شرح ألفية ابن مالك للحازمي

عناصر الدرس
* تتمة لحكم معمول العامل المهمل
* إذا حصل لبس في الإضمار فيجب الإظهار.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد ..
عرفنا الآن حقيقة التنازع، ثم قال الناظم في قوله -رحمه الله تعالى-:
وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَمِيرِ مَا ... تَنَازَعَاهُ والْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا
كَيُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا ... وَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا

(وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ): (الْمُهْمَلَ) مهمل اسم مفعول من الإهمال، أُهمِل يُهمَلُ فهو مُهمَلٌ المراد به الترك، هل المراد به الترك المطلق أو مطلق الترك؟ الترك مطلقاً يُهمل مطلقاً، أو مطلق الترك؟ الثاني، مطلق الترك، بمعنى أنه يعمل في بعض الأحوال، ولذلك قال: (وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ) كيف هو مهمل ثم قال: أعمِل المهمل؟
هذا دليل على أنه مهمل من جهة دون جهة، والمراد به أنه لا يتسلط على الاسم الظاهر فينصبه أو يرفعه، وإنما نجعل له ضميراًَ، إما أن يكون مرفوعاً، وإما أن يكون منصوباً، ولذلك قال: إذا أعملت الثاني وأهملت الأول لم تجعل الظاهر له معمولاً، حينئذٍ ماذا تفعل؟
وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ -الأول- الذي لم تسلطه على الاسم الظاهر فِي ضَمِيرِ مَا تَنَازَعَاهُ، يعني في ضميرٍ يعود على الاسم المتنازع فيه.
(والْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا) يعني إن كان هذا الضمير مرفوعاً على أنه فاعل، حينئذٍ التزم ذكره، وإن كان مفرداً، حينئذٍ التزم إفراده ليطابق المفسر، وإذا كان مثنىً التزم تثنيته ليطابق المفسر، وكذلك الجمع، حينئذٍ على هذا نجعل البيت عام، وما بعده تخصيص له.
(وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ) مطلقاً سواء كان يحتاج إلى مرفوع، أو إلى منصوب، سواءٌ كان الأول أو الثاني مطلقاً، وسيأتي تخصيص الأول بأنه لا يعمل إلا في المرفوع دون المنصوب، ويبقى الثاني مطلقاً يعمل في المرفوع وفي المنصوب، وسيأتي مزيد بيان.
(وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ) عرفنا المهمل هو الذي لم يعمل في الاسم الظاهر مع توجهه إليه في المعنى، حينئذٍ يُعمل في ضميره العائد على ذلك الاسم؛ لأنه إما أن يسلط على الاسم الظاهر، وهذا قد أعطيناه الثاني مثلاً، حينئذٍ الأول كيف نفعل معه؟ نعطيه ضميراً يعود على الاسم الظاهر، حينئذٍ توافقا، كلٌ منهما عمل في الاسم، لكن ذاك في مظهره وهذا في مضمره، كلاهما قد عملا في الاسم، لكن واحد -الذي أعملناه ظاهراً- هذا الذي سلطناه على الاسم الظاهر، والثاني الذي أهملناه ولم نسلطه على الاسم الظاهر أعملناه في ضميره.
(وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ) مطلقاً سواء كان الأول أو الثاني، أهملت الأول وأعملت الثاني، أو أعملت الأول وأهملت الثاني.
(فِي ضَمِيرِ) يعني ضمير، (مَا) يعني الاسم المتنازع فيه.
و (الْتَزِمْ): أعمِل المهمل في ضمير ما تنازعاه وجوباً إن كان عمدةً، كالفاعل ونائب الفاعل.
(والْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا) التزما (مَا) شيئاً وحكماً قد الْتُزِمَا، (الألف) هذه للإطلاق، يعني بمطابقة الضمير للظاهر، لابد أن يكون مطابقاً له، قامَ وقعدَ أخوكَ، حينئذٍ إذا أعملت الظاهر، فالأول يكون فيه ضمير مستتر، إذا أعملت الثاني فالأول يكون فيه ضمير مستتر، قاما وقعد أخواك، قاموا وقعد إخوتك، مطابق أو لا؟


إن كان مثنى -الاسم الظاهر- فالضمير يكون مثنى، والضمير هنا يسمى مفسَّراً بفتح السين، والاسم الظاهر يكون مفسِّراً، وشرط المفسَّر والمفسِّر التطابق، تذكيراً وتأنيثاً إفراداً وتثنيةً وجمعاً كالمبتدأ والخبر لا بد منهما، فلذلك لابد أن يكون الفاعل الذي يرفعه المهمل مطابقاً للاسم الظاهر، فإن كان مثنى ثُنِّي، وإن كان جمعاً جُمِع.
قاموا وقعد إخوتك، أعملت الثاني في الاسم الظاهر، ثم تُعمل الأول في ضميرٍ عائدٍ على الاسم الظاهر، حينئذٍ لا بد من المطابقة، قاموا (بالواو)؛ لأن المرجع وهو إخوتك جمع فلا بد من التطابق، أما قام وقعد إخوتك، وتعمل الأول على أنه في ضميرٍ مستتر نقول هذا لا يصح؛ لأنه غير مطابق؛ لأن الضمير المستتر مفرد، هذا الأصل فيه، وإذا اتصل به ألف الاثنين والاسم الظاهر جَمْع، كذلك لم يحصل التطابق قاما وقعد إخوتك لم يحصل، وإنما لا بد من التطابق فتقول: قاموا (بالواو) وقعد إخوتك.
إذاً يعني من مطابقة الضمير للظاهر، ومن حذف الفضلة وإثبات العمدة، حذف الفضلة ليس مطلقاً فيه تفصيل سيأتي، وإنما المراد به من الثاني، الثاني يجب إثباته مطلقاً، الثاني إذا أهمل وجب إعماله في ضمير الاسم الظاهر مطلقاً، سواء كان مرفوعاً أو منصوباً إلا على مذهب الكوفيين من جواز حذفه.
ومن حذف الضمير في بعض الأحوال وتأخيره في بعضها، وما صلح لوقوعه على جميع ما ذكر، إذاً (والْتَزِمْ مَا): أي الأحكام التي التزمت، وسيأتي تفصيل بعضها، وأهم ما يعتنى به أن ما كان فاعلاً يجب ذكره، سواء أهملت الأول وأعملت الثاني أو بالعكس، لابد من إضمار الفاعل؛ لأن الفاعل لا يحذف.
مثَّل الناظم لإعمال كل من الأول دون الثاني، أو بالعكس، فقال: (كَيُحْسِنَانِ) (الكاف) هذه للتمثيل، أي كقولك: يُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا (الألف) للإطلاق، يُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَ، أصلها يحسن ويسيء ابناك، مثل قام وقعد، يحسن ويسيء ابناك، ابناك هذا فاعل إما للأول وإما للثاني.
هنا الناظم في المثال الأول أعمل الثاني، حينئذٍ تقول: (يُسِيءُ) فعل مضارع مرفوع و (ابْنَاكَا) هذا فاعلٌ، فاعل لأي شيء؟ للثاني، ماذا بقي للأول؟ (يُحْسِنَ)، لا بد من أعماله في ضميرٍ يعود على الاسم الظاهر.
(وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَميِرِ مَا تَنَازَعَاهُ)، وما تنازعاه هنا: (ابْنَاكَا) إذاً مثنى، وإذا كان فعلاً مضارعاً حينئذٍ صار من الأمثلة الخمسة، فتقول: (يحسن) تضيف عليها (الألف) فصار (يحسنا)، فرفعه حينئذٍ يكون بثبات النون؛ لأنه على وزن يفعلان، فصار يُحْسِنَانِ، (يحسن) فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والألف فاعل وهو ضمير يعود على الاسم الظاهر، إذاً أعملت الثاني في الاسم الظاهر وهو َيُسِيءُ، وأهملت الأول، أهملته بمعنى أنك لم تسلطه على الاسم الظاهر، ثم أعملته في ضميرٍ يعود على الاسم الظاهر، لماذا؟ لأنه فعل وكل فعلٍ لا بد له من فاعل فقلت: يُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا.
وَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا:


(بَغَى وَاعْتَدَا عَبْدَاكَا) (الألف) للإطلاق، (بغى واعتدى) كل منهما فعلان تقدما وطلبا عَبْدَاكَا على أنه فاعل، أَعمَل الأول وهو (بَغَى)، حينئذٍ تقول: (بَغَى) فعلٌ ماضي، و (عَبْدَاكَا) هذا فاعلٌ لبغى.
و (اعْتَدَيَا) اعتدى هذا أهمله، بمعنى أنه لم يسلطه على الاسم الظاهر، فوجب حينئذٍ أن يضمر فيه ضميراً وهو فاعل يعود على الاسم الظاهر، فقال: وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا، اعْتَدَيَا (الألف) هذه فاعل، إذاً أعمل الأول وأهمل الثاني، عكس المثال السابق.
المثال الثاني وهو: (بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا)، إهمال الأول وإعمال الثاني، هذا متفقٌ عليه، المثال هذا متفق على جوازه بين الكوفيين والبصريين، وأما الأول فمختلف فيه، منعه الكوفيون؛ لأنهم يمنعون الإضمار قبل الذكر في هذا الباب، الإضمار قبل الذكر: هنا إذا قيل يُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا، يحسنان: هنا ضمير قبل الذكرِ -أضمر قبل الذكر-، والأصل الذكر قبل الإضمار، هذا الأصل يُذكر اللفظ بالاسم الظاهر، ثم يأتي ضميره فيرجع الضمير على متقدم في اللفظ والرتبة، هذا هو الأصل.
أما إضمارٌ قبل الذكر يلزم منه عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبةً، وهذا في الأصل ممنوع، وهنا يُحْسِنَانِ عاد الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، إذاً خلاف القياس، ولذلك منعه الكوفيون، وبناءً على مذهب الكسائي -جواز حذف الفاعل- قال: يحسن ويسيء ابناك، أعمل الثاني وحذف الفاعل من الأول لماذا؟ تفادياً لهذه الخطورة وهي أن يضمر قبل الذكر، فحذف الفاعل، لكون الضمير يعود على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، أما الثاني: - بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا -: (بغى عبداك واعتديا)، (اعْتَدَيَا) هذا عاد على متأخر في اللفظ دون الرتبة، لذلك لم يختلف فيه، (بغى عبداك واعتديا) هذا تركيب الكلام، حينئذٍ لما أضمر في الثاني اعْتَدَيَا، نقول عاد على عَبْدَاكَا في اللفظ والرتبة، أو في اللفظ فحسب؟ في اللفظ فحسب ليس في الرتبة؛ لأن رتبته تالية لقوله بَغَى: وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعلٌ، هذا الأصل، بغى عبداك واعتديا حينئذٍ: بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا عاد الضمير من اعْتَدَيَا إلى متأخرٍ في اللفظ دون الرتبة، وهذا جائز عند الطائفتين، ولذلك اتفقوا على هذا المثال واختلفوا في الأول؛ لأن يُحْسِنَانِ يعود على متأخرٍ وهو: ابْنَاكَا، وهو فاعل وَيُسِيءُ، ويسيء متأخرٍ عن يحسن.
إذاً نقول المثال الثاني متفقٌ على جوازه، والأول منعه الكوفيون؛ لأنهم يمنعون الإضمار قبل الذكر في هذا الباب، فذهب الكسائي إلى وجوب حذف الضمير من الأول، ولو كان فاعلاً يجب حذفه، تفادياً للإضمار قبل الذكر وهذا ممنوع في هذا الباب وفي غيره، وجمهور البصريين على الاستثناء؛ لأنه من المواضع الستة التي يستثنى فيها عود الضمير على متأخر؛ لأنه مسموع في لغة العرب، رُبَّهُ فِتيةً، نِعم رجلاً، جاء فيه، وجاء في هذا الباب كما سيأتي حينئذٍ يغتفر في هذا الباب عود الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، هذا نقول مستثنى في هذا الباب، وهي أبواب ستة قياسية، وما عداها فهو سماعي يحفظ ولا يقاس عليه.
إلى وجوب حذف الضمير من الأول والحالة هذه تمسكاً بقول ..


هذا بناءً على جواز حذف الفاعل عندهم، وإذا منعناه نقول حينئذٍ الأصل مرفوض، وهو أنه يجوز حذف الفاعل، حينئذٍ نقول عندنا أمران حذف فاعل أو إثباته وعود الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، هنا مفسدتان وأي المفسدتين أعظم؟
حذف الفاعل أعظم، حينئذٍ لا نرتكب المفسدة الكبرى من أجل دفع الصغرى، بل العكس هو الصواب، فنضمر في الأول ولو عاد على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، ولا نقول بقول الكسائي بأنه يحذف الفاعل؛ لأن حذف الفاعل حذف لأحد ركني الإسناد، فبقي الكلام بغير فاعل.
تمسكاً بقول الشاعر:
تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُم وَكَلِيبُ

قال:
تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا رِجَالٌ، (رِجَالٌ) هذا اسم ظاهر تقدم عليه عاملان تَعَفَّقَ وأرَادَهَا، ما قال تعفقوا، وما قال أرادوا، ورجال هذا اسم ظاهر، فدل على أنه أعمل الثاني، وحذف الفاعل من الأول أو العكس.
إما أن نجعل (رِجَالٌ) هذا فاعل لـ (تَعَفَّقَ)، (تَعَفَّقَ) معناه استتر، (بِالأرْطَى) هذا شجرٌ، (لَهَا) للبقرة الوحشية، (وَأرَادَهَا رِجَالٌ فَبَذَّتْ) أي غلبت، (نَبْلَهُم) سهام، (كَلِيبُ): فعيل، كعبد يجمع على عبيد، (كَلِيبُ) جمع كلب.
إذاً (تَعَفَّقَ رِجَالٌ) (أرَادَهَا رِجَالٌ) أعمل واحداً منهما ولم يضمر في الثاني الفاعل، فدل على أنه لا يُضمر، وهذا قد نطق به، فصيح.
ووجهه أنه لم يضمر في واحد من تَعَفَّقَ وَأرَادَهَا، فلم يقل: تعفقوا على إعمال الثاني أو أرادوا على إعمال الأول.
وقال الفراء إن أتفق العاملان في طلب المرفوع فالعمل لهما ولا إضمار، نحو يحسن ويسيء ابناك، يعني إن اتفقا في طلب فاعل وهو مرفوع حينئذٍ لا إضمار، فتقول يحسنُ ويسيءُ ابناك، وإن اختلفا أضمرته مؤخرا، نحو ضربني وضربت زيداً هو، ضربني هو هذا أخره -وهذا سيأتي معنا-، والمعتمد ما عليه البصريون، هذا هو القول المعتمد ما ذهب إليه البصريون، وهو وجوب إضمار ضمير الرفع في الأول عند إعمال الثاني؛ لأن العمدة يمتنع حذفها: (وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ)، إذاً العمدة لا يجوز حذفها، هذا هو الأصل.
ولأن الإضمار قبل الذكر الذي احتج به -فروا منه الكوفيون-، قد جاء في غير هذا الباب: رُبَّهُ رجُلاً، (رُبَّهُ) مجرور رب (ها) ضمير عاد على رجلاً، وهو متأخر في اللفظ والرتبة، مغتفر في باب: رُبَّ (رُبَّهُ فِتيةً)، (فِتيةً): هذه تمييز ورجع إليه مجرور رُبَّ، حينئذٍ نقول هذا مغتفر؛ لأنه عاد على متأخر في اللفظ والرتبة، ونِعم رجلاً زيدٌ، (نِعم) فيها فاعل ضمير مستتر يعود على رجلاً وهو تمييز.
وقد سُمع أيضاً في هذا الباب من ذلك ما حكاه سيبويه من قول بعضهم: ضربوني وضربت قومك، ضربوني (بالواو) وضربت قومك، حينئذٍ أعمل الثاني فنصب قومك، وأضمر في الأول الفاعل، فقال: ضربوني، إذاً سمع في باب التنازع، ومنه قوله (جَفَوْني ولمْ أَجْفُ الأَخِلاَّءَ)، يعني جفوني الإخلاء، (الواو) هنا تعود على الأخلاء حينئذٍ أَضمر في الأول الفاعل وأعمل الثاني في الأخلاء.
وما استدلوا به مؤول، وكل ما احتمل التأويل بوجه سائغ، إذاً حمل عليه ولا يعترض به على الأصل.


إذاً: (وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَميِرِ مَا)، (مَا)، يعني الاسم المتنازع فيه.
تَنَازَعَاهُ أي العاملان، وجوباً إن كان عمدة.
والْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا من الأحكام المذكورة من حيث التطابق بين المفسِّر والمفسَّر، من الإفراد والتثنية والتذكير والتأنيث والجمع، ومن حيث التزام ذكر العمدة، وحذف الفضلة مما يمكن الاستغناء عنه.
كَيُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا حيث أعمل الثاني وأضمر في الأول، وإضماره في الأول، وعوده على متأخر في اللفظ والرتبة هذا مغتفر في هذا الباب.
وَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا أعمل الأول وأضمر في الثاني، وكلا الإضمار في هذين المثالين إضمار للفاعل، وعلى مذهب البصريين أنه يجب، وعلى مذهب الكوفيين أنه جائز؛ لأنه يجوز حذف الفاعل عندهم، وهو مذهب الكسائي ومن تبعه.
وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ ... بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاَ

قال ابن عقيل: أي إذا أعملت أحد العاملين في الظاهر، قال: أحد، لم يعين الثاني أو الأول؛ لأن الحكم عام: وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ مطلقاً، سواء كان الأول أو الثاني، إذا أعملت أحد العاملين في الظاهر، وأهملت الآخر عنه، فأعمل المهمل في ضميرٍ عائدٍ على الظاهر، في ضمير الظاهر يعني في ضمير عائدٍ على الظاهر، والتزم الإضمار، يعني الإتيان به مضمراً، إن كان مطلوب العامل مما يلزم ذكره ولا يجوز حذفه كالفاعل ونائب الفاعل، ولذلك أتى بالـ (كاف) هنا ليست استقصائية، وإنما للتمثيل.
إذاً تلتزم الإضمار متى؟ إذا كان مطلوب العمل واجب الذكر وهو الفاعل، أو نائب الفاعل، وذلك كقولك: يُحسن ويسيء ابناك، فكل واحد من يحسن ويسيء يطلب ابناك بالفاعلية، على أنه فاعلٌ له يُحسن ابناك، ويسيء ابناك، كلٌ منهما يطلب (ابناك) بالفاعلية، فإن أعملت الثاني وجب أن تضمر في الأول فاعله، تقول (يحسنان ويسيء ابناك)، أضمرت في الأول، والثاني أعملته في الظاهر، ولا إشكا، تعربه كما هو، يُحْسِنَانِ: فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون والألف فاعل، وَيُسِيءُ ابْنَاكَا: فعل وفاعل ولا إشكال.
فإن أعملت الثاني وجب أن تضمر في الأول، فاعله فتقول: يُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا، وكذلك إن أعملت الأول وجب الإضمار في الثاني: (يحسن ويسيئان ابناكا)،أعملت الأول وأضمرت في الثاني، عكس المسألة السابقة، حينئذٍ لا إشكال فيه، يعني لا ينازع الكوفيون في هذا المثال، إذا قلت: (يحسن ويسيئان ابناك)؛ لأنك أضمرت في الثاني، وإذا أضمرت في الثاني حينئذٍ عاد على متأخرٍ في اللفظ دون الرتبة؛ لأن (ابْنَاكَا) هذا متعلق بـ (يحسن)، وهو حقه التقديم، (يحسن ويسيئان ابناك)، (ابْنَاكَا) هذا معمولٌ ليحسن، إذاً هو متقدم في الرتبة، جاء بعده يسيئان، إذاً عاد الضمير على متقدم في الرتبة دون اللفظ، ورجع إلى متأخر في اللفظ دون الرتبة، عبِّر بهذا أو ذاك، ومثله (بَغَى وَاعْتَدَيَا عَبْدَاكَا)، وإن أعملت الثاني في هذا المثال المتأخر، قلت: (بغيا واعتدى عبداك)، (بغيا): أضمرت في الأول وأعملت الثاني.


ولا يجوز ترك الإضمار في هذا المقام يعني الفاعل، فلا تقول (يحسن ويسيء ابناك) لا يجوز هذا، خلاف للفراء، ولا: بغى واعتدى عبداك؛ لأن تركه -يعني ترك الإضمار- يؤدي إلى حذف الفاعل، والفاعل ملتزم الذكر، وقد قال لك: (والْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا)، فوجب حينئذٍ التزام ذكر الفاعل، وأجاز الكسائي ذلك على الحذف بناءً على مذهبه في جواز حذف الفاعل، وقلنا: هذا مذهب ضعيف، وأجازه الفراء على توجه العاملين معاً إلى الاسم الظاهر، وهذا بناءً منهما على منع الإضمار في الأول عند إعمال الثاني، فلا تقل: يحسنان ويسيء ابناك، هذا ممنوع عندهما، فراراً من عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، وهذا الذي ذكرناه عنهما هو المشهور من مذهبهما في هذه المسألة ..
وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ ... بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاً
بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ ... وَأَخِّرَنْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ الْخَبَرْ

هذا كالاستثناء مما سبق، ما سبق قال: (وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَميِرِ مَا تَنَازَعَاهُ) مطلقا، سواءٌ كان ما تنازعاه على أنه فاعل مرفوع، أو على أنه مفعول به منصوب، أو على أنه مجرور مطلقاً، وهذا فيه تفصيل ليس على إطلاقه.
(وَلاَ تَجِىءْ): هذا نهي، (مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ): أَوَّلٍ بالصرف هذا للوزن، صرفه للوزن، (مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاً) إذاً إذا أهملت الأول فلا تضمر فيه إلا الفاعل فحسب، وأما المفعول به والمجرور فيجب حذفه: (بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ)، حينئذٍ قوله: (وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ)، وهذا يشمل إذا كان المهمل هو الأول، أعمله فِي ضَميِرِ مَاتَنَازَعَاهُ، إذا كان الأول يطلب فاعلاً حينئذٍ أعمله في ضميرٍ على أنه فاعل، وإذا كان الأول يطلب مفعولاً أعمله في ضميرٍ يعود على ذلك الاسم الظاهر، فيكون مفعولاً، قال لا هذا ليس مراد.
العموم السابق مخصص بهذا البيت، وإنما يختص إعمال الأول المهمل بإضمار الفاعل فحسب، وأما المفعول والمجرور يجب حذفه، قال: بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ .. الزم حذفه، فلا تقل حينئذٍ: ضربت وضربني زيدٌ، ضربني هذا متأخر، أعملت الثاني ضربني ورفعت زيد على أنه فاعل له، والأول ضربت ماذا يحتاج؟
يحتاج مفعولاً به، هو قال: وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَميِرِ مَا تَنَازَعَاهُ، الأول افتقر إلى مفعول به، فالأصل أن يقال: ضربته وضربني زيدٌ، لكن قال: لما كان الأول هذا اتصل به ضمير منصوب وجب حذفه.


وعند كثير من النحاة أنه لا يحذف هكذا ابتداءً، وإنما يعمل في الضمير ثم يحذف، يعمل في الضمير، تقول: ضربته ثم تحذفه، ولكن نقول ابتداءً، يجب ألا يتصل به قبل أن يتصل به ثم نحذفه؛ لأن هذا من باب التكلف، إذاً إذا كان الأول يفتقر إلى ضمير منصوب نقول: الزم حذفه، وتقول: مررت ومر بي زيدٌ، ولا تضمر فتقول: مررت به ومر بي زيد؛ لأن الأول مررت يفتقر إلى مفعول به في المعنى يتعدى إليه بحرف جر، هذا الذي يفتقر إليه، فالأصل أن تقول: مررت به ومر بي زيدٌ؛ لأنك أعملت الثاني، مر بي زيدٌ، زيد فاعل، فتحتاج أن تضمر في الأول فتقول: مررت به، لكن نقول: وجب حذفه لأنه فضلة، كذلك لا يقال: ضربته وضربني زيدٌ، يجب حذفه لماذا يجب حذفه؟
قالوا: لأن القاعدة أنه لا يجوز عود الضمير على متأخرٍ لفظاً ورتبةً، وإنما استثنينا الفاعل لأنه عمدة، والضرورة تقدر بقدرها، فحينئذٍ يستثنى الفاعل ويبقى ما عداه على الأصل، إذاً: وافقوا الكسائي وغيره، وافقوا الكوفيين هنا؛ لأن الضمير عاد على متأخر، ضربته يعود على زيد، هذا ممنوع، لكن: يُحْسِنَانِ وَيُسِيءُ ابْنَاكَا، قالوا هذا فاعل، إذاً نخرِم القاعدة من أجل تمكين الفعل من الفاعل، -البصريون فقهاء في النحو-، نخرم القاعدة، صحيح، كلام سليم، نخرم القاعدة من أجل إبقاء الفاعل مع فعله؛ لأنه ركن في الإسناد، المعنى أنه لا بد منه، لا يجوز حذفه، فأخرمنا القاعدة من أصلها فقلنا: يستثنى، فيعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبةً، ولا نبالي بهذا الخلل وهذه المفسدة، وأما ضربته هذا فضلة، والأصل في الفضلة أنه ليس بركنٍ في الإسناد، إذاً لا نخرم القاعدة فنحذفه ونقول، لا يعود الضمير على متأخر لفظاً ورتبةً، -هذا نِعمَ الفِقهُ-.
إذاً قال: وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ يعني من العمل، بِمُضْمَرٍ هذا متعلق بقوله: (تَجِىءْ)، ولا تجئ بمضمر مع أولٍ قد أهملا يعني مهمل.
(لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاً)، (لِغَيْرِ) جار ومجرور متعلق بقوله: أُوهِلاً، بمضمر أوهلا لغير رفعٍ، يعني صار أهلاً لغير رفعٍ وهو: المنصوب والمجرور؛ لأن الضمائر ثلاث: مرفوع، منصوب، مجرور، لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاً: يعني صار أهلاً لغير رفعٍ، وذلك إذا كان منصوباً أو مجروراً.
وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ بضمير لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاً وهو المنصوب والمجرور.
بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ: يجب حذفه مطلقا من الأول.
لكن قيده قال: (إِنْ يَكُنْ غَيرَ الْخَبَرْ)، إِنْ يَكُنْ ذلك المنصوب (غير خبر) وهو الفضلة، (غَيرَ خَبَرْ): هذا استثناء المفعول الثاني من باب ظن، واستثناء خبرِ كان، استثنى الناظم منصوبين فضلتين؛ لأنهما عمدة في الأصل، وما كان عمدة في الأصل يجب مراعاة ذلك الأصل، فإذا نُصب حينئذٍ لا نقول: المنصوبات فضلات فيجب حذف أي منصوب، لا بل ننظر إلى الأصل، فما كان الأصل أنه عمدة يراعى بعد طروء تغيير الإعراب عليه، كما هو الشأن في خبر كان، كان مرفوعاً ثم نُصبَ، وكذلك اسم كان، كان منصوباً ثم رُفعَِ، وكذلك المبتدأ في المفعول الأول في باب ظن كان مرفوعاً ثم نُصبَ، كذلك المفعول الثاني، نقول: هذه كلها عُمد، حينئذٍ لا يجوز حذفها البتة.


(إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ)، إذاً استثنى من الأول -فيما يجب إضماره-، إن كان خبراً في الأصل.
اعتُرض على الناظم بشيئين اثنين لم يذكرهما، أولاً: إذا كان يحصل لبسٌ عند حذف الفضلةِ؛ لأن شرط الحذفِ: إن لم يقع اللبسُ بعد الحذفِ، وكلامُ الناظم هنا مطلق أو خاص؟ لأنه قال: وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ ... بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفْعٍ -منصوبٍ يعني- بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ مطلقاً، سواء أُمن اللبس معه أم لا، فاللفظ عام، والصحيح أنه يقيد بما إذا أُمن اللبسُ، وأما إذا لم يؤمن اللبس فلا يجوز حذفه، هذا ثانياً.
يرِد عليه ثالثاً: المفعول الأول في باب ظن؛ لأنه استثنى الخبر، والمفعول الأول في باب ظن مبتدأٌ، فالعلة الموجودة في استثناءِ الخبرِ لكونه عمدة في الأصل، هي عينها موجودة في المفعول الأول بكونه عهدة في الأصل وهو مبتدأ، فإذا وجدت العلة حينئذٍ نقول: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا انتفى حذف الخبر لكونه عمدة في الأصل، فيلزم الحكم نفسه في المفعول الأول في باب ظن أن ينتفي حذفه، لكونه عمدة في الأصل، لأنه مبتدأ، فيستدرك على الناظم هاتين المسألتين؛ لأنه قال: (بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ) إن يكن هذه الفضلة ليس خبراً، وهذا يكون في باب كان، وفي باب ظن، بقي عليه المفعول الأول في باب ظن، وبقي عليه المفعول الذي ليس خبراً ثم قد يحصل لبسٌ بحذفه، وهذا لا يجوز حذفه.
إذاً: إن كان غير خبرٍ، وغير فضلةٍ يحصل بها اللبس، وغير مفعولٍ، أول يجب حذفه، فإن كان خبراً، أو إن كان فضلة يحصل به اللبسُ، أو كان مفعولاً أول لـ (ظن)، لا يجوز حذفه، ولا يجوز أن يتقدم، وإنما يجب تأخيره، قال: (وَأَخِّرَنْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ الْخَبَرْ)، الذي استثناه أولاً: إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ يعني لا تحذفه، وإنما تؤخره في آخر الجملة، وسيأتي التعليل.
(وَأَخِّرَنْهُ) يعني اذكره مؤخراً مضمراً وجوباً: إن يكن ذلك الضمير عمدة بأن كان هو الخبر لكان –كان وأخواتها-، أو المفعول الأول لظن، أو فضلة إن حذفت أوقع في لبس، هذه ثلاثة أشياء، هذه لابد من استثنائها، حينئذٍ إذا استثنيت من عدم حذفها من الأول ماذا نصنع بها؟
نذكرها مؤخراً، نؤخرها إلى آخر الجملة مثل: كنتُ وكانَ زيدٌ صديقاً إياهُ، هنا نُعمل الأول أو الثاني؟
المسألة مفروضة في إعمال الثاني، إذاً (كنتُ) كان واسمهما، أين خبرها؟
الأصل أنه لا يجوز حذفهُ، لا تقل (كُنتهُ) لا يجوز، وإنما تؤخره بعد كانَ زيدٌ صديقاً، أعملتَ الثاني: كان زيد صديقاً، صديقاً هذا متنازع فيه، كنتُ صديقاً، كانَ زيدٌ صديقاً، إذاً اسم متنازع فيه بين كان الأولى، وكان الثانية، أعملت الثانية: كانَ زيدٌ صديقاً، والأول كنتُ، أين الخبر؟


قال: يجب إضمارهُ، فحينئذٍ إما أن يضمر متصلاً وإما أن يضمر متأخراً، قال: لا يجوز إضماره متصلاً، فلا تقل: كنتهُ وكانَ زيدٌ صديقاً، وإنما تقول: كنتُ وكانَ زيدٌ صديقاً إياهُ، حينئذٍ إذا قلت: إياهُ متأخراً، عاد الضمير على متقدمٍ في الذكر دون الرتبة؛ لأن رتبة إياهُ كنتهُ، لو قلت: كنتهُ عاد الضمير على زيد، وهو خبر كان الثانية، حينئذٍ عاد الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، تفادياً لهذا المحذور وجب تأخيره فقلت: كنتُ كانَ زيدٌ صديقاً إياهُ، حينئذٍ عاد الضمير على متقدمٍ في اللفظ دون الرتبة؛ لأن إياه متقدمٌ في الرتبة، رتبته بعد كنتُ، وزيد هذا متأخر، إذاً عاد عليه في اللفظ دون الرتبة، وهذا جائز، من أجل تفادي عود الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، حينئذٍ وجب تأخير الضمير؛ لأن عندنا أمران: إما أن يحذف، وهو عمدة في الأصل، وإما أن يبقى في محله، فيعود على متأخر في اللفظ والرتبة، وكلاهما ممتنع، لو حذفته حذفت ما هو عمدة في الأصل، وهذا ممتنع، ونحن قلنا: وَحَذْفَ فَضْلَةٍ، لا بد أن يكون فضلة ليس بعمدة، فتفادياً لهذه لا بد من ذكره، فإن ذكرته في محله (كُنتهُ) وقعت في محذور آخر، وهو: عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبةً، إذا وجب تأخيره تفادياً لهذه القاعدة.
وظنَّنِي وظننتُ زيداً عالماً إياهُ، (إياه): هذا خبر الأول (ظنني)، (ظنني إياهُ) وظننتُ زيداً عالماً، أعملتَ الثاني: زيداً عالماً، مفعولان لـ (ظننتُ)، والأول (ظنني) المفعول الأول الياء، المفعول الثاني محذوف، الأصل أنه يجب إضماره فتصله بالعامل، لكن من أجل أن يعود على متأخرٍ لفظاً ورتبة، حينئذٍ وقعنا في محذور فوجب تأخيرهُ، تقول (ظنني إياه) هذا الأصل، وظننت زيداً عالماً، فوجب التأخير لما ذكرناه، هذا مثال لـ (إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ)، الأول لـ (كان)، والثاني لباب (ظن).
وظننت منطلقة وظنتني منطلقاً هند إياها، ظننت منطلقة: ظننت هنداً منطلقةً، هذا الأصل، وظنتني منطلقاً هندٌ، أعمل الثاني وهو: منطلقاً هندٌ، وأضمر في الأول المفعول؟؟؟.
إذاً: المثال الأول لخبرٍ، هو لـ (كان)، والمثال الثاني لخبرٍ، هو باب (ظن)، بقي المفعول الأول لباب (ظن)، لو قلت: ظننتُ منطلقةً الأصل ظننتُ هنداً منطلقةً، منطلقةً هذا المفعول الثاني (لظننت)، وظنتني منطلقاً هندٌ، (ظنتني) الياء هذا هو مفعول أول، وهند هي الفاعل، ومنطلقاً هذا المفعول الثاني، ما هو الاسم المتنازع فيه؟
هندٌ هو المتنازع فيه، يريده الأول على أنه مفعول أول، ويريده الثاني على أنه فاعل، فأعطيناه الثاني على أنه فاعل، فأضمرنا في الأول، يجب الإضمار، مع كون كلام الناظم أنه مما يجب حذفه، لكن نقول: هذا يستدرك عليه، فتقول (ظننت منطلقةً وظنتني منطلقاً هندٌ إياها)، هذا مثال للمفعول الأول الذي لا يجوز حذفه، ويُستدرك فيه على الناظم.
مثال ما يوقع في اللبس، وهو ليس خبراً: (استعنتُ واستعان عليَّ زيدٌ بِهِ)، (بِهِ) هو المتعلق باستعان الأول، إن قلت استعان به، الضمير عاد على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، حينئذٍ لو حذفته، قلتَ: استعنتُ واستعان علي زيدٌ، استعان علي زيدٌ واضح، لكن استعنتُ به أو عليه؟


لو حذفت الضمير لأوقع في لبسٍ، فلا يدرى هل أنت استعنت به أو عليه، لكن وجب ذكره دفعاً للوقوع في اللبسِ، فوجب أن يُضمر متأخراً؛ لئلا يعود الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة، فتقول: استعنت واستعان علي زيدٌ به.
إذاً ..
بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ ... وَأَخِّرَنْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ الْخَبَرْ

لأنه منصوب فلا يضمر قبل الذكر، وعمدةٌ في الأصل فلا يُحذف، لا يضمر قبل الذكرِ فيجب تأخيرهُ، هل نحذفه من أصله؟ لا، نقول: هو عمدة في الأصل فيجب ذكره.
وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ: إذا أهمل الأول حينئذٍ تضمر فيه الفاعل، ما عداه يجب حذفه، أو تأخيره، إذاً لا يضمر في الأول المهمل إلا الفاعل فقط، وما عدا الفاعل -المنصوب، والمجرور-، إما أن يكون عمدةً أو لا، إن كان عمدة وجب تأخيره، وإن لم يكن عمدة، إما أن يحصل لبس بحذفه أو لا، إن حصل لبسه: مثل الخبر، وإلا: بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ، هذا مع الأول.
وأما الثاني: فيضمر معه مطلقاً بدون استثناء سواءٌ كان فاعلاً، أو منصوباً، أو مجروراً، لماذا؟ لأنك أعملت الأول وأهملت الثاني، فإذا أضمرت الفاعل عاد على متقدمٍ لفظاً ورتبة، إذا أضمرت المنصوب عاد على متقدمٍ لفظاً ورتبة، إذا أضمرت المجرور عاد على متقدمٍ في اللفظ والرتبة.
إذاً ليس عندنا محذوف، وهذه العمليات كلها من أجل دفع أن لا يعود الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، فجاء التصحيح بما ذكر، وأما إذا أُهمل الثاني فأَضمر فيه ما شأت، وعند جمهور البصريين لا يجوز حذفه، ولو كان منصوباً أو مجروراً.
(وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ)، يعني مع الفعل العامل الأول، (قَدْ أُهْمِلاَ)، (قَدْ): للتحقيق، (أُهْمِلاَ): الألف للإطلاق، يعني أُهمل من العمل، لم يعمل الأول في الاسم الظاهر، ولم يُهمل من العمل مطلقاً، لا، بل نُعمله في ما يحتاجه.
قَدْ أُهْمِلاَ.
بِمُضْمَرٍ: لاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ بِمُضْمَرٍ.
لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاً: يعني جعل أهلاً، صار أهلاً لغير الرفعِ، والمراد به النصبُ والجر لفظاً أو محلاً، (بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ): الزم حذفه، يجب حذفه، (إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ): إن كان خبراً لا يجوز حذفه، ومع ذلك لا يجوز اتصاله به؛ لأنه لو اتصل به لعاد الضمير على متأخرٍ في اللفظ والرتبة، بل أخره، تُؤخره إلى ما بعد نهاية الجملة.
(وَأَخِّرَنْهُ) وجوباً (إِنْ يَكُنْ هُوَ الْخَبَرْ).
قوله: (إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ) يُوهم أن ضمير المتنازع فيه، إذا كان المفعول الأول في باب (ظن) يجب حذفه وليس كذلك؛ لأنه لم يستثن إلا الخبر، والمفعول الأول ليس بخبر ومع ذلك هو عمدة؛ لأنه مبتدأ في الأصل، حينئذٍ لا يجوز حذفه.
(إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ)، غير خبر في الأصل لأنه حينئذٍ فضلة، فلا حاجة إلى إضمارها قبل الذكر.


قال الشارح: وذكر هنا في هذا المقام، أنه إذا كان مطلوب الفعل المهملِ غير مرفوع، -المرفوع سبق ذكره-، بل منصوب، أو مجرور، الطالب إما أن يكون طالباً لمرفوع، أو منصوب، أو مجرور، تقرر عندنا وجوب إضمار المرفوع ولا إشكال، وليس عندنا اعتراض بالقاعدة التي ذكرناها؛ لأن هذا الباب مما يستثنى من عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، يبقى معنا المنصوب، والمجرور، فلا يخلوا: إما أن يكون عمدة في الأصل، أو لا، لا يخلوا هذا المنصوب، إما أن يكون عمدة في الأصل أو لا، متى يكون عمدة في الأصل؟
إذا كان خبراً لكان، أو مفعولاً ثانياًً لـ (ظن)، أو مفعولاً أولاً لـ (ظن)، هذا عمدة، عبر الشارح عمدة، وعبر الناظم بخبر، أيهما أعم؟
الشارح أعم لأنه عبر بالعمدة.
قال إما أن يكون عمدة في الأصل، وهو مفعول (ظن) وأخواتها؛ لأنه مبتدأ في الأصل، أو خبر وهو المراد بقوله:- (إِنْ يَكُنْ هُوَ الْخَبَرْ)، بالتعميم مع الاستدراك عليه وإِلا الخبر خاص، وهو قد عمم.
أو لا فإن لم يكن كذلك، إن لم يكن عمدة، فإما أن يكون الطالب له هو الأول أو الثاني، فإن كان الأول لم يجز الإضمار، لم يجز الإضمار في الأول لماذا؟
لأننا لو أضمرنا لعاد الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة فتقول: ضربت، ولا تقل ضربته، تحذف الضمير ضربت وضربني زيدٌ، ومررت ولا تقل مررت به، بل تقول مررتُ وتحذف (الباء) مع مدخولها، ومر بي زيدٌ ولا تُضمر، فلا تقل ضربتهُ وضربني زيدٌ ولا مررتُ به ومر بي زيدٌ.
وقد جاء في الشعر ضرورةً فيحفظ ولا يقاس عليه:
إذا كُنْتَ تُرْضِيهِ، وَيُرْضيكَ صاحبٌ، صاحبٌ هذا اسم ظاهر متنازع فيه، طلبه الأول: تُرْضِيهِ على أنه مفعول به له، وطلبه الثاني: يُرْضيكَ على أنه فاعل، فأُعمل الثاني لذلك رفُع، لو أُعمل الأول لقيل صاحباً، وإنما أُعمل الثاني، حينئذٍ افتقر الأول إلى ضميرٍ منصوب، الأصل فيه عدمُ جواز ذكره، بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ، لكنه صرح به هنا نقول شذوذاً، يعني يحفظ ولا يقاس عليه. وإن كان الطالب له هو الثاني وجب الإضمار، فتقول: ضربني وضربتُه زيدٌ، ضربتهُ زيدٌ، زيدٌ هذا فاعل لضربني الأول، والثاني يفتقر إلى مفعول به، حينئذٍ عاد الضمير على متأخرٍ في اللفظ دون الرتبة، وهذا لا إشكال فيه، ومر بي ومررت به زيدٌ، مر بي زيدٌ أُعمل الأول حينئذٍ احتجنا إلى الإضمار في الثاني، ولا يجوز الحذف فلا تقول ضربني وضربت ُزيدٌ، لا يجوز الحذف من الثاني، بل يجب ذكره، ولا مر بي ومررت زيدٌ، وقد جاء في الشعر كقوله:


(بِعُكَاظَ يُعْشِي النّاظِرِينَ ... إذَا هُمُ لَمَحُوا ... ) الأصل لمحوه، حذف الضمير هنا من باب الضرورة، يعني شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، كما شذ عمل المهمل الأول في المفعول المضمر الذي ليس بعمدة في الأصل، إذاً يُعْشِي إذَا هُمُ لَمَحُوهُ هذا هو الأصل، وحذف الضمير هنا، نقول: هذا شذوذ، يعني يحفظ ولا يقاس عليه، والجمهور على أنه لا يجوز الحذف لغير ضرورة؛ وذلك لأن ذكره لا يترتب عليه الإضمار قبل الذكر، فيجب حينئذٍ ذكره، لأنه حذف من الأول لئلا يخرم القاعدة، وهذا ليس فيه إضمارٌ قبل الذكر، وفي حذفه فسادٌ؛ لأنه قد يقال إذا كان فضلةً فلماذا لا يحذف، (وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ) لماذا لا يحذف؟
قالوا: إذا حذفناه مع كونه فضلة يحصل فساد، وهو أنه يُهيئُ العامل لما بعده، يعني يراه الناظر كأن العامل قد تهيئ للعمل فيما بعده، وهذا فيه مفسدة. وفي حذفه فسادٌ، وهو تهيئة العامل للعمل ثم قطعه عنه من غير سبب موجب له، وقيل حذف هذا الضمير جائز في سعة الكلام؛ لأنه فضلة، وهذا هو الظاهر -والله أعلم- وهو مذهب الكوفيين أنه يجوز حذفه، وأما هذه العلة فليست بواضحة بينة.
قال الشارح: هذا كله إذا كان غير المرفوع ليس بعمدة في الأصل، فإن كان عمدة في الأصل فلا يخلو، إما أن يكون الطالب له هو الأول أو الثاني، فإن كان الطالب له هو الأول، وجب إضماره مؤخراً؛ لأنه لا يجوز حذفه لأنه عمدة ثم إذا أضمرناه متقدماً وقعنا في محذور، علاج هذا المحذور تأخيره، فوجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، حينئذٍ وجب تأخيره لئلا نحذفه، فتقول: (ظنني) و (ظننت) زيداً قائماً إياه، (ظنني) (الياء) هذا مفعول أول، (ظنني) إياه و (ظننت) زيداً قائماً، (ظنني إياه) الضمير يعود على زيد، إذاً عاد على متأخر لفظاً ورتبة فلا يجوز، ما العلاج؟
وجب تأخيره، (ظنني) و (ظننت) زيداً قائماً إياه، وإن كان الطالب له هو الثاني أضمرته متصلاً كان أو منفصلاً، فتقول: ظننتُ وظنَنِّيهِ زيداً قائماً، الطالب له الثاني؛ لأنك أعملت الأول، (زيداً قائماً) هذان معمولان لـ (ظننت) الأول، (ظننتُ) زيداً قائماً، ثم أضمرت في الثاني، ولا يجوز حذفه؛ لأنه عمدة في الأصل، و (ظننتُ) و (ظنَّنِي) إياه زيداً قائماً، (ظننتُ) زيداً قائماً، زيداً قائماً للعامل الأول، و (ظنَّنِي) إياه نقول: هنا وجب الإضمار ولا نقول بالتأخير لماذا؟
لأنه وإن عاد على متأخر في اللفظ إلا أنه متقدمٌ في الرتبة.


ومعنى البيتين أنك إذا أهملت الأول، لم تأتِ معه بضمير غير مرفوع وهو المنصوب والمجرور، -هذه خلاصة- إذا أهملت الأول لا تأتي معه بضميرٍ إلا ضمير رفعٍ فحسب، فلا تقول: ضربته وضربني زيدٌ، ولا مررت به ومر بي زيدٌ، بل يلزم الحذف، فتقول: ضربتُ وضربني زيدٌ ومررتُ ومر بي زيدٌ، إلا إذا كان المفعول خبراً في الأصل، فإنه لا يجوز حذفه بل يجب الإتيان به مؤخراً، فتقول: (ظنني) و (ظننت) زيداً قائماً إياه، ومفهومه -انظر شرحه على موافق اللفظ، لم يستثن إلا الخبر مع أنه في الشرح الأول عمم-، مفهومه: أن الثاني يؤتى معه بالضمير مطلقاً مرفوعاً كان أو مجروراً أو منصوباً، عمدةً في الأصل أو غير عمدة، -وهو كذلك-، وعند جمهور البصريين لا يجوز حذفه مطلقاً -الثاني-، سواء كان منصوباً أو مجروراً، إذاً عرفنا المراد بالبيتين:
وَلاَ تَجِىءْ مَعْ أَوَّلٍ قَدْ أُهْمِلاَ ... بِمُضْمَرٍ لِغَيْرِ رَفْعٍ أُوهِلاً
بَلْ حَذْفَهُ الْزَمْ إِنْ يَكُنْ غَيْرَ خَبَرْ ... وَأَخِّرَنْهُ إِنْ يَكُنْ هُوَ الْخَبَرْ

هذا البيت الثاني منتقد بما ذكرناه.
تنبيه: اقتضى كلامه أنه يُجاءُ بضمير الفضلة مع الثاني المهمل، نحو ضربني وضربته زيدٌ ومر بي ومررت بهما أخواكَ لدخوله تحت قوله: وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ ولم يخرجه وهو كذلك، -كما ذكرناه-، وأنه يجوز حذفه لمفهوم قوله: والْتَزِمْ مَا الْتُزِمَا، يجوز حذفه، وهذا لم يُلتزم ذكرُه لأنه فضلة، وخصه بعضهم بالضرورة؛ لأن في حذفه تهيئة العامل للعمل، وقطعه عنه لغير معارض ورجحه في التوضيح ونسبه للجمهور، أنه لا يجوز حذفه -الثاني-، سواء كان منصوباً أو مرفوعاً، وهو فيه ثلاثة مذاهب: إذا كان خبر كان، والمفعول الثاني من باب ظن، فيه ثلاثة مذاهب.
ويشترط لحذف الفضلة من الأول المهمل أمن اللبس، ولم يذكره الناظم لعلمه مما سبق، فإن خيف اللبس وجب التأخير، كالمثال الذي ذكرناه: استعنت واستعان علي زيدُ به، وأما منصوب كان وظن، وهذا فيه ثلاثة مذاهب أولها: جواز الإضمار -كالمرفوع- مقدماً، ثانيها: وجوب تأخيره وهما في النظم، ثالثها: جواز حذفه وعليه الكوفيون؛ لأنه مدلولا عليه بالمفسِّر، وهو أقوى المذاهب لسلامته من الإضمار قبل الذكر ومن الفصل، أي الفصل بين العامل الأول المهمل ومعموله إذا أضمر مؤخراً، وهذا هو الظاهر؛ لأنه داخل تحت القاعدة: وَحَذْفَ فَضْلَةٍ أَجِزْ إن لم يضر، فإذا علم من المفسِّر، حينئذٍ جاز حذفه من الثاني، -الكلام في الثاني- جاز حذفه إذا دل عليه دليل، وما لم يجز، حينئذٍ بقينا على الأصل.
وَأَظْهِرِ انْ يَكُنْ ضَمِيرٌ خَبَرَا ... لِغَيْرِ مَا يُطَابِقُ الْمُفَسِّرَا
نَحْوُ أََظُنُّ وَيَظُنَّانِي أَخَا ... زَيْداً وَعَمْراً أَخَوَيْنِ فِي الرَّخَا

هذه خرجت من باب التنازع -الحمد لله-، ليست من باب التنازع، وإنما تُذكر من باب العلم بالشيء فحسب، وعنوان المسألة -حتى نفهم-، إذا كان المتنازع فيه مثنىً أو جمعاً، في باب ظن، لكنه في الأصل خبرٌ عما لا يطابقه، هذا عنوان المسألة.


انظر في المثال في البيت الثاني، لننطلق منه: أََظُنُّ وَيَظُنَّانِي أَخَا زَيْداً وَعَمْراً أَخَوَيْنِ -أمثله غريبة-، أََظُنُّ: الشيخ ابن العثيمين عندما وصل إلى هذين البيتين قال: نحذفها؟
أََظُنُّ: هذا عامل أول، يَظُنَّانِي: عامل ثاني، زَيْدَاً وَعَمْراً أَخَوَيْنِ، هنا ما هو المتنازع فيه؟
زيداً أخوين، إذاً عاملان تنازعا في اسمين، هذا يرد على المكودي فيما سبق، أُعمل الأول، لاحظ المثال، هو مثال ما يتعداه: أََظُنُّ زَيْداً وَعَمْراً أَخَوَيْنِ، (أََظُنُّ) هذا فعل مضارع ناسخ، (زَيْدَاً) هذا مفعوله الأول، (عَمْرَاً) معطوف عليه، أَخَوَيْنِ هذا مفعول ثاني، إذاً أعملنا الأول، ماذا نصنع في الثاني؟
وَيَظُنَّانِي أَخَا، (أََظُنُّ) يطلب أَخَوَيْنِ، وهو الاسم الذي تنازعا فيه على أنه مفعول ثاني، (وَيَظُنَّانِي) يظن هذا يطلبه على أنه فاعل، فقلت: أظن زيداً وعمراً أخوين، إذا أردت إعمال الأول -وهذا هو ظاهر النظم-، أضمرت في الثاني المفعول الثاني، لا طلبه على أنه مفعول ثاني، ليس فاعلاً على أنه مفعول ثاني، يظنانِ إياه، الأصل في باب التنازع من أجل أن يصح أنه من باب التنازع، أن يعمل المهمل في ضمير: وَأَعْمِلِ الْمُهْمَلَ فِي ضَميِرِ مَا تَنَازَعَاهُ لا في اسم ظاهر، لو أعمل في اسم ظاهر خرج من باب التنازع، لكن هنا خرج من باب التنازع لماذا؟
لأن يَظُنَّانِي اعمل في اسم ظاهر، والأصل أنه يُعمل في ضمير، لكن إذا أردنا إعمال الضمير هذا ممتنع على الوجهين، وجه الامتناع أنك تقول ويظنانِ إياه، هذا الأصل، حينئذٍ إياه نقول الضمير إياه هذا مفرد، طابق يظنانِ الياء، لا بد من التطابق هنا؛ لأن الياء في محل نصب مفعول أول، وهو مبتدأ، وإياه هذا مفعول ثاني وفي الأصل خبر، إذاً لابد من التطابق بين المبتدأ والخبر سواء كان في الحال أو في الأصل، فما كان مفرداً –المبتدأ- وجب أن يكون الخبر مفرداً، هنا يَظُنَّانِي الياء للمفرد، إياه مفرد، تطابقا، إذاً لا إشكال من حيث تطابق الضمير مع المبتدأ المفعول الأول، لكن وقعت المشكلة في: إياه أخوين، هذا لا يصلح؛ لأن إياه هذا مفسَّر بفتح السين، وأخوين هذا مفسِّر، ولا بد من التطابق، حينئذٍ يمتنع أن نقول إياه، لابد أن نأتي بضمير يطابق المبتدأ ويطابق المفسِّر، وهنا إذا قلنا إياه طابق المبتدأ لكنه خالف المفسِّر، يظنانِي إياهما طابقنا أخوين، خالف ال؟؟؟، مشكلة، إذاً ماذا نصنع؟
قالوا نأتي باسم ظاهر، فإذا جئنا باسم ظاهر، خرجت المسألة من باب التنازع، فقيل يظناني أخاً، أخاً هذا المفعول الثاني ليظنان، ولماذا خرجت من باب التنازع؟
لأن شرط إعمال المهمل أن يكون في ضمير لا في اسم ظاهر، فإن أعمل في اسم ظاهر، حينئذٍ فسد.


هنا قال: (وَأَظْهِرِ)، يعني ضمير المتنازع ائْتِ به اسماً ظاهراً ولا تضمره أظهر، أظهر هذا عكس أضمر، حينئذ أظهر يعني ائْتِ به اسماً ظاهراً لا ضميراً، إِنْ يَكُنْ ضَمِيرٌ خَبَرَا، إِنْ يَكُنْ ضَمِيرٌ لو أضمر، ضمير باعتبار الأصل، قلنا الأصل يظنانِ إياه إياهما هذا الأصل أنه مضمر، لكن قال: إِنْ يَكُنْ ضَمِيرٌ هذا اسم يكن، لو أضمر خبراً في الأصل: لِغَيْرِ مَا يُطَابِقُ الْمُفَسِّرَا، يعني لمبتدأ لا يطابق المفسِّرا، المبتدأ عندنا الياء مفرد، والمفسِّر مثنى، إذاً لا يمكن، إذا لم يتطابق المبتدأ والمفسِّر لا يمكن أن نأتي بضمير يوافق الطرفين، فنقول: الياء مفرد، هنا مبتدأ في الأصل والمفسِّر مثنى، فلا بد من ضمير يعود عليهما معاً في وقت واحد ويوافق الاثنين هذا ممتنع.
(لِغَيْرِ مَا يُطَابِقُ الْمُفَسِّرَا): مُفَسِّرَا الألف للإطلاق، مفسِّر المرجع وهو الاسم الظاهر.
لِغَيْرِ مَا يُطَابِقُ الْمُفَسِّرَا: يعني لمبتدأ لا يطابق المفسِّرا، وإذا لم يتطابقا حينئذٍ لا بد من إخراجها عن باب التنازع لإعمال المهل في الاسم الظاهر، نحو المثال الذي ذكرناه.
فِي الرَّخَا: هذا تتميم.
تقرير المثال الذي ذكرناه، وهو قوله: أَخَوَيْنِ نقول تنازع فيه أظن؛ لأنه يطلبه مفعولاً ثانياً، أخوين في المثال هذا تنازع فيه أظن؛ لأنه يطلبه مفعولاً ثانياً، إذ مفعوله الأول زيداً، وَيَظُنَّانِي؛ لأنه يطلبه مفعولاً ثانياً، فأُعمل فيه الأول: أظن زيداً وعمراً -معطوف عليه- أخوين، أُعمل فيه الأول، وبقي يَظُنَّانِي يحتاج إلى المفعول الثاني، فلو أتيت به ضميراً مفرداً فقلت: أظن ويظناني إياه زيداً وعمراً أخوين، لكان مطابقاً للياء غير مطابق لما يعود عليه وهو أخوين، ولو أتيت به ضميراً مثنىً، فقلت: أظن ويظنانِ إياهما زيداً وعمراً أخوين، لم يطابق الياء الذي هو خبرٌ عنه، فتعين الإظهار فخرجت المسألة من باب التنازع؛ لأن كلاً من العاملين قد عمل في ظاهر، هذا مثل ضربتُ زيداً وأكرمتُ زيداً، فلا فرق بينهما.
إذاً أُعمل الأول، فزيداً وعمراً أخوين مفعولا أََظُنُّ، وأخاً هذا ثاني مفعولي وَيَظُنَّانِي، وجيء به مظهراً لتعذر إضماره؛ لأنه لو أضمر فإما أن يضمر مفرداً مراعاة للمخبر عنه في الأصل، وهو الياء من وَيَظُنَّانِي، فيخالف مفسِّره، وهو أخوين في التثنية، وإما أن يثنى مراعاة للمفسِّر فيخالف المخبر عنه وكلاهما ممتنع عند البصريين.
إذاً (وَأَظْهِرِ انْ يَكُنْ ضَمِيرٌ خَبَرا) يعني في الأصل.
(لِغَيْرِ مَا يُطَابِقُ الْمُفَسِّرا) في الإفراد والتذكير وفروعها، لتعذر الحذف بكونه عمدة، والإضمار بعدم مطابقة، فتعين الإظهار.
وتخرج المسألة من هذا الباب، هذا الكثير على أن المسألة خرجت، لكن الصبَّان نازع، قال: خرجت في بعضها دون بعض.
قال هنا: وتخرج المسألة من هذا الباب أي بالنسبة إلى لمفعول الثاني، لا بالنسبة إلى المفعول الأول، -وهذا فيه كلفة، بل الصواب أنها خرجت مطلقاً، وأما التفصيل بين مفعولين، وأنه داخل في الباب وهذا خارج هذا فيه تكلف-، فأعملنا في مثالنا الأول وأضمرنا في الثاني ضميره وهو الألف في يَظُنَّانِي، -على كل هذا ليس بقول وجيه-.


قال ابن عقيل: أي يجب أن يؤتى بمفعول الفعل المهمل ظاهراً إذا لزم من إضماره عدم مطابقته لما يفسره -إذا لم يطابق المفسِّر وجب إظهاره-، لكونه خبراً في الأصل عما لا يطابق المفسِّرا، كما إذا كان في الأصل خبراً عن مفرد ومفسِّره مثنى، المفسِّر الاسم الذي حصل التنازع فيه مثنى أو جمع، نَحْوُ أََظُنُّ وَيَظُنَّانِي أَخَا زَيْداً وَعَمْراً أَخَوَيْنِ، فزيداً مفعول أول لأظن، وعمراً معطوف عليه، وأخوين مفعول ثاني لأظن، والياء مفعولٌ أول ليظنانِ فيحتاج إلى مفعول ثاني، فلو أتيت به ضميراً فقلت: أظن ويظنانِي إياه زيداً وعمراً أخوين، لكان إياه مطابقاً للياء في أنهما مفردان، ولكن لا يطابق ما يعود عليه وهو أخوين؛ لأنه مفرد وأخوين مثنى، فتفوت مطابقة المفسِّر للمفسَّر، وذلك لا يجوز، وإن قلت: أظن ويظنانِي إياهما زيداً وعمراً أخوين، حصلت مطابقة المفسِّر للمفسَّر، وذلك لكون إياهما مثنى، وأخوين كذلك، ولكن تفوت مطابقة المفعول الثاني الذي هو خبر في الأصل، للمفعول الأول الذي هو مبتدأ في الأصل، لكون المفعول الأول مفرداً، وهو الياء، والمفعول الثاني غير مفرد وهو إياهما، ولا بد من مطابقة الخبر للمبتدأ، فلما تعذرت المطابقة مع الإضمار -مطابقة المبتدأ ومطابقة المفسِّر- وجب الإظهار، فتقول: أظن ويظنانِي أخاً، (أخاً) هذا مفعول ثاني ليظنانِ، فزيداً وعمراً أخوين: مفعولا أظن والياء مفعول يظنانِي الأول، وأخاً مفعوله الثاني، ولا تكون المسألة حينئذٍ من باب التنازع، -خرجت-؛ لأن كلاً من العاملين عمل في ظاهر، وهذا مذهب البصريين، وأجاز الكوفيون الإضمار مراعىً به جانب المخبر عنه -ضعيف هذا-.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!