أعلام
النبوة للماوردي الباب الخامس في مدة العالم وعدة الرسل
مدة الدنيا من ابتداء خلق العالم إلى انقضائه وفنائه سبعة آلاف سنة على ما
جاءت به التوراة المنزلة على موسى عليه السلام وذكره أنبياء بني إسرائيل،
وقد وافق عليه من قال بتسيير الكواكب وأنها مسير الكواكب السبعة فسير كل
كوكب منها ألف سنة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «1» :
«الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا» وقال صلى الله عليه وسلم: «بعثت
والساعة كهاتين» ، وجمع بين اصبعيه الوسطى والسبابة يعني أن الباقي منها
كزيادة الوسطى على السبابة «2» .
وروى سلمة بن عبد الله الجهنى عن أبى مسجعة الجهني عن أبي رحاب الجهني أنه
قال للنبي صلى الله عليه وسلم رأيتك على منبر فيه سبع درجات وأنت على
أعلاها فقال: «الدنيا سبعة الاف سنة أنا في آخرها ألفا» «3» .
__________
(1) لم تذكره كتب الصحاح للشك بكونه موضوعا إضافة إلى أن ما ذكره المؤلف
منسوبا إلى التوراة غير مذكور بها أو لم تذكره التوراة الموجودة في هذه
الأيام على الأقل.
(2) وترجّح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما عنى قرب الساعة لا تحديد
موعد معين أو نسبة محددة بين ما مضى وما بقي لأن هذا في علم الله وحده وقد
قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما
عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي سورة الأعراف (187) . وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ سورة لقمان (34) وقد ورد نفس المعنى في آيات
عديدة أخرى.
(3) لم تذكره كتب الصحاح.
(1/53)
وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر يقول: «أيها الناس إن
الدنيا خضرة حلوة وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» ، وأخذ في
خطبته إلى أن قال: «لأعرفن رجلا منعته مهابة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه
وشهده» ثم قال: «وقد أزف غروب الشمس أن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منه
كبقية يومكم هذا فيما مضى منه يوفى بكم سبعون أمة قد توفي تسع وستون وأنتم
آخرها» فصارت هذه المدة القدرة في عمر الدنيا سبعة آلاف سنة متفقا عليها
فيما تضمنته الكتب الإلهية ووردت به الأنباء النبوية مع ما سلك به الموافق
من تسيير الكواكب السبعة، وإن كان المعول في المغيب على الأنباء الصادقة
الصادرة عن علام الغيوب الذي لم يشرك في غيبه إلا من أطلعه عليه من رسله
فخلق العالم في ستة أيام ابتداؤها يوم الأحد وانقضاؤها يوم الجمعة «4» .
واختلف أهل الكتب السالفة وأهل العلم في شرعنا فيما ابتدى بخلقه على ثلاثة
أقاويل:
أحدها: وهو قول طائفة أنه بدأ بخلق الأرض في يوم الأحد والاثنين لقول الله
تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ «5» وخلق الجبال في يوم الثلاثاء، وخلق الماء والشجر في يوم
الأربعاء، وخلق السماء في يوم الخميس، وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة
وآدم في يوم الجمعة.
قال الشعبي: ولذلك سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق كل شيء.
والثاني: وهو قول فريق أنه بدأ بخلق السموات قبل الأرض في يوم الأحد
والاثنين لقول الله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها «6» في ثلاثة أوجه:
__________
(4) تحديد أيام الخلق بهذا التسلسل توراتي جاء في سفر التكوين.
(5) سورة فصلت الآية (9) .
(6) سورة فصلت الآية (12) .
(1/54)
أحدها: أسكن في كل سماء ملائكتها.
والثاني: خلق في كل سماء ما أودعه فيها من شمس وقمر ونجوم.
والثالث: أوحى إلى أهل كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة ثم خلق
الأرض والجبال في يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق ما سواهما من العالم في يوم
الخميس والجمعة.
والثالث: وهو قول آخرين أنه خلق السماء دخانا قبل الأرض ثم فتقها سبع سموات
بعد الأرض لقول الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ
فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً «7» فيه ثلاثة
تأويلات:
أحدها: أي أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما باختيار أو إجبار قاله سعيد
ابن جبير.
والثاني: أخرجا ما فيكما طوعا أو كرها.
والثالث: كونا كما أردت أن تكونا، وفي قولهما ذلك وجهان:
أحدهما: أن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما.
والثاني: أنه خلق فيهما كلاما نطق بذلك.
قال أبو النضر السكسي: فنطق من الأرض موضع الكعبة ونطق من السماء «8»
بحيالها فوضع الله فيها حرمة.
خلق الله سبحانه لآدم
فأما آدم فهو آخر ما خلق الله تعالى في يوم الجمعة، خلقه من تراب الأرض
ونفخ في أنفه من نسمة الحياة، فهو أنفس من كل ذي حياة.
روى أبو زاهر عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق آدم
من قبضة قبضها من جميع الأرض» فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر
__________
(7) سورة فصلت الآية (11) .
(8) أي نطق من السماء موضع البيت المعمور الذي يطوف به الملائكة.
(1/55)
والأبيض والأسود بين ذلك والحزن والخبيث
والطيب بين ذلك وفي تسميته بآدم قولان:
أحدهما: إنه اسم عبراني نقل إلى العربية.
والقول الثاني: أنه اسم عربي وفيه قولان:
أحدهما: أنه سمي بذلك لأنه خلق من أديم الأرض وأديمها أوجهها.
والثاني: أنه سمي بذلك لاشتقاقه من الأدمة وهي السمرة فلما تكامل خلق آدم
استوحش فخلق له حوّاء واختلف فيما خلقت منه على قولين:
أحدهما: أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم وهذا قول تفرد به ابن بحر «9» .
والقول الثاني: وهو ما عليه الجمهور أنه خلقها من ضلع آدم الأيسر بعد أن
ألقى عليه النوم حتى لم يجد لها مسا.
قال ابن عباس: فلذلك تواصلا ولذلك سميت امرأة لأنها خلقت من المرء وفي
تسميتها حواء قولان:
أحدهما: لأنها خلقت من حي والثاني لأنها أم كل حي، فقال آدم لما خلقت منه
حوّاء هذا الشخص عظمه من عظمي ولحمه من لحمي فلذلك صار الرجل والمرأة كجسد
واحد من شدة الميل وفضل الحنو قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم
وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها «10» يعني حوّاء فروى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: «خلق الرجل من التراب وخلقت المرأة من الرجل» فهمها في الرجل
واختلف في الوقت الذي خلقت فيه حوّاء على قولين:
__________
(9) وهذا يتنافى مع قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها سورة النساء (1) . وقوله
تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها
زَوْجَها سورة الأعراف (189) وغيرها من الآيات.
(10) سورة النساء الآية (1) .
(1/56)
أحدهما: أنها خلقت منه في الجنة بعد أن
استوحش من وحدته وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والقول الثاني: أنها خلقت من ضلعه قبل دخوله الجنة ثم أدخلا معا إليها وهو
أشبه بقول الله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما، وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «11» .
قال ابن عباس خلق آدم يوم الجمعة وأدخل الجنة يوم الجمعة وأخرج منها يوم
الجمعة وفيها تقوم الساعة واختلف في الجنة التي أسكنها على قولين:
أحدهما: أنها جنة الخلد.
والقول الثاني: أنها جنة أعدها الله تعالى لهما دار ابتلاء وليست جنة الخلد
التي جعلها دار جزاء وفيها على هذا قولان:
أحدهما: أنها في السماء لأنه أهبطهما منها.
والقول الثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالأمر والنهي واختلف في
الشجرة التي نهيا عن أكلها فقيل أنها شجرة الخلد وقيل أنها شجرة العلم وفي
هذا العلم قولان:
أحدهما: علم الخير والشر.
والثاني: علم ما لم يعلم وقيل في الشجرة غير ذلك من الأقاويل فلما أكلا
منها بدت لهما سوآتهما بالمعصية وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال الله
تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها «12» حين بعثهما على أكل الشجرة
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ «13» وفيه تأويلان:
أحدهما: عما كانا فيه من الطاعة إلى ما صارا إليه من المعصية.
والثاني: عما كانا فيه من النعيم في الجنة إلى ما صارا إليه من النكد في
__________
(11) سورة البقرة الآية (35) .
(12) سورة البقرة من الآية (36) .
(13) سورة البقرة من الآية (36)
(1/57)
الأرض فحزن آدم حين أهبط إلى الأرض وبقي في
حزنه مائة سنة لا يقرب فيه حوّاء، ثم غشيها فولدت له بعد المائة قابيل ثم
غشيها فولدت له هابيل فقتل هابيل قابيل فحزن آدم لذلك حزنا شديدا وقيل أنه
جعل حزنه جزاء على معصيته في الأكل وقد يصاب الآباء في أولادهم من أجل
معاصيهم ثم خف حزنه فغشى حوّاء فولدت له شيثا وعلم آدم الأسماء كلها كما
ذكره الله تعالى في كتابه وفيما علمه من الأسماء قولان:
أحدهما: علم النجوم قاله حميد.
الثاني: أنها أسماء مسميات وفيها أقاويل:
أحدها: أسماء الملائكة قاله الربيع بن أنس.
والثاني: أسماء جميع ذريته قاله عبد الرحمن بن زيد.
والثالث: أسماء جميع الأشياء وفيه على هذا قولان:
أحدهما: أن تعليمه كان مقصورا على الأسماء دون معانيها.
والثاني: أنه علمه الأسماء ومعانيها لأنه لا فائدة في علم الأسماء بلا معان
لأن المعاني هي المقصودة والأسماء دلائل عليها.
آدم وأبناؤه
ولما هبط آدم إلى الأرض قيل أنه أهبط إلى شرقي أرض الهند وحوّاء بجدة
وإبليس على ساحل نهر الابلة والحية في البرية وكانت نبرة آدم مقصورة عليه
وما نزل عليه من الوحي متوجها إليه فكان من المصطفين دون المرسلين واختلف
فيه أهل الكتاب هل خلق في ابتدائه قابلا للموت أو جعل الموت عقوبة له على
معصيته.
فقال بعضهم: خلق آدم في ابتداء نشأته على الطبيعة الباقية والطبيعة الميتة
ليكون إن مال إلى الشهوات الجسمانية وآثرها وقع في التغايير الجسمانية
وناله الموت، وإن آثر فضائل النفس الأمارة بالخير نال البقاء الذي سعدت به
الملائكة فلم يمت فلما عصى بأكل الشجرة عدل إلى التغايير فناله الموت
(1/58)
واستشهدوا عليه من التوراة بما ذكر فيها
أنك إن أكلت من الشجرة يوم تأكل منها فموتا تموت فلم يجز أن يتوعده بالموت
عند معاقبته وهو يموت لو لم يعاقب.
وقال آخرون منهم وهو أشبه بمقتضى العقول أنه خلق في ابتداء إنشائه قابلا
للموت في الدنيا وإن لم يعص لأنه أحوجه إلى الغذاء كذريته وليس شيء من
الجواهر التي لا ينالها الموت محتاجة إلى الغذاء ولم يجعل الموت عقوبة على
المعصية ولذلك لم يمت من عصى من الملائكة وإن في التوراة «14» مكتوبا أن مد
يده في الجنة إلى شجرة الحياة وأكل منها حيي الدهر كله فدل على أنه مطبوع
على قبول الموت ولما خلق الله تعالى آدم ابتداء ولم يخلقه بتوسط طبيعة كما
خلق نسله كان على أفضل اعتدال وأكمل عقل فصار قلبه معدنا للحكمة الإنسانية
وجسده مهيأ للأفعال البشرية فلم يمتنع عليه شيء منها حتى أحاط علما وقدرة
بجميعها ولذلك علم الأسماء كلها وألهم الحكمة باسرها واطلع على أسرار
النجوم وعملها وعرف منافع الحيوان والنبات ومضارها، ولولا ذلك لما فرق بين
الغذاء والدواء ولا بين السموم القاتلة ولا اهتدى بالنجوم في بر ولا بحر
وكان هو المدبر لأولاده مدة حياته حتى مات بعد تسعمائة وثلاثين سنة من عمره
«15» ، ثم قام بالأمر من بعده شيث ابن آدم فبرع في الحكمة وفاق في علم
النجوم بما أخذه عن أبيه آدم وبما استفاده بالتجربة ومرور الزمان.
واختلف أهل الكتاب في نبوة شيث فادعاها بعضهم وأنكرها آخرون منهم وولد بعد
مائتين وثلاثين سنة من عمر أبيه آدم «16» ومات وله تسعمائة واثنتا عشرة سنة
«17» فكان قيامه بالأمر بعد موت آدم مائتين وإثنتي عشرة سنة واتفق أهل
الكتاب أنه لم يكن بين شيث وادريس نبي غير ادريس تم قام بالأمر بعد شيث
ولده أنوش بن شيث، وكان مولده بعد مائتين وخمسين سنة من عمر شيث
__________
(14) هناك استشهاد واستناد كثير إلى التوراة ونحن نعرف ما فيها من تحوير
وتغيير أنبأنا به تعالى في القرآن الكريم ولذلك نرى أن استناده إليها فيه
نظر.
(15) هذا كلام توراتي، سفر التكوين الإصحاح الخامس العدد الخامس.
(16) التوراة تقول مائة وثلاثين سنة ولا نعرف مصدر روايته هنا.
(17) سفر التكوين الإصحاح الخامس العدد 8.
(1/59)
ومات أنوش وله تسعمائة وخمسون سنة فكان
قيامه بالأمر بعد شيث مائتين وثماني وثمانين سنة.
ثم قام بالأمر بعد أنوش ولده قينان بن أنوش وولد بعد مائة وتسعين سنة من
عمر أنوش ومات قينان وله تسعمائة وعشرون سنة فكان قيامه بالأمر بعد أنوش
مائة وتسعين سنة.
ثم قام بالأمر بعد قينان ولده معلاييل وولد بعد ثمانمائة وخمس وسبعين سنة
فكان قيامه بالأمر بعد قينان مائة وعشر سنين.
ثم قام بالأمر بعد مهلاييل ولده يارد بن مهلاييل، وولد بعد مائة وخمس وستين
سنة من عمر مهلاييل، ومات يارد وله تسعمائة وإثنان وستون سنة فكان قيامه
بالأمر بعد مهلاييل مائتين وإثنين وخمسين سنة.
ثم قام بالأمر بعد يارد ولده أخنوخ بن يارد وهو ادريس، وولد بعد مائة
وإثنين وستين سنة من عمر يارد «18» وهو نبي في قول جميع أهل الملل، واختلف
أهل الكتاب هل هذا هو أول الأنبياء أو ثانيهم، فقال من زعم أن شيثا نبي هو
ثاني الأنبياء.
وقال من زعم أن شيثا ليس بنبي أن ادريس أول الأنبياء وهو أول من شرع
الأحكام وأول من اتخذ السلاح وجاهد في سبيل الله تعالى وسبي وقتل بني قابيل
ولبس الثياب وكانوا يلبسون الجلود وأول من كتب الخط في قول الأكثرين وأول
من وضع الأوزان والكيول ثم رفعه الله تعالى إليه حيا بعد سبعمائة وخمس
وثمانين سنة من عمره أقام فيها داعيا وأبوه حي على ما يقتضيه تاريخ هذه
المواليد والأعمار المأخوذة من التوراة المنزلة «19» قال ابن قتيبة وسمي
ادريس لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى وسنن الإسلام.
__________
(18) سلسلة النسب الواردة هنا توراتية من سفر التكوين الإصحاح الخامس مع
خلاف أحيانا في عدد السنوات.
(19) هناك خلاف في الأعمار بين المذكور في هذا الباب والمذكور في التوراة
كما قلنا في
(1/60)
من إدريس إلى عيسى
عليهما السلام
ثم كثر الناس فافترقوا بعد ادريس وزادوا إلى زمن نوح بن لمك بن متوشلخ بن
أخنوخ وهو ادريس وهو آخر نبي بعث قبل الطوفان على قول من زعم أن شيثا نبي
ونزل الطوفان بعد ستمائة سنة «20» من عمره وأنذر قومه فكذبوه وصنع السفينة
فسخروا منه وأمره الله تعالى أن يصنعها في طول ثلاثمائة ذراع وعرض خمسين
ذراعا وعلو ثلاثين ذراعا وتكون ثلاث طبقات ليركب فيها هو وأهله ويأخذ من كل
جنس من الحيوان زوجين ذكرا وأنثى ليكونوا أصولا لنسلهم فيحيا بهم العالم ثم
وعده أن يستمطره بعد سبعة أيام أربعين يوما وأربعين ليلة فلم يبق في الأرض
ذو روح إلّا من ركبها وغاض الطوفان بعد مائة وخمسين يوما «21» فاستوت على
الجودي وهو جبل بأرض الجزيرة شهرا وسمي الماء طوفانا لأنه طفا فوق كل شيء.
واختلف فيما عاش نوح بعد الطوفان فقال الأكثرون ثلاثمائة وخمسين سنة وهو
ظاهر ما نزل به القرآن وقال آخرون ستمائة وخمسون سنة لأنه لبث تسعمائة
وخمسين سنة داعيا لقومه وكان له قبل دعائه ثلاثمائة سنة واختلف فيما بين
هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان فقال إثنان وسبعون حبرا من بني إسرائيل
نقلوا التوراة إلى اليونانية بينهما ألفان ومائتان وإثنتان وأربعون سنة ثم
تبلبلت الألسن بعد الطوفان بستمائة وسبعين سنة فافترق إثنان وسبعون لسانا
في اثنتين وسبعين أمة.
قال وهب بن منبه منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لسانا، وفي ولد حام سبعة
عشر لسانا. وفي ولد يافث ستة وثلاثون لسانا من تبلبل الألسن إلى مولد
إبراهيم الخليل عليه السلام أربعمائة وأحد عشر سنة ومن مولد إبراهيم إلى
موسى بن عمران عليه السلام أربعمائة وخمس وعشرون سنة وأخرج بني إسرائيل من
مصر بعد ثمانية سنة ودبر أمرهم أربعين سنة ومات وله مائة
__________
(20) سفر التكوين الإصحاح 7 العدد 6 وعندنا قوله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ
ظالِمُونَ سورة العنكبوت الآية (14) .
(21) سفر التكوين الإصحاح 8 العدد 3.
(1/61)
وعشرون سنة فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى
ثلاثة آلاف وثمانمائة وثماني وستين سنة «22»
وقال آخرون من بني إسرائيل المقيمين على التوراة العبرانية التي يتداولها
جمهور اليهود في وقتنا إن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفا
وستمائة وستا وخمسين سنة، ومن انقضاء الطوفان إلى تبلبل الألسن مائة وإحدى
وثلاثين سنة، ومن تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم مائة وإحدى وستين سنة، ومن
مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة وخمسا وأربعين سنة، فصار من هبوط آدم
إلى وفاة موسى ألفين وأربعمائة وثلاثا وتسعين سنة.
وقالت السامرة من اليهود عن تاريخ توراتهم أن من هبوط آدم من الجنة إلى
مجيء الطوفان ألفا وثلثمائة وسبعا وستين سنة، ومن الطوفان إلى تبلبل الألسن
خمسمائة وستا وعشرين سنة، ومن تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم أربعمائة
وإحدى عشرة سنة، ومن مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة وإحدى وأربعين
سنة، فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين وثمانمائة وتسعا وأربعين سنة.
وأول نبي بعد نوح إبراهيم، وهو أول من قص شاربه واستحد واختتن وقلم أظفاره
واستاك وتمضمض واستنشق واستنجى بالماء، وأول من أضاف الضيف وأطعم المساكين
وثرد الثريد. وكان داعيا إلى عبادة الله تعالى وتوحيده.
ثم ولده إسحاق بن إبراهيم، ولد له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد فخرج
عيصو ثم خرج بعده يعقوب ويده عالقة على عقبه فسمي يعقوب.
فعيصو أبو الروم وكان أصفر اللون فلذلك سميت الروم بني الأصفر.
ويعقوب هو إسرائيل أبو الأسباط.
وأيوب بن بولص كان أبوه ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق وكان في زمن يعقوب وكان
صهره زوجه يعقوب بنته ليا وهي التي ضربها بالضغث.
__________
(22) وكل هذه روايات يهودية لا سند لها في القرآن الكريم ولا في الحديث
النبوي الشريف كما جاء في كتب الصحاح.
(1/62)
وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى
وكانت نبوة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ومن بعده من ولده قبل موسى مقصورة
على أنفسهم حتى دعا موسى إلى نبوّته بني إسرائيل ومن وفاة موسى إلى ملك
بختنصر تسعمائة وثمان وسبعون سنة، وإلى ملك الاسكندر ألف وأربعمائة وثلاث
عشرة سنة.
وولد عيسى ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من كانون الأول لسبعمائة وتسع
وثلاثين سنة من ملك بختنصر ولثلاثمائة وأربع سنين من ملك الاسكندر. ومن ملك
بختنصر إلى ابتداء الهجرة ألف وثلثمائة وتسع وستون سنة، ومن ملك الاسكندر
إلى ابتداء الهجرة ألفان وثلثمائة وسبع وأربعون سنة فكان بين موت موسى
وابتداء الهجرة ألفان وثلثمائة وسبع وأربعون سنة ومولد عيسى بعد ألف
وسبعمائة وسبع عشرة سنة من موت موسى وقيل بعد ستمائة وثلاثين سنة من ابتداء
الهجرة.
فصل في عمر الدنيا إلى قيام الساعة
فإذا تقرر ما ذكرناه من مدة الدنيا أنها مقدرة في الكتب الإلهية بسبعة آلاف
سنة كان الماضي منها إلى ابتداء الهجرة محمولا على ما قدمناه من اختلاف أهل
التوراة فيكون على القول الأول المأخوذ عن الأحبار الناقلين لها إلى
اليونانية ستة آلاف ومائتين وست عشرة سنة والباقي من عمر الدنيا على قولهم
بعد الهجرة سبعمائة وأربعا وثمانين سنة وهو موافق لقول رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا» «23» ويكون الماضي
منها على القول الثاني المأخوذ عن التوراة العبرانية أربعة آلاف وثمانمائة
وإحدى وأربعين سنة والباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفين
ومائة وتسعا وخمسين سنة وقيل أنهم قالوا ذلك ليكون رسول الله صلى الله عليه
وسلم في خامسها ألفا فيدفعوه بنقصان التاريخ
__________
(23) وليس أدل على كونه موضوعا أننا في السنة 1408 لهجرة الرسول الكريم
ولما تقم الساعة بعد، وعلم الساعة عند رب العالمين وحده كما جاء في القرآن
الكريم ولا يعقل وجود حديث نبوي يحدد قيام الساعة بهذا الشكل المتنافي مع
ما جاء في القرآن الكريم.
(1/63)
عن صفته في التوراة أنه مبعوث في آخر
الزمان ويكون الماضي على القول الثالث في توراة السامرة خمسة آلاف ومائة
وسبعا وثلاثين سنة والباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفا
وثمانمائة وثلاثا وثلاثين سنة ليكون الرسول في سادسها ألفا لما قيل من
سنيه.
والسامرة قوم ناقلة من بلاد المشرق سموا بذلك لأن تفسيره بالعربية الحفظة
وهم لا يقبلون من كتب الأنبياء إلّا التوراة وحدها والأول لأجل قول الرسول
بالأشبه وإن كان قيام الساعة وانقراض مدة الدنيا وقيام العالم على هذا
التاريخ الذي أثبتوه والتقدير الذي حققوه مدفوعا عندنا بقول الله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «24» وفيه تأويلان:
أحدهما: أن قيامها مختص بعلمه فامتنع أن يشاركه في علمها أحد من خلقه.
والثاني: أن قيامها موقوف على إرادته فامتنع أن يوقف على غير إرادته.
وقال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً «25» يعني فجأة والبغتة غير معلومة فامتنع أن تكون عندهم معلومة
ثم قال: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها «26» وفيه وجهان:
أحدهما: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه مبعوث في آخرها
ألفا.
والثاني: أن أشراطها الآيات المنذرة بها كما قال: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ
إِلَّا تَخْوِيفاً «27» فلا تقوم الساعة إلّا بعد أن ينذر الله تعالى
بآياتها.
روى سفيان بن عيينة، عن فرار، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسد
__________
(24) سورة لقمان الآية (34) .
(25) سورة الزخرف الآية (66) .
(26) سورة محمد الآية (18) .
(27) سورة الإسراء الآية (59) .
(1/64)
الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم من علية ونحن نتذاكر أمر الساعة قال: «ما كنتم تذاكرون» ؟
قلنا: قيام الساعة.
قال: «إن الساعة لن تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات» .
قال لا يدرى بأيهن بدأ طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض
ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف
بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من قبل اليمن أو من عدن تطرد
الناس إلى محشرهم.
وروى برد عن مكحول عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يخرج الدجال في الثمانين فإن لم يخرج ففي ثمانين ومائتين فإن لم يخرج ففي
ثلاثمائة وثمانين فإن لم يخرج ففي أربعمائة وثمانين» .
وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال: «يقيم فيكم
أربعين سنة «28» أول سنة كالشهر ثم الثانية كالجمعة ثم الثالثة كاليوم
وسائر سنيه كالساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم فيوجره بالحربة فيذوب كما يذوب
الرصاص وفي هذا دليل على تقدم يأجوج ومأجوج الدجال وآخرها الذي تقوم به
الساعة ظهور النار والله أعلم بمن استأثر بغيبه ثم من أطلعه عليه من رسله»
.
ما بين موسى وعيسى عليهما السلام من الأنبياء
وبين موسى وعيسى عليهما السلام من الأنبياء:
شعيا وهو الذي بشر بني إسرائيل بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بعد
أن بشر بعيسى فقتله بنو إسرائيل.
ثم حزقيل وهو الذي أصاب قومه الطاعون فخرجوا من ديارهم حذر
__________
(28) وقد روى مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان من حديث طويل: قلنا يا رسول
الله وما لبثه في الأرض! قال: «أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة
وسائر أيامه كأيامكم» . صحيح مسلم ج 8 ص 197 باب ذكر الدجال وصفته وما معه.
(1/65)
الموت فأماتهم الله ثم أحياهم.
ومنهم: دانيال سباه بختنصر مع العزير ونزل من بختنصر أفضل منزل لرؤيا عبرها
له وقبره بناحية السوس وجده أبو موسى الأشعري فأخرجه وكفنه وصلى عليه
ودفنه.
ومنهم: إلياس بعث إلى أهل بعلبك وكانوا يعبدون صنما يقال له بعل وكان ملكهم
اسمه أجب وامرأته أزبيل وكان يستخلفها على ملكه وهي بنت ملك سبأ وعمرت عمرا
طويلا وتزوجها سبعة من ملوك بني إسرائيل وهي التي قتلت يحيى بن زكريا
عليهما السلام ثم رفع الله تعالى إلياس.
ثم اليسع كان تلميذ إلياس فدعا له إلياس فنبأه الله بعده.
ثم يونس بن متى.
ثم زكريا قتله بنو إسرائيل في الشجرة.
ثم عيسى ويحيى فأما يحيى فإن أجب الملك قتله بحيلة امرأته أزبيل وأما عيسى
فإن أمه هربت به من أجب الملك إلى مصر وعاد به يوسف النجار مع أمه إلى قرية
تدعى ناصرة فلذلك قيل لأصحابه نصارى لأنهم سموه عيسى الناصري.
وأصحاب الكهف، هم فتية من الروم دخلوا الكهف قبل المسيح عيسى وضرب الله على
آذانهم فيه فلما بعث المسيح أخبر بخبرهم ثم بعثهم الله تعالى بعد المسيح في
الفترة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وجرجيس من أهل فلسطين أدرك بعض
الحواريين وبعث إلى ملك الموصل.
فأما لقمان فكان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل وكان في زمن داود واسم
أبيه ثاران واختلف في نبوته فزعم الأكثرون أنه لم يكن نبيا وقال سعيد بن
المسيب كان نبيا وكان خياطا.
وذو الكفل من بني إسرائيل بعث إلى ملك كان فيهم يقال له كنعان دعاه إلى
الإيمان وكفل له الجنة وكتب له كتابا وسمي ذا الكفل لذلك.
(1/66)
وذكر وهب بن منبه أن الأنبياء كلهم مائة
ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي الرسل منهم ثلاثمائة نبي وخمسة عشر نبيا.
منهم خمسة عبرانيون آدم وشيث وإدريس ونوح وإبراهيم «29» .
وخمسة من العرب هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: بعث الله إلى أهل الرس والرس البر نبيا
منهم يقال له حنظلة بن صفوان فكذبوه وقتلوه فأوحى الله تعالى إلى نبي كان
مع بختنصر يقال له أرميا بن برخيا مر بختنصر يغزو العرب الذين لا أغلاق
لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم وخالد بن سنان روى أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ذاك نبي أضاعه قومه وذلك أنه قال لقومه ادفنوني فإذا جاءت
الظباء بعد ثلاث فاخرجوني فسأنبئكم بما أمرت، فجاءت الظباء إلى قبره بعد
ثلاث فلم يخرجوه وقالوا تتحدث العرب عنا إنا نبشنا موتانا وأتت بنته رسول
الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «30» فقالت
قد كان أبي يقرأ هذا ولا يضبط ذكر من سلف من الأنبياء وقول الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ «31» والله تعالى أعلم.
__________
(29) وهذا كلام يهودي توراتي تناقله السلف دون تمحيصه وآدم أبو البشر فلا
يعقل أن يكون عبرانيا لا هو ولا من بعده إلى إبراهيم وإنما سمي العبرانيون
بهذا الإسم لعبورهم البحر مع موسى عليه السلام وكيف يكون إبراهيم عبرانيا
ومنه العرب من ولده إسماعيل عليهما السلام.
(30) سورة الإخلاص الآية (1) .
(31) سورة غافر الآية (78) .
(1/67)
الباب السادس في إثبات نبوة محمد صلى الله
عليه وسلم
الكلام في إثبات نبوته يتقرر مع المعترفين ببعثة الرسل لأن منكريها يعمون
الجميع بها ويدفعون كل مدع لها والكلام معهم قد قدمناه في إثبات النبوات
على العموم.
فأما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيها مخالفوه من مثبتي
النبوات على أقوال شتى فمنعت اليهود من نبوته لامتناعهم من نسخ الشرع
واختلفوا في المانع من نسخة فمنع منه بعضهم بالعقل لأن نهى الله تعالى عما
أمر به وأمره بما نهى عنه إنما يكون لخفاء المصلحة عليه في الابتداء
وظهورها له في الانتهاء والله تعالى عالم بها في الحالتين لتباين الضدين،
ومنع منه بعضهم بالشرع وإن جوزوه في العقل بما نقلوه عن موسى عليه السلام
وذكروه في التوراة أنه قال تمسكوا بالسبت أبدا سنة الدهر وكلا الوجهين فاسد
من وجهين:
أحدهما: أن العقل لا يمنع من الأمر بالشيء في زمان والنهي عنه في غيره بحسب
المصلحة في قول من اعتبرها أو بالإرادة في قول من اعتمدها، ولا يكون
مستقبحا من فعل حكيم كما يغني من أفقر ويفقر من أغنى إما للمصلحة أو
بالإرادة، ولا يكون ذلك منه لاستبهام المصلحة وأشكال الإرادة.
والثاني: أن موسى قد نسخ شرع من تقدمه لأن آدم زوج بنيه بناته وجوّز يعقوب
الجمع بين الأختين ونكح إبراهيم بنت أخيه وكل هذا عند موسى منسوخ
(1/69)
بشرعه فجاز أن ينسخ شرعه بشرع غيره.
وقال آخرون محمد صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث إلى قومه من العرب وليس بنبي
لغيرهم وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنه تخصيص بغير دليل.
والثاني: أن ثبوت نبوّته في قومه موجب لصدقه. وقد قال أنه بعث إلى كافة
الخلق وأنه خاتم الأنبياء فلم يجز رد قوله مع ثبوت صدقه.
وقال آخرون هو نبي مبعوث إلى من لم يتمسك بشرع من عبد الأوثان وليس بمبعوث
إلى من تمسك بشرع من اليهود والنصارى وهذا فاسد من وجهين مع الوجهين
المتقدمين:
أحدهما: أنه يدفع به عن نسخ الشرع وقد دللنا على جوازه.
والثاني: ان من اعترف بالنبوات كان ألزم له من جحدها.
وقال آخرون: ليس بنبي لأنه لم يأت بمعجزة قاهرة يضطر إلى صدقه كمعجزة موسى
وعيسى وإن جاز نسخ الشرائع بمثلها من الشرائع وفي هذا يتعين إقامة الدليل
على إثبات نبوّته وهو معتبر بثلاثة شروط:
أحدها: وصنف المستدل.
والثاني: حكم المدلول عليه.
والثالث: صفة الدليل.
فأما الشرط الأول: في صفة المستدل فقد اختلف فيه، فذكر الجاحظ أنه العقل
لأنه المميز للحق، وقال الأكثرون المستدل هو العاقل والعقل آلة استدلاله
ليتوصل به إلى صحة مدلوله.
وأما الشرط الثاني: ففي حكم المدلول عليه، فعند فريق أنه إثبات نبوته ليعلم
بها صدق قوله وعند الأكثرين أنه إثبات صدقه ليعلم بقوله صحة نبوته.
وأما الشرط الثالث: وهو الدليل فحجاج يتنوع أنواعا لأن المستدل واحد
والمدلول عليه واحد والدليل يشتمل على أعداد متنوعة وشواهد مختلفة فرّق
الله
(1/70)
تعالى بينهما لتكون الحجج متغايرة
والبراهين متناظرة بحسب ما علمه من المصلحة ورآه من أسباب الإجابة، كما قال
تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ «1» أي نخالف بينها في المعجزات فكان
بعضها حجة قاطعة وبعضها أمارة لائحة تجري عليها أحكام ما قاربها، فتقوى بعد
الضعف وتحج بعد الكشف وإن لم تكن للإنذار بانفرادها من قواطع الحجج المغنية
عن دليل، فهذا القول في نبوّة غيره فلا يلزم تطابق حججهم كما لم يلزم اتفاق
شرائعهم وقد قدمنا أقسام المعجزات فإذا ظهرت إحداهن حجت ودلت على صحة
النبوة وقد ظهر في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أكثرها مع ما تقدمها من
إنذار وظهر بها من آثار وتحقق بها من أخبار فصارت أعم النبوات إعجازا
وأوضحها طريقة وامتيازا وأكثرها تأييدا إليها وتعبدا شرعيا تقهر شواهدها من
باين وعاند وتحج دلائلها من ناكر وجاحد لأن المهيأ منه مطبوع على آلته
ومنقاد إلى غايته حتى يتدرج إليه بغير تكلف ويستقر فيه بغير تصنع فلا يشتبه
من تعاطاه بمن طبع له فصح التطبع بشيمة المطبوع ولم تزل أمارات النبوّة
لائحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تدرج إليها وهو غافل عنها وغير
متصنع لها فنهض بأعبائها حين أتته وقام بحقوقها حين لزمته غير ذاهل فيها
ولا عاجز عنها إلى أن تكامل به الشرع فتم على أصل مستقر وقياس مستمر لا
يدفعه عقل ولا يأباه قلب ولا تنفر منه نفس، وهذا وهو أميّ لم يقرأ كتابا
ولا اكتسب علما فأوضح كل ملتبس وبيّن كل مشتبه حتى رجع كثير من الملل إلى
شريعته في علم ما قصروا عنه من حقوق وعقود استوعب أقسامها وبيّن أحكامها،
وما ذاك إلّا بعون إلهي وتأييد لاهوتي وحسبك بهذا شاهدا لو اقتصرنا عليه
وحجابا لو اكتفينا به، ولكن سنذكر من معجزاته الفاخرة وبراهينه الواضحة ما
يرد كل جاحد ويصد كل معاند من أنواع متغايرة وأخبار متواترة وآثار متظاهرة
يصدق بعضها بعضا ليكون تغايرها جامعا لكل برهان وتظاهرها دافعا لكل بهتان،
فمنها ما تقدمه من نذير وبشير، ومنها ما تعقبه من تغيير وتأثير، ومنها ما
قارنه من أقوال وأفعال صدرت منه وإليه فلم
__________
(1) سورة الأنعام من الآية (105) .
(1/71)
يبق من الآيات ما أخل به ولا من الأعلام ما
قصر فيه، وسنذكرها أبوابا مفصلة وأنواعا متميزة لتكون أصح بيانا وأوضحها
برهانا وأحقها بالسابقة والتقديم إعجاز القرآن لأنه أصل شرعته ومستودع
رسالته ثم نتلوه بما يقتضيه وإن كان لو ذكرناه أول مباديه على سياق ينتهي
إلى غايته لكان نظاما ولكن هذا باب حجاج لرسالته وليس بشرح لسيرته فوجب
ابتداؤه بأخصها ثم ذكر سيرته على ترتيبها.
(1/72)
|