شرح ألفية ابن مالك للعثيمين

الناصب للظرف

  

قال المؤلف

ما يكون ظرفاً من الأمكنة والأزمنة

المقيس من ظروف المكان

الظرف المتصرف وغير المتصرف

نيابة المصدر عن الظرف

 

 

قال المؤلف

(فانصبه بالواقع فيه مظهراً كان وإلا فانوه مقدرا) (مظهراً كان) يعني: إن كان ظاهراً فذاك، وإلا فينوى مقدراً، مثال المظهر كما مثل المؤلف: (هنا امكث) العامل الواقع فيه (امكث) وهو ظاهر بين. وإذا سئلت: كم مكثت في هذا المكان؟ فتقول: ساعة! أي: مكثت ساعة، فهنا الواقع فيه غير مظهر؛ ولهذا قال: (فانوه مقدراً).

 

 

 

 

ما يكون ظرفاً من الأمكنة والأزمنة

  

 

قال رحمه الله تعالى: (وكل وقت قابل ذاك وما يقبله المكان إلا مبهما) المراد بالوقت هنا: الزمان، فكل زمان قابل أن يكون مفعولاً فيه، والزمان مثل: ساعة، دقيقة، ثانية، يوماً، أسبوعاً، شهراً، سنة، حيناً، عصراً، وما أشبه ذلك. القاعدة: الزمان كله قابل أن يكون مفعولاً فيه؛ لأنه ما من شيء إلا وهو في زمان، تقول: انتظرني ثانية، وإعرابها: ثانية: ظرف زمان منصوب على الظرفية. واعلم أن الساعة في اللغة العربية غيرها في العُرف، عندنا الساعة في العرف جزء من أربعة وعشرين جزءاً من اليوم والليلة؛ لكنها في اللغة العربية تطلق على الزمن قل أو كثر. قوله: (وما يقبله المكان إلا مبهما). أي أن المكان المُعيَّن مثل: حُجرة وغرفة بيت وما أشبهها لا يكون مفعولاً فيه، بخلاف ما إذا كان المكان مبهماً. والمبهم غير المحدود، وهو الذي ليس له شيء يحده، قال: (نحو الجهات) أي: الجهات الست: يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت. فهذه الجهات كلها ظروف مكان. تقول: جلست أمامك، جلست خلفك، جلست يمينك، جلست شمالك أو يسارك. صعدت فوق السطح، نمتُ تحت الشجرة. إذاً: الجهات الست كلها ظروف مكان. قال: (والمقادير)، والمقادير هي مقادير المسافة، مثل: الميل والفرسخ والبريد. وفي الوقت الحاضر مثل الكيلو. تقول مثلاً: سرت ميلين، إعرابها: سرتُ: فعل وفاعل. ميلين: ظرف مكان منصوب على الظرفية وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة. وتقول: سرتُ فرسخاً: سرت: تقدم إعرابها. فرسخاً: ظرف منصوب على الظرفية وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره. قال: (وما صيغ من الفعل) يعني: ظرف المكان يكون مصوغاً من الفعل. قال: (كمرمىً من رمى). هذه يسمونها ظرف مكان، وتأتي ظرف زمان، تقول: رميت مرمى زيدٍ، مثل: جلست مكان زيد. تقول: رميتُ: فعل وفاعل. ومرمى: ظرف مكان منصوب على الظرفية وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر. والظرف المبهم هو الذي لا يدل على شيء محدد معين، بخلاف المحدد معين مثل البيت والمسجد وما أشبه ذلك، فالمكان المحدد لا ينصب على الظرفية، ولهذا لا تقول: جلستُ المسجدَ، أما: دخلتُ المسجد فهو جائز في اللغة العربية؛ لكن اختلف فيه النحويون: فبعضهم يقول: هو منصوب على الظرفية توسعاً. وبعضهم يقول: منصوب بنزع الخافض، والتقدير: دخلتُ في المسجد. وبعضهم يقول: منصوب على التشبيه بالمفعول به، مثل قولهم في (خلق الله السماواتِ): إن السماوات منصوب على التشبيه بالمفعول به.

 

 

 

 

المقيس من ظروف المكان

  

 

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وشرط كون ذا مقيساً أن يقع ظرفاً لما في أصله معه اجتمع) شرط: مبتدأ. وهو مضاف، وكون: مضاف إليه. وكون مضاف، وذا: مضاف إليه، والإشارة في قوله: ذا تعود إلى (ما صيغ من الفعل)؛ لأن الإشارة تعود إلى أقرب مذكور. ومقيساً: خبر كون منصوب، واسمه (ذا) المضاف إليه؛ لأن (كون) له اسم وخبر كما يقول ابن مالك : (وغير ماض مثله قد عمـلا إن كان غير الماضي منه استعملا) وقوله: (أن يقع). أن: حرف مصدري. يقع: فعل مضارع منصوب بأن، وهو مؤول بمصدر والتقدير: وقوعه، وهو خبر (شرط) يعني: شرط كون ما صيغ من الفعل مقيساً أن يقع ظرفاً لما في أصله معه اجتمع، أي: لما اجتمع معه في الأصل، وذلك مثل: مرمى إذا صار منصوباً لرمى، كقولك: رميت مرمى زيد، لكن إذا قلت: جلستُ منه مرمى البندق، فليس مقيساً؛ لأنه لم يجتمع معه بأصله، إذ إن الفعل: جلس، والظرف: مرمى. والمقيس معناه: أنه يمكنك أن تنطق بمثله. وغير المقيس معناه: لا يمكنك أن تأتي بمثله، وإنما يقتصر فيه على ما جاء عن العرب فقط. والحاصل: أن شرط كون ما صيغ من الفعل ظرفاً أن يكون مطابقاً لعامله في مادته. والخلاصة: أن ظرف المكان ينحصر في الجهات والمقادير وما صيغ من الفعل العامل فيه موافقاً له في المادة.

 

 

 

 

الظرف المتصرف وغير المتصرف

  

 

ثم انتقل المؤلف إلى أمر آخر، وهو أن بعض الظروف يكون متصرفاً وبعضها يكون غير متصرف، فما هو الضابط؟ قال: (وما يرى ظرفاً وغير ظرف فذاك ذو تصرف في العرف وغير ذي التصرف الذي لزم ظرفية أو شبهها من الكلم) أفادنا المؤلف رحمه الله في هذه الأبيات: أن الظرف ينقسم إلى قسمين: متصرف وغير متصرف، فما هو المتصرف؟ قال: (وما يرى ظرفاً وغير ظرف فذاك ذو تصرف في العرف). إذا كانت الكلمة تارة تأتي ظرفاً وتارة تأتي غير ظرف فإن هذا يسمى ظرفاً متصرفاً، مثل كلمة (يوم)، قال تعالى: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]. فهي في الآية ظرف؛ لأنها منصوبة على تقدير (في)، أي: في يوم يقوم الحساب. وقال الله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، وقال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النبأ:17]؟ فيوم في الآيتين ليست ظرفاً. كذلك كلمة (مكان) تقول: جلستُ مكانك، فهي ظرف، لأنها على تقدير (في)، أي: جلست في مكانك. وتقول مثلاً: إن هذا المكان مريحٌ. فليست بظرف. إذاً: ينقسم الظرف إلى قسمين سواء كان مكانياً أو زمانياً: متصرف وغير متصرف، فما كان يأتي لغير الظرفية فهو متصرف. قال المؤلف رحمه الله: (وغير ذي التصرف الذي لزم) غير: مبتدأ. والذي: خبره. يعني: غير الظرف المتصرف هو الظرف اللازم، وهو الذي لا يأتي إلا ظرفاً أو مختصاً بحال معينة كالجر. فمثلاً كلمة (عند) ظرف لازم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف:206]، وقال تعالى: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:14]. فهذا ظرف غير متصرف، لأنه لا يأتي إلا منصوباً على الظرفية أو مجروراً بمن، مثل تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]، وهو معنى قول المؤلف: (أو شبهها) يعني: لزم الظرفية، أو لزم شبه الظرفية وهو الجر بحرف من حروف الجر. وكلمة (فوق) ظرف لازم؛ لكنه قد يخرج عن الظرفية كما جاء في الحديث: (وفوقُه عرش الرحمن)، الفوق في الحديث بضم القاف، وليس ظرفاً؛ فكأنه يقول: هذا الفوق هو عرش الرحمن. تحت: ظرف غير متصرف؛ لأنها لا تستعمل إلا منصوبة على الظرفية أو مجرورة بمن: تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100] هذه منصوبة على الظرفية، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15]، هذه مجرورة بمن. ومن اللحن قول بعض الناس: نظرتُ إلى تحت قدمهِ. فهذا ليس بصحيح، لأن (تحت) لا تجر بإلى في اللغة العربية. نعم لو قال: نظرت إلى مكانٍ تحت قدمه، لصح. والخلاصة من هذا البحث أن الظروف تنقسم إلى قسمين: متصرفة وغير متصرفة. فما كان ملازماً للظرفية أو شبهها فهو غير متصرف، وما كان يكون ظرفاً ومبتدأ ومفعولاً به وفاعلاً ومجروراً بأي حرف فهذا متصرف.

 

 

 

 

نيابة المصدر عن الظرف

  

 

قال: (وقد ينوب عن مكان مصدر وذاك في ظرف الزمان يكثر) يعني: أن المصادر قد تنوب عن ظرف المكان، مثل: جلست قرب زيد، نقول: أصل (قرب) مصدر قرب يقرب قرباً، لكنها نابت مناب الظرف، فكأنك قلت: جلست مكاناً قرب مكانه، فعندما حذفت الظرف وأتيت بالمصدر صار المصدر نائباً منابه. وقوله: (وذاك في ظرف الزمان يكثر). أي: كون المصدر ينوب عن الظرف يكثر في ظرف الزمان، تقول: آتيك طلوع الشمس. طلوع: مصدر طلع تطلع طلوعاً، لكنها نائبة مناب ظرف الزمان، فكأنك قلت: آتيك وقت طلوع الشمس. القاعدة من هذا البيت: ينوب المصدر مناب الظرف زمانياً كان أو مكانياً، لكنه بالنسبة لظرف الزمان أكثر منه بالنسبة لظرف المكان. وقول المؤلف: (قد ينوب) ظاهره التقليل مع كونه قياسياً، وظاهر كلام الشارح أنه سماعي فلا يمكن أن تقيسه، بل لا بد أن يكون قد ورد عن العرب؛ ولكن الظاهر أن ما هو ظاهر المتن أولى: وهو أنه قد ينوب لكنه قليل سماعاً وقياساً، فلا مانع من أن تأتي بمصدر نائب مناب الظرف وإن لم يُسمع في اللغة العربية، ما دام المعنى واضحاً.