أعلام
النبوة للماوردي الباب الثالث في صحة
التكليف
تعريفات [للتكليف]
التكليف هو إلزام ما ورد به الشرع تعبدا وهو نوعان:
أحدهما: ما تعلق بحقه من أمر بطاعة «1» ونهي عن معصية «2» .
والثاني: ما تعلق بحقوق عباده من تقدير الحقوق وتقرير العقود ليكونوا
مدبرين بشرع مسموع ومنقادين لدين متبوع فلا تختلف فيه الآراء ولا تتبع فيه
الأهواء، وليعلموا به ابتداء النشأة وانتهاء الرجعة، فتصلح به سرائرهم
الباطنية، وتخشع له قلوبهم القاسية، وتجتمع به كلمتهم المتفرقة، وتتفق عليه
أحوالهم المختلفة، ويسقط به تنازعهم في الحقوق المتجاذبة، ويكونوا على رغب
في الثواب يبعثهم على الخير، ورهب من العقاب يكفهم عن الشر، وهذه أمور لا
يصلح الخلق إلّا عليها ولا يوصل بغير الدين المشروع إليها، إذ ليس في طباع
البشر أن يتفقوا على مصالحهم من غير وازع ولا يتناصفوا في الحقوق من غير
دافع لحرصهم على اختلاف المنافع، وبهذا يفسد ما ذهبت إليه البراهمة من
الاقتصار على قضايا العقول وإبطال التعبد
__________
(1) إيجاب الطاعات والقيام بها.
(2) نفي المحرمات والمكروهات وترك العمل بها.
(1/29)
بشرائع الرسل، فالتكليف حسن في العقول إذا
توجه إلى من علمت معصيته واستحسنه المعتزلة لأن فيه تعريضا للثواب ولم
يستحسنه الأشعرية لأنه بالمعصية معرض للعقاب، والأول أشبه بمذهب الفقهاء
وإن لم يعرف لهم فيه قول يحكى، واختلف في التكليف هل يكون معتبرا بالأصلح
فالذي عليه أكثر الفقهاء أنه معتبر بالأصلح لأن المقصود به منفعة العباد.
وذهب فريق من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من
مصلحة وغيرها لأنه مالك لجميعها فمن اعتبر الأصلح منع من تكليف ما لا يطاق
ومن اعتبره بالمشيئة جوز تكليف ما لا يطاق ويصح تكليف ما لحقت فيه المشقة
المحتملة واختلف في صحة التكليف فيما لا مشقة فيه فجوزها الفقهاء ومنع منها
بعض المتكلمين، وقد ورد التعبد بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة
وليس فيه مشقة وإذا اعتبر التكليف بالاستطاعة لم يتوجه إلى ما خرج عن
الاستطاعة واختلف في المانع منه فقال فريق منع منه العقل لامتناعه فيه،
وقال فريق منع منه الشرع وإن لم يمنع منه العقل بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «3» .
وجوب التكليف
فإذا تقرر شروط التكليف مع كونه حسنا فقد اختلف في وجوبه، فأوجبه من اعتبر
الأصلح وجعله مقترنا بالعقل لأنه من حقوق حكمته، ولم يوجبه من حمله على
الإرادة لأن الواجب يقتضي علوّ الموجب، وهذا منتف عن الله تعالى، واختلف من
قال بهذا في تقدم العقل على الشرع.
فقال فريق: يجوز أن يقترن بالعقل ويجوز أن يتأخر عنه بحسب الإرادة ولا يجوز
أن يتقدم على العقل لأن العقل شرط في لزوم التكليف.
وقال فريق: بل يجب أن يكون التكليف واردا بعد كمال العقل ولا يقترن به كما
يتقدم عليه لقول الله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ
__________
(3) سورة البقرة من الآية (286) .
(1/30)
سُدىً «4» وهذه صفة متوجهة إليه بعد كمال
عقله.
شرعية التكليف
وقد استقر بما قدمناه أن التكليف الشرعي ما تضمنه الأوامر والنواهي في حقوق
الله تعالى وحقوق عباده والمأمور به ضربان واجب وندب، فالواجب ما وجب أن
يفعل والندب ما الأولى أن يفعل والمنهى عنه ضربان مكروه ومحظور، فالمحظور
ما وجب تركه، والمكروه ما الأولى تركه، فأما المباح فما استوى فعله وتركه
فلا يجب أن يفعل ولا الأولى أن يفعل ولا يجب أن يترك ولا الأولى أن يترك،
واختلف في دخول المباح في التكليف، فذهب بعض أصحاب الشافعي رحمه الله إلى
دخوله في التكليف. واختلف قائل هذا هل دخل فيه بإذن أو بأمر على وجهين:
أحدهما: بإذن ليخرج حكم الندب.
والثاني: بأمر دون أمر الندب كما أن أمر الندب دون أمر الواجب وذهب آخرون
من أصحاب الشافعي رحمه الله إلى خروجه من التكليف بإذن أو أمر لاختصاص
التكليف بما تضمنه ثواب أو عقاب واتفقوا في المباح أنه لا يستحق عليه حمد
ولا ذم ويخرج عن القبيح واختلفوا في دخوله في الحسن فأدخله بعضهم فيه
وأخرجه بعضهم منه.
الأمر والإرادة
والأمر بالتكليف هو استدعاء الطاعة بالانقياد للفعل واختلفوا في اقتران
الإرادة به هل يكون شرطا في صحته، فذهب الأشعري إلى أن الإرادة غير معتبرة
فيه ويجوز أن يأمر بما لا يريده ويكون أمرا كالذي يريده، وذهب المعتزلة إلى
أنه لا يكون أمرا إلّا بالإرادة، فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمرا. واختلفوا
هل تعتبر إرادة الأفراد إرادة المأمور به فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق
به واعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به والذي عليه جمهور الفقهاء أن
الأمر دليل على
__________
(4) سورة القيامة الآية (36) .
(1/31)
الإرادة وليست الإرادة شرطا في صحة الأمر.
وإن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة ولا يستدل بالإرادة
على الأمر.
شروط صحة الأمر
ومن صحة الأمر أن يكون بما لا يمنع منه العقل فإن منع منه العقل لم يصح
الأمر به لخروج التكليف عن محظورات العقول واختلف هل يعتبر صحته بحسنه في
العقل فاعتبره فريق وأسقطه فريق. وإذا لم يكن يستوعب نصوص الشرع قضايا
العقول كلها جاز العمل بمقتضى العقل فيها واختلف في إلحاقها بأحكام الشرع
فألحقها فريق بها وجعلها داخلة فيها لأن الشرع لا يخرج عن مقتضاها وأخرجها
فريق منها وإن جاز العمل بها كالمشروع لأن الشرع مسموع والعقل متبوع.
وقت الأمر
والأمر يكون بالقول أو ما قام مقام القول إذا عقل منه معنى الأمر واختلف
فيه متى يكون أمرا. فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يكون أمرا وقت
القول ويتقدم على الفعل وذهب شاذ من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يكون أمرا
وقت الفعل وما تقدمه من القول إعلام بالأمر وليس بأمر وهذا فاسد لأن الفعل
يجب بالأمر فلو لم يكن ما تقدمه أمرا لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر.
أبواب الأمر
والأمر ضربان: أمر اعلام «5» وأمر إلزام «6» فأما أمر الإعلام فمختص
بالاعتقاد دون الفعل ويجب أن يتقدم الأمر على الاعتقاد بزمان واحد وهو وقت
__________
(5) كالأمر بالإحسان إلى الفقراء والمساكين مثلا وتركه ترك لخير وثواب ولا
عقاب على تاركه.
(6) كالأمر بإداء الزكاة وتركه معصية وموجب للعقاب.
(1/32)
العلم به، وأما أمر الإلزام فمتوجه إلى
الاعتقاد والفعل فيجمع بين اعتقاد الوجوب وإيجاد الفعل ولا يجزئه الاقتصار
على أحدهما فإن فعله قبل اعتقاد وجوبه لم يجزه وإن اعتقد وجوبه ولم يفعله
كان مأخوذا به ولا يلزم تجديد الاعتقاد عند فعله إذا كان على ما تقدم من
اعتقاده لأن الاعتقاد تعبد التزام والفعل تأدية مستحق، ويجب أن يتقدم الأمر
على الفعل بزمان الاعتقاد واختلف في إعتبار تقديمه بزمان التأهب للفعل على
مذهبين:
أحدهما: وهو قول شاذ من الفقهاء يجب تقديمه على الفعل بزمانين.
أحدهما: زمان الإعتقاد.
والثاني: زمان التأهب للفعل وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة قبل
الفعل.
والمذهب الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء يعتبر تقديم الأمر على الفعل بزمان
الإعتقاد وحده والتأهب للفعل شروع فيه فلم يعتبر تقدمه عليه، وبه قال من
المتكلمين من اعتبر القدرة مع الفعل.
(1/33)
الباب الرابع في إثبات النبوّات
الأنبياء عليهم السلام
والأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده بأوامره ونواهيه، زيادة على ما
اقتضته العقول من واجباتها وإلزاما لما جوّزته من مباحاتها، لما أراده الله
تعالى من كرامة العاقل وتشريف أفعاله واستقامة أحواله وانتظام مصالحه، حين
هيأه للحكمة وطبعه على المعرفة، ليجعله حكيما وبالعواقب عليما، لأن الناس
بنظرهم لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون لعواقب أمورهم بغرائزهم ولا
ينزجرون مع اختلاف أهوائهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين وأخبار القرون
الماضين، فتكون آداب الله فيهم مستعملة وحدوده فيهم متبعة وأوامره فيهم
ممتثلة ووعده ووعيده فيهم زاجرا وقصص من غبر من الأمم واعظا فإن الأخبار
العجيبة إذا طرقت الأسماع والمعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان استمدتها
العقول فزاد علمها وصح فهمها وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر وأكثرهم خواطر
أكثرهم تفكرا وأكثرهم تفكرا أكثرهم علما وأكثرهم علما أكثرهم عملا فلم يوجد
عن بعثة الرسل معدل ولا منهم في انتظام الحق بدا.
منكرو النبوة
وأنكر فريق من الأمم نبوّات الرسل وهم فيها ثلاثة أصناف:
أحدها: ملحدة دهرية يقولون بقدم العالم وتدبير الطبائع فهم بإنكار المرسل
أجدر أن يقولوا بإنكار الرسل.
(1/35)
والصنف الثاني: براهمة موحدة «1» يقولون
بحدوث العالم ويجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات وهم المنسوبون إلى بهر من
صاحب مقالتهم وشذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر ومنهم من قال هو
إبراهيم ومن قال من هذه الفرقة الشاذة منهم أنه أحد هذين أقر بنبوتهما
وأنكر نبوّة من سواهما وجمهورهم على خلاف هذه المقالة في اعتزائهم لصاحب
مقالتهم وإنكار جميع النبوّات عموما.
والصنف الثالث: فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوّات في الظاهر وهم مبطلوها
في تحقيق قولهم، لأنهم يقولون أن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية
من الفلسفة والهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعا.
إختلاف منكر والنبوة وبطلان حججهم
واختلف من أبطل النبوّات في علة إبطالها فذهب بعضهم إلى أن العلة في
إبطالها أن الله تعالى قد أغنى عنها بما دلت عليه العقول من لوازم ما تأتي
به الرسل وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنه لا يمنع ما دلت عليه العقول جواز أن تأتي به الرسل وجوبا ولو
كان العقل موجبا لما امتنع أن تأتي به الرسل وجوبا، ولو كان العقل موجبا،
لما امتنع أن تأتي به الرسل تأكيدا كما تترادف دلائل العقول على التوحيد،
ولا يمنع وجود بعضها من وجود غيرها.
والثاني: أنه لا تستغني قضايا العقول عن بعثة الرسل من وجهين:
أحدهما: أن قضايا العقول قد تختلف فيما تكافأت فيه أدلتها فانحسم ببعثة
الرسل اختلافها.
والثاني: أنه لا مدخل للعقول فيما تأتي به الرسل من الوعد والوعيد والجنة
والنار وما يشرعونه من أوصاف التعبد الباعث على التأله فلم يغن عن
__________
(1) ومنهم من يقول بأن إدراك وحدانية الله تدرك بالعقل وجحدوا النبوات
وادعوا أن العبادة إنما تكون بالقلب لا بالأفعال.
(1/36)
بعثة الرسل، وذهب آخرون منهم إلى أن العلة
في إبطال النبوّات أن بعثة الرسل إلى من يعلم من حاله أنهم لا يقبلون منهم
ما بلّغوه إليهم عبث يمنع من حكمة الله تعالى وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنه ليس بعبث أن يكون فيهم من لا يقبله كما لم يكن فيما نصبه الله
تعالى من دلائل العقول على توحيده عبثا وإن كان منهم من لا يستدل به على
توحيده كذلك بعثة الرسل.
والثاني: أن وجود من يقبله فيهم على هذا التعليل يوجب بعثة الرسل وهم
يمنعون من إرسالهم إلى من يقبل ومن لا يقبل فبطل هذا التعليل، وقال آخرون
منهم: بل العلة فيه أن ما جاء به الرسل مختلف ينقض بعضه بعضا، ونسخ المتأخر
ما شرعه المتقدم. وقضايا العقول لا تتناقض فلم يرتفع بما يختلف ويتناقض
وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن ما جاء به الرسل ضربان:
أحدهما: ما لا يجوز أن يكون إلّا على وجه واحد وهو التوحيد وصفات الرب
والمربوب، فلم يختلفوا فيه وأقوالهم متناصرة عليه.
والضرب الثاني: ما يجوز أن يكون من العبادات على وجه ويجوز أن يكون على
خلافه ويجوز أن يكون في وقت ولا يجوز أن يكون في غيره وهذا النوع هو الذي
اختلفت فيه الرسل لاختلاف أوقاتهم إما بحسب الأصلح وإما بحسب الإرادة وهذا
في قضايا العقول جائز.
والوجه الثاني: أن قضايا العقول قد تختلف فيها العقلاء ولا يمنع ذلك أن
يكون العقل دليلا كذلك ما اختلف فيه الرسل لا يمنع أن يكون حجة.
وقال آخرون منهم: بل العلة في إبطال النبوّات أنه لا سبيل إلى العلم بصحتها
لغيبها وأن ظهور ما ليس في الطباع من معجزاتهم ممتنع الطباع الدافعة لها
فهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن المعجزات من فعل الله تعالى فيهم فخرجت عن حكم طباعهم.
(1/37)
والثاني: أنهم لما تميزوا بخروجهم عن
الطباع من الرسالة تميزوا بما يخرج عن عرف الطباع من الإعجاز.
وقال آخرون منهم: بل العلة في إبطال النبوّات أن ما يظهرونه من المعجز
الخارج عن العادة قد يوجد مثله في أهل الشعبذة «2» والمخرقة وأهل النار
نجيات وليس ذلك من دلائل صدقهم فكذلك أحكام المعجزات، وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن الشعبذة تظهر لذوي العقول وتندلس على الغر الجهول فخالفت
المعجزة التي تذهل لها العقول.
والثاني: أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئا
«3» لمن أحسنها ويعارضها بمثلها والمعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها
ولا يعارضه أحد بمثلها كما انقلبت عصى موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة
فخرّوا له سجدا، ولئن كان في إبطاله هذه الشبهة دليل على إثباتها فيستدل
على إثبات النبوّات من خمسة أوجه وإن اشتملت تلك الأجوبة على بعضها.
أحدها: أن الله تعالى منعم على عباده بما يرشدهم إليه من المصالح ولما كان
في بعثة الرسل ما لا تدركه العقول كان إرسالهم من عموم المصالح التي تكفل
بها.
والثاني: أن فيما تأتي به الرسل من الجزاء بالجنة ثوابا على الرغبة في فعل
الخير، وبالنار عقابا يبعث على الرهبة في الكف عن الشر، صارا سببا لائتلاف
الخلق وتعاطي الحق.
والثالث: أن في غيوب المصالح ما لا يعلم إلّا من جهة الرسل فاستفيد
__________
(2) الشعبذة: الشعوذة وأعمال السحر وخفة اليد والسيمياء الذي يهدف إلى
التأثير على المشاهد لجعله يرى ما لا يوجد أمامه فعلا.
(3) مكافئا: مساويا في الخبرة والقدرة على أداء نفس الأمر.
(1/38)
بهم ما لم يستفد بالعقل «4» .
والرابع: أن التأله لا يخلص إلّا بالدين، والدين لا يصلح إلّا بالرسل
المبلغين عن الله تعالى ما كلف.
والخامس: أن العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء ومتابعة النظراء، فلم
يجمعهم عليه إلّا طاعة المعبود فيما أداه رسله فصارت المصالح بهم أعم
والإتقان بهم أتم والشمل بهم أجمع والتنازع بهم أمنع، ويجوز إثبات التوحيد
والنبوّات بدقيق الاستدلال كما يجوز بجليه، فإن ما دق في العقول هو أبلغ في
الحكمة وقد تلوّح لابن الرومي هذا المعنى فنظمه في شعره فقال:
غموض الحق حين يذب عنه ... يقلل ناصر الخصم المحق
يجل عن الدقيق عقول قوم ... فيقضي للمجل على المدق
جواز النبوات
فإذا ثبت جواز النبوّات وبعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه
إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل، ومنع قوم من مثبتي النبوّات أن تكون
نبوّتهم عن خطاب أو نزول ملك لانتفاء المخاطبة الجسمانية عنه تعالى لأنه
ليس بجسم، والملائكة من العالم العلوي بسيط لا تهبط كما أن العالم السفلي
كثيف لا يعلو واختلف من قال بهذا فيما جعلهم به أنبياء فقال بعضهم: صاروا
أنبياء بالإلهام لا بالوحي، وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد كان إبطال المعارف به في
النبوّة أحق.
والثاني: أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق والمبطل، فإن ميزوا بينهما طلبت
أمارة «5» ، وإن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام.
__________
(4) وهو الشرع والطاعات والعبادات والمحرّمات.
(5) أمارة: علامة أو دليل.
(1/39)
وقال آخرون منهم: إنما صاروا أنبياء لأن
لله تعالى في العالم خواص وأسرارا تخالف مجرى الطبائع، فمن أظفره الله
تعالى بها من خلقه استحق بها النبوّة، وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: خفاؤها فيه غير دليل على صدقه.
والثاني: أنه يكون نبيا عن نفسه لا عن ربه فصار كغيره.
وقال آخرون: بل صاروا أنبياء لأن الله تعالى خصهم من كمال العقول بما
يتوصلون به إلى حقائق الأمور، فلا يشتبه عليهم منها ما يشتهيه على غيرهم
فصاروا أنبياء عن عقولهم لا عن ربهم، وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن هذا يقتضي فضل العلم في حقه ولا يقتضيه في حق غيره.
والثاني: أنه إن أخبر عن نفسه لم يكن رسولا، وإن أخبر عن ربه كان كاذبا.
وقال آخرون: إنما صاروا أنبياء لأن النور فيهم صفا ونما بالنور الأعظم
الإلهي الذي تخلص به الإفهام وتصح به الأوهام حتى ينتقلوا إلى الطباع
الروحانية ويزول عنهم كدر الطباع البشرية فيخرجوا عن شبح الكائنات بصفاء
نورهم وخلاصهم، وهذا قول الثنوية وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنهم دفعوا أسهل الأمرين من بعثة الرسل بأغلظهما من إعطاء نوره
وأولى أن يدفعوا عن الأغلظ بما دفعوا به عن الأسهل.
والثاني: أنهم أثبتوا به ممازجة الباري سبحانه فيما اختص بذاته، ومخالفة
الذات تمنع من ممازجته.
والجواب عما قالوه من امتناع المخاطبة الجسمانية عمن ليس بجسم من وجهين:
أحدهما: أنه لا يمتنع أن يظهر منه كخطاب الأجسام وإن لم يكن جسما كما يظهر
منه كأفعال الأجسام وإن لم يكن جسما.
والثاني: أن الله تعالى يجوز أن يودع خطابه في الأسماع حتى تعيه الآذان
(1/40)
وتفهمه القلوب بقدرته التي أخفاها عن خلقه.
والجواب عما ذكر من أن جرم الملائكة علوي لا ينهبط من وجهين:
أحدهما: أنه ليس يمتنع أن ينتقل جرم سماوي لطيف إلى جرم أرضي كثيف إما
بزيادة أو انقلاب كما يقولون في العقل والنفس أنهما جرمان علويان هبطا إلى
الجسم فحلا فيه.
والثاني: أنهم يقولون بانقلاب الأجرام الطبيعيات، فيقولون أن الهوى المركب
من حرارة رطوبة إذا ارتفعت حرارته ببرودة صار ماء باردا، وأن الماء المركب
من برودة ورطوبة إذا ارتفعت برودته بحرارة صار هواء وأن الهواء المركب من
حرارة رطوبة إذا ارتفعت رطوبته بيبوسة صار نارا، فإذا جاز ذلك عندهم في
انقلاب الطبائع كان في فعل الله تعالى أجوز وهو عليها أقدر، ولا يمكن أن
يدفع أقاويلهم الخارجة عن قوانين الشرع إلّا بمثلها، وإن خرج عن حجاج
أمثالنا لينقض قولهم بقولهم فلا يتدلس به باطل ولا يضل به جهول، فما يضل عن
الدين إلّا قادح في أصوله، ومزر على أهله.
إثبات النبوّات
فإذا أثبت أن النبوّة لا تصح إلّا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه فصحتها
فيه معتبرة بثلاثة شروط تدل على صدقه ووجوب طاعته.
أحدهما: أن يكون مدعي النبوّة على صفات يجوز أن يكون مؤهلا لها لصدق لهجته
وظهور فضله وكمال حاله فإن اعتوره نقص أو ظهر منه كذب لم يجز أن يؤهل
للنبوة من عدم آلتها وفقد أمانتها.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب
يدعوهم إلى الإسلام فقالوا: يا خالد، صف لنا محمدا، قال: بإيجاز أم بإطناب.
قالوا:
بإيجاز. قال: هو رسول الله، والرسول على قدر المرسل.
والشرط الثاني: إظهار معجز يدل على صدقه ويعجز البشر عن مثله لتكون مضاهية
للأفعال الإلهية، ليعلم أنها منه فيصح بها دعوى رسالته لأنه لا
(1/41)
يظهرها من كذب عليه ويكون المعجز دليلا على
صدقه وصدقه دليلا على صحة نبوّته.
والشرط الثالث: أن يقرن بالمعجز دعوى النبوّة، فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى
لم يصر بظهور المعجزة نبيا لأن المعجز يدل على صدق الدعوى، فكان صفة لها
فلم يجز أن نثبت الصفة قبل وجود الموصوف، فإن تقدم ظهور المعجز على دعوى
النبوة كان تأسيسا للنبوّة ككلام عيسى عليه السلام في المهد تأسيسا
لنبوّته، فاحتاج مع دعوى النبوّة إلى إحداث معجزة يقترن بها ليدل على صدقه
فيها وإن تقدمت دعوى النبوّة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن
إقترانه بها لأن اصطحابه للدعوى مقترن بالمعجز «6» ، فإن ظهر المعجز
المقترن بالدعوى لبعض الناس دون جميعهم نظر، فإن كانوا عددا يتواتر بهم
الخبر ويستفيض فيهم الأثر كان الغائب عنه محجوبا بالمشاهد له في لزوم
الإجابة والانقياد للطاعة كما يكون العصر الثاني محجوبا بالعصر الأول وإن
كان المشاهد للمعجز عددا لا يستفيض بهم الخبر ولا يتواتر بهم الأثر لإمكان
تواطئهم على الكذب ويتوجه إلى مثلهم الخطأ والزلل كان المعجز حجة عليهم ولم
يكن حجة على غيرهم حتى يشاهدوا على المعجز ما يكونوا محجوبين به وسواء كان
من الجنس الأول أو من غير جنسه، فإن قصر من شاهد الأول عن عدد التواتر وقصر
من شاهد الثاني عن عدد التواتر لم يثبت حكم التواتر فيهما ولا في واحد
منهما لجواز الكذب على كل واحد من العددين.
حجج الأنبياء
وإذا كان حجج الأنبياء على أممهم هو المعجز الدال على صدقهم، فالمعجز ما
خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلّا بقدرة إلهية تدل على أن الله تعالى
خصه بها تصديقا على اختصاصه برسالته، فيصير دليلا على صدقه في إدعاء نبوته
إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف، وأما عند قيام الساعة إذا سقطت فيه أحوال
التكليف فقد يظهر فيه من أشراطها ما يخرق العادة فلا يكون
__________
(6) المعجز: الخارق للعادة والمتجاوز لقدرة الإنسان البشرية.
(1/42)
معجز المدعي نبوّة، وإنما اعتبر في المعجز
خرق العادة لأن المعتاد يشمل الصادق والكاذب فاختص غير المعتاد بالصادق دون
الكاذب.
وإذا تقرر أن المعجز محدود بما ذكرناه من خرق العادة فقد ينقسم ما خرج عن
العادة على عشرة أقاسم:
القسم الأول: ما يخرج جنسه عن قدرة البشر كاختراع الأجسام وقلب الأعيان
وإحياء الموتى، فقليل هذا وكثيره معجز لخروج قليله عن القدرة كخروج كثيره.
* القسم الثاني: ما يدخل جنسه في قدرة البشر لكن يخرج مقداره عن قدرة البشر
كطي الأرض البعيدة في المدة القريبة فيكون معجز لخرق العادة.
واختلف المتكلمون في المعجز منه فعند بعضهم أن ما خرج عن القدرة منه يكون
هو المعجز خاصة لاختصاصه بالمعجز وعند آخرين منهم أن جميعه يكون معجزا لا
تصاله بما لا يتميز منه.
* القسم الثالث: ظهور العلم بما خرج عن معلوم البشر كالأخبار بحوادث الغيوب
فيكون معجزا بشرطين:
أحدهما: أن يتكرر حتى يخرج عن حد الاتفاق.
والثاني: أن يتجرد عن سبب يستدل به عليه.
* القسم الرابع: ما خرج نوعه عن مقدور البشر وإن دخل جنسه في مقدور البشر
كالقرآن في خروج أسلوبه عن أقسام الكلام فيكون معجزا بخروج نوعه عن القدرة
فصار جنسا خارجا عن القدرة ويكون العجز مع القدرة على آلته من الكلام أبلغ
في المعجز.
* القسم الخامس: ما يدخل في أفعال البشر ويفضي إلى خروجه عن مقدار البشر
كالبرء الحادث عن المرض والزرع الحادث عن البذر فإن برىء المرض المزمن
لوقته واستحصد الزرع المتأكل قبل أوانه كان بخرق العادة معجزا لخروجه عن
القدرة.
(1/43)
* القسم السادس: عدم القدرة عما كان داخلا
في القدرة كإنذار الناطق بعجزه عن الكلام وإخبار الكاتب بعجزه عن الكتابة،
فيكون ذلك معجزا يختص بالعاجز ولا يتعداه لأنه على يقين من عجز نفسه وليس
غيره على يقين من عجزه.
* القسم السابع: إنطاق حيوان أو حركة جماد فإن كان باستدعائه أو عن إشارته
كان معجزا له وإن ظهر بغير استدعاء ولا إشارة لم يكن معجزا له وإن خرق
العادة لأنه ليس اختصاصه به بأولى من اختصاصه بغيره وكان من نوادر الوقت
وحوادثه.
* القسم الثامن: إظهار الشي في غير زمانه كإظهار فاكهة الصيف في الشتاء
وفاكهة الشتاء في الصيف فإن كان استبقاؤهما في غير زمانهما ممكنا لم يكن
معجزا وإن لم يمكن استبقاؤهما كان معجزا سواء بدأ بإظهاره أو طولب به.
* القسم التاسع: انفجار الماء وقطع الماء المنفجر إذا لم يظهر بحدوثه أسباب
من غيره فهو من معجزاته لخرق العادة به.
* القسم العاشر: إشباع العدد الكثير من الطعام اليسير وارواءهم من الماء
القليل يكون معجزا في حقهم وغير معجز في حق غيرهم لما قدمناه من التعليل
وهذه الأقسام ونظائرها الداخلة في حدود الأعجاز متساوية الأحكام في ثبوت
الإعجاز وتصديق مظهرها على ما ادّعاه من النبوّة وإن تفاوت الأعجاز فيها
وتباين كما أن دلائل التوحيد قد تختلف في الخفاء والظهور وإن كان في كل
منها دليل، فأما فعل ما يقدر البشر على ما يقاربه وإن عجزوا عن مثله فليس
بمعجز لأن الجنس مقدور عليه وإنما الزيادة فضل حذق به كالصنائع التي يختلف
فيها أهلها فلا يكون لأحذقهم بها معجز يجوز أن يدّعي به النبوّة.
فإن قيل: فقد جاء زرادشت وبولس بآيات مبهرة ولم تدل على صدقهما في دعوى
النبوّة.
قيل: لأنهما قد أكذبا أنفسهما ما ادعياه في الله تعالى مما يدل على جهلهما
به لأن بولس يقول أن عيسى إله، وزعم زرادشت أن الله تعالى كان وحده ولا
(1/44)
شيء معه، فحين طالت وحدته فكّر فتولّد من
فكرته اهرمن وهو إبليس فلما مثل بين عينيه أراد قتله وامتنع منه فلما رأى
امتناعه وادعه إلى مدته وسالمه إلى غايته ومن قال بهذا في الله تعالى ولم
يعرفه لم يجز أن يكون رسولا له، ثم دعوا إلى القبائح والأفعال السيئة كما
شرع زرادشت الوضوء بالبول وغشيان الأمهات وعبادة النيران وكذلك بولس وماني
فخذلهم الله تعالى، ولو دعوا إلى محاسن الأخلاق كانت الشبهة بهم أقوى
والاغترار بهم أكثر ولكن الله تعالى عصم بالعقول من استرشدها وقاد إلى الحق
من أيقظه بها.
المعجزات والنبوّة
ولا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجز مما يجعله دليلا على صدقه في غير
النبوة وإن كان فيه مطيعا لأن النبوّة لا يوصل إلى صدقه فيها إلّا بالمعجز
لأنه مغيب لا يعلم إلّا منه فاضطر إلى الإعجاز في صدقه وغير النبوّة من
أقواله وأفعاله قد يعلم صدقه فيها بالعيان والمشاهدة وتخرج عن صورة الإعجاز
وإن نفدت ولئلا تشتبه معجزات الأنبياء بغيرها، وأما مدعي الربوبية إذا أظهر
آيات باهرة فقد ذهب قوم إلى أنها قد تكون معجزة بطلت بكذبه فلم يمتنع لظهور
بطلانها أن توجد منه وإن لم توجد منه إذا كان كاذبا في ادعاء النبوّة لأنه
لم يقترن بدعواه ما يبطلها كمدعي الربوبية والذي عليه قول الجمهور أنه لا
يجوز أن يظهر المعجز على مدعي الربوبية كما لا يجوز أن يظهر على مدعي
النبوّة لأن معصيته في ادعاء الربوبية أغلظ وأفكه فيها أعظم فكان بأن لا
تظهر عليه أجدر، وإذا استوضح ما أظهره مدعي الربوبية من الآيات ظهر فسادها
وبان اختلالها فخرجت عن الإعجاز إلى سحر أو شعبذة.
الإدراك والمعاينة
ولما علم الله تعالى أن أكثر عباده لا يشهدون حجج رسله ولا يحضرون آيات
أنبيائه إما لبعد الدار أو لتعاقب الأعصار طبع كل فريق على الأخبار بما
عاين فيعلمه الغائب من الحاضر ويعرفه المتأخر من المعاصر وقد علم مع اختلاف
الهمم أن خبر التواتر إذا انتفت عنه الريب حق لا يعترضه شك وصدق
(1/45)
لا يشتبه بإفك فصار وروده كالعيان في وقوع
العلم به اضطرارا فثبتت به الحجة ولزم به العلم، وقد قال الطفيل الغنوي مع
أعرابية في وقوع العلم باستفاضة الخبر ما دلته عليه الفطرة وقاده إليه
الطبع فقال:
تأوبني هم من الليل منصب «7» ... وجاء من الأخبار ما لا يكذب
تظاهرن حتى لم يكن لي ريبة ... ولم يك عما أخبروا متعقب
الوحي والنبوّة
وأما ما يجوز لمدّعي النبوّة فينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكلمه الله تعالى بغير واسطة.
والثاني: أن يخاطبه بواسطة من ملائكته.
والثالث: أن يكون عن رؤيا منام.
فأما القسم الأول: إذا كلمه الله تعالى بغير واسطة مثل كلامه لموسى عليه
السلام حين نودي من الشجرة على ما قدمناه في الاختلاف في صفته، فيعلم
اضطرارا أنه من الله تعالى وفيما يقع به علم الاضطرار في كلامه لأهل العلم
قولان:
أحدهما: أنه يضطره إلى العلم به كما يضطر خلقه إلى العلم بسائر المعلومات،
فعلى هذا يستدل بمعرفة كلامه على معرفته ويسقط عنه تكليف معرفته ويجوز أن
يكون كلامه من غير جنس كلام البشر للاضطرار إلى معرفة ما تضمنه.
والثاني: أن يقترن بكلامه من الآيات ما يدل عن أنه منه فعلى هذا لا يسقط
منه تكليف معرفته ولا يصح أن يكلمه إلّا بكلام البشر لعدم الاضطرار إلى
معرفته.
وأما القسم الثاني: وهو أن يكون خطابه بواسطة من ملائكته الذين هم رسله إلى
أنبيائه فعلى الأنبياء معرفة الله تعالى قبل ملائكته في رسالته وطريق
__________
(7) منصب: متعب.
(1/46)
علمهم به الاستدلال ثم يصير بعد نزول
الملائكة بمعجزاتهم الباهرة علم الاضطرار وعلى الملائكة إذا نزلوا بالوحي
على الرسول إظهار معجزتهم له كما يلزم الرسول إظهار معجزته لأمته.
روي أن جبريل عليه السلام لما تصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في
الوادي قال له: قل يا محمد للشجرة أقبلي! فقال لها ذلك فأقبلت، وقال له: قل
لها أدبري! فقال لها ذلك فأدبرت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
حسبي يعني في العلم بصدقك فيما أتيتني به عن ربي، فتستدل الرسل بالمعجزات
على تصديق الملائكة بالوحي وتستدل الأمم بمعجزات الأنبياء على تصديقهم
بالرسالة، ويكون خطاب الملك لفظا إن كان قرآنا أو ما قام مقام اللفظ إن كان
وحيا ولا يجوز أن يؤدي الملك إلى الرسول ما تحمله عن ربه إلّا بلسان الرسول
«8» ، كما لا يؤدي الرسول إلى قومه إلّا بلسانهم ويكون الملك واسطة بين
الرسول وبين ربه، والرسول واسطة بين الملك وبين قومه وما يؤديه الملك إلى
الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان: قرآن ووحي، فأما القرآن فيلزم الملك
أن يؤديه إلى الرسول بصيغة لفظه، وليس للملك ولا للرسول أن يعدل بلفظه إلى
غيره ويكون ما تضمنه من الخطاب المنزل متوجها إلى الرسول وإلى أمته.
وأما الوحي إذا تضمن تكليفا بأمر أو نهي فضربان:
أحدهما: أن يكون نصا غير محتمل وصريحا غير متأول فهذا يعلمه الرسول من
الملك بنفس الخطاب وتعلمه الأمة من الرسول بالبلاغ من غير نظر ولا استدلال،
وليس للملك ولا للرسول أن يعدل بالنص إلى إجمال أو احتمال له.
والضرب الثاني: أن يكون من المجمل أو المحتمل لمعان مختلفة فهذا يعلم
المراد به من دليل يقترن بالخطاب ودليله ضربان:
أحدهما: عقل المستمع.
والثاني: توقيف المبلغ فأما ما عقل دليله ببديهة العقل فمحمول على
__________
(8) كي يفهمه الرسول ويعقله ويقدر على إيصاله إلى قومه.
(1/47)
مقتضى العقل ويكفي فيه تبليغ الخطاب، وأما
ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبداية العقول كالعبادات فمحمول على
التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته ومن الملائكة إلى الرسول ومن الرسول إلى
أمته، فأما معرفة الملك من ربه فهو غير مشاهد لذاته، واختلف أهل العلم في
معرفته به على مذهبين كالرسول إن كلمه أحدهما بأن يضطره إلى العلم به
والثاني بسماع الخطاب المقترن بالآيات.
وأما معرفة الرسول من الملك ومعرفة الأمة من الرسول، فالرسول مشاهد لذات
الملك والأمة مشاهدة لذات الرسول، ولمشاهدة الذوات تأثير في العلم بمراد
الخطاب فيتنوع بيان توقيفه فيما أريد بالخطاب أنواعا، فيكون باللفظ الصريح
وبعضه بالرمز الخفي وبعضه بالفعل الظاهر وبعضه بالإشارة الباطنة بعضه
بالإمارات التي تضطر المشاهد إلى العلم بما أريد بها وليس لها نعت موصوف
ولا حد مقدر وإنما يعلمه المشاهد بمفهوم أسبابه فيصير البيان باختلاف
أنواعه توقيفا من الملك إلى الرسول ومن الرسول إلى الأمة ويجوز أن يختلف
نوع بيانهما إذا عرف.
فأما القسم الثالث: وهو أن يكون عن رؤيا منام فإن لم يكن ممن تصدق رؤياه
لكثرة أحلامه لم يجز أن يدّعي النبوّة وإن كان ممن تصدق رؤياه فقد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا» لم يجز أن
يدّعي النبوّة من أول رؤيا لجواز أن يكون من حديث النفس، وأن الرؤيا قد تصح
تارة وتبطل أخرى فإن تكررت رؤياه مرارا حتى قطع بصحتها ولم يخالجه الشك
فيها جاز أن يدعي بها النبوّة فيما كان حفظا لما تقدمها من شرع وبعثا على
العمل بها من بعيد ولم يجز أن يعتد بها في نسخ شرع ولا استئناف تعبد، ويجوز
أن يعمل على رؤيا نفسه فيما يلتزمه من استئناف شرع ولا يجوز أن يعمل عليها
في نسخ ما لزمه من شرع ليكون بها ملتزما ولا يكون بها مسقطا.
شروط التبليغ
وأما خطاب الرسول لأمته فيما بلغهم من رسالة ربه بعد ظهور معجزته والإخبار
بنبوته ولزومه للأمة فمعتبر بخمسة شروط:
(1/48)
* أحدها: العلم بانتفاء الكذب عنه فيما
ينقله عن الله تعالى من خبر أو يؤديه من تكليف، كما انتفى عنه الكذب في
ادعاء الرسالة، ويكون المعجز دليلا على صدقه في جميع ما تضمنته الرسالة.
* الثاني: أن يعلم من حاله ألا يجوز أن يكتم ما أمر بإدائه، لأن كتمانه
يمنع من التزام رسالته لجواز أن يكتم إسقاط ما أوجب، وإن جاز أن يكتم بيانه
قبل وقت الحاجة ولا يكون كتمانا «9» .
* الثالث: أن ينتفي عنه ما يقتضي التنفير من قبول قوله لأن الله تعالى حماه
من الغلظة لئلا ينفر من متابعته، وكان أولى أن لا ينفر عن قبول خطابه.
* الرابع: أن يقترن بخطابه ما يدل على المراد به لينتفي عنه التلبيس
والتعمية في أحكام الرسالة حتى يعلم حقوق التكليف، وإن جاز تعمية خطابه
فيما لم يتضمنه التكليف.
قد اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل في أطراف بدر وقال له ممن أنت؟
فقال: «من ماء» فورّى عن نسبه «10» بما استبهم على سائله لخروجه عما يؤديه
شرعا إلى أمته.
* الخامس: العلم بوجوب طاعته ليعلم بها وجوب أوامره واختلف في طاعته هل
وجبت عقلا أو سمعا بحسب اختلافهم في بعثة الرسل هل هو من موجبات العقل أم
لا.
أسلوب التبليغ
وإذا تكاملت شروط الالتزام لم يخل خطابه من أن يكون مفهوما أو مبهما،
فالمفهوم أربعة: النص وفحوى الكلام ولحن القول ومفهوم اللفظ.
__________
(9) وفي هذه الحالة يكون تأخيرا أجيز له وليس من عند نفسه.
(10) التورية إيراد الكلمة أو العبارة التي تحتمل أكثر من معنى، وقوله من
ماء قد يحمله السامع على أن عشيرته تحمل هذا الأصل بينما المعنى الحقيقي
أنه مخلوق من ماء وكلنا من ماء.
(1/49)
وفحوى الكلام ما دل على ما هو أقوى من نطقه
ولحن القول ما دل على مثل نطقه ومفهوم اللفظ مأخوذ من معنى نطقه فهذه
الأربعة مفهومة المعاني بألفاظها مستقلة بذواتها معلومة المراد بظواهرها
فلا احتياج بعد البلاغ إلى بيان.
وأما المبهم فثلاثة: المجمل والمحتمل والمشتبه، فأما المجمل فما أخذ بيانه
من غيره ولا يدخل العقل في تفسيره فلا يعلم إلّا بسمع وتوقيف. وأما المحتمل
فهو ما تردد بين معان مختلفة، فإن أمكن الجمع بين جميعها حمل على جميع ما
تضمنه واستغنى عن البيان إلّا أن يرد بالاقتصار على بعضها بيان وإن لم يكن
حملها على الجميع لتنافيها، وكان المقصود أحد معانيها فإن أمكن الاستدلال
عليه بمخرج الخطاب أو بمشاهدة الحال كان فيه بيان أو تعذر بيانه من هذا
الوجه حمل على عرف الشرع، فإن تعذر حمل على عرف الاستعمال، فإن تعذر حمل
على عرف اللغة، فإن تعذر فبيانه موقوف على التوقيف، وأما المشتبه فما أشكل
لفظه واستبهم معناه.
روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله! إنك تأتينا بكلام لا
نعرفه ونحن العرب حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربي علمني
فتعلمت وأدبني فتأدبت» . فإن تلوح في المشتبه إشارة إلى معناه جاز أن يكون
استنباطه موقوفا على الاجتهاد وإن تجرد عن إشارة كان موقوفا على التوقيف
وعلى الرسول تبليغ بيانه كما كان عليه تبليغ أصله وعلى من سمعه من الرسول
أن يبلغه من لم يسمعه حتى ينتقل إلى عصر بعد عصر على الأبد فيعلمه القرن
الثاني من الأول والثالث من الثاني وكذلك أبدا لتدوم الحجة بهم إلى قيام
الساعة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد الغائب» .
النبي والرسول
فأما الفرق بين الأنبياء والرسل فقد جاء بهما القرآن جمعا ومفصلا بقول الله
تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا
إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ
ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ «11» واختلف أهل
العلم
__________
(11) سورة الحج الآية (52) .
(1/50)
في الأنبياء والرسل على قولين:
أحدهما: أن الأنبياء والرسل واحد فالنبي رسول والرسول نبي، والرسول مأخوذ
من تحمل الرسالة والنبي مأخوذ من النبأ وهو الخبر إن همز لأنه مخبر عن الله
تعالى ومأخوذ من النبوة إن لم يهمز وهو الموضع المرتفع وهذا أشبه لأن محمدا
صلى الله عليه وسلم قد كان يخاطب بهما، والقول الثاني أنهما يختلفان لأن
اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات، والرسول أعلى منزلة من النبي
ولذلك سميت الملائكة رسلا ولم يسمّوا أنبياء واختلف من قال بهذ في الفرق
بينهما على ثلاثة أقاويل: أحدها أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة
بالوحي والنبي هو الذي يوحى إليه في نومه.
والثاني: أن الرسول هو المبعوث إلى أمة والنبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى
أمة، قاله قطرب، والقول الثالث أن الرسول هو المبتدىء بوضع الشرائع
والأحكام والنبي هو الذي يحفظ شريعة غيره، قاله الجاحظ.
وجوب التبليغ
وإذا نزل الوحي على الرسول وعيّن له زمان الإبلاغ لم يكن له تقديمه عليه
ولا تأخيره عنه وإن لم يعيّن له زمانه فعليه تبليغه في أول أوقات إمكانه
فإن خاف من تبليغ ما أمر به شدة الأذى وعظم الضرر لزمه البلاغ ولم يكن
الأذى عذرا له في الترك والتأخير لأن الأنبياء يتكلفون من احتمال المشاق ما
لا يتكلفه غيرهم لعظم منزلتهم وما أمدوا به من القوة على تحمل مشاقهم وإن
خاف منه القتل فقد اختلف المتكلمون في وجوب البلاغ فذهب بعضهم إلى اعتبار
أمره بالبلاغ، فإن أمر به مع تخوف القتل لزمه أن يبلغ وإن قتل وإن أمر به
مع الأمن لم يلزمه البلاغ إذا خاف القتل، وذهب آخرون منهم إلى اعتبار حاله
فإن لم يبق عليه من البلاغ سوى ما يخاف منه القتل لزمه البلاغ وإن قتل وإن
بقي عليه من البلاغ سوى ما يخاف منه القتل فإن لم يكن الأمر بالبلاغ مرتبا
لزمه أن يقدم بلاغ ما يأمن منه القتل ثم يبلغ ما يخاف منه القتل، فإن قتل،
فإن كان الأمر بالبلاغ مرتبا بابتداء ما يخاف منه القتل فإن الله تعالى
يعصمه من القتل حتى يبلغ جميع ما أمر به لما تكفل به من إكمال دينه والله
تعالى أعلم.
(1/51)
|