شرح ألفية ابن مالك للحازمي عناصر الدرس
* ما ينوب عن الفاعل (الظرف والمصدر والجار والمجرور) وشروط الكل
* ما يقدم عند اجتماع هذه الأنواع
* هل يجوز إنابة المفعول الثاني مناب الفاعل
* إذا رفع النائب فحكم بقية المتعلقات النصب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
السؤال: آخر الفاعل، الأخ يقول: كأنك مررت عليها مختصر جداً،
وَالأَصْلُ فِي الْفَاعِلِ أََنْ يَتَّصِلاَ
وَقَدْ يُجَاءُ بِخِلاَفِ الأَصْلِ ... وَالأَصْلُ فِي المَفْعُولِ أنْ
يَنْفَصِلاَ
.....................................
الجواب: إن وجدنا فرصة مررنا عليها إن شاء الله.
بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لا زال الحديث في النائب عن الفاعل، وذكر الناظم في مقدمة الباب
الأحوال التي تعتري الفعل من أجل تغييره ليكون ما بعده نائب فاعل، وهذا
قلنا: من أجل التمييز، حكم واجب يتميز به نائب الفاعل عن غيره، لذلك
الفعل قسمان: مبني للمعلوم، ومبني للفاعل، مبني للمعلوم، يعني: الذي
يكون بعده فاعل، والمبني لما لم يسم فاعله، هذا يكون بعده نائب فاعل،
فقدم هنا الفعل وما يتعلق به على أحكام النائب من حيث ما يجوز نيابته
وما لا يجوز، وابن هشام رحمه الله في التوضيح عكس، قدم الأبيات التي
ستأتي معنا:
وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ جَرٍّ: تكلم
عن هذه، ثم بعد ذلك ختم بالكلام على الصيغ، يعني: كأنه ينكت على الناظم
أن هذه المسألة تتقدم على مسألة تغير الفعل، وهذا قد يقال: بأن النظر
في الفعل هذا مهم جداً، وهو يميز ما بعده، حينئذٍ قد يكون داخلاً في
مفهوم نائب الفاعل؛ لأنه إذا قال: يَنُوبُ مَفْعُولٌ بِهِ عَنْ
فَاعِلِ، بين الأصل الذي هو المفعول به، وما بعده فهو محمول عليه،
الظرف والمصدر والجار والمجرور هذا محمول على المفعول به، ولذلك إذا
وُجد المفعول به، حينئذٍ لا تنوب هذه الأشياء، لا ينوب واحد منها، لأن
ابن مالك رحمه الله تعالى بين، أن النائب -نائب الفاعل- يكون الأصل فيه
أنه مفعول به، قال: (فِيمَا لَهُ) يعني: من الأحكام، ومثَّل له، ثم بين
الصيغة التي تعتريه، حينئذٍ إلى هنا يكاد أن يكون الباب قد انتهى، ولم
يبق إلا مسألة واحدة وهي مهمة، وهي: ما الذي ينوب عن الفاعل إذا لم يكن
في الكلام مفعول به! فقط، وهذه فرعية ليست بأصلية، حينئذٍ ما جرى عليه
الناظم أولى من تقديم الكلام على الصيغ من الكلام على ما ينوب عن
الفاعل، وهو أربعة أشياء: المفعول، والمصدر، والظرف، والجار والمجرور،
وهذا واضح بين ولا تنكيت على الناظم.
قال رحمه الله تعالى:
وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ جَرٍّ
بِنِيَابَةٍ حَرِي
أشار في هذا البيت إلى أن الذي ينوب عن الفاعل واحدٌ من أربعة أشياء،
قدم في أول الباب المفعول به، -وهذا هو الأصل-، والثاني: ما أشار إليه
بقوله: مِنْ ظَرْفٍ، والثالث: ما أشار إليه بقوله: مِنْ مَصْدَرِ،
والرابع: ما أشار إليه بقوله: أَوْ حَرْفِ جَرٍّ، فهذه الأربعة الأشياء
هي التي تنوب عن الفاعل:
يَنُوبُ مَفْعُولٌ بِهِ عَنْ فَاعِلِ فاكتفى به، ثم بين إذا لم يوجد
المفعول به حينئذٍ يكون واحداً من هذه الثلاثة الأشياء.
وَقَابِلٌ: هذا مبتدأ.
مِنْ ظَرْفٍ: متعلق به.
أوْ مِنْ مَصْدَرِ أَوْ حَرْفِ جَرٍّ: معطوفات على الأوائل.
بِنَيِابَةٍ حَرِي: بِنِيَابَةٍ جار ومجرور
متعلق بقوله: حَرِي، وحَرِي بمعنى حقيق أو جدير، وحَرِي هذا خبر
المبتدأ.
وَقَابِلٌ مما ذكر حَرِيٌّ بِنِيَابَةٍ عن الفاعل، بعد تغير الصيغة.
قوله: وَقَابِلٌ فيه إشارة إلى أن ما ذكره من هذه الأشياء الثلاثة،
منها ما هو قابل، ومنها ما ليس بقابل، وهو الأمر وهو كذلك، يعني: ليس
كل مصدر، وليس كل حرف جر، وليس كل ظرف ينوب عن أن الفاعل، بل منه ما هو
صالح للنيابة، ومنه ما ليس بصالح للنايبة.
إذاً: قَابِلٌ نقول: هذا له مفهوم؛ لأنه صفة، قابل من ظرف غير القابل
لا ينوب، قابل من مصدر، غير القابل لا ينوب، قابل من حرف جر، غير
القابل لا ينوب، حينئذٍ ما الذي يقبل ويصلح أن يكون نائباً عن الفاعل،
وما الذي لا يصلح؟
القول هنا كالقول في النكرة إذا أريد أن يبتدأ بها، فما أفاد جاز
الابتداء بِهِ وَلاَ يَجُوزُ الاِبْتِدَا بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ
تُفِدْ، فإن حصلت الفائدة بأي وجه من الوجوه، نقول: حصل أو صح الابتداء
بالنكرة، وهنا: ما كان مبهماً من الظروف أو من المصادر، أو من
المجرورات، حينئذٍ نقول: هذا لا يفيد فائدة، وإذا انتفت الفائدة حينئذٍ
لا يصلح أن يكون نائباً عن الفاعل، وإذا حصلت الفائدة حينئذٍ نقول: قد
وجدت الفائدة، فمتى يكون الظرف مفيداً، ومتى يكون المصدر مفيداً؟ نقول:
القابل للنيابة من الظروف والمصادر هو المتصرف المختص؛ لأن الظرف ينقسم
كما سيأتي:
وَمَا يُرَى ظَرْفَاً وَغَيْرَ ظَرْفِ ... فَذَاكَ ذُو تَصَرُّفٍ فِي
الْعُرْفِ
وَغَيْرُ ذِي التَّصَرُّفِ الَّذِي لَزِمْ ... ظَرْفِيَّةً أَوْ
شِبْهَهَا مِنَ الْكَلِمِ
الظرف ينقسم إلى متصرف وغير متصرف، والمقصود به هنا بالتصرف، ليس هو
التصرف في نوعي الفعل، هناك تصرف ما يأتي منه الماضي والمضارع والأمر
واسم الفاعل وغيره، وأما هنا فالمراد بالمتصرف وغير المتصرف، هو أن
النظر في الظرف الأصل فيه أنه ملازم للنصب على الظرفية، فما لزم النصب
على الظرفية، حينئذٍ نقول: هذا غير متصرف؛ لأنه لا يجوز أن يخرج إلى
الرفع، حينئذٍ التزمت العرب نصبه، وما كان كذلك حينئذٍ لا يجوز رفعه،
لا يجوز أن يكون نائباً عن الفاعل فيكون له حكم الرفع، هذا الذي يلزم
النصب على الظرفية، مثل: (عند) وعِندَ فِيهَا النَّصبُ يَستَمِرُّ.
و (عِندَ) تمتاز من جهة إمكان إخراجها عن النصب على الظرفية إلى حالة
واحدة، وهي الجر بـ (من)، فإذا كان كذلك حينئذٍ لا يسلب عنها وصف عدم
التصرف، بل هي غير متصرفة، فيشمل غير المتصرف نوعين: متصرف محض لا يمكن
أن يخرج عن النصب على الظرفية، وهذا مثل: عوْضُ، وقطُّ، وإذا ..
ونحوها، ومتصرف قد يخرج عن النصب على الظرفية، لكن إلى حالة واحدة، وهي
الجر بـ (من) مثل: عند
وعِندَ فِيهَا النَّصبُ يَستَمِرُّ ... ... لكِنَّهَا بِمِنْ فَقَطْ
تُجَرُّ
هذا سماه ابن مالك شبه المتصرف، وهو داخل فيه، حينئذٍ عند ومثلها:
(ثَمَّ)، نقول: هذه غير متصرفة، وإن خرجت عن النصب على الظرفية إلى
الجر بـ (من)، لكن نقول: هذا لا يسلب عنها الوصف.
النوع الثاني: الذي هو المتصرف هو ما يقبل
تأثير العوامل فيه، فتارة يرفع على أنه مبتدأ ويأتي فاعل ويأتي خبر،
ويأتي اسم إن، ويأتي خبر إن، مثل كلمة: يوم، وحين، وساعة، ووقت، وزمن،
ودهر، وبرهة، هذه أسماء زمان –ظروف-، وكذلك من جهة الأماكن نقول:
الشام، ومسجد، وأرض، نقول: هذه كلها قابلة لأن تكون تارة مبتدأً وتارة
خبراً، وتارة اسم إن، وخبر إن واسم كان وخبر كان، هذا يوم مبارك، إن
يومنا يوم مبارك، وقع اسم إن ونحوها، نقول: هذا التقلب لتأثير العوامل،
وتغيراتها، نقول: هذا هو المتصرف في الظروف، حينئذٍ ما لم يكن متصرفاً
لا يصلح أن يكون نائباً عن الفاعل، فالمتصرف كدهر وزمن وساعة وبرهة
ووقت .. نقول: هذا يصلح أن يكون نائباً عن الفاعل، وأما ما لزم النصب
على الظرفية، نقول: هذا يمتنع وقوعه نائب فاعل.
المختص وغير المختص؛ لأنه قال: هو المتصرف المختص، عرفنا المتصرف من
الظروف. المختص من الظروف هو المعين، وهذا إما أن يكون بعلمية أو
بإضافة أو بـ (أل) أو وصف، أو نحو ذلك كما سيأتي في محله.
حينئذٍ إذا قيل: صِيم رمضانُ، نقول: رمضان هذا ظرف زمان، وهو مختص،
حينئذٍ نقول: اختصاصه حصل بالعلمية؛ لأنه اسم مسماه الشهر المعلوم،
كذلك: صِيم يوم الاثنين مثلا، نقول: يوم هذا مضاف حصل الاختصاص له
بالإضافة.
أو تقول صيم هذا اليوم، اليوم هذا بدل مما سبق، وحينئذٍ صارت (أل)
عهدية، وكذلك الوصف: صيم يوم شديد، أو يوم مبارك، نقول: حصل له اختصاص،
ما لم يكن كذلك حينئذٍ لا يصلح أن يكون نائباً عن الفاعل، فلا يقال:
صيم زمن، ولا صيم دهر، نقول: هذا لا يصلح لماذا؟ لكونه غير مفيد، فلابد
أن يكون مختصاً، ولابد أن يكون متصرفاً، وأما المتصرف من المصادر،
فالمراد به كذلك ما يلزم النصب على المصدرية، مثل: معاذ الله، وسبحان
الله، نقول: هذه كلمات مما تلزم النصب على المصدرية، وحينئذٍ لا يصح
رفعها؛ لأن العرب التزمت نصبها على المصدرية، هذا غير المتصرف: سبحان
الله ومعاذ الله، وأما المتصرف فهذا شأنه شأن الظرف، مثل: ضَرْب وقتْل،
نقول: هذا مصدر (ضرب، قتل، خروج، جلوس)، نقول: هذا غير لازم لحالة
واحدة، تارة يأتي فاعل، وتارة يأتي مفعول به .. إلى آخره، حينئذٍ نقول:
هذا يقبل العوامل وتأثير العوامل، فإن دخل عليه عامل يقتضي رفْعَه
رفَعَه، وإن دخل عليه عامل يقتضي نصْبَه نصَبه .. وهَلُمَّ جَرّاً،
نقول: هذا متصرف.
وأما المختص من المصادر، فالمراد به ما دل على عدد ونحو ذلك، المختص من
المصادر ما كان دالاً على العدد أو على النوع، ضُرِب ضربتان، أو ضُرِبَ
ضربٌ شديدٌ، ضربتان نقول: هذا مختص، لأنه دال على اثنين، على ضربتين،
فهو مختص بالعدد، كذلك النوع: ضُرِبَ ضربٌ شديد، هذا نوع، أو ضُرِب
الضَّربُ، هذا بـ (أل) العهدية.
إذاً: قَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ: نقول: القابل للنيابة
من الظروف والمصادر هو المتصرف المختص، والمتصرف من الظروف ما يفارق
النصب على الظريفة والجر بـ (مِنْ)، فهما قسمان لا ثلاثة، متصرف وغير
متصرف، والذي يتصرف فقط بالجر إلى الجر بـ (من) نقول: هذا غير متصرف،
ولو كانت (عند) أو (ثَمَّ).
ومن المصادر ما يفارق النصب على المصدرية،
والمختص من الظروف ما خصص بشيء من أنواع الاختصاص كالإضافة يوم الخميس
مثلاً، والصفة: يوم حارٌ أو يومٌ بارد، وكذلك العلمية: رمضان مثلاً
وشعبان ونحو ذلك، ومن المصادر ما يكون لغير مجرد التوكيد، كأن يكون
دالاً للعدد أو النوع؛ لأن المفعول المطلق سيأتينا ثلاثة أنواع: ما يدل
على العدد، ما يدل على النوع، كذلك المؤكِّد، ما لم يكن مؤكِّداً
حينئذٍ صح أن يكون نائباً عن الفاعل.
إذاً: وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ: ليس كل ظرف، بل الظرف المختص المتصرف،
والظرف غير المختص لا يصح أن يكون نائباً عن فاعل.
وكذلك مِنْ مَصْدَرِ: وكذلك مختص متصرف، فما لم يكن متصرفاً من النوعين
لا يصلح أن يكون نائب فاعل: جُلِسَ عند الأمير، يصلح أو لا يصلح؟
لا يصلح، ((وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ)) [الأعراف:149] يصلح، سير
بزيد، بزيد هذا جار ومجرور سيأتينا أيضاً: ((فَإِذَا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ)) [الحاقة:13]، نَفْخَةٌ، نقول: هذا على
قول البعض: نائب فاعل، وهو مصدر، ((نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ)) [الحاقة:13]،
وَاحِدَةٌ تأكيد؛ لأن النفخ هذا فعل يدل على الواحدة، وأؤكد بقوله:
وَاحِدَةٌ، من باب التوكيد.
وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ جَرٍّ: بعضهم
قدر: أو مجرور حرف جر، لماذا؟ لأنه إذا قيل: مُرَّ بزيد، بزيد جار
ومجرور الباء حرف جر، وزيد اسم مجرور بالباء، ما الذي ناب عن الفاعل؟
هنا ثلاثة احتمالات: إما الباء وحده وإما زيد وحده، وإما هما معاً، عند
جماهير البصريين أن النائب هو زيد فقط ليس الباء، وعند الفراء: الباء
فقط، وعند بعضهم -وهم قلة-: المجموع -الباء ومدخوله- وهو الصحيح، أنه
الجار والمجرور معاً هو الذي ناب عن المفعول، وهذا فيما لم يكن الحرف
زائد، فإن كان زائداً فمحل وفاق أن المجرور هو الذي يكون نائباً عن
الفاعل.
إذاً: أَوْ حَرْفِ جَرٍّ قدر الأشموني هناك: أو مجرور حرف جر، ليوافق
مذهب البصريين: أن المجرور هو الذي ينوب عن الفاعل؛ لأنه قال:
وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أوْ مِنْ مَصْدَرِ، أو مجرور حرف جر، حينئذٍ
المجرور هو الذي ناب عن الفاعل.
كذلك يكون حرف الجر قابل للنايبة وقد لا يكون قابلاً، مثل الظرف
والمصدر، متى يكون قابلاً ومتى لا يكون؟ القابل للنايبة من المجرورات:
هو الذي لم يلزم الجار له طريقة واحدة، يعني: لا يلزم طريقة واحدة كما
سيأتينا في باب حروف الجر، القابل للنايبة من المجرورات: هو الذي لم
يلزم الجار له طريقة واحدة، حرف الجر بعضه لا يدخل إلا على اسم الزمان،
وبعضه لا يدخل إلا على الاسم الظاهر، وبعضه لا يدخل إلا على المقسم به،
وبعضه على الاستثناء .. هذا خاص، نقول: هذا لزم طريقة واحدة، مثل النصب
على الظرفية في (عند) و (ثَمَّ)، نقول: هذا غير قابل للنايبة، وأما لا
يختص حينئذٍ نقول: هذا يجوز أن يكون نائباً عن الفاعل.
الذي لم يلزم الجار له طريقة واحدة في الاستعمال كـ: (مذ ومنذ ورب
وحروف القسم والاستثناء وحتى .. ) ونحو ذلك، هذا أولاً.
ولا دل على تعليل كاللام والباء، اللام
والباء قد تأتي للتعليل؛ لأنه مبني على سؤال مقدر، ولذلك امتنع أن ينوب
المفعول لأجله، وكذلك الحال والتمييز عن نائب الفاعل؛ لأن هذه إنما تقع
في جواب سؤال مقدر، وإذا وقعت في جواب سؤال مقدر، حينئذٍ صار في قوة
الجملة المنفصلة، وإذا كان كذلك حينئذٍ لم يكن متصلاً بالجملة التي
يكون فيها الفاعل محذوفاً فينوب عنه، فهو في قوة جملة منفصلة، يعني:
كأنك إذا أنبت الحال أو المفعول لأجله كأنك أتيت بهذا اللفظ من جملة
منفكة عن الجملة التي حذف فيها الفاعل، لماذا؟ لأنه في الغالب -وهذا
ضابط له-، أنه يكون جواباً لسؤال مقدر: جاء زيد راكباً، جاء زيدٌ كيف؟
راكباً، وما وقع في جواب سؤال الأصل فيه أنه في جملة منفصلة، فلذلك
امتنع.
ولا دل على تعليل كاللام والباء؛ لأنه مبني على سؤال مقدر فكأنه من
جملة أخرى، وبهذا يعلل منع نيابة المفعول لأجله والحال والتمييز، فيبقى
على أصله.
إذاً: أَوْ حَرْفِ جَرٍّ، القابل منه ما لا يختص بحالة واحدة، لا يلزم
طريقة واحدة، مثل رب أو القسم ونحو ذلك.
أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنَيِابَةٍ حَرِى: قلنا: مذهب البصريين أن نائب
الفاعل هو المجرور فقط، ولذلك حاول الشراح أن يجعلوا كلام الناظم
موافقاً لمذهب البصريين، ولو ترك على ظاهره قد يقال بأنه موافق لمذهب
الفراء، وهو أنه حرف الجر، وهو من أغربها، غريب جداً أن يقال بأن حرف
الجر وحده هو النائب، لماذا؟ لأن نائب الفاعل أنيب مناب الفاعل، والحرف
ليس فيه معنى في نفسه، فكيف يقال: بأن الباء هي نائب الفاعل هذا غريب!
فالحرف عندهم يكاد يكون متفق عليه أنه لا يدل على معنى في نفسه، وإذا
كان الأمر كذلك، حينئذٍ لا يمكن أن ينوب عن الفاعل، حينئذٍ المحتمل من
القولين: إما أن يقال: بأنه الجار والمجرور -وهذا أولى-؛ لأنهما كالجزء
الواحد كالكلمة الواحدة، وإما أن يقال بمذهب البصريين وهو المجرور فقط.
إذاً: أَوْ حَرْفِ جَرٍّ: نقول: تقدير مجرور حرف جر، إما ليكون موافقاً
لمذهب البصريين، وإما أن يكون موافقاً للمذهب الذي اختاره الناظم في
غير هذا الكتاب، وهو أن الجار والمجرور معاً هما نائب الفاعل، وهذا
أولى، أولى بالتقعيد والتفصيل.
إذاً: نقول –كقاعدة-: المجرور بحرف جر زائد لا خلاف بين النحاة في
إنابته، لا خلاف أنه ينوب عن الفاعل إذا جر بحرف جر زائد، مثل ماذا؟ ما
ضرب من أحدٍ، نقول: من هذه زائدة، مثل: ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ))
[فاطر:3]، و ((مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ)) [المائدة:19]، مثلها،
حينئذٍ نقول: ما ضرب، وهذا مغير الصيغة، مِنْ حرف جر زائد، هكذا نقول
في إعرابه، أحدٌ نائب فاعل.
إذاً: نعرب المجرور فقط، فنقول: نائب فاعل
مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف
الجر الزائد، مثلما نقول: ((مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ)) [المائدة:19]
إذاً: لا نقول: الجار والمجرور هنا .. أو الجار لوحده، أو .. لا،
باتفاق أن المجرور الذي دخل عليه حرف الجر الزائد أنه نائب الفاعل،
وأما الحرف هنا فوجوده وعدمه سواء من حيث الإفادة، وإنما جيء به من حيث
التأكيد، إذاً: حرف الجر الزائد لا دخل له في هذا الباب، فقوله: حَرْفِ
جَرٍّ، المراد به الأصلي، حرف الجر الأصلي، وأما الزائد: فالمجرور
قولاً واحداً هو نائب الفاعل، فإن جر بغير زائد -حرف جر أصلي- وهو الذي
عناه الناظم، ففيه أربعة مذاهب:
الأول وعليه الجمهور: أن المجرور هو النائب في محل رفع، أن المجرور
لوحده دون حرف الجر هو النائب، فإذا قيل: مُرَّ بزيدٍ زيدٍ هو نائب
الفاعل، حينئذٍ الباء دخلت على أي شيء وماذا أفادت، وهل أثرت أو لا؟!
أسئلة لا أجوبة عليها، هذا القول به عسير، وعليه الجمهور أن المجرور هو
النائب في محل رفع.
الثاني: أن النائب ضمير مبهم مستتر في الفعل، وجعل مبهماً ليحتمل ما
يدل عليه الفعل من مصدر أو زمان أو مكان، إذ لا دليل على تعيين أحدها
وعليه ابن هشام، وهذا فيه تكلف واضح بين.
الثالث: أن النائب حرف الجر وحده في محل رفع -وهذا غريب- في محل رفع
كما أنه وحده بعد الفعل المبني للفاعل في محل نصب، نحو: مررت بزيد،
وهذا مذهب الفراء، وهو أغربها، إذ الحرف لا معنى له، القياس هنا فاسد،
القياس مُرَّ بزيد، كقولك: مررت بزيدٍ، بزيد النحاة يقولون: هذا في
المعنى مفعول به، لكن لا يعرب مفعول به، يعني: سبق معنا تعيين أو
التكرار على أن حلَّ المعنى قد يكون باعتبار الإعراب، وقد يكون باعتبار
المعنى فحسب، يعني: ترك النظر إلى الكلام –التركيب-، قد يؤخذ أشياء
ومقدَّرات ومحذوفات .. إلى آخره، من جهة تصحيح المعنى، وفهم المعنى
العام للفظ سواء كان آية أو حديث أو بيت شعر أو نحو ذلك، وقد يكون لا،
ثم تقديرات تصحيح الإعراب نفسه، لا يصح الإعراب إلا بهذا المقدر، نقول:
على حذف مضاف، وهذا سبق فيه: باب شرح كلام، هذا باب شرح الكلام وشرح ما
يتألف منه الكلام.
فإذا قيل: مُرَّ بزيدٍ، زيدٍ هذا مفعول به؛ لأن الأصل مررتُ زيداً، هذا
صحيح، مررت زيداً، في المعنى هو مفعول به؛ لأن المفعول به هو ما يقع
عليه فعل الفاعل، وهنا قد وقع عليه المرور، ولكن لما كان الفعل قاصراً
لازماً غير متعدٍ بنفسه تعدى بحرف جر، فإذا قيل: مررت بزيدٍ، مررت فعل
وفاعل، بزيدٍ هذا جار ومجرور متعلق بقوله: مر، حينئذٍ لا نتعرض لكونه
مفعولاً به أو لا، لكن نائب الفاعل .. لا، نائب الفاعل حكمٌ على اللفظ
قبل المعنى؛ لأننا نحذف الفاعل لفظاً، وأما المعنى هذا لا دخل لنا فيه،
ونقول: ضرب زيدٌ عمراً، حذفنا زيد، إذاً: عمروٌ صار نائب فاعل، إذاً
لابد أن يكون لفظ وله أحكام تعتري اللفظ والمعنى، المعنى يكون تابعاً
له، فحينئذٍ إذا قيل: مُرَّ بزيد الباء هي حرف جر، هي التي نابت عن
الفاعل، وما المعنى الذي أدته الباء مثلما أدت غيره، تقول: هذا فاسد
ليس بصحيح، إذاً: هذا مذهب الفراء.
الرابع: النائب ضمير عائد على المصدر
المفهوم من الفعل وبه قال السهيلي، وهذا ضعيف أيضاً، الصواب: أنه الجار
والمجرور معاً.
مذهب البصريين أن نائب الفاعل هو المجرور فقط، ومذهب المصنف -ابن مالك
رحمه الله تعالى- كما في التسهيل والكافية أنه مجموع الجار والمجرور،
ذكره في التسهيل وفي الكافية أنه مجموع الجار والمجرور، وهذا أصح.
وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ
إذاً: أَوْ حَرْفِ جَرٍّ لابد من التقدير، لكن لا لنجعل كلام الناظم
موافقاً لمذهب البصريين، وإنما من أجل أن يوافق كلامه في التسهيل وفي
شرح الكافية، أو الكافية نفسها، حينئذٍ نقول: أَوْ حَرْفِ جَرٍّ، ظاهره
أنه موافق لمذهب الفراء وهو باطل، حينئذٍ نقول: لابد من التقدير: أو
مجرور حرف جر، حينئذٍ وافق مذهبه هو بأن النائب عن الفاعل الجار
والمجرور معاً: بِنَيِابَةٍ حَرِى.
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هَذِي إِنْ وُجِدْ ... فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ
بِهِ وَقَدْ يَرِدْ
قال الشارح: أشار في هذا البيت إلى أنه إذا لم يوجد المفعول به أقيم
الظرف أو المصدر أو الجار والمجرور مقامه، وشرط في كل واحد منها أن
يكون قابلاً للنيابة، لكن ما ذكر أنه إذا لم يوجد المفعول، وهذا سينص
عليه في البيت الذي سيأتي، إنما هذه تبرع بها في هذا المقام؛ لأنه
سيأتي
فقول ابن عقيل: أشار في هذا البيت إلى أنه إذا لم يوجد المفعول به أقيم
الظرف، نقول: هذا ليس من هذا البيت، إنما هذه حشوة أو تبرع بها، إنما
بالبيت الذي يليه، وإنما أشار أن الظرف ينوب عن الفاعل إذا حذف،
والمصدر كذلك ينوب والجار والمجرور كذلك ينوب عن الفاعل إذا حذف،
ويشترط فيها –الثلاثة- أن تكون قابلة للنيابة، يعني: صالحة للنيابة،
وما عدا ذلك لم يفد البيت شيئاً آخر.
وشرط في كل واحد منها أن يكون قابلاً للنيابة؛ لأنه علقه على وصف،
والشيء المعلق على الوصف يأخذ حكمه طرداً وعكساً، حينئذٍ نثبت له
قابلية بشرطه ونفيه عنها إذا لم توجد، فمتى ما كان صالحاً الظرف صحت
نيابته، ومتى لم يكن نفينا عنه النيابة.
وإنما يشترط في الظرف أن لا يكونا مبهمين،
-قوله مِنْ ظَرْفٍ هذا يشمل ظرف المكان وظرف الزمان فهو عام، ولذلك
أطلقه-أن لا يكونا مبهمين أن يكونا متصرفين، كذلك المصدر أن لا يكون
مؤكداً، وأن لا يكون غير متصرف، والجار والمجرور أن لا يلزم طريقة
واحدة كحروف القسم وغيرها، واحترز بذلك من أن يكون قابلاً للنيابة أي:
صالحاً لها، واحترز بذلك مما لا يصلح للنيابة، كالظرف الذي لا يتصرف،
والمراد به ما لزم النصب على الظرفية: سحر، إذا أريد به سحر يوم بعينه،
ونحو: عندك، فلا تقل: جُلس عندك، ولا رُكب سحر؛ لئلا تخرجهما عما استقر
لهما في لسان العرب من لزوم النصب، وهذا كما سبق هناك في: كفى بهندٍ،
وحبذا هندٌ، قلنا: التزمت العرب تذكيرها، حينئذٍ لا يجوز إدخال التاء
عليها، تاء التأنيث، قلنا: لا تلتحق بأربعة أنواع من الفعل، منها أفعال
الاستثناء، وكفى بهند وحبذا، حينئذٍ نقول: هذه لا يجوز، لماذا؟ لأن
العرب التزمت تذكيرها، بمعنى: أننا وقفنا مع السماع، فمادام أن العرب
التزمت تذكيرها، ولم ينقل إلينا أنها أنثت وقفنا معها، كذلك هنا، نفس
العلة، نقول: مادام أن العرب التزمت نصب هذه الألفاظ ولم يسمع في حرف
واحد أنها رفعت، حينئذٍ نقول: نلتزم ما التزمت به العرب، وهو الأصل،
والتعديد يكون فرعاً، وأحياناً النحاة قد يعجز بعضهم عن التعليل أو
البحث عن علة واستنباط ...
لئلا تخرجهما عما استقر لهما في لسان العرب من لزوم النصب، وكالمصادر
التي لا تتصرف نحو: معاذ الله، فلا يجوز رفع معاذُ، لا يقول: معاذُ
الله، نقول: هذا لا يصح، لما تقدم في الظرف، وكذلك ما لا فائدة فيه من
الظروف والمصادر، يعني: غير المختص؛ لأن المصدر والظرف قد يكون مختصاً
وقد يكون غير مختص يعني: مبهم، فلا يقال: سِير وقتٌ نقول: هذا لا يصح،
ولا ضُرِبَ ضربٌ، ولا جُلسَ في دار، هذا لا يفيد؛ لأنه لا فائدة في
ذلك، ومثال القابل من كل منها قولك: سير يوم الجمعة، وضرب ضرب شديد
ومُرَّ بزيدٍ، هنا حصل الاختصاص في الجار والمجرور بكونه معرفة، أو أن
يكون نكرة صالحة للابتداء بها، ويشترط فيه ما ذكرناه سابقاً أن لا يكون
ملازماً لطريقة واحدة، وأن لا يكون دالاً على التعليل كاللام والباء.
ثم قال رحمه الله:
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هَذِي إِنْ وُجِدْ ... فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ
بِهِ وَقَدْ يَرِدْ
هذا ما أشار إليه سابقاً ابن عقيل، وهو أن هذه ليست مطلقة هكذا، كأنه
شرط زائد وقابل من ظرف، متى يقبل؟ بكونه متصرفاً مختصاً، مطلقاً ولو
وجد المفعول به؟ نقول: لا، المفعول به سيد هذه الثلاثة، إذا وجد تعين
أن يكون هو الرئيس هو نائب الفاعل، إذا تخلف لم يوجد في الكلام حينئذٍ
جاء الخلاف: أي هذه الثلاثة أولى!
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هذِي: وَلاَ يَنُوبُ فعل مضارع مرفوع، يَنُوبُ
بَعْضُ هذِي: المشار إليه الظرف، والمصدر، والمجرورات.
إِنْ وُجِدْ فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ بِهِ: بل تتعين إنابته، لا يجوز
-على مذهب البصريين-، لا يجوز أن يقام الظرف مع وجود المفعول به، ولا
يجوز أن يقام المصدر مع وجود المفعول به، ولا يجوز أن يقام الجار
والمجرور مع وجود المفعول به، بل يتعين إقامة المفعول به، ولا يعدل عن
ذلك.
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هذِي إِنْ وُجِدْ:
بعض هذا الظروف والمصادر والمجرورات، إِنْ وُجِدْ فِي اللَّفْظِ
مَفْعُولٌ بِهِ: فِي اللَّفْظِ، لماذا عين في اللفظ؟ لما ذكرناه، قد
يكون ثم مفعول به في المعنى، لكن لا نلتفت إليه، لماذا؟ لأننا إذا قيل
مثلاً-كالمثال السابق الذي ذكره-: سير يوم الجمعة بزيدٍ، مثلاً، إذا
قيل: يوم الجمعة هذا ظرف، وبزيدٍ، إذا نظرنا في الجملة من حيث المعنى
قلنا: لا يجوز أن يقام يوم الجمعة مقام الفاعل، لأنه وجد مفعول به في
المعنى وهو زيد، كما ذكرناه سابقاً، مررت زيداً، هذا الأصل، فزيد مفعول
به في المعنى نعم، لكن ليس هذا المراد، المراد مفعول به في اللفظ،
يعني: تعربه هذا مفعول به، وأما المعاني لا، لا التفات لها، وإلا لو
كان الأمر كذلك لقيل: سير يوم الجمعة بزيد، بزيد هو نائب الفاعل، ولا
يجوز أن يكون يوم الجمعة هو نائب فاعل؛ لأن زيد مفعول به في المعنى ليس
هذا المراد لا، العبرة باللفظ هنا:
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هذِي إِنْ وُجِدْ ... فِي اللَّفْظِ: احتراز عما
لو وجد في المعنى، بأن كان الفعل يطلب المفعول به، لكن لم يذكر في
اللفظ فلا يمتنع إنابة غيره، كذلك إذا حذف -هذا الذي أشار إليه-، إذا
حذف حينئذٍ نقول: العبرة بالملفوظ.
في اللفظ وَقَدْ يَرِدُ: قد للتقليل، وقد يرد إنابة واحد من هذه
الأشياء الثلاثة: الظروف والمصادر، والجار والمجرور مع وجود المفعول به
وهو مذهب الكوفيين، لكنهم محجوجين كما سيأتي.
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هذِي إِنْ وُجِدْ ... ... ... فِي اللَّفْظِ: إذا
فقد المفعول به، لم يوجد في الكلام، جاز نيابة كل واحد من المصدر أو
المجرور أو الظرف، أنت مخير، وهذا ظاهر كلام الناظم؛ لأنه لم يفضل
بعضها على بعض، ولم يقدم بعضها على بعض، بل سوى بينها في الحكم:
وَقَابِلٌ مِنْ ظَرْفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ ... أَوْ حَرْفِ جَرٍّ
بِنِيَابَةٍ حَرِي
–حكى-.
ثم قال:
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هذِي إِنْ وُجِدْ ... فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ
بِهِ: حينئذٍ دل على أنه إذا لم يوجد في اللفظ مفعول به ناب أي واحد من
هذه الثلاثة.
فقيل: لا أولوية لواحد منها، يعني: لا نفضل بعضها على بعض، وإنما هي
سواء. وقيل: المصدر أولى، إذا وجد في الكلام غير المفعول به -ظرف ومصدر
وجار ومجرور-، أيها أولى؟ قالوا: المصدر أولى، لماذا؟ لأنه أشرف جزئي
مدلول العامل، مدلول العامل ما هو؟ الزمان والحدث، والحدث هو المصدر،
حينئذٍ صار المصدر أقرب إلى العامل؛ لأنه أحد جزئي مدلول العامل؛ لأن
العامل يدل على شيئين مركب من حدثٍ، وهو مدلول المصدر وزمن.
إذاً: إذا وجد مصدر وظرف وجار ومجرور الأولى أن يجعل المصدر، لأنه أحد
جزئي مدلول العامل.
وقيل: المجرور، قيل: إذا وجد المصدر
والمجرور والظرف فالأولى أن نقدم المجرور، لماذا؟ قال: لأنه مفعول به
بواسطة الجار، -نظروا إلى المعنى،- قيل: المجرور؛ لأنه مفعول به بواسطة
الجر، وقيل: ظرف المكان، إذا وجد ظرف المكان فهو أولى، لكونه أشبه
بالمفعول به منهما، أقرب الأشياء الموجودة بالمفعول هو ظرف المكان
لاشتراكهما في أن الفعل يدل عليهما بدلالة التزام، وهذا سبق معنا: أن
ضربتُ زيداً، ضربتُ هذا يدل بدلالة التزام على مفعول؛ لأن الضرب حدث،
حينئذٍ سبق معنا: أن دلالة الفعل على الفاعل التزامية، على المفعول من
بابٍ أولى، إذا دل الفعل على الفاعل بدلالة التزام، على المفعول أولى؛
لأن الذي يحدث الحدث هذا مقدم على محله، فحينئذٍ نقول: محل الحدث هو
المفعول به، إذاً: دل ضرب على المفعول به دلالة التزام، هذا الضرب أين
يوجد؟ لابد له من ظرف زماني وظرف مكاني، ظرف الزمان دل عليه بالصيغة:
فعل قام الزمن الماضي، يقوم مضارع -حال يعني-، قم هذا في المستقبل.
إذاً: دل بهيئته بصيغته على الزمن، فهي دلالة وضعية، دلالته على المكان
لابد من مكان، أين يوجد الظرف في الهواء؟! لابد من مكان يقع عليه
الظرف، حينئذٍ نقول: دلالته على المكان دلالة التزامية، انظر الظرف
نوعان: مكاني وزماني، الفعل يدل على الزمان بالوضع بالصيغة، كونه على
وزن كذا، فَعَل وفَعُل .. كل الذي يدرس في الصرف دلالة زمانية، أما
الدلالة المكانية خارجة عن اللفظ، حينئذٍ دل الفعل على المفعول به
بدلالة التزام، ودل على ظرف المكان بدلالة التزام، إذاً: اشتبها، كل
منهما أشبه الآخر، وهذا التعليل فيه نظر.
لأن الفعل يدل على المفعول، والظرف المكاني بالالتزام، والصواب: أنه ما
كان المعنى أتم به كان مقدماً، يعني: ينظر إلى المعنى؛ لأنه ليس ثم
مرجح بين هذه الأمور، وكل الأقوال التي ذُكرت نعم في نفسها، نقول:
تعليلات صحيحة، لكنها لا تقتضي أن يكون دائماً في كل تركيب أن يقدم
المصدر؛ لأنه أحد مدلولي العامل، ولا أن يقدم الجار والمجرور لأنه
مفعول به في المعنى، لا، نقول: ننظر إلى المعنى، إن استقام المعنى أكثر
كان له مكانة بجعل الظرف نائب فاعل فهو مقدم، أو جار ومجرور فهو مقدم،
أو مصدر فهو مقدم، دون أن نجعل قاعدة مطردة.
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هذِي إِنْ وُجِدْ ... ... فِي اللَّفْظِ
مَفْعُولٌ بِهِ -بل يتعين إنابته- وَقَدْ يَرِدُ قال الشراح: ضرورة أو
شذوذاً، يعني: لابد من تأويله كما نص الشارح، لابد أن يؤول، مع كونه
جاء في قراءة.
مذهب البصريين إلا الأخفش -الأخفش هذا بصري
يخالف كثير، لذلك دائماً يقال: الأخفش الأخفش؛ لأنه يخالف البصريين-
أنه إذا وجد بعد الفعل المبني لما لم يسم فاعله مفعول به ومصدر وظرف
وجار ومجرور، تعين إقامة المفعول به مقام الفاعل، ضُرِب زيدٌ ضرباً
شديداً يوم الجمعة أمام الأمير في داره، مشوار! ضُرِب: هذا فعل ماضي
مغير الصيغة، زيدٌ نائب فاعل، هو مفعول به، الأصل: ضربَ عمروٌ زيداً
إلى آخره، فحذف عمرو، فأقيم المفعول به مقامه، حينئذٍ يبقى كل شيء في
محله، لا يمكن أن يتعدى الظرف، والمفعول يتقدم عليه أبداً، رتبته أعلى
لا يرفع رأسه، فيبقى المفعول به هو النائب؛ لأنه صار عمدة، كان فضلة
فحينئذٍ صار عمدة، فكل منهما يتنافس، لكن لا يتقدم على المفعول به،
فرُفِع المفعول به فصار زيدٌ، ضُرب زيدٌ انتهينا، ماذا بقي؟ ضرباً
شديداً مصدر، يوم الجمعة ظرف زمان، أمام الأمير مكان، في داره جار
ومجرور، هذه كلها تبقى كما هي، ولا يجوز أن يعرب واحدٌ منها مفعول به،
فلا يقال: ضُرِبَ زيداً ضربٌ شديدٌ على إنابة المصدر، ولا يجوز أن
يقال: ضُرِبَ زيداً ضرباً شديداً يومُ الجمعةِ، ولا يجوز أن يقال:
ضُرِبَ زيداً ضرباً شديداً يوم الجمعة أمامُ الأمير، أو في داره على
أنه هو نائب الفاعل؛ كل ذلك لا يجوز على مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين
أنه يجوز إقامة غيره، وهو موجود مطلقاً تقدم أو تأخر، اتصل بالعامل أو
لا، مطلقاً يجوز، واحتجوا بقراءة أبي جعفر: (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ)، يُجْزِيَ، هذا فعل مغير الصيغة، (قَوْماً) هذا
بالنصب، ليس عندنا إلا مفعول وجار ومجرور، ويَجْزِيَ هذا مغير الصيغة،
لابد من نائب فاعل، ولابد أن يكون إما قَوْماً وإما بِمَا، وبقي
المفعول على حاله، قَوْماًً بالنصب، فدل على أنه لم يُنب عن الفاعل إذ
لو أُنيب لرُفع.
قال: (لُيَجْزِيَ قَوْم) بالرفع، لكن ما
قال: (قومٌ) قال: (قوماً)، فدل على أن النائب هنا الجار والمجرور،
(بِمَا)، فأخذ الكوفيون قاعدة عامة مطردة: أنه يجوز في كل مفعول به وجد
مع ظرف أو إلى آخره أن يناب غير المفعول مع وجوده، وهذه من المآخذ على
مذهب الكوفيين، لماذا؟ الكوفيون ليسوا كالبصريين قطعاً، البصريون
محققون إن صح التعبير، لأن البصريين يقعدون قاعدة في النظر العام
المطرد الكثير في لسان العرب، ثم ما خرج إن أمكن تأويله أولوه ليوافق
القاعدة المطردة، وما لم يمكن حكموا عليه بالشذوذ والضرورة، قاعدة
مطردة المذهب من أوله إلى آخره على هذا، النظر والتقعيد والتأصيل على
المطرد الغالب في لسان العرب، فما خرج من ذلك مخالف للقياس المطرد،
-لذلك سموه قياساً-، وما خالف حكموا عليه بأنه شاذ، ثم ما أمكن تأويله
حملوه على السابق، وإلا حكموا عليه بالشذوذ، الكوفيون لا، يكاد لو جاءت
مائة بيت كلها مختلفة كل بيت، قالوا: يجوز .. يجوز يجوز، هذه مشكلة ما
ينضبط النحو بهذه الصورة، حينئذٍ النظر في المفعول به، يعني: في القرآن
وفي السنة وفي الأشعار .. إلى آخره، لا يكاد أن يخرج إذا وجد المفعول
به أن يبقى المفعول منصوباً ويناب غيره، قليل جداً هذا، لا يمكن أن
يجعل قاعدة، وإنما نقول: القاعدة المطردة الفصيحة التي ينبغي التعويل
عليها، هي: أنه لا يناب إلا المفعول به إن وجد، وإن ورد قليلاً، حينئذٍ
قد يقال بأنه إما شاذ إذا لم يصح في قراءة معينة، وإما أن نقول: هذا
يصح لغة لكنه قليل ليس بالمطرد، يعني: يُلجأ إليه عند الحاجة إما من
جهة المعنى أو من جهة أخرى، فينظر فيه نظر خاص، لكن لا يجعل قاعدة
مضطردة بأنه مساوٍ لتلك القاعدة، هذا ليس بجيد.
إذاً: مذهب الكوفيين مستدلين: (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا).
وقول الشاعر:
لَمْ يُعْنَ بِالعَلْيَاءِ إلاّ سَيِّداً ... ولاَ شَفَى ذَا الغَيِّ
إِلاَ ذُو هُدَى
لَمْ يُعْنَ بِالعَلْيَاءِ: بالعلياء جار ومجرور نقول: هذا نائب فاعل.
إلاّ سَيِّداً: إلا سيدٌ دل على أنه لم يُنِب سَيِّداً إذ لو أنابه
لرفعه، ومذهب الأخفش التفصيل، الكوفيون: سواء تقدم أم تأخر يعني اتصل
بالعامل أو انفصل يجوز، مذهب الأخفش: لا، إذا تقدم غير المفعول به عليه
جاز إقامة كل واحد منهما، ضُرِبَ في الدار زيدٌ، ضُرِبَ في الدار
زيداً؛ لأنه تأخر، فلما فصل بين العامل والمفعول به في الدار جاز أن
يناب في الدار أو المفعول أنت مخير.
وإن لم يتقدم تعين إقامة المفعول به: ضُرِبَ زيد في الدار، إذا تقدم
اتصل بالعامل تعين أن يكون هو نائب الفاعل، وهذا أقرب من مذهب
الكوفيين، لكن يرده الآية: (لِيَجْزِيَ قَوْماً)، المفعول به متصل هنا
بالعامل.
على كلٍ الأصل القاعدة المطردة: هو أنه لا يناب إلا المفعول به، وإن
على جهة القلة أنيب غير المفعول به لا بأس به، ولذلك قال: وَقَدْ
يَرِدُ.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ مِنْ ... بَابِ كَسَا فِيمَا
الْتِبَاسُهُ أُمِنْ
فِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ ... وَلاَ أَرَى مَنْعَاً
إِذَا الْقَصْدُ ظَهَرْ
وَبِاتِّفَاقٍ: الآن انتقل إلى المفعول
الثاني والثالث مما يتعدى، سبق أننا أشرنا في قوله: يَنُوبُ مَفْعُولٌ
بِهِ عَنْ فَاعِلِ، قلنا: هذا مفعول واحد، وقد يكون ثم تفصيل يأتي في
محله فيما إذا كان مفعولاً ثانياً أو ثالثاً إلى آخره.
هنا شرع فيه، ما يتعدى إلى مفعولين، ذكرنا فيما سبق أنه على نوعين، منه
ما ينصب المبتدأ والخبر، وهو باب ظن وأخواتها، ومنه ما لا ينصب المبتدأ
والخبر، يعني: ما ليس أصل المفعولين المبتدأ الخبر، وهو باب كسا وأعطى،
هذا هو المقصود، بقي نوع واحد مما يتعدى إلى مفعولين، لكنه ليس تعدياً
أصلياً، وإنما هو بإسقاط حرف الجر، اخترت الرجال محمداً، هذا تعدى إلى
واحدٍ بنفسه محمداً، والرجال بنزع الخافض، أصلها: اخترت من الرجال
محمداً، هذا يتعدى إلى مفعولين اختار، حينئذٍ نقول: هذا لم يتعد بنفسه
أصالة، وإنما جعل باعتبار النهاية، أي: أنه بعد ما أسقط، -وبعضهم يحمل
قوله تعالى: ((وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ)) [الأعراف:155]، يعني: من
قومه: ((وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ)) قَوْمَهُ مفعول به، ((وَاخْتَارَ
مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا)) يعني: من قومه، قَوْمَ هذا مفعول
به، لكن ليس مفعول أصالة، وإنما هو بنزع الخافض، ونزع الخافض هذا
سيأتينا بحثه إن شاء الله هناك.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ مِنْ ... بَابِ كَسَا فِيمَا
الْتِبَاسُهُ أُمِنْ
هذا أراد فيه ما تعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، إذا
أردنا أن ننيب، هل ننيب الأول أو ننيب الثاني، أو هما معاً، أو لا هذا
ولا ذاك؟ يحتمل أربعة أوجه، لا هذا ولا ذاك هذا بعيد فاسد، هما معاً،
هذا سيأتي أنه:
وَمَا سِوَى النَّائِبِ ممَّا عُلِّقَا ... أن الفاعل لا يتعدد، كذلك
ما ناب عنه، فلا يتعدد نائب الفاعل، فلا يمكن أن يناب المفعولان، بقي
الاثنان، الأول: باتفاق أنه يجوز في باب كسا، والثاني: هو الذي محل
خلاف.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ مِنْ ... بَابِ كَسَا فِيمَا
الْتِبَاسُهُ أُمِنْ
مِنْ بَابِ كَسَا، وهو كل فعل نصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر،
ولم ينصب أحدهما بإسقاط الجر، وهذا ذكرناه في اخترت.
فبالأول خرج باب ظن، ليس أصلهما المبتدأ والخبر، وبالثاني: خرج نحو:
اخترت الرجال زيداً، إذاً باب كسا وأعطى، كل فعل ينصب مفعولين ليس
أصلهما المبتدأ والخبر ويتعدى إليهما بنفسه لا بواسطة حرف جر ثم يسقط.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ: المصنف هنا نقل الاتفاق وقيل هذا الاتفاق
مخروق، نقل الإجماع دائماً هذا عسير.
قال: وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ مِنْ ... ... بَابِ كَسَا:
يعني: الثاني يجوز إنابته عن الفاعل إذا حذف، ويبقى الأول على نصبه،
متى؟ قال: فِيمَا الْتِباسُهُ أُمِن: مفهومه: إذا لم يؤمن الالتباس لا
يجوز أن يناب الثاني مناب الفاعل.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ: قد ينوب المفعول الثاني،
الثَّانِ ما إعرابه؟
فاعل مرفوع ورفعه ضمة المقدرة على الياء محذوفة، هذا تخفيف-الثَّانِ-،
على الياء المحذوفة.
وَبِاتِّفَاقٍ: نقول: هذا متعلق بقوله:
يَنُوبُ، قَدْ يَنُوبُ ِباتِّفَاقٍ، الثَّانِ: هذا فاعل، مِنْ بَابِ
كَسَا، هذا حال من الفاعل من الثَّانِ، فِيمَا الْتِباسُهُ أُمِن،
يعني: في الذي الْتِباسُهُ: مبتدأ، أُمِن: خبر المبتدأ والجملة لا محل
لها صلة الموصول، يعني: في تركيب أمن فيه التباس، فإذا وجد لبس وجب
إقامة الأول، هذا مفهوم ما ذكرناه.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ مِنْ ... ... بَابِ كَسَا: يعني:
أن النحاة اتفقوا على جواز نيابة المفعول الثاني من باب كسا، وذلك مع
أمن اللبس، هذا مراده بالبيت؛ أن النحاة اتفقوا على جواز نيابة المفعول
الثاني من باب كسا، فتقول: كسوت زيداً جبة، كُسي زيداً جبةٌ، جبةٌ هو
المفعول الثاني، يجوز؟ قالوا: يجوز باتفاق، كُسي زيدٌ جبةً هذا إنابة
الأول، محل وفاق هذا، كسي زيداً جبةٌ، هل فيه لبس؟ ليس فيه لبس، أعطي
زيدٌ درهماً إنابة الأول، أعطي زيداً درهمٌ إنابة الثاني، فيه لبس؟
أعطي زيدٌ عمراً، أعطي زيداً عمروٌ، فيه لبس عمرو وزيد من الآخذ ومن
المأخوذ، إذا قلت: أعطي زيدٌ عمراً، فزيد الآخذ، وعمراً مأخوذ، إذا
عكست قلت: يجوز، قلت: أعطي زيداً عمروٌ صار عمرو هو الآخذ وزيداً هو
المأخوذ التبس المعنى، حينئذٍ في مثل هذا التركيب: أعطي زيداً عمروٌ لا
يجوز إقامة الثاني، بل يتعين إقامة الأول، لوجود اللبس، فيقال: أعطي
زيدٌ عمراً واجب هذا، ولا يجوز أن يقال: أعطي زيداً عمروٌ، وأما أعطي
زيدٌ درهماً والعكس نقول: هذا صحيح وجائز، لأمن اللبس، هذا ما أراده
الناظم.
يعني: أن النحاة اتفقوا على جواز نيابة المفعول الثاني من باب كسا،
وذلك مع أمن اللبس، وفهم من سكوته عن الأول -ما تكلم عن الأول- وفهم من
سكوته عن الأول أنه يجوز نيابته باتفاق لدخوله في عبارته السابقة:
(يَنُوبُ مَفْعُولٌ بِهِ عَنْ فَاعِلِ)، حينئذٍ ترجع تقول: يَنُوبُ
مَفْعُولٌ بِهِ هذا إذا كان له مفعول واحد، والمفعول الأول من باب كسا،
وهذا محل وفاق.
والثاني على رأي الناظم هنا فيما إذا أمن التباسه.
وفهم من سكوته عن الأول أنه يجوز نيابته باتفاق لدخوله في عبارته
السابقة: يَنُوبُ مَفْعُولٌ بِهِ عَنْ فَاعِلِ.
إذاً: الحاصل نقول: إذا تعدى الفعل لأكثر من مفعولين، فنيابة الأول
جائزة باتفاق، ونيابة الثالث قيل ممتنعة باتفاق والصواب أن فيها
خلافاً، الثالث، هذا سيأتي إن شاء الله، ممتنعة باتفاق، والصواب: أن
بعضهم أجاز نيابة الثالث إن لم يلبس سيأتي تفصيله، وفي باب كسا إن ألبس
إقامة الثاني امتنع اتفاقاً، الثاني إن ألبس نيابته امتنع، مثل: أعطي
زيدٌ عمراً، هذا واجب النصب، أعطي زيداً عمروٌ هذا باتفاق لا يجوز
لوجود اللبس، لا تدري من الآخذ ومن المأخوذ التبست الأمور، وإن لم
يلبس، الناظم حكى الاتفاق على الجواز، إن لم يلبس أمن اللبس، ابن مالك
نقل الإجماع الاتفاق، وإن كان بعضهم يفصل بين الاتفاق والإجماع.
وإن لم يلبس جاز مطلقاً، وقيل: يمتنع
مطلقاً، وقيل: إن لم يُعتَقَد القلبُ، وقيل: إن كان نكرة يعني: الثاني،
والأول معرفة، هذه أربعة أقوال، ابن مالك يقول: بِاتِّفَاقٍ، والخلاف
موجود، هذا مثل الفقهيات هناك، إجماع! وترى المسألة مبثوثة وفيها خلاف
سابق.
وعلى القول بالجواز، فقال البصريون: إقامة الأول أولى، إذا قيل بالجواز
مع أمن اللبس، وهذا هو الظاهر، إذا أمن اللبس نقول: جائز، لكن إذا قيل
بالجواز أيهما أولى؟ كسي زيدٌ جبةً، أو كُسي زيداً جبةٌ أيهما أولى أو
ذاك؟ قيل: الأول أولى، إقامة الأول أولى، وقيل: إن كان الأول نكرة
فإقامته قبيحة، وإن كان معرفتين استويا في الحسن.
على كل في مثل هذا الصواب أن يقال: ينظر إلى المعنى، إذ لا ينفك النحو
عن البيان، فإذا اقتضى المعنى البياني البلاغي إقامة الأول أقيم، وإن
اقتضى المعنى إقامة الثاني أقيم الثاني، ولا نقول يرجح مطلقاً هكذا،
لا، وإنما نقول: ينظر إلى المعنى وهذا أجود، لذلك لا انفكاك هذا عن
ذاك.
وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِ مِنْ ... بَابِ كَسَا فِيمَا
الْتِبَاسُهُ
فِيمَا الْتِباسُهُ يعني: في تركيب أمن فيه التباس، فإن لم يؤمن رجعنا
للأصل وهو المنع.
قال ابن عقيل: إذا بني الفعل المتعدي إلى مفعولين لما لم يسم فاعله،
فإما أن يكون من باب أعطى أو من باب ظن.
فإن كان من باب أعطى، وهو المراد بهذا البيت، فذكر المصنف أنه يجوز
إقامة الأول منهما وكذلك الثاني، يجوز الاثنان.
قال: ذكر المصنف: يجوز إقامة الأول منهما، أين ذكره؟ هو يقول:
الثَّانِي، وَبِاتِّفَاقٍ قَدْ يَنُوبُ الثَّانِي، ما قال الأول، لكن
قلنا هذا بالمفهوم، بالمفهوم دل على أن الأول باتفاق يجوز إنابته، هذا
لا خلاف فيه، وكذلك الثاني بالاتفاق، فتقول: كُسِي زيدٌ جبةً، كُسِي
فعل ماضٍ مغير الصيغة، وزيدٌ نائب فاعل، وجبةً مفعول الثاني: وزيدٌ
تقول: نائب فاعل، لكن في المعنى هو المفعول الأول، وجبة هو المفعول
الثاني، فالنظر في المعنى مفعول -في زيد-، والنظر إلى اللفظ والإعراب
هو نائب فاعل، مع كون المفعول له حكم المغاير للفاعل من حيث الإعراب،
هذا منصوب وهذا مرفوع، هذا فضلة وهذا ليس بفضلة، وحينئذٍ المعنى شيء
والإعراب شيء آخر، لا يلزم منهما كل منهما يلزم الآخر لا، قد يتمم
المعنى الإعراب وقد يكون العكس.
وأُعطي عمروٌ درهماً: أُعطي فعل ماضي مغير الصيغة، وعمروٌ نائب فاعل،
ودرهماً مفعول ثاني، وإن شئت أقمت الثاني: أعطي عمراً درهمٌ وكسي زيداً
جبةٌ لعدم اللبس، هذا إن لم يحصل لبس بإقامة الثاني، فإذا حصل لبس وجب
إقامة الأول: أعطيت زيداً عمراً، هنا يجب أن تقول: أعطي زيدٌ عمراً،
ولا يجوز العكس، لا يجوز إقامة الثاني؛ لئلا يحصل لبس؛ لأن كل واحد
منهما يصلح أن يكون آخذاً بخلاف الأول.
قال: ونقل المصنف الاتفاق (وَبِاتِّفَاقٍ) نقول: نقل الاتفاق هذا فيه
نظر، فمذهب الكوفيين منع إقامة الثاني إذا كان نكرة والأول معرفة،
وقيل: بالمنع مطلقاً، هذا في الجملة ثلاثة أقوال.
فِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ ... وَلاَ أَرَى مَنْعَاً
إِذَا الْقَصْدُ ظَهَرْ
فِي بَابِ ظَنَّ: هذا الباب الثاني، وهو ما
إذا تعدى إلى مفعولين، أصلهما المبتدأ والخبر، وكذلك أرى فيما إذا تعدى
إلى مفعولين بهمزة النقل وأصلهما المبتدأ والخبر، فحينئذٍ الأول هذا
مفعول به حقيقة، والثاني والثالث هما في الأصل مبتدأ وخبر، فالحكم هنا
يتعلق ببابين، باب ظن وباب أعلم.
الْمَنْعُ اشْتَهَرْ: يعني: المنع في إقامة الثاني اشتهر في البابين
مطلقاً، اشتهر عن النحاة.
وَلاَ أَرَى مَنْعاً إذَا الْقَصْدُ ظَهَرْ: إذَا الْقَصْدُ ظَهَرْ إذا
بان المعنى واتضح، ولم يحصل لبس حينئذٍ لا داعي لأن يقال بالمنع إذ
الأصل الجواز، الأصل في باب المفعول به جواز أن يكون نائباً عن الفاعل
سواء كان الأول أو الثاني أو الثالث هذا الأصل، يحذف الفاعل فينوب عنه
المفعول به، والمفعول به قد يتعدد، حينئذٍ الأصل الجواز، إقامة الأول
أو الثاني دون الأول أو العكس أو الثالث، نقول: الأصل الجواز، متى
يمنع؟ نقول: إن حصل لبس، إن لم يحصل لبس نرجع إلى الأصل، والأصل بقاء
ما كان على ما كان.
فِي بَابِ ظَنَّ .. الْمَنْعُ اشْتَهَرْ: الْمَنْعُ مبتدأ واشْتَهَرْ
الجملة خبر، وفِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى متعلق به.
الْمَنْعُ: من إقامة المفعول الثاني، لا زال الحديث في إقامة المفعول
الثاني، وأما الأول هذا سبق بيانه، الأول قلنا: هذا متفق عليه.
المنع من إقامة المفعول الثاني اشتهر عن النحاة مطلقاً، سواء أمن اللبس
أو لا، قالوا: مطلقاً، لا يجوز إقامة المفعول الثاني في باب ظن، وإن
أمن اللبس فلا يجوز عندهم ظُنَّ زيداً قائمٌ، ظننت زيداً قائماً، ظُنَّ
زيدٌ قائماً، هذا واجب عندهم، ظُنَّ زيداً قائمٌ لا يجوز حرام -نحواً
يعني-.
حينئذٍ ظُنَّ زيداً قائمٌ هنا أقيم الثاني مع أمن اللبس، لو قيل: ظُنَّ
زيداً عمروٌ قد يقال: بأنه وقع فيه لبس، من الظان ومن المظنون إلى
آخره، حينئذٍ نقول: وقع اللبس فيمنع، أما إذا لم يقع لبسٌ ظُنَّ زيداً
قائمٌ نقول: الأصل الجواز.
فلا يجوز عندهم ظُنَّ زيداً قائمٌ، كذلك في باب أعلم، ولا أُعْلِمَ
زيداً فرسك مسرجاً، أعلمتُ زيداً فرسك مسرجاً.
إذاً: فِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ قلنا: هذا اشتهر عن
النحاة، وإن أمن اللبس، فلا يجوز عنده: ظُنَّ زيداً قائمٌ، هذا في باب
ظن فيما أصله مبتدأ وخبر، وكذلك ولا أُعْلِمَ زيداً فرسك مسرجاً، هنا
أقام المفعول الثاني، هذا لا يجوز عندهم، لماذا؟ لأنه مفعول ثاني سيأتي
التعليل، وعلى كلام ابن مالك رحمه الله: وَلاَ أَرَى مَنْعاً إذَا
الْقَصْدُ ظَهَرْ: هنا ليس فيه لبس، إذا ظهر المعنى ولم يحصل التباس،
حينئذٍ الأصل الجواز، فيجوز إقامة الأول: أُعْلِمَ زيدٌ فرسك مسرجاً،
ويجوز إقامة الثاني، ونقل الإجماع على منع الثالث وفيه خلاف.
فِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ: يعني: أن نيابة المفعول
الثاني من باب ظن وهو ما هو خبر في الأصل، والمفعول الثاني من باب أرى،
-قصد أعلم، لكن ما جاء، هو الأصل أن يعبر بأعلم، لكن ما جاء به الوزن،
فجاء بأرى،- وأصله المبتدأ اشتهر منعه عند النحاة.
ووجهه -وجه المنع في باب ظن- أنه خبر في
الأصل، والنائب عن الفاعل مخبر عنه فتنافيا، لأن المفعول الثاني خبر في
الأصل، هذا في باب ظن: ظُنَّ زيدٌ قائماً، هذا الأصل، ظُنَّ زيداً
قائمٌ هذا يمتنع قائمٌ بالرفع؛ لأنه خبر في الأصل، وإذا جعلته نائب
فاعل صار مخبراً عنه، كيف الشيء يكون خبراً، وهو مخبر عنه؟ قالوا: هذا
تنافٍ فيمنع، وهو اجتهاد.
ووجه المنع في باب رأى أن المفعول الأول مفعول به حقيقة، الذي ذكرناه،
المفعول الأول: أعلم زيدٌ عمراً فرسه مسرجاً، زيداً الأول هذا نقول: هو
مفعول به؛ لأنه كان فاعلاً قبل دخول همزة النقل، الثاني والثالث أصلهما
المبتدأ والخبر، حينئذٍ إذا وجد الأول صار الثاني والثالث كوجود الظرف
والمصدر مع المفعول؛ لأن الأول مفعول حقيقة، والثاني ليس مفعولاً حقيقة
ولا الثالث، فإذا وجدت هذه الثلاثة، حينئذٍ تعين أن يقام الأول، لأنه
مفعول به حقيقة، والثاني والثالث منصوبان على أنهما مفعولان أيضاً، لكن
الثاني والثالث كالمصدر والظرف مع المفعول، فلا يقام المصدر ولا الظرف
مع وجود المفعول به حقيقة، هذه علة المنع عند الجمهور.
في باب ظن وباب أرى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ: الْمَنْعُ مبتدأ واشْتَهَرْ
الجملة خبر، وعرفنا التعليل وجه المنع في باب رأى؛ أن المفعول الأول
مفعول به حقيقة، فينزل المفعول الثاني والثالث مع الأول منزلة الظرف
والمجرور مع وجود المفعول به فامتنع، كأنه عمم القاعدة:
وَلاَ يَنُوبُ بَعْضُ هَذِي إِنْ وُجِدْ ... فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ
بِهِ وَقَدْ يَرِدْ
فالحكم يصير حينئذٍ عام.
وَلاَ أَرَى مَنْعاً: هنا أطلق الناظم صحة وقوع الثاني نائب فاعل بعد
حذفه: وَلاَ أَرَى مَنْعاً، منعاً من ماذا؟ من إقامة الثاني، ثم إقامة
الثاني في باب ظن قد يكون جملة، فهل الحكم عام أم أنه خاص بما ليس
جملة؟ سبق أن نائب الفاعل لا يكون جملة، كما أن الفاعل لا يكون جملة،
ولذلك أُخذ على الناظم الإطلاق هنا قيل: أن إطلاقه يدخل فيه المفعول
الثاني في باب ظن إذا كان جملة وليس الأمر كذلك، لابد من التخصيص.
وَلاَ أَرَى مَنْعاً: من إقامة الثاني مقام الفاعل إذا حذف، هذا عام،
يشمل ماإذا كان جملة وما إذا كان مفرداً، مع أنه يمتنع إقامة الجملة
مقام الفاعل، -أخذ على الناظم ذلك-، يشترط لإنابة المفعول الثاني مع
أمن اللبس أن لا يكون جملة، فإن كان جملة امتنعت إقامته أو إنابته
اتفاقاً.
وَلاَ أَرَى مَنْعاً إذَا الْقَصْدُ
ظَهَرْ: فهم من كلامه: أنه لا خلاف في جواز إنابة المفعول الأول في
الأبواب الثلاثة كلها كما سبق، الأول في باب كسا، وفي باب ظن، وفي باب
أرى، كلها جائزة أن يناب الأول مناب الفاعل، فيكون نائب فاعل ولا إشكال
فيه، وقد صرح به في شرح الكافية كما سبق، يعني: أنه إذا كان الفعل
متعدياً إلى مفعولين الثاني منهما خبرٌ في الأصل كظن وأخواتها، أو كان
متعدياً إلى ثلاثة مفاعيل كأرى وأخواتها، فالأشهر عند النحويين أنه يجب
إقامة الأول، سواء كان من باب ظن، أو من باب أعلم وأرى، أما أعلم وأرى
واضح أنه مفعول به حقيقة، وأما باب ظن؛ لأنه مبتدأ والمبتدأ مخبر عنه
في المعنى، ونائب الفاعل مخبر عنه في المعنى فاتفقا، بخلاف الثاني فهو
خبر في الأصل، ونائب الفاعل مخبر عنه، فكيف يكون الشيء خبراً ويكون
مخبرٌ عنه! هذا محل نظر.
ويمتنع إقامة الثاني في باب ظن، والثاني والثالث في باب أعلم، فتقول:
ظُنَّ زيدٌ قائماً، ظُنَّ هذا فعل أمر أو ماضي؟ ماضي، لم لا يكون أمر؟
لا يدخل معنا فعل أمر: فَأَوَّلَ الْفِعْلِ اضْمُمَنْ قلنا: هناك الفعل
ماضي ومضارع فقط، الأمر لا وجود له، وظُنَّ في الصيغة في اللفظ موافق
للأمر، موافق ظُنَّ يا زيدُ كذا، وظُنَّ زيدٌ قائمٌ نقول: هذا في اللفظ
موافق مثل: خُصَّ.
ظُنَّ زيدٌ قائماً، ظُنَّ هذا فعل ماضي مغير الصيغة مبني على الفتح لا
محل له من الإعراب، زيدٌ نائب فاعل وقائماً هذا مفعول ثاني لـ (ظُنَّ)،
ولا يجوز أن تقول: ظُنَّ زيداً قائمٌ بإقامة الثاني ونصب الأول هذا غير
جائز، لما ذكرناه من علة.
أُعلِمَ زيدٌ فرسك مسرجاً هذا أقيم فيه الأول، أعلمت زيداً فرسك
مسرجاً، أعلمت زيداً حذفت التاء، أُعلِمَ زيدٌ أقمنا الأول، فرسك
مسرجاً: فرسك مفعول ثاني، بقي كما هو ومسرجاً مفعول ثالث بقي كما هو،
هذا متعين عند الجمهور، ولا يجوز إقامة الثاني: أُعلِمَ زيداً فرسُك
مسرجاً، برفع فرسُك، ونصب زيداً الذي هو المفعول الأول، ونصب مسرج الذي
هو المفعول الثالث، هذا لا يجوز عندهم، ولا إقامة الثالث، فتقول:
أُعلِمَ زيداً فرسَك مسرجٌ، برفع الثالث هذا غير جائز عند الجمهور،
ونقل ابن أبي الربيع الاتفاق على منع إقامة الثالث، ونقل الاتفاق أيضاً
ابن المصنف، لكن هذا كله فيه نظر، وذهب قوم منهم المصنف إلى أنه لا
يتعين إقامة الأول لا في باب ظن ولا في باب أعلم، لكن يشترط أن لا يحصل
لبس، وهذا أصح، في باب النيابة كما ذكرنا حتى في المفاعيل ينظر إلى
المعنى، إن كان المفعول الأول إقامته أجود من حيث المعنى البياني
البلاغي أقيم، وإن كان الثاني كذلك وإن كان الثالث، لا نكون ظاهريين
هكذا، لابد من النظر إلى القاعدة مع المعنى البياني، فتقول: ظُنَّ
زيداً قائمٌ وأُعلِمَ زيداً فرسُك مسرجاً، هذا كله جائز.
وأما إقامة الثالث من باب أعلم فنقل
الاتفاق على منعه، وليس كما قيل، يعني: أجازه بعضهم حيث لا لبس، وهذا
صحيح أيضاً، وأما كونه خبراً .. وإلى آخره، نقول: هذه التعليلات كلها
قبل دخول أعلم، فلما دخلت أعلم حصل فيه نوع تغير، وإلا لو كان المعنى
قبل دخول أعلم وبعده سيان مستويان من كل وجه لا فائدة من وجود أعلم لا
بالهمزة ولا بالفعل نفسه، بل نقول: ثم تغير حصل بعد دخول أعلم وأرى غير
المعنى ولو من جهة التمام عما كان عليه سابقاً.
فلو حصل لبس تعين إقامة الأول في باب ظن وأعلم، نعم، لو حصل لبس تعين
الأول، لابد من ضبطها، لو حصل لبس تعين إقامة الأول في باب ظن وأعلم،
كما هو الشأن في باب كسا، فلا تقل: ظُنَّ زيداً عمروٌ، على أن عمروٌ هو
المفعول الثاني، ولا أُعلِمَ زيداً خالدٌ منطلقاً، لو غيرت وبدلت:
خالداً، وخالدٌ .. إلى آخره، قد يحصل نوع لبس، حينئذٍ إذا حصل اللبس
تعين إقامة الأول.
فِي بَابِ ظَنَّ وَأَرَى الْمَنْعُ اشْتَهَرْ ... وَلاَ أَرَى مَنْعَاً
إِذَا الْقَصْدُ ظَهَرْ
هذا النظم قالوا فيه أمور، أولاً: حكاية الإجماع، فالإجماع الاتفاق.
الأصل أن الإجماع هو اتفاق، إذاً: أخذنا الاتفاق جنساً في حد الإجماع،
كاصطلاح عند الأصوليين الاتفاق هو الإجماع والإجماع هو الاتفاق ولا
خلاف بينهم، لكن قد يعبر بعض الفقهاء بكلمة اتفاق على ما اصطلحوا عليه،
إما اتفاق أرباب المذهب، إما اتفاق الأصوليين فحسب، إما اتفاق النحاة
.. إلى آخره، فيكون أخص من حيث الاصطلاح، أما الحجة الشرعية الذي هو
قسيم للكتاب والسنة فالإجماع هو الاتفاق، فإذا قيل: اتفقوا –الفقهاء-
بمعنى أجمعوا، وإذا قيل أجمعوا بمعنى اتفقوا فلا فرق بينهما.
هنا حكى الاتفاق، وقلنا: المسألة فيها خلاف، قال: وَبِاتِّفَاقٍ، إذاً:
نأخذ على النظم أنه حكى الإجماع.
ثانياً: عدم اشترط كون الثاني من باب ظن ليس جملة، قال: وَلاَ أَرَى
مَنْعاً، وهذا فيه خلل؛ لأنه ولا أرى منعاً من إقامة الثاني مطلقاً ولو
كان جملة، وهذا ممنوع باتفاق.
الثالث: إيهام أن إقامة الثالث غير جائزة باتفاق، هذه ثلاثة أمور ذكرها
للتوضيح مما أخذ على الناظم.
وَمَا سِوَى النَّائِبِ مِمَّا عُلِّقَا ... بِالرَّافِعِ النَّصْبُ
لَهُ مُحَقَّقَا
إذا عرفنا أن الفعل يتعدى إلى مفعولين أو أكثر وأنبنا واحداً من هذه
المفاعيل، فما حكم المفاعيل الأخرى؟
قلنا: القاعدة: أن نائب الفاعل جرى مجرى الفاعل، والفاعل لا يتعدد،
فكذلك نائب الفاعل لا يتعدد، فإذا قلنا: ظُنَّ زيدٌ، أقمنا الأول،
الثاني حكمه واجب النصب، لا نقل: ظُنَّ زيدٌ قائمٌ فحينئذٍ زيدٌ هذا
نائب فاعل أول، وقائمٌ نائب فاعل ثاني، لا، يبقى المنصوب على حاله،
والعامل فيه ظُنَّ، وأُعْلِمَ، أُعْلِمَ زيدٌ أقمنا الأول، فرسك مسرجة،
يبقى الثاني والثالث منصوب، وهذا ليس خاص بالمفاعيل، بل يشمل الظروف
والمصادر والمفعول المطلق، كل ما يتعلق به الفعل إذا أقيم نائب الفاعل
بقي الباقي على أصله.
وَمَا سِوَى النَّائِبِ ممَّا عُلِّقَا ... بِالرَّافِعِ النَّصْبُ
لَهُ مُحَقَّقَا
وَمَا هذا اسم موصول بمعنى الذي، والذي
سِوَى النَّائِبِ، والذي استقر سِوَى النَّائِبِ، يعني: سوى ذلك
النائب، ممَّا هذا متعلق بما تعلق به سِوَى، والذي استقر سوى ذلك
النائب ممَّا عُلِّقَا بِالرَّافِعِ، بمعنى عمل فيه الرافع، علقناه
بالرافع، ظُنَّ زيدٌ، زيدٌ هذا رفعناه وعلقناه بالعامل وهو ظُنَّ؛ لأن
العلقة والارتباط والعمل كل هذه مترادفة، المراد أن هذا المعمول مرتبط
بهذا العامل، فزيدٌ بالرفع نقول: هذا له علاقة، وله ارتباط وكونه
معمولاً لـ (ظُنَّ)، معاني واحدة، بمعنى أنه قد أثر فيه الرفعَ على أنه
نائب فاعل، علق بالعامل، نقول: علقناه بالعامل، بمعنى ماذا؟ أننا
أعملنا العامل فيه الرفع، قائماً علقناه بالعامل، بمعنى أننا أحدثنا
وأثرنا بالعامل فيه النصبَ، هذا المراد بالتعليق:
وَعُلْقَةٌ حَاْصِلَةٌ بِتَابِعِ ... كَعُلْقَةٍ بِنَفْسِ الاِسْمِ
الوَاقِعِ
وَمَا سِوَى النَّائِبِ ممَّا عُلِّقَا: الألف هذه للإطلاق.
عُلِّقَا بِالرَّافِعِ: يعني: علق على جهة كونه مرفوعاً، والعامل
حينئذٍ يكون رافعاً وناصباً، ظُنَّ زيدٌ قائماً رفع ونصب، رفع زيد على
أنه نائب فاعل، ونصب قائماً على أنه مفعول ثاني له، علقنا نائب الفاعل
بـ (ظُنَّ).
قال: النَّصْبُ لَهُ مُحَقَّقَا .. سِوَى النَّائِبِ .. النَّصْبُ لَهُ
مُحَقَّقَا-: على أصلها، النَّصْبُ هذا مبتدأ، ولَهُ هذا خبره
ومُحَقَّقَا الألف هذه بدل عن التنوين، مُحَقَّقَا هذا حال، إما لفظاً
إن لم يكن جاراً ومجروراً أو محلاً إن يكن جاراً، كيف هذا؟ لو قلت:
ضُرِبَ زيدٌ في داره، ضُرِبَ زيدٌ يوم الجمعةِ، ضُرِبَ زيدٌ، زيدٌ هذا
نائب فاعل، يوم الجمعة بقي على أصله، النَّصْبُ لَهُ مُحَقَّقَا، لفظاً
أو تقديراً أو محلاً؟ لفظاً، ضُرِبَ زيدٌ يوم الجمعة، علقنا زيد بضرب
على أنه نائب فاعل وهو الرافع له -ضُرِبَ-، يومَ نقول: منصوب على
الظرفية العامل فيه ضُرِبَ نفسه، إذاً: رفع ونصب، والنصب هنا لفظي،
ضُرِبَ زيدٌ في بيته في داره، زيدٌ هذا الرافع له ضُرِبَ، في داره بقي
على أصله، وهو كونه في المحل منصوباً؛ لأنه في المعنى مفعول به وقع
عليه الفعل، فحينئذٍ نقول: في داره النَّصْبُ لَهُ مُحَقَّقَا لكنه
محلاً لا لفظاً.
وَمَا سِوَى: مَا هذا اسم موصول بمعنى الذي يعم جميع المنصوبات
كالظروف، ظروف الزمان والمكان والحال والتمييز والمفعول معه وله
والمصدر، فتقول: أعطي زيدٌ درهماً يوم الجمعة أمام زيدٍ إعطاءً، أعطي
زيدٌ: أعطي هذا مغير الصيغة، زيدٌ نائب فاعل، درهماً: مفعول به، الأول
أو الثاني؟ الثاني: بقي على أصله منصوب؟ بقي على أصله، يوم الجمعة ظرف
زمان، أمام زيدٍ مكان، إعطاءً، هذا مفعول مطلق –مؤكِّد-، حينئذٍ بقي
على أصله، و (ما) شمل كل المنصوبات التي تكون في الجملة، فليس خاصاً
بالمفعولات.
وَمَا سِوَى ذلك النَّائِبِ مرفوع على أنه نائب فاعل، ممَّا عُلِّقَا
بِالرَّافِعِ، يعني: الذي جُعل ارتباطه بالرافع له وهو الفعل مغير
الصيغة، إن أعطيناه ما يرفعه على أنه نائب فاعل، طلبه على أنه نائب
فاعل، ما سواه النَّصْبُ لَهُ مُحَقَّقَا، النَّصْبُ مبتدأ،
ومُحَقَّقَا هذا حال من الضمير لَهُ.
حكم المفعول القائم مقام الفاعل، حكم
الفاعل، فكما أنه لا يرفع الفعلُ إلا فاعلاً واحداً، كذلك لا يرفع
الفعلُ إلا مفعولاً واحداً، الفاعل لا يكون إلا واحداً فالفعل لا يطلب
فاعلين، نائب الفاعل أقيم مقام الفاعل، حينئذٍ لا يطلب الفعل نائبين،
لأن الأصل واحدٌ لا يتعدد، ولذلك امتنع أن يُرفع ثانٍ مع نائب الفاعل.
قال في التوضيح: وغير النائب مما معناه متعلق بالرافع، -وعبارة ابن
هشام دقيقة-، وغير النائب مما معناه متعلق بالرافع؛ لأنه قال: ممَّا
عُلِّقَا -الإلف للإطلاق- بِالرَّافِعِ، يعني: معناه متعلق بالرافع،
طلبه على أنه نائب فاعل.
وغير النائب مما معناه متعلق بالرافع واجب نصبه لفظاً إن كان غير جار
ومجرور، نحو: ضُرِبَ زيد يوم الخميس أمامك ضرباً شديداً، ومن ثم نصب
المفعول الذي لم يُنب في نحو: أُعطِيَ زيد ديناراً، ديناراً بقي على
النصب.
وأعطي دينارٌ زيداً، أو محلاً إن كان جاراً ومجروراً؛ وعلة ذلك أن
الفاعل لا يكون إلا واحداً، فكذلك نائبه.
ونقف على هذا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
!!!
|