الروض الأنف ت السلامي

حلف الفضول:
سبب تسميته كذلك:
قال ابن هشام: وأما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال:
__________
حلف الفضول:
وذكر ابن هشام الحلف الذي عقدته قريش بينها على نصرة كل مظلوم بمكة قال ويسمى حلف الفضول ولم يذكر سبب هذه التسمية وذكرها ابن قتيبة، فقال كان قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم، أحدهم: الفضل بن فضالة، والثاني: الفضل بن وداعة، والثالث:

(2/45)


تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، لشرفه وسنه. فكان حلفهم عنده بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن
ـــــــ
فضيل بن الحارث. هذا قول القتبي. قال الزبير: الفضيل بن شراعة والفضل بن وداعة، والفضل بن قضاعة، فلما أشبه حلف قريش الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمي حلف الفضول والفضول جمع فضل وهي أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم. وهذا الذي قاله ابن قتيبة حسن ولكن في الحديث ما هو أقوى منه وأولى. روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت. تحالفوا أن ترد الفضول1 على أهلها، وألا يعز ظالم مظلوما" . ورواه في مسند الحارث بن عبد الله بن أبي أسامة التميمي، فقد بين هذا الحديث لم سمي حلف الفضول وكان حلف الفضول بعد الفجار وذلك أن حرب الفجار2 كانت في شعبان وكان حلف الفضول في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب. وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاصي بن وائل وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصي بن وائل وزبروه أي انتهروه فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس3 عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ـــــــ
1 أي تحالفوا ألا يتركوا عند أحد فضلاً يظلمه أحداً إلا أخذوه له منه.
2 أيام الفجار كانت بين قيس وقريش وقيل: أيام الفجار: أيام وقائع كانت بين العرب تفاجروا فيها بعكاظ، فاستحلوا الحرمات.
3 جبل بمكة سمي برجل من مذحج.

(2/46)


.........................................
ـــــــ
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر1
إن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر2
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال ما لهذا مترك فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياما، فتعاقدوا، وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه وقال الزبير رضي الله عنه:
حلفت لنقعدن حلفا عليهم
... وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا ... يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نمنع كل عار
وقال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تحالفوا، وتعاقدوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاهدوا، وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم
وذكر قاسم بن ثابت في غريب الحديث أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمرا، أو حاجا، ومعه بنت له يقال لها: القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه
ـــــــ
1 في "التجريد": بين الركن والحجر.
2 في "التجريد" بعد البيت السابق ورد هذا البيت:
أقائم من بني سهم بذمتهم ... أم ذاهب في ضلال مال معتمر

(2/47)


مرة فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
ـــــــ
نبيه بن الحجاج1 وغيبها عنه فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل فقيل له عليك بحلف الفضول فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب وقد انتضوا أسيافهم يقولون جاءك الغوث، فما لك؟ فقال إن نبيها ظلمني في ابنتي، وانتزعها مني قسرا، فساروا معه حتى وقفوا على باب الدار فخرج إليهم فقالوا له أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه فقال أفعل ولكن متعوني بها الليلة فقالوا له لا والله ولا شخب لقحة2 فأخرجها إليهم وهو يقول:
راح صحبي ولم أحي القتولا ... لم أودعهم وداعا جميلا
إذ أجد الفضول أن يمنعوها ... قد أراني، ولا أخاف الفضولا
لا تخالي أني عشية راح الر ... كب هنتم علي ألا أقولا
في أبيات غير هذه ذكرها الزبير وذكر من قوله فيها أيضا:
حلت تهامة حلة ... من بيتها ووطائها
ولها بمكة منزل ... من سهلها وحرائها
أخذت بشاشة قلبه ... ونأت فكيف بنأيها
الحلف وابن جدعان:
فصل وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا
ـــــــ
1 هو نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب.انظر: "التجريد" ص1810.
2 أصل الشخب: ما خرج من الضرع من اللبن، واللقحة بكسر اللام وفتحها: الناقة القريبة العهد بالنتاج، أو الغزيرة اللبن.

(2/48)


حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول:
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول:
__________
ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت" 1 وعبد الله بن جدعان هذا تيمي هو ابن جدعان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم يكنى: أبا زهير ابن عم عائشة - رضي الله عنها - ولذلك قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – "إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال لا إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" أخرجه مسلم. ومن غريب الحديث لابن قتيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي يعني: في الهاجرة وسميت الهاجرة صكة عمي لخبر ذكره أبو حنيفة في الأنواء أن عميا رجل من عدوان، وقيل من إياد، وكان فقيه العرب في الجاهلية فقدم في قوم معتمرا أو حاجا: فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في مثل ذلك الوقت وأنشد:
وصك بها عين الظهيرة غائراً ... عمي ولم ينعلن إلا ظلالها
في أبيات وعمي: تصغير أعمى على الترخيم فسميت الظهيرة صكة عمي به. وقال البكري في شرح الأمثال عمي: رجل من العماليق أوقع بالعدو في مثل ذلك الوقت فسمي ذلك الوقت صكة عمي والذي قاله أبو حنيفة أولى، وقائله أعلى. وقال يعقوب عمي الظبي يتحير بصره في الظهيرة من شدة الحر. قال ابن قتيبة:
ـــــــ
1 حديث حضور النبي صلى الله عليه وسلم مع عمومته حرب الفجار، وأنه رمي فيه حديث لا يعتد به لأنه ليس من الصحيح.
2 كل ما ذكره السهيلي هو في "اللسان" والبيت فيه هكذا:
وصك بها عين الظهيرة غائراً ... عمي ولم ينعلن إلا ظلالها

(2/49)


....................................................
ـــــــ
وكانت جفنته يأكل منها الراكب على البعير وسقط فيها صبي، فغرق أي مات. وكان أمية بن أبي الصلت قبل أن يمدحه قد أتى بني الديان من بني الحارث بن كعب فرأى طعام بني عبد المدان منهم لباب البر والشهد والسمن وكان ابن جدعان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن فقال أمية:
ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان1
فبلغ شعره عبد الله بن جدعان، فأرسل ألفي بعير إلى الشام، تحمل إليه البر والشهد والسمن وجعل مناديا ينادي على الكعبة: ألا هلموا إلى جفنة عبد الله بن جدعان، فقال أمية عند ذلك:
له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزى عليها ... لباب البر يلبك بالشهاد2
وكان ابن جدعان في بدء أمره صعلوكا ترب اليدين وكان مع ذلك شريرا فاتكا، ولا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه وحلف ألا يؤويه أبدا لما أثقله به من الغرم وحمله من الديات فخرج في شعاب مكة حائرا بائرا، يتمنى الموت أن ينزل به فرأى شقا في جبل فظن فيه حية فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح فلم ير شيئا، فدخل فيه فإذا فيه ثعبان عظيم له عينان تقدان كالسراجين. فحمل عليه الثعبان فأفرج له فانساب عنه مستديرا بدارة عندها بيت فخطا خطوة أخرى، فصفر به الثعبان وأقبل عليه كالسهم فأفرج عنه فانساب عنه قدما لا ينظر إليه فوقع في نفسه أنه مصنوع،
ـــــــ
1 السويق: طعام يتخذ من مدقوق البر والشعير سمي به لانسياقه في الحلق.
2 اشمل القوم في الطلب: بادروا فيه، وتفرقوا، والمشمعل: الناقة النشيطة. والردح: جمع رداح بفتح: الجفنة العظيمة، والشيزى أو الشيز: خشب أسود تصنع منه الجفان.

(2/50)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"
ـــــــ
فأمسكه بيده فإذا هو مصنوع من ذهب وعيناه ياقوتتان فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت فإذا جثث على سرر طوال لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رءوسهم لوح من فضة فيه تاريخهم وإذ هم رجال من ملوك جرهم، وآخرهم موتا: الحارث بن مضاض صاحب الغربة الطويلة وإذا عليهم ثياب لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمن وشعر مكتوب في اللوح فيه عظات آخر بيت منه:
صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب
وقال ابن هشام: كان اللوح من رخام وكان فيه أنا نفيلة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله عشت خمسمائة عام وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجيني من الموت وتحته مكتوب:
قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والمجد قالص الأثواب
وسريت البلاد قفرا لقفر ... بقناتي وقوتي واكتسابي
فأصاب الردى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صياب
فانقضت شرتي، وأقصر جهلي ... واستراحت عواذلي من عتابي
ودفعت السفاه بالحلم لما ... نزل الشيب في محل الشباب
صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب1
وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ ثم علم على الشق بعلامة وأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه
ـــــــ
1 القالص من الثياب: المشمر القصير. وبنات الفؤاد: طوائفه. والمنايا: جمع منية: الموت. وصياب: جمع صائب، كصاحب وصحاب. شرة الشباب: حرصه ونشاطه.

(2/51)


نازع الحسين الوليد في حق، وهدد بالدعوة إلى حلف الفضول:
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه:
أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين - في حقه لسلطانه فقال له الحسين أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لأدعون بحلف الفضول قال فقال عبد الله بن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين - رضي الله عنه - ما قال وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. قال فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
ـــــــ
بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف، ذكر حديث كنز ابن جدعان موصولا بحديث الحارث بن مضاض ابن هشام في غير هذا الكتاب ووقع أيضا في كتاب "ري العاطش وأنس الواحش" لأحمد بن عمار1.
وابن جدعان ممن حرم الخمر في الجاهلية بعد أن كان مغرى بها، وذلك أنه سكر فتناول القمر ليأخذه فأخبر بذلك حين صحا، فحلف لا يشربها أبدا، ولما كبر وهرم أراد بنو تميم أن يمنعوه من تبديد ماله ولاموه في العطاء فكان يدعو الرجل فإذا دنا منه لطمه لطمة خفيفة ثم يقول له قم فانشد لطمتك، واطلب
ـــــــ
1 لا ريب أنها أسطورة لا يحنو عليها قلب ولا عقل.

(2/52)


....................................................
ـــــــ
ديتها، فإذا فعل ذلك أعطته بنو تميم من مال ابن جدعان حتى يرضى، وهو جد عبيد الله بن أبي مليكة الفقيه. والذي وقع في هذا الحديث من ذكر نفيلة أحسبه نفيلة بالنون والفاء لأن بني نفيلة كانوا ملوك الحيرة، وهم من غسان، لا من جرهم، والله أعلم.
موقف الإسلام من الحلف:
فصل وذكر خبر الحسين مع الوليد بن عتبة، وقوله لآخذن سيفي، ثم لأدعون بحلف الفضول إلى آخر القصة وفيه من الفقه تخصيص أهل هذا الحلف بالدعوة وإظهار التعصب إذا خافوا ضيما، وإن كان الإسلام قد رفع ما كان في الجاهلية من قولهم يا لفلان عند التحزب والتعصب وقد سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم المريسيع1 رجلا يقول يا للمهاجرين وقال آخر يا للأنصار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "دعوها فإنها منتنة" وقال - صلى الله عليه وسلم – "من ادعى بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا" 2، ونادى رجل بالبصرة يا لعامر فجاءه النابعة الجعدي بعصبة له فضربه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - خمسين جلدة وذلك أن الله عز وجل جعل المؤمنين إخوة ولا يقال إلا كما قال عمر رضي الله عنه يا لله ويا للمسلمين لأنهم كلهم حزب واحد وإخوة في الدين إلا ما خص الشرع به أهل حلف الفضول والأصل في تخصيصه قوله - صلى الله عليه وسلم – "ولو دعيت به اليوم لأجبت" 3 يريد لو قال قائل
ـــــــ
1 مصغر مرسوع: بئر ماء لخزاعة من ناحية قديد إلى الساحل، وإليه تضاف غزوة بني المصطلق.
2 أي قولوا له: اعضض.. أبيك، ولا تكنوا عنه بالهن, والحديث رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب.
3 سبق الرأي في هذا الحديث، وهو أوهن من بيت العنكبوت. وإن افترضنا أنه حديث صحيح، فإننا نستطيع أن نفهم فيه معنى آخر يستقيم وهدى القرآن.

(2/53)


سأل عبد الملك محمد بن جبير عن عبد الشمس وبني نوفل ودخولهما في حلف الفضول، فأخبره بخروجهما منه:
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال:
قدم محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف - وكان محمد بن جبير أعلم قريش - فدخل على عبد الملك بن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك فلما دخل عليه قال له با أبا سعيد ألم نكن نحن وأنتم يعني بني عبد شمس بن عبد مناف وبني نوفل بن عبد مناف في حلف الفضول؟ قال أنت أعلم قال عبد الملك لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك فقال لا والله لقد خرجنا نحن وأنتم منه قال صدقت.
تم خبر حلف الفضول:
__________
من المظلومين يا لحلف الفضول لأجبت، وذلك أن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلومين فلم يزدد به هذا الحلف إلا قوة وقوله عليه السلام "وما كان من حلف في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة" ليس معناه أن يقول الحليف يا لفلان لحلفائه فيجيبوه، بل الشدة التي عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي راجعة إلى معنى التواصل والتعاطف والتآلف، وأما دعوى الجاهلية فقد رفعها الإسلام إلا ما كان من حلف الفضول كما قدمنا، فحكمه باق والدعوة به جائزة وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أن الحليف يعقل مع العاقلة إذا وجبت الدية لقوله - صلى الله عليه وسلم – "وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" ، ولقوله أيضا للذي حبسه في المسجد "إنما حبستك بجريرة حلفائك" .
عن أولاد عبد مناف:
"فصل: وذكر بني عبد مناف الأربعة وقد كان له ولد خامس وهو أبو عمرو،

(2/54)


ولاية هاشم الرفادة والسقاية وما كان يصنع إذا قدم الحاج:
قال ابن إسحاق فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة وكان مقلا ذا ولد وكان هاشم موسرا فكان - فيما يزعمون - إذا حضر الحج، قام في قريش فقال "يا معشر قريش إنكم جيران الله، وأهل بيته وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته وهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها ; فإنه - والله - لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه". فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم كل امرئ بقدر ما عنده فيصنع به للحجاج طعام حتى يصدروا منها.
ـــــــ
واسمه عبيد، درج1 ولا عقب له ذكره البرقي والزبير، وكذلك ذكر البرقي أن قصيا كان سمى ابنه عبد قصي، وقال سميته بنفسي وسميت الآخر بدار الكعبة، يعني: عبد الدار ثم إن الناس حولوا اسم عبد قصي، فقالوا: عبد بن قصي، وقال الزبير أيضا: كان اسم عبد الدار عبد الرحمن.
وذكر هاشما وما صنع في أمر الرفادة2 وإطعام الحجيج وأنه سمي هاشما لهشمه الثريد لقومه والمعروف في اللغة أن يقال ثردت الخبز فهو ثريد ومثرود فلم يسم ثاردا، وسمي هاشما، وكان القياس - كما لا يسمى الثريد هشيما، بل يقال فيه - ثريد ومثرود - أن يقال في اسم الفاعل أيضا كذلك ولكن سبب هذه التسمية يحتاج إلى زيادة بيان. ذكر أصحاب الأخبار أن هاشما كان يستعين على إطعام الحاج بقريش فيرفدونه بأموالهم ويعينونه ثم جاءت أزمة شديدة فكره أن يكلف قريشا أمر الرفادة فاحتمل إلى الشام بجميع ماله واشترى به أجمع كعكا ودقيقا، ثم أتى
ـــــــ
1 مضى ولم يخلف نسلاً: وفي "الطبقات ابن سعد" أن أولاد عبد مناف كانوا ستة نفر وست نسوة.
2 الرفادة: شيء كانت تترافد به قريش في الجاهلية، تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحجاج طعاماً وزبيباً.

(2/55)


شيء من أعمال هاشم:
وكان هاشم - فيما يزعمون - أول من سن الرحلتين لقريش رحلتي الشتاء والصيف وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة وإنما كان اسمه عمرا، فما سمي هاشما إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه فقال شاعر من قريش أو من بعض العرب:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الإيلاف
قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز:
قوم بمكة مسنتين عجاف
ولاية المطلب الرفادة والسقاية:
قال ابن إسحاق: ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرا،
__________
الموسم فهشم ذلك الكعك كله هشما، ودقه دقا، ثم صنع للحجاج طعاما شبه الثريد فبذلك سمي هاشما لأن الكعك اليابس لا يثرد وإنما يهشم هشما، فبذلك مدح حتى قال شاعرهم فيه وهو عبد الله بن الزبعرى:
كانت قريش بيضة فتفقأت ... فالمح خالصه لعبد مناف
الخالطين فقيرهم بغنيهم ... والطاعنين لرحلة الأضياف
والرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف1
وكان سبب مدح ابن الزبعرى بهذه الأبيات وهو سهمي2 لبني عبد مناف - فيما ذكره ابن إسحاق في رواية يونس - أنه كان قد هجا قصيا بشعر كتبه في أستار الكعبة، أوله:
ـــــــ
1 نسبها "اللسان" والمرتضى في "أماليه" 4/178 لمطرود بن كعب الخزاعي في رثاء عبد المطلب.
2 لأنه ابن الزبعرى بن قيس بن عدي بن سعد سهم.

(2/56)


فولي السقاية والرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم وكان ذا شرف في قومه وفضل وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته وفضله.
وكان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة، فتزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش.
قال ابن هشام:
ويقال الحريش بن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، فولدت له عمرو بن أحيحة وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته.
فولدت لهاشم عبد المطلب، فسمته شيبة فتركه هاشم عندها حتى كان
ـــــــ
ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ومشية مثل ما تمشي الشقارير
فاستعدوا عليه بني سهم فأسلموه إليهم فضربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة بالحجون1 فاستغاث قومه فلم يغيثوه فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم فأطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه فمدحهم بهذا الشعر وبأشعار كثيرة ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس.
عبد المطلب وابن ذي يزن:
فصل: وذكر نكاح هاشم سلمى بنت عمرو النجارية وولادتها له عبد المطلب بن هاشم، ومن أجل هذه الولادة قال سيف بن ذي يزن أو ابنه معدي كرب بن سيف
ـــــــ
1 في الأصل: الحجول وهو خطأ.

(2/57)


وصيفا، أو فوق ذلك ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه، فقالت له سلمى: لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب إني غير منصرف حتى أخرج به معي، إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه ونحن أهل بيت شرف في قومنا، نلي كثيرا من أمرهم وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم أو كما قال. وقال شيبة لعمه المطلب - فيما يزعمون - لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له ودفعته إليه فاحتمله فدخل به مكة مردفه معه على بعيره فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه فبها سمي شيبة عبد المطلب. فقال المطلب ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم قدمت به من المدينة.
موت المطلب وما قيل في رثائه من الشعر:
ثم هلك المطلب بردمان من أرض اليمن، فقال رجل من العرب يبكيه:
قد ظمئ الحجيج بعد المطلب ... بعد الجفان والشراب المنثعب1
ليت قريشا بعده على نصب
وقال مطرود بن كعب الخزاعي، يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعا حين أتاه نعي نوفل بن عبد مناف وكان نوفل آخرهم هلكا:
يا ليلة هيجت ليلاتي ... إحدى ليالي القسيات
__________
ملك اليمن لعبد المطلب حين وفد عليه ركب من قريش: مرحبا بابن أختنا، لأن سلمى من الخزرج، وهم من اليمن من سبأ، وسيف من حمير بن سبأ، ثم قال له مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، وملكا سبحلا، يعطي عطاء جزلا2. ثم بشره بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه من ولده فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سر وبر، ثم أجزل الملك حباءه وفضله على أصحابه وانصرف مغبوطا على ما أعطاه الملك فقال والله لما بشرني به أحب إلي من كل ما أعطاني. في خبر فيه طول.
ـــــــ
1 في "الطبري" عن سفيان بن معد يكرب: من الناس من يقول: إنه سيف ذي يزن. انظر: 2/135.
2 نسب القالي في "أماليه" هذا إلى عبد المطلب، وهو خطأ صوبه البكري في "التنبيه" ص114.

(2/58)


....................................................
ـــــــ
نسب أحيحة:
وذكر نسب أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبى، وقال ابن هشام: هو الحريس يعني. بالسين المهملة - وقال الدارقطني عن الزبير بن أبي بكر إن كل ما في الأنصار فهو حريس بالسين غير معجمة إلا هذا، ووجدت في حاشية كتاب أبي بحر - رحمه الله - صواب هذا الاسم يعني في نسب أحيحة بن الجلاح بن الحريش بالشين المعجمة على لفظ الحريش بن كعب البطن الذي في عامر بن صعصعة1.
فصل: وأنشد لمطرود بن كعب:
يا ليلة هيجت ليلاتي ... إحدى ليالي القسيات
أي: أنت إحدى ليالي القسيات. فعيلات من القسوة أي لا لين عندهن ولا رأفة فيهن ويجوز أن يكون عندهم من الدرهم القسي وهو الزائف وقد قيل في الدرهم القسي إنه أعجمي معرب وقيل هو من القساوة لأن الدرهم الطيب ألين من الزائف2 والزائف أصلب منه. ونصب ليلة على التمييز كذلك قال سيبويه في قول الصلتان3 العبدي:
أيا شاعرا لا شاعر اليوم مثله
وذلك أن في الكلام معنى التعجب.
ـــــــ
1 في "الاشتقاق": الحريش بالشين ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
2 في "اللسان": عام قسي: شديد ذو قحط لا مطر فيه.
3 الصلتان: لقب، وأصل الصلتان: النشيط الحديد الفؤاد من الخيل.

(2/59)


وما أقاسي من هموم وما ... عالجت من رزء المنيات
إذا تذكرت أخي نوفلا ... ذكرني بالأوليات
ذكرني بالأزر الحمر وال ... أردية الصفر القشيبات
أربعة كلهم سيد ... أبناء سادات لسادات
ميت بردمان وميت بسل ... مان وميت بين غزات
وميت أسكن لحدا لدى ال ... محجوب شرقي البنيات
أخلصهم عبد مناف فهم ... من لوم من لام بمنجاة
إن المغيرات وأبناءها ... من خير أحياء وأموات
وكان اسم عبد مناف المغيرة وكان أول بني عبد مناف هلكا: هاشم بغزة من
ـــــــ
وقوله وميت بغزات. هي غزة، ولكنهم يجعلون لكل ناحية أو لكل ربض1 من البلدة اسم البلدة فيقولون غزات في غزة، ويقولون في بغدان بغادين، كما قال بعض المحدثين:
شربنا في بغادين ... على تلك الميادين
ولهذا نظائر ستمر في الكتاب - إن شاء الله - ومن هذا الباب حكمهم للبعض بحكم الكل كما سموه باسمه نحو قولهم شرقت صدر القناة من الدم وذهبت بعض أصابعه وتواضعت سور المدينة. وقد تركبت على هذا الأصل مسألة من الفقه قال الفقهاء أو أكثرهم من حلف ألا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه فقد حنث فحكموا للبعض بحكم الكل وأطلقوا عليه اسمه. وفيه:
إن المغيرات وأبناءها ... من خير أحياء وأموات2
ـــــــ
1 ربض المدينة: ما حولها. وفي "الروض" ميت بغزوات، ولكن في "السيرة": ميت بن غزات.
2 في "الروض": وأبناؤها، والصواب ما أثبته من "السيرة".

(2/60)


أرض الشام، ثم عبد شمس بمكة ثم المطلب بردمان من أرض اليمن، ثم نوفل بسلمان من ناحية العراق.
فقيل لمطرود - فيما يزعمون - لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل مما قلت كان أحسن فقال أنظرني ليالي فمكث أياما، ثم قال:
يا عين جودي، وأذري الدمع وانهمري ... وابكي على السر من كعب المغيرات
يا عين واسحنفري بالدمع واحتفلي ... وابكي خبيئة نفسي في الملمات
وابكي على كل فياض أخي ثقة ... ضخم الدسية وهاب الجزيلات
محض الضريبة عالي الهم مختلق ... جلد النحيزة ناء بالعظيمات
صعب البديهة لا نكس ولا وكل ... ماضي العزيمة متلاف الكريمات
صقر توسط من كعب إذا نسبوا ... بحبوحة المجد والشم الرفيعات
ثم اندبي الفيض والفياض مطلبا ... واستخرطي بعد فيضات بجمات
أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا ... يا لهف نفسي عليه بين أموات
يبكينه مستكينات على حزن ... يا طول ذلك من حزن وعولات
يبكين لما جلاهن الزمان له ... خضر الخدود كأمثال الحميات
محتزمات على أوساطهن لما ... جر الزمان من إحداث المصيبات
أبيت ليلي أراعي النجم من ألم ... أبكي، وتبكي معي شجوي بنياتي
ـــــــ
فالمغيرات بنو المغيرة، وهو عبد مناف كما قالوا: المناذرة في بني المنذر والأشعرون في بني أشعر بن أدد كما قال علي بن عبد الله بن عباس في ابن الزبير آثر علي الحميدات والتويتات والأسامات يعني: بني حميد وبني تويت وبني أسامة وهم من بني أسد بن عبد العزى1.
ـــــــ
1 هم حميد بن أسامة بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي وتويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأسامة بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي.

(2/61)


وابكي - لك الويل - إما كنت باكية ... لعبد شمس بشرقي البنيات
وهاشم في ضريح وسط بلقعة ... تسفي الرياح عليه بين غزات
ونوفل كان دون القوم خالصتي ... أمسى بسلمان في رمس بموماة
لم ألق مثلهم عجما ولا عربا ... إذا استقلت بهم أدم المطيات1
أمست ديارهم منهم معطلة ... وقد يكونون زينا في السريات2
أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم ... أم كل من عاش أزواد المنيات
أصبحت أرضى من الأقوام بعدهم ... بسط الوجوه وإلقاء التحيات
يا عين فابكي أبا الشعث الشجيات ... يبكينه حسرا مثل البليات
يبكين أكرم من يمشي على قدم ... يعولنه بدموع بعد عبرات
يبكين شخصا طويل الباع ذا فجر ... آبي الهضيمة فراج الجليلات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه ... سمح السجية بسام العشيات
ما في القروم لهم عدل ولا خطر ... ولا لمن تركوا شروى بقيات
أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم ... خير النفوس لدى جهد الأليات
كم وهبوا من طمر سابح أرن ... من طمرة نهب في طمرات
ومن سيوف من الهندي مخلصة ... ومن رماح كأشطان الركيات
ومن توابع مما يفضلون بها ... عند المسائل من بذل العطيات
فلو حسبت وأحصى الحاسبون معي ... لم أقض أفعالهم تلك الهنيات
هم المدلون إما معشر فخروا ... عند الفخار بأنساب نقيات
زين البيوت التي خلوا مساكنها ... فأصبحت منهم وحشا خليات
أقول والعين لا ترقا مدامعها: ... لا يبعد الله أصحاب الرزيات
قال ابن هشام: الفجر العطاء قال أبو خراش الهذلي:
ـــــــ
1 الأدم من الأبل: البيض الكرام.
2 السريات: جمع سرية، وهي القطعة من الجيش أقصاها أربع مائة، تبعث إلى العدو، سموا بذلك لأنهم خيار الجيش.

(2/62)


عجف أضيافي جميل بن معمر ... بذي فجر تأوي إليه الأرامل
قال ابن إسحاق: أبو الشعث الشجيات هاشم بن عبد مناف.
ولاية عبد المطلب السقاية والرفادة:
قال ثم ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.
ـــــــ
وفيه "شرقي البنيات" يعني: البنية وهي الكعبة، وهو نحو مما تقدم في غزات.
وأنشد له في القصيدة التاوية: محض الضريبة، عالي الهم مختلق أي عظيم الخلق جلد النحيزة ناء بالعظيمات. ليس قوله ناء من النأي فتكون الهمزة فيه عين الفعل وإنما هو من ناء ينوء إذا نهض1 فالهمزة فيه لام الفعل كما هو في جاء عند الخليل فإنه عنده مقلوب ووزنه فالع والياء التي بعد الهمزة هي عين الفعل في جاء يجيء.
وفيه الشعث الشجيات. فشدد ياء الشجي وإن كان أهل اللغة قد قالوا: ياء الشجي مخففة وياء الخلي مشددة وقد اعترض ابن قتيبة على أبي تمام الطائي في قوله:
أيا ويح الشجي من الخلي ... وويح الدمع من إحدى بلي
واحتج بقول يعقوب في ذلك فقال له الطائي: ومن أفصح عندك: ابن الجرمقانية يعقوب أم أبو الأسود الدؤلي حيث يقول؟!.
ويل الشجي من الخلي فإنه ... وصب الفؤاد بشجوه مغموم
ـــــــ
1 ناء بالحمل: نهض به مثقلا، وناؤ به الحمل: إذا أثقله.

(2/63)


....................................................
ـــــــ
قال المؤلف: وبيت مطرود أقوى في الحجة من بيت أبي الأسود الدؤلي لأنه جاهلي محكك وأبو الأسود أول من صنع النحو فشعره قريب من التوليد ولا يمتنع في القياس أيضا أن يقال شجي وشج لأنه في معنى: حزن وحزين وقد قيل من شدد الياء فهو فعيل بمعنى مفعول1.
وفيه بعد قوله: أبا الشعث الشجيات. يبكينه حسرا مثل البليات. البلية الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها إذا مات حتى تموت جوعا وعطشا، ويقولون إنه يحشر راكبا عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلا، وهذا على مذهب من كان منهم يقول بالبعث وهم الأقل، ومنهم زهير فإنه قال:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وقال الشاعر في البلية:
والبلايا رءوسها في الولايا ... مانحات السموم حر الخدود2
والولايا: هي البراذع وكانوا يثقبون البرذعة فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة حتى تموت وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا:
لا تتركن أباك يحشر مرة ... عدوا يخر على اليدين وينكب
في أبيات ذكرها الخطابي:
وقوله قياما كالحميات. أي مخترقات الأكباد كالبقر أو الظباء التي حميت الماء وهي عاطشة فحمية بمعنى: محمية لكنها جاءت بالتاء لأنها أجريت مجرى
ـــــــ
1 رجل شج أي: جزين، وامرأة شجية، وفي مثل العرب: ويل للشجي من الخلي. ولو كان المثل: ويل الشجي بتخفيف الياء، لكان ينبغي أن يقال: ويل الشجي من المسيغ؛ لأن الإساغة ضد الشجا.
2 البيت في "اللسان" وأوله: كالبلايا، وقد نسبه صاحب "اللسان" إلى أبي زبيد، وهو حرملة بن المنذر بن معد يكرب الطائي شاعر جاهلي إسلامي، وكان نصرانياً، وزع الطبري أنه مات مسلماً.

(2/64)


....................................................
ـــــــ
الأسماء كالرمية والضحية والطريدة وفي معنى الحمي قول رؤبة:
قواطن مكة من ورق الحمي
يريد الحمام المحمي، أي: الممنوع.
وقوله: في رمس بموماة الأظهر فيه أن تكون الميم أصلية ويكون مما ضوعفت فاؤه وعينه وحمله على هذا الأصل أولى لكثرته في الكلام وإن كان أصل الميم أن تكون زائدة إذا كانت أول الكلمة الرباعية أو الخماسية إلا أن يمنع من ذلك اشتقاق ولا اشتقاق ههنا، أو يمنع من ذلك دخوله فيما قل من الكلام نحو قلق وسلس. قال أبو علي في المرمر حمله على باب قرقر وبربر أولى من حمله على باب قلق وسلس يريد إنك إن جعلت الميم زائدة كانت فاء الفعل - وهي الراء - مضاعفة دون عين الفعل وهي الميم وإذا جعلت الميم الأولى في مرمر أصلية كان من باب ما ضوعفت فيه الفاء والعين وهذا معنى قول سيبويه في المرمر مر وهو القياس المستتب، والطريق المهيع دون ما ضوعفت فيه الفاء وحدها، فتأمله.
وقوله: طويل الباع ذا فجر. الفجر الجود شبه بانفجار الماء. ويروى ذا فنع والفنع كثرة المال وقد قال أبو محجن الثقفي:
وقد أجود وما مالي بذي فنع ... وأكتم السر فيه ضربة العنق1
وقوله: بسام العشيات يعني: أنه يضحك للأضياف ويبسم عند لقائهم كما قال الآخر وهو حاتم الطائي:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ويخصب عندي، والمحل جديب2
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
ـــــــ
1 الفنع: الكرم والجود والفضل الكثير، ونشر الثناء الحسن.
2 من باب علم وضرب.

(2/65)