شرح ألفية ابن مالك للحازمي عناصر الدرس
* هل يجمع بين فاعل. نعم وبئس. الظاهر والتمييز؟
* حكم (ما) الواقعية بعد. نعم وبئس. ـ
* المخصوص بالمدح أوالدم وأحكامه
* ما يجرى مجرى أفعال المدح والدم وحكمه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين، أما بعد:
وقفنا عند قول الناظم رحمه الله تعالى:
وَيَرْفَعَانِ مُضْمَراً يُفَسِّرُهْ ... مُمَيِّزٌ كَنِعْمَ قَومَاً
مَعْشَرُهْ
وقلنا: هذا هو النوع الثالث أو الرابع مما يكون فاعلاً لـ: (نِعْمَ) و
(بِئْسَ) وهو القول المُرجَّح عند جماهير البصريين: أن يكون الفاعل
ضميراً مُفسَّراً بنكرة بعده منصوبة على التمييز، وهذا الضمير له أحكام
ثلاثة ذكرناها، وكذلك المُفسِّر له شروط وهي ستة، وهذا القول هو
المشهور عند النحاة.
وذهب الكِسَائي: إلى أن الاسم المرفوع بعد النَّكِرة المنصوبة فاعلُ
(نِعْمَ): نِعْمَ رجلاً زيدٌ، ليس فيه ضمير وإنما (رجلاً) هذا حال على
مذهبه، و (زَيدٌ) هذا مرفوع على أنه فاعل (نِعْمَ).
وذهب الكِسَائي: إلى أن الاسم المرفوع بعد النَّكِرة المنصوبة فاعلُ
(نِعْمَ) والنَّكِرة عنده منصوبة على الحال، إذن: الإعراب هكذا: نِعْمَ
رجلاً زيدٌ، (نِعْمَ) فعل ماضي و (زيدٌ) فاعل و (رجلاً) هذا حالٌ من
الفاعل مُقدَّماً عليها، ويجوز عنده أن تتأخر فيُقال: نِعْمَ زيدٌ
رجلاً، إذن: حالٌ متأخرة .. على الأًصل.
وذهب الفَرَّاء إلى قول الكِسَائي نفسه السابق: إلى أن الاسم المرفوع
بعد النَّكِرة هو فاعل (نِعْمَ) إلا أنه جَعَل النَّكِرة المنصوبة
تَمييزاً مُحوَّلاً عن الفاعل، والأصل: نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ، حُذِف
الرَّجُل، ثُمَّ قيل: رجلاً بناءً على ما سبق بيانه في التمييز، ثُمَّ
حُوِّل إسناد الفعل إلى اسم الممدوح، ونُصِب تَمييزاً، فقيل: نِعْمَ
رجلاً زيدٌ، ويَقبُح عندهم تأخيره لأنه وقع موقع الرَّجُل المرفوع،
وأفاد فائدةً فَيقْبُح، يعني: لا نقول يَمْتنِع وإنما قبيح، يجوز على
قُبحٍ، أن يُقال: نِعْمَ زيدٌ رجلاً.
إذن: عند الفَرَّاء وعند الكِسَائي (زَيدٌ) في: نِعْمَ رجلاً زيدٌ
فاعل، واختلفا في (رجلاً) أعْرَبه الكِسَائي على أنه حال، وعند
الفَرَّاء تَمييز مُحوَّل عن الفاعل، عند الكسائي يجوز التقديم
والتأخير: نِعْمَ رجلاً زيدٌ .. نِعْمَ زيدٌ رجلاً، وعند الفَرَّاء
الأصل: نِعْمَ رجلاً زيدٌ، ويَقبُح تأخيره فيُقال: نِعْمَ زيدٌ رجلاً.
هذه ثلاثة أقوال ذكرها النحاة، وذكرها ابن عقيل، حيث قال: " وزعَمَ
بعضهم" -صَدَّرَه بـ: زَعَم، إذن: لم يقبل هذا القول-، أنَّ
(مَعْشَرُهْ) مرفوع بـ: (نِعْمَ) وهو الفاعل ولا ضمير فيها، وقال بعض
هؤلاء: أنَّ (قَومَاً) حال وهو الكِسَائي، وبعضهم: إنه تمييز وهو
الفَرَّاء.
ومثل: (نِعْمَ قَومَاً مَعْشَرُهْ) قوله تعالى: ((بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)) [الكهف:50] (بِئْسَ) فعل ماضي، والفاعل ضمير
مستتر .. واجب الاستتار، و (بَدَلاً) هذا تَمييز، و (لِلظَّالِمِينَ)
جار ومجرور مُتعلِّق بـ: (بَدَلاً) مصدر تَعلَّق به، وقول الشاعر:
لَنِعْمَ مَوْئِلاً الْمَوْلَى ..
(الْمَوْلَى) هذا هو المخصوص، و (نِعْمَ)
فعلٌ ماضي، والفاعل ضمير مستتر و (مَوْئِلاً) هذا منصوبٌ على التمييز،
وعند الكِسَائي: (نِعْمَ) فعلٌ و (الْمَوْلَى) فاعل و (مَوْئِلاً) حال،
وعند الفَرَّاء نفسه، إلا أنَّ (مَوْئِلاً) تَمييز.
تَقُولُ عِرْسِي وَهْيَ لِي فِي عَومَرَهْ ... بِئْسَ امْرَأً
وَإِنَّنِي بِئْسَ المَرَهْ
(بِئْسَ امْرَأً)، (بِئْسَ): فعل ماضي، والفاعل ضمير مستتر، و
(امْرَأً): تَمييز، وأين المخصوص؟ دَلَّ عليه ما سبق، يجوز حذفه كما
سيأتي، (وَإِنَّنِي بِئْسَ المَرَهْ) نفس الكلام، إذن: هذه ثلاثة
أقوال.
وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ ظَهَرْ ... فِيْهِ خِلاَفٌ عَنْهُمُ قَدِ
اشْتَهَرْ
إذن: فاعل (نِعْمَ وبِئْسَ) يكون واحداً من هذه الأحوال الثلاثة:
- إمَّا مقروناً بـ: (أل).
- أو مضافاً لِمَا فيه (أل).
- أو بواسطة، وقد يكون ضميراً مُفسَّراً بتمييزٍ.
واشتراط ما ذُكِر في فاعل (نِعْمَ وبِئْسَ) هو الغالب، وأجار بعضهم: أن
يكون مضافاً إلى ضمير ما فيه (أل) كقوله:
فنِعْمَ أخُو الهَيْجَا وَنِعْمَ شَبَابُها ..
هذا ليس مِمَّا ذكره الناظم، الناظم خَصَّه بمقارنة (أل) أن يُضَاف إلى
ما فيه (أل).
إذن الثالث: أن يكون ضميراً، وهذا ليس فيه (أل) (نِعْمَ شَبَابُها).
والصحيح: أنه لا يُقاس عليه لِقلَّته، وأجاز الفَرَّاء: أن يكون مضافاً
إلى نكرة، كقولهم:
فَنِعْمَ صَاحِبُ قَومٍ لاَ سِلاَحَ لَهُمْ ... وَصَاحِبُ الرَّكْبِ
عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَا
(فَنِعْمَ صَاحِبُ قَومٍ) (صَاحِبُ) نكرة، وهو مُضاف إلى نكرة، أجازه
الفَرَّاء، ونقل إجازته عن الكوفيين وابن السرَّاج، وخَصَّه عامَّة
الناس بالضرورة، يعني: ليس بِمقِيس.
ووَرَدَ نكرةً غير مضافٍ نحو: نِعْمَ غلامٌ أنْتَ، ونِعْمَ تَيْمُ،
لَكنَّه أقل من المضاف، وقد جاء ما ظاهره: أن الفاعل عَلَمٌ أو مضافٌ
إلى عَلَم، كقول بعض العبادلة: بئس عبد الله أنا إن كان كذا، وفي
الحديث: {نِعْمَ عَبْدُ الله هَذَا} وكأن الذي سَهَّل ذلك كونه مضافاً
في اللفظ إلى ما فيه (أل) وإن لم تكن مُعَرِّفة. لكن هذا كله قليل،
والأصل هو ما ذكره الناظم.
وأجاز المبَرِّد والفارِسي إسناد (نِعْمَ وبِئْسَ) إلى (الذي) على أنه
يكون فاعلاً، نحو: نِعْمَ الذي آمن زيدٌ، كما يسندا إلى ما فيه (أل)
الجنسية يعني: (نِعْمَ وبِئْسَ) ومنع ذلك الكوفيون وجماعة من البصريين
وهو القياس، أنه لا يُسنَد إلى (الذي)؛ لأن كل ما كان فاعلاً لـ:
(نِعْمَ وبِئْسَ) وكان فيه (أل) مُفسَّراً مُميَّزاً للضمير المستتر
فيهما إذا نُزِعت منه، والذي ليس كذلك لا تُنْزَع منه (أل) حتى يصلح
لكونه مُفسِّراً للضمير.
قال في (شرح التسهيل): " ولا ينبغي أن
يُمنَع " -لكن المشهور هو الأول: أن الذي لا يكون فاعلاً لـ: (نِعْمَ
وبِئْسَ) -. قال في (شرح التسهيل): " ولا ينبغي أن يُمنَع لأن الذي
جُعِل بِمنْزِلة الفاعل، أي: مع صِلَته بِمنْزلة اسم الفاعل المُحلَّى
بـ: (أل) " يعني: كأن (الذي) وما دخل عليه في تأويل مُشتَق، حينئذٍ
كأنه في منزلة اسم الفاعل، وهذا يقع فاعلاً لـ: (نِعْمَ وبِئْسَ) فكذا
ما هو بِمنْزلته، والمراد بكونه بِمنْزلته: أنه مؤول به، إذن: سُمِع
غير ما ذُكِر، هذا المراد: أنه سُمِع فاعل (نِعْمَ وبِئْسَ) غير مُحلًى
بـ: (أل) ولا مضافاً إلى ما فيه (أل) ولا ضميراً، إمَّا نكرة مضاف إلى
نكرة، وإمَّا نكرة مَحضَة، وإمَّا (الذي) وهو ما كانت فيه (أل) لازمة،
لأن مُقَارِنَيْ (أَلْ) هل يشمل ما كانت فيه (أل) ملازمة أم زائدة؟
الثاني، يعني: زائدة بمعنى: أنها دخلت عليه مُعَرِّفة.
فحينئذٍ (الذي) و (الآن) ونحو ذلك لا يكون فاعلاً لـ: (نِعْمَ) لماذا؟
لكونه لم يُقارِن (أل).
ثُمَّ قال - رحمه الله تعالى -:
وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ ظَهَرْ ... فِيْهِ خِلاَفٌ عَنْهُمُ قَدِ
اشْتَهَرْ
(وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ) (جَمْعُ) مبتدأ أول، وهو مضاف و
(تَمْيِيزٍ) مضاف إليه (وَفَاعِلٍ) معطوف على (تَمْيِيزٍ)، ظَهَرْ هذه
صفة لـ: (فَاعِلٍ) يعني: وفاعلٍ ظاهرٍ، يعني: لا مُضْمَر (فِيْهِ
خِلاَفٌ) خلافٌ فيه (فِيْهِ) خبر مُقدَّم و (خِلاَفٌ) مبتدأ مُؤخَّر.
(عَنْهُمُ قَدِ اشْتَهَرْ) قد اشتهر عنهم، (عَنْهُمُ) مُتعلِّق بـ:
(اشْتَهَرْ) و (قَدِ) هذه للتَّحقِيق، والجملة هنا نعتٌ لـ: (خِلاَفٌ).
أفاد هذا البيت: أنَّ الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر فيه خلافٌ
مشهورٌ بين النحاة، هل فيه فائدة غير هذه؟
وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ ظَهَرْ ... فِيْهِ خِلاَفٌ. . . . . . .
كأن قائلاً قال: أقسام المياه فيها خلاف! هل هي ثلاثة أم اثنان؟ ما زاد
على هذا، هل فيه فائدة؟ أقسام المياه قسمان أو ثلاثة، يعني: لا أربعة
ولا عشرة ما فيه إشكال، لكن قوله: (وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ
ظَهَرْ) يعني: فاعل ظاهر، هل يُجمَع بين التمييز والفاعل الظاهر؟ قال:
(فِيْهِ خِلاَفٌ عَنْهُمُ قَدِ اشْتَهَرْ).
حقيقةً لم يظهر لي أن في البيت فائدة، إلا أنه حكى الخلاف فحسب.
اختلف النحويون في جواز الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر في (نِعْمَ)
وأخواتها، سبق معنا أنَّ التمييز متى يؤتى به؟ إذا كان الفاعل ضميراً
مُستتراً: نِعْمَ رجلاً زيدٌ، لو كان الفاعل ظاهراً، هل يَجوز أن يُؤتى
بالمميِّز .. لماذا جئنا بالمميِّز هناك؟ من أجل كشف وتفسير وإيضاح
الفاعل المبهم الذي هو الضمير المستتر، فالذي جَوَّزَ كون فاعل (نِعْمَ
وبِئْسَ) ضميراً والأصل فيه أنه مُبهَم، الذي جَوَّزَ ذلك التزامنا
بالمُفسِّر الموضح المُبيِّن للضمير.
طيب! لو ظهر الفاعل، هل ثَمَّ فائدة
للتمييز .. إذا علَّلْنَا فائدة مَجيئه بكون الفاعل ضميراً مستتراً،
والضمير المستتر مُبهَم، هل ثَمَّ فائدة: التمييز مع الفاعل الظاهر؟
الأصل نقول: لا، إذا علَّلْنَا بالفائدة دون السَّمَاع، قلنا: لا
فائدة، إذن: لا يُجمع بينهما، ولكن ثَمَّ خلافٌ بين النحاة، منهم من
جَوَّز، ومنهم من منع، فقال قومٌ: لا يجوز ذلك، لا يُقال: نعم زيدٌ
رجلاً، على أنَّ رجلاً تَمييز وزيدٌ فاعل لا يجوز.
ومن أنصار هذا القول سيبويه رئيس النحاة والسِّيْرافي، ومنعوه مُطلقاً
وتأولا ما سُمِع - كل ما سُمِع فهو مؤول - إمَّا على أنه حالٌ في بعض
المواضع، أو منصوبٌ بفعلٍ محذوف في بعض المواضع يناسب المقام، إذا جاء
منصوبٌ بعد الفاعل الظاهر في باب (نِعْمَ) إمَّا أنه حال، وإمَّا أنه
منصوبٌ بفعل مُضمَر يناسبه المقام، إمَّا هذا أو ذاك، كل ما سُمِع
واستدل به فهو مؤول على واحدٍ من هذين المخرجين، وهذا قول سيبويه
والسيرافي، فهو ممنوع مُطلقاً.
فلا تقل: نِعْمَ الرَّجُل رجلاً زيدٌ، نِعْمَ الرَّجُل (نِعْمَ) فعل و
(الرَّجُل) فاعل و (رجلاً) تَمييز، و (زيدٌ) هذا المخصوص.
وذهب قومٌ إلى الجواز، ومنهم المبَرِّد وابن السرَّاج والفارسي والناظم
- ابن مالك رحمه الله تعالى - واستدلوا بالأثر، يعني: بِمَا نُقِل عن
العرب، ومنه قول الشاعر:
والتّغلَبيّون بِئْسَ الفحلُ فحْلُهُمُ ... فَحْلاً وأمُّهُمُ زَلاّءُ
مِنْطيقُ
(بِئْسَ الفحلُ فحْلُهُمُ فَحْلاً)، (بِئْسَ) هذا فعل ماضي (الفَحْلُ)
هذا فاعل (فحْلُهُمُ) هذا المخصوص (فَحْلاً) هذا تَمييز، إذن: جُمِع
بين الفَحْلُ فَحْلاً، (الفَحْلُ) هذا فاعل و (فَحْلاً) هذا تَمييز،
إذن: جمع بين الفاعل الظاهر وتَمييزه.
تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أَبِيكَ فِينَا ... فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ
أَبِيكَ زَادَا
(فَنِعْمَ الزَّادُ زَاداً) (نِعْمَ) فعل ماضي لإنشاء المدح و
(الزَّادُ) فاعل (نِعْمَ) وهو ظاهر و (زَادَا) المتأخر هذا تَمييز نكرة
و (زَادُ أَبيكَ) هذا مبتدأ مؤخَّر، إذن: جُمِع بين الفاعل الظاهر
والتمييز.
وسيبويه والسيرافي يَمنعون في البيتين فيجعلون (فَحْلاً) و (زَادَا)
إمَّا أنه منصوب على الحالية، وإمَّا أنه منصوب بفعل مُضْمَر يُفسِّره
المقام، يعني: بِحسب المقام، والبيت الأول (التّغلَبيِّون) تأويله صعب،
وأمَّ الثاني سهل (تَزَوَّدْ - زَاداً - مِثْلَ زَادِ أَبيكَ فِينَا)
جعلوا (زَادَاً) هذا ليست تَمييزاً، وإنما هي مفعولٌ لقوله:
(تَزَوَّدْ) و (مِثْلَ زَادِ) هذا حال مُقدَّم - على أنه حال - وعلى
الاستشهاد بالبيت على أنَّ (زَادَاً) تَمييز نَجعَل مثل (زَادٍ) مفعول
لقوله: (تَزَوَّدْ) من أول البيت (تَزَوَّدْ) هذا فعل أمر، الفاعل أنت
(مِثْلَ زَادٍ) مفعول.
طيب! (زَادِ أَبيكَ فِينَا) واضح، إذا
أردنا تَخرِيجه لمنع أن يكون (زَادَاً) هو تَمييز نَجعل (تَزَوَّدْ
مِثْلَ زَادِ) نقول: (مِثْلَ زَادِ) ليس هو المفعول، وإنما (زَادَاً)
هو المفعول و (مِثْلَ زَادِ) هذا الأصل فيه أنه مُتأخر فتَقدَّم ونصب
على الحالية، وأصل التركيب: (تَزَوَّدْ زَادَاً مِثْلَ زَادِ أبيكَ
فِينَا فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ) إذن: ليس عندنا جمع بين ظاهر
وتَمييز، لكن في الأول فيه نوع صعوبة.
وبعضهم فَصَّلَ فقال: إن أفاد التمييز فائدةً زائدةً على الفاعل جاز
الجمع بينهما، نحو: نِعْمَ الرَّجُل فارساً زيدٌ .. (فارساً) هذا
التمييز و (الرَّجُل) هذا فاعل نِعْمَ، إذن: استفدنا شيئاً جديداً من
التمييز، أمَّا: نِعْمَ الرَّجُل رجلاً زيدٌ، ليس فيه فائدة، لأنه لم
يقع كشفٌ به، وليس مُفسِّراً، بل هو وجوده وعدمه سواء: نِعْمَ الرَّجُل
زيدٌ .. نِعْمَ الرَّجُل رجلاً زيدٌ، ما الفائدة منه؟ لا شيء، فهذا
القول وهو منسوب لابن عصفور، التفريق أو الفَصْل بين ما إذا كان المميز
له فائدة أو لا، إن أفاد جاز أن يُجمع بينه وبين الفاعل الظاهر، وإن لم
يُفِد حينئذٍ لا يُذكر أصالةً. نِعْمَ الرَّجُل فارساً زيدٌ وإلا فلا،
نحو: نِعْمَ الرَّجُل رجلاً زيدٌ، وصحَّحَه ابن عصفور.
وكقوله:
فَنِعْم المرءُ مِن رَجُل تِهَامى ..
(فَنِعْم المرءُ) هذا فاعل (مِن رَجُل) هنا جُرَّ بـ: (مِنْ) وهو
تَمييز، أفاد بواسطة نَعْتِه بكونه منسوباً إلى تهامة، ومنه:
نِعْمَ الصَّدِيقُ صَدِيقاً وفيَّاً ..
هذا بواسطة نَعْتِه، (نِعْمَ الصَّدِيقُ صَدِيقاً) (صَدِيقاً) هذا
تَمييز (نِعْمَ الصَّدِيقُ صَدِيقاً) والصديق صديق، ما الفائدة من
(صَدِيقاً)؟ حينئذٍ نقول: لَمَّا وصِفَ (نِعْمَ الصَّدِيقُ صَدِيقاً
وفيَّاً) جميلاً ونحو ذلك حينئذٍ حصلت الفائدة بالوصف.
إذن: (وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ ظَهَرْ) فاعلٍ ظاهر (فِيْهِ
خِلاَفٌ عَنْهُمُ قَدِ اشْتَهَرْ) ولم يُرجِّح الناظم إلا أنه في غير
هذا الكتاب رجَّحَ الجواز مُطلقاً: أنه يُجمع بينهما، لكن إذا عُلِّلَ:
وَيَرْفَعَانِ مُضْمَراً يُفَسِّرُه ... مُمَيِّزٌ. . . . . . . . .
أن التمييز هنا واجب لكونه مُفسِّراً للضمير المبهم حينئذٍ العِلَّة
هذه لا بد أن تكون مُطَّرِدة، فإذا كشف مُبهماً وزاد فائدةً، فقد
يُقال: إنه لا إشكال بالجمع، وإلا فالأصل المنع.
وقال في غير هذا الكتاب: " والجواز هو الصحيح لوروده نثراً ونظماً "
ومن النَّثر ما حُكِي في كلامهم وسبق ذِكْر شيئاً من ذلك، ومن النثر
قولهم: نِعْمَ القتيل قتيلاً أصلح بين بكرٍ وتَغْلِب .. تَغْلِب
تَغْلَب، نِعْمَ القتيل قتيلاً، وقد جاء التمييز حيث لا إبهام يرفعه
لِمُجرَّد التوكيد، هذا بناءً على ما سبق في باب التمييز.
قلنا: مُبيِّنٌ .. اسمٌ مُبِينٌ (مُبِينٌ)
هذا أخْرَج المُؤكِّد، فمن اشترط التبيين حينئذٍ منع أن يكون التمييز
مُؤكِّداً، والمسألة فيها خلاف: هل يأتي التمييز مؤكِّداً أم لا؟ إذا
قيل: (نِعْمَ الرَّجُل رجلاً) لم يُفِد، مَن جَوَّز التوكيد .. أن يكون
التمييز مُؤكِّداً لا إشكال عنده، ومن مَنَع حينئذٍ: (نِعْمَ
الصَّدِيقُ صَدِيقاً وفيَّاً) لا إشكال فيه لأنه أفاد، وأمَّا الثاني
فلا.
ثُمَّ قال رحمه الله:
وَمَا مُمَيِّزٌ وَقِيْلَ فَاعِلُ ... فِي نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُولُ
الفَاضِلُ
(وَمَا مُمَيِّزٌ) يعني: في موضع نَصبٍِ تَمييز (وَقِيْلَ فَاعِلُ)
إذن: قَدَّم الأول ولم يُضعِّفه، ثُمَّ قال: (وَقِيْلَ) بصيغة التمريض
(فَاعِلُ) إذن: رجَّحَ الأول بِجهتين .. من طريقين:
- التقديم، وهو دائماً يُقدِّم ما هو أرجح عنده.
- وثانياً: صيغة التمريض للقول الثاني.
إذن: (وَمَا مُمَيِّزٌ) فهي في موضع نصبٍ، (وَقِيْلَ فَاعِلُ) فهي في
موضع رفعٍ، وقيل: إنها المخصوص، وقيل: كافة، أربعة أقوال، في ماذا؟ أي:
(فِي نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) مثل هذا التركيب، في كل
تركيب وقع فيه بعد (نِعْمَ) أو (بِئْسَ) (مَا) فجملة فعلية، مثل هذا
التركيب، كيف تُعرِب (مَا)؟ مُميِّز في محل نصب، وقيل: فاعل، والراجح
عند المُصنِّف: أنها مُمَيِّز، إذن: فهي في موضع نصبٍ على التمييز.
ثُمَّ اختلفوا في معناها: هل هي موصولة .. هل هي معرفة .. هل هي نكرة
تامة .. نكرة ناقصة؟ أقوالٌ ثلاثة .. (مَا) على القول بأنها مُميِّز،
اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
- الأول: أنها نكرة موصوفة بالفعل بعدها، والمخصوص محذوف، وهو مذهب
الأخْفَش والزَجَّاجي وكثير من المتأخرين، رَجَّحوا أن تكون هذه نكرة
موصوفة بالفعل بعدها، إذن: (نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ).
إذا قلنا: بأنها نكرة موصوفة صارت جملة: (يَقُولُ الفَاضِلُ) نعت لها،
وأين الفاعل؟ ضمير مستتر، (نِعْمَ) ضميرٌ مُستتر، ثُمَّ جاءت (مَا) فهي
مُميِّز، ثُمَّ (يَقُولُ الفَاضِلُ) هذه صفة للنكرة .. تَمييز، ولذلك
سبق التنبيه على أنه يَصِّح وصفه: نِعْمَ رجلاً صالحاً زيدٌ، سواءٌ كان
وصفه بِمفرد أو بِجملة.
- الثاني: أنها نكرة غير موصوفة، والفعل بعدها صفةٌ لمخصوصٍ مَحذوف،
أي: شيءٌ، (نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) نِعْمَ شَيءٌ يَقُولُه
الفَاضِلُ.
- الثالث: أنها تَمييز، والمخصوص (مَا) أخرى موصولة محذوفة، والفعل
صِلةٌ لـ: (مَا) الموصولة المحذوفة، نُقِل عن الكِسَائي، وهذا بعيد!
كأنه قال: نِعْمَ مَا مَا يَقُولُ الفَاضِلُ، حينئذٍ تَمييز، والمخصوص
(مَا) أخرى موصولة محذوفة، والفعل صِلةٌ لـ: (مَا) الموصولة المحذوفة
ونُقِل عن الكِسَائي، وهذا ضعيف بعيد! لماذا؟ لأننا نقول: (مَا) هي
ملفوظٌ بها، ما الذي دَلَّ على (مَا) المحذوفة هذه .. من أين في اللفظ؟
إذا قيل: بأن ثَمَّ شيءٌ محذوف لا بُدَّ من بيِّنة، إمَّا قرينة مذكورة
ملفوظٌ بها، وإمَّا نَقلٌ عن العرب.
حينئذٍ نأخذ أنه قد يَسُدُّ مكان المحذوف
شيءٌ من المذكور، هذا إذا التزمنا حذف المذكور، لأننا إذا حَذفنَا
(مَا) في كل تركيبٍ: (نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) كل تركيب نُعرِب
(مَا) هذه تَمييز، ثُمَّ نقول: (يَقُولُ الفَاضِلُ) هذه صِلةٌ لموصولٍ
محذوف، ما الذي دَلَّنا؟ بل العكس، لو قيل: بأنَّ ثَمَّ (مَا) محذوفة
لالتبَس بـ: (مَا) الملفوظة .. المذكورة، وهذا يقع به لبس.
إذن: الذين قالوا بأن (مَا) مُميزٌ اختلفوا على ثلاثة أقوال: أنها
نَكِرة موصوفة بالفعل بعدها، والمخصوص مَحذوف، وهذا أظهر.
والثاني: أنها نكرة غير موصوفة، والفعل بعدها صفةٌ لمخصوصٍ مَحذوف.
والقول الثالث: أنها تَمييز، والمخصوص (مَا) أخرى موصولة، والفعل
المذكور صِلتها، وهذا بعيد جداً.
(وَمَا مُمَيِّزٌ وَقِيْلَ فَاعِلُ) على أنها في موضع رفع فاعل، وهذا
كذلك شهير عندهم، واختلفوا في معناها على خمسة أقوال، إذا قيل: بأنها
في موضع رفع فاعل: (نِعْمَ مَا) على القول الأول الفاعل ضمير مُستتر، و
(مَا) مُميز، وعلى القول الثاني بأنها فاعل ليس عندنا ضميرٌ مستتر،
ولذلك اختلفوا على خمسة أقوال:
الأول: أنها اسمٌ مَعرِفةٌ تَامٌ غير مفتقر إلى صِلةٍ، والفعل صِفةٌ
لمخصوص محذوف، والتقدير: نِعْمَ الشيء شيءٌ فَعَلْتَ.
والثاني: أنها موصولة، والفعل صِلتها، والمخصوص محذوف.
والثالث: أنها موصولة، والفعل صِلتها، وهي فاعلٌ يُكْتَفى بها وبِصلتها
عن المخصوص.
والرابع: أنها مصدرية، ولا حذف في التركيب، والتقدير: نِعْمَ فِعْلك،
لكن هذا ضعيف، لأنه لا يَحسُن في الكلام: نِعْمَ فِعْلك، حتى يُقال:
نِعْمَ الفعل فِعْلك، لأن (نِعْمَ) لا بُدَّ أن يكون مدخولها محلىً بـ:
(أل).
الخامس: أنها نكرة موصوفة في موضع رفعٍ، والمخصوص محذوف.
وهذه كلها ضعيفة، لأنها مبنية على أنها في موضع رفع، والصواب: أنها في
موضع نَصبٍ تَمييز.
وقيل: أنها المخصوص (مَا) (نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ)، فأمَّا
القائلون: بأنها المخصوص فقالوا: إنها موصولية، والفاعل مستتر، و (مَا)
أخرى محذوفة هي التمييز، والأصل: نِعْمَ مَا صَنعْتَ، والتقدير: نِعْمَ
شَيْئاً الذي صَنعْتَ، وهذا ضعيف أيضاً.
والقائلون: بأنها كآفَّة، قالوا: إنها كَفَّتْ (نِعْمَ) كما كَفَّتْ
(مَا) قَلَّ وطَالَ .. قَلَّمَا .. طَالَما، هذه (مَا) كآفَّة
كَفَّتْها عن طلب الفعل، إذن: (نِعْمَ مَا يَقُولُ) ليس لها فاعل .. عن
طلب الفاعل (نِعْمَ مَا يَقُولُ) إذا قلنا بأن (مَا) كآفَّة إذن:
كَفَّتْها عن طلب الفاعل، ولذلك دخلت على الجملة الفعلية: يَقُولُ
الفَاضِلُ، وهذا ضعيف، كما كَفَّتْ (مَا) قَلَّ وطَالَ فتصير وتدخل على
الجملة الفعلية.
(فِي نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ)، (نِعْمَ) فعلٌ ماضي،
والفاعل ضميرٌ مستتر و (مَا) اسمٌ نكرة موصوفة، وهي منصوبةٌ على
التمييز، وجملة: (يَقُولُ الفَاضِلُ) في محل نصب نعت للتمييز، والمخصوص
محذوف، هذا مذهب الزجَّاجي والأخْفَش وكثير من المتأخرين، وهو أسْلَم
من بقية الأقوال.
(نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) بعد (ما)
في لسان العرب إذا تلت (نِعْمَ) إمَّا أن يتلوها جملة كما ذكره الناظم،
وإمَّا أن يتلوها اسمٌ مُفرد: ((فَنِعِمَّا هِيَ)) [البقرة:271] وإمَّا
ألا يتلوها شيءٌ البتَّة: (فَنِعِمَّا) هكذا يُقال، هل كلام الناظم
مخصوصٌ بِما إذا تلاها جملةٌ فعلية، أم يشمل ما إذا تلاها اسمٌ مُفرَد،
أم يشمل أيضاً الحالة الثالثة وهي: ما إذا لم يتلوها شيءٌ البَتَّة لا
جملة، ولا شبه جملة، ولا اسمٌ، هذا مُحتمل .. مُحتمل أنه خَصَّ هذا
الحكم بكون (مَا) مُميِّز، أو أنها فاعل على الخلاف بما إذا تلاها جملة
فعلية.
ولكن الظاهر أنه يدخل معها ما إذا تلاها اسمٌ مفرد ((إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ)) [البقرة:271] (نِعْمَ مَا) أُدغِمَت،
(هِي) هذا جاء بعد (مَا)، هل هي مثل (مَا يَقُولُ الفَاضِلُ)؟ الحكم
واحد؟ فنقول: (مَا) إمَّا مُميِّز ثُمَّ ما بعده صفةٌ له، وهذا يَمتنع
لأنه ضمير، وإمَّا أن نقول: بأنه فاعل؟
نقول: إذا وليها اسمٌ نحو: ((فَنِعِمَّا هِيَ)) [البقرة:271] ففيها
ثلاثة أقوال:
الأول: أنها نكرةٌ تَامَّة في موضع نصبٍ على التمييز، ما معنى
(تَامَّة)؟ يعني: غير مُفتَقرة إلى ما بعدها بأنها صِلة، وهذا أجْوَد،
لأن الضمير لا يُنْعَت ولا يُنْعَت به، الضمائر كلها لا تَقَع نَعتاً
ولا تُنْعَت.
الأول: أنها نكرةٌ تَامَّة في موضع نصبٍ على التمييز، والفاعل مُضْمرٌ
والمرفوع بعدها هو المخصوص، وهذا أسْلَم الأقوال، ((فَنِعِمَّا هِيَ))
[البقرة:271] نقول: (نِعْمَ) فعل ماضي لإنشاء المدح، والفاعل ضميرٌ
مستتر و (مَا) نكرةٌ تامَّة في موضع نصبٍ على التمييز و (هِي) المخصوص
.. ضمير (هي) المخصوص، الاسم الذي يتلوها هو المخصوص، وهذا أسْلَمها.
الثاني: أنها مَعرفةٌ تامَّة، وهي الفاعل، وهو ظاهر مذهب سيبويه،
والاسم المرفوع بعدها هو المخصوص، والتقدير في الآية: فنِعْمَ الشيء
هِي، أي: الصدقات، فحينئذٍ (مَا) معرفة تامَّة، يعني: غير مفتقرة إلى
ما بعدها .. ليست موصولة، لأن الموصولات معرفة ناقصة، لأنها لا تتم إلا
بما بعدها.
هنا (ما) معرفة تامَّة وهي فاعل، والاسم المرفوع بعدها هو المخصوص.
إذن: ((فَنِعِمَّا هِيَ)) [البقرة:271] (نِعْمَ) فعل ماضي و (مَا) فاعل
و (هِي) الضمير هو المخصوص، وهو قول الفرَّاء ونُقِل عن المبَرِّد وابن
السرَّاج والفارسي.
القول الثالث وهو أضعفها: أنَّ (مَا) مركبةٌ مع الفعل كتركيب: (حَبَّ)
مع (ذَا) الآتي على القول به، ولا موضع لها من الإعراب، والمرفوع بعدها
هو الفاعل، وقال به قومٌ وأجازه الفرَّاء، يعني: صار الجميع كأنه كلمة
واحدة: (فَنِعِمَّا) كلمة واحدة، مثل: (حَبَّذَا) حَبَّ .. ذَا، صارت:
(حَبَّذَا) كلها كلمة واحدة، سيأتي أنه قولٌ ضعيف.
فصار الجميع كلمةً واحدة هي فعل ماضي لإنشاء المَدْح أو الذَّمْ،
والاسم الذي يليها فاعل (فَنِعِمَّا) فعلٌ ماضي و (هِي) فاعل، وهذا
ضعيف، لأن التركيب بين فعل واسمٍ، ثُمَّ تغليب الفعل على الاسم هذا
ضعيف، لأن الفعل أدنى من الاسم.
إذن: ثلاثة أقوال فيما إذا تلاها اسمٌ
مُفردٌ، وهذه قد يُقال بأنه داخلةٌ في كلام الناظم الحالة الثانية، بأن
يُراد بـ: (نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) كل تركيبٍ وقعت فيه
(مَا) بعد (نِعْمَ) متلوةٌ بِشيءٍ اسماً كان أو جملة، فيكون قد ذكر
مثال ودَلَّ به على غيره (نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) يعني: كلَّمَا
ذُكِرَت (مَا) بعد (نِعْمَ) وتلاها شيءٌ، ثُمَّ هذا الشيء منه ما هو
جملة، ومنه ما هو اسمٌ، وذكر مثالاً للجملة وأحال على الاسم، هذا
مُحتمِل.
وقَعَتْ فيه (مَا) بعد (نِعْمَ) متلوةً بشيء: اسم كان، أو جملةً فعلية،
فإن لم يتلوها اسمٌ، ولا جملة فعلية، ولا اسمية، ولا شبه جملة، نحو:
صَادَقتُ علياً فنِعْمَّا .. (نِعْمَ .. مَا) سَكَّتَ ما ذَكَرت شَيئاً
بعدها، ففيها قولان للنحاة:
القول الأول: أن (مَا) معرفة تامةً .. فاعل، كأنك قُلت: صَادَقت علياً
فنِعْمَ الصديق، (مَا) فاعل وهي معرفةٌ تامَّة، حينئذٍ هي الفاعل،
وصارت في معنى قولك: صادقت علياً فنِعْمَ الصديق.
الثاني: أن (مَا) نكرةٌ تامَّة تَمييز، والفاعل مستتر.
وعلى القولين فالمخصوص محذوف: فَنِعْمَّا، نقول: (مَا) فاعل أو تَمييز،
إمَّا فاعل حينئذٍ لا إشكال فيه فهي معرفة تامةً، والمخصوص محذوف، وإذا
قيل بأنها تَمييز، حينئذٍ الفاعل ضميرٌ مُستتر، والمخصوص كذلك محذوف.
وأيضاً يُمكن دخول هذه في كلام الناظم، بأن يُراد بنحو المثال كل
تركيبٍ وقعت فيه (مَا) بعد (نِعْمَ) مُطلقاً، يُمكن أن نقول: مُراده
(فِي نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) لأنه حَكَمَ على (مَا) إذن:
المراد (فِي نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ) (مَا) بعد (نِعْمَ)
ثُمَّ تدخل تحتها الأحوال الثلاثة: إمَّا أن يتلوها جملة، وإمَّا أن
يتلوها اسمٌ مُفرَد، وإمَّا ألا يتلوها شيء، فيكون المُرجَّح عندهم في
المسائل الثلاث: أن (مَا) مُميِّزٌ، إذا عمَّمْنَا المثال حينئذٍ: و
(مَا) مُميِّزٌ مُطلقاً، سواءٌ قلت: (نِعْمَ مَا يَقُولُ الفَاضِلُ)
(مَا) مُميِّزٌ والضمير مستتر، أو قلت: ((فَنِعِمَّا هِيَ))
[البقرة:271] (مَا) مُميِّزٌ والضمير مستتر و (هِي) المخصوص، أو قلت:
(فَنِعِمَّا) فـ: (مَا) مُميِّزٌ والضمير فاعل، والمخصوص محذوف،
وَقِيلَ: فَاعِلُ.
قال هُنا: " تقع (مَا) بعد (نِعْمَ) و (بِئْسَ) فتقول: نِعْمَ مَا، أو:
نِعِمَّا وبِئْسمَا، ومنه قوله تعالى: ((إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ)) [البقرة:271] " ((بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ
أَنفُسَهُمْ)) [البقرة:90] (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا) جاءت جملة فعلية بعد
(مَا).
واختُلِف في (مَا) هذه فقال قومٌ: هي نكرة منصوبة على التمييز، وهذا
ظاهر كلام الناظم، وفاعل (نِعْمَ) ضميرٌ مستتر، وقيل: هي الفاعل وهي
اسمٌ معرفة، وهذا مذهب ابن خَروف ونَسَبَه إلى سيبويه.
وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا ... أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ
يَبْدُو أَبَدَا
الاسم المخصوص في اصطلاح النحاة في هذا
الباب هو الاسم المقصود بالمدح بعد (نِعْمَ) أو بالذَّمِّ بعد
(بِئْسَ): نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ، من المقصود بالمدح؟ زيد، هذا يُسمَّى:
المخصوص، بِئْسَ الرَّجُل عمروٌ، من المقصود بالذَّمْ؟ عمروٌ، إذن
نقول: هو المخصوص، هذا المخصوص له أحكام.
(وَيُذْكَرُ)، (يُذْكَرُ): هذا مُغيَّر الصيغة، (المَخْصُوصُ) نائب
فاعل، (بَعْدُ) بعدَ ماذا؟ بعد فاعل (نِعْمَ وبِئْسَ) لأنه تَدَرَّج
معك في الأحكام، قال: فِعَلاَنِ .. قال: رَافِعَانِ اسْمَيْنِ، ثُمَّ
بيَّن لك أحكام التمييز، ثُمَّ قال: (وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ)
يعني: أن تأتي بـ: (نِعْمَ وبِئْسَ) ثُمَّ الفاعل إن كان ظاهراً، أو
ضميراً مستتراً، ثُمَّ الإتيان بِمفسِّره، ثُمَّ يذكر (المَخْصُوصُ
بَعْدُ).
إذن: الترتيب على هذا .. هذا الأصل فيه: تأتي بـ: (نِعْمَ وبِئْسَ)
ثُمَّ الفاعل إن كان ظاهراً فلا إشكال، وإن كان مُستتراً حينئذٍ تتلوه
وتتبعه بالمُفسِّر، ثُمَّ تأتي بالمخصوص.
(وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ) يعني: بعد فاعل (نِعْمَ وبِئْسَ) وهل
هذا على سبيل الاختيار أم الإيجاب .. هل يجب أم يَجوز التقديم؟ هو قال:
(يُذْكَرُ) لم يأمر به، سيأتي: (وَأَولِ ذَا المَخْصُوصَ) وهنا قال:
(يُذْكَرُ).
على كلٍ: حكا ابن هشام الإجماع في شرح (قَطْرِ النَّدَى) على أنه
يَتقدَّم إجماعاً .. يَتقدَّم على (نِعْمَ وبِئْسَ)، وإذا كان كذلك
حينئذٍ يكون قوله: (وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ) اختياراً لا على
جهة الإيجاب.
(مُبْتَدَاً) والجملة قَبْلَه خبر، إذا ذكرنا المخصوص مُتأخراً ففي
إعرابه ثلاثة أقوال، قولان مشهوران جائزان، وإن كان أحدهما أرجح من
الآخر، (وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ) فتقول: نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ
مُبْتداً، يعني: حال كونك مُعرِباً له أنه مبتدأ، فـ: (زيدٌ) مبتدأ،
وسَكَتَ عن الخبر، إذن: الخبر نِعْمَ الرَّجُل .. الجملة السابقة،
والرابط بينهما ما ذكرناه سابقاً: إمَّا العموم، وإمَّا إعادة المبتدأ
بمعناه.
(مُبْتَدَاً) والجملة قبله خبر، (أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو
أَبَدَا) (خَبَرَ اسمٍ) يعني: المخصوص يُذْكَر بَعدُ خبر اسمٍ، يعني:
خبراً لمبتدأ، يعني: إمَّا أنَّكَ تُعرِب المخصوص مبتدأ، والجملة قبله
خبر، وإمَّا أن تقول: المخصوص خبر، والمبتدأ محذوفٌ وجوباً، ولذلك قال:
(أَوْ خَبَرَ اسمٍ) يعني: مُبتدأ محذوفٍ (لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا)
يعني: لا يظهر فهو واجب الحذف بقوله: (لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا) تأبيد،
بمعنى: أنه لا يظهر أبداً، فتقول: نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ، (نِعْمَ
الرَّجُل) فعل وفاعل، و (زيدٌ) خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي:
الممدوح، وهذا سيأتي في باب النعت.
وأيُّ القولين أولى، ولا نقول: أصَحْ؟
يعني: كلاهما صحيح .. لا يُخالف القواعد العامَّة، لكن ابن مالك ماذا
قَدَّم؟ قَدَّم القول الأول فهو أرجح عنده، لماذا؟ لأنه ليس فيه تقدير،
(زيدٌ) مبتدأ و (نِعْمَ الرَّجُل) خبر مُقدَّم، هذا أولى لا يُحوِجُنَا
إلى القول بأن ثَمَّ مبتدأ محذوف واجب الحذف إلى آخره، وإن كان جائزاً
.. لا بأس به، لكن نقول: هنا عدم التقدير أولى من التقدير، وهذه قاعدة
أغلبية وليست مُطَّرِدة.
(أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ يَبْدُو أَبَدَا) يعني: لا يظهر أبداً، فهو
واجب الحذف.
(وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا) مبتدأ (أَوْ خَبَرَ اسمٍ)
مبتدأ محذوف (لَيْسَ يَبْدُو) يعني: ليس يظهر (أَبَدَاً) هذا تأبيد،
يعني: إذا جُعِل المخصوص خبراً كان حذف المبتدأ واجباً.
عرفنا الآن المخصوص ما هو وإعرابه.
حَقُّ المخصوص أمران:
الأول: أن يكون مُخْتصَّاً، يعني: هل كل لفظٍ يَصِح أن يكون مخصوص؟ لا،
مثل فاعل (نِعْمَ وبِئْسَ) ليس كل اسمٍ ظاهر يصلح أن يكون فاعلاً لـ:
(نِعْمَ وبِئْسَ) كذلك المخصوص، هذا الباب مستثنىً من القواعد
العامَّة، حينئذٍ نقول: المخصوص الأصل فيه: أن يكون مُخْتصَّاً بأن يقع
معرفةً، أو نكرة موصوفةً، أو مضافاً، يعني: معرفة أو نكرة مخصوصة،
والاختصاص قد يكون بالإضافة، وقد يكون بالوصف، لأن شَرْطَه: أن يكون
أخَصَّ من الفاعل.
الثاني: أن يَصْلُح للإخبار به عن الفاعل موصوفاً بالمدح بعد (نعم) أو
بالذَّمِّ بعد (بِئْسَ)؛ فإن باينه -غايره- أُوِّلَ، كقوله: ((بِئْسَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا)) [الجمعة:5] أي: مَثَلُ الذين
كذَّبوا.
إذن: الأصل فيه أن يكون معرفة أو نكرة مُختصَّة. قال ابن هشام في
(قَطْرِ النَّدَى): " ولا يجوز بالإجماع أن يَتقَدَّم المخصوص على
الفاعل - هذا من حقوقه وأحكامه – فلا يُقال: نِعْمَ زيدٌ الرَّجُل "
هذا غير جائز بالإجماع –محل وفاق-، (نِعْمَ) فعل ماضي (زيدٌ) هذا مخصوص
و (الرَّجُل) هذا فاعل، يَصِح؟ لا يَصِح، لو أردنا عِلَّة لماذا؟
أعربنا (زيد) إمَّا أنه خبر، وإمَّا أنه مبتدأ، وعليهما فُصِلَ بين
الفاعل والفعل بأجنبي، (نِعْمَ) فعل و (الرَّجُل) فاعل و (زيدٌ)
بينهما، إمَّا أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف: نِعْمَ زَيد .. نِعْمَ هُو
زَيدٌ الرَّجُل، فَصَلْنا بينهما بجملة وهذا فاسد، وإذا قلنا: (نِعْمَ
الرَّجُل) هو الخبر و (زيدٌ) هو المبتدأ حينئذٍ كيف يَتوَسط المبتدأ
بين الخبر؟! نِعْمَ زيدٌ الرَّجُل، (نِعْمَ الرَّجُل) هو الخبر، و
(زَيدٌ) وقع بينهما، هذا ما يصلح.
إذن: لا يجوز بالإجماع أن يَتقدَّم المخصوص على الفاعل، فلا يُقال:
نِعْمَ زيدٌ الرَّجُل، ولا على التمييز خلافاً للكوفيين – المسألة فيها
خلاف – يعني: لا يُقال: نِعْمَ زيدٌ رجلاً (رجلاً) هذا مُميِّز للفاعل
الضمير المستتر، و (زيدٌ) هذا المخصوص، هل يَصِح أن يُقال: نِعْمَ زيدٌ
رجلاً؟ قال: لا يَصِح خلافاً للكوفيين، وإن كان ثَمَّ أدلة عند
الكوفيين.
ويَجوز بالإجماع أن يَتقدَّم على الفعل
والفاعل: زيدٌ نِعْمَ الرَّجُل، وإذا كان إجماع حينئذٍ نقول: قول
الناظم (وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ) هذا على سبيل الجواز لا على
سبيل الوجوب، لأنه بالإجماع وإذا كان إجماع انتهينا، ويجوز حذْفه إذا
دَلَّ عليه دليل، وهو الذي أشار إليه بالبيت الآتي، إذن: هذا ما
يَتعلَّق بالمخصوص.
وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا ... أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ
يَبْدُو أَبَدَا
يُذكر بعد (نِعْمَ وبِئْسَ) وفاعلهما، اسمٌ مرفوع هو المخصوص بالمدح أو
الذَّمِّ، وعلامته: أن يَصْلُح لجعله مبتدأ، وجعل الفعل والفاعل خبراً
عنه، نَحو: نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ، وبِئْسَ الرَّجُل عمروٌ، ونِعْمَ
غلام القوم زيدٌ، وبئس غلام القوم عمروٌ، إلى آخره، وفي إعرابه وجهان
مشهوران:
أحدهما: أنه مبتدأ، والجملة قبله خبرٌ عنه، وهذا مذهب سيبويه، وهو
الأولى لسلامته من التقدير، والرابط حينئذٍ عموم الفاعل، أو إعادة
المبتدأ بمعناه.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف وجوباً، والتقدير هو زيدٌ الممدوح .. هو
عمروٌ المذموم مثلاً، وأجازه السيرافي والفارسي والصيمري.
ومنع بعضهم الوجه الثاني وأوجب الأول، منع الوجه الثاني لأنه مُحوج إلى
تقدير، ومثل هذه الأصل فيها، قاعدة عندهم: أنه لا يُقال بإيجاب حذفٍ،
إلا إذا سَدَّ مَسدَّه شيءٌ يُذْكَر بعده، وهذه قاعدة مُطَّردة عندهم،
سيذكره في (التسهيل).
وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف – عكس – هو مبتدأ ليست الجملة التي قبله
خبر، إنما خبره محذوف مُقدَّر .. خبره محذوف وجوباً، وأجازه ابن عصفور،
يعني: مثلاً تقول: نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ (نِعْمَ الرَّجُل) فعل وفاعل
(زيدٌ) مبتدأ، والخبر محذوف تقديره الممدوح: زيدٌ الممدوح، قال في
(التسهيل): " وهو غير صحيح - يعني: هذا الإعراب - لأن هذا الحذف لازم –
يعني: واجب – ولم نَجِد خبراً يلزم حذفه إلا ومَحلُه مشغولٌ بشيء
يَسدُّ مَسدَّه " يعني: لا يلزم حذف الخبر إلا إذا وجد ما يَسدُّ
مَسدَّه: أقائمٌ، قلنا: هذا مبتدأ لا خبر له، حذف الخبر لِسدِّ الفاعل
مَسدَّه، كذلك في القسَم .. كذلك في الشرط.
كلما التُزِم حذف الخبر فلا بُدَّ ما يَسدُّ مَسدَّه، وهنا ليس فيه ما
يَسدُّ مَسدَّه، ثُمَّ نَحتَاج إلى أن يكون هذا الذي أُوِّلَ إليه:
زيدٌ الممدوح، أن يكون مسموعاً ولو في حالة واحدة .. لو مرة واحدة
نُطِقَ بالخبر مَحذوفاً ولم يُنقَل ذلك.
وَيُذْكَرُ المَخْصُوصُ بَعْدُ مُبْتَدَا ... أَوْ خَبَرَ اسْمٍ لَيْسَ
يَبْدُو أَبَدَا
وَإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ كَفَى ... كَالْعِلمُ نِعْمَ
المُقْتَنَى وَالمُقْتَفَى
معنى البيت: أنَّ المخصوص قد لا يُذْكَر
بعد الفاعل، ويُذْكر ما يُشْعِر به قبل (نِعْمَ وبِئْسَ) سواءٌ كان
مُتَّصلاً بها كالمثال الذي ذكره الناظم: (العِلمُ نِعْمَ) اتَّصَل
بها، أو غير مُتَّصلٍ بها، يكون مُنفصِل كقوله تعالى في شأن أيوب:
((إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ)) [ص:44] أيوب ..
(نِعْمَ الْعَبْدُ) فعل وفاعل، والمخصوص محذوف، أين هو؟ محذوف تقديره:
أيوب، ما الذي دَلَّ عليه؟ (إِنَّا وَجَدْنَاهُ) الضمير، هل هو
مُتَّصِل بـ: (نِعْمَ) مباشرة مثل (العِلمُ نِعْمَ)؟ لا، مُنفصِل عنه
لا إشكال فيه.
بل قد يكون الدَّالُ عليه والمشْعِر في كلامٍ غير ما نطق به
المُتكلِّم، يقول الرَّجُل مثلاً: زيدٌ حسن الأفعال، أو حسن التَّصرفات
ونحو ذلك، فيقول المستمع: نِعْمَ الرَّجُل، يعني: زيد، من أين .. ما
الذي أشْعَر به؟ ليس في كلامي أنا، بل في كلام المُخاطَب، إذن: القرينة
والإشعار لا يُشترط أن يكون لفظياً، ولا يشترط أن يكون من جهة الناطق
نفسه المُتكلِّم، بل قد يكون في الخطاب.
إذن: أنَّ المخصوص قد لا يُذْكَر بعد الفاعل ويُذْكَر ما يُشْعِر به
قبل (نِعْمَ وبِئْسَ) سواءً كان مُتَّصلاً أو لا، وقد يكون المشْعِر
بالمخصوص في كلام غير المُتكلِّم بـ: (نِعْمَ) كأن يقول القائل: زيدٌ
حسن الأفعال، فيقول المجيب: نِعْمَ الرَّجُل.
(وَإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ) يعني: اسمٌ مُشْعِر (يُقَدَّمْ) لماذا
جُزِم؟ (إِنْ) شرطية .. (إِنْ) حرف شرط و (يُقَدَّمْ) فعل مضارع مَجزوم
بـ: (إِنْ) وهو مُغيَّر الصيغة و (مُشْعِرٌ) نائب فاعل وهو صفةٌ
لموصوفٍ محذوف، يعني: اسمٌ مُشْعِرٌ. أي: لفظٌ مُشْعرٌ بمعنى المخصوص،
أي: دَالٌ عليه سواءٌ صَلُح لأن يكون المخصوص نفسه لو أُخِّرَ، كما في
مثال المتن أولى، نحو: ((إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً)) [ص:44] يعني:
المُتقَدِّم قد يكون صالحاً لأن يكون المخصوص لو تأخر، مثال الناظم:
(العِلمُ نِعْمَ المُقْتَنَى) المُكْتَسب (وَالمُقْتَفَى) يعني:
المتَّبَع، العلم هو المُشْعِر الَّلفظ المُتَقدِّم، لا يكون مخصوصاً
لأنه مبتدأ و (نِعْمَ المُقْتَنَى) لو أُخِّر وقيل: نِعْمَ المقْتَنى
العِلْم صَحَّ.
لكن: ((إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ)) [ص:44] هذا لا
يُمكن أن يتأخر، إذن: المشعر بالمخصوص قد يَصلُح أن يكون مَخصوصاً وقد
لا يَصلُح، وكلاهما مُشْعرٌ به.
وقوله: (كَفَى) .. مُشْعِرٌ بِهِ كَفَى، أي: عن ذكر المخصوص، ولم يكن
مخصوصاً وإن صلح لكونه مَخصوصاً لو أُخِّر، إذن: (وَإِنْ يُقَدَّمْ
لَفظٌ أو اسْمٌ مُشْعِرٌ بِهِ) أي: بالمخصوص، كَفَى عن ذكر المخصوص،
مَعْمُوله محذوف، أي: كَفَى عن ذكر المخصوص، (كَفَى) لا بُدَّ أن
تُقدِّر له جار ومجرور: كفى عن ذِكْر المخصوص.
(كَالعِلمُ نِعْمَ المُقْتَنَى)، (العِلمُ) مبتدأ قولاً واحدً و
(نِعْمَ المُقْتَنَى) فعل وفاعل (المُقْتَنَى) يعني: المُكْتَسب
(وَالمُقْتَفَى) معطوف عليه، يعني: المتَّبَع، والجملة: (نِعْمَ
المُقْتَنَى) في مَحلِّ رفع خبر المبتدأ.
هذا البيت يُشْعِر أو تُوهم عبارته أنه لا
يَجوز تقديم المخصوص - هذا ظاهر كلام الناظم – وأنَّ المُتقدِّم ليس هو
المخصوص، بل هو مُشْعِرٌ به، وهو خلاف ما صَرَّح به في (التسهيل): " من
أنَّ المخصوص قد يُذْكَر قبل (نِعْمَ وبِئْسَ) " وهنا ادَّعى ابن هشام
الإجماع على أنه جائز.
قال الشارح هُنا: " إذا تَقدَّم ما يَدلُّ على المخصوص بالمدح أو
الذَّمْ أغنى عن ذِكْرِه آخراً " إذن: كلام الشارح هنا على أنه ليس هو
المخصوص، ولذلك قال (أغْنَى) ولا يُغنِي عنه إلا إذا كان هو غيره، لا
يغني الشيء عن الشيء إلا إذا كان مغايراً له، ما نقول: استغنى كذا عن
كذا إلا إذا كان غيره.
إذن: إذا تَقدَّم ما يَدل على المخصوص أغنى عن ذكره آخراً، كقوله تعالى
في أيوب الآية: نِعْمَ العَبد أيُوب، فحذف المخصوص بالمدح وهو (أيوب)
لدلالة ما قبله عليه.
ثُمَّ قال: (وَاجْعَل كَبِئْسَ سَاءَ وَاجَعَل .. ) هذا شروعٌ فيما
جَرَى مَجرى (نِعْمَ وبِئْسَ) .. (نِعْمَ وبِئْسَ) وما جرى مجراهما،
إذن: (نِعْمَ وبِئْسَ) انتهينا منهما، بقي ما جرى مجرى (نِعْمَ
وبِئْسَ).
قال رحمه الله:
وَاجْعَل كَبِئْسَ سَاءَ وَاجْعَل فَعُلاَ ... مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ
كَنِعْمَ مُسْجَلا
وَمِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا الفَاعِلُ ذَا ... وَإنْ تُرِدْ ذَمَّاً
فَقُل لاَ حَبَّذَا
(وَاجْعَل سَاءَ كَبِئْسَ) في كونها تدل على الذَّمِّ معنىً وحكماً
(اجْعَل سَاءَ كَبِئْسَ)، (اجْعَل) فعل أمر، و (اجْعَل) هذا يَتعدَّى
إلى اثنين و (سَاءَ) مفعوله الأول و (كَبِئْسَ) هذا مفعوله الثاني،
(اجْعَل كَبِئْسَ) اجْعَل سَاءَ كَبِئْسَ معنىً وحكماً (وَاجْعَل
فَعُلاَ مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ كَنِعْمَ)، (اجْعَل) هذا فِعْل أمر و
(فَعُلاَ) مفعوله الأول، وقوله: (كَنِعْمَ) هذا مفعوله الثاني (مِنْ
ذِي ثَلاَثَةٍ) هذا حالٌ من (فَعُلاَ) (فَعُلاَ) بِضمِّ العين.
مقصوده: أنه قد يأتي (فَعُلاَ) إمَّا أصالةً أو عُروضاً ويُعامل
مُعامَلة (نِعْمَ وبِئْسَ) في المدْح والذَّم، وذلك كل فعلٍ كان على
زِنَة (فَعُل) أصالةً كـ: ظَرُف وشَرُف، أو يكون بالتحويل .. بالنقل،
وهذا سبق معنا في باب الصرف: أنَّ كلَّ ما كان على وزن (فَعَل) أو
(فَعِل) يجوز نقله إلى باب (فَعُل) كل فعل إلا ثلاثة أفعال حكاها ابن
عصفور، وهي: سَمِع وعَلِم وجَهِل، وما عداها كله يجوز تحويله إلى باب
(فَعُلَ)، ضَرَبَ هذا على وزن (فَعَلَ) هذا مُتعدِّي أو لازم؟
مُتعدِّي، إذا أرَدْتَ الدلالة به على اللزوم وأنَّ الوصف لازمٌ تُحوله
إلى باب (فَعُلَ) فتقول: ضَرُبَ، مثل: ظَرُفَ، ضَرُبَ زيدٌ.
إذن: تَفْهَم من هذه العبارة ماذا؟ ضَرَبَ زيدٌ عمراً، ضرب يوم وترك
عشرة، وضرب الذي بعده، يعني: يَضْرُب ويَتْرُك، ولا يكون الوصف لازماً
له، أمَّا إذا قلت: ضَرُبَ زيدٌ، هذا ضَرَّاب صباح مساء وهو يَضرِب،
إذن: صار الوصف له لازماً.
ومثله على قولٍ: عَلُمَ وفَتُحَ ونَهُبَ
ونحو ذلك وسَرُقَ إذا كان يسرق كثير، نقول: سَرُقَ صار الوصف له
لازماً، جَهُلَ على قولٍ وإن استثناها البعض، إذن: كُلُّ ما كان على
باب (فَعَلَ) أو (فَعِلَ) إذا أردنا به الُّلزُوم حينئذٍ يُنقَل إلى
باب (فَعُلَ) بالضَمِّ، فهذا يكون فيه (فَعُلَ) أصالةً أو عُرُوضاً ..
عارضاً له طارئاً؟ الثاني.
قوله: (وَاجَعَل فَعُلاَ مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ) هل هو خَاصٌّ بـ:
(فَعُلَ) أصالةً أو يشمل النوعين؟ يشمل النوعين. كـ: (نِعْمَ وبِئْسَ)
هنا قال: (نِعْمَ) أي: كباب (نِعْمَ) فدخل فيه (بئس) إذا قيل: كباب
(نِعْمَ) دخلت فيه (بئس)، أو نقول: من باب الاكتفاء، يعني: ذكر
(نِعْمَ) ولم يذكر (بئس) لأن تقول: (نِعْمَ وبِئْسَ) (نِعْمَ) في المدح
و (بئس) في الذَّمِّ.
(فَعُلاَ) هل يُستَعمل في المدح فقط أو في المدح والذَّمِّ كذلك؟ في
المدح والذَّم، هو قال: (وَاجَعَل فَعُلاَ مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ
كَنِعْمَ) إذن: لا يُستَعمل كـ: (بئس) هذا ظاهر النظم، نقول: لا، ليس
هذا مراده، وإنَّمَا مراده بالكاف هنا كـ: (نِعْمَ) أي: كباب (نِعْمَ).
فيدخل فيه (بئس) فهو من حذف المضاف، أو نقول: من باب الاكتفاء كـ:
(نِعْمَ وبِئْسَ) حَذَفَ ((سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)) [النحل:81]
أي: والبرد، من باب الاكتفاء، هذا جائز.
(مُسْجَلاً) هذا مفعولٌ مُطلَق لـ: (ا0جْعَل) أي: جعلاً مُطلقاً، أي:
في جميع الأحكام السابقة، وسيأتي بعض الاستثناء.
وإمَّا حالٌ من (فَعُلَ) أي: حالة كونه مُطلقاً عن التقييد بضَمِّ
العين أصالةً والأول أقرب: أنه مفعولٌ مُطلق.
(مُسْجَلاً) المسْجَل قيل: المبذول المباح الذي لا يُمنَع من أحدٍ،
ويُفسَّر دائماً عند أراب المتون بـ: (مُطلقاً) (مُسْجَلاً) أي:
مُطلَقاً، يُقال: أسْجَلت الشيء إذا أمْكَنْتُ من الانتفاع به، مُطلقاً
أي: يكون له ما لهما، يعني: يثبت لـ: (سَاءَ) ما ثَبَت لـ: (بِئسَ) من
جميع الأحكام السابقة، ويَثْبُت لـ: (فَعُلَ) ما ثَبَتَ لـ: (نِعْمَ
وبِئْسَ) من جميع الأحكام السابقة، من عدم التَّصرُف، لأن (بِئْسَ
ونِعْمَ) جامدان.
إذن: (سَاءَ) جامد وكل ما كان على وزن (فَعُلَ) في باب المدح والذَّمِّ
هنا – نَتَكلَّم عن باب (نِعْمَ وبِئْسَ) وما جرى مجراهما – كل ما كان
من باب (فَعُلَ) فحينئذٍ نقول: هذا جامدٌ، لو قيل: (عَلُمَ) نقول:
جامد، كيف (عَلُمَ) جامد، عَلِم يَعْلَم عَالِم؟ نقول: في هذا المقام
نَحن نَتَكلَّم عن (فَعُلَ) في باب المدح والذَّم، نقول: هذا جامدٌ
لأنه ضُمِّنَ معنى المدح فأُجْرِي مُجرَى (نِعْمَ) و (نِعْمَ) غير
مُتَصرِف، جامد.
إذن: كل ما ضُمِّنَ معنى (نِعْمَ وبِئْسَ) فهو غير مُتَصرِّف. من عدم
التَّصرُّف، ومن إجراء الخلاف في الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر:
وَجَمْعُ تَمْيِيزٍ وَفَاعِلٍ ظَهَرْ ... فِيْهِ خِلاَفٌ. . . . . . .
. . .
هذا يَجري في (نِعْمَ وبِئْسَ) وما جَرى
مَجرى (نِعْمَ وبِئْسَ) فالحكم واحد، وأن (مَا) في نحو: ((سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ)) [الأنعام:136] (مَا) هنا (فِي نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُولُ
الفَاضِلُ) الحكم واحد مُميِّز أو فاعل، وجواز كون المخصوص مبتدأ أو
خبر، وأنَّه يكفي عن ذكره تَقدُّم ما يُشْعِر به، وإفادة المدح أو
الذَّم، واقتضاء فاعلٍ كفاعلهما، وسواءٌ في ذلك ما هو (فَعُلَ) أصالةً
وما حُوِّل إليه.
إذن: مُطلقاً في جميع ما سبق من أول الباب إلى هذه اللحظة، كل ما
ذُكِرَ في باب (نِعْمَ وبِئْسَ) من اتفاقٍ أو خلافٍ وترجيح وأقوال فهو
ثابتٌ لـ: (سَاءَ) وباب (فَعُلاََ) ولذلك قال: (مُسْجَلاَ).
وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجَعَلْ فَعُلاَ ... . . . . . . . . . . .
......................
يدخل فيه (حَبَّ) مع غير (ذَا)، ليست: (حَبَّذَا) مع (ذَا)، لأنَّ
(حَبَّ) الأصل: حَبُبَ، أُسقِطَت الضَمَّة تَخفيفاً فقيل: (حَبَّ) إذن:
يدخل فيه (حَبَّ) مع غير (ذَا) فيثبت له جَميع ما ثبت لـ: (نِعْمَ) من
الأحكام.
ومنه الجمع بين الظاهر والتمييز على القول بجوازه، والإسناد إلى الضمير
وغيره.
وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجَعَلْ فَعُلاَ ... مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ. .
. . . . .
أي: حالة كون (فَعُلاَ) كائناً من فِعْلٍ ذي ثلاثة أحْرُف، مِنْ ذِي
ثَلاَثَةٍ أي: حالة كون (فَعُلاَ) كائناً من فِعْلٍ – على تقدير موصوف
محذوف – من فعلٍ (ذِي ثَلاَثَةٍ) ثلاثة أحْرُف، وسبق معنا: أنَّ
التنوين الذي يكون في الأعداد تنوين عِوَض، مثل: (كُل وبَعْض) عِوَض عن
كلمة، إذا قيل: ثلاثةٌ، أين التمييز؟ محذوف، وعُوِّضَ عنه التنوين،
(ثَلاَثَة) جاءني ثلاثة، يعني: ثلاثة رجال مثلاً، فَحذفَت المُميِّز
وعَوَّضَتَ عنه التنوين.
هنا قال: (ثَلاَثَةٍ) أي: ثلاثة أحْرُف، وليس المراد مُحوَّلاً (مِنْ
ذِي ثَلاَثَةٍ) حتى يَرِد اعتراض ابن هشام، بأن عبارة المُصنِّف ظاهرةٌ
في المُحوَّل عن (فَعَلَ) بالفتح أو الكسر ليس هذا المراد، لأنه قال:
(وَاجَعَلْ فَعُلاَ مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ) كأنه قال: مُحوَّلاً من ذي
ثلاثةٍ، إذن: (فَعُلَ) أصالةً لا يشمله اللفظ، ليس هذا المراد، المراد:
اجعل (فَعُلَ) حالة كونه من فعلٍ ذي ثلاثة أحْرُف فقط، فيشمل ما كان
(فَعُلَ) أصالةً وما كان بالتحويل.
(مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ كَنِعْمَ مُسْجَلاَ) مُسْجَلاً. قال الشَّارح هنا:
" تستعمل (سَاءَ) في الذَّمِّ استعمال (بِئْسَ) "، إذن: أشبهتها في
المعنى، حينئذٍ أخذت أحكامها السابقة، فلا يكون فاعلها إلا ما يكون
فاعلاً لـ: (بِئْسَ) وهو المُحلَّى بالألف واللام: سَاءَ الرَّجُل
زيدٌ، (سَاءَ) فعلٌ ماضي لإنشاء الذَّمْ (الرَّجُل) فاعل سَاءَ و
(زيدٌ) المخصوص بالذَّمِّ، وهو مبتدأ والجملة قبله خبرٌ.
والمضاف إلى ما فيه الألف والَّلام: سَاءَ
غُلام القوم زيدٌ، الإعراب نفسه، والمُضْمَر المُفَسَّر بنكرة بعده:
سَاءَ رجلاً زيدٌ (سَاءَ) فعلٌ ماضي لإنشاء الذَّمِّ، والفاعل ضميرٌ
مستتر وجوباً، و (رَجلاً) منصوبٌ على التمييز، و (زيدٌ) هذا المخصوص
بالذَّمِّ وهو مبتدأ، والجملة قَبْلَه خبر، ومنه قوله تعالى: ((سَاءَ
مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا)) [الأعراف:177].
ويُذكَر بعدها المخصوص بالذَّمِّ كما يُذْكَر بعد (بئس) وإعرابه كما
تَقدَّم: ((سَاءَتْ مُرْتَفَقاً)) [الكهف:29] .. ((سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ)) [الأنعام:136] القول فيه: (مَا) هنا مُميِّزٌ، وقيل:
فاعل، والصواب أنها مُميِّز.
وأشار بقوله: (وَاجَعَلْ فَعُلاَ) إلى أنَّ كُلَّ فعلٍ ثلاثي يجوز أن
يُبنَى منه فِعْلٌ على (فَعُلَ) لقصد المدح أو الذَّم، كل فعل ثلاثي
سواءٌ كان من باب (فَعَلَ) أو (فَعِلَ)، وإمَّا ما كان من باب (فَعُلَ)
لا إشكال فيه، لكن يُشتَرط – وهذا لم يَتعرَّض له الناظم – أنَّه مما
استكمل شروط المتَعجَب منه. أن يكون الفعل صالحاً لأن يُتعجَب منه، فكل
الشروط السابقة تُنَزَّل على هذا الباب، لأن (فَعُلَ) هنا فيه معنى
التَّعجُب، ولذلك قال بعضهم: إنما يُصاغ (فَعُلَ) من الثلاثي لقصد
المدح أو الذَّمِّ بشرط أن يكون صالحاً للتَّعجُب منه، بأن يستوفي
شروطه السابقة مُضمَّناً معناه .. أن يستوفي الشروط الثمانية السابقة،
فإن كان كذلك صَحَّ وإلا فلا.
أشار بذلك: إلى أنَّ كل فِعْلٍ ثلاثي يجوز أن يبنى منه فِعْلٌ على
(فَعُلَ) لقصد المدح أو الذَّمِّ، ويُعامل مُعَامَلة (نِعْمَ وبِئْسَ)
في جميع ما تَقَدَّم لهما من الأحكام، لذلك قال (مُسْجَلاَ) مُطلقاً،
سيأتي بعض الاستثناء، فتقول: شَرُفَ الرَّجُل زيدٌ (شَرُفَ) فعل ماضي
لإنشاء المدح مثل (نِعْمَ) تُعرِبُها هكذا، ثُمَّ أتِم الباقي، و
(الرَّجُل) فاعل و (زيدٌ) مخصوصٌ بالمدح، وهو مبتدأ والجملة قبله خبرٌ.
لَؤُمَ الرَّجُل بكرٌ .. لؤم هذا، فيه ذَمٌّ، إذن: فِعْلٌ ماضي لإنشاء
الذَّمِّ و (الرَّجُل) فاعل و (بَكرٌ) هذا المخصوص بالذَّم، وشَرُفَ
غلام الرَّجُل زيدٌ، وشَرُفَ رجلاً زيدٌ، قيل: منه (سَاءَ) (سَاءَ)
أصلها: سَوَأَ، تَحرَّكت الواو وانفتح ما قَبلَها فقُلبِت ألفاً فصارت
(سَاءَ) ثُمَّ نُقِلَ إلى باب (فَعُلَ).
حينئذٍ يكون قوله: (وَاجْعَلْ كَبِئْسَ سَاءَ وَاجَعَلْ فَعُلاَ) من
باب عطف العام على الخاص، لأن (سَاءَ) هذه بمعنى: سَوُأَ، يعني: من باب
(فَعَلَ) نُقِلَ إلى (فَعُلَ). قيل: من هذا النوع (سَاءَ) فإنَّ أصله:
سَوَأ بالفتح، فحُوِّل إلى (فَعُلَ) بالضَّمِّ فصار قاصراً، ثُمَّ
ضُمِّنَ معنى (بِئْسَ) فصار جامداً قاصراً محكوماً عليه بما سبق من
أحكام، وإنما أفَرَده الناظم هنا بالذِّكْر لخفاء التحويل فيه بسبب
الإعلال – ما يَظْهَر – (سَاءَ) لا يظهر أنه من باب (فَعُلَ) لأنه
مُعَلّ.
الأصل: سَوَأَ .. سَوُأَ، على النوعين: من
باب (فَعَلَ) أو (فَعُلَ) وجب قلب الواو ألفاً، لأنها مُتحرِّكة،
والشرط هو التَّحرُّك، ما دام أنها تَحرَّكت بقطع النظر عن الحركة وجب
قلبها ألفاً، فقيل: ساء زيدٌ، حينئذٍ هل يُتصوَّر أنه من باب (بِئْسَ)
يُقال: لا، إذن: لا بُدَّ من النَّصِّ عليه. وإنما َأفرده بالذِّكْر
لخفاء التحويل فيه بسبب الإعلال، فأورِدَ عليه: (شَاَنَ وزَاَنَ) لماذا
خصَّصت (سَاَءَ)؟! وأيضاً يستعمل: شَاَنَ زيدٌ الرَّجُل .. شَاَنَ
الرَّجُل زيدٌ، وزَاَنَ الرَّجُل زيدٌ، في المدح والذَّم كذلك.
فأُورِدَ (شَاَن وزان) لوجود العِلَّة.
فالأولى أن يُقال في التعليل: إنَّما أفرده لأنه للذَّمِّ العام، فهو
أشبه بـ: (بِئْسَ) بِخلاف نَحو: جَهُلَ، فإن الذَّم فيه خَاصٌ، ولكثرة
استعماله بَخلاف غيره، إذن: هذا أو ذاك نقول: (سَاءَ) أصله من باب
(فَعُلَ) هذه النتيجة، لماذا خَصَّه؟ يَحتمل هذا وذاك، ومقتضى هذا
الإطلاق عند الناظم (فَعُلاَ مِنْ ذِي ثَلاَثَةٍ) أنَّه يَجوز في
(عَلِمَ) أن يُقال: عَلُمَ الرَّجُل زيدٌ، بِضمِّ عين الكلمة، وقد
مَثَّل هو وابنه به – ابن الناظم- عَلُمَ، وهذا دَلَّ على أنهما يريان
جواز نقل (عَلِمَ) إلى باب (فَعُلَ) وكذلك (جَهِلَ) إلى باب (فَعُلَ)
وسَمِعَ إلى باب (فَعُلَ) هذا جَائزٌ الظاهر عند الناظم لإطلاقه، بل
مَثَّل به في شرحه (للكافية) والله أعلم.
وقد مَثَّل هو وابنه به، وصَرَّح غيره -ابن عصفور-: أنَّه لا يَجوز
تَحويل (عَلِمَ) و (جَهِلَ) و (سَمِعَ) إلى (فَعُلَ) بَضَمِّ العين،
لأن العرب التزمت كسر العين فيها مُطلقاً. لأن العرب حين استعملتها هذا
الاستعمال أبْقَتْها على كسرة عَيْنهَا ولم تحولها إلى الضَّمِّ، فلا
يجوز لنا تَحويلها بل نبقيها على حالها كما أبْقَوْها، فتقول: عَلِم
الرَّجُل زيدٌ، وجَهِلَ الرَّجُل عمروٌ، وسَمِع الرَّجُل بكرٌ.
إذن: يستثنى هذه الأفعال الثلاثة على قولٍ بأنه إذا استعملت استعمال
(نِعْمَ وبِئْسَ) حينئذٍ نقول: تبقى على أصلها (عَلِمَ).
ويَجوز في (فَعُلَ) هنا أن تُسكَّن عَينُه، فإذا قيل: (عَلُمَ) مثلاً،
تقول: عَلْمَ زيدٌ (شَرُفَ) شَرْفَ زيدٌ .. شَرْفَ الرَّجُل زيدٌ
بالتخفيف، يعني: بإسكان العين.
يَجوز في (فَعُلَ) هنا أن تُسكَّن عَينُه، وأن تُنقَل حَرَكتها إلى
الفاء فتقول: ضَرْبَ الرَّجُلُ زيدٌ، ويُقال: ضُرْبَ الرَّجُلُ زيدٌ،
يعني: تُنقَل الحركة إلى ما قبلها، إذن: (شَرُفَ) فيه ثلاث لغات في هذا
الباب (نِعْمَ وبِئْسَ) تقول: شَرُفَ الرَّجُل زيدٌ، من باب (فَعُلَ)
وقد تُسكِّن العين فتقول: شَرْفَ الرَّجُل زيدٌ، وقد تَنقُل حركة العين
إلى ما قبلها فتقول: شُرْفَ الرَّجُل زيدٌ، تستعمل هذا أو ذاك، وكله
وارد.
يَجوز في فاعل (فَعُلَ) المذكور الجَرُّ بالباء والاستغناء عن (أل)
وإضْمَاره على وفق ما قبله، هذا مِمَّا اختَصَّ به باب (فَعُلَ) عن باب
(نِعْمَ وبِئْسَ)، يَجوز في فاعل (فَعُلَ) المذكور الجَرُّ بالباء،
فيُقال:
حُبَّ بِالزَّوْرِ الَّذِي لاَ يُرَى ... مِنْهُ. . . . . . . . . . .
.
(حَبَّ بالزَّوْرِ) أصله: الزَّوْرُ،
حُبَّ، قلنا: (حُبَّ) هذه داخلة فيه، ولذلك أصله: حَبُبَ، على اللغة
الثالثة: حُبَّ، نُقِلَت الضَّمَّة إلى حركة العين إلى الفاء، قيل:
(حُبَّ بالزَّوْرِ) الباء هذه زائدة و (الزَّوْرِ) هذا فاعل مرفوعٌ
تقديراً، والباء هذه زائدة (حُبَّ بالزَّوْرِ).
وكذلك الاستغناء عن (أل) تقول: فَهُمَ زيدٌ .. والزيدون كَرُمُوا
رجالاً، صار ضميراً مستتراً، لِمَا فيها من معنى التَّعجُب، إذن: يَجوز
في فاعل (فَعُلَ) الجَرُّ بالباء، والاستغناء عن (أل) .. لا يشترط فيه
(أل)، وإضْمَاره على وفق ما قبله: الزَيْدون كرُمُوا رجالاً (كرُمُوا)
الواو فاعل، وهنا أضْمِرَ الفاعل، يعني: أُبْرِز، صار ضَميراً بارزاً
باعتبار ما بعده، هذا شاذ هناك، قلنا: في باب (نِعْمَ) يُحفظ ولا يُقاس
عليه، وإن حكاه الكِسَائي.
وَمِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا الْفَاعِلُ ذَا ... وَإِنْ تُرِدْ ذَمَّاً
فَقُلْ: لاَ حَبَّذَا
وَأَولِ ذَا المَخْصُوصَ أَيَّاً كَانَ لاَ ... تَعْدِلْ بِذَا فَهْوَ
يُضَاهِي المَثَلاَ
وَمَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بِحَبَّ أَوْ فَجُرْ ... بِالبَا وَدُونَ ذَا
انْضِمَامُ الحَا كَثُرْ
هذا ما جَرَى على نَمط (نِعْمَ وبِئْسَ) يعني: حَبَّذا، ومثل (نِعْمَ)
في المعنى لا في الحكم مُطلقاً: حَبَّ، من قولك: حَبَّذا، حَبَّ فقط،
وأمَّا (ذَا) فهو فاعل، وقد نَصَّ عليه (الفَاعِلُ ذَا).
(وَمِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا) حَبَّ من حَبَّذا، فهي لإنشاء المدح العام،
كما أنَّ (نِعْمَ) لإنشاء المدح العام فهي مثلها:
- وفي الفعلية على الأصح .. هي فِعْلٌ (الفَاعِلُ ذَا).
- والمُضيِّ.
- والنقل إلى الإنشاء.
- والجمود.
فهذه اجتمع فيها (حَبَّ ونِعْمَ): كلٌ منهما لإنشاء المدح العام، وكلٌ
منهما فعلٌ على الأصح فيهما، والمُضي .. الدلالة على الماضي، والنقل
إلى الإنشاء كانا خبرين، والجمود كلٌ منهما جامد غير مُتصرِّف ..
فِعْلاَنِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَيْنِ.
وتُفارقها .. تُفارِق (حَبَّ) (نِعْمَ) في:
- أنها لا يجوز في لفظها إلا هيئةٌ واحدة.
- وفي جواز دخول (لا) عليها: لا حَبَّذا، لا يُقال: لا نِعْمَ، لا
يَجوز، يَجوز دخول (لا) النافية على حَبَّ، ولا يجوز دخولها على
(نِعْمَ).
- ودخول (يا) عليها من غير شذوذ: يَا حَبَّذا زيدٌ، ولا يصح: يَا
نِعْمَ، هذا شاذ، وأمَّا حبَّذا فيجوز.
وتزيد عليها من حيث المدح – تزيد (حَبَّ) على (نِعْمَ) -: بأنها
تُشْعِر بأن الممدوح محبوب وقريبٌ إلى النفس، إذا مدحته: نِعْمَ
الرَّجُل زيد، ما يَدُل على أنك تُحبه، لكن إذا قلت: حَبَّذا زيدٌ،
إذن: (حَبَّ) هذا فيه مَحبَّة وفي ميل القلب.
وتزيد عليها بأنها تُشْعِر بأن الممدوح مَحبوبٌ وقريب من النفس. قال
ابن مالك في (شرح التسهيل): " والصحيح أن (حَبَّ) فِعلٌ يُقصَد به
المحبة والمدح – جمع بينهما –، إذن: ليس كل مَمدوحٍ محبوباً، قد يكون
المدح نفاق .. كَذِب، وجُعِل فاعله (ذَا) ليدل على الحضور في القلب،
(ذَا) اسم إشارة، والإشارة الأصل فيها أن تكون لشيءٍ محسوس، يعني: كأنه
أشيِر إليه أنه مَحلَّه .. مَسْكَنه القلب، حينئذٍ دَلَّتْ على ما
دَلَّ عليه (حَبَّ).
(وَمِثْلُ نِعْمَ) في المعنى لا في الحكم
(حَبَّ) من (حَبَّذَا)، (الفَاعِلُ ذَا) مبتدأ وخبر، (مِثْلُ) هذا
مبتدأ، وهو مضاف و (نِعْمَ) قُصِدَ لفظه مضاف إليه، (حَبَّذَا) كلها
خبر المبتدأ، (الفَاعِلُ ذَا) مبتدأ وخبر، أي: فاعل (حَبَّ) هو لفظ
(ذَا) على المختار .. القول الصحيح، وظاهر مذهب سيبويه، وقوله:
(الفَاعِلُ ذَا) فيه تعريض، يعني: أراد أن يَرُد على بعض النحويين، فيه
تعريضٌ بالرَّدِّ على القائلين بتركيب (حَبَّ) مع (ذا) قيل: (حَبَّ)
فعلٌ ماضي و (ذَا) فاعل، وهذا الصحيح وهو مذهب سيبويه.
قيل: (حَبَّذَا) كلها فعل مُركَّبة، وقيل: (حَبَّذَا) كلها اسم
مركَّبة، وهذان القولان ضعيفان، وأضعفهما القول بالفعلية، وفيه تعريض
بالرَّدِّ على القائلين بتركيب (حَبَّ) مع (ذَا) ولهم فيه مذهبان:
الأول قيل: غُلِّبَت الفعلية لِتقدُّم الفعل فصار الجميع فعلاً وما
بعده فاعل: حَبَّذا زيدٌ، (حَبَّذا) فعلٌ ماضي و (زيدٌ) فاعل، كيف
(حَبَّ) فعل و (ذَا) اسم إشارة؟ قالوا: تَقدَّم الفعل فغُلِّبَت
الفِعْلية على الاسمية فرُكِّبا .. مُزِجا .. صارا لفظاً واحداً فعل،
إذن: (حَبَّذا) فعل ماضي .. كلها فعل ماضي و (زيدٌ) المرفوع بعده فاعل،
هذا قولٌ. هنا غُلَّبِت الفعلية على الاسمية.
وضُعِّفَ –هذا قول ضعيف- بأنه يلزم تغليب أضعف الجزأين، أيهما أولى
هنا: نُغلِّب الاسم الذي هو لشرفه أقوى على الفعل، أو نُغلِّب الفعل
على الاسم؟ إذا جاءت مسألة غلبة فالاسمية أولى، ولذلك هذا أضعف
الأقوال، إذا أردنا تغليب الفعل على الاسم، أو الاسم على الفعل فالأولى
أن نُغلِّب الاسم على الفعل لشرفه .. لأنه أعلى.
وضُعِّفَ بأنه يلزم تغليب أضعف الجزأين، وبأنَّ تركيب فعلٍ من فعلٍ
واسمٍ لا نضير له، هذا قولٌ.
القول الثاني: غُلِّبَت الاسْمية لشرف الاسم - جاء على القاعدة الأصل
.. التعليل السابق – غُلِّبَت الاسمية (حَبَّذَا) اسمٌ وما بعده خبر،
وغلبت الاسْمية لِشَرَف الاسم فصار الجميع اسماً، وما بعده خبر
(حَبَّذا) مبتدأ، والاسم المرفوع بعده خبر، وهو مذهب المبَرِّد وابن
السرَّاج، ونُسِبَ لسيبويه، وضُعِّفَ بأن (حَبَّذا) لو كانت اسماً لوجب
تَكْرار (لا) إن أُهْمِلَت (لا) نحو: لا حَبَّذا زيدٌ ولا عمروٌ، وهذا
لا يُقال به، وعمل (لا) في مَعرفة إن أُعْمِلَت عَمَل (إنَّ) أو (ليس).
إذن: هذان قولان ضعيفان، القول بالتركيب قولٌ ضعيف، سواءٌ غُلِّبَت
الاسمية على الفعلية، أو الفعلية على الاسمية القولان ضعيفان.
وهناك قولٌ ثالث وهو كون (حَبَّ) فعلاً، والاسم الظَّاهر فاعله و (ذَا)
مُلْغاةٌ: حَبَّذا زيدٌ (حَبَّ) فعلٌ ماضي و (زيدٌ) فاعلٌ و (ذَا)
مُلْغاةٌ، وهذا ضعيف لأن الأسماء لا تُلْغى، لو قيل حرف ويُلْغى نعم،
لكن اسم إشارة جيء به في الأصل للدَّلالة على المعنى.
إذن: (وَمِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا الفَاعِلُ ذَا) هذا هو الصحيح: أنَّ
(حَبَّ) فعلٌ ماضي و (ذَا) فاعله و (زيدٌ) مخصوص بالمدح، وما قبله
الجملة في محل رفع خبر، وهذا مذهب سيبويه وهو الظَّاهر.
(وَإنْ تُرِدْ ذَمّاً) إن تُرِد ذمَّاً
بهذا التركيب (فَقُلْ: لاَ حَبَّذَا) يعني: تَزِد على (حَبَّذَا) تدخل
عليها (لا) النافية، فتقول: لاَ حَبَّذَا، حينئذٍ صارت بمعنى (بِئْسَ)،
(مِثْلُ نِعْمَ حَبَّذَا).
(وَإِنْ تُرِدْ ذَمّاً فَقُل لاَ حَبَّذَا) فهي بمعنى (بِئْسَ). يُقال
في المدح: حَبَّذا زيدٌ، وفي الذَّمِّ: لا حَبَّذا زيدٌ، كقوله:
أَلاَ حَبَّذَا أَهْلُ المَلاَ غَيْرَ أَنَّهُ ... إِذَا ذُكِرَتْ
مَيٌّ فَلاَ حَبَّذَا هِيَ
واختُلِف في إعرابها، فذهب أبو علي الفارسي: أنَّ (حَبَّ) فعلٌ ماضي و
(ذَا) فاعله، وأمَّا المخصوص فَجوَّز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره،
وجُوِّز أن يكون خبر لمبتدأ محذوف، ما يُقال هناك في المخصوص يُقال في
(حَبَّ).
وذهب المبَرِّد وغيره: إلى أنَّ (حَبَّذا) اسمٌ، وهو مبتدأ والمخصوص
خبره، أو: خبرٌ مُقدَّم والمخصوص مبتدأ مؤخر، فرُكِّبَت (حَبَّ) مع
(ذَا) وجعلتا اسماً واحداً، وهذا ضعيف.
وذهب قومٌ: إلى أنَّ (حَبَّذا) فعلٌ ماضي و (زيدٌ) فاعله، فرُكِّبَت
(حَبَّ) مع (ذَا) وجعلتا فعلاً، وهذا أضعف المذاهب – نعم، أضعف ولا
شَكْ - لأنه غُلِّبَ فيه الضعيف الفعل أضعف الجزأين على الأشْرَف وهو
الاسم.
وَأَولِ ذَا المَخْصُوصَ أَيّاً كَانَ لاَ ... تَعْدِلْ بِذَا فَهْوَ
يُضَاهِي المَثَلاَ
(وَأَولِ ذَا المَخْصُوصَ) أوْلِ المخصوص (ذَا)، (أَوْلِ) يعني: اجعله
تالياً له .. تابعاً له، (المَخْصُوصَ) هذا مفعول أول، (ذَا) هذا
المفعول الثاني، أي: اجعل المخصوص بالمدح أو الذَّمِّ تابعاً لـ: (ذَا)
يَتبعُه: حَبَّذا زيدٌ .. لا حَبَّذا زيدٌ، يكون تابعاً له، اجعل
المخصوص بالمدح أو الذَّمِّ تابعاً لـ: (ذا) لا يَتقدَّم بحالٍ لا على
(ذَا) ولا على (حَبَّ) فلا يُقال: حَبَّ زيدٌ ذَا! ولا يُقال: زيدٌ
حَبَّذا، لا هذا ولا ذاك.
(وَأَوْلِ ذَا المَخْصُوصَ) أي: اجعل المخصوص والياً (ذَا)، وفُهِم
منه: أنَّ مخصوص (حَبَّذا) لا يكون إلا مُتأخراً عن (ذَا) بِخلاف
المخصوص بعد (نِعْمَ).
إذن: من الفوارق بين المخصوصين -مخصوص (نِعْمَ) ومخصوص (حَبَّذا ..
حَبَّ) - أنَّ (حَبَّذا) لا يكون المخصوص إلا متأخراً، وأمَّا (نِعْمَ)
فيجوز تقديمه، وقد حكا الإجماع على ذلك ابن هشام رحمه الله.
فإنَّه يَتقدَّم، وفُهِمَ من سكوته عن إعرابه أنَّه كمخصوص (نِعْمَ)،
إذن: خَالَفه في كونه لا يَتقدَّم، وأمَّا الإعراب فالحكم واحد .. ما
قيل من جواز الإعراب هناك فهو الحكم هنا.
(وَأَوْلِ ذَا المَخْصُوصَ أَيّاً كَانَ)، (أَيّاً) هذا اسم شرط و
(كَانَ) هذا فعل الشرط، (أَيّاً) اسم شرطٍ نُصِب بِشرطه وهو (كَانَ) ..
خبر (كَانَ) ((أَيّاً مَّا تَدْعُوا)) [الإسراء:110] مثله. وهو (كَانَ)
على حَدِّ قوله: ((أَيّاً مَّا تَدْعُوا)) [الإسراء:110] وجملة (لاَ
تَعْدِل بِذَا) جواب الشرط: أيَّاً كان هو، اسم (كان) ضمير مستتر و
(أيَّاً) هو الخبر، وجَبَ تقديمه وهو شرط، إذن: (كان) فعل الشرط، أين
الجواب؟ (لاَ تَعْدِلْ بِذَا) الأصل أنه يقول: فلا تَعْدِل بذا ..
بالفاء.
وجملة: (لاَ تَعْدِل بِذَا) جواب الشرط على
حذف فاء الجزاء، وقوله: (فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ) قد يقول قائل: بأن
الفاء هنا واقعة في جواب الشرط، نقول: لا، هنا الفاء للتَّعلِيل، لأنه
لا يَصِح أن يكون جواباً: (أَيّاً كَانَ فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ)
أو: (أَيّاً كَانَ فلاَ تَعْدِل بِذَا)؟ الظاهر أنَّ (لاَ تَعْدِل) هو
الجملة .. هو جملة الجواب.
وقوله: (فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ) تَعليلٌ للنهي عن العدول وعَلَّلَ
مع أن التعليل ليس من وظائف المتون، الأصل أنه يذكر الحكم فقط، وأمَّا
التعليل فهذا من وظيفة الشَّارح، إشارةً إلى رَدِّ توجيه ابن كَيْسان
الآتي ذكره، أو هو جواب الشرط، وجملة (لاَ تَعْدِل بِذَا) مُعترضة، لكن
الأول أوْلى، يعني: يَحتمل أن قوله: (فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ) هو
جملة الجواب (أَيّاً كَانَ) .. هذا محتمل، وجملة: (لاَ تَعْدِل بِذَا)
مُعترضة، لكن هذا ليس بظاهر، والصواب الأول: على إسقاط حرف الفاء.
أو هو جواب الشرط، وجملة (لاَ تَعْدِل بِذَا) مُعترضة، والباء في:
(بِذَا) إمَّا على بابها - التَعْدِية – وإمَّا بمعنى (عَنْ) أي: لاَ
تَعْدِل عَنْ لفظ ذَا، وهذا الظَّاهر، والمراد به: لاَ تَعْدِل بِـ:
(ذَا) عن لفظ (ذَا) عن الإفراد والتذكير، فيلزم الإفراد والتذكير، لا
تَعْدِل عن لفظ (ذَا) إلى غيره، وضميره يرجع إلى (ذَا) بتقدير مضاف،
أي: تركيبه، أي: التركيب المُشتمل عليه.
(لاَ تَعْدِل بِذَا) (ذَا) فقط .. عن لفظه، أو إذا جاء في تركيب:
حَبَّذا زيدٌ؟ في التركيب، إذن: على حذف مُضاف. أَيّاً كَانَ لاَ
تَعْدِل بِذَا عن الإفراد والتذكير، فيجب في (ذَا) أن يكون بلفظ
الإفراد والتذكير أيَّاَ كان المخصوص، سواءٌ كان مثنَّىً .. كان جَمعاً
.. كان مؤنَّثاً، أيَّاً كان لفظه لا تَعدِل بـ: (ذَا) فتقول: (حَبَّذا
زيدٌ) توافقا .. (حَبَّذا هِندٌ) تخالفا .. حَبَّذا الزيدان .. حَبَّذا
الهندان .. حَبَّذا الزيدون .. حَبَّذا الهندات، مهما تَغيَّر وتَبدَّل
المخصوص فـ: (ذَا) اسم إشارة مُفرد لمذَكَّر يبقى كحاله، لماذا؟!
(فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ).
يعني: (ذَا .. حَبَّذا) يضاهي .. يُشابه المثل، والأمثال لا تُبدَّل
ولا تُغيَّر: (الصيَّفَ ضَيَّعتِ اللبن) ما يُبدَّل، تقول للرجل:
الصيَّف ضَيّعتِ اللبن، صحيح؟! تقول لقوم -عشرين شخص-: الصيَّف ضَيّعتِ
اللبن، يبقى كما هو، لا تقل: ضَيَّعتَ، ولا ضَيَّعتُ، إنما يبقى كحاله
.. (فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ).
إذن: يَجب في (ذَا) أن يكون بلفظ الإفراد والتذكير أيّاً كان المخصوص،
أي: أيَّ شيءٍ كان مُذكَّراً، أو مُؤنَّثاً مفرداً، أو مثنَّىً أو
جَمعاً، فتقول في المثال كما قال الشَّارح: حَبَّذا زيدٌ، وحَبَّذا
هندٌ، والزيدان، والهندان، إلى آخره، فلا تَخرج (ذَا) عن الإفراد
والتذكير، لأنها لو خَرَجت لقيل: حَبَّذي .. حَبَّذي هندٌ، وحَبَّذان
الزيدان (ذَان) لأن (ذَا) مُفرَد و (ذَان) فتقول: حَبَّتان الهندان،
وحَبَّ أولئك الزيدون .. حَبَّ أولئك الهندات، وهذا فاسد.
وَأَولِ ذَا المَخْصُوصَ أَيّاً كَانَ لاَ ... تَعْدِلْ بِذَا فَهْوَ.
. . . . . . .
(فَهْوَ) أي: هذا التركيب (حَبَّذا)
(يُضَاهِي) يعني: يُشابه، (المَثَلاَ) الألف هنا للإطلاق و (المَثَل)
لا يُغيَّر ولا يُبدَّل، فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ في كثرة الاستعمال،
والأمثال لا تُغيَّر، فكذا ما أشبهها.
وقال ابن كيسان - هذا الذي أحلنا إليه -: " إنما لم يَختلف (ذا) " ..
لماذا لم يَختلف؟ عَلَّلَ الناظم كما عَلَّل أكثر النحاة: أنه شابه
المَثَل، والمَثَل لا يُبدَّل، ابن كيسان له تعليل، يقول: " إنما لم
يَختلف (ذا) لأنه إشارةٌ أبداً إلى مُذكَّرٍ محذوف مُطلقاً " المشار
إليه مُذكَّر محذوف، ولذلك اتَّحَدْ مع جميع الأمثلة: حَبَّذا هندٌ ..
حَبَّذا حُسن هندٍ، المشار إليه لفظ (حُسن) فَقدَّره مُذكراً، فيشار
حينئذٍ للفظٍ مُذكَّر.
لأنه إشارةٌ أبداً إلى مُذكَّرٍ محذوف، والتقدير في: (حَبَّذا هندٌ)
حَبَّذا حُسن هندٍ، وكذا باقي الأمثلة، وهذا ضعيف، رُدَّ بأنه دعوى بلا
بَيِّنة، لأنه التُزِمَ الحذف، وثَمَّ قاعدة: إذا التُزِمَ الحذف لا
بُدَّ من دليل عن العرب بأن يُصرَّح في بعض الأمثلة، أو أن يُقام
مُقامَه ما يَسدُّ مَسدَّه، وهُنا ليس عندنا ما يَسدُّ مَسدَّه.
ورُدَّ بأنه دعوى بلا بَيِّنة، أي: دليل، لعدم ظهور هذا المُقدَّر في
شيءٍ من كلام العرب الفصيح.
وَأَولِ ذَا المَخْصُوصَ أَيّاً كَانَ لاَ ... تَعْدِلْ بِذَا فَهْوَ
يُضَاهِي المَثَلاَ
إذن: أوْقِع المخصوص بالمدْح أو الذَّمِّ بعد (ذَا) على أيِّ حالٍ كان،
من الإفراد والتذكير والتأنيث والتثنية والجمع، ولا تُغيَّر (ذَا)
لِتغيُّر المخصوص أبداً، بل يلزم الإفراد والتذكير لأنها أشبهت المَثَل
والمَثَل لا يُغيَّر، فكما تقول: (الصيَّف ضَيّعتِ اللبن) للمذكَّر
وغيره، فكذلك (حَبَّذا) يكون كذلك.
يُحذف المخصوص في باب (حَبَّذا) للعلم به كما يُحذف في باب (نِعْمَ)
إذن: الحكم واحد هنا من جهة أنَّ المخصوص يُحذف هنا كما يُحذف في باب
(نِعْمَ):
أَلاَ حَبَّذَا لَولاَ الحَيَاءُ وَرُبَّمَا ... مَنَحْتُ الهَوَى مَا
لَيْسَ بِالمُتَقَارِبِ
أي: ألا حَبَّذا ذكر هذه النساء لولا الحياء.
وَمَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بِحَبَّ أَوْ فَجُرْ ... بِالبَا وَدُونَ ذَا
انْضِمَامُ الحَا كَثُرْ
يعني: أنَّ (حَبَّ) قد يكون فاعلها غير (ذَا) من الأسماء.
فيما سبق: (حَبَّذَا الفَاعِلُ ذَا) هل دائماً يكون الفاعل (ذَا) أو
تخرج عن أن يكون فاعلها (ذَا)؟ لا، تخرج لكن لها حكمٌ آخر.
(وَمَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بِحَبَّ)، (مَا) هذا اسمٌ موصولٌ بمعنى:
الذي، (ارْفَعْ مَا سِوَى ذَا بِحَبَّ) إذن: نفهم منه أنَّه قد يقع
اسمٌ ظاهر موقع (ذَا)، (ارْفَعْ بِحَبَّ) ارْفَعْ مَا سِوَى ذَا، يعني:
الذي غير (ذَا)، إذن: نفهم منه أنَّ غير (ذَا) قد يَحلُّ مَحلَّ (ذَا).
يعني: أنَّ (حَبَّ) قد يكون فاعلها غير (ذَا) من الأسماء مع إرادة
المدح، وفي فاعلها حينئذٍ وجهان: (ارْفَعْ ... أَو فَجُرْ) إمَّا
الرفع، وإمَّا الجَرُّ، الرفع واضح، وأمَّا الجر فبالباء الزائدة
لزوماً، وفي حائها إذَّاك لغتان كما سيأتي.
(وَمَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بِحَبَّ) يعني: أنَّه إذا وقع بعد (حَبَّ)
غير (ذَا) من الأسماء جاز فيه وجهان:
- الرفع بـ: (حَبَّ) تقول: حَبَّ زيدٌ
رجلاً (حَبَّ) فعلٌ ماضي قُصِد به المدح – نفس الكلام – و (زيدٌ) فاعلٌ
بـ: (حَبَّ) مرفوعٌ به و (رجلاً) هذا تَمييز، لكن لم يذكره الشَّارح
بناءً على ما سبق. إذن: حَبَّ زيدٌ، نقول: (زيدٌ) هنا فاعل (حَبَّ)
لماذا جَوَّزنا أن يكون فاعل (حَبَّ)؟ لأنها لم ترفع (ذَا) لم يوجد
(ذَا) لو وجِدَ (ذَا) انتقل الحكم إلى ما سبق. نَحو: حَبَّ زيدٌ.
(أَو فَجُرْ بِالبَا) أَو فَجُرْ الفاء هذه زائدة (أَو فَجُرْ) لأنه
عطف على ما سبق فالفاء زائدة، يعني: (جُرَّ بِالبَا) بالباء قَصَرَه
للضرورة، (جُرَّ بِالبَا) يعني: مَا سِوَى (ذَا) ارْفَعْ أَو فَجُرْ،
إمَّا أن يكون مرفوعاً على الأصل في الفاعل، وإمَّا أن يكون مَجروراً،
فحينئذٍ يكون فاعلاً مَجروراً، مثل: ((كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً))
[الرعد:43] قلنا (بِاللَّهِ) لفظ الجلالة هنا فاعل، جُرَّ بالباء
الزائدة، هذا مثله تقول: حَبَّ بِزيدٍ .. حَبَّ زيدٌ .. حَبَّ بِزيدٍ،
لك وجهان: إمَّا أنَّكَ ترفع، وإمَّا أنَّكَ تَجُر بالباء الزائدة،
فتقول: حَبَّ بزيدٍ (الباء) حرف جر زائد و (زيدٍ) فاعلٌ مرفوع ورفعه
ضَمَّة مُقدَّرة على آخره، منع من ظُهورها اشتغال المَحل بِحرَكة حرف
الجر الزائد.
وَمَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بِحَبَّ أَوْ فَجُرْ ... بِالبَا. . . . . . .
. . . .
أي: على قِلَّةٍ بِخلاف فاعل (نِعْمَ) فإنَّ جَرَّه بالباء مُمتنع، هذا
من الفوارق.
. . . . . . . . . . . ... . . . وَدُونَ ذَا انْضِمَامُ الحَا كَثُرْ
إذا اتَّصلَت (حَبَّ) بـ: (ذَا) قيل: وجَبَ الفتح (حَبَّذَا) (حَبَّ)
بفتح الحاء .. إذا اتَّصلَت (حَبَّ) بـ: (ذَا) وكانت (ذَا) هي الفاعل
وجَبَ فتح الحاء لغة واحدة، وأمَّا إذا رَفَعَت فاعلاً غير (ذَا) صار
في حائها وجهان: الفتح والضَمُّ (حَبَّ .. حُبَّ) فيه لغتان، وفتحها
بقاءً على الأصل (حَبَّذا) هو الأصل فيها، وجاز ضَمُّ الحاء لأن الأصل
(حَبُبَ) وقلنا: يُنقل حركة العين إلى ما قبلها، فقيل: (حُبَّ)، إذن:
(حُبَّ) بِضمِّ الحاء بناءً على أنَّ الضَمَّة هذه منقولة عن عين
الكلمة. بِضَمِّ الباء فنُقِلَت الضَمَّة إلى الحاء.
(وَدُونَ ذَا انْضِمَامُ الحَا كَثُرْ) إذن: إذا كانت مع (ذَا)
–مفهومه- بقيت على أصلها وهو فتح الحاء، (وَدُونَ ذَا) هذا حالٌ من
محذوف للعلم به، أي: انضمام الحاء من (حَبَّ) حالة كونها دون (ذَا)
أكثر، وأعربها غيره: (وَدُونَ) الواو عاطفة (دُونَ) ظرفٌ مُتعلِّق
بِمحذوفٍ حال، وصاحب الحال محذوف، فتقدير الكلام: انضمام الحاء من
(حَبَّ .. حُبَّ) - وجهان - حال كونه دون (ذَا) كثير.
(انْضِمَامُ الحَا) قَصَرَه للضرورة (انْضِمَامُ) مبتدأ وهو مُضاف و
(الحَا) مقصور للضرورة من (حَبَّ) بالنقل من حركة العين (كَثُرْ) يعني:
كثير، وهو خبر المبتدأ، وهذا لا يَدل على أنه أكثر من الفتح، إذا قيل:
(كَثُرْ) يعني: كثير، عندنا: كثير وأكثر، كثيرٌ من الناس يفعلون كذا
وهو أمر سيء، لا يلزم منه أنَّ الأكثر يفعلون ذلك، بل كثير، وقد يكون
الذين لا يفعلون هم الأكثر، لكن هذا الشيء باعتبار نفسه كثير.
إذن: لا يلزم من قوله (كَثُرْ) أنَّه أكثر
من الفتح، قال الشَّارح: " وأكثر ما تَجيء (حَبَّ) مع غير (ذَا) مضمومة
الحاء، وقد لا تُضَمُّ حاؤها كقوله: (فَحَبَّذَا رَبّاً وَحَبَّ
دِينَاً) " (وَحَبَّ دِينَاً) جاءت بالفتح على الأصل. يعني: أنه إذا
وقع بعد (حَبَّ) غير (ذَا) من الأسماء جاز فيه وجهان:
- الرفع بـ: (حَبَّ).
- والجر بباء زائدة.
وأصل (حَبَّ) حَبُبَ، كما ذكرناه سابقاً، يعني: صار حبيباً، ثُمَّ
أُدْغِمَت الباء في الباء فصار: حَبَّ، ثُمَّ إن وقع بعد (حَبَّ) (ذَا)
وجَبَ فتح الحاء كما سبق، إن جعلتا كالكلمة الواحدة، فإن جعلتا باقيتين
على أصلهما جاز الوجهان، إن جعلتا كالكلمة الواحدة حينئذٍ فُتِحَت، وإن
جعلتا كلمتين جاز فيه الوجهان، فتقول: (حَبَّذا)، وإن وقع بعدها غير
(ذَا) جاز ضَمُّ الحاء لِمَا ذكرناه: أنَّه نُقِلَت حركة العين إلى
الحاء (حَبُبَ) قيل: (حَبُبَ .. حَبَّ) بإسكان الباء، ثُمَّ أدغمت
الباء في الباء، مثل: عَلْمَ .. ضَرْبَ، قلنا: ضُرْبَ .. ضَرْبَ، يجوز
فيه الوجهان.
(حَبُبَ) يَجوز فيه الوجهان، سَكِّنْ الباء الأولى تُدْغَم الباء في
الباء قطعاً (حَبَّ)، انقل الحركة إلى السابق .. الحاء تقول: حُبَّ،
نَقَلْتَ الحركة سَكَنَت، الإدغام واجب على اللغتين، وأمَّا (حَبَّ ..
حُبَّ) نقول: الضَّمَّة هذه حركة العين. جاز ضَمُّ الحاء لأنه الأصل،
وفتحها بقاءً على الأًصل، فتقول: حُبَّ زيدٌ وحَبَّ زيدٌ.
وروي بالوجهين قوله:
فَقُلْتُ اقْتُلُوهَا عَنكُمُ بِمِزَاجِهَا ... وَحَبَّ بِهَا
مَقْتُولَةً حِيْنَ تُقْتَلُ
(وَحَبَّ بِهَا) .. (وَحُبَّ بِهَا) -وجهان- (مَقْتُولَةً حِيْنَ
تُقْتَلُ).
يُفارق مَخصوص (حَبَّذا) مخصوص (نِعْمَ) من أوجهٍ أربعة:
الأول: أنَّ مخصوص (حَبَّذا) لا يَتقدَّم كما ذكرناه آنفاً، بخلاف
مخصوص (نِعْمَ) هذه الفوارق بين المخصوصين، أي: يكون المخصوص في باب
(نعم) جائز التقديم، وإذا ادُّعِي الإجماع وصَحَّ حينئذٍ لا إشكال فيه.
أنَّ مخصوص (حَبَّذا) لا يَتقدَّم بخلاف مخصوص (نِعْمَ) كما سبق بيانه،
وإن كان ظاهر عبارة الناظم ليس الأمر كذلك، يعني: (وَيُذْكَرُ
المَخْصُوصُ بَعْدُ) ثُمَّ قال: (وَإِنْ يُقَدَّمْ مُشْعِرٌ بِهِ
كَفَى) إذن: لا يَتقدَّم هو، ظاهر عبارة الناظم: أنه لا يَتقدَّم،
لكنَّه حكا في غيره بجواز تقديمه كما في (التسهيل) وإن كانت عبارته هنا
وفي (الكافية) تُوهِم منع تقديم مخصوص (نِعْمَ) لكن إن صَحَّ الإجماع
الذي ادَّعَاه ابن هشام في (شرح القَطْر) لا إشكال فيه.
الثاني: أنَّه لا تعمل فيه النواسخ بِخلاف مخصوص (نِعْمَ) نَحو: نِعْمَ
رجلاً كان زيدٌ، صَحَّ، ولذلك قلنا: نِعْمَ رجلاً زيدٌ، لا يَصِح أن
يكون (زيد) فاعل، رَدّاً على مذهب الكِسَائي والفَرَّاء، قالوا: لا
يجوز أن يكون فاعلاً، نِعْمَ رجلاً زيدٌ، الكسائي أعْرَب (زيد) فاعلاً
لـ: (نِعْمَ) ونحن قلنا: هذا باطل، بل الصواب أنَّ الفاعل ضمير مستتر،
بدليل جواز دخول الناسخ على المخصوص هذا .. المرفوع الذي ذُكِر: نِعْمَ
رجلاً كان زيدٌ، فلو كان فاعلاً ما صَحَّ دخول (كان) عليه، لأن (كان)
من نواسخ المبتدأ لا تدخل على الفاعل.
إذن: أنَّه لا تعمل فيه النواسخ بخلاف
مخصوص (نِعْمَ) نحو: نِعْمَ رجلاً كان زيدٌ، ولا يَصِح أن يُقال:
حَبَّذا كان زيد.
الثالث: أن إعرابه خبر مبتدأ محذوف أسهل منه في باب (نِعْمَ) لأن
ضَعْفَه هناك نشأ من دخول نواسخ الابتداء عليه، وهي لا تدخل عليه هنا،
يعني: إعرابه خبر مبتدأ محذوف، هناك قلنا: نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ، قلنا:
يجوز أن يُعرَب (زيد) خبر مبتدأ محذوف، لكنَّه فيه ضعف.
في باب (حَبَّذا) لا، لماذا؟ لِمَا ذكره من عِلَّة، هنا إعرابه خبر
مبتدأ محذوف أسهل منه في باب (نِعْمَ) -هناك أسهل، وأمَّا هنا لا-، لأن
ضعفه هناك نشأ من دخول نواسخ الابتداء عليه، وهي لا تدخل عليه هنا لو
كان مَحذوفاً، خبرٌ لمبتدأ محذوف، وقلنا هناك: إذا أعْرَبناه خبر مبتدأ
محذوف صار المبتدأ لازم الحذف، وسبق أنَّ (كان) لا تدخل على .. ؟؟؟
في أول النواسخ (إنَّ وكان) تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا، قلنا: أطلق
الناظم مبتدأ أيَّ مبتدأ، قلنا: بشرط ألا يكون لازم الحذف، ومَثَّلنَا
بهذا الباب، تَرْفَعُ كَانَ المُبْتَدَا اسْماً، قلنا: (المبتدأ) ظاهر
كلامه: أنَّ كل مبتدأ تدخل عليه (كان) قلنا: هذا ليس بصواب، بل يستثنى
منه ما كان لازم الصدر، فلا تدخل عليه (كان) البَتَّة، ويُستثنى منه ما
كان لازم الحذف ومَثَّلنا بهذا الباب، فقلنا: نِعْمَ الرَّجُل زيدٌ، لو
أعربناه خبراً لمبتدأ محذوف، أين المحذوف الذي تدخل عليه (كان) .. كيف
تدخل؟ هو واجب الحذف، إذن: يَمتنع أن تدخل عليه (كان).
الرابع: أنَّه يَجوز ذكر التمييز قبله وبعده، نَحو: حَبَّذا رجلاً
زيدٌ، يجوز أن يَتقدَّم ويتأخر، وحَبَّذا زيدٌ رجلاً، قال في (شرح
التسهيل): " وكلاهما سهلٌ يسير واستعماله كثير، إلا أنَّ تقديم التمييز
أولى وأكثر، وذلك بخلاف المخصوص بـ: (نِعْمَ) فإن تأخير التمييز عنه
نادر كما سبق " يعني لا يُقال: نِعْمَ زيدٌ رجلاً، هذا قليل نادر، وإن
جَوَّزه الكوفيون.
إذن:
وَأَولِ ذَا المَخْصُوصَ أَيّاً كَانَ لاَ
وَمَا سِوَى ذَا .............................. ... تَعْدِل بِذَا
فَهْوَ يُضَاهِي المَثَلاَ
(وَمَا سِوَى ذَا) يعني: والذي سوى (ذَا)، (سِوَى) هذا مُتعلِّق بمحذوف
صلة الموصول، وهو مضاف و (ذَا) مضافٌ إليه، (ارْفَعْ) هذا للأمر،
والأمر يقتضي الوجوب، لكنَّه مصروف بقوله: (أَو فَجُرْ) والتخيير يدل
على عدم الإيجاب، وهذا ما اسْتدلَّ به ابن حزمٍ على عدم وجوب النكاح:
((فَانكِحُوا مَا طَابَ)) [النساء:3] ثُمَّ قال: ((فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)) [النساء:3] خَيَّره بين هذا وذاك، فدل
على عدم الإيجاب.
وَمَا سِوَى ذَا ارْفَعْ بِحَبَّ أَو فَجُرْ ... بِالبَا وَدُونَ ذَا
انْضِمَامُ الحَا كَثُرْ
وَدُونَ ذَا يعني: (حَبَّ) من غير (ذَا) (انْضِمَامُ الحَا كَثُرْ)
يعني: كثير، ولا يلزم أنه أشهر من الفتح.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...
!!!
|