أخبار أبي القاسم الزجاجي

مسألة من الصلات
اعلم أن الذي، ومن، وما، وأيا، والألف واللام أسماء ناقصة في الخبر لا تتم إلا بصلة وعائد وعلى غير معرفة إلا أيا وحدها فإنها معربة، وإنما لم تعرب هذه الأسماء لأنها ناقصة لا تكمل إلا بصلة وعائد فصارت كبعض حروف الاسم، وأبعاض الحروف لا تستحق الأعراب وإنما يستحق الاسم الأعراب بكامله، وأيضا فلما صارت مبهمات ضارعت بإبهامها حروف. المعاني الدالّة على ما وضعت لدلالة مشاعة فلما ضارعت هذا الأسماء الحروف لم تعرب لمضارعتها ما لا يعرب مثله، فإذا ثنيّت الذي وحدها أعربتها فقلت: اللذان في الدار أخواك، ومررت باللذين عندك، وإنما أعربت في التثنية لأنها فارقت حروف المعاني لأن حروف المعاني لا تثنى ولا تجمع ولذلك صارت الأسماء المبنيات كلها ما جاز منها فيه التثنية معربة إذا ثنيت، فإذا جمعت الذي في القرب من يوقعه بلفظ الواحد على الجميع ولا يعربه فيقول: الذي في الدار الزيدون، قال الله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) وقال: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) . ومنهم من جعله بلفظ الجميع ولا يعربه فيقول: رأيت الذي عندك، وجاءني الذي عندك، ويقول هو جمع على حد التثنية فصار كأنه اسم واحد واقع على الجميع فلذلك لم يعرب. ومنهم من يعربه ويجعله جمعا سالما فيقول: جاءني الذون عندك، ومررت بالذين عندك، ورأيت الذي عندك، قال الشاعر في هذه اللغة: الكامل
وبنو نويجية الذين كأنهم ... معط مخرّمة من الخزّان
فأن قيل: لم أعربت؟ أي في الخبر وهي اسم ناقص يحتاج إلى صلة وعائد كما تحتاج إليه الذي واخواتها ولم تعرب الذي وأخواتها؟ فالجواب في ذلك: إن أيا اسم تمكن بالإضافة فأعرب لأنه لا يعقل معناه إلا بما يضاف إليه فما أضيف إليه أخرجته الإضافة إلى التمكن فأعرب، ألا ترى أّن أمس مبنية على الكسر فإذا أضفنها أعربتها فقلت: مضى أمسك بما فيه، وقد كان أمسنا أطيب من يومنا، وكذلك أيّ لما أضيفت وتمكنت فأعربت ثم أفردت فحمل أفرادها على ذلك فأعرب لأن الأعراب قد ثبت فيه قبل أفراده. فأن قال: فلم لم تضف الذي ومن وما وسائر ذلك من الأسماء النواقص؟ فالجواب فيه: أن الذي معرف بالألف واللام، ولا تجتمع الإضافة معها. ومن وما أشدّ إبهاما من الذي لأنهما يكونان استفهاما فيضارعان ألف الاستفهام ويكونان جزءا فيضارعان الجزاء فصارتا كهو إبهاما من أيّ فلم جز أضافتهما، ولذلك لم يثنّيا ولم يجمعا ولم يؤنثا كما فعل ذلك بالذي. فاعرف ذلك.


اخبرنا ابن الأنباري قال اخبرنا الختلّي قال حدثنا أبو يعلي الساجي قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا سفيان بن عيينة قال قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لا يقيم أمر الله إلاّ من لا يصأنع ولا يضارع ولا يتبع المطامع. قوله يضارع: من الضراعة وهو الضعف، يقال: ضرع الرجل يضرع ضرعا وضراعة: إذا ضعف، ورجل ضرع وقوم ضرع ونوة كذلك. والضرع: الضمير أيضا، والمضارعة في غير هذا: المشابهة، قال الزجاج: اشتقاقها من الضرع يقال تضارع الفصيلان: إذا شربا من ضرع واحد وهو الخلف وهذا مستعار.
اخبرنا ابن الأنباري قال اخبرنا الختلي عن أبي يعلى عن الأصمعي قال حدثنا سفيان بن عيينة قال علي صلوات الله عليه: إذا تعلمتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بلعب ولا هزل فتمجه القلوب.
اخبرنا ابن دريد قال اخبرنا عمي الحسي بن دريد عن أبيه قال حدثنا هشام بن محمد الكلبي عن أبيه الكلبي وعن أبي مسكين وعن عبد الرحمن بن المعرا أبي حسين زهير الدوسي قال: كأن حممة بن رافع بن الحارث الدوسي من أجمل العرب وكان له جمة يقال لها الرطبة، وكأن يغسلها بالماء ثم تمتصها فيحتقن فيها الماء فإذا مضى لها يومان حلها ثم نقضها فتملأ حلساء ماء فحج على فرس له ذنوب فنظرت إليه الحمامة الكنانية وهي خناس وكانت من أجمل النساء فوقع بقلبها وكانت تحت رجل من كنانة يقال له ابن الحمارس الكناني فقالت لحممة: من أنت فو الله ما أدري أوجهك أحسن أم شعرك أم فرسك، ما أنت بالنجدى المثلب ولا التهامي القر، وقد وقعت في نفسي فاصدقني؟ فقال: أنا رجل من الأزد ثم من الدوس ومنزلي بثروق قالت: فأنت أحب الناس إليّ فاحملني معك. فارتدفها خلفه ومضى بها إلى أهله. فلما أقدمها أرضه قال لهما: قد علمت كيف كان قربك معي ووالله لا قربت إلى رجل بعدي، فقطع عرقوبها فأقامت عنده فولدت عمرو بن حممة، وكأن سيدا كريما، وولد عمرو ذا النور الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله آية تكون له ليرجع إلى قومه ويدعوهم إلى الأيمان فأعطي نورا بين عينيه كأنه قنديل يزهر، فقال: اللهم في غير وجهي. لئلا يظن قومي أنه مثلة لمفارقتي دينهم، فجعل ذلك النور في طرف سوطه في حديث طويل، فسمي ذا النور بذلك.
وخرج ابن الحمارس في طلب امرأته خناس فلم يقدر عليها وأنشأ يقول: الوافر
ألا حيّ الخناس على قلاها ... وأن شحطت وأن بعدت نواها
تبدلت البطيخ وأرض دوس ... بجملة فارس حمّ ذراها
وقد نبئتها جاعت وذلّت ... وأن الحر من طود سواها
وقد نبئتها نخلت ركيبا ... وأنوارا معرقة شواها
وقد نبئتها ولدت غلاما ... فلا ثبت الغلام ولا هنأها
فلما أنشد عمر بن الخطاب هذا الشعر قال: قد والله ثبت الغلام وهنأها. أنشدنا الأخفش قال أنشدنا ثعلب قال أنشدنا ابن الأعرابي: البسيط
مثل البرام غدا في أصدة خلق ... لم يستعن وحوامي الموت تغشاه
فرحت عنه بصرعينا لأرملة ... وبائس جاء معناه كمعناه
قال ابن الأعرابي يصف سائلا فقال: هو مثل البرام يعني القراد، شبهه به لنحافته وضؤولته. ويقال: هو القراد والبرام والطماح والعل والقرشام والحجن والحمنة والحمنانة والحشدل. واللام زائدة، قال: ومنه الحسد كأن الحسد يلصق بقلب الإنسان كما يلصق القراد بجلد البعير فيمصه. قال وأما قوله: غدا في أصدة خلق فان الأصدة: الصدرة، يقال: هي الصّدرة والأصرة والمجول والبقير والخيعها، والفدعة والعلقة والاتب، كله بمعنى واحد. وقوله: لم يستعن: لم يحلق عانته، وحوامي الموت: أسبابه وأصله حوايم فقلب. بصرعينا: ابل كثيرة مختلفة المشي لكثرتها والمشي جمع مشية.
أنشدنا نفطويه: الطويل
إذا جاءني منها الرسول نعيتها ... خلوت بنفسي حيث كنت من الأرض
فابكي لنفسي رحمة من بكائهاويبكي من الهجران بعضي على بعضي وأني لأهواها على سوء فعلهاواقضي على نفسي بها بالذي أقضي
فحتى متى روح الهوى لا ينالني ... وحتى متى أيام سخطك لا تمضي


اخبرنا الزجاج قال اخبرنا المبرد عن المازني قال حدثني رجل عن الأصمعي ولم اسمعه أنا منه، قال حدثنا خلف الأحمر قال كثير بن هراسة وهو رجل من بني كلاب كأن يبالغ في كلامه: أن من الناس ناسا تهون عليهم إذا عظمتهم وينتقصونك إذا زدتهم، ليس لرضاهم موضع تعرفه، ولا لسخطهم موقع تحذره، فإذا عرفت أولمك فابذل لهم موضع المودّة وامنعهم موضع الخاصة يكن ما بذلت لهم من المودة حائلا دون شرهم، وما منعتهم من الخاصة قاطعاً لحرمتهم.
أنشدنا أبو عبد الله اليزيدي لعمه المنسرح
لا تهن للصديق تكرمه عرضك حتى تعد من خوله
يحمل أثقاله عليك كما ... يحمل أثقاله على جمله
اخبرنا الأخفش قال اخبرنا المبرد قال: كتب إسحاق الموصلي إلى عريب المأمونية: الطويل
تقي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وغيّبته حتى كأن به سحرا
رعى النجد لا اسمع بيومك إنما ... سألتك شيئا ليس يعرى لكم ظهرا
قال: فوقعت في الرقعة: صدقت جعلت فداك ليس يعرى لنا ظهرا ولكنه يملأ مناّ بطنا.
أنشدنا ابن دريد لنفسه يهجو بعض الأغنياء: الرجز
يا عالما مقاله مجهول ... لكن ما يقوله محمول
أن فاتك التأويل والتنزيل ... ما فاتك التشبيه والتمثيل
مسألة أغفلها الخليل ... يرفع فيها الفاعل المفعول
ويبصر المخفوض يستطيل ... ويضمر الوافر والطويل
عروضها مفتعل تقول
أنت لها مصطلح معمول
أنشدنا اليزيدي قال أنشدنا الرياشي: الطويل
ولما قضينا من منى كل منسك ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسألت بأعناق المطي الأباطح
أخبرنا نفطوية قال اخبرنا الحسين بن إسحاق بن إسحاق بن الحسن قال حدثنا الحسين ابن محمد عن شيبان عن قتادة في قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف) أي ما نعات الطرف من النظر إلى غير أزواجهن، والقصر أيضا: العشى وهو القصر ثم القصر وبعده الطفل، طفلت الشمس: إذا دنت للغروب وبعده الجنوح وهو حين تجنح في أفق المغرب أي تميل يقال: قصرك أن تفعل كذا وقصارك وقصراك وقصاراك.
اخبرنا نفطويه قال حدثنا إسحاق بن الحسن عن الحسين بن محمد عن ثسيبان عن قتادة في قوله تعالى: (وتلك نعمة تمنهّا عليّ أن عبدّت بني إسرائيل) قال: قال موسى عليه السلام لفرعون حين عدد عليه تربيته وكونه معه أتمنن عليّ بأن اتخذت بني إسرائيل عبيدا وكانوا أحرارا. يقال: عبّدت الرجل بتشديد الباء وأعبدته: إذا اتخذته عبدا وأنزلته منزلة العبيد، قال الشاعر: البسيط
علام تعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان
والنعمة بكسر النون: اليد، والنعّم بفتح الأول التنعمّ، ويقال: مّن فلأن على فلان: إذ اتخذ عنده يدا وأحسن إليه، ومنّ فلأن على فلأن: إذ امتنّ عليه بمعروفه وإحسانه وقرّعه بذلك ومنه يقال آفة الإحسان المن يراد به الامتنان، وقالوا في قوله تعالى ولا تمنن تستكثر أي لا تعط لتأخذ اكثر مما تعطي وليكن عطاؤك لله عز وجل.
اخبرنا الأخفش قال اخبرنا ثعلب عن الرياشي قال حدثنا أبو سلمة الغفاري قال قال لي محمد بن عبد الله بن عثمان بن عفان: جمعتنا أمنا فاطمة بنت الحسين بن علي فقالت: يا بني أنه والله ما قال أهل السنة شيئا في لذاتهم بالسنة إلا وقد قال أهل المرؤات مثله أو اكثر منه بمرؤاتهم فاستتروا بستر الله.
اخبرنا اليزبدي عن عمه أبي القاسم عبيد الله بن محمد قال: دخل سلم الخاسر على الفضل بن الربيع فلما مثل بين يديه أنشأ يقول: المجتث
ينام من ليس يسهر ... فليت ذا الصبح أسفر
أليس هذا عجيبا ... أموت طورا وأنشر
قيامة كل يوم ... على فتى ليس يحشر
الله حسبي وفضل ... فما أخاف وأحذر
للفضل عندي أياد ... ونعمة ليس تكفر
أن كان مدحي كثيرا ... فنائل الفضل أكثر
قال: سل حاجتك؟ قال: توصلني إلى أمير المؤمنين الرشيد. قال: أفعل، وأمر له بخمسمائة دينار وكان على الركوب إلى الدار فحمل معه، فلما دخل على الخليفة وأخذ الناس مجلسهم قال لبعض الغلمان:


ادخل سلما فلما دخل الرشيد استأذن في النشيد فأذن له فقال: مجزوء الرمل
اسمعي أو خبرينا ... يا ديار الظاعنينا
أن قلبي بك رهن ... للذي قد تعلمينا
نادت الأيام فيها ... بالبلى حتى بلينا
كم خبطنا الهو في الدا ... ر ضروبا وفنونا
من ظباء تجذب الأر ... داف منهن المتونا
مثقلات يتهادين بها ... حورا وعينا
خطرات الشوق منها ... تبعث الداء الدفينا
فاز في الألف محب ... كان بالألف ضنينا
كلما أزددت بعادا ... زاد في الحب فتونا
غادرت في القلب مني ... حرقا ما تنقضينا
ليس للنوم قرار ... في عيون العاشقينا
صار بحر الحب غمرا ... بعدما خضناه حينا
أن عبد الله هر ... ن أمير المؤمنينا
ملك بث عطايا ... هـ شمالا ويمينا
أن لله وليا جا ... معا دنيا ودينا
يبذل الدنيا ولكن ... يمنع الدينن المصوفا
ملك أضحى لما عز ... من الدنيا مهينا
أنت خير الناس حيا ... وابن خير الذاهبينا
رب يوم للمنايا ... نلتقي حمرا وجونا
مثل يوم الحشر يردى ... بالكماة المعلمينا
أمهات الوحش فيه ... ليس يرحمن جنينا
ومخاريق المنايا ... في أكف المصلتينا
لو دعوت الحرب عبدا ... وتعبدت المنونا
أعطيات السلم طوعا ... تابعا أو مستكينا
فقال الرشيد للفضل: يا فضل أعطه. قال: ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال أعطه عشرة آلاف درهم واحمله على ثلاث من الخيل. قوله على ثلاث إنما اسقط الهاء لان الخيل مؤنث فالعدد فيه يحمل على اللفظ المذكر أو المؤنث وتقول: له عندي ثلاث من الخيل ذكور، أو له ثلاث من الخيل إناث. وكذلك النساء والإبل والبقر وما أشبه ذلك يجرى عدده على التأنيث لما ذكرته لك وهي إناث كلها.
اخبرنا ابن دريد واليزيدي قالا اخبرنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: تقول الرب ضربت فلانا حتى اهدأته، اي سكنته، وماطل فلان القول: إذا كمل بعضه على بعض، وتماطل الجواد: إذا راب بعضه بعضا. ويقال: أسكنت فلانا واحفظته: إذا أغضبته، والمقلس: الذي يلعب بين يدي الأمير إذا دخل المدينة. والصعاط: الذي يكرى الإبل. وتقول العرب: إنّا لفي سنة تجادعت أفاعيها: إذا أكل بعضها بعضا لشدة الجدب. ويقولون: أصابتها سنة خفي فيها البياض وظهر السواد: أي قل اللبن لقلة النبت وظهر التمر الاسود، ان عنده التمر والماء. قال: وقيل لي رجل من الكلابيين: أتزوجت فلانة؟ قال: نعم قالوا: إنها لا تسترك من العورة ولا تشفيك من الصورة. معنى لا تسترك من العورة: أي أنها خرقاء لا تحسن أن تبني لك بيتا تسترك به، ولا تشفيك من الصورة: أي لا تدهن رأسك ولا تفليه.
أنشدنا الأخفش، لابن المعتز: الخفيف
وعد البدر بالزيارة ليلا ... فإذا ما وفى قضيت نذوري
قلت يا سيدي ولم تؤثر الليل على بهجة النهار النضير
قال لي: لا أحب تغيير رسم ... هكذا الرسم في طلوع البدور
قال: فزاحمه في هذا المعنى بعضهم فقال: الخفيف
قال لي ممرضي وأظهر وجدا ... بعد صدّ ونبوة وتجاف
قال إني مع العشاء مواف ... فارتقبني ولا تخف من خلاف
قلت: يا سيدي فإلاّ نهارا ... هو إعلان بهجة الإئتلاف
قال لي: لا أحب تغيير رسم ... هكذا البدر في الظلام يوافي
أنشدنا الزجاج قال أنشدنا المبرد: البسيط
إن يحسدوني فإني غير حاسدهم قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهمومال أكثرنا غيظا بما يجد
أنا الذي يجدوني في حلوقهم ... لا ارتقي صورا فيها ولا أرد
قال: ونحوه قول مروان بن أبي حفه: الكامل
ولقد حبيت بألف ألف لم تشب ... إلاّ بسبب خليفة ووزير


ما زلت أنف أن أؤلّف مدحه ... إلاّ لصاحب منبر وسرير
ما ضرّني حسد اللئام ولم يزل ... ذو الفضل يحسده ذوو التقصير
أنشدني أبو الفضل النحوي لأبيه: الوافر
يقول أنا الكبير فبجّلوني ... ألا ثكلتك أمّك من كبير
إذا كان الصغير أعمّ نفعا ... وأمضى عند نائبة الأمور
وأنفذ في الحوادث إن ألمت ... فما فضل الكبير على الصغير
اخبرنا ابن دريد عن عمه عن أبيه عن ابن الكلبي قال: حدثني رجل من أهل الكوفة من بني الطمح بن كندة قال: كنت احضر مجلس شريح وهو يتقلد القضاء لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه يوما رحل جيدر صعل الرأس ناتيء الجبهة شتيم الوجه كأنه محراث، ومعه امرأة كأنها فاقة عنساء تقلب عينين نجلاوين كأن هدبهما قوادم خطّاف فأبرزت عن ساعد كالإغريض بياضا وأنامل كنبات النقا ثم قالت بأعذب لفظ وأفصحه مبدية عن ثنايا كالبرد ثم قالت: يا أيها الحاكم هذا بعلي، فقال شريح: أهو كذلك؟ فافتر بشفتين تنصاوين عن أسنان ضخمة كأنها سناسن عير فقال لها شريح: ما شأنه؟ قالت: أيها الحاكم انه ابن عمي أنا خولة بنت محرمة أحد نساء جرم وقد هاجرني عن أهلي وغرّ ب بي عن ذوى قرابتي، فصرت لا أنظر إلاّ اليه، ولا أصول إلا عليه وهو والله نهم إذا أكل، نحس إذا سأل، مقفل اليدين بالبخل، مطلق اللسان بالخطل، يأكل وحده ويمنع رفده ويخلف وعده إن شانيت قطب، وان تراشيت غضب، يصون ماله ويمتهن عياله. فصاح الرجل: يا للرجال للأفيكة، ثم جثها على ركبتيه فقال: يا أيها الحاكم بل سائل سراة بني جرم فانهم سيخبرونك بالجالي من الخبر: البسيط
هل أترك الناقة الكوماء لاهية ... إذا تلاعبت النكباء بالخطر
للجار والضيف والمعتر قد عملوا ... في ليلة تنبع السغّان بالخَصَرِ
وابطر الخصم ذا العوراء حجته ... حتى يلجلج من عّي ومن حصر
وأترك القرن مصفرا أنامله ... دامي المرادغ منكبا على العفر
واسألهم هل رموا بي نحو داهية ... فلم أكافح شيا أنيابها البتر
وأسألهم كيف ذبه عن حريمهم ... إذا ترامى استعار الحرب بالشرر
أني لأعظم في عين الكميّ على ... ما كان فيّ من التجدير والقصر
حتى يصدّ لواذاً عن مبادهتي ... صدّ الهجارس عن ذي اللبدة الهصر
تا لله تجمع شخصينا ملاءمة ... من بعد ذا اليوم في بدو ولا حضر
فقال له شريح: أفصح عن نيتك فيها. فقال: هي طالق ثلاثا، وهذا الشاب ابن أبان بن أبي وليها يقوم برؤيتها إلى انقضاء عدتها، ثم نهض.
الجيدر: القصير ومثله البحتر والبهتر والكؤالك والحنبل. والضكضاك والدنامة والدنية. والصعل: الصغير الرأس، والشتيم: القبيح الوجه، والمحراث: العصا التي تحرك بها النار وقد اسودت واحترق بعضها، والعنساء: الناقة البيضاء، والعينان النجلاوان: الواسعتان. والهدب: الشعر النابت حول العين، ومنبت الشعر يقال له: الشعر. والأغريض: الطلع إذا انشقّ عنه وعاؤه والوعاء: الحفرى، والأنامل: أطراف الأصابع، ونبات النقا ورد يشبه به العرب الأنامل بها لنعتها وبياضها وهي الأساريع أيضا واحدها أسروع، والنقا: الرمل مقصور، والنهم: الشره، والفلحس: الكلب، والمساناة: المداراة والملاينة، ومنه قول الشاعر: الطويل
ولا تيأسا واستنورا الله انه ... إذا لله سنىّ صلّ عقد تيسّرا
استنورا يقول: اطلبا منه النيرة وهي الميرة، ومعنى سنىّ: سهلّ، والأفيكة: البهتان والكذب وأصله الكلام المقلوب عن جهته، والجالي من الخبر: الواضح، والكوماء: العظيمة السنام، والسغّان: الرمح الباردة، والخَصرَ: البرد، والمرادغ: ما بين الترقوة والعنق واحدها مردغة ومثلها البادل واحدها بأدل بغير هاء. والكمي: الشجاع واشتقاقه من قولهم تكمىّ للشر إذا تعمدّ له وقال بعضهم: اشتقاقه من قولهم كمي فلان شهادته أي سترها


فكأنه ستر شجاعته، والهجارس: أولاد الثعالب، والهصر: الأسد الذي يهصر كل شيء أي يدقه ويثنيه، واللواذ والملاوذة قال الفراء: لاذ فلان بفلان: إذا استتر به يلوذ، واللواذ. الملاوذة من الشيء، والتجدير: القصر مع غلط، يقال رجل مجدّر: إذا كان قصيرا غليظا، والملأمة: الاتفاق، يقال هذا الشيء لا يلائمني أي لا يوافقني. وفلان يلاوم فلاناً بالواو إذا كان كل واحد منهما يلوم صاحبه.
اخبرنا ابن دريد قال اخبرني عرب الحسين بن دريد عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف قال حدثني شيخان من أهل السراة قالوا: كان قصيب بن القاسم أحد بني منهب بن دوس من رجال العرب المشهورين نجدة وبأسا وإقداما، وكان جوادا لا يليق شيئا فخرج مرة في مسيرة من أصحابه يريد الغارة على بجيلة فصادفهم معّدين قد نذروا به وكان ماله للصعاليك من قومه وغيرهم يغزو بهم إذا اخصبوا ويمونهم إذا أورقوا، فكرّ راجعا يريد خثعم ولها جبال منكرة وشعاب وحلة آَسنة ذات عرين متواص، فكمن في بعضها أياما هو وأصحابه يقتاتون أحناش الأرض حتى أضرّ بهم ذلك وهوّا بالرجوع إلى بلادهم مخفقين، فأضحوا ذات يوم وقد جهدهم الجوع فقال لهم قصيب: يا قوم إنّا إن أقمنا على هذه الحال متنا خفاتا ثم رياء لهم فإذا بقرب الجبل في صحفة غائط إبل كالليل المظلم قد ملأت أصباره، فنزل إلى أصحابه فقال: يا قوم إني أرى بقرب هذا الجبل غائطا مشحونا لحما فهل لكم أن تدعز فيه بباقي تطيشنا فنطرد منه ما ملكنا طرده فان دفعنا حتى قاتلنا حتى نعتنق وسيقننا وان غلبنا عليه فقتلنا كان أعذر لنا في عشيرنا. قالوا: رأينا ما رأيت، ثم خرجوا من مكمنهم نحو السمت حتى أشفوا على الغائط فاطردوا من اقرب النعم إليهم صرمة ثم شلوّها ولا تحسسوا أحدا حتى ظنوا أن قد فاتوا بها وأناخوا وانتفعوا نقيعة لهم وعفى الليل الأثر وطخطخ النظر وباتوا آمنين قد ملأوا أيديهم.
فلما استرق السدف واستطار العمود واستثار وما سلا حتى انتهى بهم الطريق إلى ثنية، فلما شندوا في نقبها إذا شخص على شرفه منها كالنسر ملتفع بيت فلما دنوا منه وثب فأشاع بالإبل فانكفأت راجعة تخبط ما مرّت به كأن الرماح في اعجازها. ثم أقبل يهدج في آثارها فاعترضناه فرمى رجلا مناّ ففلق قلبه فكأنه كان ناذرا بالأمس، ثم رمى آخر فأقعده ثم رمى آخر فألحقه بهما ورماه رجل منّا فانبت السهم في ذراعه ثم اقبل يمضغ القدح حتى شطاه ورمى آخر منا فانتظم فخذيه فتكركرنا عنه راجعين ونحن أربعة ما شيء أحب إلينا من فراقه ولا أكره في عيوننا منه. ثم خرج يتبع الإبل وقد تفرقت عنه حتى جمعها ثم صاح: ليأتني منكم أحد، فتواكله أصحابي فقمت والله متكارها فأتيته، فقال: من القوم؟ قلت: وما رأيك إلى السؤال عن هذا؟ والله ما تطلبنا بدم ولا نرجوك لفقد ذمام. قال: لتخبرني فإني قد رأيت لكم وجوها خشيت لها. وكان أصحابي لما أقبلت إليه اتبعوني إشفاقا منهم عليّ فقلت: نحن قوم من الأزد قال: فأيهم أنت؟ قلت: هذه التي لا تحتاج إليها ولست مخبرك عنها وقد انزيت من قد رأيت، ودماؤنا في قومك وليست مطلولة فعليك شأنك يا شيخ، قال: أفلست مخبري عن شأنك اشهد إذا لم تخبرني عن نسبك. قلت: لا واللات ما إلى ذلك من سبيل. قال: فاخبروا قومكم إن دماءكم في بردى عثعث بن هادية التحافي ودونكم هذه الصرمة فاغتنموها فإني لست بمخبر عنكم فخذوا إن شئتم أو دعوا، فرجعنا إلى الصرمة فإذا فيها أربعون تزيد ذودا فأطردناها وأتينا برحالة منفولين موتورين فتعاهدنا أن لا نخبر من شأننا لأحد من قومنا فرجعنا إلى الحيّ وسئلنا عن أصحابنا فأخبرنا أّن حنفيا قتلهم. فأنّا بعد اوبتنا بثلاث في سامر للحي إذا بهاتف يهتف ويقول: المتقارب
ألا تسأل الفتية الآئبين ... إلى الحيّ بالمغنم الأخبث
بأناكد ما صرمة أحرزت ... وأجلبها للنثا المجبث
فليت قصيب وأشياعه ... غداة أحالوا على عثعث
تودأت الأرض من تحتهم ... وآضوا رمائم في الكنكت
ولم يلبسوا أصدتي طامث ... وأدنس من أصدة الطمث
فيا للرجال لا حدوثة ... تناط إلى النطف الممرث
فليتك بالصبّ من قبلها ... مليص تغاور في مفرث


قال ابن الكلبي: فحدثني بعض الديربين إن قصيبا كان في النادي فأملق تحت الليل فما يدرى أين شكع ولا أين ولده إلى اليوم. قوله: أورقوا: قل ما لهم وهو من الأضداد، يقال: أورق القوم: إذا قل مالهم، وأورقوا: إذا كثر مالهم. والورق بفتح الواو: المال من الإبل والغنم وغير ذاك، قال العجاج: الرجز
إياك ادعوا فتقبّل ملقي ... اغفر خطاياي وثمّر ورقي
أي مالي. والوِرق بكسر الواو: الفضة وكذلك الرقة ويجمع الرقين، ومن أمثالهم إّن الرقين يعطي أفن الافبين. والحضيرة: الجمهة، قال أبهو ذؤيب: الكامل
يرد المياه حضيرة ونفيضة ... ورد القطاة إذا اسمأل التبّع
والتبع: الطل، واسمألّ تقلص، والعرين: أجمة الأسد، والمتواصي: المتصل، وأحناش الأرض: صغار هوامها. وأصل الحنش: الحية وجمعها الحناش، والاصبار: النواحي يقال: ملأ الإناء إلى أصباره، والنطيش: الحركة ومنه قولهم نطشان، وقولهم: طخطخ النظر أي ردّ هـ والطخ: الرفع ومنه قولهم: طوبى لمن كانت له مطخة، وقوله: أشاع يريد صاح بها لتجتمع يقال: شأيعت بالإبل ونعقت بالغنم. والكرير: الراعي.
فألق استك الهلباء فوق قعودها ... وشايع بها واضمم إليك البواليا
والهذجان: مقاربة الخطو في سرعة، وقوله حسست لها: أي واقفت، والمجبث: المزعج وتودأت: تقطعت والكنكث: التراب، والأصدة: الصدرة، والنطف: الذي يلبس النطفة وهو الصغير من الناس. والمرث مثل المرس، والمليص: السقط من أولاد النوق، يقال: أملصت الناقة وأملطت: إذ رمت بولدها قبل تمام خلقه وكذلك يقال في النغاس إذا القي قبل أن يستقر، وهو مليص ومملص، ومليط ومملط، والمفرث: الموضعع الذي يلقى فيه الفرث.
اخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد الصائغ قال قال حدثنا ابن قتيبة قال روى ابن عيينه عن عمر بن دينار عن محمد بن حبيب بن جبير عن أبيه مطعم عن ابن جبير قال: أضللت بعيرا لي يوم عرفة فمرت إلى عرفة اطلبه فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا مع الناس فقلت: هذا من الحمس فما باله خرج من الحرم. قال الأصمعي الحمس: قريش ومن دان بدينها من العرب وإنما سموا بذلك لأنهم كانوا يشددون في دينهم، والحماسة: الشدة يقال حمس الأمر حمسا: إذا اشتد، ومنه قيل للشجاع أحمس وكانت قريش تقول: نحن أهل الله فلا نخرج من حرمه وكانوا لا يقفون حتى جاء الإسلام فانزل الله (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) فأمروا بالمقام مع الناس والإفاضة معهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفة ووقف مع الناس ولم يكن جبير عرف هذا لم في ذلك الوقت فأنكر وقوفه عليه الصلاة والسلام بعرفة ومخالفته مذهب قريش في ذلك.
اخبرنا الصائغ قال اخبرنا ابن قتيبة قال: حدثني السجستاني عن الأصمعي قال حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة فال: مِني من مهبط العقبة إلى محشر، وموقف المزدلفة من محشر إلى أنصاب الحرم، وموقف عرفة في الحد لا في الحرم.
اخبرنا اليزيدي قال اخبرني سليم بن عبد العزيز بن أبي نائب من ولد عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عبد الله بن جعفر يرفعه عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: خرج عبد المطلب إلى اليمن في رحلة الشتاء فلقيه رجل من أهل الزبور فنسبه فانتسب له فقال: أتأمرني أن انظر إلى شيء منك؟ قال: نعم ما لم تكن عورتي، فجعل يقلب وترة أنفه ويقول: إني لأرى سحرا فيه نور النبوّة ولكنّا لا نجد الأمر يكون إلاّ في بني زهرة فهل لك من شاعة؟ قال: وما الشاعة؟ قال: الزوجة. قال: أمّا اليوم فلا. قال: فارجع فتزوج في بني زهرة، فرجع فتزوج هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وزوج عبد الله ابنه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فقالت قريش: فلح عبد الله على أبيه عبد المطلب فولدت له هالة حمزة والمفدّم، وصفية بني عبد المطلب، وولدت آمنة لعبد الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
اخبرنا ابن دريد قال اخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال قال ابن دأب:


إنما سميّ الناس الطيب الغالية والساهرية والعبير ببنات عبد من بني عبد الله ابن صخر بن نافع بن سلف بن يقظان من أهل اليمن من العرب العاربة، وكانت له ثلاث بنات يقال لهن: الغالية والساهرية والعبير، اجتمعن فسحقن مسكا وعنبرا وعودا فخلط الغالية بالبان فقيل: هذا طيب الغالية، وخلطته الساهرية بالزئبق فقيل: هذا طيب الساهرية، وخلطته العبير بماء الورد فقيل: هذا طيب العبير. هكذا روى لنا هذا الخبر. وأما أهل اللغة فيختلفون، فالأصمعي يزعم إن العبير: الزعفران ويحتج بقول الأعشى: المتقارب
وتَبْرُدُ بَرْدَ رِداءِ العَرو ... سِ في الصيفِ رَقرَْقتَ فيهِ العَبيرا
وغير الأصمعي يزعم إن العبير أخلاط تجمع بالزعفران، ففرق بين العبير والزعفران. والتومة: حبة تعمل من الفضة كالدرّة.
أنشدنا اليزيدي لعمه: السريع
قد ضقت ذرعا بك مستصلحا ... وأنت مزوّر عن الواجب
من لي بأن نفعل حتى ترى ... كم لك في العالم من غائب
وأنشدنا له أيضا: الكامل
قد كان بعداً صادق يختصم ... بالود يبذل ودّه لا معاد
حتى مضى وعدوّه وصديقه ... سياّن في مقة له ووداد
اخبرنا الزجاج قال اخبرنا المبرد قال: كان ابن الأعرابي يطعن على أبي نواس ويضع من شعره فحضر في مجلس فيه بعض رواة أبي نواس فانشده لأبي نواس: الكامل.
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفىّ عليه بكا عليك طويل
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحطّ بينهن قتيل
فقال له: ويحك. لمن هذا؟ فقد والله جود وبلغ النهاية فقال: الذي يقول: الطويل
ضعيفة كر الطرف تحنث أنها ... قريبة عهد بالأفاقة من سقم
وإني لآتي الأمر من حيث يتقي ... وتعلم قوسي حين انزع من أرمي
فقال له: ويحك. لمن هذا؟ فقد والله أخذني عليه الرفض قال: هذا الذي يقول: البسيط
ركب تساقوا على الأكواب بينهم ... كأس السرى فانتشى المسقي والساقي
كأن اروسهم والنوم واصفها ... على المناكب لم توضع بأعناق
خاضوا إليكم بحار الشوق آونة ... حتى أنخن إليكم قبل إشراق
من كل واضحة التسمين آمنة ... مشتاقة حملت أثقال مشتاق
فقال له: ويحك. لمن هذا؟ فقد والله ظرف كل الطرف. قال: لست أقوله لك أو تكتب الأبيات. فلما كتبها قلت: هذا الذي تنتقص منه وتطعن في شعره أبي نواس. قال: يا ابن أخي اكتم عليّ فلست بعائد والله أبدا.
أنشدنا الأخفش عن ثعلب لزيد بن عمرو بن نفيل القرشي: الخفيف
سألتاني الطلاقَ إذَ رأَتاني ... قل مالي، قد جئتماني بنُكْر
ويْكَأن من يكن له محبُّ يُجِيبُ ... ومن يفتقر يعش عيش ضرّ
مسألة
اعلم إن عمى وكاد وكرب وجعل وأخذ هي لمقاربة الفعل، فأمّا عسى فإنها. نستعمل بأن وسائر أخواتها تستعمل بغير إن كقولك: عسى زيد إن يقوم، وعسى عمرو إن يركب، فموضع إن نصب، والتقدير: قارب زيد الانطلاق، فإن مع الفعل بتأويل المصدر كأنك قلت: عسى زيد القيام، ولو قلت: عسى زيد القيام لم يجز وإنما يجوز إذا ذكرت إن، وإن كان المعنى معنى المصدر. والعلةّ في امتناع ذلك إنك إذا أنكرت إن مع الفعل فقد دلّلت على الاستقبال لا على المعنى، فلذلك لم يجز استعمال المصدر مع عسى ولا اسم الفاعل، إلا إنه قد جاء في مثل واحد للعرب وهو قولهم: منهوك الرجز
عسى الغوير أبؤسا


وهذا مثل يضرب للرجل يأتي الأمر ينسبه إلى غيره ويتهم هو به. وغوير: تصغر غار، وأول من ضرب هذا المثل الزباء الرومية لماّ جاء قصير ليأخذ بثأر عمرو وكان له حصن منيع فأدخل الرجال في الصناديق وأتى حصنها، وكان لها سرب فأقعد عليه الرجال، فلماّ أحسّت بالبلاء همتّ بالخروج من السرب فتبينت الرجال عليه فقالت: عمن الغوير أبؤسا، أي قد ذهبت من قبل الغار ثم صار مثلا يضرب لكل متهم بأمر. وفي الحديث: أن رجلا وجد ملفوطا فأقي به عمر فقال له عمر: " عسى الغوير أبؤساء " اتهاما له به فأثنى عليه عريف خيرا فقال: ربة ذلك ولا مرة. فإن قدمت إن فقلت: عسى إن يقول زيد، فموضع إن رفع التقدير: قَربَ قيام زيد. وقال الله: (عسى أن يبعثك ربك) .
هذا حكم عسى، وتقول في سائر أخواتها: جعل زيد يقول كذا وكذا. وكاد زيد يخرج، ولا تقول: جعل زيد إن يقول، ولا كاد إن يخرج إلاّ في ضرورة شعر.
ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير،، وكاد العروس يكون أميرا، لقربهما من تلك الحال، قال الله تعالى: (يكاد لسنا برقه يذهب بالأبصار) .
والعلة في استعمال عسى بأن وأخواتها بغير إن جعل كاد وأخذ وما أشبه ذلك لمقارنة الفعل والإشراف على وقوعه وكونه، ألا ترى إنك لا تقول: كدت ادخل المدينة إلاّ وأنت مشرف عليها، ولا تقول: جعل زيد يقول كذا وكذا إلا لحكاية حاله في القول فهذا لا يحتاج إلى إن لوقوعها على الحال.. وأمّا عسى فهي كما ذكرت لك تطلب الفعل مستقبلا ومنتظرا فهي لمقاربة اسمه لا ذاته ألا ترى إنك تقول: عمى إن أحجّ، وأنت ما برحت من موضعك بعد، وهذا بين واضح. ثم قد يجيء في الشعر ضرورة عسى بغير إن، وكاد وأخواتها بأن، مقال هدبة بن الخشوم في عسى بغير إن: الوافر
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
وقال رؤبة في كاد: الرجز
قد كان من طول البلا إن يمصحا
والأصل ما ذكرت لك.