أعلام
النبوة للماوردي الباب التاسع عشر في آيات مولده وظهور
بركته صلى الله عليه وسلم
ايات الملك باهرة وشواهد النبوة قاهرة تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس
فيها كذب بصدق ولا منتحل بمحقّ، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها
وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاطرت آيات نبوّته
وظهرت آيات بركته فكان من أعظمها شأنا وأظهرها برهانا وأشهرها عيانا وبيانا
أصحاب الفيل أنفذهم النجاشي من أرض الحبشة في جمهور جيشه إلى مكة لقتل
رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة، واختلف في سببه فذكر قومه أن إبراهيم بن
الصباح استولى على اليمن معتزيا إلى النجاشي فبنى بصنعاء اليمن كنيسة
للنصارى واستعان في بنيانها بقيصر والنجاشي حتى بناها في تشييدها وحسنها
ليعدل بالعرب عن حج الكعبة إليها، فأنكرته العرب ودخل إلى هيكلها بعض بني
كنانة من قريش فأحدث فيها فكتب إلى النجاشي يستمده بالفيل وجيش الحبشة
ليغزو قريشا ويهدم الكعبة فسار بهم وأخذ أبا رغال من الطائف دليلا إلى مكة
حتى أنزله بالمغمس ومات أبو رغال بالمغمس فدفن فيه فرجمت العرب قبره، فهو
القبر المرجوم بالمغمس.
وقال آخرون: بل سببه أن نفرا من تجار قريش مروا ببيعة للنصارى على شاطىء
البحر فنزلوا بفنائها وأوقدوا نارا لعمل طعامهم فاحترقت البيعة فأقسم
النجاشي ليسبين مكة وليهد من الكعبة، فأنفذ جيشه والفيل مع إبراهيم بن
الصباح وأبو مكسوم وحجر بن شراحيل والأسود بن مقصود، وكان النجاشي
(1/205)
هو الملك وأبرهة صاحب جيشه على اليمن وأبو
مكسوم وزيره وحجر والأسود من قواده فساروا بالجيش مع الفيل حتى نزلوا بذي
المجاز وتقدمهم الأسود بن مقصود فاستاق سرح مكة، فقال فيه عبد الله بن
مخزوم:
لا هم اخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة بعد التقليد
ويهدم البيت الحرام المعبود ... والمروتين والمشاعر السود
اخزهم يا رب وأنت معبود
كان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب وقد قلد بعضها فخرج وكان وسيما جسيما
إلى أبرهة وسأله في إبله، فقال له أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك وقد
زهدت الآن فيك، قال: ولم؟ قال: جئت لأهدم الكعبة بيتا هو دينك ودين آبائك
فلم تسألني فيه وسألتني في إبلك، فقال عبد المطلب: أنا رب إبلي وللبيت رب
غيري سيمنعه منك، فقال أبرهة: ما كان ليمنعه مني، ورد على عبد المطلب إبله
مستهزئا ليعود فيأخذها، فأحرزها عبد المطلب في جبال مكة وأتى الكعبة فأخذ
حلقة الباب وجعل يقول:
يا رب إن المرء يم ... نع حله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك
فلئن فعلت فإنه ... أمر يتم به فعالك
اسمع بارجس من أرا ... دوا العدو وانتهكوا حلالك
جروا جميع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك
وتوجه الجيش إلى مكة من طريق منى والفيل معهم إذا بعث على الحرم أحجم وإذا
أعدل عنه أقدم فوقعوا بالمغمس، فقال أبو الطيب بن مسعود في ذلك وقيل بل
قاله عبد المطلب:
إن آيات ربنا ساطعات ... ما يماري بها إلّا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... مر يعوي كأنه معقور
(1/206)
وبصر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية
البحر، فقال عبد المطلب.
إن هذه غريبة بأرضنا ما هي نجدية ولا تهامية ولا حجازية وإنها لأشباه
اليعاسيب، وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة، فلما أظلت على القوم ألقتها
عليهم حتى هلكوا فأفلت من القوم أبرهة ورجع إلى اليمن فمات في طريقه بعد أن
كان يسقط من جسده عضو عضو حتى هلك، ولما تأخر القوم عنهم واستعجم خبرهم
عليهم قال عبد المطلب:
يا رب لا نرجوا لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا
وبعث ابنه عبد الله ليأتيه بخبرهم فوجد جميعهم قد شدختهم الأحجار حتى
هلكوا، فعاد راكضا إلى عبد المطلب وأصحابه وأخذوا أموالهم، فكانت أول أموال
بني عبد المطلب، فأشنأ مرتجزا يقول:
أنت منعت الجيش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأخيالا
وقد خشينا منهم القتالا ... وكل أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
وآية الرسول من قصة الفيل: أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة لأنه ولد
بعد خمسين يوما من الفيل وبعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر
ربيع الأول ووافق من شهور الروم العشرين من شباط في السنة الثانية عشرة من
ملك هرمز بن أنو شروان.
وحكى أبو جعفر الطبري أن مولده صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة
من ملك أنو شروان (فكانت آيته) في ذلك من وجهين:
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن
يجري عليه السبي حملا ووليدا.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم
وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو ثائل
(1/207)
بالزندقة أو مانع من الرجعة «1» ولكن لما
أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة وأن يجعلها
قبلة للصلاة ومنسكا للحج.
فإن قيل: فكيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكا ولم يمنع الحجّاج من
هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها، فقال فيها على
ما حكي عنه:
كيف تراه ساطعا غباره ... والله فيما يزعمون جاره
وقال راميها بالمنجنيق:
قطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد كل مسجد
قيل: فعل الحجّاج كان بعد استقرار الدين فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب
الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء
الرسالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها فصار الهدم آية
بعد أن كان المنع آية، فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم.
ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل تهيبوا الحرم وأعظموه
وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة وقالوا: أهل الله قاتل عنهم
وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفا وتعظيما، وقامت قريش لهم بالوفادة
والسدانة والسقاية، والوفادة: مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون
به طعاما للناس أيام منى، فصاروا أئمة ديانين وقادة متبعين، وصار أصحاب
الفيل مثلا في الغابرين.
وروى هشام بن محمد الكلبي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج
في الجاهلية تاجرا إلى الشام فمرّ بزنباع بن روح وكان عشارا فأساء إليه في
اجتيازه وأخذ مكسه فقال عمر بعد انفصاله:
متى ألف زنباع بن روح ببلدة ... إلى النصف منها يقرع السن بالندم
ويعلم أنا من لؤي بن غالب ... مطاعين في الهيجا مضاريب في التهم
فبلغ ذلك زنباعا فجهز جيشا لغزو مكة، فقيل له: إنها حرم الله ما
__________
(1) مانع من الرجعة: منكر للبعث والقيامة
(1/208)
أرادها أحد بسوء إلّا هلك كأصحاب الفيل
فكفّ زنباع، فقال:
تمنى أخو فهر لقاي ودونه ... قراطبة مثل الليوث الحواظر
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... وكعبته راقت إليكم معاشري
لأقتل منكم كل كهل معمم ... وأسبي نساء بين جمع الأباعر
فبلغ ذلك عمر رضوان الله تعالى عليه فأجابه وقال:
ألم تر أن الله أهلك من بغى ... علينا قديما في قديم المعاشر
وأردى أبا مكسوم أبرهة الذي ... أتانا مغيرا كالفنيق المخاطر
بجمع كثير يحرج العين وسطه ... على رأسه تاج على رأس باكر
فما راعنا من ذلك العبد كيده ... وكنا به من بين لاه وساخر
وقال سأبغي البيت هدما ولا أرى ... بمكة ماش بين تلك المشاعر
فرداه رب العرش عنا رداءه ... ولم ينجه إعظامه بالمرائر
فأهلكه والتابعين له معا ... وأسرى به من ناصر ومسامر
وليس لنا فاعلم وليس لبيتنا ... سوى الله من مولى عزيز وناصر
فدونك زرنا تلق مثل الذي لقوا ... جميعهم من دار عين وحاسر
وكان شأن الفيل رادعا لكل باغ ودافعا لكل طاغ وقد عاصر رسول الله صلى الله
عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل منهم
حكيم ابن حزام وحاطب بن عبد العزى ونوفل بن معاوية لأن كل واحد من هؤلاء
عاش مائة وعشرين منها ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام.
مولد الرسول صلى الله عليه وسلم
ولما حملت آمنة بنت وهب برسول الله صلى الله عليه وسلم حدثت أنها أتيت،
فقيل لها:
إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع على الأرض فقولي أعيذه بالواحد من شر
كل حاسد ثم سميه محمدا ورأيت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور
بصرى من أرض الشام.
قالت أم عثمان بن العاص شهدت ولادة آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان ليلا فما شيء أنظر إليه من البيت إلّا نور وإنني أنظر إلى النجوم تدنو
وإني أقول لتقعن عليّ ولما وضعته تركت عليه في ليلة ولادته جفنة فانقلبت
عنه فكان من آياته أن لم
(1/209)
تحوه وأرسلت إلى جده عبد المطلب أن قد ولد
لك غلام فأته فانظر إليه فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت به وما
قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه فقيل إن عبد المطلب أخذه فدخل به على هبل في
جوف الكعبة فقام عنده يدعو ويشكر بما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها
وقال: قد رأى فيه سمات المجد وتوسم فيه إمارات السؤدد أن محمدا لن يموت حتى
يسود العرب والعجم وأنشأ يقول:
الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
أعيذه بالواحد المنان ... من كل ذي عيب وذي شنآن
حتى أراه شامخ البنيان
طفولته صلى الله عليه وسلم
ولم يزل موفور البركة على كل لائذ به وكافل له فروى جهم بن أبي الجهم عن
عبد الله بن جعفر قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة
بنت الحرث ابن عبد العزى تلتمس الرضعاء في سنة شيبة قالت ومعنا شارف والله
ما يبض لنا بقطرة من لبن ومعي بني لي منه وما نجد في ثديي ما نعلله إلّا
أنا نرجو الغيث وكانت لنا غنم فنحن نرجوها فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة
إلّا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تقبله وكرهناه ليتمه فأخذ
كل صاحبي رضعاء ولم أجد غيره فأخذته وأتيت به رحلي فوالله إن هو إلّا أن
ثبت في الرحل وأمسيت فأقبل ثدياي باللبن حتى أرويته وأرويت اخاه، وقام أبوه
إلى شارفنا تلك ليمسه بيده فإذا هي حافل فحلبها ما رواني من لبنها وروى
الغلمان فقال: يا حليمة لقد أصبنا نسمة مباركة ثم اغتدينا راجعين إلى
بلادنا فركبت أتاني وحملته معي فوالذي نفس حليمة بيده لقد طفت بالركب حتى
أن النسوة ليقلن يا حليمة امسكي عنا أهذه أتانك التي خرجت عليها قلت نعم:
فقلت والله إني لأرجو أن أكون قد حملت عليها غلاما مباركا قالت: فكان الله
يزيدنا به في كل يوم خيرا وإن غنمنا لتعود من الرعي بطانا حفلا، وتعود غنم
الناس خماصا جياعا.
قال: فبينا هو يلعب خلف البيوت وأخوه في بهم لنا إذ أتاني أخوه يشتد فقال:
إن أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثوبان أبيضان فأخذاه فأضجعاه
(1/210)
وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه فوجدناه قائما
قد انتقع لونه فلما رآنا أجهش إلينا باكيا قالت فالتزمته أنا وأبوه وقلنا
له ما لك فقال: جاءني رجلان فأضجعاني فشقا بطني وصنعا بي يلم رداءه كما هو
قال أنس بن مالك جاءه جبريل فصرعه، فشق بطنه، فاستخرج القلب، ثم شق القلب
فاستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله ثم لأمه ثم أعاده إلى
مكانه.
قال أنس: قد كنت أنظر إلى المخيط في صدره، ثم إن زوج حليمة قال لها: يا
حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به
ذلك، فاحتملته حليمة حتى قدمت به على أمه آمنة فقالت أمه ما أقدمك به يا
ظئر، قالت: قد قضيت الذي عليّ وتخوّفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين
قالت: ما هذا شأنك، فاصدقيني فأخبرتها حليمة بحاله وقالت:
تخوّفت عليه الشيطان، فقالت أمه كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وأن له
لشأنا وأني رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى ووقع حين
ولدته وأنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه في السماء دعيه فانطلقي راشدة وفي
هذا الخبر من آياته ما تذعن النفوس بصحة نبوّته.
نشأته صلى الله عليه وسلم
وروى محمد بن إسحاق قال حدثني بعض أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: لقد رأيتني وأنا غلام يفع بمكة مع غلمان قريش نحمل حجارة على أعناقنا
وقد حملنا أزرنا فوطأنا على رقابنا إذ دفعني دافع ما أراه وقال: اشدد عليك
إزارك، فشددت إزاري، وهذا من نذر الصيانة ليكون عليها ناشئا ولها آلفا
في كفالة أبي طالب
وروى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «ما هممت بشيء مما كان في الجاهلية يعملون به غير مرتين كل
ذلك يحول الله تعالى بيني وبين ما أريد فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان
يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت إلى غنمي حتى أدخل مكة فاسمر بها ما يسمر
الشباب، فقال ادخل، فخرجت أريد ذلك حتى إذا جئت أول دار من دور
(1/211)
مكة سمعت عزفا بالدفوف والمزامير فقلت ما
هذا قالوا فلان بن فلان تزوج فلانة ابنة فلان فجلست أنظر إليهم فضرب الله
على أذني فنمت فما أيقظني إلّا مس الشمس، قال فجئت صاحبي، فقال ما فعلت،
فقلت: ما صنعت شيئا وأخبرته الخبر، قال ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، فقال
افعل، فخرجت فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت ودخلت مكة تلك الليلة فجلست
أنظر فضرب الله على أذنيّ فوالله ما أيقظني إلّا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي
فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته» . فهذه
أحوال عصمته قبل الرسالة، وصده عن دنس الجهالة، فاقتضى أن يكون بعد الرسالة
أعظم ومن الأدناس أسلم وكفى بهذه الحال أن يكون من الأصفياء الخيرة أن أمهل
ومن الأتقياء البررة أن أغفل ومن أكبر الأنبياء عند الله تعالى من أرسل
مستخلص الفطرة على النظرة، وقد أرسله الله تعالى بعد الاستخلاص وطهره من
الأدناس فانتفت عنه تهم الظنون وسلم من ازدراء العيون ليكون الناس إلى
إجابته أسرع وإلى الانقياد له أطوع.
شبابه صلى الله عليه وسلم
ولما نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريش على أحمد هدى وصيانة وأكمل
عفاف وأمانة سمّوه الأمين بعد اختباره وقدموه لفضله ووقاره، وتشاوروا في
هدم الكعبة وبنائها لقصر سمكها وكان فوق القامة وسعة حيطانها وكان يتهافت،
فأرادوا تجديدها وتعليتها وخافوا من الإقدام على هدمها وكان للكعبة كنز
وجدوه عند دويك مولى لبني مليح من خزاعة وأخذته قريش منه وقطعت يده واتهموا
به الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أن يكون قد تولى أخذه وأودعه عند
دويك، فنافروه إلى كاهنة من كهان العرب فسجعت عليه من كهانتها أن لا يدخل
مكة عشر سنين بما استحل من حرمة الكعبة، فكان يجول حول مكة حتى استوفى
العشر، وكان يظهر في الكعبة حية يخاف الناس منها لا يدنو منها أحد إلّا
اخزألت وفتحت فاها فتوقوها إلى أن علت ذات يوم على جدار الكعبة فسقط طائر
فاختطفها.
(1/212)
فقالت قريش: إنا لنرجوا أن يكون الله قد
رضي ما أردنا، وكان البحر قد قذف سفينة على ساحل جدة لرجل من تجار الروم،
وكان بمكة نجار من القبط، فهيأ لهم تسقيف الكعبة بخشب السفينة، فلما أزمعوا
على هدمها قام أبو وهب بن عمير وكان خال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا
شرف وقدر فأخذ حجرا من الكعبة فوثب الحجر من يده حتى عاد في موضعه، فقال:
يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلّا طيبا ولا تدخلوا فيها مهر
بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس، وتصورت قريش أن عود الحجر من يد
أبي وهب إلى موضعه أن الله تعالى قد كره هدمها فهابوه.
وقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول وقام عليها وهو
يقول: اللهم لا نريد إلّا الخير، ثم هدم الركنين فتربص الناس به تلك
الليلة، وقال: ننتظر فإن أصيب لم تهدم وإن لم يصب هدمناها وقد رضي ما
صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته وعاد إلى عمله وتحاصت قريش الكعبة فكان شق
البيت لبني عبد مناف وزهرة وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم
وتيم وقبائل انضمت إليه من قريش وكان شق الحجر والحطيم لبني عبد الدار وبني
عبد العزّى وبني عدي وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم حتى انتهوا إلى
الأساس فأفضوا إلى حجارة خضر قيل أنها كانت على قبر إسماعيل فضربوا المعول
بين حجرين فلما تحركا انتقضت «2» مكة بأسرها فكفوا وانتهوا إلى أصل الأساس
وجمعت كل قبيلة حجارة ما هدمت وبنوا حتى انتهوا إلى ركن الحجر فتنازعت
القبائل فيمن يضع الحجر في موضعه من الركن فأقبلوا حتى مكثوا أربع ليال أو
خمسا ثم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا فقال أبو أمية بن المغيرة وكان أمين
قريش في وقته: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول رجل يدخل من
باب هذا المسجد. فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
هذا محمد وهو الأمين، فقالوا قد رضينا به، لما قد استقر في نفوسهم من فضله
وأمانته، فلما وصل إليهم أخبروه، فقال: ائتوني ثوبا، فأتوه بثوب، فأخذ
الحجر ووضعه فيه بيده وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب
__________
(2) انتقضت: ارتجت واهتزت.
(1/213)
وليرفعوه جميعا ففعلوا، فلما بلغ الحجر إلى
موضعه وضعه فيه بيده، فكان هذا الفعل من مستحسن أفعاله وآثاره والرضاء به
من أمارات طاعته.
وكان ذلك بعد عام الفجار بخمس عشرة سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، فكان ذلك تأسيسا لما يريده الله تعالى به من
كرامته وتوطئة لقبول ما تحمله من رسالته والله أعلم بمغيب ما استأثر من
علمه.
(1/214)
الباب العشرون في شرف أخلاقه وكمال فضائله
صلى الله عليه وسلم
المهيأ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل وأفضل الأعمال
لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها ووافقها وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا
منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى وعباده تبعث
على مصالح الخلق وطاعة الخالق فكان أفضل الخلق بها أخص وأكملهم بشروطها أحق
بها وأمسّ ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما دانى طرفيه من
قاربه في فضله ولا داناه في كماله خلقا وخلقا وقولا وفعلا وبذلك وصفه الله
تعالى في كتابه بقوله:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1» .
فإن قيل: فليست فضائله دليلا على نبوّته ولم يسمع بنبي احتج بها على أمته
ولا عوّل عليها في قبول رسالته لأنه قد يشارك فيها حتى يأتي بمعجز يخرق
العادة فيعلم بالمعجز أنه نبي لا بالفضل.
قيل: الفضل من أماراتها وإن لم يكن من معجزاتها ولأن تكامل الفضل معوز فصار
كالمعجز ولأن من كمال الفضل اجتناب الكذب وليس من كذب في ادعاء النبوّة
بكامل الفضل فصار كمال الفضل موجبا للصدق والصدق موجبا لقبول القول فجاز أن
يكون من دلائل الرسل.
__________
(1) سورة القلم الآية (4) .
(1/215)
وجوه كماله صلى الله
عليه وسلم
فإذا وضح هذا فالكمال المعتبر في الشر يكون من أربعة أوجه:
أحدها: كمال الخلق.
والثاني: كمال الخلق.
والثالث: فضائل الأقوال.
والرابع: فضائل الأعمال
[الوجه الأول في كمال خَلْقه]
اعتدال صورته صلى الله عليه وسلم فأما الوجه
الأول:
في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف.
أحدها: السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم الداعية إلى التقديم والتسليم
وكان أعظم مهيب في النفوس حتى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع
ارتياضهم «2» بصولة الأكاسرة ومكاثرة الملوك الجبابرة فكان في نفوسهم أهيب
وفي أعينهم أعظم وإن لم يتعاظم بأهبة ولم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع
موصوفا وبالوطاء معروفا.
طلاقته صلى الله عليه وسلم
والثاني: الطلاقة الموجبة للإخلاص والمحبة الباعثة على المصافاة والمودة
وقد كان محبوبا ولقد استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتى لم يقله مصاحب «3»
ولم يتباعد منه مقارب وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب البارد
على الظمأ.
ميل القلوب إليه صلى الله عليه وسلم
والثالث: حسن القبول الجالب لممايلة القلوب حتى تسرع إلى طاعته
__________
(2) ارتياضهم: اعتيادهم من ارتاض أي عوّد نفسه وتدرّب.
(3) يقله من القلى: المعاداة أو ترك الصحبة بسبب النفور.
(1/216)
وتذعن بموافقته، وقد كان قبول منظره
مستوليا على القلوب ولذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتى لم ينفر منه معاند
ولا استوحش منه مباعد إلّا من ساقه الحسد إلى شقوته وقاده الحرمان إلى
مخالفته.
ميل النفوس إليه صلى الله عليه وسلم
والرابع: ميل النفوس إلى متابعته وانقيادها لموافقته وثباته على شدائده
ومصابرته فما شذ عنه معها من أخلص ولا ند عنه فيها من تخصص، وهذه الأربعة
من دواعي السعادة وقوانين الرسالة وقد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها واستحق
ما يقتضيها.
الوجه الثاني في كمال أخلاقه صلى الله عليه
وسلم
وأما الوجه الثاني: في كمال أخلاقه فيكون بست خصال:
رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم
إحداهن: رجاحة عقله وصحة وهمه وصدق فراسته، وقد دل على وفور ذلك فيه صحة
رأيه وصواب تدبيره وحسن تألفه وأنه ما استفعل في مكيدة ولا استعجز في شديدة
بل كان يلحظ الإعجاز في المبادىء فيكشف عيوبها ويحل خطوبها وهذا لا ينتظم
إلّا بأصدق وهم وأوضح جزم.
ثباته صلى الله عليه وسلم في الشدائد
والخصلة الثانية: ثباته في الشدائد وهو مطلوب وصبره على البأساء والضراء
وهو مكروب ومحروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يجوز في شديدة ولا
يشكين لعظيمة أو كبيرة ويقدر على الخلاص أو بالشر وهو لا يزداد إلّا
اشتدادا وصبرا، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهدد الصياصي وهو مع
الضعيف يصابر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي.
وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد ولقد أتت
علىّ
(1/217)
ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال
طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال» .
وروى عبد الرحمن بن زيد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمد
من الشعير يومين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صبر على هذه
الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى امتنع أن يريد به الدنيا وقد زويت عنه
وما ذاك إلّا لطلب الآخرة ومستحيل ممن كذب في ادعائه إليها أن يستوحشها أو
كذب على الله تعالى أن يثاب إليها.
زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا
والخصلة الثالثة: زهده في الدنيا وإعراضه عنها وقناعته بالبلاغ «4» منها
فلم يمل إلى نضارتها ولم يله لحلاوتها.
وروى سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قيل
لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أعطيت خزائن الأرض ما لم يعط أحد
قبلك ولا يعطاه أحد بعدك ولا ينقصك في الآخرة شيئا، قال: «اجمعوها لي في
الآخرة» ، فنزلت: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ
ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُوراً «5» .
وروى هلال بن أبي خباب عن عكرمة عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضوان الله
تعالى عليه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قد أثر في
جسمه، فقال له: يا رسول الله لو اتخذت فراشا أوطأ من هذا، فقال:
«ما لي وللدنيا ما لي وللدنيا والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلّا
كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها» .
وروى حميد بن بلال بن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها
كساء ملبدا وأزارا غليظا وقالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.
__________
(4) قناعته بالبلاغ منها أي بما بالكاد يسد الرمق.
(5) سورة الفرقان الآية (10) .
(1/218)
هذا وقد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار
العراق «6» ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان «7» وهو أزهد الناس فيما يقتني
ويدخر وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر لم يخلف عينا ولا دينا ولا حفر نهرا ولا
شيد قصرا ولم يورث ولده وأهله متاعا ولا مالا ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا
كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها.
وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي
الله تعالى عنه تريد الميراث فمنعها، فقالت: من يرثك، قال:
ولدي وأهلي، فقالت: فلا ترث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته؟ فقال أبو
بكر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنا لا
نورث ما تركنا فهو صدقة» ، فمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله،
فأنا أعوله، ومن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق عليه فأنا أنفق
عليه.
وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا والإعراض عن التلبس
بها ليكون عونا على السلامة من تباعتها وصرف النفوس عن شهواتها.
وروى عبد المطلب بن حاطب عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته فآثروا ما يبقى على ما يفنى» .
وروي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا رأس كل
خطيئة» .
وروى أبو حكيم عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت» «8» .
وروى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا
عجبا كل العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور» .
__________
(6) عذار العراق: ما انفسخ عن الطف أي أطراف سهوله القريبة من أرض جزيرة
العرب.
(7) شحر عمان: ساحل البحر بين عمان وعدن.
(8) هاروت وماروت يقال أنهما ملاكان سقطا في التجربة عندما نزلا إلى الأرض
ولنا ما ذكر القرآن الكريم من أنهما يعلمان الناس السحر في بابل.
(1/219)
وروى عوف عن الحسن قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «إنما مثل الدنيا كمثل الماشي على الماء، هل يستطيع الذي
يمشي على الماء أن لا تبتل قدماه» .
وهذه الدواعي والوصايا ما اقتدى به خلفاؤه في زهده وانتقلوا بالأمور من
بعده، فكان أبو بكر يتخلل عباءة له، وهو خليفة، فسمي ذا الخلالين، وكان عمر
يلبس مرقعة من صوف فيها رقاع من ادم ويطوف في الأسواق على عاتقه درة يؤدب
بها الناس ويمر بالنوى فيلقطه ويلقيه في منازل الناس حتى ينتفعوا به ويطوف
وحده في الليل عسسا ويتطلع غوامض الأمور تجسسا ليأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر.
وكان عثمان يقوم الليل كله يختم القرآن في ركعة، وجاد بماله وفدى الخلق
بنفسه وقال إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد، واشترى
علي رضي الله تعالى عنه وهو خليفة قميصا بثلاثة دارهم وقطع كمه من موضع
الرسغين وقال: الحمد لله الذي هذا من رياشه، ولم يزل يأكل الخشب «9» ويلبس
الخشن، وفرق الأموال حتى رش بيت المال ونام فيه وقال: يا صفراء يا بيضاء
غرّي غيري، وحقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتى اجتذب أصحابه إليها
أن لا يتهم بطلبها ويكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة بها ويقنع في
العاجل وقد سلب الآجل بالميسور النزر ورضي بالعيش الكدر.
وقد روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول في شهر رمضان قدمي غداءك المبارك وقالت ربما لم
يكن إلّا تمرتين.
وروى عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فسألهما
فقال: «ما أخرجكما» ، فقالا: الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«وأنا أخرجني الجوع» ، فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان فأمر له بحنطة أو
شعير عنده يعمل وقام فذبح لهم شاة، فقال له: نكب عن ذات الدّر «10» واستعذب
لهم ماء علق على نخلة
__________
(9) يأكل الخشب: أي الطعام القاسي الجافي مع أن التنعم بإمكانه.
(10) ذات الدر: التي يعيشون من لبنها.
(1/220)
ثم أوتوا بذلك الطعام فأكلوا منه وشربوا من
ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لتسألن عن نعيم هذا اليوم» ، ثم ملكوا الدنيا فرفضوها واقتنعوا بالبلاغة
فيها «11» .
تواضعه صلى الله عليه وسلم للناس
والخصلة الرابعة: تواضعه للناس وهم أتباع وخفض جناحه لهم وهو مطاع يمشي في
الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميز عنهم إلّا
بإطراقه وحيائه فصار بالتواضع متميزا وبالتذلل متعززا، ولقد دخل عليه بعض
الأعراب فارتاع من هيبته، فقال: «خفض عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل
القديد بمكة» ، وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه، فهي غريزة فطر عليها وجبلة
طبع بها لم تندر فتعدّ ولم تحصر فتحدّ.
حلمه ووقاره صلى الله عليه وسلم
والخصلة الخامسة: حلمه ووقاره عن طيش يهزّه أو خرق يستفزه، فقد كان أحلم في
النفار «12» من كل حليم وأسلم في الخصام من كل سليم وقد مني بجفوة الأعراب
فلم يوجد منه نادرة ولم يحفر عليه بادرة ولا حليم غيره إلّا ذو عثرة ولا
وقور سواه إلّا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزغ الهوى وطيش القدرة
بهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفا وعلى الخلق عطوفا، قد تناولته قريش بكل
كبيرة وقصدته بكل جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم وما تفرد بذلك سفهاؤهم
دون حلمائهم ولا أراذ لهم دون عظمائهم بل تمالأ عليه الجلة والدون «13»
فكلما كانوا عليه من الأمر وألح كان عنهم أعرض وأفصح حتى قهر فعفا وقدر
فغفر، وقال لهم حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه: ما ظنكم بي؟
قالوا: ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بك وإن تنتقم فقد أسأنا، فقال: بل
أقول كما قال يوسف لأخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
__________
(11) البلاغة والبلغة: سد الرمق.
(12) النفار: الخصام.
(13) الجلة: الكبراء وأعلاهم مكانة. الدون: أصاغرهم وأدناهم مكانة وموقعا.
(1/221)
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ «14» قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم قد أذقت أول قريش نكالا
فأذق آخرهم نوالا» ، وأتته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن عمه حمزة ولاكت كبده
فصفح عنها وأعطاها يده لبيعتها.
فإن قيل: فقد ضرب رقاب بني قريظة صبرا في يوم أحد وهم نحو سبعمائة فأين
موضع العفو والصفح وقد انتقم انتقام من لم يعطفه عليهم رحمة ولا داخلته لهم
رقة.
قيل: إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد
بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة «15» فلم
يجز أن يعفو عن حق وجب الله تعالى عليهم، وإنما يختص عفوه بحق نفسه» .
حفظ العهد والوفاء
والخصلة السادسة: حفظه للعهد ووفاؤه بالوعد، فإنه ما نقض لمحافظ عهدا ولا
أخلف لمراقب وعدا، يرى الغدر من كبائر الذنوب والإخلاف من مساوىء الشيم
فيلتزم فيهما الأغلظ ويرتكب فيهما الأصعب حفظا لعهده ووفاء بوعده حتى
يبتدىء معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجا كفعل اليهود من بني قريظة
وبني النضير وكفعل قريش بصلح الحديبية فجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة،
فهذه ست خصال تكاملت في خلقه فضّله الله تعالى بها على جميع خلقه.
الوجه الثالث في فضائل أقواله
وأما الوجه الثالث: في فضائل أقواله فمعتبر بثمان خصال:
__________
(14) سورة يوسف الآية (92) .
(15) سبعة أرمقة: سبع سماوات.
(1/222)
حكمته صلى الله عليه
وسلم
إحداهن: ما أوتي من الحكمة البالغة وأعطي من العلوم الجمة الباهرة وهو أمي
من أمة أمية لم يقرأ كتابا ولا درس علما ولا صحب عالما ولا معلما فأتى بما
بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان وإحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل
في قول أو عمل وجعل مدار شرعه على أربعة أحاديث أوجز بها المراد وأحكم بها
الاجتهاد.
أحدها: قوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى» .
والثاني: قوله: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك أمور متشابهات ومن يحم
الحمى يوشك أن يقع فيه» .
والثالث: قوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
والرابع: قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، وقد شرع من تقدم من حكماء
الفلاسفة سننا حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه لا صلاح للعالم
إلّا بدين ينقادون له ويعلمون به مما راق لها أثر ولا فاق لها خبر، وهم
ينبوع الحكم وأعيان الأمم، وما هذه الفطرة في الرسول صلى الله عليه وسلم
إلّا من صفاء جوهره وخلوص مخبره.
حفظه صلى الله عليه وسلم لما أطلعه الله عليه
والخصلة الثانية: حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم
وأخبار العالم في الزمن الأقدم حتى لم يعزب عنه منها صغير ولا كبير ولا شذ
عنه منها قليل ولا كثير وهو لا يضبطها بكتاب يدرسه ولا يحفظها بعين تحرسه،
وما ذاك إلّا من ذهن صحيح وصدر فسيح وقلب شريح، وهذه الثلاثة آلة ما استودع
من الرسالة وحمل من أعباء النبوّة، فجدير أن يكون بها مبعوثا وعلى القيام
بها محثوثا.
إحكامه لما شرع صلى الله عليه وسلم
والخصلة الثالثة: إحكامه لما شرع بأظهر دليل وبيانه بأوضح تعليل حتى
(1/223)
لم يخرج منه ما يوجبه معقول ولا دخل فيه ما
تدفعه العقول ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
«أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا» ، لأنه نبّه بالقليل على
الكثير فكف عن الإطالة وكشف عن الجهالة وما تيسر ذلك إلّا وهو عليه معان
وإليه مفاد.
أمره صلى الله عليه وسلم بمحاسن الأخلاق
والخصلة الرابعة: ما أمر به من محاسن الأخلاق ودعا إليه من مستحسن الآداب
وحث عليه من صلة الأرحام وندب إليه من التعطف على الضعفاء والأيتام ثم ما
نهى عنه من التباغض والتحاسد وكف عنه من التقاطع والتباعد، فقال: «لا
تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عبادا لله أخوانا» ، لتكون الفضائل
فيهم أكثر ومحاسن الأخلاق بينهم أنشر ومستحسن الآداب عليهم أظهر وتكون إلى
الخير أسرع ومن الشر أمنع فيتحقق فيهم قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ «16» فلزموا أوامره واتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم
ودنياهم حتى عز بهم الإسلام بعد ضعفه وذل الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبرارا
وقادة أخيارا.
وضوح جوابه
والخصلة الخامسة: وضوح جوابه إذا سئل وظهور حجابه إذا جودل لا يحصره عي ولا
يقطعه عجز ولا يعارضه خصم في جدال إلّا كان جوابه أوضح وحجاجه أرجح، أتاه
أبي بن خلف بعظم نخر من المقابر قد صار رميما ففركه حتى صار كالرماد ثم
قال: يا محمد أنت تزعم أنا وآباءنا نعود إذا صرنا هكذا لقد قلت قولا عظيما
ما سمعناه من غيرك: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «17» فأنطق الله
تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ببرهان نبوّته فقال: يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «18» فانصرف
مبهوتا ولم يحر جوابا، ولما
__________
(16) سورة آل عمران الآية (110) .
(17) سورة يس الآية (78) .
(18) سورة يس الآية (79) .
(1/224)
قال عليه الصلاة والسلام: «لا عدوى ولا
طيرة» ، قال له رجل: يا رسول الله إنا نرى النقبة من الجرب في مشفر البعير
فيعدو سائره، قال: «فمن أعدى الأول» ، وأسكته.
حفظه لسانه صلى الله عليه وسلم
والخصلة السادسة: أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خبر يكون
إلى الكذب منسوبا وللصدق مجانبا، فإنه لم يزل مشهورا بالصدق في خبره فاشيا
وكثيرا حتى صار بالصدق مرموقا وبالأمانة مرسوما وكانت قريش بأسرها تتيقن
صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه، فمنهم من كذبه حسدا
ومنهم من كذبه عنادا ومنهم من كذبه استبعادا أن يكون نبيا أو رسولا، ولو
حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلا على تكذيبه في الرسالة
ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم ومن عصم منه في حق نفسه كان في
حقوق الله تعالى أعصم، وحسبك بهذا دفعا لجاحد وردا لمعاند.
بيانه صلى الله عليه وسلم
والخصلة السابعة: تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته والاقتصار منه على
قدر كفايته فلا يسترسل فيه هدرا ولا يحجم عنه حصرا وهو فيما عدا حالتي
الحاجة والكفاية أجمل الناس صمتا وأحسنهم سمتا ولذلك حفظ كلامه حتى لم يختل
وظهر رونقه حتى لم يعتل واستعذبته الأفواه حتى بقي محفوظا في القلوب مدونا
في الكتب فلن يسلم الإكثار من زلل ولا الهذر من ملل، أكثر أعرابي عنده
الكلام فقال: يا أعرابي كم دون لسانك من حجاب؟ قال شفتاي وأسناني، فقال صلى
الله عليه وسلم: «إن الله يكره الأنبعاق «19» في الكلام فنضر الله وجه
امرىء قصر من لسانه واقتصر على حاجته» .
فصاحته صلى الله عليه وسلم
والخصلة الثامنة: أنه أفصح الناس لسانا وأوضحهم بيانا وأوجزهم كلاما
__________
(19) الإنبعاق في الكلام: الهذر الكثير الذي يمكن إيجازه بكلام قليل.
(1/225)
وأجز لهم ألفاظا وأصحهم معاني لا يظهر فيه
هجنة التكلف ولا يتخلله فيهقة التعسف، وقال صلى الله عليه وسلم: «أبغضكم
إليّ الثرثارون المتفيهقون» ؛ وقال: «إياك والتشادق» ، ولما نزل عليه قوله
تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ «20» بنى مسجد قباء، فحضر عبد الله بن رواحة فقال يا رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد أفلح من بنى المساجد، قال نعم يا ابن رواحة، قال ولم يبت
لله إلا ساجد، قال: «يا ابن رواحة كف عن السجع فما أعطي عبد شيئا شر من
طلاقة في لسانه» .
كلامه صلى الله عليه وسلم
فمن كلامه الذي لا يشاكل في إيجازه قوله صلى الله عليه وسلم: «الناس
بزمانهم أشبه» ، وقوله: «ما هلك امرؤ عرف قدره» ، وقوله: «لو تكاشفتم ما
تدافنتم» . وقوله «السعيد من وعظ بغيره» ، وقوله: «حبك للشيء يعمي ويصم» ،
وقوله: «العقل ألوف مألوف» ، وقوله: «العدة عطية» ، وقوله: «اللهم إني أعوذ
بك من طمع يهدي إلى طبع» ، وقوله: «أفضل الصدقة جهد المقل» ، وقوله: «اليد
العليا خير من السفلى» ، وقوله: «ترك الشر صدقة» ، وقوله: «الخير كثير
وقليل فاعله» ، وقوله: «الناس كمعادن الذهب» ، وقوله: «نزلت المعونة على
قدر المؤنة» ، وقوله: «إذا أراد الله بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه» ،
وقوله: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» ، وقوله: «المؤمن غر
كريم والفاجر خب لئيم» ، وقوله:
«الدنيا سجن المؤمن وبلاؤه وجنة الكافر ورخاؤه» .
من كلامه صلى الله عليه وسلم
ومن كلامه الذي لا يشاكل في فصاحته قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم
والمشاورة فإنها تميت الغرة وتحيي الفرة» ، وقوله: «لا تزال أمتي بخير ما
ملم تر الأمانة مغنما والصدقة مغرما» ، وقوله: «رحم الله عبدا قال خيرا
فغنم أو سكت فسلم» ، وقوله: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ونفس لا
تشبع وقلب
__________
(20) سورة النور الآية (36) .
(1/226)
لا يخشع وعين لا تدمع هل يطمع أحدكم إلّا
غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو الدجال فهو شر
غائب ينتظر أو الساعة فالسعة أدهى وأمرّ» ، وقوله: «ثلاث منجيات وثلاث
مهلكمات فأما المنجيات فخشية الله تعالى في السر والعلانية والأقتصاد في
الغنى والفقر والحكم بالعدل في الرضا والغضب وأما المهلكات فشحّ مطاع وهوى
متبع وإعجاب المرء بنفسه» ، وقوله: «تقبلوا إليّ بست أتقبل لكم بالجنة» ،
قالوا وما هي يا رسول الله؟
قال: «إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن غضو
أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم» ، وقوله في بعض خطبه:
«ألا إن الأيام تطوى والأعمار تفنى والأبدان في الثرى تبلى وأن الليل
والنهار يتراكضان تراكض البريد يقربان كل بعيد ويخلقان كل جديد وفي ذلك
عباد الله ما ألهي عن الشهوات ورغب في الباقيات الصالحات» ، وقوله في بعض
خطبه، وقد خاف من أصحابه فطرة: «أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب
وكأن الحق فيها على غيرنا وجب وكأن الذي يشيع من الأموات سفر عما قيل إلينا
راجعون نبوّئهم آجداثهم ونأكل تراثهم كأنا مخلدون بعدهم قد نسينا كل واعظة
وأمنا كل جائحة «21» طوبى لمن شغلته اخرته عن دنياه طوبى لمن شغله عيبه عن
عيوب الناس» .
وهذا يسير من كثير ولا يأتي عليه إحصاءو لا يبلغه إستقصاء وإنما ذكرنا
مثالا ليعلم أن كلامه جامع لشروط البلاغة ومعرب عن نهج الفصاحة ولو مزج
بغيره لتميز بأسلوبه ولظهر فيه آثار التنافر فلم يلبتس حقه من باطله ولبان
صدقه من كذبه، هذا ولم يكن متعاطيا للبلاغة ولا مخالظا لأهلها من خطباء أو
شعراء أو فصحاء وإنما هو من غرائز فطرته وبداية جبلته وما ذلك إلّا لغاية
تراد وحادثة تشاد.
فإن قيل: إذا كان كلامه مخالفا لكلام غيره في البلاغة والفصاحة حتى لم يكن
فيه مساجلا أيكون له معجزا.
__________
(21) الجائحة: المصيبة والبلاء.
(1/227)
قيل له: لو كان هكذا وتحدى به صار معجزا
ولا يكون مع عدم التحدي معجزا.
[الوجه الرابع في] فضائل أفعاله
وأما الوجه الرابع: في فضائل أفعاله فمختبر بثمان خصال:
حسن سيرته صلى الله عليه وسلم
إحداهن: حسن سيرته وصحة سياسته في دين ابتكر شرعه حتى استقر وتدبير أحسن
وضعه حيت استقر وتدبير أحسن وضعه حتى استمر نقل به الأمة عن مألوف وصرفهم
به عن معروف إلى غير معروف فأذعنت به النفوس طوعا وانقادت خوفا وطمعا وشديد
عادة منتزعة إلّا لمن كان مع التأييد الإلهي معانا بحزم صائب وعزم ثاقب
ولئن كان مأمورا بما شرع فهي الحجة القاهرة ولئن كان مجتهدا فيها فهي الآية
الباهرة وحسبك بما استقرت قواعده على الأبد حتى انتقل عن سلف إلى خلف يزاد
فيهم حلاوته ويشتد فيهم جدته ويرونه نظاما لأعصار تنقلب صروفها ويختلف
مألوفها أن يكون لمن قام به برهانا ولمن إرتاب به بيانا.
الرغبة والرهبة
والخصلة الثانية: أن بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع حتى اجتمع
الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته رغبا في عاجل وآجل، ورهبا من زائل
ونازل لاختلاف الشيم والطباع في الانقياد الذي لا ينتظم بأحدهما ولا يستديم
بهما، فلذلك صار الدين بهما مستقرا والصلاح بهما مستمرا.
العدل
الخصلة الثالثة: أنه عدل فيما شرعه من الدين عن غلو النصارى «22» في
التشديد وعن تقدير اليهود في التقصير إلى التوسط بينهما وخير الأمور
أوساطها لأنه العدل بين طرفي سرف وتقصير فليس لما جاوز العدل حظ من رشد ولا
__________
(22) غلو النصارى: تجاوز الحد في المسيح حتى جعلوه ابنا لله جلّ الله عن
ذلك وتنزه.
(1/228)
نصيب من سداد وقد قال صلى الله عليه وسلم:
«إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق فشر السير الحقحقة وأن المنبتّ لا
أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» .
أمره بالاعتدال صلى الله عليه وسلم
والخصلة الرابعة: أنه لم يمل بأصحابه إلى الدنيا، كما رغبت اليهود ولا إلى
رفضها كما ترهبت النصارى وأمرهم فيها بالاعتدال أن يطلبوا منها قدر الكفاية
ويعدلوا عن احتجان واستزداة وقال لأصحابه: «خيركم من لم يترك دنياه لآخرته
ولا آخرته لدنياه ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» ، وهذا صحيح لأن الانقطاع
إلى أحدهما اختلال والجمع بينهما اعتدال.
وقال صلى الله عليه وسلم: «نعم المطية الدنيا فارتحلوها، تبلغكم الآخرة» ،
وإنما كان كذلك لأن منها يتزود لآخرته ويستكثر فيها من طاعته ولأنه لا يخلو
تاركها من أن يكون محروما مضاعا أو محروما مراعى وهو في الأول كل وفي
الثاني مستذل (أثني على رجل بخير) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا
يا رسول الله كنا إذا ركبنا لا يزال يذكر الله تعالى حتى ننزل وإذا نزلنا
لا يزال يصلي حتى نرفع فقال فمن كان يكفيه علف بعيره وإصلاح طعامه، قالوا:
كلنا، قال: «فكلكم خير منه» .
إيضاحه صلى الله عليه وسلم العبادات
والخصلة الخامسة: تصديه لمعالم الدين ونوازل الأحكام حتى أوضح للأمة ما
كلفوه من العبادات وبين لهم ما يحل ويحرم من مباحات ومحظورات وفصل لهم ما
يجوز ويمتنع من عقود ومناكح ومعاملات حتى احتاج اليهود في كثير من
معاملاتهم. ومواريثهم لشرعه ولم يحتج شرعه إلى شرع غيره، ثم مهد لشرعه
أصولا تدل على الحوادث المغفلة ويستنبط لها الاحكام المعللة فأغنى عن نص
بعد ارتفاعه وعن التباس بعد إغفاله، ثم أمر الشاهد أن يبلغ الغائب ليعلم
بإنذاره ويحتج بإظهاره، فقال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولا تكذبوا
عليّ فرب مبلّغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» فأحكم ما
شرع من نص وتنبيه وعم بما أمر من حاضر وبعيد حتى صار لما تحمله من الشرع
مؤديا، ولما تقلده من حقوق الأمة موفيا لئلا يكون في حقوق الله زلل ولا في
مصالح الأمة خلل وذلك
(1/229)
في برهة من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب
حتى أوجز وأنجز وما ذاك إلّا بديع ومعجزهم.
جهاده صلى الله عليه وسلم
الخصلة السادسة: انتصابه لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته وأحدقوا بجنباته،
وهو في قطب مهجور وعدد محقور فزاد به من قل وعز به من ذل وصار بأثخانه في
الأعداء محذورا وبالرعب منه منصورا فجمع بين التصدي لشرع الدين حتى ظهر
وانتشر وبين الانتصاب لجهاد العدو حتى قهر وانتصر والجمع بينهما معوز إلّا
لمن أمده الله بمعونته وأيده بلطفه والمعوز معجز.
شجاعته صلى الله عليه وسلم
الخصلة السابعة: ما خص به من الشجاعة في حروبه والنجدة في مصابرة عدوه فإنه
لم يشهد حربا في فزاع إلّا صابر حتى انجلت عن ظفر أو دفاع وهو في موقفه لم
يزل عنه هربا ولا جاز فيه لاغبا بل ثبت بقلب آمن وجأش ساكن قد ولى عنه
أصحابه يوم حنين حتى بقي بإزاء جمع كثير وجم غفير في تسعة من بيته وأصحابه
على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدة لهرب ولا طلب وهو ينادي أصحابه ويظهر
نفسه ويقول إليّ عباد الله أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فعادوا
أشذاذا وإرسالا «23» وهوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثره ولا انكفأ
عن مصاولة من صابره، وقد عضده الله تعالى بانجاد وأنجاد فانحازوا وصبر حتى
أمده الله بنصره وما لهذه الشجاعة من عديل، ولقد طرق المدينة فزع فانطلق
الناس نحو الصوت فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه فتلقوه
عائدا على فرس عري لأبي طلحة الأنصاري وعليه السيف فجعل يقول: «أيها الناس
لم تراعوا بل تراعوا» ، ثم قال لأبي طلحة: «إنا وجدناه بحرا» ، وكان الفرس
يبطىء فما سبقه فرس بعد ذلك، وما ذاك إلّا عن ثقة من أن الله تعالى سينصره،
وإن دينه سيظهره تحقيقا لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ*
__________
(23) عادوا أشذاذا وأرسالا: فروا زرافات ووحدانا.
(1/230)
كُلِّهِ* «24» وتصديقا لقول رسوله صلى الله
عليه وسلم زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي
منها، وكفى بهذا قياما بحقه وشاهدا على صدقه.
سخاؤه وجوده صلى الله عليه وسلم
الخصلة الثامنة: ما منح من السخاء والجود حتى جاد بكل موجود وآثر بكل مطلوب
ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير لطعام أهله وقد ملك
جزيرة العرب وكان فيها ملوك وأقيال لهم خزائن وأموال يقتنونها زخرا
ويتباهون بها فخرا ويستمتعون بها أشرا وبطرا وقد حاز ملك جميعهم، فما اقتنى
دينارا ولا درهما، لا يأكل إلّا الخشب ولا يلبس إلّا الخشن ويعطي الجزل
الخطير ويصل الجم الغفير ويتجرع مرارة الإقلال ويصبر على سغب الاختلال وقد
حاز غنائم هوازن وهي من السبي ستة آلاف رأس ومن الإبل أربعة وعشرون ألف
بعير ومن الغنم أربعون ألف شاة ومن الفضة أربعة آلاف أوقية. فجاد بجميع حقه
وعاد خلوا.
وروى أبو وائل عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما ترك رسول
الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى
بشيء. وروى عمرو بن مرة عن سويد بن الحرث عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
«ما يسرني أن لي أحدا ذهبا أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وعندي منه
دينار إلّا أن أعده لغريم» .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وهو معدم وعد ولم يرد وانتظر ما يفتح
الله.
فروى حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن رجلا جاء إلى النبي صلى
الله عليه وسلم يسأله، فقال: «إجلس سيرزقك الله» ، ثم جاء آخر، ثم آخر،
فقال لهم: «إجلسوا» ، فجاء رجل بأربع أواقي فأعطاه إياها وقال: يا رسول
الله هذه صدقة، فدعا الأول فأعطاه أوقية، ثم دعا الثاني فأعطاه أوقية، ثم
دعا الثالث فأعطاه أوقية، وبقيت معه أوقية واحدة فعرض بها للقوم فما قام
أحد،
__________
(34) سورة التوبة الآية (33) .
(1/231)
فلما كان الليل وضعها تحت رأسه وفراشه
عباءة فجعل لا يأخذه النوم فيرجع فيصلي، فقالت له عائشة: يا رسول الله حلّ
بك شيء؟ قال: «لا» ؟ قالت فجاءك أمر من الله؟ قال: «لا» ، قالت: إنك صنعت
منذ الليلة شيئا لم تكن تفعله، فأخرجها وقال: «هذه التي فعلت بي ما ترين
أني خشيت أن يحدث أمر من أمر الله ولم أمضها» «25» .
وروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك دينا فعليّ ومن ترك مالا
فلورثته» ، فهل مثل هذا الكرم والجود كرما وجودا، أم هل لمثل هذا الإعراض
والزهادة إعراضا وزهدا هيهات هل يدرك شيئا ومن هذه شذور من فضائله ويسير من
محاسنه التي لا يحصى لها عدد ولا يدرك لها أمد لم تكمل في غيره فيساويه ولا
كذب بها ضد يناويه ولقد جهد كل منافق ومعاند وكل زنديق وملحد أن يزري عليه
في قول أو فعل أو يظفر بهفوة في جد أو هزل فلم يجد إليه سبيلا وقد جهد جهده
وجمع كيده، فأي فضل أعظم من فضل تشاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه
مغمزا لثالب أو قادج ولا مطعنا لجارح أو فاضح، فهو كما قال الشاعر:
شهد الأنام بفضله حتى العدى ... والفضل ما شهدت به الأعداء
وحقيق لمن بلغ من الفضائل غايتها واستكمل لغايات الأمور آلتها، أن يكون
لزعامة العالم مؤهلا، وللقيام بمصالح الخلق موكلا، ولا غاية بعد النبوة أن
يعم له صلاح أو ينحسم به فساد فاقتضى أن يكون لها أهلا وللقيام بها مؤهلا
ولذلك استقرت به حين بعث رسولا ونهض بحقوقها حين قام به كفيلا فناسبها
وناسبته ولم يذهل لها حين أتته، وكل متناسبين متشاكلان وكل متشاكلين
مؤتلفان وكل مؤتلفين متفقان والاتفاق وفاق هو أصل كل انتظام وقاعدة كل
التئام فكان ذلك من أوضح الشواهد على صحة نبوّته وأظهر الأمارات في صدق
رسالته فما ينكرها بعد الوضوح إلّا مفضوح والحمد الله الذي وفق لطاعته وهدى
إلى التصديق برسالته.
__________
(25) لم أمضها: لم أصرفها في سبيلها أو لم أستطع تقرير شيء في شأنها.
(1/232)
|