أعلام
النبوة للماوردي الباب الأول في
مقدمة الأدلة
والأدلة ما أوصلت إلى العلم بالمدلول عليه، والدليل معلوم بالعقل، والمدلول
عليه معلوم بالدليل، فيكون العقل موصلا إلى الدليل، وليس بدليل، لأن العقل
أصل كل معلوم من دليل ومدلول عليه، ولذلك سمي أم العلم، فصار العقل مستدلا
وإن لم يكن دليلا، والعلم الحادث عنه ما تميز به الحق من الباطل، والصحيح
من الفاسد، والممكن من الممتنع، وهو على ضربين: علم اضطرار وعلم اكتساب،
فأما علم الاضطرار فهو ما أدرك ببداهة العقول وهو نوعان: حس ظاهر، وخبر
متواتر، وعلم الحس متأخر عن العقل وعلم الخبر متقدم عليه، ولا يفتقر علم
الاضطرار إلى نظر واستدلال لإدراكه ببديهة العقل ويشترك فيه الخاصة والعامة
ولا يتوجه إليه جحد ولا تحسن المطالبة فيه بدليل لأنه غاية لتناهي النظر.
علم الاكتساب
وأما علم الاكتساب فطريقه النظر والاستدلال لأنه غير مدرك ببديهة العقل،
فصحّ أن يتوجه إليه الاعتراض فيه بطلب الدليل عليه، فلذلك لم يتوصل إليه
إلّا بالنظر والاستدلال، وهو على ضربين: أحدهما؛ ما كان من قضايا العقول،
والثاني؛ ما كان من أحكام السمع، فأما قضايا العقول فضربان: أحدهما؛ ما علم
إستدلالا بضرورة العقل، والثاني؛ ما علم
(1/17)
استدلالا بدليل العقل، فأما المعلوم بضرورة
العقل فهو ما لا يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كالتوحيد فيوجب العلم
الضروري، وإن كان عن استدلال للوصول إليه بضرورة العقل، وأما المعلوم بدليل
العقل فهو ما يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كآحاد الأنبياء إذا ادعى
النبوّة فيوجب علم الاستدلال ولا يوجب علم الاضطرار لحدوثه عن دليل العقل
لا عن ضرورته، واختلف في أصل النبوّات على العموم هل يعلم بضرورة العقل أو
بدليله على اختلافهم في التعبد بالشرائع هل اقترن بالعقل أو بعقبه فذهب من
جعله مقترنا بالعقل إلى إثبات عموم النبوّات بضرورة العقل وذهب من جعله
متأخرا عن العقل إلى إثباتها بدليل العقل، وذهب أصحاب الإلهام إلى إسقاط
الاستدلال بقضايا العقول وجعلوا إثبات المعارف بالإلهام أصلا يغني عن أصل،
وهذا فاسد بقول الله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «1» فجعله
بالاعتبار مدركا دون الإلهام، ويقال لمن أثبت المعارف بالإلهام لم قلت
بالإلهام؟ فإن استدل ناقض، فإن قال: قلته بالإلهام، قيل له: انفصل عمن أسقط
الإلهام بالإلهام، وعمن قال في الإلهام بغير إلهامك في جميع أقوالك فلا تجد
فصلا، وكفى بذلك فسادا.
الضرورة والدليل
فإذا ثبت أن كلا الضربين «2» مدرك بقضية العقل فيما علم بضرورته من التوحيد
أو بدليله من النبوّة، صار بعد العلم به واجبا واختلف في وجوبه، هل وجب بما
صار معلوما به من قضية العقل أو بالسمع، فذهب قوم إلى وجوب التوحيد والنبوة
بالعقل كما علم بالعقل ويكون التوحيد وعموم النبوات قبل السمع فرضا، وذهب
آخرون إلى وجوبهما بالسمع وإن علما بالعقل لأن الوجوب تعبد لا يثبت إلّا
بالسمع.
واختلف من قال بهذا في وجوب ورود السمع به فأوجبه بعضهم ولم يوجبه
__________
(1) سورة الحشر الآية (2) .
(2) الضربين: النوعين.
(1/18)
آخرون منهم وأسقطوا فرض التوحيد عن العقلاء
إذا لم يرد سمع بإيجابه.
وذهب آخرون إلى أن ما علم بضرورة العقل من التوحيد واجب بالعقل وما علم
بدليل العقل من النبوّة واجب بالسمع لأن التوحيد أصل والنبوّة فرع
والاجتهاد فيهما فرض على أعيان ذوي العقول إذا اقترن بكمال عقله قوة الفطنة
وصحة الروية، فيستغنى بكمال عقله وصحة رويته عن تنبيه ذوي العقول الوافرة
ليصل بإجتهاد عقله من اضطرار أو استدلال إلى قضايا العقول ليصير عالما بها
ومستغنيا عن عقل غيره فيها، وإن ضعفت فطنته وقلت رويته لزمه أن يتنبه بذوي
العقول على الوصول إليها بعقله لا بعقولهم فيعلمها بالتنبيه كما علمها غيره
بالنظر وإن لم يصل إليها بالتنبيه فليس بكامل العقل ويصير تبعا لذوي العقول
لأن عدم الموجب دال على سقوط الموجب.
أحكام العقل
والعقل هو ما أفاد العلم بموجباته، وقيل: بل هو قوة التمييز بين الحق
والباطل. وقيل: هو العلم بخفيات الأمور التي لا يوصل إليها إلّا بالاستدلال
والنظر وهو ضربان، غريزي هو أصل ومكتسب هو فرع.
فأما الغريزي فهو الذي يتعلق به التكليف ويلزم به التعبد.
وأما المكتسب فهو الذي يؤدي إلى صحة الاجتهاد وقوة النظر ويمتنع أن يتجرد
المكتسب عن الغريزي ولا يمتنع أن يتجرد الغريزي عن المكتسب لأن الغريزي أصل
يصح قيامه بذات والمكتسب فرع لا يصح قيامه إلّا بأصله.
ومن الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلا لأنه من نتائجه ولا اعتبار
بالنزاع في التسمية إذا كان المعنى مسلّما.
أحكام السمع
وأما أحكام السمع فمأخوذة عمن يلزم طاعته من الرسل والعقل مشروط في
التزامها وإن لم يكن السمع مشروطا في قضايا العقول. وما يتضمنه السمع
نوعان: تعبد وإنذار، فالتعبد الأوامر والنواهي، والإنذار الوعد والوعيد فإن
(1/19)
جمع الرسول بين التعبد والإنذار فهو الشرع
الكامل المغني عن غيره وإن انفرد بالتعبد دون الإنذار فإن تقدمه إنذار غيره
كمل الشرع بتعبده وإنذار من تقدمه وإن لم يتقدمه إنذار من غيره، أما في
مبادىء النبوات أو في من لم تبلغهم دعوة الأنبياء فقد اختلف في قضايا
العقول هل تقتضي الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، فذهب فريق إلى
اقتضائها لذلك فعلى هذا يكون شرعا كمل بتعبد الرسول وإنذار العقول، وذهب
فريق إلى أن قضايا العقول لا تقتضي ثوابا ولا عقابا، فعلى هذا اختلف في
التعبد هل يكون مستحقا على ما تقدم من نعم الله تعالى على خلقه أو لجزاء
مستقبل فذهب فريق إلى استحقاقه بسابق النعمة فإن وعد الله تعالى ثوابا عليه
كان تفضلا منه يستحق بالوعد دون التعبد فعلى هذا يكون التعبد فرضا مستحقا
يقتضي تركه عقابا وإن لم يقتض فعله ثوابا، وذهب آخرون إلى استحقاقه بما
يقابله من الجزاء بالثواب عليه وما تقدم من النعمة تفضل منه فعلى هذا يكون
التزام التعبد مستحبا وليس بمستحق فلا يلزم على تركه عقاب كما لم يستحق على
فعله ثواب لأنه لم يقترن به وعد بثواب يوجب التزام التعبد، وإن انفرد
الرسول بالإنذار دون التعبد فالإنذار لا يكون إلّا على فعل وإلّا كان عبثا
لا يصدر عن كليم، فإن كان إنذاره على شرع تقدمه تضمن إنذاره إثبات ذلك
الشرع وكان هذا المنذر من أمة ذلك المتعبد، وإن كان المتعبد قد أنذر كان
هذا الإنذار تأكيدا ولم يحتج هذا المنذر إلى إظهار معجز، وإن لم يكن
المتعبد قد أنذر تكامل شرع المتعبد بإنذار المتأخر وتكامل إنذار المتأخر
بتعبد المتقدم واحتاج هذا المنذر إلى إظهار معجز إلى إنذاره موجب لكمال
الشرع وإن أنذر المتأخر على فعل الخير واجتناب الشر خرج عن حكم الشرع إلى
الوعظ والزجر بأمر إلهي يستحق له بسط اليد في الانكار واستيفاء ما تضمنه
الإنذار.
(1/20)
الباب الثاني في معرفة الإله المعبود
لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلّا بعد معرفة المعبود المرسل ليعلم أنهم رسل
مطاع معبود فيطاعوا لفرض طاعة المعبود، والمعبود هو الله عز وجل المنعم على
عباده بما كلفهم من عبادته وافترض عليهم من طاعته بعد النعمة عليهم بخلق
ذواتهم والإرشاد إلى مصالحهم واستودعهم علم اضطرار يدرك ببداية العقول «1»
، وعلم اكتساب يدرك بالفكر والنظر «2» ، ولما كانوا محجوبين عن ذاته لم
يدركوه ببداية الحواس اضطرارا، وقد ظهر من إظهار آثار صنعته وإتقان حكمته
ما يوصل إلى معرفة ذاته وصفاته اكتسابا لإدراكها بالاعتبار والنظر، ولو شاء
لخلق ما يدرك ببداية الحواس، لكن معرفته بالاستدلال أبلغ في الحكمة لظهور
التباين في الرتبة فلذلك ما امتنع الوصول إلى معرفته اضطرارا ووصل إليها
استدلالا واكتسابا يخرج عن بداية العقول إلى استدلال معقول.
والذي يؤدي إلى معرفته جل جلاله ثلاثة فصول:
أحدهما: أن العالم محدث وليس بقديم.
والثاني: أن للعالم محدثا قديما «3» .
__________
(1) أي يدرك بالبديهة والفهم.
(2) أي بإعمال الفكر في الكون والمخلوقات يدرك الخالق.
(3) محدثا قديما: خالقا.
(1/21)
والثالث: أنه واحد لا شريك له.
فأما الفصل الأول؛ في حدوث العالم، فالمحدث ما كان له أول، والقديم ما لا
أول له، والدليل على حدوث العالم شيئان:
أحدهما: أن العالم جواهر وأجسام، لا تنفك عن أعراض محدثة من اجتماع وافتراق
وحركة وسكون، وإنما كانت الأعراض محدثة لأمرين:
أحدهما: أنه لا يصح قيامها بذواتها.
والثاني: لوجودها بعد عدمها «4» ، وزوالها بعد وجودها «5» ، وما لم ينفك عن
الأعراض المحدثة لم يسبقها، لأنه لو سبقها لكان لا مجتمعا ولا مفترقا ولا
متحركا ولا ساكنا، وهذا مستحيل فإستحال سبقه، وما لم يسبق المحدث فهو محدث
فإن قيل: فليس يستنكر أن تكون الحوادث الماضية لا أول لها، فلم يلزم حدوث
العالم، قيل: إذا كان لكل واحد من الحوادث أول استحال أن لا يكون لجميعها
أول لأنها ليست غير آحادها، فصارت جميعها محدثة لأنها ذوات أوائل محدثة.
والدليل الثاني: على حدوث العالم وجوده محدودا متناهي الأجزاء والأبعاض وما
تناهت أجزاؤه وأمكن توهم الزيادة عليه والنقصان منه كان تقديره على ما هو
به دليلا، على أن غيره قدره إذ ليس كون ذاته على صفة بأولى من كونه على
غيرها لولا تدبر غيره لها. فإن قيل: فلم لا كانت طينته قديمة وأعراض تركيبه
وتصويره حادثة، كأفعال الله تعالى حادثة عن ذاته القديمة؟
قيل: لأن حدوث أعراضه فيه، وهو لا ينفك منها فصار محدثا بها وأفعال الله
تعالى حادثة في غيره، فلم يمنع حدوثها من قدمه، ولو حدثت فيه لمنعت من
قدمه.
وأما الفصل الثاني: أن للعالم محدثا قديما، فالدليل على أن له محدثا قديما
شيئان:
__________
(4) أي كان هناك وقت لم تكن موجودة فيه.
(5) أي أنها فانية وليست خالدة.
(1/22)
أحدهما: أنه لما استحال أن يكون العالم
محدثا لذاته لإفضائه إلى وجوده قبل حدثه دل على أن محدثه غيره.
والثاني: أن وجود ما لم يكن يوجب أن يقتضي موجدا كما اقتضى المبنى بانيا
والمصنوع صانعا والدليل على قدم محدثه شيئان:
أحدهما: أنه لا أول له وما لا أول له قديم.
والثاني: أنه لو لم يكن قديما لاحتاج إلى محدث ولاحتاج محدثه إلى محدث ولا
تنتهي إلى ما لا غاية له فامتنع وثبت قدمه أنه لم يزل ولا يزال فلم يكن له
أول ولا يكون له آخر. وإذا كان محدثه قديما وجب أن يكون قادرا مريدا.
والدليل على قدرته أنه يصح منه أن يفعل ولا يفعل مع انتفاء الموانع وقد فعل
فدل وجود الفعل منه على قدرته عليه، والدليل على أنه مريد أنه لما وجد منه
الفعل وهو غير ساه ولا مكره ولا عابث لانتفاء السهو عنه بعلمه وانتفاء
الإكراه عنه بقدرته وانتفاء العبث عنه بحكمته دل على إرادته كما كانت كتابة
الكاتب مع انتفاء هذه العوارض دليلا على إرادة كتابته فصار إحداثه للعالم
دليلا على قدمه وحدوث أفعاله وقدمه يوجب أن تكون صفات ذاته قديمة لقدمه
وحدوث أفعاله يوجب أن تكون صفات أفعاله محدثه.
وأما الفصل الثالث: أنه واحد لا شريك له ولا مثل، فالدليل عليه شيئان:
أحدهما: أن عموم قدرته شامل لجميع المحدثات فوجب أن يكون محدث بعضها محدثا
لجميعها إذ ليس بعضها بأخص بقدرته من بعض، فأوجب تكافؤ الأمرين عموم
الجميع.
والثاني: أنه لو كان معه غيره لم يخل أن يكون مماثلا أو مخالفا، فإن خالفه
بطل أن يكون قادرا، وإن ماثله استحال وجود إحداث واحد من محدثين كما استحال
وجود حركة واحدة من متحركين.
(1/23)
وذهب الثنوية «6» من المتباينة إلى إثبات
قديمين هما عندهم نور وظلمة يحدث الخير عن النور والشر عن الظلمة وهذا فاسد
من وجهين:
أحدهما: أن النور والظلمة لا ينفكان أن يكونا جسما أو جوهرا أو عرضا،
وجميعها محدثة فدل على حدوثهما.
والثاني: أن الظلمة ليست بذات وإنما هي فقد النور عما يقبل النور، ولهذا
إذا فقدنا النور في الهواء تصورناه مظلما فلم يجز أن يوصف بقدم ولا يضاف
إليها فعل.
وذهب المجوس إلى أن الله تعالى والشيطان فاعلان، فالله تعالى فاعل الخير
وخالق الحيوان النافع، والشيطان فاعل الشر وخالق الحيوان الضار، قالوا: لأن
فاعل الشر شرير ويتعالى الله عن هذه الصفة، وجعلوا الله تعالى جسما وإن كان
قديما. واختلفوا في قدم الشيطان، فقال به بعضهم وامتنع من قدمه زرادشت
وأكثرهم واختلفوا في علة حدوثه، فزعم زرادشت أن الله تعالى استوحش ففكر
فكرة رديئة فتولد منها (اهرمن) وهو إبليس.
وقال غيره، بل شكّ فتولد الشيطان من شكه. وقال آخرون: بل حدث عفن فتولد
الشيطان من عفنه وهذه أقاويل تدفعها العقول، أما جعلهم الله تعالى جسما،
فدليلنا على حدوث الأجسام يمنع أن يكون الله تعالى مع قدمه جسما.
ودليلنا على الثنوية يمنع أن يكون الشيطان معه ثانيا وإثبات قدرته يمنع أن
يكون مغلوبا وعلمه بمنع أن يكون شاكا أو مفكرا وانتفاء الحزن عنه يمنع أن
يكون مستوحشا وامتناع الفساد عليه يمنع أن يكون عفنا. وقولهم أن فاعل الشر
شرير قيل خروجه عن قدرته مثبت لعجزه فوجب أن يدخل في عموم قدرته.
__________
(6) ويسمون أيضا: المثنوية، وهي مشتقة من مثنى، لقولهم بقدم اثنين: النور
والظلمة.
(1/24)
قول النصارى
«7» فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصّر قسطنطين الملك على دين صحيح في
توحيد الله تعالى ونبوّة عيسى عليه السلام ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصّر
قسطنطين وهو أول من تنصر من ملوك الروم، فقال أوائل النسطورية أن عيسى هو
الله، وقال أوائل اليعاقبة أنه ابن الله، وقال أوائل الملكانية أن الآلهة
ثلاثة احدهم عيسى. ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين
استنكرته النفوس ودفعته العقول، فقالوا أن الله تعالى جوهر واحد هو ثلاثة
أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وأنها واحدة في
الجوهرية وأن أقنوم الآب هو الذات وأقنوم الابن هو الكلمة وأقنوم روح القدس
هو الحياة، واختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم: هى خواص وقال بعضهم:
هي أشخاص، وقال بعضهم. هي صفات وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى واختلفوا في
الاتحاد فقال النسطورية معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت حتى جعلته هيكلا وأن
المسيح جوهران أقنومان أحدهما إلهي والآخر إنساني فلذلك صح منه الأفعال
الإلهية من اختراع الأجسام وإحياء الموتى والأفعال الإنسانية من الأكل
والشرب.
__________
(7) لقد تجاوز المؤلف رحمه الله قول الأريوسية أي آريوس وأتباعه الذين
ذكرهم الرسول الكريم في رسالته إلى قيصر ملك الروم في قوله صلى الله عليه
وسلم «فإن عليك إثم الأريسيين،» الذين قالوا بأن المسيح هو الكلمة، كلمة
الله وأن الكلمة محدثة أي أنها مخلوق من مخلوقات الله وأن المسيح بالتالي
نبي من الأنبياء فقط، وأنه إنسان. لكن بعد اتفاق بعض البطاركة والمطارنة مع
الملك قسطنطين الأول على جعل المسيحية دين الدولة الرومانية مقابل بعض
التعديلات في أسس لعقيد المسيحية وقد تطورت هذه التعديلات حتى وصلت إلى
فكرة التثليث في مجمع نيقيا أي أنها تبنت الديانة الوثنية الرومانية
القائلة بثلاثية الألوهة زفس- كرونوس- جوبيتر بتسمية جديدة الآب، الإبن،
الروح القدس. وقول الوثنية الرومانية بأن هيرا آلهة الأرض وأم الإله ألبسوه
للعذراء مريم. وقد أبيد الأريوسيين وحرموا وكفّروا واضطهدوا حيثما وجدوا،
أما الذين سبق أن قتلتهم الوثنية الرومانية منهم قبل تبني الدولة لمسيحية
التثليث فاعتبرتهم الكنيسة شهداء وقديسين لكنها حرّمت كتبهم مدعية أن فيها
كفرا وهرطقة فتأمل.
(1/25)
وقال اليعاقبة: الاتحاد هو الممازجة حتى
صار منها شيء ثالث نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا هو المسيح
وهو جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي.
وقال الملكانية: المسيح جوهران أقنوم واحد، وليس لهذا المذهب شبهة تقبلها
العقول وفسادها ظاهر في المعقول.
أما قولهم أن الله تعالى جوهر فقد دللنا على حدوث الجواهر فاستحال أن يكون
القديم جوهرا.
وأما قولهم أنه ثلاثة أقانيم فإن جعلوها أشخاصا قالوا بالتثليث وامتنعوا من
التوحيد وقد دللنا على أن القديم واحد وإن جعلوا الأقانيم خواص وصفات لذات
واحدة فقد جعلوه أبا وابنا من جوهر أبيه فشركوا بينهما في الجوهر الإلهي
وفضلوه على الآب بالجوهر الإنساني فلم يكن مع اشتراكهما في الإلهي أن يتولد
من الآب بأولى أن يتولد منه الآب مع تفضيله بالجوهر الإنساني. وكيف يكون
قديما ما تولد عن قديم وإنما ظهرت منه الأفعال الإلهية لأنها من قبل الله
تعالى إظهارا لمعجزته وليست من فعله كفلق البحر لموسى عليه السلام وليس ذلك
من إلهية موسى وقولهم جوهر لاهوتي وجوهر ناسوتي فناسوت المسيح كناسوت غيره
من الأنبياء وقد زال ناسوته فبطل لاهوته.
معنى الوحدانية
فإذا ثبت أن الله تعالى واحد قديم فقد اختلف في معنى وحدانيته فقالت طائفة
المراد بأنه واحد وأن جميع المحدثات منسوبة إلى قدرة واحدة أحدث القادر بها
جميع المحدثات.
وقالت طائفة أخرى: المراد به نفي القسمة عن ذاته واستحال التبعض والتجزئة
في صفته.
وقال الجمهور وهو المذهب المشهور أنه واحد الذات قديم الصفات تفرد بالقدم
عن شريك مماثل واختص بالقدرة عن فاعل معادل لا شبه لذاته تنتفي
(1/26)
عنه الحوادث والأعراض ولا تناله المنافع
والمضار ولا ينعت بكل ولا بعض ولا يوصف بمكان يحل فيه أو يخلو منه لحدوث
الأمكنة واستحالة التجزئة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ «8» كما وصف نفسه في كتابه ودلت عليه آثار صنعته وإتقان حكمته.
وقد سئل علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه عن العدل والتوحيد فقال:
التوحيد أن لا تتوهمه «9» والعدل أن لا تتهمه «10» ففصح بما بهر إيجازه
وقهر إعجازه. وقد لحظ دلائل التوحيد من السعداء من قال:
أيا عجبا كيف يعصى الإل ... هـ أم كيف يجحده جاحد
وفي كل شيء له شاهد ... دليل على أنه واحد
__________
(8) سورة الشورى الآية (11) .
(9) أي أن تؤمن بوحدانية الله إيمانا مطلقا غير قابل للنقاش ولا للسؤال.
(10) أي أن تسلم تسليما مطلقا تسليم العبد الطائع القابل دون اعتراض لأحكام
سيده ولا سؤال عن السبب والنتيجة.
(1/27)
|