قبله لو كان اسماً، لأنه
لوكان اسماً كان منصوبا بفعلت المتضمنة فيه.
ثم عرضت كلامه على نفسي وتأملت الكتاب، فإذا هو قد ذهل عما لوح إليه
(1/275)
سيبويه في باب المصادر، بل صرح، وذلك أنه
جعل المصدر المؤكد منصوباً
بفعل هو التوكيد على الحقيقة، واختزل ذلك الفعل، وسد المصدر الذي هو
معموله مسده، كما سدت (إياك) و (رويداً) مسد العامل فيهما، فصار
التقدير: ضربت ضرباً، فضربت الثانية هي توكيد على الحقيقة، وقد سد ضربا
مسدها، وهو معمولها، وإنما يقدر عليها فيه أنه مفعول مطلق لا توكيد.
هذا معنى فول صاحب الكتاب مع زيادة في الشرح.
ومن تأمله هناك وجده كذلك.
والذي أقول به الآن قول الشيخ أبي الحسين، لأن الفعل المختزل معنى.
والمعاني لا يؤكد بها وإنما يؤكد بالألفاظ، وقولك ضربت فعل مشتق من
المصدر، فهو يدل عليه، فكأنك قلت: فعلت الضرب.
فضربت يتضمن الضرب المفعول ولذلك تضمره فتقول: من كذب فهو شر له، أي:
فالكذب شر له وتقيده بالحال فتقول: قمنا سريعا، فسريعا حال من القيام،
فكما جاز أن تقيده بالحال وأن تكتني عنه
بـ هو، جاز أيضاً أن تؤكده بـ (ضرباً) ، كان قلت: ضرباً ضربا ونصب
ضرباً الأول ضربا وبه يعمل في الثاني معنى فعلت، كما كان ذلك في
المفعول المطلق إذا قلت:
ضربت ضرباً شديداً، أي: فعلت ضرباً شديداً ليس المؤكد كذلك، إنما ينتصب
كما ينتصب زيداً الثاني في قولك: ضربت زيداً زيداً مكرراً، انتصب من
حيث كان هو الأول لا أنك أضمرت له فعلاً، فتأمله.
* * *
مسألة
(فيما بؤكد من الأفعال بالمصادر وما لا يؤكد)
قد أشرنا إلى أن الفعل قسمان: خاص وعام، فالعام منه نحو: فعلت
وعملت وصنعت، وأعمها كلها فعلت، لأن عملت عبارة عن حركات الجوارح
الظاهرة مع دؤب، ولذلك جاء على وزن فعل كـ تعب ونصب ومن ثم لم تجدها
يخبر بها عن الله - عز وجل - إلا أن يرد بها سمع فيحمل على المجاز
المحض، ويلتمس له التأويل.
(1/276)
وإذا ثبت هذا ففعلت وما كان نحوها من
الأحداث العامة الشائعة لا تؤكد
بمصدر، لأنها في الأفعال بمنزلة شي وجسم في الأسماء، لا يؤكد لأنه لم
تثبت
حقيقته عند المخاطب أحوج إلى ذكر المفعول المطلق الذي تقع به الفائدة
منه إلى توكيد فعلت، فلو قلت له: فعلت فعلت، وأكدته بغاية ما يمكن
التوكيد، ما كان الكلام إلا غير مفيد وكذلك لو قلت: فعلت فعلاً، على
التوكيد، لأن المصدر الذي كنت تؤكد به - لو أكدت - قياسه أن يكون مفتوح
الفاء، لأنه ثلاثي، والمصدر الثلاثي
قياسه أن يكون على هذا الوزن مفتوح الفاء، كما أن فعله مفتوح الفاء.
فإذا ثبت هذا فلا يقع بعد فعلت إلا مفعول مطلق، إما من لفظها فيكون
عاما
نحو: فعلت فعلاً حسناً، ومن ثم جاء مكسور الفاء لأنه كالطحن والذبح،
أي: إنه ليس بمصدر اشتق منه الفعل، بل هومشتق من فعلت.
وإما أن يكون خاصا نحو: فعلت ضرباً، فضربا أيضاً مفعول مطلق من غير
لفظ فعل فصار فعلت فعلاً كطحنت طحناً وفعلت ضربا كطحنت دقيقاً.
فإن قيل: ألم يجيزوا في ضربت ضربا وقتلت قتلاً أن يكون مفعولاً مطلقا.
فلم يكن مكسور الأول إذا كان مفعولاً مطلقا، ومفتوحاً إذا كان مصدراً
مؤكداً؟
قلنا: حدث حديثين امرأة! ، ألم يقدم في أول الفصل أنه لا يعمل في ضرباً
إذا كان مفعولاً مطلقا إلا معنى فعلت، لا لفظ، ضربت، فلو عمل فيه لفظ
ضربت لقلت: ضربت ضربا، مكسور الأول، مثل: طحنت طحناً، ولكن هذا محال،
لأن الضرب لا يضرب، ولكن إذا اشتققت له اسماً من فعلت الئي هي عاملة
فيه على الحقيقة فقلت: هو فعل.
وإن اشتققت له اسماً من ضربت التي لا يعمل لفظها فيه، لم يجز أن تجعله
كالطحن والذبح، لأن الاسم القابل لصورة الفعل إنما يشتق لفظه من لفظ ما
عمل فيه، فثبت من هذا كله أن فعلت وعملت استغني بمفعولها المطلق عن
مصدرها، لأنها لا تتعدى إلا إلى حدث، وذلك الحدث مشتق له اسم من لفظها،
فيجتمع اللفظ والمعنى ويكون أفيد عند المخاطب من المصدر الذي اشتق منه
الفعل، ولذلك لم يقولوا: صنعت صنعاً بفتح الصاد، ولا: عملت عملاً،
بسكون الميم، مثل:
(1/277)
حمدت حمداً. ولا: فعلت فعلاً، بفتح الفاء،
استغناء عن المصادر بالمفعولات
المطلقة، لأن العمل مثل: القنص والقبض، والصنع مثل: الدهن والخبز،
والفعل مثل الطحن، فكلها بمعنى المفعول لا بمعنى المصدر الذي اشتق منه
الفعل.
وجميع هذه الأفعال العامة لا تتعدى إلى الجواهر والأجسام إلا أن يخبر
بها عن
خالق الجواهر والأجسام وفاعلها في الحقيقة.
وإنما يتعدى إلى الجواهر بعض الأفعال الخاصة نحو: ضربت زيداً.
ولذلك تقول: زيد مضروب على الإطلاق.
وإن اشتققت له من لفظ فعلت لقلت: مفعول به، أي فعل به ضرب ولم يفعل هو.
وأما حلمت في النوم حلماً، فإن حلمت في المنام بمنزلة فعلت وصنعت في
اليقظة، لأن جميع أفعال النوم يشتمل عليها حلمت وكأن جميع أفعال اليقظة
يشتمل عليها فعلت، فمن ثم لم يقولوا: حلمت حلماً على الأصل، لأن حلمت
مغنية عن المصدر، كما كانت فعلت مغنية عنه، وإنما مطلوب المخاطب معرفة
المحلوم والمفعول، فلذلك قالوا: حلماً، ولذلك جمعوه على أحلام وحلوم،
لأن الأسماء هي التي تجمع وتثنى، وأما الفعل، أو ما فائدته كفائدة
الفعل من المصادر فلا تجمع ولا تثنى.
وقولهم: إنما جمعت الحلوم والأشغال لاختلاف الأنواع.
بل يقال لهم: وهل اختلف الأنواع إلا من حيث
كانت بمثابة الأسماء المفعولة؟
ألا ترى أن الشغل على وزن فعل كالدهن، فهو عبارة عما يشتغل المرء به،
فهو اسم مشتق من الفعل وليس الفعل مشتقاً منه، إنما هو مشتق من الشغل،
والشغل هوالمصدر، كما أن الجعل والجعل كذلك.
فعلى هذا ليس الأشغال والأحلام بجمع المصدر، إنما هو
جمع اسم، والمصدر على الحقيقة لا يجمع، لأن المصادر وكلها جنس واحد.
من حيث كانت كلها عبارة عن حركة الفاعل، والحركة تماثل الحركة ولا
تخالفها بذاتها، ولولاهاء التأنيث في الحركة ما ساغ جمعها، فلو نطقت
العرب بمصدر حلمت الذي استغنى عنه بالحلم، وبمصدر شكرت الذي استغنى عنه
بالشكر لما جاز جمعه، لأن اخئلاف الأنواع ليس راجعاً إليه، إنما هو
راجع إلى المفعول المطلق.
ألا ترى أن الشكر عبارة عما يكافأ به المنعم من ثناء أو فعل وكذلك
نقيضه - وهو الكفر - عبارة عما يقابل به المنعم من جحد وقبح فعل، فهو
مفعول مطلق لا مصدر
(1/278)
اشتق منه الفعل، إلا أن الكفر يتعدى بالباء
لتضمنه معنى التكذيب، وشكوت يتعدى باللام، التي هي لام الإضافة، لأن
المشكور في الحقيقة هي النعمة، وهي مضافة إلى المنعم، وكذلك المكفور لي
الحقيقة هي النعمة ولكن كفرها تكذيب وجحد.
فلذلك قالوا: كفر بالله، وكفر بأنعمه وشكر لزيد، وشكر له نعمته.
وإذا ثبت أن الشكر من قولك: شكرت شكراً مفعول مطلق، وهو مختلف
الأنواع، لأن مكافأة النعم تختلف، فجائز أن يجمع كما جمع الحلم والشغل.
فيحمل قوله سبحانه: (لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)
على أنه جمع الشكر، وكذلك: كفر كفوراً، ولا يجعل بمنزلة القعود
والجلوس، لأنه متعد، ومصدر الفعل المتعدي لا يجىء على الفعول.
ويزيد هذا الفصل بيانا ووضوحاً قوله: أحببت حباً، فالحب ليس بمصدر
لأحببت، إنما هو عبارة عن الشغل بالمحبوب، ولذلك
جاء على وزنه مضموم الأول.
ومن ثم جمع كما جمع الشغل والحلم، قال الشاعر:
ثلاثَةُ أحبابٍ فَحُبُّ علاقةٍ ... وحُبُّ تِمِلاَّقٍ وحُبُّ هو القتلُ
فقد انكشف لك بقولهم: " أحببت حباً "
ولم يقولوا: " إحباباً " استغناء بالمفعول المطلق، الذي هو أفيد عند
المخاطب من الإحباب - أن حلمت حلماً وشكرت
شكراً وكفر كفراً وصنع صنعاً، كلها واقعة على ما هو اسم للشيء المفعول،
وناصبة له نصب المفعول المطلق.
وهو في هذه الأفعال أجدر أن يكون كذلك، لأنها أعم من أحببت إذ الشكر
واقع على أشياء مختلفة، وكذلك الكفر والشغل والحلم.
وكلما كان الفعل أعم
(1/279)
وأشيع لم يكن لذكر مصدره معنى، وكان فعل
ويفعل، مغنياً عنه. ولولا كشف الشاعر لاختلاف أنواع الحب ما كدنا نعرف
ما فيه من العموم. ولكنه لما فيه من العموم وأنه في معنى الشغل صار
أحببت كشغك، وصار الحب كالشغل.
ولو قال: أحباباً، لكان بمنزلة شغلت شغلاً، بفتح الشين.
ولعلنا أن نستوفي مسألة أحببت في باب حبذا، إن شاء الله تعالى، ألا ترى
أنهم لا يجمعون من المصادر ما كان على وزن الإفعال، نحو: الإكرام، وعلى
وزن (الانفعال والافتعال، وعلى وزن التفعيل، نحو: التكبير والتضريب،
إلا أن يكون محدوداً.
فهذا يدلك على أنهم لا يجمعون مصدراً ألبتَّة، إلا أن يكون محدوداً
فيكون كالتمرة من تمر والبرة من بر.
وأما أن بجمع لاختلاف أنواع فلا اختلاف أنواع فيه، إنما اختلاف الأنواع
فيما كان اسما مشتقاً من الفعل استغنى به عن المصدر لخصوصه وعموم
المصدر، وذلك لا نجده من الثلاثي إلا على وزن فعل أو فعل ألا ترى أنهم
لا يجمعون الفرق والحذر، ولا شيئا من ذلك الباب نحو: الرمد، والعمش،
والبرص، والبرش، والحوص والخفش، والظمأ والعطش.
فإن قيل: فقد قالوا: سقم وأسقام، والسقم مصدر يسقم، فهذا جمع
لاختلاف الأنواع لا لأنه اسم كما ذكرت.
قلنا: هذا غفلة أليس قد قالوا: سقم، بضم السين، فهو عبارة عن
(1/280)
الداء الذي به يسقم الإنسان، فصار كالدهن
والشغل، وهو في ذاته مختلف الأنواع، فجمع.
وأما المرض فقد يكون عبارة عن (السقم) والعلة، فيجمع على أمراض، وقد
يكون مصدر المرض فلا يجمع.
فإن قيل: تفريقك بين الأمرين دعوى، فما دليلها؟
قلنا: العرق، من قولك: عرق يعرق عرقا، لا يخفى على أحد أنه مصدر
لعرق، والعرق الذي هو جسم مائع سائل من الجسد، لا يخفى على أحد أنه غير
العرق الذي هو المصدر، وإن كان اللفظ واحداً، فكذلك المرض يكون عبارةً
عن المصدر، وعبارة عن السقم والعلة، فعلى هذا تقول: تصبب زيد عرقاً،
فيكون له إعرابان: تمييز - إذا أردت المائع - ومفعول من أجله، أو مصدر
مؤكد - إذا أردت المصدر.
وكذلك: دميت إصبعي دما، إذا أردت المصدر فهو الدمي، مثل العمى.
فإن أردت الشيء المائع فهو دم مثل يد، وقد يسمى المائع بالمصدر.
قال الشاعر:
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وقال الآخر:
جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين
(1/281)
فصل
(في الحال من المصدر وفيما ورد من المصادر على وزن فعل)
ومن حيث امتنع أن يؤكد الفعل العام بالمصدر لشيوعه كامتناع النكرة من
التوكيد لشيوعها، وأنها لم تثبت لها عين - فمن ثم لم يجز أن يخبر عنه
كما لا يخبر عن النكرة، لا تقول: من فعل كان شراً له بخلاف: من كذب كان
شراً له، لأن كذب فعل خاص فجاز الإخبار عما تضمنه من المصدر، ومن ثم لم
يقولوا: فعلت سريعاً ولا: عملت طويلاً، كما تقول: سرت سريعاً، وقعدت
طويلاً على الحال من المصدر كما يكون الحال من الاسم الخاص ولا يكون من
النكرة الشائعة.
فإن قلت: اجعله نعتاً للمفعول المطلق، كأنك قلت: فعلت فعلاً سريعاً
وعملت عملاً كثيراً.
قلنا: لا يجوز إقامة النعت مقام المنعوت إلا على شروط، وفد تقدمت في
باب النعت، فليس قولهم: سرت سريعاً نعتاً لمصدر نكرة محذوف، إنما هو
حال من مصدر في حكم المعرفة بدلالة الفعل الخاص عليه.
ففد استقام المنسم للناظر في فصول هذه المسألة، واستتب القياس فيها من
كل وجه، والحمد لله.
فإن قيل: فما قولكم في علمت علماً، أليس هو مصدراً لعلمت، فلم جاء
مكسور الأول كالطحن والذبح؟
قلنا: العلم يكون عبارة عن المعلوم، كما تقول: قرأت العلم، ويكون عبارة
عن المصدر نفسه الذي اشتق منه علمت إلا أن ذلك المصدر مفعول لعلمت،
لأنه معلوم بنفس العلم لأنك إذا علمث الشيء فقد علمت، وعلمت أنك قد
علمته بعلم واحد، فقد صار العلم معلوماً بنفسه، فلذلك جاء على وزن
الطحن والذبح.
وليس له نظير في الكلام إلا قليل، لا أعلم فعلاً يتناول المفعول
ويتناول نفسه إلا
(1/282)
العلم والكلام، لأنك تقول للمخاطب: تكلم.
فيقول: قد تكلمت. فيكون صادقاً
وإن لم ينطق قبل ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي
حين قال له يا ابن عبد المطلب -: قد أجبتك ". فكان قد أجبتك جواباً
وخبراً عن الجواب، فتناول القول نفسه.
وكذلك تعبدنا في التلاوة أن نقول: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
لأن قل أمر يتناول ما بعده ويتناول نفسه، فمن ثم جاء مصدر القول على
القيل، كما جاء مصدر علمت على لعلم، وجاء أيضا على القال، وهو على وزن
القبض لأن القول قد يكون مقولاً بنفسه.
وجاء أيضا على الأصل مفتوح الأول.
وأما العلم فلم يجئ إلا مكسوراً كان مصدراً أو مفعولًا، لأنه لا يكون
أبداً إلا
معلوما بنفسه، والقول بخلاف ذلك، قد يتناول نفسه في بعضر الكلام وقد لا
يتناول إلا المقول، وهو الأغلب فيه، والله المستعان.
وأما الفكر فهو كالعلم لقربه منه في معناه، ومشاركته له في محله، وليس
باسم عند سيبويه، ولذلك منع من جمعه فقال: لا يجمع الفكر على أفكار،
حمله على المصادر التي لا تجمع.
وقد استهوى الخطباء والقصاص خلاف هذا القول.
والله الموفق للصواب.
وأما الذكر فبمنزلة العلم، لأنه نوع منه.
* * *
فصل
(فيما يحدد من المصادر بالهاء، وفيه بقايا من الفصل الأول)
قد تقدم أن الفعل لا يدل على مصدره إلا مطلقاً غير محدود ولا منعوت،
وأنك إذا قلت: ضربت ضربة فإنما هي مفعول مطلق لا توكيد، لأن التوكيد لا
يكون في معناه زيادة على المؤكد، ومن ثم لا تقول: سير زيد سريعة، تريد:
سيرة سريعة، ولا: قعدت طويلةً، لأن الفعل لا يدل بلفظه على المرة
الواحدة.
(1/283)
ومن ثم بطل ما أجازه (النحاس) ، وغيره من
قولهم: زيد ظننتها منطلق.
تريد الظنة، لأن الفعل لا يدل عليها.
وإذا ثبت هذا فالتحديد في المصادر ليس يطرد في جميعها، ولكن فيما كان
منها حركة للجوارح الظاهرة ففيه يقع التحديد غالباً، لأنه مضارع
للأجناس الظاهرة التي يقع الفرق بين الواحد فيه والجنس بهاء التأنيث
نحو: تمرة وتمر، ونخلة ونخل.
وكذلك نقول: ضربة وضرب.
وأما ما كان من الأفعال الباطنة نحو: علم وحذر وفرق ووجل، وكذلك ما كان
طبعا نحو: ظرف وشرف - فلا يقال في شيء من ذلك: فعلة، لا يقال: فهم
فهمة، ولا: ظرف ظرفة.
وكذلك ما كان من الأفعال عبارة عن الكثرة والقلة نحو: طال وقصر، وكبر
وصغر، وقل وكثر، لا تقول: كبرة ولا: صغرة.
وأما قولهم: الكبرة، في الهرم، فعبارة عن الصفة وليست بواحدة من الكبر.
وكذلك الكبرة ليست كالضربة من الضرب، لأنك لا تقول: كثر كثراً.
وأما حمداً فما أحسبه يقال في تحديده: حمدة، كما تقول: مدحته مدحة.
لأن حمد فعل يتضمن الثناء مع العلم بما يثني به، فإن تجرد عن العلم كان
مدحاً ولم يكن حمداً، فكل حمد مدح وليس كل مدح حمداً.
ومن حيث كان يتضمن العلم بخصال المحمود جاء فعله على حمد بالكسر
موازياً لعلم، ولم يجئ كذلك مدح.
فصار المدح في الأفعال الظاهرة كالضرب ونحوه، ومن ثم لم نجد في لكتاب
ولا في السنة: حمد ربنا فلاناً.
وفد تقول: مدح الله - سبحانه - فلاناً، وأثنى على فلان.
ولا تقول حمد إلا لنفسه.
ولذلك قال الله - سبحانه -: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالألف واللام التي
للجنس.
فالحمد كله له إما ملكاً وإما استحقاقاً، فحمده لنفسه استحقاق، وحمد
العباد له
(1/284)
وحمد بعضهم لبعض ملك له، فلو حمد هو غيره
لم يسغ أن يضاف إليه على
جهة الاستحقاق وقد تعلق بغيره.
فإن قيل: أليس ثناؤه ومدحه لأوليائه إنما هو بما علم، فلم لا يجوز أن
يسمى
مسمى حمداً؟
قلنا: لا يسمى حمداً على الإطلاق إلا ما ينضمن (العلم) بالمحاسن على
الكمال، وذلك معدوم في غيره سبحانه، فإذا مدح فإنه يمدح بخصلة هي ناقصة
في حق العبد، وهو أعلم بنقصانها، وإذا حمد نفسه حمد بما علم من كمال
صفاته.
وقد تعدينا طورنا في الفصل فلنرجع إليه ونقول:
كل ما حدد من المصادر فيجوز تثنيته وجمعته، وما لم يحدد فعلى الأصل
الذي تقدم لا يثني ولا يجمع.
وقولهم: إلا أن تختلف أنواعه، لا تختلف أنواعه، إلا إذا كان عبارة عن
مفعول مطلق اشتق من لفظ الفعل لا عند مصدر اشتق الفعل منه، ولذلك تجده
على وزن فعل بالكسر، وعلى وزن فعل نحو شغل، وعلى وزن فعل نحو عمل.
والذي هو مصدر حقيقة إنما تجده على وزن فعل، نحو ضرب وقتل.
وأما الشرب والشرب، فالشرب هو المصدر بالفتح والشرب عبارة عن المشروبات
أو عن الحدث الذي هو
مفعول مطلق في الأصل، وربما اتسع فيه فاجرى مجرى المصدر الذي اشتق
الفعل منه، كما قال: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) .
فإن قيل: فإن الفهم والعقل والوهم والظن، مصادر وليست مما ذكرت، وقد
جمعت فقلت: أفهام وعقول؟
(1/285)
قلنا: هذه مصادر في أصل وضعها، ولكنها قد
أجريت مجرى الأسماء، حيث
صارت عبارة عن صفات لازمة وعن حاسة باطنة كالبصرة، ألا ترى أنك إذا
قلت: عقلت البعير عقلاً، لم يجز في هذا المصدر الجمع، فإذا أردت به
المعنى الذي استعير له - وهو عقل الإنسان - جاز جمعه، إذ صار للإنسان
كأنه حاسة باطنة كالبصر، ألا ترى أن البصر حيثما ورد في القرآن مع
السمع فهو مجموع، والسمع غير مجموع في أجود الكلام، لبقاء السمع على
أصله من بناء المصادر الثلاثية، ولكون البصر على وزن " فعل " كالأسماء،
ولأنه يراد به الحاسة.
وقد يجوز في السمع - على ضعف - أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون
المصدر كما تجمع الفهم على أفهام، ولكن لا يكون ذلك إلا بشرط، وهو أن
يكون الأفهام والأسماع ونحوهما مضافة إلى جمع، نحو: أفهام القوم،
وأسماع الزيدين.
ولو كان هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر، لما جاز أن تقول:
عرفت أفهام القوم في هذه المسألة، وعرفت علومهم بزيد، لأن الصفة لا
تختلف عند اتحاد متعلقها، بل هي متماثلة وإن اختلفت محالها، فعلم زيد
وعلم عمرو، إذا تعلقا بشيء واحد فهما مثلان، وعلم زيد بشيء واحد وعلم
بشيء آخر مختلفان، لاختلاف المعلومين، ولا نطول بإقامة البرهان على هذا
الأصل، فإنه ثابت في كتب الأصول وإنما أردنا أن نبين أن الأفهام
والعقول لم تجمع لاختلاف أنواعها، لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي عند
اتفاق أفهام على مفهوم واحد.
وتجيء مفردة عند اختلافها نحو: فهم زيد بالحساب وفهمه بالنحو وفهمه
بغير ذلك.
لا يقال: عرفت أفهام زيد بالصناعات، ولكن تقول: " عرفت فهم زيد "
بالإفراد مع اختلاف متعلقه، واختلاف متعلقه يوجب اختلافه.
وإذا ثبت هذا فلم يجمع " الفهم " على أفهام إلا من حيث كانت بمنزلة
حاسة
باطنة للإنسان، فإذا أضيف إلى أناسي كثيرة جمع، وإذا أضيف إلى إنسان
واحد لم يجمع، لأنه كالحاسة الواحدة، وإن كان في أصله مصدراً، فرب مصدر
أجري مجرى الأسماء كقولهم: ضيف وضيوف، وعدل وعدول، وصيد وصيود.
(1/286)
وأما رؤية العين فليست الهاء فيها للتحديد،
وإنما هي لتأنيث الصفة
كالكدرة والحمرة والصفرة، وكان الأصل أن يكون مصدر " رأيت ":
" رأياً "، ولكنهم إنما يستعملون هذا المصدر مضافاً إلى العين.
نحو قوله تعالى: (رَأْيَ الْعَيْنِ) .
فإذا لم يضف استعمل في الرأي المعقول، واستعملت الرؤية في المعنى الآخر
للفرق.
وأما " الظن " فمصدر لا يثنى ولا يجمع، إلا أن تريد به الأمور
المظنونة.
نحو قوله تعالى: (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)
أي: تظنون به أشياء وأموراً كاذبة.
فالظنون - على هذا - مفعول مطلق، لا عبارة عن الظن الذي هو المصدر في
الأصل، والله أعلم.
* * *
مسألة
قال: " واعلم أن سحراً إذا أردته ليوم بعينه، لم تصرفه. . . . . "
إلى آخر الفصل.
حكم (سحر) إذا كان ليوم بعينه - معرفة كان اليوم أو نكرةً - إذا كان
اليوم ظرفا ولم يكن مفعولاً ولا فاعلاً - فحكم " سحر " حينئذ أن يكون
ظرفاً غير منون لأنه معرفة إما بمعنى الإضافة كأنك تريد: سحر ذلك
اليوم، فانحذف التنوين لهذا، كما انحذف في " أجمع " و " أكتع " حيث كان
مضافاً في المعنى.
فهذا وجه قد قيل.
وأحسن منه ما ذهب إليه سيبويه من أنه معرف بالألف واللام كأنك حين
ذكرت يوماً قبله وجعلته ظرفاً، ثم ذكرت " سحر "، فكأنك أردت: السحر
الذي من ذلك اليوم، واستغنيت عن " الألف واللام " بذكر اليوم.
وإنما اخترت هذا القول عن الأول للفرق الذي بين (سحر) وبين (أجمع)
(1/287)
فإن (أجمع) توكيد بمنزلة: " كله " و " نفسه
"، فهو مضاف في المعنى إلى ضمير المؤكد، واستغنى عن إظهار الضمير بذكر
المؤكد من (أجمع) لا يكون إلا تابعا له، ولا يكون مخبراً عنه بحال.
وليس كذلك " السحر "، لأنه بمنزلة (الفرس) و (الجمل) ، فإن
أضفته لم يكن بد من إظهار المضاف إليه، وإنما هو معرف بالألف واللام،
كما قال سيبويه.
وهذا كله لما كان اليوم ظرفاً ولم يكن مفعولاً، فلو جعلته مفعولاً
وفاعلاً
لم يكن " سحر " ظرفا، ولكان بدلاً مضاف إلى ضمير اليوم، مثال ذلك أن
تقول: كرهت يوم الخميس سحره، كما تقول: " أكلت سمكة رأسها ".
فإن قيل: فهلا جعلتموه بدلاً إذاً كان ما قبله ظرفاً، لأنه بعض اليوم،
فيكون بدل البعض من الكل، كما كان ذلك إذا كان اليوم مفعولاً؟.
قلنا: الفرق بينهما أن البدل يعتمد عليه ويكون المبدل منه في حكم
الطرح.
ويكون الفعل مخصوصا بالبدل بعدما كان عموماً في المبدل منه.
فإذا قلت: " أكلت السمكة رأسها "، لم يتناول الأكل إلا رأسها وخرج
سائرها من أن يكون مأكولاً.
وليس كذلك: " خرجت يوم الجمعة سحر "، لأن الظرف مقدر بـ (في) ، وجعل "
سحر " ظرفا لا يخرج اليوم عن أن يكون ظرفا أيضاً، بل يبقى على حاله،
لأنه ليس من شرط الظرف أن يملأه ما يوضع فيه، فالكلام معتمد عليه كما
كان قبل ذكر " سحر ".
نعم، وما هو أوسع من اليوم في المعنى نحو الشهر والعام الذي فيه ذكر
اليوم، وما هو أوسع من العام كالزمان، كل واحد من هذه ظرف للفعل الذي
وقع في " سحر ".
وتخصيصك سحر بالذكر لا يخرج شيئاً من هذه أن يكون ظرفاً لذلك
الفعل.
فلذلك اعتمد الكلام على اليوم، واستغنى به عن تجديد آلة التعريف. بخلاف
قولك " كرهت يوم الخميس سحره "، أو: " السحر منه "، بل لا بد من البدل
من أحد هذين الأمرين.
فقد بانَ لك الفرق بين المسألتين، وبانَت علة ارتفاع التنوين، لأنه لا
يجتمع
(1/288)
مع " الألف واللام "، ولا مع معناها، وإن
كان في حكم المضاف - كما زعم بعضهم - فلذلك أيضاً يمتنع من تنويه.
وأما الذي يمنع من تصوفه وتمكنه، فإنك أردته ليوم هو ظرف، فإن تمكن
خرج عن أن يكون من ذلك اليوم، لأن الظرفية كانت رابطة بينهما ومشعرة
بأن السحر من ذلك اليوم فإذا قلت: سير زيد يوم الجمعة " سحر " وجعلته
مفعولاً على سعة الكلام، لم يجز لعدم الرابط بينه وبين اليوم.
فإن أردت هذا المعنى فقل: " سير زيد يوم الجمعة سحر " أو: " السحر منه
"، حتى يرتبط به، لأنك لا تقدر " الألف واللام " من غير أن يلفظ بهما
إلا إذا كان في الكلام ما يغني عنهما.
وأما إذا كان اسما متمكناً كسائر الأسماء، فلا بد من تعريفه بما تعرف
به الأسماء، أو تجعله نكرة فلا يكون من ذلك اليوم.
فإن قلت: فقد أجازوا: " سير زيد يوم الجمعة سحر " برفع " اليوم "
ونصب " سحر " فلم لا يجوز أيضاً: " يوم الجمعة سحر "، بنصب " اليوم "
ورفع " سحر "؟
قلنا: لأن اليوم - وإن اتسع فيه - فهو ظرف في معناه، وهو يشتمل على "
السحر " ولا يشتمل " السحر " عليه، فلا يجوز إذاً أن يتعرف
" السحر " تعريفاً معنويا حتى يكون ظرفا بمنزلة اليوم الذي هو منه،
ليكون تقدم اليوم مع كونه ظرفاً معيناً عن آلة التعريف.
* * *
فصل
وأما " ضحوة "، و " عشية " و " مساء " ونحو ذلك، فإنها مفارقة لسحر من
حيث كانت منونة وإن أردتها اليوم بعينه، وهي موافقة له في عدم التصرف
والتمكن.
والفرق بينهما أن هذه الأسماء فيها معنى الوصف، لأنها مشتقة مما توصف
به
الأوقات التي هي ساعات اليوم، فالعشي من العشاء.
والضحوة من قولك:
(1/289)
" فرس أضحى " و " ليلة أضحيان "، تريد
البياض.
والصباح من " الأصبح " وهي لون بين لونين فإذا قلت: خرجت اليوم عشيّاً
وظلاماً وضحى وبصراً - حكاه سيبويه -
فإنما تريد: خرجت اليوم في ساعة وصفها كذا.
أو: خرجت يوماً مظلماً أو مبصراً أو مغشياً، أو نحو ذلك.
فقد بانَ لك أنها أوصاف لنكرات، وتلك النكرات هي أجزاء اليوم وساعاته،
ألا ترى أنك إذا قلت: خرجت اليوم ساعةً منه، أو: مشيت اليوم وقتا منه -
لم يكن إلا منونا، إلا أن الساعة ووقتاً غير معين وضحوة وعشية قد تخصصا
بالصفة، ولكنه لم يتعرف وإن كان ليوم بعينه، لأنه غير معرف بمعنى الألف
واللام كما كان سحر، لأن " سحر " اسم جامد يتعرف كالأسماء ويخبر عنه،
وأما اسمه النعت فلا يكون كذلك.
لأن النعت لا يكون فاعلاً ولا مفعولاً، ولا يقام مقام المنعوت الأعلى
شروط
ذكرت في باب النعت.
فإن قلت: أليست هذه الأوقات معروفة عند المخاطب من حيث كانت ليوم
بعينه، فلم لا تكون معرفة كما كان " سحر " إذا كان ليوم بعينه؟.
قلنا: إن " سحر " لم يتعرف بشيء إلا بمعنى الألف واللام، لا من حيث كان
ليوم بعينه، فقد تعرف المخاطب الشيء بصفته، كما تعرفه بآلة التعريف،
فتقول لزيد مثلاً: " رأيت رجلا من صفاته كذا "، وتنعته حتى يعلم أنه
أبوه، فيسرى إليه التعريف والاسم مع ذلك نكرة.
وكذلك " ضحوة " و " عشية "، وإنما استغنى عن ذكر المنعوت بهذه الصفات
(1/290)
لتقدم ذكر اليوم الذي هو مشتمل على الأوقات
الموصوفة لهذه المعاني، كما استغنى عن ذكر المنعوت إذا قلت: زيد قائم،
ولا شك أن المعنى: زيد رجل قائم، ولكن ترك ذكر الرجل لأنه " زيد ".
وكذلك: جاءني زيد صالحاً، أي: رجلاً صالحاً.
ولكن زيداً هو الرجل. فأغناك عن ذكره.
وكذلك ما نحن بسبيله من هذه الأسماء التي هي نفسها أوصاف
لأوقات أغنى ذكر اليوم - الذي هو له - عن ذكرها لاشتمالها عليه.
ولم يكن ذلك في " سحر ". ومن ثم أيضاً لم تتمكن، فتقول: سير عليه يوم
الجمعة ضحوة وعشية، لأن تمكنها يخرجها إلى حيز الأسماء ويبطل منها معنى
الصفة، فلا ترتبط حينئذ باليوم الذي أردتها له.
وتنضاف إلى هذه العلة علة أخرى قد تقدمت في فصل " سحر ".
وكذلك كل ما كان من الظروف نعتاً في الأصل نحو: " ذا صباح "
و" ذات مرة "، و " أقمت طويلاً "
و" جلست قريباً " - لا يتمكن ولا يخرج عن الظرف.
ويلحق بهذا الفصل " نهاراً " إذا قلت: خرجت اليوم نهاراً، لأنه مشتق من
قوله - عليه الصلاة والسلام -:
" أَنْهِرُوا الدَّمَ بِمَا شِئْتُمْ ".
يريد الانتشار والسعة.
ومنه " النهر من الماء، لأنه بالإضافة إلى المفجرة بمنزلة النهار
بالإضافة إلى فجره، لأن النهار ما ينتشر ويتسع، فما انفجر من الماء
بمنزلة ما انتشر واتسع من فجر الضياء، واليوم أوسع من النهار في معناه،
فصار قولك: " خرجت اليوم نهاراً " كقولك " خرجت اليوم ظهراً وعشياً ".
معنى الاشتقاق فيها كلها بين، فجرت بمعنى الأوصاف
النكرات في تنوينها وعدم تمكنها.
* * *
فصل
وأما " غدوة " و " بكرة " فهما اسمان علمان، وعدم التنوين فيهما
للتعريف
والتأنيث، والذي أخرجهما من باب " ضحوةا " و " عشية " - وإن كان فيهما
معنى
(1/291)
الغدو والبكور - كما كان في أخواتها معنى
الفعل - أنهما قد بنيا بناء لا تكون عليه المصادر ولا النعوت وغيرتا
للعملية كما غير " عمارة " و " عمر " وأشباههما، وكما غير " الدبران "
وفيه معنى الدبور، إيذاناً بالعملية وتحقيقاً لمعناها، ألا ترى أن "
ضحوة " على وزن " صعبة " من النعوت، وعلى وزن " ضربة " من المصادر،
والمصادر ينعت بها.
و" ضحى " على وزن " هدىً " وعلى وزن " حُطم " من النعوت.
وكذلك سائر تلك الأسماء. و " غدوة " و " بكرة " بخلاف ذلك قد غيرتا من
لفظ الغدو والبكور تغييراً بيناً، ففارقتا الفصل المتقدم.
فإن قيل: فلعل امتناع التنوين منهما بمثابة امتناعه في " سحر " إذا
أردته ليوم
بعينه؟.
قلنا: كلام العرب يدل على خلاف ذلك، لأنهم لا يكادون يقولون: خرجت
اليوم في الغدوة، ولا: الغدوة خير من أول النهار، كما يقال: السحر خير
من أول الليل.
فالسحر كسائر الأجناس في تنكيره وتعريفه، وغدوة وبكرة من اليوم بمنزلة
رجب وصفر من العام.
فقد تبين مخالفتهما لسحر وضحوة وأخواتها، وأنها
بمنزلة الشهور الأعلام وأسماء الأيام الأعلام، نحو السبت والجمعة.
وإذا ثبت هذا فهما اسمان متمكنان يجوز إقامتهما مقام الفاعل إذا قلت:
" سير زيد يوم الجمعة غدوة ".
ولا يحتاج إلى إضافة ولا إلى لام التعريف.
وتقول أيضاً: " سير زيد يوم الجمعة غدوة "، على الظرف فيهما جميعا،
لأنها
(1/292)
بعض اليوم كما تقول: " سرت العام رجباً كله
".
وتقول أيضاً: " سير زيد يوم الجمعة غدوة " برفعهما، كأنها بدل من
اليوم، ولا يحتاج أيضاً إلى الضمير كما يحتاج في
بدل البعض من الكل، لأنها ظرف في المعنى.
ولو قلت: " كره يوم الخميس غدوة " - على البدل - لم يكن بد من إضافة
" غدوة " إلى ضمير المبدل منه، لأن اليوم ليس بظرف، فيكون كقولك: "
كرهت يوم الخميس سحره، إذا أردت البدل، لأن المكروه هو السحر دون سائر
اليوم، وإنما يستغني عن ضمير يعود على اليوم إذا تركته ظرفاً على حاله،
لأن بعض اليوم إذا كان
ظرفا لفعل، كان جميع اليوم ظرفاً لذلك الفعل، وقد تقدم هذا.
واعلم أنه ما كان من الظروف له اسم علم، فإن الفعل إذا وقع فيه تناول
جميعه، وكان الظرف مفعولاً، على سعة الكلام.
فإذا قلت: " سرت غدوة " فالسير وقع في الوقت كله.
وكذلك: " سرت السبت والجمعة "، و " سرت المحرم وصفر ".
وكل هذا مفعول على سعة الكلام لا ظرف للفعل، لأن هذه الأسماء لا يطلبها
الفعل ولا هي في أصل موضوعها زمان، إنما هي عبارة عن معان أخر، فإن
أردت أن تجعل شيئا منها ظرفاً، ذكرت لفظ الزمان وأضفته إليها، كقولك: "
سرت يوم السبت، و " شهر المحرم ".
فالسير واقع في الشهر ولا يتناول جميعه إلا بدليل، والشهر ظرف.
وكذلك اليوم.
قال سيبويه: " ومما لا يكون الفعل إلا واقعاً به كله، " سرت المحرم
وصفر ".
هذا معنى كلامه.
وإذا ثبت هذا فرجب ورمضان وأشباههما أسماء أعلام إذا
أردتهما لعام بعينه، أو كان في كلامك ما يدل على عام تضيفهما إليه.
فإن لم يكن
(1/293)
ذلك صار الاسم نكرة، تقول: " صمت رمضان
ورمضاناً آخر ".
و" صمت الجمعة وجمعة أخرى "، إنما أردت جمعة أسبوعك ورمضان عامك.
وإذا كان نكرة لم يكن إلا شهراً واحداً، كما تكون النكرة في قولك: "
ضربت رجلاً "، إنما تريد وأحداً.
وأما إذا كان معرفة يكون بما يدل على التمادي وتوالي
الأعوام، لم يكن حينئذ واحداً، كقولك:
" المؤمن يصوم رمضان "، فهو معرفة لأنك لا تريده لعام بعينه، إذ
المعنى: يصوم رمضان من كل عام على التمادي، وذكر
الإيمان قرينة تدل على المراد، ولو لم يكن في الكلام ما يدل على هذا لم
يكن
محمله إلا على العام الذي أنت فيه أو عام تقدم له ذكر.
وإذا ثبت هذا فانظر إلى قوله سبحانه:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
" من صام رمضان إيماناً واحتساباً ".
وقال: " إذا دخل رمضان فتحت. . . " الحديث.
وترك لفظاً الشهر ".
ومحال أن يكون فعل ذلك إيجازاً واختصاراً، لأن القرآن أبلغ إيجازاً
وأبين
إعجازاً، ومحال أيضاً أن يدع - عليه السلام - لفظ القرآن مع تحريه
لألفاظه، وما علم من عادته من الاقتداء به، فيدع ذلك لغير حكمة، بل
لفائدة جسيمة ومعان شريفة اقتضت الفرق بين الموضعبن وقد ارتبك الناس في
هذا الباب، فكرهت طائفة منهم أن يقولوا: " رمضان " ولا " شهر رمضان ".
واستهوى ذلك الكتاب.
واعتان بعضهم في ذلك برواية منحولة إلى ابن عباس - رضي الله عنه - أن
رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولذلك أضيف إليه الشهر، وبعضهم يقول:
إن رمضان من الرمضاء، وهو الحر، وتعلق الكراهية بذلك، وبعضهم يقول:
إنما هذا استحباب واقتداء بلفظ القرآن.
وقد اعتنى بهذه المسألة أبو عبد الرحمن النسوي، لعلمه وحذقه فقال في
(1/294)
مصنفه: باب جواز أن يقال: دخل رمضان، أو: "
صمت رمضان ". وذلك فعل البخاري وأورد الحديث المتقدم.
وإذا أردت معرفة الحكمة والتحقيق في هذه النكتة، فقد تقدم أن الفعل إذا
وقع على هذه الأسماء الأعلام فإنه يتناول جميعها ولا يكون ظرفاَ مقدراً
بفي حتى يذكر لفظ الشهر أو اليوم الذي أصله أن يكون ظرفاً.
وأما الاسم العلم فلا أصل له في الظرفية.
وإذا ثبث هذا فقوله سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ)
في ذكر الشهر فائدئان، وربما كانت أكثر من ذلك:
الأولى: أنه لو قال: " رمضان الذي أنزل فيه القرآن،، لاقتضى اللفظ وقوع
الإنزال على جميعه، كما تقدم من قول " سيبويه ".
وهذا خلاف المعنى، لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منها، في ساعة منها،
فكيف يتناول جميع الشهر؟
فكان ذكر الشهر - الذي هو غير علم - موافقاً للمعنى، كما تقول: " سرت
في شهر كذا "
فلا يكون السير متناولاً لجميع الشهر.
والفائدة الأخرى: أنه لو قال: (رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) لكان حكم
المدح والتعظيم مقصوراً على شهر واحد بعينه، إذ قد تقدم أن هذا الاسم
وما هو مثله، إذا لم تقترن به قرينة تدل على توالي الأعوام التي هو
فيها، لم يكن محمله إلا العام الذي أنت فيه، أو العام المذكور قبله.
فكان ذكر الشهر - الذي هو الهلال في الحقيقة.
قال الشاعر:
والشهر مثل قلامة الظفر
يريد الهلال - فكان ذكره مضافاً إلى " رمضان " مقتضياً لتعليق الحكم
الذي هو التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الاسم، متى كان، وفي أي
عام كان. مع أن
(1/295)
" رمضان " وما كان مثله، لا يكون معرفة في
مثل هذا الموطن، لأنه لم يرد العام بعينه، ألا ترى أن الآية في سورة
البقرة، وهي من آخر ما نزل.
وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين.
ولو قلت: " رمضان حج فيه زيد "، نريد فيما سلف، لقيل لك:
" أي رمضان كان؟ ".
ولزمك أن تقول: حج في رمضان من رمضانات، حتى تريد عاماً
بعينه، كما سبق.
وفائدة أخرى في ذكر " الشهر "، وهو التبيين في الأيام المعدودات، لأن
الأيام
لتبين بالأيام وبالشهر ونحوه، ولا تتبين بلفظ " رمضان "، لأنه لفظ
مأخوذ من مادة أخرى، وهو أيضاً علم فلا ينبغي أن تبين به الأيام
المعدودات، حتى يذكر الشهر الذي هو في معناها ثم تضاف إليه.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -
" من صام رمضان "، ففي حذف الشهر وترك ذكره فائدة
(أيضاً) ، وهو تناول الصيام لجميع الشهر، فلو قال:
" من صام شهر رمضان "، لصار ظرفاً مقدراً بـ في ولم يتناول الصيام
جميعه. فرمضان في هذا الحديث مفعول على السعة، مثل قوله تعالى: (قُمِ
اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) ، لأنه لو كان ظرفاً لم يحتج الى
قوله: (إِلَّا قَلِيلًا) .
فإن قيل: فينبغي أن يكون قوله: من صام رمضان مقصوراً على العام الذي هو
فيه، لما تقدم من قولكم: إنه إنما يكون معرفة علماً إذا أردته لعامك أو
لعام بعينه؟.
قلنا: قوله: " من صام رمضان " على العموم، خطاب لكل قرن ولأهل كل
عام، فصار بمنزلة قولك: " من صام كل عام رمضان غفر له "، كما تقول: "
إن جئتني كل يوم سحراً أعطيتك "، فقد اقترنت به قرينة تدل على التمادي
وتنوب مناب ذكر كل عام.
وقد اتضح الفرق بين الحديث والآية.
فإذا فهمت فرق ما بينهما بعد تأمل هذه الفصول وتدبرها، ثم لم تعدل عندك
(1/296)
هذه الفائدة جميع الدنيا (بأسرها) فما
قدرتها حق قدرها.
والله المستعان على واجب شكرها.
* * *
مسألة
(تشتمل على فصول من الباب)
الفعل لا يعمل في الحقيقة إلا فيما يدل عليه لفظه، كالمصدر والفاعل
والمفعول به أو فيما كان صفة لواحد من هذه نحو: " سرت سريعاً ".
و" جاء زيد ضاحكا "، لأن الحال هي صاحب الحال في المعنى.
وكذلك النعت والتوكيد والبدل، كل واحد من هذه هو الاسم الأول في
المعنى، فلم يعمل الفعل إلا فيما دل عليه لفظه، لأنك إذا قلت:
" ضرب " اقتضى هذا اللفظ: " ضرباً " و " ضارباً " و " مضروباً ".
وأقوى دلالته على المصدر، لأنه هو الفعل في المعنى، ولا فائدة في ذكره
مع الفعل إلا أن نريد التوكيد أو تبيين النوع
منه، وإلا فلفظ الفعل مغن عنه.
ثم دلالة الفعل على الفاعل أقوى من دلالته على
المفعول به من وجهين:
أحدهما: أنه يدل على الفاعل بعمومه وخصوصه، نحو: فعل زيد، عمل
زيد.
وأما الخصوص فنحو: ضرب زيد عمراً.
ولا تقول: فعل زيد عمراً، إلا أن يكون الفاعل هو الباري سبحانه.
والوجه الآخر: أن الفعل هو حركة الفاعلٍ، والحركة لا تقوم بنفسها،
وإنما
هي متصلة بمحلها، فوجب أن يكون الفعل متصلا بفاعله لا بمفعوله.
ومن ثم قالوا: ضربت، فجعلوا ضمير الفاعل كبعض حروف الفعل.
ومن ثم قالوا: ضرب زيد لعمرو، وضرب زيد عمراً، فأضافوه إلى المفعول
باللام تارة وبغير اللام أخرى.
ولم بضيفوه إلى الفاعل باللام أصلاً، لأن اللام تؤذن بالانفصال، ولا
يصح انفصال الفعل عن الفاعل لفظاً، كما لا ينفصل عنه معنى.
فإن قيل: فإن الفعل لا يدل على الفاعل معيناً، ولا على المفعول معيناً
(1/297)
وإنما يدل عليهما مطلقا، لأنك إذا قلت: "
ضرب "، لم يدل على " زيد " بعينه، وإنما يدل على " ضارب ". (وكذلك "
المضروب "، فكان ينبغي أن لا يعمل حتى تقول:
" ضرب ضارب " مضروباً "، بهذا اللفظ، لأن لفظ " زيد " لا يدل عليه لفظ
الفعل ولا يقتضيه؟.
قلنا: الأمر كما ذكرت، ولكن لا فائدة عند المخاطب في الضارب المطلق.
ولا في المفعول المطلق، لأن لفظ الفعل قد تضمنها، فوضع الاسم المعين
مكان الاسم المطلق تبيينا له، فعمل فيه الفعل، لأنه هو هو في المعنى،
وليس بغيره.
وإذا ثبت ما قلناه، فما عدا هذه الأشياء - فلا يصل إليه الفعل إلا
بواسطة حرف، نحو: " المفعول معه " و " الظرف " من المكان، نحو: قمت في
الدار، لأنه لا يدل عليه بلفظه.
وأما " الظرف " من الزمان فكذلك أيضاً، لأن الفعل لا يدل عليه بلفظه
ولا ببنيته وإنما يدل ببنيته على اختلاف أحوال الحدث، وبلفظه على الحدث
نفسه.
وهكذا قال سيبويه في أول الكتاب، وإن تسامح في موضع آخر.
وأما الزمان فهو حركة الفلك فلا ارتباط بينه وبين حركة الفاعل إلا من
جهة
الاتفاق والمصاحبة إلا أنهم قالوا: " الفعل فعلت اليوم "، لأن اليوم
ونحوه أسماء وضعت للزمان ليؤرخ بها الفعل الواقع فيها، فإذا سمعها
المخاطب علم المراد بها، واكتفى بصيغتها عن الحرف الجار.
فإن أضمرتها لم يكف لفظ الإضمار، ولا أغنى عن
(1/298)
الحرف لأن لفظ الإضمار يصلح للزمان ولغيره
فقلت: " يوم الجمعة خرجت
فيه ".
وقد تقول: " خرجت في يوم الجمعة "، لأنها وإن كانت أسماء موضوعة
للتاريخ - فقد يخبر عنها فتقول: " ذهب اليوم "، كما يخبر عن المكان،
إلا أن الإخبار عن المكان المحدود أكثر وأقوى، لأن الأمكنة أشخاص كزيد
وعمرو، وظروف الزمان بخلاف ذلك، فمن ثم قالوا: " سرت اليوم "
و" سرت في اليوم "، ولم يقولوا: " جلست الدار "، بغير حرف الوعاء.
* * *
فصل
(في تعدي الفعل إلى الظرف)
فإن كان الظرف مشتقاً من فعل، تعدي الفعل إليه بنفسه، لأنه في معنى
الصفة التي لا تتمكن ولا يخبر عنها.
وذلك نحو " قبل " و " بعد " و " قريباً " منك، لأن في
" قبل " معنى المقابلة، وهو من لفظ " قبل ". و " بعد " من لفظ " بعد "،
وهذا المعنى هو من صفة المصدر، لأنك إذا قلت: " جلست قبل جلوس زيد "،
فما في " قبل " من معنى المقابلة فهو من صفة جلوسك.
ولم يمتنع الإخبار عن " قبل " و " بعد " من حيث كان غير محدود، لأن
الزمان
والدهر قد يخبر عنهما، وهما غير محدودين، تقول:
" قمت في الدهر مرة ".
وإنما
امتنع " قمت في قبلك " للعلة التي ذكرناها.
ومن هذا النحو ما تقدم في فصل " غدوة " و " عشية "، من امتناع تلك
الأسماء من التمكن لما فيها من معنى الوصف، وما فيها من معنى الوصف
راجع إلى الاسم الذي هو الفاعل، نحو: " خرجت بصراً وظلاماً "، أي:
مبصراً ومظلماً، وكذلك " عشياً " و " ضحى ".
وإن كنا قد قدمنا أن هذه المعاني أوصاف للأوقات فليس
بمناقض لما قلناه آنفاً، لأن هذه الأوقات قد توصف بهذه المعاني مجازاً،
وأما في
الحقيقة فالأوقات هي الفلك، والحركة لا توصف بصفة معنوية، لأن العرض لا
يكون حاملاً للوصف.
ومن هذا الفصل: " خرجت ذات يوم " و " ذات مرة "، لأن " ذات " في أصل
(1/299)
وضعها وصف للخرجة ونحوها، كأنك قلت: " خرجت
خرجة ذات يوم "، أي: لم تكن إلا في يوم واحد، فمن ثم لا يجز فيها إلا
النصب، ولم يجز دخول الجار عليها.
وكذلك: " ذا صباح " و " ذا مساء " في غير لغة خثعم.
فإن قيل: فلم أعربها النحويون ظرفاً إذا كانت في الأصل مصدراً؟.
قلنا: لأنك إذا قلت: " ذات يوم "، عُلِم أنك تريد يوماً واحداً، وقد
اختزل المصدر ولم يبق إلا لفظ اليوم مع الذات، فمن ثم أعربوه ظرفاً.
وسره في اللغة ما تقدم.
وأما " مرة " فإن أردت بها فعلة واحدة من مرور الزمان، فهي ظرف زمان،
وإن أردت بها فعلة واحدة من المصدر مثل قولك: " لقيته مرة. أي: لقيته)
لقية، فهي مصدر، وعبرت عنها بالمرة، لأنك لما قطعت اللقاء ولم تصله
بالدوام صار بمنزلة شيء مررت به ولم تقم عنده، فإذا جعلت المرة ظرفاً
فاللفظ حقيقة، لأنها من مرور الزمان، وإن جعلتها مصدراً فاللفظ مجاز،
إلا أن تقول: " مررت مرة "، فيكون حينئذ حقيقة.
* * *
فصل
(في تعدي الفعل إلى الظرف)
ومن هذا القبيل: جلست خلفك وأمامك، وكذلك: فوق وتحت وإزاء وتلقاء
وحذاء.
وكذلك قربك وعندك، لأن عندك في معنى القرب، وهي أيضاً من لفظ
" العند "
قال الراجز:
(1/300)
كُلُّ شيء يُحِبُّ ولَدَهُ ... حتى
الحُبَارَى فتطير عنده
أي: إلى جنبه.
وهذه الألفاظ كلها ليس يخفي بأدنى نظر أنها مأخوذة من لفظ
الفعل فخلف من " خلفت "، و " قدام " من " تقدمت "، و " فوق "
من فقت ".
و" أمام " وأم من " أممت "، أي: قصدت.
وكذلك سائرها، إلا أنهم لم يستعملوا فعلاً من
" تحت "، ولكنها مصدر في الأصل أميت فعله.
وإذا كان الأمر فيها كلها كذلك، فقد صارت قبل وبعد في الزمان، وكعشي
وقريب، وصار فيها كلها معنى الوصف.
فلذلك عمل الفعل بنفسه، كما يعمل فيما هو وصف للمصدر أو وصف للفاعل أو
المفعول به، لأن الوصف هو الموصوف
في المعنى، فلا يعمل الفعل إلا في هذه الثلاثة أوما هو في معناها، لأنه
لا يدل
بلفظه إلا عليها كما تقدم. فقد بانَ لك أنه لم يمتنع الإخبار عنها ولا
دخول الجار عليها من جهة الإبهام، كما قالوه، لأنه لا فرق بينها وبين
غير المبهم في انقطاع دلالة الفعل عنها، إذ لا يدل الفعل بلفظه على
مبهمها ولا على محدودها ولا على حركة فلك، وإنما يدل بلفظه على مصدره
وفاعله إذا كان الفاعل مطلقا، وعلى المفعول به كذلك.
فإن قيل: فأين لفظ الفعل في " ميل " و " فرسخ "؟
وأي معنى للوصف فيه والفعل قد تعدى إليه بغير حرف، وعمل فيه بلا
واسطة؟.
قلنا: المراد بالميل والفرسخ تبيين مقدار المشي لا تبيين مقدار الأرض،
فصار
الميل عبارة عن عدة خطا، فكأنك قلت: " سرت خطا عدتها كيت وكيت "، فلم
يتعد
(1/301)
الفعل في الحقيقة إِلا إِلى المصدر المقدر
بعدد معلوم، كقولك: " ضربت ألف
ضربة " و " مشيت ألف خطوة "، ألا ترى أن " الميل " عندهم ثلاثة آلاف
وخمسمائة، والفرسخ أضعاف ذلك ثلاث مرات.
فلم ينكسر ما أصلناه من أن الفعل لا يتعدى إِلا إلى ما ذكرناه.
وإنما سموا هذا المقدار من الخطا والأذرع ميلاً لأنهم كانوا ينصبون في
رأس ثلث فرسخ نصبا كهيئة الميل الذي يكتحل به، إِلا أنه كبير، ثم
يكتبون في رأسه عدد ما مشوه ومقدار ما تخطوه، ذكر قاسم بن ثابت أنَّ
هشام ابن عبد الملك مر في بعض أسفاره بميل، وأمر أعرابياً أن ينظر في
الميل كم مكتوباً فيه؟ وكان الأعرابي أمياً، فنظر فيه، ثم رجع إليه
فقال: أفيه محجن، وحلقة، وثلاثة كأطباء الكلية، وهامة كهامة القطا ".
فضحك هشام وقال: معناه خمسة أميال.
فقد وضح لك أن الأمثال مقادير المشي، والمشي مصدر، فمن ثم عمل فيه
الفعل، ومن ثم عمل في المكان نحو: " جلست مكان زيد، لأنه مفعل من
الكون، فهو في أصل وضعه مصدر عبر به عن الموضع.
والموضع أيضاً من لفظ الوضع، فلا يعمل الفعل في شيء
من هذا القبيل بحرف.
والذي قلناه في مكان أنه من الكون هو قول الخليل في كتاب " العين "،
إلا
أنهم شبهواً (الميم) بالحرف الأصلي للزومها، فقالوا في الجمع " أمكنة
".
حتى كأنه على وزن في " فعال "، وقد فعلوا ذلك في ألفاظ كثيرة، شبهوا
الزائد بالأصلي نحو:
" تمدرع " و " تمسكن "، ولهما نظائر.
(1/302)
وأما: " جلست يمينك وشمالك "، فليس من هذا
الفصل، ولكنه مما حذف منه الجار لعلم السامع به، أرادوا: " عن يمينك
وعن شمالك " أي: الجارحتين، ثم حذف الحرف الجار، فتعدى الفعل فنصب.
فهو من باب " أمرتك الخير ".
وإنما حذف (الحرف) لما تضمنه الفعل مرة من معنى الناصب، لأنك إذا قلت:
" جلست عن يمينك " فمعنى الكلام: قابك يمينك وحاذيته، ونحو ذلك.
* * *
فصل
ومن هذا الأصل تعدي الفعل إلى الحال بنفسه، ونعني بالحال صفة الفاعل
التي فيها ضمير، أو صفة المفعول، أو صفة المصدر الذي عمل فيها، لأن
الصفة هي الموصوف من حيث كان فيها الضمير الذي هو الموصوف.
وذلك نحو: " سرت سريعاً " و " جاء زيد ضاحكاً " و " ضربته قائماً ".
فلم يعمل الفعل في هذا النحو من حيث كان حالًا، لأن الحال غير الاسم
الذي يدل عليه الفعل، ألا ترى أنك لو
صرحت بلفظ الحال لم يعمل فيها الفعل إلا بواسطة الحرف نحو: جاء
زيد في حال ضحك ولا تقول: " جاء زيد حال ضحك "
لأن الحال غير " زيد ".
وكذلك لا تقول: " جاء زيد ضحكاً "، لأن الضحك غير " زيد "، وغير المجيء
فلا يعمل " جاء " فيه إلا بواسطة.
فإذا قلت: " ضاحكاً " عمل فيه، لأن الضاحك هو زيد.
وإذا قلت: " جاء زيد مشياً "، عمل فيه أيضاً لا من حيث كان صفة لزيد،
لأنه لا ضمير فيه يعود على " زيد "، ولكن من حيث كان صفة للمصدر الذي
هو (المجيء) فيعمل فيه " جاء " كما يعمل في المصدر.
وأما عمله في المفعول من أجله، فإنه لم يعمل فيه بلفظه عندي، ولكنه دل
(1/303)
على فعل باطن من أفعال النفس والقلب، آثار
هذا الفعل الظاهر، وصار ذلك الفعل الباطن عاملاً في المصدر الذي هو
المفعول من أجله في الحقيقة، والفعل الظاهر دال عليه، ولذلك لا يكون
المفعول من أجله منصوباً حتى يجتمع فيه ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون مصدراً.
والثاني: أن لا يكون من أفعال الجوارح الظاهرة.
والثالث: أن يكون من فعل الفاعل المتقدم ذكره.
نحو: " جاء زيد خوفاً "، و " رغبة فيك "، فإن الخوف والرغبة من أفعال
النفس الباطنة وهو من فعل الفاعل المذكور في الجملة.
فلو قلت: " جاء زيد قراءة للعلم "
أو: " قتلاً للكافر " - لم يجز أن يجعل ذلك مفعولاً من أجله، لأنها
أفعال ظاهرة، فقد بانَ لك أن المجيء إنما يظهر ما كان باطناً خفيا حتى
كأنك قلت: جاء زيد مظهر بمجيئه الخوف والرغبة أو الحرص وأشباه ذلك.
فهذه الأفعال الظاهرة تبدي لك الباطنة، فهي مفعولات في المعنى والظاهرة
دالة على ما ينصبها فإن جئت بمفعول من أجله من غير هذا القبيل الذي
ذكرنا، لم يصل الفعل إليه إلا بحرف نحو: " جئت لكذا "
أو: " من أجل كذا "، والله أعلم.
ثم نرجع إلى الحال فنقول: إذا كانت صفة لازمة للاسم كان حملها عليه على
جهة النعت أولى بها، وإذا كانت مساوية للفعل غير لازمة للاسم إلا في
وقت الإخبار عنه بالفعل، صلح أن تكون حالاً، لأنها مشتقة من التحول،
فلا تكون إلا صفة يتحول عنها، وكذلك لا تكون إلا مشتقة من فعل، لأن
الفعل حركة غير ثابتة.
وقد تجيء غير مشتقة ولكنها في المعنى كالمشتق، نحو قوله - صلى الله
عليه وسلم -:
يتمثل لي الملك رجلاً ".
أي: يتحول عن حال إلى حال، ويرجع متصوراً في صورة الرجال.
فصار قولك: " رجلأ " كقولك: متصوراً على هذه الصورة، ومتحولاً إلى
هذه الحال ".
وأما قولهم: جاء زيد رجلاً صالحاً، فالصلة وطأت الاسم للحال.
ولولا " صالحاً " ما كان " رجلاً " حالًا.
(1/304)
وكذلك قوله تعالى: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) .
فإن قيل: وما فائدة ذكر الاسم الجامد؟ وهلا اكتفى بصالح وعربي؟.
قلنا: في ذكر الاسم موصوفاً بالصفة، في هذا الموطن، دليل على لزوم هذه
الحال لصاحبها، وأنها مستمرة له، وليس كقولك: " جاء زيد صالحاً "، لأن
" صالحاً " ليس فيه غير لفظ الفعل، والفعل غير دائم.
وفي قولك: " رجلاً صالحاً " لفظ رجل وهو دائم، فلذلك ذكر.
فإن قيل: فكيف يصح في قوله عز وجل: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) أن يكون
حالاً.
والحال تعطي التحول والانتقال إليها عن حالة أخرى.
وأنت لو قلت: جاء زيد قرشياً أوحبشياً "، لم يجز، لأنه لم يزل كذلك؟.
فالجواب: أن قوله عز وجل: (لِسَانًا عَرَبِيًّا) حال من الضمير في
(مُصَدِّقٌ) .
لا من (كتاب) ، لأنه نكرة والعامل في الحال ما في (مُصَدِّقٌ) من معنى
الفعل.
فصار المعنى: أنه مصدق لك في هذه الحال، والاسم - الذي هو صاحب الحال -
قديم، وقد كان غير موصوف بهذه الصفة حين أنزل معناه لا لفظه على موسى
وعيسى وداود عليهم السلام، وإنما كان عربيا حين أنزل على محمد - صلى
الله عليه وسلم - مصدقاً له ولما
بين يديه من الكتاب، فقد أوضحت فيه معنى الحال، وبرح الإشكال.
وأما قوله عز وجل: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا) ، فقد حكوا أنها حال
مؤكدة.
ومعنى الحال المؤكدة أن يكون معناها كمعنى الفعل، لأن التوكيد هو
المؤكد في المعنى، وذلك نحو: " قم قائماً " و " مشيت ماشياً "، و "
أما: زيد معروفاً "، هذه هى الحال المؤكدة في الحقيقة.
وأما (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا) فليسث بحال مؤكدة، لأنه قال:
(مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) .
وتصديقه لما معهم ليس في معنى الحق، إذ ليس من شروط الحق أن يكون
مصدقاً لفلان ولا مكذباً له، بل الحق في نفسه (حق) وإن لم يكن مصدقاْ
لغيره. ولكن (مُصَدِّقًا) ههنا حال من الاسم المجرور من قوله تعالى:
(وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) وقوله: (وَهُوَ الْحَقُّ) جملة في
معنى الحال أيضاً، والمعنى: كيف تكفرون
(1/305)
بما وراءه وهو في هذا الحال؟ أعني مصدقاً
لما معهم، كما تقول: لا تشتم زيداً وهو أمير محسناً إليك فالجملة حال،
" ومحسناً " حال بعدها، والحكمة في تقديم الجملة التي في موضع الحال
على قولك " محسناً " و (مصدقا) - أنك لو أخرتها لتوهم أنها في موضع
الحال من الضمير الذي في " محسن، و (مصدق) ، ألا ترى أنك لو قلت:
" أتشتم زيداً محسناً إليك (وهو أمير) - لذهب الوهم إلى أنك تريد؟
محسناً إليك في هذه الحال.
فلما قدمتها اتضح المراد وارتفع اللبس.
هذا وجه لا يبعد في هذا الموضع.
ووجه آخر يطرد في هذه الآية، وفي الأخرى التي في سورة فاطر، قوله:
(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) ، وهو أن يكون
(مُصَدِّقًا) ههنا حالاً يعمل فيها ما دلت عليه الإشارة المنبئة عنها
" الألف واللام "، لأن " الألف واللام " قد تنبئ عما تنبئ عنه أسماء
الإشارة، حكي سيبويه: " لمن الدار مفتوحاً بابها؟ ".
(فقولك: مفتوحاً بابها) لا يعمل فيه الاستقرار الذي يتلق به " لمن "،
لأن
ذلك خلاف المعنى المقصود، وتصحيح المعنى:
" لمن هذه الدار مفتوحا بابها؟ "
فاستغنى بذكر " الألف واللام " وعلم المخاطب أنه مشير وتنبه المخاطب
بالإشارة إلى النظر، وصار ذلك المعنى المنبه عليه عاملاً في الحال.
وكذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا) ، كأنه يقول: " هو ذلك
الحق "، لأن الحق قديم ومعروف بالعقول والكتب المتقدمة.
فلما أشار نبهت الإشارة على العامل في الحال، كما إذا قلت:
" هذا زيد قائما "، نبهت الإشارة المخاطب على النظر، فكأنك قلت:
" انظر إلى زيد قائماً " لأن الاسم الذي هو " ذا " ليس هو العامل،
ولكنه مشعر ومنبه على المعنى العامل في الحال، وذلك المعنى هو " انظر
".
وسنزيد هذا المعنى وضوحا فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ومما أغنت فيه " الألف واللام " عن أسماء الإشارة قولهم: " اليوم قمت
"،
(1/306)
و " الساعة تكلمت " " الليلة فعلت "، تريد:
" هذا اليوم " و " هذه الليلة "، اكتفيت بالألف واللام عن أسماء
الإشارة والإبهام، والله ولي التوفيق والإفهام.
* * *
مسألة
(في الحال)
" هذا بُسْراً أطيبُ منه رُطباً ".
فيه أسئلة:
أحدها: ما العامل في هاتين الحالين، هل واحد أم لا؟
والئاني: متى يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين؟ ومتى لا يجوز؟.
الثالث: من أي اسم هي حال؟ أعني الأولى.
ومن أي اسم هي - الثانية - حال؟
وهل هما حالان من اسم واحد أم لا؟
الرابع: هل يجوز التقديم والتأخير فيهما جميعاً أم لا؟.
الخامس: كيف تصورت الحال في اسم غير مشتق، وهو " البسر " ونحوه؟.
السادس: إلى أي شيء هي الإشارة في قولهم: هذا بسراً؟.
السابع: لم عول في إعرابهما على الحال، واختاره " سيبويه "، وعدلتم عن
إضمار كان؟ وتركتم قول من قال: إن التقدير: هذا إذا كان بسراً أطيب منه
إذا كان رطبا؟
أما العامل في الحال الأولى فهو ما في " أطيب " من معنى الفعل، لأنك
تريد:
طيبه في حال البسرية يزيد على طيبه في حال الرطبية. (فالطيب) أمر واقع
في هذه الحال، فلذلك قال سيبويه: هذا باب ما ينصب من الأسماء على إنها
أحوال وقعت فيها الأمور
وأما الحال الثانية وهي " رطباً "، فالعامل فيها مضى الفعل الذي
تعلق به الجار في قولك: منه، لأن (منه) متعلق بمعنى غير الطيب.
لأن " طاب يطيب " لا يتعدى بمن، ولكن صيغة (أفعل) تقتضي التفضيل بين
شيئين
(1/307)
مشتركين في صفة واحدة، إلا أن أحدهما متميز
من الآخر ومنفصل منه بزيادة في تلك الصفة فمعنى التميز والانفصال الذي
تضمنه أفعل هو الذي تعلق به حرف الجر وهو الذي يعمل في الحال الثانية،
كما عمل معنى الفعل الذي تعلق به حرف الجر من قولك: " زيد في الدار
قائماً " في الحال التي هي قائما.
فإن قيل: فهلا أعمل فيهماجميعا ما في " أطيب " من معنى الطيب؟.
قلنا: لو تجرد ما فيه من معنى الطيب من معنى التفضيل فقلت:
" هذا طيب بسراً " لم يصح عمله إلا في حال واحدة، لأن الفعل الواحد لا
يقع في حالتين ولا في ظرفين لا تقول: " زيد قائم يوم الجمعة يوم الخميس
".
فإن قلت: " زيد أقوم يوم الجمعة منه يوم الخميس "، جاز، لأن العامل في
أحد اليومين غير العامل في اليوم الثاني، لأنك فضلت حين قلت: " أقوم "،
قياماً على قيام آخر، وفضلت حالاً من حال بمزية وزيادة.
وكذلك حين قلت: " هذا بسر أطيب منه رطباً ".
وليس يجوز أن يعمل عامل واحد في حالين ولا ظرفين، إلا أن يتداخلا ويصح
الجمع بينهما نحو قولك:، زيد خارج يوم الجمعة ضحوةا ".
لأن الضحوة في يوم الجمعة.
وكذلك " سرت راكباً مسرعاً "، ولو قلت: " مسرعاً مبطئأ "
لم يجز، لاستحالة الجمع بينهما وكذلك: " بسراً " و " رطبا " يستحيل أن
يعمل فيهما عامل واحد، لأنهما غير متداخلين كما سبق.
وفد فرغنا من السؤال الثاني.
وأما السؤال الثالث، وهو عن صاحب الحال ههنا، فإن الاسم المضمر في
" أطيب " الذي هو راجع على المبتدأ من خبره هو صاحب الحال الأول،
فبسراً حال منه، و " رطباً " حال من الضمير المجرور بمن وان كان
المجرور بمن هو المرفوع المستتر في " أطيب " من جهة المعنى، ولكنه تنزل
منزلة الأجنبي، ألا ترى أنك لو قلت: " زيد قائماً أخطب من عمرو
قاعداً،، لكان قاعداً " حال من الاسم المخفوص بمن - وهو عمرو - فكذلك
(رطبا) حال من الاسم المضمر المجرور بمن.
(1/308)
وأما السؤال الرابع - وهو جواز التقديم
والتأخير - فإن الحال الأولى يجوز فيها ذلك لأن العامل فيها لفظي، وهو
ما في " أطيب " من لفظ الفعل:
فلك أن تقول:
" هذا بسراً أطيب منه رطبا "، وأن تقول: هذا أطيب بسراً منه رطباً "
وهو الأصل.
فإن قيل: فإذا كان هذا هو الأصل، فلم مثل " سيبويه " بها مقدمة، وكان
ذلك أحسن عنده من أن يؤخرها؟
فالجواب: أنه أراد تأكيد معنى الحال فيها، لأنه ترجم عن الحال فلو
أخرها
لأشبهت التمييز، لأنك إذا قلت: " هذا الرجل أطيب بسراً وفلان ".
فبسراً - لا محالة - تمييز، وإذا قدمت " بسراً " على " أطيب من كذا ".
فبسراً - لا محالة - حال ولا يصح أن يخبر بهذا الكلام عن رجل ولا عن
شيء سوى التمر وما هو في معناه.
فإذا قلت: " هذا أطيب بسراً "، احتمل الكلام قبل تمامه وقبل النظر في
قرائن أحواله أن يكون " بسراً " تمييزاً وأن يكون حالاً، وبينهما في
المعنى فرق
عظيم، فاقتضى تحصين المعنى والحرص على البيان للمراد تقديم الحال
الأولى
على عاملها، ولو أخرت لجاز.
وأما الحال الثانية فلا سبيل إلى تقديمها على عاملها، لأنه معنوي،
والعامل
المعنوي لا يتصور تقديم معموله عليه، لأن العامل اللفظي إذا تقدم عليه
منصوبه الذي حقه التأخير، قلت فيه: " مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى "،
فقسمت العبارة بين اللفظ والمعنى.
فإذا لم يكن للعامل وجود في اللفظ لم يتصور تقديم المعمول عليه: لأنه
لا
بد من تأخير المعمول عن عامله في المعنى، فلا يوجد إلا بعده، وعامله
متقدم
عليه، لأنه منوي غير ملفوظ به، فلا تذهب النية والوهم إلى غير موضعه.
بخلاف اللفظي فإن محل اللفظ اللسان ومحل المعنى القلب، فإذا ذهب اللسان
باللفظ إلى غير موضعه لم يذهب القلب بالمعنى إلا إلى موضعه وهو
التقديم، فتأمله.
وأما السؤال الخامس، وهو الاشتقاق، فإن الاشتقاق لا يلزم في الحال،
إنما
يلزم فيها أن تكون صفة متحولة، لأن الحال مشتقة من التحول، فإذا كان
صاحب الحال قد أوقع الفعل في صفة غير لازمة للفعل، فلا تبال أكانت
مشتقة أم غير
(1/309)
مشتقة، فقد جاء في الحديث: " يتمثل لي
الملك رجلًا ".
فرجلا: حال، لأن صورة الرجل طارئة على الملك في حال التمثل، وليست
لازمة للملك إلا في وقت وقوع الفعل منه وهو التمثل، فهي إذاً حال لأنه
قد تحول إليها.
ومثله: (يخرجكم طفلًا) . ومثله قولك: " مررت بهذاً العود شجراً ثم مررت
به رماداً ".
فهذه كلها أحوال وإن كانت جامدة لأنها صفات يتحول الفاعل إليها وليس
يلزم في الصفات أن تكون كلها فعلية، بل منها نفسية ومعنوية وعدمية، وهي
صفة النفي، وإضافية وفعلية، ولا يكون من جميعها حالًا إلا ما كان الفعل
واقعاً فيه وجاز خلوه عنها، وأما ما كان لازما الاسم فيها لا يجوز خلوه
عنه، فلا يكون حالاً منتصبة بالفعل، نحو قولك: " قرشيا "
و" حبشياً " و " ابناً لزيد " و " أخاً لعمرو "، فإذا أردت النسب لا
يكون
شيء من هذا كله حالاً، فافهمه.
وأما السؤال السادس، وهو: (ما) المشار إليه في
قولك: " هذا بسراً "، فهي الشيء الذي تتعاقب عليه هذه الأحوال.
وهو ما تخرجه النخل من أكمامها فيكون بلحاً ثم سيابا، ثم جدالاً ثم
بسراً إلى أن يكون رطباً.
ورأيت لبعض الأشياخ أنه قال: " إذا قدرته بإذا فالإشارة إلى الجدال.
والتقدير: " هذا الجدال إذا كان بسراً ". وإذا قدرته بإذ فالإشارة إلى
الرطب، والتقدير: " هذا إذا كان بسراً ".
وهذا تكلف لا معنى له، لأنا سنبطل إضمار " إذ " و " إذا " فيما بعد
وإضمار
" كان " وهو السؤال السابع.
ووجه آخر يبطل ما ذهب إليه هذا الشيخ، وهو أنه لا معنى لتخصيص
" الجدال " و " الرطب "، فإنها مسألة لا تختص بهذا المعنى، بل تقول:
" زيد قائماً أخطب منه قاعداً "، و " هو راكباً أسرع منه ماشياً ".
فالإخبارُ إنما هو عن الاسم الحامل للصفة التي هي حال، وقولك " هذا
وأنت تشير إلى الجدال أو السياب، إن كنت تريد الصفة التي هي الجدالية
فهو محال، لأن البسرية ليست صفة للجدالية.
وإنما هي صفة وحال للجوهر الموصوف.
فلم يبق إلا أن تكون الإشارة إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأحوال.
وكذلك أيضاً يبطل قول من زعم أن معنى الإشارة في هذا هو العامل في
(1/310)
" بسراً " إِذ لا تختص هذه المسألة بهذه
الصورة بل قال ابن سلام لعثمان
رضي الله عنهما: أنا خارجاً أنفع مني لك داخلاً.
وكذلك: " زيد فارساً أشجع منه راجلاً "، لا إِشارة ههنا ولا معنى
إِشارة، فبطل هذا القول، ورأيته منسوبا إلى " النسوي "، وليس بشيء
فافهم.
وأما السؤال السابع - وهو اختيار نصبهما على الحال دون إضمار " كان "
وإذا - فإذا " كان " لا تضمر، قال سيبويه: " لو قلت: عبد الله المقتول
تريد: كن عبد الله المقتول لم يجز ".
وبرهان قوله في ذلك أن " كان " الزمانية ليست عبارة عن الحدث: وإنما هي
عبارة عن الزمان، والزمان لا يضمر، وإنما يضمر الحدث إذا كان في الكلام
ما يدل عليه وليس في الكلام ما يدل على الزمان الذي يقيد به الحدث، إلا
أن يلفظ به، فإن لم يلفظ به لم يعقل.
فإن قلت: تضمر " كان " التامة، وتكون " بسراً " حالاً تعمل فيه " كان "
التامة؟
قلنا: هذا كلام من لم يفهم " كان " فإن " كان " الزمانية و " كان "
التامة يرجعان إِلى أصل واحد، ولا يجوز إضمار واحد منهما.
وكشف سرهما يطول، وليس هدا موضع ذكره. "
وإذا لم يجز إضمار " كان " على انفرادها فكيف يجوز إضمار " إذا " و "
إذ " معها
وأنت لو قلت: سآتيك جاء زيد، تريد: " إذا جاء زيد "، كان خلفاً من
الكلام بإجماع.
وإذا كان كذلك كان من هدا الموطن أبعد، فإنه لا يدري ههنا إذ تريد أم
إذا؟ وفي قولك: " سآتيك " لا يحتمل إلا أحدهما، بخلاف قولك:
زيد قائماً أخطب منه قاعداً.
وإذا بعد كلّ البعد إضمار الظرف ههنا فإضماره مع " كان " أبعد، ومن
قدره من النحويين فإنما أشار إلى شرح المعنى بضرب من التقريب على
المبتدئين.
والحمد لله رب العالمين.
(1/311)
|