شرح ألفية ابن مالك للحازمي عناصر الدرس
* مايجب إستتاره من الضمائر
* الضمائر المنفصلة وحكمها
* إذا أمكن الإتصال امتنع الإنفصال
* مايجوزفيه الوصل والفصل-ترتيب الضمائر
* نون الوقاية وأحكامها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين، أما بعد:
وقفنا عند قول الناظم رحمه الله تعالى:
وَمِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ مَايَسْتَتِرُ ... كَافْعَلْ أُوَافِقْ
نَغْتَبِطْ إِذْ تَشْكُرُ
هذا هو النوع الثاني مما يقابل الضمير البارز؛ لأن الضمير المتصل
نوعان: بارز، ويقابله المستتر، ومن البارز المحذوف، وليس من المستتر،
والفرق بينهما أن المستتر لا يمكن النطق به، يتعذر النطق به، وأما
المحذوف حينئذٍ نقول: يجوز أن ينطق به ويلفظ به؛ لأن الذي يعتبر
مستتراً استتاراً واجباً هو العمد، لذا يقال: وَمِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ
مَايَسْتَتِرُ، ما يستتر من ضمير الرفع، قدم الجار والمجرور ليدل على
أن الاستتار خاص بضمير الرفع، وأما النصب والخفض فليس فيه ضمير مستتر.
وأما البارز فهذا كما ذكرنا يأتي في محل رفع، ويأتي في محل نصب، ويأتي
في محل جر. الأصل فيما جاء في محل رفع أنه لا يجوز حذفه، هذا الأصل،
إلا في مواضع يأتي في محلها إن شاء الله تعالى، وأما ضمير النصب والخفض
فهذا إذا علم بعد الحذف حينئذٍ هو داخل في قول ابن مالك الآتي:
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ كَمَا، وكذلك قوله: وَحَذْفَ فَضْلَةٍ
أَجِزْ إِنْ لَمْ يَضِرْ، كله يأتي في محله.
إذاً البارز ينقسم إلى قسمين: الأول المذكور والثاني المحذوف، والفرق
بين المحذوف والمستتر من وجهين:
الأول: أن المحذوف يمكن النطق به، وأما المستتر فلا يمكن النطق به
أصلاً، وإنما يستعيرون له الضمير المنفصل حين يقال: مستتر جوازاً
تقديره هو أو مستتر وجوباً تقديره أنا أو أنت؛ وذلك لقصد التقريب على
المتعلم.
وليس هذا هو نفس الضمير المستتر على التحقيق.
والوجه الثاني: أن الاستتار يختص بالفاعل الذي هو عمدة في الكلام، وأما
الحذف فكثيراً ما يقع في الفضلات كالمفعول وغيرها، ومن ضمير الرفع لا
النصب ولا الجر؛ لأنه قدم ما حقه التأخير، (مَايَسْتَتِرُ) هذا مبتدأ،
(وَمِنْ ضَمِيرِ) هذا خبر مقدم حينئذٍ قدم ما حقه التأخير، فأفاد القصر
والحصر، وهو إثبات الحكم في المذكور نفيه عما عداها.
إذاً وَمِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ، لا النصب، ولا الجر ما يستتر، هل مراده
(ما يستتر) وجوباً، أو يشمل الجائز؟ على حسب الأمثلة، على حسب التي مثل
بها.
كافْعَلْ أوَافِقْ نَغْتَبِطْ: هذه كلها أمثلة للواجب، وأما تَشْكُرُ:
إذا قلنا بفتح التاء حينئذٍ صار واجباً، فاختص قوله: ما يستتر وجوباً،
وأكثر الشراح على هذا، أن تَشكرُ بفتح في التاء، وحينئذٍ صار محله بيان
المستتر وجوباً، وهو في أربعة المواضع وسنزيد عليها، وأما إذا تُشكرُ
هي، إذا ضبطت بضم التاء إذ تُشكرُ هند هي، حينئذٍ صار ماذا؟ صار هذا
مثالاً للضمير المستتر جوازاً، وحينئذٍ نعمم قوله: ما يستتر أنه المراد
به الواجب ومراد به الجائز، ولكن أكثر الشراح على ما ذكرناه.
المستتر وجوباً: هو الذي لا يحل محله
الظاهر، بألا يرتفع بعامله، وقوله: وَمِنْ ضَمِيرِ اْلرَّفْعِ: خص ضمير
الرفع بالاستتار؛ لأنه عمدة، الأعراب بالرفع هو إعراب العمد، المراد
بالعمد هنا الفاعل ونائب الفاعل والمبتدأ والخبر، هذا الأصل فيه، وهنا
المراد به الفاعل أو نائبه؛ لأنه عمدة يجب ذكره فإن وجد في اللفظ فذاك،
وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعلٌ فَإنْ ظَهَرْ ... فَهْوَ وَإلاّ –يظهر-
فََضَمِيرٌ اسْتَتَرْ، يعني: قدره وانوِ {إنما الأعمال بالنيات} فتنوي
ثم ضميراً مستتراً، ولا تنطق به ولا وجود له في اللفظ، ولكنك تنويه.
وإن وجد في اللفظ فذاك وإلا فهو موجود في النية والتقدير، بخلاف ضميري
النصب والجر فإنهما فضلة، فلا داعي إلى تقدير وجودهما، إذا عدما من
اللفظ إلا غالبه، يعني سيأتي أنه لا بد من ذكر ضمير، وهذا فيما إذا
كانت جملة الصلة جملة حينئذٍ لا بد من ضمير عائد على الموصول، وكذلك
جملة الخبر إلى آخره إلا ما استثني، الأصل في ضمير الجر والنصب أنه
فضلة، ويجوز حذفه هذا الأصل، وما جاء في بعض المواضع أنه لا بد من
ذكره، حينئذٍ يقال: هذا يستثنى من القاعدة.
وَمِنْ ضَمِيرِ الرَّفْعِ مَايَسْتَتِرُ كافْعَلْ: هذا الموضع الأول
الذي يستتر فيه الضمير وجوباً وهو فاعل، (افعل) فعل الأمر (اضرب، قم)
هذا فعل أمر وفاعله دائماً لا يكون إلا مستتراً وجوباً وهو الذي لا يحل
محله الظاهر بألا يرتفع بعامله، فعل الأمر كافْعَلْ، أوَافِقْ، هذا فعل
مضارع مبدوء بهمزة متكلم (أوافق، أضرب .. ) إلى آخره.
الفعل المضارع المبدوء بالهمزة نحو: أوَافِقْ نَغْتَبِطْ: الفعل
المضارع المبدوء بالنون، تشكرُ: الفعل المضارع المبدوء بالتاء.
هذه أربعة مواضع يكون فيها الفاعل ضميراً مستتراً واجب الاستتار، وهذه
محلها ليست أمور اجتهادية أو أمور قياسية لا، وإنما هو سماع فقط، كل
الباب من أوله إلى آخره، ولذلك الكلام فيه قليل، كل الباب من أوله إلى
آخره النكرة والمعرفة ليس من باب الاجتهاد، لماذا؟ لأن التعامل هنا ليس
مع تراكيب مبتدأ وخبر إلى آخره .. لا، إنما هو مع مفردات.
فالوضع فيه يكون وضعاً شخصياً، جعل اللفظ دليلاً على المعنى، هذا هو
الوضع الشخصي، سواء كان اللفظ اسماً مبنياً كالضمائر أو غيرها فالحكم
عام، فحينئذٍ نتعامل مع الوضعيات، وليس ثم أمور عقلية حتى نحتاج إلى أن
نستنبط أو نفعل مثل ما قد يكون في بقية الأبواب، وإذا كان كذلك حينئذٍ
يكون الاستعمال على وفق الوضع، إطلاق اللفظ وإرادة المعنى، هذا الذي
ينبغي أن يكون.
كافْعَلْ أوَافِقْ نَغْتَبِطْ إذْ تَشْكُرُ، وزاد في التسهيل على هذه
الأربعة اسم فعل الأمر كنزال .. اسم فعل الأمر (صه)، نقول: هذا اسم فعل
أمر، واسم فعل الأمر يرفع فاعلاً، كما هو الشأن في (هيهات العقيق)،
هيهات العقيق هذا اسم فعل ماضي، واسم فعل الأمر يرفع فاعلاً وهذا
الفاعل ضمير مستتر واجب الاستتار.
نزال يعني: أنت، (صه) يعني: أنت، (مه) يعني أنت .. وحينئذٍ صار الفاعل
ضميراً مستتراً وجوباً.
وزاد في التسهيل اسم فعل الأمر كنزال، وأبو
حيان زاد في الارتشاف اسم فعل المضارع كأُوَّه، وابن هشام في التوضيح
فعل الاستثناء كقاموا ما خلى زيداً .. قاموا في الارتشاف زاد ماذا؟ اسم
فعل المضارع (أوه).
وابن مالك في التسهيل زاد اسم فعل الأمر، اسم فعل الأمر، الضمير فيه
مستتر وجوباً، اسم فعل المضارع الضمير مستتر فيه وجوباً.
أفعال الاستثناء الآتي ذكرها: قاموا ما عدا زيداً، عدا فعل ماضي، وهو
يتعين أن يكون فعلاً لماذا؟ لتقدم المصدرية عليه، زيداً هذا مفعول به،
أين الفاعل؟ ضمير مستتر وجوباً يعود على البعض المفهوم مما سبق.
إذاً عدا، وخلا، وحاشا .. الاستثنائيات إذا كانت أفعالاً صار الفاعل
فيها ضميراً مستتراً وجوباً.
وزاد في التوضيح فعل الاستثناء كقاموا ما خلا زيداً وما عدا عمرواً ولا
يكون خالداً، وأفعل في التعجب كـ: (ما أحسن زيداً) ما أحسن زيداً ..
(ما) تعجيبة، مبتدأ، وأحسن نقول: هذا فعل ماضي، أين فاعله؟ ضمير مستتر
وجوباً يعود على ما.
إذاً هذا موضع من المواضع التي تزاد في هذا المحل، وأفعل التفضيل
((هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً)) أحسن هم، فعل التفضيل سيأتي في محله أنه
يرفع ضميراً مستتراً، وما عدا هذه المذكورات وهو الماضي والظرف والصفات
يستتر فيها الفاعل جوازاً، ما عدا هذه المذكورات إذا عددنا التي يستتر
فيها الفاعل وجوباً عرفنا بعد ذلك ما يستتر فيه جوازاً.
قال الشارح: ينقسم الضمير إلى مستتر وبارز، ينقسم -هو الضمير المتصل-
لا مطلق الضمير، والمستتر إلى واجب الاستتار وجائزه، والمراد بواجب
الاستتار ما لا يحل محله الظاهر.
والمراد بجائز الاستتار ما يحل محله الظاهر، وذكر المصنف في هذا البيت
من المواضع التي يجب فيها الاستتار أربعة: فعل الأمر للواحد المخاطب
كافعل، والفعل المضارع الذي في أوله همزة كأوافق، الفعل المضارع الذي
في أوله النون نغتبط أي: نحن، الفعل المضارع الذي في أوله التاء لخطاب
الواحد (تشكر)، وفسرها بفتح التاء أي: أنت.
هذا ما ذكره المصنف من المواضع التي يجب فيها استتار الضمير.
ومثال جائز الاستتار -هذا تبرع من الشارح-: زيد يقوم أي: هو، يقوم زيد،
زيد يقوم .. قم. هذا دائماً لا يمكن أن يحل محله الظاهر، لكن يقوم هذا
يحتمل أنه قد يرفع ظاهراً يلفظ به، وقد يرفع ضميراً مستتراً، زيد يقوم
أي: هو، يقوم زيد: رفع ظاهراً حل محله الظاهر، أما زيد يقوم في هذا
التركيب نقول: هنا جائز الاستتار؛ لأنك لو قدمت وأخرت حل محل الضمير
المستتر اسم ظاهر، وهذا الضمير جائز الاستتار؛ لأنه يحل محله الظاهر،
فتقول: زيد يقوم أبوه، جاء بـ: (أبو)، وكذلك كل فعل أسند إلى غائب أو
غائبة نحو هند تقوم (هي) تقوم هندٌ، وما كان بمعناه نحو: زيد قائم أي:
هو، زيد قائم أبوه، زيد قائم هو، إذاً رفع ضميراً مستتراً ورفع اسماً
ظاهراً.
حينئذٍ برفعه الاسم الظاهر علمنا أنه في وقت استتاره أن استتاره جائز
لا واجب؛ لأن ما كان مستتراً استتاراً واجباً هذا لا يمكن أن يرفع
فاعلاً ظاهراً البتة.
وَذُو ارْتِفَاعٍ وَانْفِصَالٍ أَنَا هُوْ ... وَأَنْتَ وَالفُرُوعُ
لاَ تَشْتَبِهُ
هذا شروع في النوع الثاني من قسمي الضمير
وهو المنفصل، انتهينا من المتصل، الآن سيذكر لنا المنفصل، وهو الذي
يستقل بنفسه، وهذا ينقسم بحسب مواقع الإعراب إلى قسمين –الضمير
المنفصل-: أولاً: ما يختص بمحل الرفع.
وهو: (أنا وأنت وهو)، والذي أشار إليه وفروعها، وهو ما أشار إليه
بقوله: وذو ارتفاع.
الثاني: ما يختص بمحل النصب وهو (إيا)، وَذُو انْتِصَابٍ فِي
انْفِصَالٍ جُعِلا ... إيّايَ، بيتان: البيت الأول للذي يختص بمحل
الرفع وهو اثنا عشر ضميراً وما يختص بمحل النصب وهو (إيا) فقط، وله
فروع.
إذاً هل يأتي في محل جر؟ الجواب: لا. لا يكون الضمير المنفصل في محل جر
البتة، إلا كقول بعضهم: أنا كأنت، هكذا قيل، وقع مجروراً وذلك لكراهة
التكرار، وإلا لقال: أنا كَكَ، أنا مثلُكَ .. أنا كَكَ، بدلاً من هذا
تقول: أنا كأنت؛ لئلا يفضي إلى التكرار فتأتي بضمير منفصل، والأصل أنه
لا يكون في محل جر إلا في مثل هذا الكلام، لكنها ركيكة هذه ليست
بالفصيح، فهنا وقع ضمير رفع في محل جر، على سبيل النيابة، وكذلك: أنت
كأنا.
وَذُو ارْتِفَاعٍ وَانْفِصَالٍ أَنَا هُوْ وَأَنْتَ، وَذُو ارْتِفَاعٍ:
أي ضمير مرتفع، أي محلاً لأن الرفع إنما يكون للمحل في الضمائر لا في
اللفظ.
وَذُو ارْتِفَاعٍ، أي محلاً: مرفوع محلاً وهو منفصل، وَانْفِصَالٍ،
يعني: في حال انفصال، هذا فيه احتراز عما سبق ذكره، وإن كان لا يحتاج
إلى الاحتراز؛ لأنه ذكر أولاً المتصل ثم لما أنهاه شرع في النوع
الثاني؛ لأن ثم أمرين: أولاً: المتصل، وهو الذي لا يستقل بنفسه، ثم
المنفصل وهو الذي يستقل بنفسه.
وَذُو ارْتِفَاعٍ وانْفِصَالٍ: هذا معطوف على ارتفاع، (أنا) للمتكلم،
(هو) هذا للغائب، و (أنت) هذا للمخاطب، هذه كم؟ ثلاثة.
قال: وَالفُرُوعُ -على هذه الثلاث- لا تَشْتَبِهُ، لا تلتبس عليك يا
طالب العلم؛ لأن (أنا) للمتكلم فرعه واحد، وهو (نحن)، و (هو) هذا
للغائب المفرد المذكر فرعه (هي، وهما، وهم، وهن) أربعة، أربعة واثنان،
ستة.
و (أنتَ) للمخاطب وفرعها (أنتِ، وأنتما، وأنتم، وأنتن) اثنا عشر
ضميراً، لا تَشْتَبِهُ عليك لأنها سهلة.
وذكر ذلك بأن اختلاف أنواع الفروع مظنة اشتباه بعضها ببعض، إذا قيل:
فروع، وقاعدة، وأصل .. قد يلتبس بعضها ببعض، لكنه نفى هذا، وقال: لا
تَشْتَبِهُ؛ لأنها في الأصل هي سماعية منقولة، هذا الأصل فيها محفوظة،
يعني يحيلك الموقف على ما لم يذكره هنا من الفروع.
وَذُو ارْتِفَاعٍ وانْفِصَالٍ: إذاً أنا للمتكلم، هو للغائب، وأنتَ
للمخاطب.
أما قوله: أنا، فمذهب البصريين أن ألف أنا زائدة، وأن الضمير أن فقط،
ونا الألف هذه (أنا) مؤلف من كم حرف؟ الهمزة والنون والألف، عند
البصريين أن الضمير (أنا) ليس كله مركباً، وإنما أصله أن، والألف هذه
زائدة، والاسم هو الهمزة والنون، ومذهب الكوفيين أن الاسم مجموع الأحرف
الثلاثة هذا هو الظاهر؛ لأننا قلنا هذه ألفاظ مسموعة محفوظة، والأصل
أنه لا يدخلها اجتهاد.
(أنا) مر معنا أن الضمير قد يقع وقد يوجد
ويوضع على حرف، وقد يوضع على حرفين، وقد يوضع على ثلاثة أحرف .. إذاً
مذهب الكوفيين أن الاسم المجموع على الأحرف الثلاثة، وأما هو فمذهب
البصريين أنه بجملته ضمير، الهاء والواو هو كله ضمير، وكذلك هي.
ومذهب الكوفيين الهاء من (هو، وهي) الضمير، الهاء فقط، وأما الواو
والياء هذا إشباع. هو، هي قالوا: الياء هذه إشباع للكسرة.
وأما هما وهم وهن فمذهب البصريين أن الميم والألف في هما والميم في هم
والنون في هن حروف زائدة، والضمير الهاء فقط، حينئذٍ لا يلتفت إلى كون
الكلمة كلها هي الضمير، هما الضمير هو الهاء، والميم هذه حرف عماد،
والألف هذه دالة على التثنية؛ لأنهم قالوا: الأصل (إنه) هذا الأصل فيه،
ضمير متصل، ثم لما انفصل أشبع واواً وصار هو.
حينئذٍ الواو هذه ليست أصلية عندهم، فإذا ألحق به ما يدل على التثنية
أو يدل على الجمع حينئذٍ جعلوه حروفاً زوائد ورجعوا إلى الأصل، ولو
قال: كلها كما هي تسمع وهي ضمائر وتبنى على آخرها لكان أريح.
ومذهب البصريين أن: (أنت، أن) هي الضمير (أنت) والتاء هذا حرف خطاب،
نقول: (أن) هي الضمير عند البصريين، والتاء للخطاب، وأنتما (أن) ضمير
منفصل، والتاء للخطاب، والميم والألف للتثنية.
ومذهب الكوفيين أن الجميع ضمير أنت كلها ضمير، وهذا أحسن.
ومذهب ابن كيسان أن الضمير التاء فقط، وكثرت بـ (أن) أنت التاء هي
الضمير، و (أن) هذا من باب التكثير -زيادة توصية-، أنت التاء هذه هي
ضمير، وأن هذه زيادة.
على كل هذه اجتهادات ونظر، والأصل أنه ما سمع يبقى كما هو.
وَذُو ارْتِفَاعٍ وَانْفِصَالٍ أَنَا هُوْ ... وَأَنْتَ وَالفُرُوعُ
لاَ تَشْتَبِهُ
إذاً البارز ينقسم إلى متصل ومنفصل، فالمتصل يكون مرفوعاً ومنصوباً
ومجروراً وسبق الكلام على ذلك.
والمنفصل: يكون مرفوعاً ومنصوباً ولا يكون مجروراً.
وذكر المصنف في هذا البيت المرفوع المنفصل وهو: اثنا عشر (أنا) وهذا له
فرع واحد، وهو للمتكلم وحده، و (نحن) للمتكلم المشارك أو المعظم نفسه،
نحن كتبنا مثلاً يكون معنا واحد؟ يكون فاعلون، وأما إذا كان معظم نفسه
نحن فعلنا كذا وكذا، حينئذٍ يحتمل هذا ويحتمل ذاك، هل هو مجاز في
الثاني أو لا؟ محل خلاف.
(وَأَنْتَ) وهذا له أربعة فروع: أنتَ للمخاطب، وأنتِ للمخاطبة، وأنتما
للمخاطبين أو المخاطبتين، وأنتم للمخاطبين، وأنتن للمخاطبات.
و (هو) للغائب وله أربعة فروع: "هي" للغائبة و "هما" للغائبَين أو
الغائبتين، و"هم" للغائبين و"هن"للغائبات.
ثم قال:
وَذُو انْتِصَابٍ فِي انْفِصَالٍ جُعِلا ... إِيّايَ وَالتَّفْرِيعُ
لَيْسَ مُشْكِلاَ
هذه كلها عبارات ليس فيها كلام كثير.
وَذُو انْتِصَابٍ: إنما المراد بها التعداد، سيأتينا أبيات كثيرة على
هذا المنوال سنمشي فيها إن شاء الله.
وَذُو انْتِصَابٍ يعني: ضمير منتصب، فِي انْفِصَالٍ، هناك قال: وَذُو
ارْتِفَاعٍ وانْفِصَالٍ، وهنا قال: فِي انْفِصَالٍ، ما المراد؟ من باب
التفنن فحسب.
وَذُو انْتِصَابٍ فِي انْفِصَالٍ: أي: في حال انفصال.
قال هنا: في انفصال، وفيما سبق: وانفصال من باب التفنن كما قال الصبان.
جُعِلا إيّايَ: جُعِلا الذي هو المنتصب،
المنفصل إيّايَ، والتَّفْرِيعُ لَيْسَ مُشْكِلاَ: ليس ملتبس كما هو
الشأن في ذي ارتفاع.
لكن هنا ذكر إياي فحسب، هناك قال: أنت، هو، (نحن، أنا، وهو، وأنت)، مثل
للثلاثة الغائب، والمتكلم، والخطاب.
هنا قال: إياي ولم يقل: إياك وإياه، لم يقل: إياي وإياك وإياه؛ لأن
اللفظ واحد، اللفظ متحد، وهذه إما ضمائر على خلاف، وإما أنها لواحق
حروف.
إيّايَ: (إيا) هي الضمير، وما بعده لواحق، يعني زوائد حروف، فالياء
والكاف والهاء حروف (إياه، وإياك، وإياي) الياء حرف، وإياك، الكاف حرف،
وإياه، الهاء حرف، وهذا مذهب سيبويه، واعترض بأن حد الضمير ما دل على
متكلم أو مخاطب أو غائب، وإيا وحدها لا تفيد، ما هو حد الضمير؟
فَمَا لِذِي غَيْبَةٍ اوْ حُضُورِ ... كَأَنْتَ وَهْوَ سَمِّ
بِالضَّمِيرِ
فهل ينطبق على إيا؟ لا ينطبق؛ لأن إيا وحدها لا تدل لا على غائب ولا
على حاضر ولا على متكلم، فكيف نقول: هي ضمير؟ لا يصدق عليها الحد، وإيا
وحدها لا تفيد ذلك، وأجاب بأن إيا مشتركة بين الثلاث التي هي المتكلم
والمخاطب والغائب وضعاً، واللواحق تميز بين ذلك.
إذاً ما جيء بهذه الحروف إياه وإياك وإياي إلا من باب التمييز، فهو حرف
زائد قصد به تمييز إيا، ما المراد به؟ يحتمل، فهو لفظ مشترك.
المذهب الثاني: أن اللواحق هي الضمائر، وإيا حرف عماد، يعني العكس،
إياه الهاء هو الضمير، إياي الياء هو الضمير، إياك الكاف هو الضمير،
وإيا حرف عماد، يعني يتكئ عليه.
وهذا مذهب جماعة من البصريين والكوفيين واختاره أبو حيان.
ثالثها: أن إيا وما بعدها ضمير أيضاً كلاهما، إيا ضمير، والياء ضمير،
إيا ضمير والكاف كذلك والهاء، وقد أضيف أولها إلى ثانيهما، وهذا مذهب
الخليل واختاره ابن مالك، لكنه ضعيف جداً؛ لأن الإضافة من خواص
الأسماء؛ إذ لو قيل بالإضافة حينئذٍ عارض الشبه الذي قررناه أولاً ما
هو من خصائص الاسم، حينئذٍ الأصل ألا يقال بأنها مبنية، كيف يقال: إنها
مضافة وملازمة للإضافة، ثم بعد ذلك تبقى مبنية؟ إن قالوا: وجه الشبه
موجود، نقول: عارضه ما هو من خصائص الأسماء، كما هو الشأن في اللذان
واللتان قلنا: هذه الأصل أنها مبنية لوجود وجه الشبه -الافتقار أو نحو
ذلك-، حينئذٍ لما جاءت على صورة المثنى أو مثنىً حقيقةً حينئذٍ عارض
ذلك الشبه ما هو من خواص الأسماء فرجعت إلى الأصل وهو الإعراب، إيا،
والكاف إذا قلنا ضمائر أضيف الأول إلى الثاني إذاً صارت مضافة، مثل أي
الشرطية، وأي الاستفهامية .. هذه خرجت عن كونها مبنية، أسماء الشرط
كلها مبنية إلا إيا، ((أَيّاً مَا تَدْعُو)) نقول: هذه معربة، لماذا؟
لأنها ملازمة للإضافة والإضافة من خواص الأسماء فقد عارض وجه الشبه ما
هو من خصائص الأسماء فهذا ضعيف وهو الذي اختاره ابن مالك رحمه الله
تعالى والخليل.
ورابعها: أن إي اسم ظاهر مضاف لما بعده، وما بعده هو الضمير وهذا مذهب
الزجاج، نفس الأول لكن الضمير هو الثاني، ومذهب سيبويه هو المرجح أن
إيا لوحدها ضمير، وبقيت الحروف هذه أو الوصلات تعتبر أحرف ليست بضمائر.
وَذُو انْتِصَابٍ فِي انْفِصَالٍ جُعِلَا
... إيّايَ والتَّفْرِيعُ، على هذا الأصل الذي ذكر وهو إيا ليس مشكلاً
عليك يا طالب العلم؛ لأن المسألة سماعية –نقل-، فحينئذٍ ترجع إلى كتب
أهل العلم فتنظر فيها فإذا بها اثنا عشر (إيايَ) للمتكلم وحده، و
(إيانا) للمتكلم المشارِك أو المعظَِم نفسه، و (إياك) للمخاطب، و
(إياكِ) للمخاطبة، و (إياكما) للمخاطبين أو المخاطبتين، و (إياكم)
للمخاطبين، و (إياكن) للمخاطبات، و (إياه) للغائب، و (إياها) للغائبة و
(إياهما) للغائبين أو الغائبتين و (إياهم) للغائبين و (إياهن)
للغائبات.
إذاً تلخص من هذا أن الضمير بنوعيه المتصل والمنفصل: خمسة أنواع: مرفوع
متصل، مرفوع منفصل، منصوب متصل، منصوب منفصل، ومجرور ولا يكون إلا
متصلاً، هذه كم؟ خمسة أنواع.
مرفوع متصل: قمتُ، مرفوع منفصل: (أنا)، منصوب متصل، منصوب منفصل.
إذاً كل من المتصل والمنفصل يكون مرفوعاً ومنصوباً، هذه أربعة، مرفوع
متصل، مرفوع منفصل، منصوب متصل، منصوب منفصل، بقي ماذا؟ ما انفرد به
المتصل وهو في محل جر.
وأما مجرورٌ منفصل هذا لا وجود له، إلا (أنا كأنت)، وهذا كلام ركيك.
إذاً ما ذكرناه هو العمدة.
وَفِي اخْتِيَارٍ لاَ يَجِيءُ المنُْْفَْصِلْ ... إِذَا تَأَتَّى أَنْ
يَجِيءَ المُتَّصِلْ
هذه قاعدة في باب الضمائر، بعدما عرفنا أن الضمير متصل وأن منه منفصل،
حينئذٍ إذا جاء تركيب وأمكن أن نأتي بالمنفصل لا يجوز لك أن تعدل عنه
إلى المنفصل، إذا أمكنك أن تأتي بمنفصل ومتصل حينئذٍ لا يجوز لك لغة أن
تأتي بالمنفصل وتعدل عن المتصل.
وَفِي اخْتِيَارٍ: يعني: لا في حال الضرورة وإنما هو في سعة الكلام
وفصاحة الكلام.
لَا يَجِيءُ -الضمير- المنُْْفَْصِلْ: المنفصل ما إعرابه؟
التقدير قد يكون تقدير إعراب وقد يكون تقدير معنى، فنقول: لا يجيء
الضمير المنفصل، هذا تقدير معنى، والمنفصل من حيث اللفظ فاعل مرفوع،
ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون الروي، هذا
الذي أردته، فاعل مرفوع، أليس كذلك؟
فحينئذٍ إذا كان الفاعل مرفوع ولو ما نطقت به، في حال الوقف كل الحركات
تقدر، ومن الغلط تقول: جاء زيد، اعرب زيد؟ زيد فاعل مرفوع ورفعه ضمة
ظاهرة على آخره! هذا مثل المسجل، غلط هذا، وإنما تقول: جاء زيد، زيد
فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة، إعرابه تقديري ليس بظاهر؛ لأن الحركة إنما
تكون في حالة الوصل، وأما في حالة الوقف فالعرب لا تقف إلا على ساكن،
فإذا وقفت على كلمة لا تعربها أبداً إعراباً ظاهراً، وإنما تعربها
إعراباً مقدراً –انتبه-، جاء زيد، زيد فاعل مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة؟ لا.
غلط، أين الضمة الظاهرة؟ وإنما هي ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها
اشتغال المحل بسكون الوقف؛ لأن العرب لا تقف إلى على ساكن.
كذلك رأيت زيد على لغة ربيعة نفس الكلام، مررت بزيد. نقول: هذا زيد
كذلك مجرور وجره كسرة مقدرة على آخره ..
هنا المنفصل وقف عليه بالسكون، حينئذٍ نقول: الضمة مقدرة، لكن ليس سكون
الوقف وإنما هو سكون الروي.
إذاً: فِي اخْتِيَارٍ في سعة الكلام لا
يجيء الضمير المنفصل متى؟ إذا تأتى –أمكن- أن يجيء الضمير المتصل، كذلك
سكون وقف، إذا تأتى أن يجيء ويثبت الضمير المتصل.
كل موضع أمكن أن يؤتى فيه بالضمير المتصل لا يجوز العدول عنه إلى
المنفصل، لماذا؟ لما فيه من الاختصار المطلوب الموضوع لأجله الضمير،
لأن القاعدة الكبرى التي تعم اللغة كلها من أولها إلى آخرها، نحوها،
وصرفها، وبيانها .. قاعدة الاختصار، وما وضعت الضمائر إلا من أجل
الاختصار، وما جيء بالمثنى إلا من أجل الاختصار، ولا جمع المذكر السالم
إلا من أجل الاختصار، ولا ما جمع بألف وتاء إلا من أجل الاختصار
والضمير منه، الضمير داخل في هذه القاعدة.
لما فيه يعني الإتيان بالمتصل وترك المنفصل، نقول: هذا طرداً للقاعدة
التي وضع الضمير من أجلها وهو الاختصار، فمثلاً تقول: أكرمتك، أكرمت
إياك، أيهما أخصر؟ أكرمتك، خفيفة كاف حرف، أما إياك تشديد وكاف وهمزة
ثقيلة، أكرمت إياك، هذا لا يجوز لغة، لماذا؟ لأنه أمكن أن تأتي بالضمير
المتصل، وما دام أنه أمكن أن تأتي بالضمير المتصل أكرمتك حينئذٍ لا
تعدل عنه إلى الضمير المنفصل إلا لضرورة أو معنى لا يقوم إلا بذلك، فإن
لم يتأتى لك ذلك، بأن تأخر عنه عامله، أو حذف، أو كان معنوياً، أو حصر،
أو أسند إليه صفة جرت على غير من هي له، فصل، يعني ثم ما يكون معنىً
بلاغياً، أو خلافاً لقاعدة نحوية، فحينئذٍ يؤتى بالضمير المنفصل مع
إمكان الإتيان بالضمير المتصل ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) نعبدك، ((إِيَّاكَ
نَعْبُدُ))، نعبدُك، أمكن أو لا؟ نعم أمكن، في اللفظ أمكن، اترك
المعنى، (إياك والكاف) نعبدك، نعبد إياك، فحينئذٍ أمكن الإتيان بالضمير
المتصل ومع ذلك عُدِل عنه إلى الضمير المنفصل، لكن هنا لحكمة وغاية
ومعنىً بلاغي وهو إفادة الحصر.
إذاً: عارض هذه القاعدة ما يجعل هذا المثال يستثنى من القاعدة
((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) لما أريد الحصر والقصر على نفي العبادة عن غير
الله عز وجل، وحصرها في وجودها بأن يكون المعبود الحق مفرد بالعبادة هو
الله عز وجل، حينئذٍ قدم ماحقه التأخير فانفصل الضمير، ((أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ))، أريد به الحصر والقصر، ألا تعبدوه -هذا
الأصل- إياهُ، ضمير، ((أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ))، لما أريد
الحصر والقصر حينئذٍ انفصل الضمير.
إذاً القاعدة الأصلية التي يرجع إليها عند عدم وجود معنى يخالفها أن
يقال بأنه: متى ما أمكن الإتيان بالضمير المتصل لا يعدل عنه إلى الضمير
المنفصل؛ لما فيه من الاختصار المطلوب الموضوع لأجله الضمير.
فالغرض من وضع المضمرات هو الاختصار، والمتصل أخصر من المنفصل، المتصل:
الكاف، والياء المنفصل، فلا عدول عنه إلا حيث لم يتأتَ الاتصال لضرورة
نضم أو لغرض بياني.
وذكروا مواضع كثيرة مما يجوز الإتيان بالضمير المتصل بل قد يتعين
انفصال الضمير ولا يمكن المجيء به متصلاً في مواضع كثيرة، ذكر هنا محيي
الدين عشرة منها:
أن يكون الضمير محصوراً، ((وَقَضَى رَبُّكَ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)) هنا لا يمكن، لو قيل: (ألا
تعبدوه) هذا صح، لكن من جهة اللفظ، لكن هل وافق المعنى المراد من
الآية؟ الجواب: لا. والبحث هنا لفظي فحسب، لا ينظر إلى المعنى، لكن إذا
أردنا المعنى الذي أراده الله عز وجل وهو نفي العبادة عن غيره وإثباتها
له وحده لا شريك له، فحينئذٍ صح أن يقال بأنه: لا يتأتى هنا أن يأتي
بالمتصل مع كونه يمكنه من جهة اللفظ فحسب ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)) والمثال واضح، ومثله ما ذكره الشارح:
إياك أكرمت يعني: لم أكرم غيرك، ففيه إثبات الحكم بالمذكور ونفيه عما
عداه.
وقد جاء الضمير في الشعر منفصلاً مع إمكان الإتيان به متصلاً ولذلك
قال:
(وَفِي اخْتِيَارٍ) يعني: في سعة الكلام في النثر، وأما في الشعر
فالشعر له أحكامه وضروراته.
بِالْبَاعِثِ الْوَارِثِ الأَمْوَاتِ قَدْ ضَمِنَتْ ... إيَّاهُمُ
الأرضُ فِي دهر الدَّهَارِير
ضمنتهم، ضمنت إياهم، عَدَل عن الضمير المتصل وهو ضمنتهم إلى ضمنت
إياهم، نقول: هذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه؛ لأن القاعدة متى ما أمكن
الإتيان بالضمير المتصل فلا عدول عنه إلى المنفصل البتة إلا إذا كان ثم
أمر معنوي أو بلاغي، فحينئذٍ ينظر فيه في باب البلاغة.
وَصِلْ أَوِ افْصِلْ هَاءَ سَلْنِيهِ وَمَا ... أَشْبَهَهُ فِي
كُنْتُهُ الخُلْفُ انْتَمَى
كَذَاكَ خِلْتَنيهِ وَاتِّصَالاَ ... أَخْتَارُ غَيْرِي اخْتَارَ
الاِنْفِصَالاَ
هذا استثناء، القاعدة أنه متى ما أمكن الإتيان بالمتصل لا يعدل عنه إلى
المنفصل، استثنى مسألتين فيهما خلاف: اختار المصنف فيهما الاتصال،
خلافاً لسيبويه - غَيْرِي - أي: سيبويه اختار الانفصال.
وَصِلْ أوِ افْصِلْ: في الأول قال: لا يأتي منع منعاً باتاً (لا
يَجِيءُ المنُْْفَْصِلْ) أبداً لا يجيء، هذا نفي بمعنى النهي، وهنا
استثنى (وَصِلْ أوِ) هذا للتخيير، لأنه قال: والخُلْفُ، بمعنى ماذا؟
بمعنى الاختلاف في الراجح من الوجهين، فدل على أن المسألة فيها نزاع
وفيها خلاف كبير
(وَصِلْ) على الأصل (أوِ افْصِلْ) للطول، أيهما الأصل الوصل أم الفصل؟
الوصل، لذا قلنا القاعدة المطردة هي الوصل.
وَفِي اخْتِيَارٍ لاَ يَجِيءُ المنُْْفَْصِلْ ... إِذَا تَأَتَّى أَنْ
يَجِيءَ المُتَّصِلْ
إذاً إذا قال: صل، نقول: هذا على الأصل، وقدمه على الفصل لأنه أرجح
عنده، وابن مالك إذا قدم الشيء في الغالب المطرد عنده أنه يرجحه، ولذلك
(أَلْ) حَرْفُ تَعْرِيفٍ أو الَّلامُ فَقَطْ، دل على أنه رجح الأول؛
لأنه قدمه (أَلْ) حَرْفُ تَعْرِيفٍ، ذكر قولين، ومع ذلك هنا قدم الوصل
وقال: واتِّصَالِ أَخْتَار أيد هذا، يعني أتى به من جهة المفهوم لأنه
قدمه، ثم نص بالمنطوق على أنه اختار الوصل.
(وَصِلْ) على الأصل (أوِ افْصِلْ) وهذا للطول.
هَاءَ سَلْنِيهِ وَمَا أشْبَهَهُ: سلني إياه، سلنيه، عندنا ضميران:
الياء، والهاء.
إذاً: كل منهما ضمير، والمسألة مفروضة في ماذا؟ في فعل يتعدى إلى
مفعولين؛ لأننا نقول: صل أو افصل، ضمير الأول يحتمل الوصل والفصل
والثاني كذلك، إذاً هما ضميران يتعين في هذا أن تكون المسألة مفروضة في
ضميرين.
وَصِلْ أوِ افْصِلْ هَاءَ سَلْنِيهِ: يعني:
ثاني ضميرين أولهما أخص، وغير مرفوع، والعامل فيهما غير ناسخ للابتداء.
عندنا ضميران أولهما أخص، انظر إلى (سَلْنِيهِ) الياء أخص من الهاء؛
لأننا قلنا المراتب ثلاثة: المتكلم أولاً، ثم المخاطب، ثم الغائب،
الياء للمتكلم، والهاء للغائب، إذاً (سَلْنِيهِ) ضميران: الأول أخص من
الثاني، وغير مرفوع.
ثم العامل: سل، هذا لا ينصب مفعولين الثاني خبراً في الأصل، هذا مثل:
أعطى وكسى، فحينئذٍ ينصب مفعولين الثاني ليس أصلهما خبراً، ولذلك نقول:
الأول العامل فيهما في الضميرين غير ناسخ للابتداء سواء كان فعلاً نحو
سلنيه وسلني إياه، حينئذٍ يجوز الوصل فتقول: سلنيه كما نطق به المصنف
وقدمه؛ لأنه الأرجح عنده.
ويقال على الفصل: سلني إياه، سلني: الياء أبقيتها كما هي، وإياه: الهاء
هي التي فصلتها وجئت بدلها بضمير منفصل.
إذاً الفعل إذا نصب ضميرين وكان متعدياً الثاني منهما ليس خبراً في
الأصل، يعني هذا ليس من النواسخ، والأول -أول الضميرين- أخص من الثاني،
حينئذٍ نقول على مذهب الناظم: أن الوصل أرجح من الفصل، سلنيه أرجح من
سلني إياه، يجوز الوجهان، لو قال قائل: سلني إياه، هذا خالف القاعدة،
نقول: هذا مستثنى من القاعدة.
(وَمَا) أي: وكذا، (مَا أشْبَهَهُ) يعني: كل فعل أشبه سلنيه، يعني ثاني
ضميرين أولهما أخص غير مرفوع، والعامل فيهما غير ناسخ للابتداء، العامل
ليس من النواسخ ..
هذا هو الفرق بين المسألة الأولى والمسألة الثانية، (كُنْتُهُ)،
(خِلْتَنيهِ).
المسألة الأولى: ليس العامل من النواسخ.
المسألة الثانية: قال: في كُنْتُهُ الخُلْفُ انْتَمَى كَذَاكَ
خِلْتَنيهِ.
المسألة الثانية هي عين المسألة الأولى، إلا أن العامل يعتبر من
النواسخ، هل الحكم واحد؟ المصنف اختار في المسألتين: الوصل على الفصل،
(في كُنْتُهُ) يعني: في اتصال وانفصال ما هو خبرٌ لكان، أو إحدى
أخواتها الخلف انتمى.
في اتصال وانفصال ما هو خبر لكان، أو إحدى أخواتها الخلف، أي الاختلاف
(انتمى) أي: انتسب بين النحاة.
كذاك: أي مثل الخلاف الواقع في (كنته)، أو مثل الهاء من خلتنيه في
اتصاله وانفصاله خلاف انتسب.
يحتمل هذا أو ذاك، كذاك أي: مثل كنته في وقوع الخلاف في اتصال الضمير
وانفصاله خلتنيه.
خلت: هي أخت ظن، كان: ترفع المبتدأ على أنه اسم لها، وتنصب الخبر على
أنه خبر لها، إذا كان الاسم والخبر ضميرين، كنته .. كنت، التاء هنا
ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع اسم كان، كنته الضمير الثاني الهاء
في محل نصب خبر، كنت إياه، كنته: يجوز فيه الوجهان، لماذا؟ لأن كان هنا
تعدت إلى ضميرين: الأول في محل رفع، والثاني في محل نصب، ثم هي من
النواسخ، والثاني الذي هو الهاء خبر في الأصل.
ظننته خلتنيه نفسه، ظننته التاء هنا في محل نصب فاعل، التاء هنا فاعل،
(ني) النون هذه وقاية (وَقَبْلَ يا النَّفْسُ)، والهاء مفعول ثاني،
نمشي على مثال المصنف.
كذاك خلتنيه، يعني الهاء من خلتنيه في اتصاله وانفصاله خلاف انتمى.
في المسألتين المصنف رحمه الله تعالى قال:
واتصالا أختار، اتصالا هذا مفعول مقدم، والألف للإطلاق، أختار، هذا فعل
مضارع، أختار اتصالا، يعني اتصال هاء سلنيه، وهاء كنته، وهاء خلتنيه،
فلا أقول: سلني إياه أرجح من سلنيه، ولا أقول: كنت إياه أرجح من كنته،
ولا أقول: خلتني إياه من خلتنيه، بل العكس هو أرجح عند المصنف.
غَيْرِي: سيبويه قالوا: لم يصرح به تأدباً.
غَيْرِي اخْتَارَ: الانفصال على الوصل، واتصال أختار، تبعاً لجماعة من
النحاة، وإن كان الجمهور على مذهب سيبويه، لكن الجمهور على مذهب سيبويه
من باب إذا قالت حذام فصدقوها، كما قال ابن عقيل، هو نص على هذا، يقول:
هو المشافه للعرب: وإذا قالت حذام فصدقوها، وهذا ليس بمقياس تبعاً
لجماعة؛ إذ الأصل في الضمير الاختصار، هذا الأصل، حينئذٍ الرجوع إلى
الأصل نقول هو الأصل، إذا كان سلنيه هذا يساند الأصل وهو الاختصار في
الضمير، لماذا أرجح سلني إياه عليه؟ وكذلك كنته، إذا كان هذا يؤدي إلى
الموافقة للاختصار- الأصل في وضع الضمائر-، لماذا أرجح كنت إياه عليه،
وكذاك خلتنيه، ولأنه وارد في الفصيح قال صلى الله عليه وسلم: {إن يكنه
فلن تسلط عليه، وإلا يكنه فلا خير لك في قتله} هنا جاء الوصل.
الصواب في المسألة أن يقال: ورد الوصل وورد الفصل، يعني ورد الأمران.
بعضهم رأى أن الأكثر في لسان العرب هو الوصل فرجحه، وبعضهم نظر ورأى أن
الفصل هو الأكثر في لسان العرب، وعليه رجح الفصل على الوصل كما هو مذهب
سيبويه، إذاً جاء في فصيح الكلام، ولذلك جاء ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللَّهُ)) [البقرة:137] ليس في السنة فحسب، ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللَّهُ)) [البقرة:137]، وجاء: ((أَنُلْزِمُكُمُوهَا)) [هود:28]،
((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا)) [محمد:37] كلها أمثلة للمقام الذي نحن فيه.
غَيْرِي اخْتَارَ الانْفِصَالا: غيري -سيبويه رحمه الله والجمهور-
اختار الانفصال على الوصل، لكونه في الصورتين خبراً في الأصل، في
الصورتين كنته، وخلتنيه خبراً في الأصل، ما يتأتى في الأولى ولو بقي
على ما كان لتعين انفصال كما تقدم، يعني كأنه يقول: تعارض عندنا أصلان:
الأصل هو اتصال الضمير، والأصل هو انفصال الخبر، أيهما أولى بالترجيح؟
قال: الخبر لو لم يرد ضميراً وجاء اسماً ظاهراً لكان منفصلاً؛ لأنه
الأصل فيه.
فكأنه جعله مستثنى من متابعة الأصل، ابن مالك رحمه الله تعالى رأى أنه
وجد في القرآن في أمثلة عديدة وورد في لسان العرب في أمثلة عديدة، فرجح
الاتصال مع جواز الانفصال، ورجح سيبويه الانفصال مع جواز الاتصال.
قال ابن عقيل -حتى تفهم المسألة-: أشار في هذين البيتين إلى المواضع
التي يجوز أن يؤتى فيها بالضمير منفصلاً مع إمكان أن يؤتى به متصلاً،
فأشار بقوله: سلنيه إلى ما يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما ليس خبراً
في الأصل، وهما ضميران، واضح هذه العبارة؟ سلني إياه، سلنيه، هذا ضابط
المسألة أن يقال: فعل يتعدى إلى مفعولين الثاني -وهو الهاء- ليس خبراً
في الأصل وهما ضميران.
ابن هشام في التوضيح عبر بأسلوب آخر فقال: أن يكون عامل الضمير عاملاً
في ضمير آخر.
عامل الضمير سلني، سل .. عمل في الياء وعمل
في ضمير آخر –نفسها-، أعرف منه مقدم عليه، يعني الأول أعرف من الثاني
وهو مقدم عليه، وليس مرفوعاً، هذا قيد؛ لأنه إن كان مرفوعاً وجب الوصل
(ضربته) وجب الوصل هنا، وهنا سلنيه الضميران ليسا مرفوعين.
ولو كان غير أعرف وجب الفصل تقول: أعطاه إياك، أو أعطاه إياي، أو أعطاك
إياي، يجوز هذا وذاك، بل هو رأى الوجوب.
فالوصل هنا أرجح في سلنيه؛ إذ العامل فعل غير ناسخ كهاء سلنيه، ومثَّل
بقوله: ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)) [البقرة:137]، ((إِنْ
يَسْأَلْكُمُوهَا)) [محمد:37]، ((أَنُلْزِمُكُمُوهَا)) [هود:28].
وإن كان فعلاً ناسخاً -وهو المسألة الثانية- نحو: خلتنيه، فالأرجح عند
الجمهور الفصل، أخي حسبتك إياه، عند الناظم الوصل.
إذاً قال ابن عقيل: ما يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما ليس خبراً في
الأصل، وهما ضميران نحو: الدرهم سلنيه، الدرهم مبتدأ، وسلنيه تعرب
الجملة خبر، فيجوز لك في هاء سلنيه الاتصال نحو: سلنيه والانفصال نحو:
سلني إياه، وكذلك كل فعل أشبهه نحو: الدرهم أعطيتكه وأعطيتك إياه.
لذا قال: وَما أَشْبَهَهُ، يعني: وكذا كل فعل أشبه سلنيه، وليس الفعل
خاص بسلني فحسب، بل المسألة مطردة.
وظاهر كلام المصنف أنه يجوز في هذه المسألة الانفصال والاتصال على
السواء، وهو ظاهر كلام أكثر النحويين، وظاهر كلام سيبويه أن الاتصال
فيها واجب وأن الانفصال مخصوص بالشعر. هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: أن يكون منصوباً بكان أو إحدى أخواتها، أو أن يكون
العامل -كما عبر ابن هشام- أن يكون ناسخاً، فيشمل كان ويشمل ظن
وأخواتها.
وأشار بقوله: فِي كُنْتُهُ الْخُلْفُ انْتَمَى، إلى أنه إذا كان خبر
كان وأخواتها ضميراً فإنه يجوز اتصاله وانفصاله واختلف في المختار
منهما فاختار المصنف الاتصال نحو: كنته واختار سيبويه الانفصال نحو:
كنت إياه (الصديق كنته وكنت إياه).
الصديق كنتَه يعني: أنتَ، وكنت إياه.
وكذلك المختار عند المصنف الاتصال في نحو: خلتنيه: كل فعل تعدى إلى
مفعولين الثاني منهما خبر في الأصل وهما ضميران.
ومذهب سيبويه أن المختار في هذا أيضاً الانفصال نحو: خلتني إياه ومذهب
سيبويه أرجح؛ لأنه هو الكثير في لسان العرب على ما حكاه سيبويه عنهم
وهو المشافه لهم .. إلى آخر ما قاله.
وهنا لافتة أن الناظم رحمه الله تعالى وافق في التسهيل سيبويه، هنا
خالفه في مسألة ووافقه هناك في التسهيل، وافق الناظم في التسهيل سيبويه
على اختيار الانفصال في باب خلتنيه، قال: لأنه خبر مبتدأ في الأصل، وقد
حجزه عن الفعل بمنصوب آخر بخلاف هاء كنته، فإنه خبر مبتدءٍ في الأصل،
ولكنه شبيه بهاء ضربته في أنه لم يحجزه إلا ضمير مرفوع، والمرفوع كجزء
من الفعل.
إذاً المسألة جائزة بكلا الوجهين إلا أن الترجيح أيهما أرجح، هذه مسألة
نظر.
وَقَدِّمِ الأَخَصَّ فِي اتِّصَالِ ... وَقَدِّمَنْ مَا شِئْتَ فِي
انْفِصَالِ
هذا يتعلق بالمسألة السابقة أيضاً، ضمير المتكلم أخص من ضمير المخاطب،
وضمير المخاطب أخص من ضمير الغائب، فإن اجتمع ضميران منصوبان أحدهما
أخص من الآخر، تقدم أياً فيها؟
يقول: وَقَدِّمِ وجوباً، الأَخَصَّ يعني:
الأعرف على غيره، قدمه على غيره، فِي اتِّصَالِ يعني: في الضميرين في
الأبواب الثلاثة على غير الأخص منهما وجوباً، يعني في المسائل السابقة،
سلنيه، وكنته، وخلتنيه.
حينئذٍ نقول: قد يأتي ضميران أحدهما أعرف من الثاني حينئذٍ وجب تقديم
الأخص، فيقدم المتكلم على المخاطب، والمخاطب يقدم على الغائب.
وَقَدِّمِ: هذا أمر، وهو يقتضي الوجوب.
الأَخَصَّ: يعني الأعرف على غيره، في ماذا؟ في حال اتصال الضمائر
السابقة.
فقدم ضمير المتكلم على ضمير المخاطب، وضمير المخاطب على ضمير الغائب
كما في سلنيه وأعطيتكه.
أعطيت: فعل وفاعل، أعطيتكه: الكاف خطاب، وهو غائب، أعطيتهُك يصح؟ لا
يصح؛ لأنك قدمت ماذا؟ الغائب على الخطاب.
وكنته، وخلتنيه، وظننتُكَهُ، فلا يجوز تقديم الهاء على الكاف، ولا
الهاء ولا الكاف على الياء في الاتصال.
وَقَدِّمَنْ مَا شِئْتَ في انْفِصَالِ: هذا إذا أوصلت كنته، خلتنيه،
أما إذا فصلت عن الراء الثاني سلني إياه، وخلتني إياه .. حينئذٍ قدمن
ما شئت، هذا جواز، يعني: يجوز لك أن تقدم الأعرف على ما هو دونه.
وَقَدِّمَنْ مَا شِئْتَ -من الأخص أو غيره- في انْفِصَالِ يعني: في حال
الانفصال -انفصال الضمير- لكن بشرط عند عدم اللبس، يعني إذا أمن اللبس
قدم ما شئت، وإذا لم يؤمن اللبس حينئذٍ يجب أن تقدم الأعرف الأخص على
غيره، الناظم هنا أطلق فينبغي تقييده.
فتقول: الدرهم أعطيتكه، وأعطيتنيه .. بتقديم بتقديم الكاف والياء على
الهاء؛ لأنه أخص من الهاء؛ لأن الكاف للمخاطب، والياء للمتكلم، والهاء
للغائب، ولا يجوز تقديم الغائب مع الاتصال، فلا تقول: أعطيتُهُك، هذا
غلط لا يصح، فإن فصل أحدهما كنت بالخيار –مخير- بين ذا وذاك، فإن شئت
قدمت الأخص فقلت: الدرهم أعطيتك إياه، وأعطيتني إياه .. (أعطيتك إياه)
قدمت المخاطب على الغائب، (أعطيتني إياه) قدمت المتكلم على الغائب، وإن
شئت قدمت غير الأخص فقلت: أعطيته إياك (أعطيته) غائب، (إياك) على
المخاطب، يجوز هذا ويجوز ذاك.
وإليه أشار بقوله: وَقَدِّمَنْ مَا شِئْتَ في انْفِصَالِ، وهذا الذي
ذكره ليس على إطلاقه، بل إنما يجوز تقديم غير الأخص في الانفصال عند
أمن اللبس، فإن خيف لبس لم يجز، فإن قلت: زيد أعطيتك إياه، لم يجز
تقديم الغائب، زيد أعطيته إياك، زيد أعطيتك إياه، زيد آخذ أو مأخوذ؟
زيد أعطيتك إياه زيد، طيب لو قدمت وأخرت زيد أعطيته إياك، زيد صار آخذ،
أعطيته، أعطيت زيد إياك .. لذلك هذه المباحث قليلة –وجودها قليل- وإن
وجد في القرآن لكن معانيها واضحة.
وَفِي اتِّحَادِ الرُّتْبَةِ الْزَمْ فَصْلاَ ... وَقَدْ يُبِيحُ
الْغَيْبُ فِيهِ وَصْلاَ
وَفِي اتِّحَادِ الرُّتْبَةِ: يعني رتبة الضميرين: أولاً: في التخالف،
ضمير متكلم وضمير مخاطب، لو جاء هنا الضميران لمتكلم، والضميران
لمخاطب، أو الضميران لغائب، قال: (وَفِي اتِّحَادِ الرُّتْبَةِ) إذا
اتحدا كل من الضميرين في رتبة واحدة، متكلم أو مخاطب، قال: الْزَمْ
فَصْلاَ، يجب ماذا؟ الفصل.
وَفِي اتِّحَادِ الرُّتْبَةِ: أي: رتبة
الضميرين، وهو ألا يكون فيهما أخص، ما يكون بينهما تخصيص، كل منهما
مرتبة واحدة، بأن يكونا معاً ضميري تكلم أو خطاب أو غيب.
الْزَمْ فَصْلاَ: وجب الفصل (الْزَمْ فَصْلاَ) الألف للإطلاق، يعني وجب
الفصل.
فتقول: أعطيتني إياي، وأعطيتك إياك، ولا يجوز اتصال الضميرين، فلا
تقول: أعطيتني ني.
وَقَدْ يُبِيحُ الْغَيْبُ فِيهِ وَصْلاَ: (وَقَدْ يُبِيحُ الْغَيْبُ)
يعني ضمير الغائب.
(فِيهِ): في الاتحاد.
(وَصْلاَ): أي قد يباح الوصل متى؟ إن كان الاتحاد في الغيبة قد يبيح
... ، كأنه استثنى من الشطر الأول (وَفِي اتِّحَادِ الرُّتْبَةِ)
مطلقاً لمتكلم أو مخاطب أو غائب (الْزَمْ فَصْلاَ) استثنى من هذا فيما
إذا كان الضميران لغيبة، كل منهما لغائب، إذاً بقي ضميرا المتكلم
والمخاطب على الأصل، أنه يجب الفصل.
(وَقَدْ يُبِيحُ) أي: كونهما للغيبة (وَقَدْ يُبِيحُ الْغَيْبُ)
الإباحة هنا بعد منع، حينئذٍ صار للجواز.
(وَقَدْ يُبِيحُ الْغَيْبُ) يعني ضمير الغائب، (فِيهِ): في الاتحاد
(وَصْلاَ): أي قد يباح الوصل إن كان الاتحاد في الغيبة، واختلف لفظ
الضميرين، وهذا اشترطه المصنف في غير هذا الكتاب، وأما هنا فأطلق.
(وَقَدْ يُبِيحُ الْغَيْبُ) أي: الضمير -ضمير الغائب- (فِيهِ وَصْلاَ)
فحينئذٍ سواء اتفقا أم اختلفا، لكنه اشترط اختلاف الضميرين في غير هذا
الكتاب، وشرط الناظم أن يختلف لفظاهما، فإن اتفقا في الغيبة وفي
التذكير والتأنيث، وفي الإفراد والتثنية أو الجمع، ولم يكن الأول
مرفوعاً، وجب كون الثاني بلفظ الانفصال نحو: فأعطاه إياه، فأعطاهَهَ ..
فأعطاه إياه. (وَقَدْ يُبِيحُ الْغَيْبُ فِيهِ وَصْلاَ).
معَ اختلافِ مَا ونحو ضمِنتْ ... إياهُم الأَرض الضرورةُ اقتضتْ
هذا البيت مختلف فيه هل هو من الألفية أو لا، لكن الصواب أنه ليس من
الألفية، والسيوطي رحمه الله في البهجة شرحه على أنه من الألفية،
والصواب أنه ليس من الألفية، ولذلك قال هنا: وربما أثبت هذا البيت في
بعض نسخ الألفية وليس منها؛ لأن فيه تكرار، ثم ما يوافق بقية سبك
النظم.
إذاً يشترط يشترط اختلافه لفظ الضميرين، وإليه أشار بقوله في الكافية:
مع اختلاف ما، يعني لا بد أن يكون بين الضميرين اللذين يجوز أو يباح
الفصل بينهما في الغيب أن يكون بينهما اختلاف، ألا يكون متحدين إفراداً
وتثنية وجمعاً، بل لا بد أن يكون أحدهما مفرد والثاني مثنى، أو العكس
أو أحدهما مذكر والثاني مؤنث، والأمثلة موجودة.
قال رحمه الله:
وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ التُزِمْ ... نُونُ وِقَايَةٍ
وَلَيْسي قَدْ نُظِمْ
(وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ) هذا أحكام ياء المتكلم، ياء المتكلم سهلة،
هذه واضحة محفوظة.
ياء المتكلم قلنا هذه ضمير باتفاق، يعني ليست بحرف، ياء المتكلم من
الضمائر المشتركة كما سبق بين محلي النصب والخفض، وَلَفْظُ مَا جُرَّ
كَلَفْظِ مَا نُصِبْ.
حينئذٍ نقول: ضمير ياء متكلم إني، ولي، وبي .. هذا جاء في محل نصب وفي
محل جر.
ياء المتكلم من الضمائر المشتركة كما سبق
بين محلي النصب والخفض، -الكلام على النصب، ويأتي الكلام على الخفض-
فإن نصبها فعل، أو اسم فعل، أو ليت وما شاكلها، وجب قبلها نون الوقاية،
إذا نصب ياء المتكلم، نصبها لأنها ضمير في محل نصيب، إن نصبها فعل
مطلقاً ماضياً، أو مضارعاً، أو أمراً، أو فعل دراكني، أو ليت وما يعمل
عمل ليت، حينئذٍ وجب أن يفصل بين العامل واحد من هذه الثلاث، وبين
الياء بنون تسمى نون الوقاية، والوقاية هذه مأخوذة من وقى يقي، أصلها
وقوا، والمراد بها المنع؛ لأنها وقت ومنعت الفعل عن الكسر، والأصل في
العمل هو للأفعال؛ لأنه كما تقرر أن الفعل لا يدخله كسر ولا ضم، حينئذٍ
إذا قيل أكرمِي، إذا نصبتها فعل ماضي أكرمَ، وأردت أن تخبر في المعنى
بأن الكرم قد وقع عليك، الأصل أن تقول: أكرمِي، لزم أن يكون ما قبل
الياء التي هي مفعول به مكسور، حينئذٍ يحتاج إلى فاصل.
أتوا بالنون، هذه النون تسمى نون الوقاية، وقت الفعل عن الكسر، فتحملت
هي الكسر قالت: أنا له، ويبقى الفعل سالماً عن الكسر، ولذلك سميت بهذا
الاسم.
(يَا النَّفْسِ) يعني ياء المتكلم، وتسمى ياء النفس.
(وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ) إذا كانت مع الفعل مطلقاً
سواء كان الفعل ماضياً: أكرمني، أو مضارعاً: يكرمني، أو أمراً: أكرمني
مطلقاً نقول: التزم.
وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ: إذا كانت مع الفعل احترز به عما كانت مع الاسم
أو الحرف، فلا يلزم معها نون الوقاية في غير ما سيأتي، ليس مطلقاً،
فحينئذٍ المفهوم هنا، قَبْلَ يَا النَّفْسِ مع الفعل له مفهوم، مفهومه:
أنه لا يلتزم بنون الوقاية مع غير الفعل والصادق بالحرف والاسم، لكنه
ليس على إطلاقه.
فالمفهوم مخصص بما سيأتي.
(وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ التُزِمْ) (مع الفعل) مطلقاً،
متصلة بـ: التزم، نون وقاية، التزم: هذا فعل مغير الصيغة.
(نُونُ وِقَايَةٍ) هذا نائب فاعل.
إذا اتصل بالفعل ياء المتكلم لحقته لزوماً وجوباً نون تسمى نون
الوقاية، وسميت بذلك لأنها تقي الفعل من الكسر، وذلك نحو أكرمني،
ويكرمني، وأكرمني، وقام القوم ما خلاني، ما خلاني هذا جاءت مع أفعال
الاستثناء خلى، وما عداني، وحاشاني، إن قدرتهن أفعالاً؛ لأن الفعل في
نحو ما عداني نقول: (ما) هنا مصدرية، فالفعل بعدها يتعين أن يكون
فعلاً، وإذا تعين أن يكون فعلاً فحينئذٍ تنصب وترفع، وفاعلها يكون
مستتراً واجب الاستتار، وإذا نصبت مفعولاً به وهو ياء المتكلم حينئذٍ
وجب الاتصال، فإذا وجب الاتصال حينئذٍ وجب كسر ما قبل ياء المتكلم الذي
هو آخر الفعل، فحينئذٍ لزم أن يؤتى بـ: نون تسمى نون الوقاية، وتقول:
ما أفقرني إلى عفو الله، (ما): تعجبية، وأفقر: فعل ماضي، ما أفقر
زيداً، حينئذٍ: ما أفقرني، إذا أراد أن ينصب به ليس اسماً ظاهراً وإنما
ياء المتكلم، حينئذٍ وجب أن تتصل به نون الوقاية على الصحيح من أن أفقر
فعل لا اسم.
وأما اسم الفعل دراكني بمعنى: أدركني، دراكني يا زيد يعني: أدركني،
حينئذٍ دراكني نقول: الياء هذه منصوبة بدراك، وهو اسم فعل، اتصلت به
الياء لأنه ضمير متصل فيجب الاتصال، فحينئذٍ جيء بنون الوقاية.
(وَلَيْسي قَدْ نُظِمْ): ليس هذا فعل، نصب
يا النفس، حينئذٍ الأصل أن يقال: ليسني، هذا الأصل طرداٌ للقاعدة.
وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مع الفعل مطلقاً، وليس فعل، إذاً إذا نصبت ياء
المتكلم، حينئذٍ وجب أن تتصل بها نون الوقاية، لكن سمع في الشعر شذوذاً
ليسي على حذف نون الوقاية، واتصال الياء بدون نون الوقاية (وَلَيْسي
قَدْ نُظِمْ) ليس المراد به تجويس ألا تتصل نون الوقاية بالفعل إذا
نصبها ياء المتكلم، وإنما المراد التنصيص على أنه قد نظم، يعني جاء في
الشعر خاصة.
حينئذٍ يحكم عليه بأنه شاذ يحفظ ولا يقاس عليه.
(وَلَيْسي) بلا نون الوقاية (قَدْ نُظِمْ)، كما قال الشاعر:
عَدَدْتُ قَوْمي كَعَديدِ الطَّيْسِ ... إذْ ذَهَبَ القَوْمُ الكرامُ
ليْسي
هذا الشاهد ليسي، هذا نظم، وهو شاذ وسهله، سهل هذا الشذوذ أنه فعل جامد
لا يتصرف، فأشبه الاسم كغلام، غلامي، ليسي، غلام اسم جامد، وليس فعل
جامد، كأنه قاسه عليه.
وكذلك ليس بمنزلة غيري في المعنى .. ليسي، غيري، كأنه قاسه عليها لأن
غير لا تدخلها نون الوقاية.
وغير لا تتصل بها نون الوقاية، إذا وصلت بياء المتكلم.
إذاً: نقول الذي سوغ له أن يأتي بالياء متصلة دون نون الوقاية بليس،
أنها لا تتصرف وأشبهت الحروف الآتي ذكرها.
(وَلَيْسي قَدْ نُظِمْ) ولذلك سمع: عليه رجلاً ليسني، سمع هكذا: عليه
رجلاً، يعني يلزمه، رجلاً ليسني: أي ليلزم رجلاً غيري، -هذا يعتبر لغز-
إذاً: عليه رجلاً ليسني: أي ليلزم رجلاً غيري.
قال ابن عقيل: واختلف في أفعل في التعجب هل تلزمه نون الوقاية أم لا؟
وهذا الخلاف مبني على خلاف آخر: هل أفعل التعجب اسم أم فعل؟ هذا يأتي
في محله والصواب: أنه فعل، بدليل اتصال نون الوقاية به، كما سيأتي في
محله.
وَلَيْتَني فَشَا وَلَيْتي نَدَرَا
فِي الْبَاقِيَاتِ وَاضْطِرَاراً خَفَّفا ... وَمَعْ لَعَلََّ اعْكِسْ
وَكُنْ مُخَيَّرَا
مِنِّي وَعَنِّي بَعْضُ مَنْ قَدْ سَلَفََا
حينئذٍ لما اتصلت نون الوقاية بما سبق، والعامل هو الفعل كما ذكرناه،
والعامل هو اسم الفعل، والعامل أيضاً قلنا: هو الفعل، واسم الفعل
(دراكني)، وأفعل التعجب.
إذا نصبت ياء المتكلم بحرف كليت ولعل، المسألة نقلية سماعية، هل الأصل
دخول نون الوقاية بين ليت والياء أو الأصل العدم؟ قلنا ما علة وجود نون
الوقاية مع الفعل؟ تقي الفعل الكسر، العلة موجودة في الحروف؟
لا؛ لأن الحرف لا يمنع من الكسر، بل يبنى على الكسر ويبنى على السكون،
ويبنى على الفتح، ويبنى على الضم .. كما ذكرناه.
وَمِنْهُ ذُو فَتْحٍ وذُو كَسْرٍ وَضَمْ ... كَأَيْنَ أَمْسِ حَيْثُ
وَالسَّاكِنُ كَمْ
حينئذٍ الحرف يدخله الكسر، إذاً الأصل عدم الدخول أو الدخول نون
الوقاية للحرف؟ الأصل عدم الدخول.
إذاً المسألة سماعية نقلية.
وَلَيْتَني: إذاً حكم نون الوقاية مع الحروف.
وَلَيْتَني فَشَا: يعني كثر، ليتني بثبوت النون إذا نصبت ياء المتكلم
ليت، هذه تعمل عمل إن، حينئذٍ تنصب ياء المتكلم فتكون في محل نصب، ياء
المتكلم يلزم ما قبله أن يكون مكسوراً، وليت مبنية على الفتح، وقد
يقال: لا بأس أنه ينقل من الفتح إلى الكسر للمناسبة؛ لأن الكسر يدخل
الحرف.
وَلَيْتَني فَشَا: بثبوت النون أي: كثر
وذاع؛ لمزيتها على أخواتها في الشبه بالفعل؛ لأن ليت إنما تعمل عمل إن،
والأصل في النصب والرفع أن يكون للفعل كما سيأتي في محله.
ليت: هذا في قوة أتمنى، فلما فسّرت بالفعل حينئذٍ إذا نصبت ياء المتكلم
فالفعل تلحقه نون الوقاية مثله: ليت.
لمزيتها على أخواتها في الشبه بالفعل، يدل على ذلك سماع إعمالها مع
زيادة ما كما سيأتي.
وَلَيْتَني فَشَا: أي: كثر، بل جاء في القرآن كما في قوله تعالى: ((يَا
لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ)) ((يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي))
جاء بإثبات النون وهو كثير، وهل جاء في القرآن بدون نون؟ لم يرد، لم
يرد ليتي، وإنما الكثير في لسان العرب ثبوتها، وبه ورد القرآن.
وَلَيْتَني فَشَا وَلَيْتي نَدَرا: (ليتي) يعني بدون نون، (ندرا)
مراده: شذ، ومنه قول الشاعر:
كَمُنْيَةِ جَابِرٍ إِذْ قَالَ لَيْتِي ... أُصَادِفُهُ وَأَفْقِدُ
جُلَّ مَالِي
ليتي: جاء بياء المتكلم متصلة بالحرف وهي ناصبة لها بدون نون الوقاية.
وَلَيْتَني فَشَا، (وليتي) بدون نون (ندرا): أي: شذ.
وَمَعْ لَعَلََّ اعْكِسْ، اعكس مع لعل فقل: لعلي كثر، ولعلني ندرا،
اعكس في القلة والكثرة.
وَمَعْ لَعَلََّ اعْكِسْ: يعني هذا الأمر، فتجريدها من النون كثير،
((لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ))، به جاء القرآن، فتجريدها من النون
كثير؛ لأنها أبعد من الفعل لشبهها بحرف الجر واتصالها بها قليل، يعني
نون الوقاية بها قليل.
إذاً: وَمَعْ لَعَلََّ اعْكِسْ: يعني: لعلني، هذا قليل، ولعلي هذا
كثير.
ثبوت نون الوقاية مع لعل أكثر من حذفها مع ليت، وحذف النون من ليت أقل
من إثباتها في لعل.
فالمرد ليس عكساً بالمعنى المساوي ولكن أي عكسها بجامع القلة فقط، ومع
قلته هو أكثر من ليتي، هو قليل: ليتني، هذا قليل إلا أنه مع قلته هو
أكثر من ليتي، المراد أن اتصال النون بلعل هذا قليل، وخلوه عن النون
كثير، بقطع النظر عن ليتي قليل، ولعلني قليل، أيهما أكثر؟ ليس مراد
الناظم هذا.
وَكُنْ مُخَيَّرَا ... فِي الْبَاقِيَاتِ: البقايات ما هي؟ أخوات إن:
إن، وأن، وكأن، ولكن .. إذا نصبت ياء المتكلم إنني، وإني، بحذف إحدى
النونين كراهة الأمثال، كأنني، كأني، أني أنني، لكنني لكني، يجوز فيها
الوجهان، ولذلك سوى بينهما، وكن: أيها المتكلم أو الحاكم مخيراً في
إلحاق النون وعدمها، قال الفراء: عدم إلحاق النون هو الاختيار، يعني
اختار أنه لا تلحق النون في هذه الباقيات الأربعة، دون ليت ولعل.
وَمَعْ لَعَلََّ اعْكِسْ وَكُنْ مُخَيَّرَا فِي الْبَاقِيَاتِ: في
الباقيات التي هي: إن، وأن، ولعل.
فتقول: إني، وإنني، وأني وأنني، وكأني وكأنني، ولكني ولكنني، وعلة
الحذف هي: التخفيف.
هذا إن نصبت ياء المتكلم بالحرف، إذاً ياء المتكلم قلنا تأتي في محل
نصب وتأتي في محل خفض، إن جاءت في محل نصب إما فعل، وإما اسم فعل، وإما
أفعل التعجب، وإما حرف .. عرفنا أحكامها، إذا خفضت ما الحكم؟
قال: واضْطِراراً خَفَّفا ... مِنِّي وَعَنِّي بَعْضُ مَنْ قَدْ
سَلَفََا
خَفَّفا ... بَعْضُ مَنْ قَدْ سَلَفََا: من
العرب من الشعراء، خففوا ماذا؟ خففوا نون منِّي، فقالوا: مني، وعنّي
فقالوا: عني، فالأصل حينئذٍ إذا كان اضطراراً التخفيف فالأصل ماذا؟
الأصل التشديد، يعني أن يؤتى بنون الوقاية من، ثم جاءت ياء المتكلم
جررتها قلت: مني، هذا الأصل، لكن نقول هنا: يجب –سماعاً-، يجب اتصال
الحرف بنون الوقاية، حينئذٍ اجتمع عندنا نونان: من، ثم النون -نون
الوقاية-، أدغمت الأولى في الثانية فقلت: منّي، وعن مثله عنّي.
واضْطِراراً: يعني لا في سعة الكلام، ليس في الاختيار، بل هو في الشعر
خاصة.
واضْطِراراً خَفَّفا: يعني: خففوا بحذف إحدى النونين التي هي نون
الوقاية.
مِنِّي وَعَنِّي: فقالوا: مني وعني.
بَعْضُ مَنْ قَدْ سَلَفََا: من الشعراء.
ولذلك حفظ عنهم:
أَيُّها السّائلُ عنهُمْ وعَني ... لَسْتُ من قَيْسِ ولا قَيْسُ مِني
قيل: هذا مصنوع، لكن إن ثبت حينئذٍ يكون مستثنى.
إذاً انخفض الياء بحرف، فإن كان من أو عن وجبت النون، إن كان الخافض
لياء المتكلم من وعن، حينئذٍ وجبت النون إلا في الضرورة على ما ذكره
الشاعر، وإن كان غيرهما امتنعت يعني: لو قال: (لي) جرها بماذا؟ باللام،
هل يجب أن يؤتى بنون الوقاية؟ نقول: لا، يمتنع هنا لا يجوز، إذا جرت
الياء ياء المتكلم بحرف جر غير (من وعن)، يمتنع دخول نون الوقاية،
فتقول: لي، وبي، وعداي، وحاشاي.
إذاً: إذا جرت بحرف جر ننظر إن كان من وعن، وجبت النون، ولا يجوز حذفها
إلا في ضرورة الشعر
واضْطِراراً خَفَّفا مِنِّي وَعَنِّي: تعلم أن الحكم هنا مخصص بهذين
الحرفين، ما عداهما يمتنع دخول نون الوقاية عليها، ولا تخفف إلا في
الشعر خاصة، هذا حرف الجر، إن خفضت ياء المتكلم بمضاف ليس بحرف جر، هو
الذي عناه بقوله:
وَفِي لَدُنِّي لَدُني قَلَّ وَفِي ... قَدْني وَقَطْنِي الْحَذْفُ
أيْضاً قَدْ يَفِي
إن كان الخافض للياء مضافاً فإن كان: لدن، أو قط، أو قد .. -هذه ثلاث-
هي التي نص عليها، كل ما نص عليه في هذا الباب هو الذي يتعلق به الحكم،
وما لم ينص عليه -حتى تضبطها- ما لم ينص عليه تنفي عنه.
هنا إذا أضيفت ياء المتكلم، المضاف إما أن يكون: لدن، أو قد، أو قط ..
-هي التي ذكرها الناظم- ما عداها الحكم على المنع، فإن كان المضاف لدن
أو قط أو قد، فالغالب الإثبات ويجوز الحذف قليلاً.
لدني، قدني، قطني: هذا هو الغالب، وأما الحذف لدن لدني، هذا ليس إثبات،
هذا حذف لدنّي هذا الإثبات؛ لأن لدن مختومة بنون، ثم إذا جاءت النون
نون الوقاية أدغمت فيها، فلدني هذا بنون الوقاية، قدني قطني بنون
الوقاية، قدي قطي، هذا بدون نون الوقاية.
إذاً أيهما أكثر؟ الإثبات، والحذف قليل، ولا يختص بالضرورة خلافاً
لسيبويه وإن كان غيرهن، -يعني غير هذه الأمثلة الثلاثة: لدن، وقد، وقط-
امتنعت نحو: أبي، وأخي، وحمي .. هذه لا يؤتى بنون الوقاية، لماذا؟
لأنها ليست من الثلاث هكذا تعلل، ليست من الثلاث، وإنما إذا جرت أو
خفضت ياء المتكلم بمضاف لا يؤتى بنون الوقاية إلا في ثلاث محال، ثم إذا
جيء بها واتصلت بها الإثبات أكثر من الحذف فيجوز، ما عدا هذه فالسماع
عدم الإتيان بنون الوقاية.
امتنعت نحو: أبي وأخي.
وَفِي لَدُنِّي لَدُني قَلَّ: كأنه قال:
وقل في لدُنّي لدني، وقل: نحن نقول الإثبات كثير، والحذف قليل، وقل في
لدنّي لدني.
إذاً الكثير هو لدنّي، وبه قرأ السبعة في قوله: ((قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْرًا)) [الكهف:76] ^ ويقل حذفها كقراءة من قرأ ((من
لدُني)) بالتخفيف، وفي قدني وقطني بمعنى: حسبي، ليست مطلقاً، وإنما
بمعنى حسب احترازاً من قد الحرفية، فإنها لا تدخل عليها من، ولو جرت،
قدي نقول: هذه حرفية.
قد الحرفية، وقط الظرفية لا تتصل بهما ياء المتكلم -على خلاف- لا تتصل
بهما ياء المتكلم، وقد وقط في كلام الناظم اسما فعل بمعنى: يكفي.
فإن نون الوقاية تلزمهما عند اتصال الياء بهما، وفي الحديث {قط .. قط
وعزتك} بالإسكان، يروى بسكون الطاء وبكسرها مع ياء ودونها، ويروى {قطني
.. قطني}، و {قط .. قط} يروى بهذا وذاك.
إذاً: وَفِي لَدُنِّي لَدُني قَلَّ: قل القليل هذا قرأ به نافع ((من
لدني))، وفي إلحاق النون بقدني وقطني بمعنى: حسبي كثير.
الْحَذْفُ أيْضاً: آض يئيض أيضاً نرجع إلى ذكر الحذف قلة وكثرة.
قَدْ يَفي: قد هنا للتقليل، يعني قد يأتي، وأشار بقد إلى قلة الحذف
لكنه ليس من الضروريات.
قال الشارح: أشار بهذا إلى أن الفصيح في لدني إثبات النون، هذا هو
الفصيح، وبه قرأ الستة، كقوله تعالى: ((قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي
عُذْراً)) ويقل حذفها، لكن القلة ليست على جهة الشذوذ، وإنما هي لغة،
وقرأ بها نافع وقراءته معتبرة، كقراءة من قرأ من لدني بالتخفيف.
والكثير في قد وقط ثبوت النون نحو: قدني، وقطني، ويقل الحذف نحو قدي
وقطي أي حسبي وقد اجتمع الحذف والإثبات في قوله:
قَدْني مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيِنِ قَدِي ... لَيْسَ الإِمامُ
بالشَّحِيحِ الملْحِد
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ...
|