الروض
الأنف ت السلامي
استيلاء قوم كنانة وخزاعة على البيت ونفي جرهم :
بغي جرهم بمكة وطرد بني بكر لهم:
ثم إن جرهما بغوا بمكة، واستحلوا خلالا من الحرمة فظلموا من دخلها من
غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، فرق أمرهم. فلما رأت بنو
بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم
من مكة. فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من
مكة. وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغي فيها
أحد إلا أخرجته فكانت تسمى: الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا
هلك مكانه فيقال إنها ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة
إذا أحدثوا فيها شيئا.
ـــــــ
فيها ما يهدى إليها، فلما فسد أمر جرهم سرقوا مال الكعبة مرة بعد مرة
فيذكر أن رجلا منهم دخل البئر ليسرق مال الكعبة، فسقط عليه حجر من شفير
البئر فحبسه فيها، ثم أرسلت على البئر حية لها رأس كرأس الجدي سوداء
المتن بيضاء البطن فكانت تهيب من دنا من بئر الكعبة، وقامت في البئر -
فيما ذكروا - نحوا من خمسمائة عام وسنذكر قصة رفعها عند بنيان الكعبة
إن شاء الله.
بين جرهم وخزاعة: فصل:
فلما كان من بغي جرهم ما كان وافق تفرق سبأ من أجل سيل العرم، ونزول
حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكة، وذلك بأمر طريفة الكاهنة وهي
امرأة عمرو بن مزيقياء1 وهي من حمير، وبأمر عمران بن عامر أخي عمرو،
وكان كاهنا أيضا، فنزلها هو وقومه فاستأذنوا جرهما أن يقيموا بها
أياما، حتى يرسلوا الرواد ويرتادوا منزلا حيث رأوا من البلاد فأبت
عليهم جرهم، وأغضبوهم حتى أقسم حارثة ألا يبرح مكة إلا عن قتال وغلبة
فحاربتهم جرهم،
ـــــــ
1 في "جمهرة" ابن حزم: عمرو مزيقياء بن عامر السماء. انظر: ص453.
في "الاشتقاق" لابن دريد: ولد حارثة عامراً وهو ماء السماء، وولد عامر
عمراً، وهو مزيقياء، فعمرو هو مزيقياء لا ابن مزيقياء. انظر: ص435.
(2/11)
بكة لغة:
قال ابن هشام: أخبرني أبو عبيدة:
أن بكة اسم لبطن مكة، لأنهم يتباكون فيها، أي يزدحمون وأنشدني:
إذا الشريب أخذته أكه1 ... فخله حتى يبك بكه
أي فدعه حتى يبك إبله أي يخليها إلى الماء فتزدحم عليه. وهو موضع البيت
والمسجد. وهذان البيتان لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن
تميم.
قال ابن إسحاق: فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة
وبحجر الركن فدفنهما في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن،
فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا، فقال عمرو بن
الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر:
ـــــــ
فكانت الدولة لبني حارثة عليهم واعتزلت بنو إسماعيل، فلم تكن مع أحد من
الفريقين فعند ذلك ملكت خزاعة - وهم بنو حارثة - مكة، وصارت ولاية
البيت لهم وكان رئيسهم عمرو بن لحي الذي تقدم ذكره قبل فشرد بقية جرهم،
فسار فلهم في البلاد وسلط عليهم الذر والرعاف2 وأهلك بقيتهم السيل بإضم
حتى كان آخرهم موتا امرأة ريئت تطوف بالبيت بعد خروجهم منها بزمان
فعجبوا من طولها وعظم خلقتها، حتى قال لها قائل أجنية أنت أم إنسية؟
فقالت بل إنسية من جرهم، وأنشدت رجزا في معنى حديثهم واستكرت بعيرا من
رجلين من جهينة، فاحتملاها على البعير إلى أرض خيبر، فلما أنزلاها
بالمنزل الذي رسمت لهما، سألاها عن الماء فأشارت لهما إلى موضع الماء
فوليا عنها، وإذا الذر قد تعلق بها، حتى بلغ خياشيمها وعينيها، وهي
تنادي بالويل والثبور حتى دخل حلقها، وسقطت
ـــــــ
1 الأكة: شدة الحر، وقيل، وقيل: شددة الألم.
2 الذر: صغار النحل، والرعاف: الدم.
(2/12)
وقائلة والدمع
سكب مبادر ... وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لها والقلب مني كأنما ... يلجلجه بين الجناحين طائر
بلى نحن كنا أهلها، فأزالنا ... صروف الليالي، والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحي غيرنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤه منا، ونحن الأصاهر
فإن تنثن الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا، وفي التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك - يا للناس - تجري المقادر
أقول إذا نام الخلي، ولم أنم ... إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير ويحابر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر
ـــــــ
لوجهها، وذهب الجهنيان إلى الماء فاستوطناه فمن هنالك صار موضع جهينة
بالحجاز وقرب المدينة، وإنما هم من قضاعة، وقضاعة: من ريف العراق.
غربة الحارث بن مضاض: فصل: رجع الحديث. وكان الحارث بن مضاض بن عمرو بن
سعد بن الرقيب بن هي بن نبت بن جرهم الجرهمي قد نزل بقنونا من أرض
الحجاز، فضلت له إبل فبغاها حتى أتى الحرم، فأراد دخوله ليأخذ إبله
فنادى عمرو بن لحي من وجد جرهميا، فلم يقتله قطعت يده فسمع بذلك الحارث
وأشرف على جبل من جبال مكة، فرأى إبله تنحر ويتوزع لحمها، فانصرف بائسا
خائفا ذليلا، وأبعد في الأرض وهي غربة الحارث بن مضاض التي تضرب بها
المثل حتى قال الطائي:
(2/13)
وتبكي لبيت ليس
يؤذى حمامه ... يظل به أمنا، وفيه العصافر
وفيه وحوش - لا ترام - أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر
ـــــــ
غربة تقتدي بغربة قيس ب ... ن زهير والحارث بن مضاض1
وحينئذ قال الحارث الشعر الذي رسمه ابن إسحاق وهو قوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
الشعر، وفيه:
ونبكي لبيت ليس يؤذى حمامه ... تظل به أمنا، وفيه العصافر
أراد: العصافير وحذف الياء ضرورة ورفع العصافير على المعنى، أي وتأمن
فيه العصافير وتظل به أمنا، أي ذات أمن ويجوز أن يكون أمنا جمع آمن مثل
ركب جمع: راكب وفيه ولم يسمر بمكة سامر السامر اسم الجماعة يتحدثون
بالليل وفي التنزيل {سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون 67] والحجون2
بفتح الحاء على فرسخ وثلث من مكة، قال الحميدي: كان سفيان ربما أنشد
هذا الشعر فزاد فيه بعد قوله: فليست تغادر:
ولم يتربع واسطا وجنوبه ... إلى السر من وادي الأراكة حاضر3
وأبدلني ربي بها دار غربة ... بها الجوع باد والعدو المحاصر
واسط وعامر وجرهم: قال الحميدي: واسط: الجبل الذي يجلس عنده المساكين
إذا ذهبت إلى منى. وقوله فيه:
لا يبعد سهيل وعامر
ـــــــ
1 غربة بفتح الغين: النوى والبعد، وبضمها: النزوح عن الوطن.
2 والحجون كما في "المراصد": بأعلى مكة عند مقبرة أهلها.
3 واسط: قيل: إن العرب سبعة مواضع، يقال لكل منها: واسط.
(2/14)
قال ابن هشام:
"فأبناؤه منا", عن غير ابن إسحاق.
__________
عامر جبل من جبال مكة، يدل على ذلك قول بلال رضي الله عنه وهل يبدون لي
عامر وطفيل1. على رواية من رواه هكذا، وجرهم هذا هو الذي تتحدث بها
العرب في أكاذيبها، وكان من خرافاتها في الجاهلية أن جرهما ابن لملك
أهبط من السماء لذنب أصابه فغضب عليه من أجله كما أهبط هاروت وماروت ثم
ألقيت فيه الشهوة فتزوج امرأة فولدت له جرهما، قال قائلهم:
لا هم إن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا
[بهم قديما عمرت بلادكا]2
من كتاب "الأمثال" للأصبهاني.
مكة وأسماؤها: فصل وذكر مكة وبكة وقد قيل في بكة ما ذكره من أنها تبك
الجبابرة أي تكسرهم وتقدعهم وقيل من التباك وهو الازدحام ومكة من تمككت
العظم إذا اجتذبت ما فيه من المخ وتمكك الفصيل ما في ضرع الناقة فكأنها
تجتذب إلى نفسها ما في البلاد من الناس والأقوات التي تأتيها في
المواسم وقيل لما كانت في بطن واد فهي تمكك الماء من جبالها وأخاشبها
عند نزول المطر وتنجذب إليها السيول وأما قول الراجز الذي أنشده ابن
هشام:
إذا الشريب أخذته أكه ... فخله حتى يبك بكه3
فالأكة: الشدة، وإكاك الدهر: شدائده.
وذكر أنه كان يقال لها: الناسة، وهو من نست الشيء إذا أذهبته، والرواية
في
ـــــــ
1 طفيل: جبل بمكة.
2 ما بين قوسين عن الطبري: 2/285.
3 في "اللسان": مك –وزن رد- الفصيل ما في الضرع أمه يمكه –وزن يرد-
مكاً وامتك ومكمكة: امتص جميع ما فيه وشربه كله.
(2/15)
قال ابن إسحاق:
وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكرا وغبشان وساكني مكة الذين خلفوا
فيها بعدهم:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا1
ـــــــ
"الكتاب" بالنون وذكر الخطابي [في غريبه] أنه يقال لها: الباسة أيضا
بالباء وهو من {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً} [الواقعة: 15]، أي فتت
وثريت، كما يثرى السويق، قال الراجز:
لا تخبزا خبزا وبسا بسا
يقول: لا تشتغلا بالخبز وثريا الدقيق والتقماه2. يقال: إن هذا البيت
للص أعجله الهرب.
وذكر أبو عبيدة أن الخبز شدة السوق، والبس: ألين منه وبعده:
ما ترك السير لهن نسا
ومن أسماء مكة أيضا: الرأس وصلاح وأم رحم وكوثى، وأما التي يخرج منها
الدجال فهي كوثى ربا3 ومنها كانت أم إبراهيم عليه السلام وقد تقدم
اسمها، وأبوها هو الذي احتفر نهر كوثى، قاله الطبري.
أسطورة: فصل: وذكر قول الحارث بن مضاض:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا4
وذكر ابن هشام أنها وجدت بحجر باليمن ولا يعرف قائلها، وألفيت في كتاب
أبي بحر سفيان بن العاصي خبرا لهذه الأبيات وأسنده أبو الحارث محمد بن
أحمد
ـــــــ
1 قصركم: نهايتكم وغايتكم.
2 ثرى الدقيق –فتح الثاء وتضعيف الراء- صب عليه الماء.
3 في "المراصد" كوثى: ثلاثة مواضع بسواد العراق بأرض بابل.
4 هي في "الطبري" 8/285 مع تقديم وتأخير.
(2/16)
................................................
ـــــــ
الجعفي عن عبد الله بن عبد السلام البصري قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم
بن سليمان التمار قال أخبرني ثقة عن رجل من أهل اليمامة، قال وجد في
بئر باليمامة ثلاثة أحجار وهي بئر طسم وجديس في قرية يقال لها: معنق
بينها وبين الحجر ميل وهم من بقايا عاد، غزاهم تبع، فقتلهم فوجدوا في
حجر من الثلاثة الأحجار مكتوبا:
يا أيها الملك الذي ... بالملك ساعده زمانه
ما أنت أول من علا ... وعلا شئون الناس شانه
أقصر عليك مراقبا ... فالدهر مخذول أمانه
كم من أشم معصب ... بالتاج مرهوب مكانه
قد كان ساعده الزما ... ن وكان ذا خفض جنانه
تجري الجداول حوله ... للجند مترعة جفانه
قد فاجأته منية ... لم ينجه منها اكتنانه
وتفرقت أجناده ... عنه وناح به قيانه
والدهر من يعلق به ... يطحنه مفترشا جرانه
والناس شتى في الهوى ... كالمرء مختلف بنانه
والصمت أسعد للفتى ... ولقد يشرفه بيانه
ووجد في الحجر الثاني مكتوبا أبيات:
كل عيش تعله ... ليس للدهر خله
يوم بؤسى ونعمى ... واجتماع وقله
حبنا العيش والتكا ... ثر جهل وضله
بينما المرء ناعم ... في قصور مظله
في ظلال ونعمة ... ساحبا ذيل حله
(2/17)
حثوا المطي
وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا1
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها. وحدثني بعض أهل العلم بالشعر: أن هذه
ـــــــ
لا يرى الشمس ملغضا ... رة إذ زل زله
لم يقلها، وبدلت ... عزة المرء ذله
آفة العيش والنع ... يم كرور الأهله
وصل يوم بليلة ... واعتراض بعله
والمنايا جواثم ... كالصقور المدله
بالذي تكره النف ... وس عليها مطله
وفي الحجر الثالث مكتوبا:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا
وذكر أبو الوليد الأزرقي في كتابه في "فضائل مكة" زيادة في هذه الأبيات
وهي:
قد مال دهر علينا ثم أهلكنا
... بالبغي فينا وبز الناس ناسونا
إن التفكر لا يجدي بصاحبه ... عند البديهة في علم له دونا
قضوا أموركم بالحزم إن لها ... أمور رشد رشدتم ثم مسنونا
واستخبروا في صنيع الناس قبلكم ... كما استبان طريق عنده الهونا
كنا زمانا ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا
ـــــــ
1 زاد بعضهم على هذه الأبيات:
إن التفكير لا يجدي لصاحبه ... عند البديهة في علم له دونا
فاستخبروا في صنيع الناس قبلكم ... كما استبان طريق عنده الهونا
كنا زماناً ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا
(2/18)
الأبيات أول
شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم لي
قائلها1.
__________
ووجد على حائط قصير بدمشق لبني أمية مكتوبا:
يا أيها القصر الذي كانت ... تحف به المواكب
أين المواكب والمض ... ارب والنجائب والجنائب
أين العساكر والدس ... اكر والمقانب والكتائب
ما بالهم لم يدفعوا ... لما أتت عنك النوائب
ما بال قصرك واهيا ... قد عاد منهد الجوانب
ووجد في الحائط الآخر من حيطانها جوابها:
يا سائلي عما مضى ... من دهرنا ومن العجائب
والقصر إذ أودى، فأضحى ... بعد منهد الجوانب
وعن الجنود أولي العقو ... د ومن بهم كنا نحارب
وبهم قهرنا عنوة ... من بالمشارق والمغارب
وتقول لم لم يدفعوا ... لما أتت عنك النوائب
هيهات لا ينجي من المو ... الكتائب والمقانب
ـــــــ
1 ويروى: أنه وجد في بئر باليمامة ثلاثة أحجار، فوجدوا في كل حجر من
الثلاثة مكتوباً هذه الأبيات.
(2/19)
|