شرح نظم قواعد الإعراب

ـ[نظم قواعد العرب]ـ
المؤلف: أحمد بن عمر الحازمي
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشيخ الحازمي
http://alhazme.net
[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 19 درسا]


عناصر الدرس
* التعريف بأصل النظم، ومؤلفه، وشروحاته.
* الشروحات والمنظومات على الأصل.
* نظم الزواوي وأهميته.
* شرح مقدمة الناظم.
* حد (القاعدة والإعراب).

بسم الله الرحمن الرحيم

(شرحُ مقدِّمةِ الإمام الزواوي -رحمه الله-)
أَحْمَدُ رَبِّي اللَّهَ جَل مُنْعِمَا ... أَخْرَجَ مِنْ جَهْلٍ جَّل مِنْ عَمَى
فِعِلَّمَ البَيَانَ وَالإعْرَابَا ... وَأَلْهَمَ الحِكْمَةَ وَالصَّوَابَا
فَلَاحَ لِلأَذْهَانِ مَعْنَى مَا خَفَى ... مِنَ الكِتَابِ وَحِدِيثِ المُصْطَفَى
صَلَّى عَلَى مُحَمِّدٍ وَشِيعَتِهِ ... مَنْ أَسَّسَ الإِعْرَابَ فِي شَرِيعَتِهِ
وَقَدْ حَصَرْتُ بِطَرِيقِ الرَّجَزِ ... قَوَاعِدَ الإِعْرَابِ حَصْرَ مُوجَز
لِيَسْهُلَ الحِفْظُ عَلَى الطُّلاَّبِ ... فِي تِلْكُمُ الأَرْبَعَة الأَبْوَابِ

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ وسلم تسليماً كثيراً وبعد:
فنشرعُ اليوم إن شاء الله في يوم الخميس السادس من شهر شعبان من عام أربع وعشرين وأربع مائة وألف في نظمٍ لكتاب "قواعد الإعراب" لابن هشام رحمه الله, أصلُ الكتاب لابن هشام نثراً يسمى "قواعد الإعراب" ويسمى "الإعراب عن قواعد الإعراب" ذكر فيه ابن هشام رحمه الله أبواباً أربعة تتعلق بفن الإعراب. والمقصود بالإعراب هنا الإعراب الاصطلاحي عند النحاة يعني: ما يسلكه النحْوي في تطبيق القواعد التي درسها في علم النحو. ولذلكَ كان من المناسب لطالب العلم أن يدرس مع كتابٍ نحوي -يعني يتعلَّق ببيان حدود النحو من الفاعل والتمييز والحال .. الخ- أن يتعلم كيف يعرب؟ لأن النحو شي والإعراب شيء آخر, فالنحو علم نظري وعند التطبيق قد يغلط طالب العلم أو طالب فن النحو, لذلك كان من المناسب أن يقرأ العلمَيْن سويا إن فصلنا علم الإعراب عن علم النحو.
* وابن هشام رحمه الله له تصانيف عدة في فن النحو من أشهرها: ما هو معلوم لديكم "فضل الندى وشرحه" و"شذور الذهب" و"أوضحِ المسالك" وضم إلى هذه السلسلة من مصنفات علم النحو, ضمَّ إلى ذلك كتابين جليلين:
كانَ أولهما (الإعراب عن قواعد الإعراب) بيَّن فيه كيف يسلك الطالب النحوي الإعرابَ عند تطبيق قواعد الإعراب على آيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم, وذكر في هذا الكتاب (الإعراب عن قواعد الإعراب) أربعة أبواب, كما قال الناظم -رحمه الله-:
............ ... في تلكمُ الأربعةِ الأبوابِ
الباب الأول: في الجملة وأحكامها الجملة وأحكامها. لأنَّ الطالب يعرف أن الكلام يسمى جملة, وسبق تقرير أن الكلام: هو اللفظ المركب المفيد بالوضعِ. لكن إذا جاءت هذه الجملة في محل إعراب كيف يعربها هل كل
جملة لها محل من الإعراب؟ هل إذا جاءت في محل رفع خبر لا تخرج عنه إلى محل نصب .. ؟ الخ نقول لا.
إذاً لا بد لطالب العلم أن يعرف أحكام الجملة ويعرف قبل ذلك حقيقة الجملة.
الباب الثاني: في الجار والمجرور. وهذا يشكل على طلاب العلم كثيراً "الجار والمجرور والظرف وإعرابه".


الباب الثالث: في كلمات يحتاجها المعرب ذكر كلمات مثل قط وعوْض وإذا, فهذه تشكل على طالب العلم, قد يعرف (قام زيد) زيد: فاعل. لكن (إذا جاء زيد) كيف يعرب إذا؟ هذا يشكل عليه, وإعراب "قط" (لم يأتي عمراًَ قط) و (لن أزور عمراً عوْض) كيف يعرب عوض؟ هذه تشكل على طالب العلم فبوب لها الباب الثالث كلمات تحتاج إلى تفسير.
الباب الرابع: جعله في أخطاء شاعت على ألسنة المعربين. فنبَّه رحمه الله عليها, وذكر بعضُ من درسوا سيرة ابن هشام رحمه الله -بل هو نص في مقدِّمة مغني اللبيب- أن هذا الكتاب الذي هو "الإعراب عن قواعد الإعراب" هو لبنة كتابه الكبير "المغني عن كتب الأعاريب" لأنَّ المنهج واحد والمسلك واحد والموضوع واحد إلاَّ أنَّه قد تبحر في المغني اللبيب, ولذلك طالب العلم لا يستغني عن الكتابين معاً, ولكنْ هذا الكتاب يعتبر مقدمة للكتاب الآخر, وذاك يعتبر كالشَّرح لهذا الكتاب, وقواعد الإعراب كما هو معلوم في الأصل أنه نثر ولم أره مطبوعاً لوحده إلا أنه ذُكر أنه طبع في الشام وما رأيته, لكن الموجود بين أيدي الطلاب "شرح خالد الأزهري" عليه (موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب) ومن المعلوم أنَّ طالب العلم قد يعسر عليه حفظ ما هو نثر, وكان طريقة العلماء إلى يومنا هذا يوصون طلاب العلم بحفظ المتون, ولكن يصعب عليهم حفظ ما هو منثور ويسهل عليه حفظ ما هو منظوم, فلذلك نظمه غير واحد من العلماء, وبين يديَّ أوسع نظم فيما وقفت عليه وهو "نظم الزواوي رحمه الله" لم أقف على ترجمةٍ له, ولم أقف على شرحٍ لهذا الكتاب, ولكنَّه في الظاهر أنه عبارة سلسة وواضحة قد لا تحتاج إلى مزيدِ إيضاح.
* وهناك نظم آخر أيضا لمجهول لا يعرف, من هو؟ اسمه: محمد ابن عبد الله. نظمه في ثمانين بيتاً, وعليه شرح للشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله وهو مطبوع خرَّجه تلميذه الشيخ محمد بن سليمان البسام.
* وهناك أيضا نظم للأهدل وشرحَهُ هو نفسه أيضاً, وهو موجود عندي ولكنه مصور, ووجدتُ أن أحسن نظم لهذا الكتاب هو نظم "الزواوي رحمه الله" أولا: لسهولة عبارته. وثانيا: أنَّه يعتبر كالشَّرح لقواعد الإعراب, كأنه نظم فوائد زائدة على الأصل, وأن الأصل لو جئ قد يصل الثمانين ونحوه, لكنه بلغ في هذا النظم مائة واثنين وستون بيت, إذاً يعتبر كشرح على هذا الكتاب نأخذ أو نقف مع مقدِّمة الناظم رحمه الله تعالى.
ولذلك أوصي الطلاب بحفظ هذا النظم وإنْ أمكن أن يكون هناك تسميع في أول كل درس اثنين وثلاث وأربع فهو حسن, كذلك مناقشة ومراجعة ما سبق يعني يخصَّص لأول الدرس إن شاء الله لحظةً من ثلث ساعة للمراجعة والتسميع , ثم بعد ذلك نأخذ ما يتيسر.
* ويختلف شرح هذا الكتاب عن شرح أسلوب كتب النحو, فكتب النحو يكثر فيها الخلاف, ويكثر فيها التفصيلات, ويدخل فيها التعليلات, ولكن الظاهر أنه لن نحتاج إلى كثير كلامٍ, أقول الظاهر أنَّه قد يتخلف هذا.
* نشرع في (المقدمة) هذه تسمى عند العلماء: مقدِّمة كتاب. وسبق أن المقدمة مقدمتان مقدمة علم ومقدمة كتاب.
مقدمة علم: هي التي يذكر فيها المصنفون مفاتيح العلوم التي جمعها محمد بن علي الصبان رحمه الله في قوله:


إنَّ مبادي كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضلُهُ ونسبةٌ والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائلٌ والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حازا شرفا
أما مقدمة الكتاب: فهذه نص العلماء المحشِّون على سبيل الخصوص أنه يتعيَّن على كل مصنفٍ وشارحٍ وناظمٍ أن يذكرَ ثمانية أمور منها: أربعة واجبة وجوباً صناعياً ومنها: أربعة مستحبةٌ استحباباً صناعياً يعني لا شرعياً.
ومعنى (واجبة وجوبا صناعية) يعني في اصطلاح أهل الاصطلاح.
* وهذه الأمور الأربعة الواجبة هي: البسملة والحمدله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتشهد يعني الشهادتين هذه أربعةٌ واجبة, قد يلام المصنف إذالم يذكر واحدة منها.
* أما الأمور المستحبة استحباباً صناعياً -وله أن يتعمَّد تركَها ولا يلام بتركها عندهم- هي أربعة: أولا قوله أما بعد وبراعة الاستهلال, وتسمية نفسه, وتسمية كتابه يعني: يذكر اسم كتابه ويسمِّي نفسه, وبراعة الاستهلال: أن يشير في المقدمة الفن الذي يريد أن يصنِّف فيه, وقولُه أما بعد, وهنا اشتملت هذه المقدمة على بعض هذه الأمور –وأنبِّه أنَّ هناك فوائد تذكر في هذه المقدمات قد لا توجد أو لا يتعرض لها الشارع في غير هذا الموضع فلا تستصعب ابتداءاً-.
قال رحمه الله:
أَحْمَدُ رَبِّي اللَّهَ جَل مُنْعِمَا ... أَخْرَجَ مِنْ جَهْلٍ جَّل مِنْ عَمَى

ابتدأ الناظم -رحمه الله تعالى- منظومته بالحمدلة, والحمدلة: هي حكاية قولِ الحمد لله.
* لمَ بدأ الناظم -رحمه الله- بالحمدلة في أول مصنفه؟
نقول لثلاثة أمور:
أولاً اقتداء بالكتاب العزيز, لأن القرآن مفتتح بالحمد لله رب العالمين, أول آية من السورِ هي (الحمد لله رب العالمين) [الفاتحة/1] وهي اسم للفاتحة.
ثانياً تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يفتتح خطبه ب"إن الحمد لله نحمده ونستعينه".
ثالثاً اقتداء به أو امتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر) وفي رواية (فهو اقطع) وفي رواية (فهو أجذم) وهذا الحديث مختلف في تصحيحه, حسنه الإمام النووي وابن الصلاحِ وغيره, وضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في مقدمة كتابه (إرواء الغليل).
إذاً لهذه الأمور الثلاثة نقول: افتتح الناظم هذه المنظومة بالحمدلةِ أولا اقتداءاً بالكتاب العزيز ثانياً تأسياً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ثالثاً امتثالا لأمره إن صحَّ الحديث, وإلا فالسنة الفعلية كافية. ولذلك قال العلماء: يستحب البداءة بالحمدلةِ لكل دارسٍ ومدرسٍ وعالمٍ ومتعلمٍ وخاطبٍ وخطيبٍ .. الخ ففي كل أمر له شأنٌ شرعاً يستحب البداءة بالحمد لله.
(أحمد ربي) ابتدأ الناظم هنا بالحمد (والحمد) عند أهل الاصطلاح نوعان: حمد لغوي وحمد اصطلاحي.
وهذه الحمدلة لا يستشكلها البعض لأنها ذكرٌ, والذكر يحتاج إلى (تفسير) 12:6 وأيضا هي جزء آيةٍ (الحمد لله) فالتفقه فيها ليس من العبثِ يعني ليس من الاشتغال بما لا يَعني كما قد يظنه بعض طلاب العلم؟
يقولُ: لماذا نقول حمد لغوي وحمد اصطلاحي والفرق بين الحمد والشكر؟


نقول: لا, هاتان عبادتان أفضل الذكر لا اله إلا الله, وأفضل الدعاء الحمد لله, كما صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهي أيضا جزء آية والشكر أيضاً عبادة, فالتفقه وفهم معانيهما من جهة اللغة العربية ليس من الاشتغال بما لا يعني.
وقولنا (الحمد نوعان حمد لغوي وحمد اصطلاحي) يعني هناكَ حمدٌ دلت عليه مفردات اللغة واستعمالات أهل اللغة, وحمد اصطلاحي اصطلح عليه أهل الفنون.
أما الحمد اللُّغوي فحده بأنه: الثناءُ باللسانِ عَلَى الجميلِ الاخْتِيَارِي على جهة التعظيم والتبجيل. هو الثناءُ باللسانِ عَلَى الجميلِ الاخْتِيَارِي على جهة التعظيم والتبجيل.
(الثناء) هو القول الحسن يعني خرج به حمدُ القلبِ, وخرج به حمد الجوارحِ, فإذا قيل الحمد هو الثناء إذاً الثناء لا يكون إلا باللسان, إذاً الحمد اللغوي لا يكون بالقلب ولا يكون بالجوارح.
(الثناء باللسان) الجار والمجرور هنا متعلق بقوله الثناء وهو صفة لكنها لبيان الواقع, لأنَّ الثناء لا يكون بغير اللسان, فذكرُ اللسان هنا ليس للاحترازِ لأنَّ الثناء لا يكون بغير اللسان وإنما هو من باب ذكر الوصف لبيان الواقع.
(على الجميل الاختياري) هذا لإخراج الثناء الذي ليسَ على الجميل الاختياري, وإنَّما على الجميل القَهْري, قد يُثنَى على الشيء لكونه أسدى جميل باختياره تابعاً لمشيئته وقدرته, وقد يثنَى على الشيء لكونه أسدل معروفاً ولكنه مقهورٌ على إسدال هذا المعروف, ويذكر الجمهور أن (على الجميل الاختياري) هذا أيضاً لبيان الواقع, لماذا؟ لأنَّ الثناء لا يكون إلا على خير, خلافا للعزِّ ابن عبد السلام -رحمه الله- فقد خالف الجمهور ورأى أن الثناء كما يكون بالخيرِ يكون بالشرِ, وعليهِ على قول العز ابن عبد السلام أن قولهم (على الجميل الاختياري) للاحتراز أخرج الثناء الذي يعتبر شراً. واستدلَّ بحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا والصحابة فمر بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت ومُر بجنازة أخرى فاثنوا عليها شرا فقال وجبت).
قال إذاً الصحابة من أهل اللغة وهم فصحاء وقولهم حجةٌ, فقالوا أثنوا عليها خيرا وأثنواً عليها شراً, فاستعملوا الثناء في الخير وفي الشر وعليه يكون الثناء في الخير ويكون الثناء في الشر.
(على الجميل الاختياري) يكون القيد هنا للإخراج أخرج الثناءَ بالشر.
(على جهة التبجيل والتعظيم) هذا من باب عطف التفسير, لأن التبجيل هو التعظيم والتعظيم هو التبجيل يعني الثناء باللسان يكون دافعُهُ التبجيل والتعظيم, أخرجَ ما إذا كان دافعه وسببه القهرُ والمجاملةُ ونحو ذلك.
إذاً نقول الحمد اللغوي: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري على جهة التبجيلِ والتعظيمِ. الحمد اللغوي هنا له موردٌ وله سببٌ يعني الدافع للحمد اللغوي هنا مطلق يشمل النعمة وغيرها, ومورده يعني آلته اللسان فقط إذاً الحمد اللغوي يكون مورده اللسانَ فقط وسببه ودافعه: هو الإنعام وغيره يعني يكون في مقابلة النعمة, ويكون في مقابلة الصفة الذاتية, لأن إذَا قولنا أحمد الله الحمد هنا متعلق بالرب جل وعلى, فالله تعالى يحمد على صفاته الذاتية كما يحمد على صفاته الفعلية.


* أما الحمد اصطلاحا عُرفاً: هو فعل ينبأ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد أو غيره. فعل ينبأ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد أو غيره.
(فعل) الفعل هنا جنس يشمل الجنان (القلب) ويشمل اللسان ويشمل الجوارح. إذاً الحمد الاصطلاح مورده ثلاثة أشياء: اللسان والجوارح والقلب, بخلاف الحمد اللغوي.
(فعل ينبأ) يعني يدل على تعظيمِ المنعمِ كما قال هناك على جهة التعظيم والتبجيل.
(فعل ينبأ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً) إذا هنا الحمد في مقابلة النعمة, وهناك الحمد اللغوي في مقابلة النعمة وغيرها, وعليه نقول: العلاقة بين الحمدين (الحمد اللغوي والحمد الاصطلاحي) العموم والخصوص الوجهيْ يجتمعان ويفترقان, لأننا أثبتنا أنَّ الحمد اللغوي مورده اللسان فقط وسببه: الإنعام وغيرها.
والحمد الاصطلاحي: مورده آلته التي يورد عليها أعمُّ من الحمد اللغوي لأنه يكون باللسان ويكون بالجنان ويكون بالجوارح, سببه النعمة فقط, فنقول بينهما عموم وخصوص وجهيّ.
الحمد اللغوي: أعم من جهة السبب, وأخص من جهة المورد والآلة.
الحمد الاصطلاحي: أعم من جهة الآلة, وأخص من جهة السبب. لو حصل الثناء باللسان في مقابلة نعمةٍ نقول هنا: اجتمع الحمد اللغوي والحمد الاصطلاحي, وإذا حصل الثناء باللسان لا على نعمةٍ نقول هنا حصل الحمد الحمد اللغوي لا الاصطلاحي, وإذا حصل الثناء لا باللسان وإنما بالقلب أو بالجوارح في مقابلة نعمة نقول: هنا انفرد الحمد الاصطلاحي. إذاً قد يجتمعان وقد يفترقان.
* الحمد عند بعض أهل العلم مرادف للشكر كابن جرير الطبري وذهب إليه صاحب القاموس الفيروز آبادي -رحمهم الله جميعا- ذهبوا إلى أن الحمد مرادف للشكر. هذا التعريف الأخير لذكر الحمد الاصطلاحي تقدم لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وغيره من أئمة الدعوة بأنه قَصَر الحمد على مقابلة النعمة فقط.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن حمد الرب -جل وعلى- نوعان: حمد في مقابلة إحسانه إلى عباده قال وهذا نوع من الشكر, وحمدٌ لكونه متصفاً بصفات الكمال والعرفِ والجلالِ وهذا مغاير للأول, والحد الاصطلاحي للحمد الاصطلاحي هذا قَصَر الثناء على الأول دون الثاني لأنه قال (فعل ينبأ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما) إذاً لا يُحمد إلا في مقابلة النعمة ونقول: الله عز وجل يحمد على نعمه ويحمد على صفاته ولذلك جاء في القران (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولد) [الإسراء/111] وهذا من الصفات (الثناء) (20:26) (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولد ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) [الإسراء/111] هذا حمد على الصفات الذاتية (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) [الأنعام/ 1] (الحمد لله الذي أنزل عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) [الكهف/1] هذه كلها صيغ حمد متعلقها غير الإنعام, وإن كان الآية الأخيرة متعلقها الإنعام وهو إنزال الكتاب. إذاً نقول: الحمد بالتعريف الأخير الاصطلاحي يُنتقد من جهة أنه خاص بالنعمة, والصواب: أنه عام في النعمة وغيرها. فالله جل وعلى يحمد على صفاته اللازمة, ويحمد على صفاته المتعدِّية.


فقال رحمه الله: الحمد هو ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله. هكذا عرَّفه شيخ الإسلام ابن تيمية الحمد هو ذكر محاسن المحمود وقال ابن القيم –رحمه الله-: هو إخبارٌ عن محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله. فمحاسن المحمود هذا يعمُّ الصفات الذاتية كالكبرياء والعظمة, وأيضا الصفات المتعدية كالإحسان والمغفرة والرحمة.
قلنا الحمد والشكر مترادفان عند بعض أهل العلم, وبعضهم يرى أنهما متباينان يعني مختلفان وهذا هو أصح كما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في غير ما موضع في فتاويه.
فيعرَّف على ذلك الشكر بأنه في اللغة: هو عين الحمد الاصطلاحي فالشكر لغة هو الحمد الاصطلاحي فنقول الشكر لغة: فعل ينبأ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد أو غيره.
الشكر اصطلاحا: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خُلِقَ لأجله.
(صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه) سواء كان الصفة خاصة به كالسمع والأذن والبصر ونحو ذلك واللسان أو منفكة عن الإنسان كالمال والولد والزوجة ونحو ذلك.
(صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله) فالسمع والبصر والأذن خلقتْ لماذا؟ لتحقيق عبودية الله -جل وعلى-, فإذا صرفتْ لغير هذا لغير هذه الحكمة نقول صرفتْ في غير ما خلقة له فيكون من قبيل الكفران لا الشكر, لأن ضد الحمد هو الذم وضد الشكر الكفر. إذاً نقول يشمل الشكر من جهة الآلة اللسان والجوارح والقلب.
مورد الشكر ثلاثة: اللسان يعني آلة الشكر ومورد الشكر بماذا يشكر العبد ربه؟ إما أن يتحرك بجوارحه كالسجود والركوع والقيام أو يمشي إلى الطاعة أو يلهج لسانه بذكر الله فيكون من الشكر أو يعتقد يعترف بالنعمة ونحوها بقلبه فيكون هذا هو المقصود بمورد الشكر إذاً مورد الشكر ثلاثة: اللسان والجوارح والجنان.
(أفادتكم النعماء مني ثلاثةً ... يدي ولساني والضمير المحجبا)
أما السبب: فهو خاص بالنعمة, وهنا وافق شيخ الإسلام كما خالف هناك وافق هنا, وخصَّ الشكر بالنعمة فيكون بين الشكر وبين الحمد الاصطلاحي: العموم والخصوص الوجهي, فالشكر أعم من جهةِ الآلة وأخص من جهة السبب, والحمد اللغوي أخص من جهة الآلة وأعم من جهة السبب, فالشكر أعم من جهةِ الآلة واخص من جهة السبب, لأن التقابل يكون بما دلت عليه اللغة.
أما الحمد الاصطلاحي فهذا خاص بأهل الاصطلاح فالتقابل يكون بين الشكر اللغوي والحمد اللغوي.
قال الناظم (أحمد ربي) نقول هنا الناظم عبر بالجملة الفعلية المفتتحة بالفعل المضارع المثبت, وهذا له نكتة عند البيانيين "العدول عن الجملة الاسمية والجملة الماضوية إلى الجملة الفعلية" يقولون لأنَّ الجملة الفعلية المثبتة تفيد الاستمرار والتجدد (التجدد) هو بمعنى الاستمرار ومقصودهم هنا بالتجدد: كون الحدثِ والفعلِ يحصل ويقع مرةً بعد أخرى.
الجملة الاسمية تدل على الاستمرار دون التجدد والجملة الماضوية لا تدل لا على الاستمرار ولا على التجدد الذي هو حصول الشيءِ مرة بعد أخرى, لكن تدل على التجدد الذي بمعنى الوجود بعد العدم.


إذا قيل (قام زيد) دلت على التجدد ما هو؟ ثبوت قيام زيد بعد أن لم يكن كان معدوما فصار فوقع فحصل, أما هل تدل على أن هذا القيام يقع مرةً بعد مرة يقوم ثم يجلس ثم يقوم ثم يجلس؟ الجواب لا. لكن إذا قيل (يقوم زيد) يقوم هذه الجملة المضارعية عند أهل البيان تدل على التجدد يعني حصول القيام مرة بعد مرة هنا قال (أحمد ربي) إذاً هذا الحمد يقع ويحصل مرة بعد أخرى.
قالوا لماذا يعدل في هذا الموضع على سبيل الخصوص إلى ما يدل على التجدد؟
قالوا: لأنه علق بقوله (ربي) والرب هنا مشتق من الربوبية, ففُهم معنى التربية والتربية تستلزم تجدّد الآلاء والنعم فكما أن آلائه ونعمه -جل وعلى- لا تزال تتجدد تترا, كذلك يُنشأ له حمد بصيغة لا تدل على الثبوت وإنما تدل على التجدد, فيكون هناك موافقة بين الحمد والمحمود عليه لتكونَ هناك موافقة بين الحمد الذي هي صيغة الحمد والمحمود عليه, المحمود عليه هنا الآلاء هل هي ثابتة أم أنها تتجدد وقتا بعد وقت؟ نقول: تتجدد .. إذاً يناسبها أن يعبر بفعل يدل على التجدد لا على ما يدل على الثبوت والاستمرار, لذلك عدل الناظم عن الحمدلة بالجملة الاسمية أو الجملة الماضوية.
أحمد ربي (أحمد) هذا فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفع ضمة ظاهرة على آخره والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنا ربي اللهَ, هنا أضاف الرب إلى نفسه المتكلم لإظهارِ الضعف والاستكانة والخشوع والذل.
(ربي) الرب بأل هذا اسم من أسماء الله -جل وعلى-, أما إذا لم يحلى بأل فيجوز أن يُنسب إلى المخلوق فيقال (رب الدار) و (رب الضيعة) و (رب المال) أما إذا قيل الرب فإنه اسمٌ خاص بالله -جل وعلى-.
ربي الله (ربي) نقول مفعول به (اللهَ) نقول بدل ولا يصح أن نقول نعت لماذا؟ لأن اسم الله جل وعلى لفظ الجلالة الله يُتبع ولا يكون تابعاً, تضاف إليه جميعُ الأسماء, ولا يضاف هو إلى غيره فيقال: الله هو الرحمن هو الرحيم هو الملك .. الخ ولا يصح أن يقال: الرحمن الرحيم هو الله لماذا؟ لأنه عندَ كثير أو عند الجمهور من أهل العلم أن لفظ الجلالة (الله) هو الاسم الأعظم.
إذاً أحمد ربي (ربي) نقول مفعول به (الله) هذا بدل ولا يصح أن نقول أنه بدل كل من كل ولا يصح أن نقول أنه نعت.
* هل هو مشتق أم لا؟ اختلف أهل العلم والخلاف حاصل بين أهل السنة والجماعة هل لفظ الجلالة الله مشتق أما لا؟ يعني هل يدل على صفة أم لا؟ هل هو جامد يدل على ذات غير متصفة بوصف أم لا؟ هذا محلُّ النزاع بين أهل العلم. نُسب لسيبويه والخليل وأيضا للشافعي والخطابي وإمام الحرمين القول: بأنه جامد لا يدل على معنى لا يدل على صفة, واستدلوا: بأنه إذا دخلت عليه ياء النداء ثبتتْ أل, ومعلومٌ أن أل لا تجامع ياء النداء لا يقال يا الرحمن يا الكريم وإنما يقال يا رحمن يا كريم يا غفور بحذف أل.
وباضْطرارٍ خصَّ جمعُ (يا) و (أل) ... إلاَّ مع اللَّهِ ومحكيُ الجمل


إذا لا يقال يا الرحمن يا الكريم وإنما يقال يا كريم يا رحمن ونقول في لفظ الجلالة يا الله فتثبتتْ أل, فدل على أنها لازمة وليست بزائدة, والصواب: أنه مشتقٌ الصحيح أنه مشتق, ودليل الاشتقاق: أن معناه كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) ففسَّر (الله) ذو الألوهية يعني صاحب الألوهية كما نقول الرحمن يعني صاحب الرحمة الغفور صاحب المغفرة فقال (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) فالله أصله على هذا مشتق من الإله والإله فعال بمعنى مفعول الإله بمعنى مألوه مشتق من أيضا إله مشتق من أَلَهَ يأله إلاهً وألوهة, وألَه بمعنى عبد واستدلوا لذلك بقول رؤبة:
للَّهِ درّ الغانيات المدَّهِ ... سبَّحن واسترجَعن من تألهي
يعني من تعبدي, فذكر المصدر فدل على إذا ثبت على المصدر صح اشتقاق الفعل منه الفعل الماضي والمضارع والأمر, والذي يؤكد هذا أنه مشتق قوله جل وعلى (وهو الله في السموات وفي الأرض) [الأنعام/3] وقال في موضع آخر القرآن يفسر بعضه بعضا (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) [الزخرف/84] إذا جمعت بين الآيتين علمتَ أن معنى قوله (وهو الله في السموات) أي الإلهُ الذي يعبد في السموات, وهو أيضا هو الإله الذي يعبد في الأرض (وهو الله في السموات) أيضاً من جهة إعرابية (هو الله) مبتدأ وخبر (في السموات) جار ومجرور متعلق بلفظ الجلالة.
* ومن المتقرر عند النحاة: أن الجار والمجرور لا يتعلق إلا بالفعل أو ما فيه رائحة الفعل.
لا بدَّ للجار من التعلقِ ... بفعلٍ أو معناه نحو مرتقي
فلما تعلق (في السموات) لقوله الله علمنا أن لفظ الجلالة مشتق لأن الجار والمجرور لا يتعلق إلا بمشتق إذاً نقول الله الصواب: أنه مشتق وهو دال على الذاتِ ودال على الصفةِ, وهذه الصفة هي الألوهية ما معنى الألوهية يعني العبودية.
أحمد ربي الله أحمد ربي الله جل منعما (جل) هذا فعل ماضٍ جل يجل جلالاً وجلالةً فهو جليل وجل بمعنى عظمَ والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله (منعماً) هذا حال من فاعل جل يعني جل ربنا حال كونه منعما (أخرج من جهل وجل من عمى) كأنه فسر بعضَ ذلك الإنعام على الخلق فقال (أخرج من جهل) وأعظم نعمة على الإنسان أن يخرج من جهل الكفرِ والبدعِ والمعاصي إلى نورِ الإيمانِ والطاعة.
(أخرج من جهل) هذا قد يشير الناظم إلى قوله جل وعلى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) [النحل/78] لا تعلمون شيئا هذا هو حقيقة الجهل لأن الجهل حدُّه عدم العلم.
والجهل جاء في المذهب المحمودِ ... هو انتفاء العلم بالمقصودِ
عدم العلم هو الجهل سواء كان الجهل جهل بسيطاً أم جهلاً مركباً (أخرج من جهل) إذا أجل نعمة أنعم بها الرب جل وعلى على العباد أن أخْرجهم من جهل الكفر إلى نور الإيمان.
وجل من عمى (وجل) يعني أظهر (والنهار إذا تجلى) [الليل/2] يعني إذا ظهر وبان وجل من عمى هو بمعنى قوله أخرج من جهل.


(من عمى) قصد به الجهل والعمى هنا عمى القلب ونص عليه لأنه أشد ضرر على الإنسان من عمى البصر (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج/46] والذي يجلِّي عمى القلوب يعني يزيله هو العلم النافع والعمل الصالح.
فِعِلَّمَ البَيَانَ وَالإعْرَابَا ... وَأَلْهَمَ الحِكْمَةَ وَالصَّوَابَا

فعلَّم ربنا -جل وعلى- (البيان) البيان في اللغة: يطلق على الظهور ويطلق بمعنى الفصاحة ويطلق بمعنى المنطق الفصيح المعرِب عما في الضمير والثالث هو المراد هنا (فعلَّم البَيان) أي علَّم ما ينطق به الذي هو المنطق الفصيح المعربِ عما في الضمير, وقد يكون فيه إشارة إلى قوله (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) [الرحمن] يعني بني آدم, وإن قيل بالإنسان هنا المربي آدم عليه السلام (علمه البيان) أي الأسماء كلها وقيل (خلق الإنسان) أي كل إنسان (وعلمه البيان) أي المنطق الفصيح فيوافق ما ذكره الناظم هنا.
(والإعرابا) الألف هذه للإطلاق, والإعراب في اللغة: يطلق على معاني منها الإبانة ومنها التحسين ومنها التغيير والمناسب هنا (الإبانة) يقال أعرب زيد عما في نفسه إذا أبانَ وأظهرَ, فيكون من بابِ عطف المرادف أو التفسير فعلَّم البيان والإعرابا وألهم الحكمة والصوابا (ألهم) هذا فعل ماض بمعنى لقَّنَ, لقَّن العباد والخلق الحكمة, الحكمة تطلق على القران وعلى العلم وعلى الحلم وعلى النبوة والمراد بها هنا القران والعلم (والصوابا) هذا من باب عطف التفسير أيضاً أو يكون قوله (وألهم الحكمة) إذا فسرنه بالعلم أن العلم ما هو صوابٌ وما هو خطأ وقال (والصوابا) أي الصواب في العلم والصواب هو ضد الخطأ والباطل ضد الحق.
فَلَاحَ لِلأَذْهَانِ مَعْنَى مَا خَفَى ... مِنَ الكِتَابِ وَحِدِيثِ المُصْطَفَى

(فلاح للأذهان) إذنْ علم وألهم (فلاح) يعني ظهر وبان للأذهانِ والعقولِ والقلوب معنى ما خفى من الكتاب وحديث المصطفى التي هي محل للعلم (فلاح) إذا علم الرب جل وعلى البيان المنطق الفصيح وألهم الإنسان العلم والصواب فيه (فلاح) ظهر وبان للأذهان والعقول والقلوب التي هي محل للعلم.


معنى ما خفى من الكتاب (معنى) المعنى ما يقصد من الشي المعنى حقيقته ما يقصد من الشيءِ أو ما يقصد من اللفظ فما يُعنى من اللفظ يسمى معنى أو يسمى مفهوما أو يسمى مدلولاًَ هذا المدلول وهذا المفهوم منه ما هو ظاهر ومنه ما هو مستترٌ خفيٌ فقال هنا لاحَ للأذهان معنى ما خفَى (خفَى) أصلها خفِي أبدلت الكسرة فتحة للتوصل إلى قلب الياء ألفاً خفي كرضي أبدلتِ الكسرة فتحة فقيل خَفَيَ فتحركت الياء وفتح ما قبلها فقلبت الياء ألف يعني هي فرعٌ وليست بأصل كما يقال رَضَى وأصله رَضِي إذا (لاح للأذهان) بدا وظهر للأذهان المعنى الذي خفِيَ واستتر من الكتاب وحديثِ المصطفى (من الكتاب) المراد به القران والكتاب اسم من أسماء القران (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتابَ) [الكهف/1] سمي القران كتاباً لكونه مكتوباً, كتاب فعال بمعنى مفعول أي مكتوب, والكتب هنا الكتاب مشتق من الكَتب بمعنى الجمع الكتب في اللغة هو الجمع يقال اكتتبتَ بنو فلان إذ اجتمعوا, وتسمى جماعة الخيل كتيبة, وسميت الكتابة كتاباً لاجتماع الحروف والكلمات.
وحديث المصطفى (المصطفى) الطاء هذه منقلبة عن تاءِ افتعل, مصطفى أصلها مصتفى وقعت التاء بعد الصاد فقلبت التاء طاءًا, والمصطفى هذا مأخوذ من الصفوة, فأصل ألفه واو (مصطفى) أصلها مصطفون تحركت الواو وفتح ما قبلها فقلبت ألفا فقيل مصطفى, وهو مشتق من الصفوة والمراد به: الشيءُ الخالصُ من الكَدَر, كل ما خلص من غيره فهو صفوة (وحديث) هذا مقابل لقوله "الكتاب" لأن مستند أهل العلم في تلقي الأحكام هو الكتاب وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
* الحديث هنا المراد به ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ كما قال السيوطي رحمه
الله تعالى:
................. ... ............. والحديثَ قَيَّدُوا
بِما أضيفَ لِلنَّبِيِّ قَوْلاً أوْ ... فِعْلاً وَتَقْرِيراً وَنَحْوَهَا حَكَوْا
وَقِيلَ: لا يَخْتَصُّ بِالمَرْفُوعِ ... بَلْ جَاءَ لِلمَوْقُوفِ وَالمَقْطُوعِ


يعني بعض أهل العلم يرى أن الحديث أعم مما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم بل يشمل الموقوف الذي وقف على الصحابي, والمقطوع الذي وقف على التابعي على اصطلاح بعضهم. هنا قال (فلاح للأذهان معنى ما خفى من الكتاب وحديث المصطفى) إذاً يفهم من كلام الناظم هنا أو يشير إلى أن آكد ما يستفيد منه طالب العلم النحويّ أو اللُّغويّ هو معرفة ما قد يَخفى من الكتاب والسنة, ولذلك نجد الآن من يزهِّد في دراسة النحو وغيره والصرف والبيان لكونه يفهم ظاهراً من الكتاب والسنة, فيظنّ أن هذا الظاهر فهمه دون حاجة إلى معرفة قواعد اللغة وهذا خطأ في الفهم خطأ في التصور .. لماذا؟ لأن الكتاب والسنة منه ما هو ظاهر بيِّن يعرفه حتى العامي ولذلك ابن القيم رحمه الله نصَّ على أن آيات الأسماء والصفات -رداً على من قال أنها من المتشابهِ- قال لا هي من المحكم بل من أحكم المحكم يعني يفهمها العامي يقرأ (الرحمن على العرش استوى) [طه/5] (وهو الغفور الرحيم) [يونس/107] فيسأل ربه المغفرة والرحمة إذا اشترك العامي مع طالب العلم الذي لا يدرس علم اللغة ولكن الفائدة الكبرى التي يتوصل بها الطالب من معرفة قواعد النحو واللغة عموماً (بياناً وصرفاً) هي معرفة ما يخفى من الكتاب والسنة. هنا قيد رحمه الله (معنى ما خَفَى) احترازا من الظاهر الذي يستوي فيه طالب العلم والمثقف والعامي ولذلك نص أهل العلم: على أن علم اللغة هذا من فروضِ الكفايةِ, واستدل الصوفي رحمه الله لهذا بأنَّ القران نزل عربياً (إنا أنزلناه قرآناً عربياً) [يوسف/2] وقد أُمِرنا بتدبر القرآن ولا يمكن أن يوصَل إلى تدبر القرآن وهو عربي إلا بدراسة اللغة العربية بجميع صنوفها نحواً وصرفاً وبياناً و (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) إذاً: تدبر القرآن فرض كفاية, ولا يتم الوصول إلى هذا الفرض إلا بدراسة اللغةِ, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ومن عنده أو في نفسه ترددٌ في حاجته إلى علم اللغة عموما فعليهِ أن يعتكف على كتاب الصوفي رحمه الله (الصَّعقْةُ الغَضَبِيَّة في الردِّ عَلى مُنكِرِي العَرَبيَّة) ألَّفه رداً على من (هو يقول في عصرنا من الجهال من يزهد في علم اللغة بصنوفها) فألف هذا الكتاب وهو كتاب ضخم يقع في أكثر من أربع مئة صفحة محقق وموجود (الصعقة الغضبية للرد على منكري العربية).
صَلَّى عَلَى مُحَمِّدٍ وَشِيعَتِهِ ... مَنْ أَسَّسَ الإِعْرَابَ فِي شَرِيعَتِهِ

(صلى على محمد) لما أثنى على الخالق -جلَّ وعلى- ثنى بالثناء على أفضل مخلوق وهو نبينا صلى الله عليه وسلم.
وأفضل الخلق على الإطلاق ** نبينا فملْ عن الشقاق
صلى على محمد وشيعته (صلى) هذا فعل ماض, جملة خبرية المراد بها إنشاءُ الصلاة يعني جملة خبريةٌ لفظاً إنشائيةٌ معنى.


* الجمهور على أن معنى الصلاة تبعاً لما حكاه الأزهري: الصلاة من الله الرحمة, ومن الملائكة الاستغفار, ومن الآدميين التضرع والدعاء, ولكن ابن القيم رحمه الله لم يرتض هذا, وأبطل كون الصلاة بمعنى الرحمة, قال لأن الله جل وعلى قال في كتابه (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) [البقرة/157] فعطف الرحمةَ على الصلاةِ و (العطف يقتضي التغاير) إذاً: الرحمةُ غير الصلاة, ثم آكد من هذا أن الرحمة مشروعةٌ لكل مسلم, لم يختلف العلماء هل يُترحم على المسلم فلان؟ وإنما اختلف هل يصلَّى على غير الأنبياء والملائكة؟
إذاً: المسلم الذي هو فرد من أفراد الأمة, وليس بملك ولا نبي, اختلف العلماء هل يجوز أن يصلى عليه؟ فيقال صلى الله عليه أم لا يجوز؟ ولمْ يختلفوا في جواز الترحم عليه! فدل على أن الرحمة عامة والصلاة مختصة أمَّا كون الصلاة من الآدميين بمعنى الدعاء قال هذا أيضا لا يستقيم لأنَّ (صلى) يتعدى بعلى والدعاء يتعدى بالام وبعلى دعوت له ودعوت عليه, وصلى التي بمعنى على -ولا تأتي بغيرها- ليست هي في المعنى دعا بمعنى على, إذاً اختلافا في المعنى, أيضا الدعاء يكون بالخير ويكون بالشر, والصلاة لا تكون إلا بالخير, أيضا الدعاء يقتضي مدعوا ومدعوا به فيقال: دعوت الله لك بالخير ولا يقال: صليت الله لك بالخير. ولذلك عدل رحمه الله إلى ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقاً من قول أبي العالية: صلاة الله على عبده ثنائه عليه في الملأ الأعلى.
إذا (صلى الله) يعني أثنى الرب جل وعلى على عبده في الملأ الأعلى (على محمد) جار ومجرور متعلق بقوله صلى (محمد) هذا علم منقول قيل منقول من الحميد وهو اسم من أسماء الله جل وعلى وعليه ينزل قول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه
وشق له من اسمه ليجلَّه ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ
وذكر ابن القيم رحمه الله أنه علمٌ منقولٌ مشتق من حمِّد مبني للمفعول مضعف العين للمبالغةِ, لأنه عليه الصلاة والسلام لكثرة خصال الخير فيه كثُر حامدوهُ, فهو محمد يعني يكثر حامدوهُ, وهذا دليل على كثرة خصال الخير فيه (على محمَّد وشيعتِهِ) شيعة الرجل المراد به أتباعه وأنصاره, وهذا اللفظ يطلق على الواحدِ ويطلق على الاثنين والجمع المذكر والمؤنث, إذاً شيعة يطلق على الواحد ويطلق على الاثنين ويطلق على الجمع سواء كان جمعا مذكرا أو جمعا مؤنثاً, واختص عند المتأخرين باسم خاصٍ وهو إطلاقهُ على "من يتولى عليا رضي الله تعالى عنه وأهل البيت" ولكن نحمل كلام الناظم هنا على المعنى الأول يعني الأتباع عموما ولا يخص أهل البيت.
(صلى على محمد وشيعته) يعني وأتباعه على دينه (من أسس الإعراب في شريعته).
صلى على محمد وشيعته (الشيعة) هنا بمعنى الأتباع والأنصار, ولك أن تحمله بمعنى الآل كأنه قال: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمدٍ. فيكون قد صلى على آل محمد امتثال لقوله عليه الصلاة والسلام: قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد
من أسس الإعراب في شريعته (من أسَّسَ) هذا يحتمل أنه معطوف على سابقه بحذف حرف العطف, وإن كان من جهة الصناعة يجوز أن يكون فاعلا لصلَّى لكن يفسد المعنى فيما يبدو والله اعلم.


إذا (صلى على محمد) وصلى (على شيعته) آله وأتباعه وأنصاره وصلى (على من أسس الإعراب)
(في شريعته) يعني في ملته الشريعة تطلق بمعنى الملة والدين وتطلق أيضا بمعنى ما يقابل العقيدة (لكلٍ جعلنَا منكمْ شرعةً ومنهاجاً) [المائدة/48] يعني يطلق على ما تعلق بكيفية العمل لا على المعتقد, وقد أطلقه بعضُ السلف على المعتقد أيضا إذاً يطلق على الملة الشاملة للعلميات والعمليات ويطلق لفظ الشريعة مراداً به العَمَليات كما هو في اصطلاح المتأخرين, ويطلق أيضا على العِلْمِيات وهو المعتقد كما ذكر الآجري في تسميةِ كتابه "الشريعة" وخصه بمعتقد أهل السنة والجماعة.
من أسس الإعراب (أسس) بمعنى أصَّل, فالأساس والأصل بمعنى واحد والأصل حده: ما بني عليه غيره.
فالأصل ما عليهِ غيره بنُي ... والفرعُ ما على سواه ينبني
(من أسس الإعراب) من أصل الإعراب (أل) هنا للعهد الذهني يعني الإعراب المصطلح عليه عند النحاة, فإن من أسسه وأصَّله هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه, وقيل إنه أبو الأسود الدؤلي على نزاع بين أهل العلم والأكثر على أنه علي رضي الله تعالى عنه.
وَقَدْ حَصَرْتُ بِطَرِيقِ الرَّجَزِ ... قَوَاعِدَ الإِعْرَابِ حَصْرَ مُوجَز

(الرجز) هو بحر من بحور الشعر سمي رجزا لإضطرابهِ, كانت العرب تسمي الإبل أو الناقة إذا ارتعشت فخذاها تسميها رجزا كصحرا, والمراد به هنا ما سدس من التفعيلات يعني ما يأتي على (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) ست مرات.
(وقد حصرت) يعني جمعت قواعد الإعراب (قواعدَ) هذا مفعول لقوله (حصرت) يعني جمعت قواعد الإعراب. (قواعد الإعراب) يقصد به كتاب ابن هشام رحمه الله الذي سبق التنويه به.
حصرت حصرَ موجز (حصر) هذا مفعول مطلق نوعي لأنه أضيف, وأصله من إضافة الصفة إلى الموصوف, (حصرت حصراً موجزاً) يعني حصراً موجزاً يعني ملخصا مختصرا بطريق الرجز (بطريق) هو الرجز وهذه الإضافة تسمى إضافة بيانية يعني جَمعت وحصرتُ هذا الكتاب منثوره فيما استطعت عليه أو فيما استطعت به بطريق الرجز الذي هو أسهل بحور الشعر لأنَّ العلماء وخاصةً المتأخرين قد نظموا علومهم على هذا البحر لسهولتِه وسلاستِه.
إذاً: يقول حصر قواعد الإعراب الذي هو لابنِ هشام رحمه الله ببحر الرجز, ونصَّ على أن هذا الحصر فيه إيجاز واختصار إذاً قد يفوته بعض الشيءِ. لماذا حصر لماذا جمع بطريق الرجز ولم يتركه نثرا؟
لِيَسْهُلَ الحِفْظُ عَلَى الطُّلاَّبِ ... فِي تِلْكُمُ الأَرْبَعَة الأَبْوَابِ

قال (ليسهل) ضد يصعب (الحفظ على الطلاب) وهذا يشير على أن القاعدة العامة عند العلماء (أن من لازم طالب العلم الحفظ) من لم يحفظ لنْ يتقن الفن أبدا كل فن يريد طالب العلم أن يتقنه لابد له من محفوظ وإن قلَّ سواء كان منثورا أو منظوما إذا (ليسهل الحفظ على الطلاب).
لذلك ذكر السفاريني رحمه الله أنه نظم عقيدته لهذا الغرض أيضا ليسهل الحفظ على الطلاب فقال رحمه الله: ... وصار من عادة أهل العلم ** أن يعتنوا في سبر ذا بالنظم
بالنظم لأنه يسهل للحفظ كما ** يروق للسمع ويشفي من ظما


(ليسهل الحفظ على الطلاب في تلكم الأربعة الأبواب) التي ضمنها ابن هشام رحمه الله كتابه (قواعد الإعراب) وهذه الأبواب الأربعة كما ذكرتها آنفا الباب الأول في الجملة وأحكامها الباب الثاني في الجار والمجرور الباب الثالث في كلماتٍ يحتاجها المعرب والرابع في كلماتٍ تحتاج إلى تحرير قد وقع فيها من أخطأ من المعربين.
(قواعد الإعراب) هذا يُفهم كما يقال قواعد الأصول وقواعد الفقه وقواعد التفسير إذاً كما يرِد في الذهن وقد سبق بيان معنى القاعدة ومعنى الإعراب في شرح الملحة هناك ولا إعادة ولا عود.
(قواعد) جمع قاعدة والمراد بها: قضيةٌ كليةٌ يتعرف بها أحكام وجزئيات موضوعها (والإعراب) هنا المراد به هنا الإعراب الاصطلاحي: أثرٌ ظاهرٌ أو مقدرٌ يجلبه العامل في آخر الكلمة أو ما نزِّل منزلها, وكل منهم يحتاج إلى درس خاص وإذا نقول الإحالة على شرح الملحة نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.