أعلام
النبوة للماوردي الباب الحادي والعشرون في مبدإ بعثته
واستقرار نبوّته صلى الله عليه وسلم
إن لله تعالى لكل مقدور من الأمور إذا دنا نذيرا وبشيرا يظهر بهما مبادىء
ما أخفاه ويشعر بحلولهما قدره وقضاه ليكونا تعذيرا وتحذيرا تستيقظ بهما
العقول ويزدجر بهما الجهول لطفا بعباده من فجأة الأمور المذهلة أن تصدم
ببوادر لا تستدرك لتكون النفوس في مهلة من استدفاع خطبها وحل صعبها ولما
دنا مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة رسولا وإلى الخلق بشيرا
ونذيرا انتشر في الأمم أن الله تعالى سيبعث نبيا في هذا الزمان وأن ظهوره
قد قرب وآن فكانت كل أمة لها كتاب يعرف ذلك من كتابها والتي لا كتاب لها
ترى من الآيات المنذرة ما تستدل عليه بعقولها وتنتبه عليه بهواجس فطرها
إلهاما أعان به الفطن اللبيب وأنذر به الحازم الأريب هذا ورسول الله صلى
الله عليه وسلم غافل عنها وغير عالم أنه مراد بها ومؤهل لها لم يشعر بها
حتى نودي ولا تحققها حتى نوجي ليكون أبعد من التهمة وأسلم من الظنة فيكون
برهانا أظهر وحجاجه أقهر وكان مع تمييزه عن قومه بشرف أخلاقه وكرم طباعه لم
يعبد معهم صنما ولا عظّم وثنا وكان متدينا بفرائض العقول في قول جميع
الفقهاء والمتكلمين من توحيد الله تعالى وقدمه وحدوث العالم وفنائه وشكر
المنعم وتحريم الظلم ووجوب الإنصاف وأداء الأمانة.
واختلف أهل العلم هل كان قبل مبعثه متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء،
فذهب أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى أنه لم
(1/233)
يكن متعبدا بشريعة من تقدمه من الأنبياء
لأنه لو تعبّد بها لتعلمها ولعمل بها ولو عمل بها لظهرت منه ولو ظهرت منه
لا تبعه فيها الموافق ونازعه فيها المخالف، وذهب بعض المتكلمين وأكثر
الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى أنه كان متعبدا بشريعة من تقدمه
من الأنبياء لأنهم دعوا إلى شرائعهم من عاصرهم ومن يأتي بعدهم ما لم تنسخ
بنبوّة حادثة، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في عموم الدعاء قبل مبعثه
لأن الله تعالى لا يخلي زمانا من شرع متبوع ولا متدينا من تعبد مسموع،
واختلف من قال بهذا فيما كان متعبدا به من الشرائع المتقدمة فذهب بعضهم إلى
أنه كان متعبدا بشريعة جده إبراهيم عليهما السلام لقوله تعالى:
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ «1»
ولأنه كان في الحج والعمرة على مناسكه، وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا
بشريعة موسى فيما لم تنسخه شريعة عيسى عليهم السلام لظهور شريعته في
التوراة ودروس ما تقدمها من الشرائع مع قول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «2» وذهب آخرون إلى أنه كان متعبدا بشريعة
عيسى عليه السلام لأنها كانت ناسخة لشريعة موسى فسلم قبل مبعثه من حرج في
دينه وقدح في يقينه، وهذا من أمارات الاصطفاء ومقدمات الاجتباء.
حبه الخلاء صلى الله عليه وسلم
ولما وجد الأمر في النبوّة ودنا وقتها حبب الله تعالى إلى رسوله الخلاء بعد
أربعين سنة من عمره حين تكامل نهاه واشتد قواه ليكون متهيئا لما قدر له
ومتأهبا لما أريد له فكان يتخلى في غار بحراء في ذوات العدد من الليالي.
وقيل: شهرا في السنة على عادة كانت لقريش في التبرز بالمجاورة «3» بحراء
ويعود إلى أهله إلى أن استدام الخلاء في الغار لما أراد الله تعالى به فكان
يؤتى بطعامه وشرابه فيأكل منه ويطعم المساكين برهة من زمانه وهو غافل عن
النبوّة
__________
(1) سورة البقرة الآية (130) .
(2) سورة المائدة الآية (44) .
(3) التبرز للمجاورة: الخروج للإعتكاف إما في المسجد الحرام أو في غار بعيد
عن الناس. ينفرد فيه الإنسان للتعبد.
(1/234)
وإن كان في الناس موهوما وعند أهل الكتب
معلوما ليكون ابتكار البديهة بها مانعا من التصنع لها فلا ينسب إلى
اختراعها ولو تصنع واخترع لظهرت أسبابهما وتمت شواهدهما ولم يخف على من
عاداه أن يتداوله وعلى من والاه أن يتأوله، وحسبك بهذا وضوحا أن يكون بعيدا
من التهمة بهما سليما من الظنة فيهما فلم يزل صلى الله عليه وسلم على خلوته
إلى أن أظهر الله تعالى له أمارات نبوته فأيقظه بها بعد الغفلة وبشره بها
بعد المهلة، ثم بعثه بها رسولا بعد البشرى على تدريج ترتبت فيها أحواله
ليتوطأ لتحمل أثقالها، ويعلم لوازم حقوقها حتى لا تفاجئه بغتة فيذهل ولا
يخفى عليه حقوقها فينكل، وكان ذلك من الله لطفا به وإنعاما عليه وداعيا
لأمته في الانقياد إليه فسبحانه من لطيف بعباده منعم على خلقه.
أحواله صلى الله عليه وسلم
تدرجت إليه أحواله في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ ترتب تدرجه
على ستة أحوال نقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة حتى بلغ غايتها.
الرؤيا الصادقة
فالمنزلة الأولى: الرؤيا الصادقة في منامه بما سيؤول إليه أمره فكان ذلك
إذكارا بها ليروض لها نفسه ويختبر فيها حواسه فيقوم بها إذا بعث وهو عليها
قوي وبها ملي «4» .
روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: أول ما ابتدىء
به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل
فلق الصبح حتى فاجأه الحق، واختلف في هذه الرؤيا هل كانت قبل انقطاعه إلى
الخلوة بحراء.
فحكى عروة عن عائشة أنه حبب إليه الخلاء بعد الرؤيا.
وذهب قوم إلى أن الرؤيا جاءته بعد خلوته لأنه خلا على غفلة من أمره.
وقد روت برة بنت أبي تحراه أن الله تعالى لما أراد كرامة رسول الله صلى
الله عليه وسلم
__________
(4) ملي بها: كفؤلها.
(1/235)
بالنبوة كان لا يمر بشجر ولا حجر إلّا قال
السلام عليك يا رسول الله فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا
فاحتمل أن يكون ذلك قبل رؤيا المنام فيكون كالهتوف «5» الخارجة عن إعلام
الوحي إلى إعجاز النبوّة واحتمل أن يكون بعد الرؤيا فيكون تصديقا لها
وتحقيقا لصحتها.
طهارته صلى الله عليه وسلم
والمنزلة الثانية: ما ميّز به عن سائر الخلق من تقديسه عن الأرجاس «6»
وتطهيره من الأدناس ليصفو فيصطفى ويخلص فيستخلص، فيكون ذلك إنذار الأمر
وتنبيها على العاقبة وهو ما رواه عن عروة بن الزبير عن أبي ذر الغفاري قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول نبوّته فقال: «يا أبا ذر أتاني
ملكان وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض والآخر بين السماء والأرض.
فقال أحدهما لصاحبه أهو هو قال فزنه برجل من أمته فوزنت برجل فرجحته ثم
قال: زنه بعشرة فوزنت بعشرة فرجحتهم، ثم قال زنه بمائة فوزنت بمائة
فرجحتهم، ثم قال زنه بألف فوزنت بألف فرجحتهم فجعلوا ينثرون على كفة
الميزان فقال أحدهما للآخر لو وزنته بأمته رجحها ثم قال أحدهما لصاحبه: شق
بطنه فشق بطني، ثم قال شق قلبه فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم،
ثم قال: اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاءة، ثم دعا بالسكينة
فأدخلت قلبي، ثم قال خط بطنه فخاط بطني فما هو إن وليا حتى كأنما أعاين
الامر» «7» .
وروى أنس بن مالك قال: لما حان أن ينبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
ينام حول الكعبة وكانت قريش تنام حولها فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا بأيهم
أمرنا فقالا أمرنا بسيدهم ثم ذهبا وجاءا من القابلة وهم ثلاثة فألفوه وهو
نائم فقلبوه لظهره وشقوا بطنة ثم جاءوا لماء من زمزم فغسلوا ما كان في بطنه
من شك أو ضلالة
__________
(5) الهتوف: الهاتف من الجن أو الملائكة.
(6) تقديسه من الأرجاس: طهارته من الأدناس.
(7) كأنما أعاين الأمر: كأني أراه الآن أمام عيني.
(1/236)
أو جاهلية، ثم جاءوا بطست من ذهب قد ملئت
إيمانا وحكمة فملىء بطنه وجوفه إيمانا وحكمة وهو يوافق لحديث أبي ذر في
المعنى وإن خالفه في الصفة فتوارد في الرواية وهو إنذار بالنبوّة.
البشرى بالنبوة
والمنزلة الثالثة: البشرى بالنبوة من ملك أخبره بها عن ربه واختصت بشراه
بالأشعار وتجردت عن تكليف وإنذار لم يسمع بها وحيا ولا رأى معها شخصا،
وإنما كان إحساسا بالملك اقترن بآية دلت وأمارة ظهرت اكتفى بها عن مشاهدته
واستغنى بها عن نطقه ليعلم أنه من أنبياء الله تعالى فيتأهب لوحيه ويعان
بإمهاله فيكون على البلوى أصبر وللنعمة أشكر روى الشعبي وداود بن عامر أن
الله تعالى قرن إسرافيل بنبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يسمع
حسه ولا يرى شخصه ويعلمه الشيء بعد الشيء ولا ينزل عليه بالقرآن فكان في
هذه المدة مبشرا بالنبوة وغير مبعوث إلى الأمة فاحتمل أن يكون إمهاله فيها
معونة للرسول واحتمل أن يكون نظرا للأمة وأحتمل أن يكون لأوان المصلحة وليس
يمتنع أن يكون لجميعها فإنه أعلم بسر ما أخفى وأعرف بمعنى ما أظهر.
والمنزلة الرابعة: أن نزل عليه جبريل لوحي ربه حتى رأى شخصه وسمع مناجاته
فأخبره أنه نبي الله ورسوله واقتصر به على الأخبار ولم يأمره بالإنذار
ليعلمها بعد البشرى عيانا ويقطع بها يقينا فيكون معتقده بها أوثق وعلمه بها
أصدق فلا يعترضه وهم ولا يخالجه ريب.
روى الزهري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما فاجأه الحق أتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد أنت رسول الله قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فجثوت لركبتي وأنا قائم ثم رجعت ترجف
بوادري ثم دخلت على خديجة فقلت زملوني زملوني حتى ذهب عني ثم أتاني فقال يا
محمد أنا جبريل وأنت رسول الله، ثم قال إقرأ، قلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني
فغتني «8» ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد وقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ «9» فأتيت
__________
(8) غتني: ضمني بشدة.
(9) سورة العلق الآية (1) .
(1/237)
خديجة فقلت: لقد أشفقت على نفسي فأخبرتها
خبري، فقالت: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث
وتؤدي الأمانة وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت بي
إلى ورقة بن نوفل وكان ابن عمها وخرج في طلب الدين وقيل قرأ التوراة
والإنجيل وتنصر وقالت إسمع من ابن أخيك فسألني فأخبرته خبري فقال: هذا
الناموس الذي نزل على موسى عليه السلام يعني جبريل عليه السلام ليتني أكون
حيا حين يخرجك قومك قلت أو مخرجي هم قال نعم إنه لم يجىء رجل قط بما جئت به
إلّا عودي ولئن يدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا، ثم كان ما نزل عليّ من
القرآن بعد إقرأ: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ «10» ، ونزل عليه ذلك
ليزداد ثباتا ولنفسه استبصارا ولنعمة ربه شكرا.
وروى أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تخبرني
بصاحبك هذا إذا أتاك يعني جبريل عليه السلام قال نعم قالت فأخبرني به إذا
جاءك فجاءه جبريل فقال لها: «يا خديجة هذا جبريل قد جاء» ، قالت: قم فاجلس
على فخذي اليسرى فجلس عليها فقالت هل تراه، قال: «نعم» ، قالت فتحوّل على
فخذي اليمنى فتحوّل إليها فقالت: هل تراه قال: نعم، قالت فتحوّل في حجري
فتحوّل في حجرها قالت: هل تراه قال: «نعم» ، قال: فحسرت وألقت خمارها وهو
جالس في حجرها فقالت: هل تراه، قال: «لا» ، قالت: يا ابن عمي أثبت وأبشر
فوالله إنه لملك وما هو بشيطان وآمنت به فكانت أول من أسلم من جميع الناس
واستظهرت خديجة بما فعلته من هذا في حق نفسها لا في حق الرسول ولا استظهارا
عليه واكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصديق جبريل بما عاينته خديجة
من آياته المعجزة وكان ما نزل به جبريل في هذا الحال مقصورا على إخباره
بالنبوّة ليعلم أن الله تعالى قد اصطفاه لها فينقطع إليه ويوقف نفسه على ما
يؤمر به وينزل عليه فيكون لأوامره متبعا ولما يراد به متوقعا وأذن له في
ذكره وإن لم يؤذن له في إنذاره لقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
__________
(10) سورة القلم الآيات (1- 5) .
(1/238)
فَحَدِّثْ «11» أي بما جاءك من النبوة فكان
يذكرها مستسرا.
والمنزلة الخامسة: أن أمر بعد النبوّة بالإنذار فصار به رسولا ونزل عليه
القرآن بالأمر والنهي فصار به مبعوثا ولم يؤمر بالجهر وعموم الإنذار ليختص
بمن أمنه ويشتد بمن أجابه فنزل عليه قول الله تعالى: يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
«12» فتمت نبوّته بالوحي والإنذار وإن كان في استسرار وكان ذلك في يوم
الاثنين من شهر رمضان.
قال هشام بن محمد: أول ما تلقاه جبريل في ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر له
برسالته في يوم الاثنين.
وروى أبو قتادة: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل عليّ
فيه النبوّة واختلف في أي اثنين كان من شهر رمضان» ، فقال أبو قلابة: كان
في الثامن عشر منه.
وقال أبو الخلد: كان في الرابع والعشرين منه وهو ابن أربعين سنة في قول
الأكثرين لأربعين سنة مضت من عام الفيل وزعم قوم أنه كان ابن ثلاث وأربعين
سنة.
قال هشام بن محمد: وذلك لعشرين سنة من ملك كسرى ابرويز.
وقال غيره: لست عشرة سنة من ملكه.
ثم روي أن جبريل عليه السلام نزل عليه في يوم الثلاثاء ثاني النبوّة وهو
بأعلى مكة فهمّ بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل منها
ليريه كيف الطهور فتوضأ مثل وضوئه ثم قام جبريل فصلى وصلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بصلاته فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه ثم انصرف جبريل فجاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت وصلى بها كما
صلى به جبريل فكانت أول من توضأ بعده وصلى واستسر بالإنذار من يأمنه.
__________
(11) سورة الضحى الآية (11) .
(12) سورة المدثر الآيات (1- 7) .
(1/239)
واختلف في أول من أسلم بعد خديجة على ثلاثة
أقاويل:
أحدها: أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أول من أسلم من الذكور وصلى
وهو ابن تسع سنين وقيل ابن عشر وهذا قول جابر بن عبد الله وزيد بن أسلم.
وروى يحيى بن عفيف عن أبيه قال: جئت في الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس
بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس وتحلقت في السماء، أقبل شاب فرمى ببصره إلى
السماء واستقبل الكعبة فقام مستقبلها، فلم يلبث أن جاء غلام فقام عن يمينه
فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب وركع الغلام والمرأة ورفع
الشاب فرفع الغلام والمرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه فقلت للعباس، يا
عباس، أمر عظيم هل تدري من هذا، قال العباس:
نعم، هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، وهذا علي بن أبي طالب ابن أخي، وهذه
خديجة ابنة خويلد زوجة ابن أخي، وهذا حدثني أن رب السماء أمره بهذا الذي
تراهم عليه، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير
هؤلاء الثلاثة.
والقول الثاني: أن أول من أسلم وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وهذا قول
ابن عباس وأبي أمامة الباهلى.
وروى أبو أمامة عن عمرو بن عنبسة السلمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو نازل بعكاظ فقلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: تبعني
عليه رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال، قال: فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني إذ ذلك
ربع الإسلام، وقال الشعبي: سألت ابن عباس من أول الناس إسلاما؟
فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
والقول الثالث: أن أول من أسلم زيد بن حارثة وهذا قول عروة بن
(1/240)
الزبير وسليمان بن يسار، وجعل أبو بكر يدعو
إلى الإسلام من يثق به لأنه كان تاجرا ذا خلق ومعروف وكان أنسب قريش لقريش
وأعلمهم بما كانوا عليه من خير وشر حسن التأليف لهم، وكانوا يكثرون غشيانه،
فأسلم على يديه عثمان ابن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوّام وسعد
بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين استجابوا له بالإسلام وصلّوا فصاروا مع من تقدم ثمانية نفر هم أول
من أسلم وصلّى، وقيل أنه أسلم معهم سعيد بن العاص وأبو ذر، ثم تتابع الناس
في الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم على استسراره بالدعاء وإن انتشرت
دعوته في قريش.
والمنزلة السادسة: أن أمر أن يعم بالإنذار بعد خصوصه ويجهر بالدعاء إلى
الإسلام بعد استسراره، فأنزل الله تعالى عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «13» فجهر بالدعاء، قال ابن إسحاق: ذلك بعد
ثلاث سنين من مبعثه، وأمر أن يبدأ بعشيرته الأقربين فقال تعالى: وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الصفافهتف: يا صباحاه يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف حتى ذكر الأقرب
فالأقرب من قبائل قريش فاجتمعوا إليه وقالوا: ما لك؟ قال: أرأيتكم لو
أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أما كنتم تصدقوني؟ قالوا:
بلى، ما جربنا عليك كذبا، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ، فقال
أبو لهب تبا له ألهذا جمعتنا، ثم قام فأنزل الله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ «14» إلى آخر السورة، قال ابن إسحاق: ولم يكن في قريش في
دعائه لهم مباعدة له ولكن ردوا عليه بعض الرد حتى ذكر آلهتهم وعابها وسفّه
أحلامهم في عبادتها، فلما فعل ذلك أجمعوا على خلافه وتظاهروا بعداوته إلّا
من عصمه الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستحقرون فصار بعموم الإنذار
والجهر بالدعاء إلى التوحيد والإسلام عام النبوّة مبعوثا إلى كافة الأمة
فكمل الله تعالى بذلك نبوّته وتمم به رسالته فصدع بأمره وقام بحقه وجاهد
بإنذاره وعم بدعائه
__________
(13) سورة الحجر الآية (94) .
(14) سورة المسد الآية (1) .
(1/241)
وجاهد في الله حق جهاده حتى خصم قريشا حين
جادلوه وصابرهم حين عاندوه وجمهم غفير وجمعهم كثير إلى أن علت كلمته وظهرت
دعوته وكابد من الشدائد ما لم يثبت عليها إلّا معصوم ولا يسلم منها إلّا
منصور، وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق لأن الله لا يهدي كيد
الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين.
فصل [في شرعه ص]
فأما شرعه من الدين فالشرع بعد التوحيد يشتمل على قسمين: عبادات وأحكام،
فأما العبادات فلم يشرع منها مدة مقامه بمكة إلّا الطهارة والصلاة حين علمه
جبريل الوضوء والصلاة وكانت فرضا عليه وسنّة لأمته لقول الله تعالى: يا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ
انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ «15» فكان هذا حكمها في حقه
وحقوق أمته إلى أن فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه من المسجد الحرام إلى
المسجد الأقصى وذلك في السنة التاسعة من نبوته فصارت الصلوات الخمس فرضا
عليه وعلى أمته ولم يفرض ما سواها من العبادات حتى هاجر إلى المدينة وصارت
له بالإسلام دارا وصار أهلها أنصارا، فأول ما فرض بالمدينة من العبادات بعد
فرض الصلوات الخمس بمكة صيام شهر رمضان في الثانية من الهجرة في شعبان،
وفيها حوّلت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وفرض فيها زكاة الفطر، وشرع
فيها صلاة العيد، وكان فرض الجمعة قد تم في أول الهجرة بدلا من صلاة الظهر
ثم فرضت زكاة الأموال بعد ظهور القوة وسد الخلة ثم الحج والعمرة، وأما
الأحكام فما أوجبته قضايا العقول من تحريم القتل والزنا كان مشروعا بمكة مع
ظهور إنذاره وما تردد في قضايا العقول بين فعله وتركه كف عن الحكم فيه
بتحليل أو تحريم أو حظر أو إباحة أو استحباب أو كراهة فلم يحلل بمكة حلالا
ولا حرم بها حراما حتى هاجر منها، فحلل بعد الهجرة وحرم وأباح وحظر لأنه
كان بمكة مغلوبا باستيلاء قريش عليها وكانت دار شرك لا ينفذ فيها أحكامه
فلم يحلل ولم يحرم حتى صار بالمدينة في دار إسلام تنفذ فيها أحكامه فبيّن
ما حلل وحرم وبيّن ما
__________
(15) سورة المزمل الآيات (1- 4) .
(1/242)
أباح وحظر وبيّن ما يصح من القول ويفسد،
ولذلك كان بمكة مسالما وبالمدينة محاربا، فكانت الحكمة موافقة لأفعاله
والتوفيق معاضدا لأقواله وإن كان مأمورا بها كما قال الله تعالى: وَما
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «16» لكن لحسن قيامه
بها وموافقة الصواب في مواضعها تظهر آثار حكمته في صحة حزمه وصدق عزمه.
فهذه جملة متفقة في أعلام نبوّته وقاعدة مستقرة في ترتيب رسالته وأحكام
شريعته، فأما أحكام جهاده في حروبه وغزواته فسنذكره في كتاب نفرده في سيرته
نوضح به مواقع أعلامه ومبادىء أحكامه، وبالله تعالى التوفيق.
نحمدك أن أطلعت شموس السعادة، بكوكب المجد وأس السيادة، وأظهرت من أعلام
نبوّته ما كبت أهل الضلالة، ومحا ظلم الكفر فلم ينل أحد من النبيين ما
ناله، سيدنا محمد ذات الآيات المعجزة الجمة، المبعوث رحمة للأمة، صلى الله
عليه وسلم وعلى آله، وصحابته التابعين ومن على منواله.
وبعد.. فقد تم طبع أعلام النبوة، المشتمل على سيرة المصطفى على ما يزيل
الغمة، ألا وهو نسيج من سارت الركبان بتآليفه، العلامة الماوردي ذو اليد
الطولى في تحبيره وتصنيفه، قامت بطبعه على نفقتها دار ومكتبة الهلال جزاها
الله تعالى على هذا الصنع الجميل أحسن جزاء، بجاه النبي وآله البررة
الأتقياء.
تم والحمد لله
__________
(16) سورة النجم الآيتان (3- 4) .
(1/243)
فهرس كتاب أعلام النبوة
مقدمة الناشر 5
تقديم 7
الباب الأول: في مقدمة الأدلة 17
علم الإكتساب 17
الضرورة والدليل 18
أحكام العقل 19
أحكام السمع 19
الباب الثاني: في معرفة الإله المعبود 21
قول النصارى 25
معنى الوحدانية 26
الباب الثالث: في صحة التكليف 29
تعريفات 29
وجوب التكليف 30
شرعية التكليف/ الأمر والإرادة 31
شروط صحة الأمر/ وقت الأمر/ أبواب الأمر 32
الباب الرابع: في إثبات النبوات 35
الأنبياء عليهم السلام 35
إختلاف منكر والنبوة 36
(1/244)
جواز لنبوات 39
إثبات النبوات 41
حجج الأنبياء 42
المعجزات والنبوة/ الإدراك والمعاينة 45
الوحي والنبوة 46
شروط التبليغ 48
أسلوب التبليغ 49
النبي والرسول 50
وجوب التبليغ 51
الباب الخامس: في مدة العالم وعدة الرسل 53
خلق الله سبحانه لآدم 55
آدم وأبناؤه 58
من إدريس إلى عيسى عليهما السلام 61
فصل في عمر الدنيا إلى قيام الساعة 63
ما بين موسى وعيسى عليهما السلام 65
الباب السادس: في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم 69
الباب السابع: فيما تضمنه القرآن من أنواع الإعجاز 73
وجوه الإعجاز:
الإعجاز في التركيب اللغوي 74
الإعجاز في المعاني 75
الإعجاز في الأسلوب 76
الإعجاز في الإيجاز وجزالة المعنى 78
الإعجاز العلمي 78
الإعجاز في الدلائل والبراهين 79
الإعجاز في الإخبار عن الماضي 80
الإعجاز بالإخبار عن الغيب 80
الإعجاز بالإخبار عما في النفوس من أسرار 81
الإعجاز في الألفاظ 81
(1/245)
الإعجاز في التلاوة 82
الإعجاز في كونه معصوما من الزلل 83
الإعجاز في شمولية معانيه 84
الإعجاز في تماسك بيانه 85
الإعجاز في عدم القدرة على الإحاطة بمعانيه 85
الإعجاز في سهولة حفظه 86
الإعجاز في عدم القدرة على الإتيان بمثله 86
الإعجاز في عدم القدرة على الزيادة فيه 87
الإعجاز في العجز عن معارضته 88
الإعجاز في الصرف عن معارضته 89
جامع الإعجاز 90
القرآن كلام رب العالمين 91
الباب الثامن: في معجزات عصمته صلى الله عليه وسلم 95
في أعلام عصمته 95
الباب التاسع: فيما شوهد من معجزات أفعاله 103
الباب العاشر: فيما سمع من معجزات أقواله 111
أقسام مجيء الأخبار 113
الباب الحادي عشر: فيما أكرم به صلى الله عليه وسلم من إجابة أدعيته 127
الباب الثاني عشر: في إنذاره صلى الله عليه وسلم بما سيحدث بعده 135
الباب الثالث عشر: في معجزه صلى الله عليه وسلم بما ظهر من البهائم 139
الباب الرابع عشر: في ظهور معجزه صلى الله عليه وسلم من الشجر والجماد 143
الباب الخامس عشر: في بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه
وسلم 149
فصل من البشائر به 150
من بشائر نوال بن نوتال من أنبياء بني إسرائيل 152
من بشائر عويديا من أنبياء بني إسرائيل 152
من بشائر ميخاء 153
من بشائر حبقوق 153
من بشائر حزقيال 153
(1/246)
من بشائر يرصفينا 154
من بشائر زكريا 154
من بشائر دانيال 154
من بشائر في رؤيا بختنصر 155
من بشائر أرميا بن برخنا 156
من بشائر داود في الزبور 157
من بشائر المسيح به في الإنجيل 157
الباب السادس عشر: في هتوف الجن بنبوته صلى الله عليه وسلم 163
هتوف الجن 168
الباب السابع عشر: فيما هجست به النفوس من إلهام العقول 173
الباب الثامن عشر: في مبادىء نسبه وطهارة مولده صلى الله عليه وسلم 185
طهارة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم 201
الباب التاسع عشر: في آيات مولده وظهور بركته صلى الله عليه وسلم 205
مولد الرسول صلى الله عليه وسلم 209
طفولته صلى الله عليه وسلم 210
نشأته صلى الله عليه وسلم 211
في كفالة أبي طالب 211
شبابه صلى الله عليه وسلم 212
الباب العشرون: في شرف أخلاقه وكمال فضائله صلى الله عليه وسلم 215
وجوه كماله صلى الله عليه وسلم 216
إعتدال صورته صلى الله عليه وسلم 216
طلاقته صلى الله عليه وسلم 216
ميل القلوب إليه صلى الله عليه وسلم 216
ميل النفوس إليه صلى الله عليه وسلم 217
الوجه الثاني في كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم 217
رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم 217
ثباته صلى الله عليه وسلم في الشدائد 217
زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا 218
(1/247)
تواضعه صلى الله عليه وسلم للناس 221
حلمه ووقاره صلى الله عليه وسلم 221
حفظ العهد والوفاء صلى الله عليه وسلم 222
الوجه الثالث في فضائل أقواله 222
حكمته صلى الله عليه وسلم 223
حفظه صلى الله عليه وسلم لما أطلعه الله عليه 223
إحكامه لما شرع صلى الله عليه وسلم 223
أمره صلى الله عليه وسلم بمحاسن الأخلاق 224
وضوح جوابه صلى الله عليه وسلم 224
حفظه لسانه صلى الله عليه وسلم 225
بيانه صلى الله عليه وسلم 225
فصاحته صلى الله عليه وسلم 225
كلامه صلى الله عليه وسلم 226
فضائل أفعاله صلى الله عليه وسلم 228
حسن سيرته صلى الله عليه وسلم 228
الرغبة والرهبة 228
العدل 228
أمره بالاعتدال صلى الله عليه وسلم 229
إيضاحه صلى الله عليه وسلم العبادات 229
جهاده صلى الله عليه وسلم 230
شجاعته صلى الله عليه وسلم 230
سخاؤه وجوده صلى الله عليه وسلم 231
الباب الحادي والعشرون: في مبدإ بعثته واستقرار نبوته صلى الله عليه وسلم
233
حبه الخلاء صلى الله عليه وسلم 234
أحواله صلى الله عليه وسلم، الرؤيا الصادقة 235
طهارته صلى الله عليه وسلم 236
البشرى بالنبوة 237
(1/248)
|