أخبار أبي القاسم الزجاجي

مسألة في الأسماء لم لم تجزم والأفعال لم لم تخفض
إذا سأل سائل ففال: لم لم تجزم الأسماء؟ ففي ذلك أجوبة، منها ما اعتمد عليه سيبويه ومن تابعه بعده قال: لا تجزم الأسماء لتمكنها ولحاق التنوين بها فلم يكن ليجمعوا عليها ذهابه وذهاب الحركة. وتلخيص ذلك: إن البصريين والكوفيين قد أجمعوا على إن التنوين لازم للأسماء دون الأفعال والحروف، فلو جزم مثل جعفر لوجب إسكان الراء للجزم وبعدها التنوين على الأصل المتفق عليه بينهم فكان يجتمع ساكنان وهما التنوين والراء، وكان لا بد من تحريك أحدهما أو حذفه، وعلى أوضاع كلام العرب إذا اجتمع ساكنان والأول منهما حرف صحيح ليس بحرف مدّ ولا لين وجب تحريك الأول منهما كما تقول: اضرب زيدا، ثم تقول: اضرب الغلام، فتحرك الباء لالتقاء الساكنين.
وان كان الأول منهما حرفا من حروف المدّ واللين وهي الياء والواو والألف حذف الأول حذفا كقولك: زيد يغزو القوم، وعمرو يقضي اليوم، وزيد يخشى الناس كما قال الله تعالى (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) وكقوله تعالى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) تسقط هذه الحروف من اللفظ وان ثبتت في الخط إلا إن يلتقي ساكنان صحيحان في المدغم فتحرك الثاني منهما نحو قولك في الأمر: مدّ وشدّ لأنه لا سبيل إلى تحريك الأول لأنه إذا تحرك الأول وسكن الثاني ظهر التضعيف كقولك: مددت وشددته وما أشبهه ذلك. فلو حركت الراء من جعفر على هذا القياس بطل الجزم من الكلام لأنك كنت كلما تجزم اسما صحت فتسكن آخره فتحركه لالتقاء الساكنين ولو حذفت الراء لالتقاء الساكنين بطل الاسم لأنه يكمل معناه بتمامه، ولو حذفت التنوين لالتقاء الساكنين فقد حذفت الحركة رجعت إلى قول سيبويه من حذف حركة وتنوين وكنت تجحف بالاسم لذهاب شيئين، ومع ذلك فإن في الأسماء ما يكون قبل آخره ساكن مثل بكر وزيد، فلو جزم مثل هذا على هذا التقدير الذي ذكره كانت تجتمع فيه ثلاثة أحرف سواكن، واجتماع مثلها محال فهذا مذهب سيبويه، وقد بان منه أن دخول الجزم على الأسماء غير سائغ لفظا.


وقال الفراء وأصحابه: لم تجزم الأسماء لأنها خفيفة فلو جزموها زادوا في خفتها. ولم تخفض الأفعال لثقلها فلو خفضوها زادوا في ثقلها فعدلوا الكلام بان خفضوا الأسماء وجزموا الأفعال ليدخل الثقيل على الخفيف والخفة على الثقيل فيعتدل. وقال جماعة من البصريين وجماعة من أهل النظر منهم المبرد وثعلب لم تجزم الأسماء لاستحالة دخول حرف الجزم عليها لان الحروف الجوازم إنما هي للنفي والأمر والنهي والجزاء وما لا يؤول معناه إلى أحد هذه المعاني نحو لم ولام الأمر ولا النهي وحروف الجزاء إن ومهما وما أشبه ذلك. ومحال نفي الأسماء لأن العقول تدل ضرورة على إن النفي لا يقع على الاسم ولا على المسمى وإنما يقع على حال من أحواله أو فعل من أفعاله أو صفة من صفاته كقولك: ليس زيد عاقلا، إنما نفيت عقله، وليس زيد في الدار، إنما نفيت كونه في الدار، وكذلك: لم يقم زيد ولم ينطق عبد الله، ولا غلام لك، وما أشبه ذلك. لا يتعلق النفي بالمسمى نفسه وإنما يتعلق بأفعاله وأخباره وحلاه، وهذا المتفق عليه عند أهل النظر، والعقول تشهد بصحته. وكذلك الأمر والنهي والجزاء وما أشبه ذلك إنما تكون بالأفعال. قال: زعم زاعم إن الأسماء يتصل النفي بها بذاتها غير مراد بذلك عدم الذات من زمان أو مكان موجود فيه فليدل على صحة ذلك بها تشهد العقول بصحته ولن يجد إليه سبيلا، وليس بين العلماء فيما ذكرناه في النفي خلاف وكفى لمخالف هذا بخروجه عما تشهد الجماعة بصحته دليلا على خطئه وانقطاعه. واعلم إن انقطاع الخصم ليس يكون بسكوته وانقطاعه فقط. وقد رتب العلماء للانقطاع مؤلفات وبينوا لها وجوها، فمنها أن يعقد الإنسان مذهبا في الففه والنحو والنظر وسائر العلوم فيلقى خصما له مخالفا في مذهبه مقرر بينهما الخلاف فيتناظران في مسألة، فلا يزال أحدهما يلز الأخر بالاحتجاج عليه إلى أن يضطر صاحبه إلى أن يعتقد ما يخالف مذهبه الذي ينصره، فان اعتقد ذلك فقد انقطع بخروجه عن مذهبه الذي ابتدأ النظر فيه وكابر في انتقاله، فان لم يعتمد ما الجاه إليه واتى بما يدفع خصمه بحجة واضحة فقد قارب. وان لم يمكنه ذلك واقرّ بالحق فقد انقطع منصفا سالكا طريقة النظر. وكان اعذر من الأول المكابر.
والضرب الثاني من الانقطاع أن لا تطرد العلّة في المعلول. والضرب الثالث هو أن يؤول الأمر بمن يناظره إلى أن يعتقد المحال ويقول هو حق إذا كان بزعمه مؤيدا مذهبه، وكفى بمذهب يؤيده المحال فسادا. كأنه يعتقد أن يكون جسم واحد متحركا ساكنا في حال أو لا ساكنا متحركا، أو موجودا معدوما في حال. أو يكون الإنسان قائما قاعدا في حال أو ناطقا ساكنا أو متحركا ساكنا أو يقول إذ النار مبردة والماء مسخن. ويزعم أن أمس لم ينقض بعد وان غدا حاضر أو قد انقضى. وما أشبه ذلك من المحاولات.
ومثله في الإحالة قول من زعم أنا إذا قلنا: لم يقم زيد، أو لم زيد قام، لو حسن ذلك إن النفي واقع على ذات زيد لا على فعله ليس بين هذا والأول فرق في الإحالة عند من صح عقله وتمييزه ومن آل به أمر إلى هذا فقد انقطع وتقطعت جوارحه ولن ينفعه الكلام إذ قد بان سقوطه وانقطاعه وليس في طاقة خصمه أن يجبره على السكوت، وما عليه اكثر مما بينّه.
والضرب الآخر من الانقطاع أن يرد على الخصم ما لا يعرف وجهته فيقر بالحق ويقول: ليس عندي في هذا الوقت جواب وأنا أذكر فيه. فهذا هو مذهب العلماء وليس هذا المقر بما ورد عليه ينقص عن مرتبة العلم باتصافه بل هو في ذلك يزداد باتصافه عند العلماء جلالة.
اخبرنا الرجاج قال: سمعت المبرد يقول روى عن الشعبي انه قيل له: أما تستحيَ من كثرة ما تقول إذا سئلت لا ادري؟ فقال: لكن ملائكة الله المقربين لم يستحيوا إن سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا فاعلمنا.
اخبرنا احمد بن الحسن بن سفيان قال اخبرنا احمد بن عبيد بن ناصح قال: وفد عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير على جعفر ومحمد ابني سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس فتوسلا له إلى المهدي حتى ادخلاه عليه، فأمر بأموال ورقيق فقال: الطويل
سقى الله أطلالا ونعمة ... إلى ملحز إذ يسكن الحي محلزا
نحاها من بهتان رعية ... وأخرى شمالي إذا ما ترحزا


عهدت بها بيضاء من آل مازن ... إذا ما انتمت عدت هلال بن أجوزا
رحلت المطايا يعتلين إليكم ... بوادن حتى صرن يحسبن نخّزا
فكم قطعت قفا إليكم ورملة ... واقتم مغبر العجاج وأمعزا
خرانق يرمين النعام على البرى ... إذا الخمس في الموماة بالركب جلزا
خرانق يرمين لانعام على البري ... إذا الخمس في الموماة بالركب جلز
فما بلغت حتى كأن عيونها ... قلاة من الأنمار أصبحن نكزا
جزى الله عني جعفرا ومحمدا ... كرامته الله وأفضل من جزى
فقد سهلا عند الخليفة مدخلي ... وقد حبواني بالجزيل فأنجزا
أكفهما تندى ويعرف فضلها ... إذا ما أكف الناس أصبحن نكزا
فكم من حسير قد رجا غايتهما ... فقصر مذموما كليلا وبرزا
قناتاهما لم يلف ذو الضغن فيهما ... ليانا ولا الأعداء في الحرب مغمزا
هما ابنا رسول الله وابنا ابن عمه ... سليمان خير الناس فرعا ومغرزا
وإنكما يا ابني سليمان عدتي ... وحوزي إذا لم أجد متحوزا
وأنكما أوفى نزار بذمة ... وأكرم مرقى زائر حين أعوزا
قال ابن عمارة: فأنشدت والدي هذه الأبيات فقال: لقد كال ابوك لهما المديح فهل أعطيانا خادما يخدمه؟ فقلت: قد أعطيانا خادما وأموالا كثيرة.
اخبرنا ابن شقير قال اخبرنا أحمد بن عبيد عن يعقوب بن السكيت قال: كان في العرب رجل سيئ الأقتضاء وآخر سيئ القضاء يقال له عقرب. فقالت العرب: وددنا أن تقع بينهما معاملة لننظر كيف يفعلان. فوقعت بينهما معاملة إلى أجل، فلما كان قبل الأجل بشهر وافى المقتضي إلى باب عقرب فبنى بحذائه دكانا فجلس عليه، فخرج عقرب فقال: ما جاء بك؟ قال: خير. قال: أوحل دينك؟ قال: وهل اقتضيتك؟ قال: فما قعودك على بابي؟ قال: أو تمنعني في الطريق؟ فلم يزل مقيما على الدكان ثلاثين يوما ليله ونهاره حتى حل الأجل، فخرج عقرب عليه فضرب بيده إليه، فما فارقه حتى قضاه دينه وأنشأ يقول: السريع
قد تجرت في سوقنا عقرب ... لا مرحبا بالعقرب الفاجرة
كل عدوّ يتقي شرّه ... ويتقى حمته الدابره
إن عدوّ كيده في أسته ... لغير ذي شر ولا مائره
إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره