الروض الأنف ت السلامي

ذكر حفر زمزم وماجرى من الخلف فيها
...
ذكر حفر زمزم وما جرى من الخلف فيها:
الرؤيا التي أريها عبد المطلب في حفر زمزم:
ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتي فأمر بحفر زمزم.
قال ابن إسحاق: وكان أول ما ابتدئ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن زرير الغافقي: أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال:
قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة. قال قلت: وما طيبة؟ قال ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال احفر برة. قال فقلت: وما برة؟ قال ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال احفر المضنونة. قال قلت: وما المضنونة؟ قال ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال احفر زمزم. قال قلت: وما زمزم؟ قال لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل.
ـــــــ

(2/66)


حديث زمزم:
وكانت زمزم - كما تقدم - سقيا إسماعيل عليه السلام فجرها له روح القدس بعقبه وفي تفجيره إياها بالعقب دون أن يفجرها باليد أو غيره إشارة إلى أنها لعقبه وراثة وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته كما قال سبحانه { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف 43]. أي في أمة محمد - عليه السلام1 - ثم إن زمزم لما أحدثت جرهم
ـــــــ
1 قال ابن كثير في تفسيرها: هذه الكلمة هي عبادة الله لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي: لا إله إلا الله.

(2/66)


....................................................
ـــــــ
في الحرم، واستخفوا بالمناسك والحرم، وبغى بعضهم على بعض واجترم تغور ماء زمزم واكتتم فلما أخرج الله جرهما من مكة بالأسباب التي تقدم ذكرها عمد الحارث بن مضاض الأصغر إلى ما كان عنده من مال الكعبة، وفيه غزالان من ذهب وأسياف قلعية1 كان ساسان ملك الفرس قد أهداها إلى الكعبة، وقيل سابور وقد قدمنا أن الأوائل من ملوك الفرس كانت تحجها إلى عهد ساسان أو سابور فلما علم ابن مضاض أنه مخرج منها، جاء تحت جنح الليل حتى دفن ذلك في زمزم، وعفى عليها، ولم تزل دارسة عافيا أثرها، حتى آن مولد المبارك الذي كان يستسقى بوجهه غيث السماء وتتفجر من بنانه ينابيع الماء صاحب الكوثر والحوض الرواء فلما آن ظهوره أذن الله تعالى لسقيا أبيه أن تظهر ولما اندفن من مائها أن تجتهر فكان - صلى الله عليه وسلم - قد سقت الناس بركته قبل أن يولد وسقوا بدعوته وهو طفل حين أجدبت البلد وذلك حين خرج به جده مستسقيا لقريش وسيأتي بيان ذلك - فيما بعد إن شاء الله -
وسقيت الخليقة كلها غيوث السماء في حياته الفينة بعد الفينة والمرة بعد المرة، وتارة بدعائه وتارة من بنانه وتارة بإلقاء سهمه ثم بعد موته - عليه السلام - استشفع عمر بعمه - رضي الله عنهما - عام الرمادة. وأقسم عليه به وبنبيه فلم يبرح حتى قلصوا لمازر واعتلقوا الحذاء وخاضوا الغدران وسمعت الرفاق المقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم صائحا يصيح في السحاب أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث أبا حفص كل هذا ببركة المبتعث بالرحمتين والداعي إلى الحياتين الموعود بهما على يديه في الدارين - صلى الله عليه وسلم - صلاة تصعد ولا تنفد وتتصل ولا تنفصل وتقيم ولا تريم، إنه منعم كريم.
أسماء زمزم:
فصل: فأري عبد المطلب في منامه أن احفر طيبة، فسميت طيبة، لأنها
ـــــــ
1 نسبة إلى قلعة بفتح فسكون بلد بالهند.

(2/67)


للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وقيل له احتفر برة وهو اسم صادق عليها أيضا، لأنها فاضت للأبرار وغاضت عن الفجار وقيل له احفر المضنونة.
قال وهب بن منبه: سميت زمزم: المضنونة لأنها ضن بها على غير المؤمنين فلا يتضلع منها منافق وروى الدارقطني ما يقوي ذلك مسندا عن النبي - صلى الله عليه وسلم – "من شرب من زمزم فليتضلع فإنه فرق ما بيننا وبين المنافقين لا يستطيعون أن يتضلعوا1 منها" أو كما قال. وفي تسميتها بالمضنونة رواية أخرى، رواها الزبير أن عبد المطلب قيل له احفر المضنونة ضننت بها على الناس إلا عليك، أو كما قال.
العلامات التي رآها عبد المطلب وتأويلها:
ودل عليها بعلامات ثلاث بنقرة الغراب الأعصم وأنها بين الفرث والدم وعند قرية النمل، ويروى أنه لما قام ليحفرها رأى ما رسم من قرية النمل ونقرة الغراب ولم ير الفرث والدم فبينا هو كذلك ندت بقرة بجازرها، فلم يدركها، حتى دخلت المسجد الحرام، فنحرها في الموضع الذي رسم لعبد المطلب فسال هناك الفرث والدم فحفر عبد المطلب حيث رسم له.
ولم تخص هذه العلامات الثلاث بأن تكون دليلا عليها إلا لحكمة إلهية وفائدة مشاكلة في علم التعبير والتوسم الصادق لمعنى زمزم ومائها. أما الفرث والدم فإن ماءها طعام طعم وشفاء سقم وهي لما شربت له2 وقد تقوت من مائها أبو ذر
ـــــــ
1 تضلع: امتلأ شبعاً ورياً، والتضلع أيضاً: الامتلاء حتى تمتد أضلاعه، وقد روى هذا الحديث الدارقطني وابن ماجه.
2 روى الإمام أحمد: "ماء زمزم لما شرب منه" وروي: "ماء زمزم لما شرب له".

(2/68)


....................................................
ـــــــ
- رضي الله عنه - ثلاثين بين يوم وليلة فسمن حتى تكسرت عكنه [وما وجد على كبده سخفة جوع] فهي إذا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اللبن إذا شرب أحدكم اللبن فليقل "اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يسد مسد الطعام والشراب إلا اللبن" وقد قال الله تعالى في اللبن {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل 66]. فظهرت هذه السقيا المباركة بين الفرث والدم وكانت تلك من دلائلها المشاكلة لمعناها.
وأما قوله: الغراب الأعصم قال القتبي: الأعصم من الغربان الذي في جناحيه بياض وحمل على أبي عبيد لقوله في شرح الحديث الأعصم الذي في يديه بياض وقال كيف يكون للغراب يدان؟. وإنما أراد أبو عبيد أن هذا الوصف لذوات الأربع ولذلك قال إن هذا الوصف في الغربان عزيز وكأنه ذهب إلى الذي أراد ابن قتيبة من بياض الجناحين ولولا ذلك لقال إنه في الغربان محال لا يتصور. وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يغني عن قوليهما، وفيه الشفاء أنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "المرأة الصالحة في النساء كالغراب الأعصم". قيل يا رسول الله وما الغراب الأعصم؟ قال "الذي إحدى رجليه بيضاء". فالغراب في التأويل فاسق وهو أسود فدلت نقرته عند الكعبة على نقرة الأسود الحبشي بمعوله في أساس الكعبة يهدمها في آخر الزمان فكان نقر الغراب في ذلك المكان يؤذن بما يفعله الفاسق الأسود في آخر الزمان بقبلة الرحمن وسقيا أهل الإيمان وذلك عندما يرفع القرآن وتحيا عبادة الأوثان، وفي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" 1 وفي الصحيح أيضا من صفته أنه [أسود] أفحج [يقلعها حجرا حجرا] وهذا أيضا ينظر إلى كون الغراب أعصم إذ الفحج تباعد في
ـــــــ
1 الحديث متفق عليه: وعند أبي داود بسند ضعيف: "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة" والسويقتان مثنى سويقة: تصغير لساق، وهي مؤنثة.

(2/69)


....................................................
ـــــــ
الرجلين كما أن العصم اختلاف فيهما، والاختلاف تباعد وقد عرف بذي السويقتين كما نعت الغراب بصفة في ساقيه فتأمله وهذا من خفي علم التأويل لأنها كانت رؤيا، وإن شئت: كان من باب الزجر والتوسم الصادق والاعتبار والتفكير في معالم حكمة - الله تعالى - فهذا سعيد بن المسيب، وهو من هو علما وورعا حين حدث بحديث البئر في البستان وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قعد على قفها، ودلى رجليه فيها، ثم جاء أبو بكر - رضي الله عنه - ففعل مثل ذلك ثم جاء عمر - رضي الله عنه - ففعل مثل ذلك ثم جاء عثمان فانتبذ منهم ناحية وقعد حجرة1 . قال سعيد بن المسيب: فأولت ذلك قبورهم اجتمعت قبور الثلاثة وانفرد قبر عثمان - رضي الله عنه - والله سبحانه يقول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. فهذا من التوسم والفراسة الصادقة وإعمال الفكر في دلائل الحكمة واستنباط الفوائد اللطيفة من إشارات الشريعة. وأما قرية النمل، ففيها من المشاكلة أيضا، والمناسبة أن زمزم هي عين مكة التي يردها الحجيج والعمار من كل جانب فيحملون إليها البر والشعير وغير ذلك وهي لا تحرث ولا تزرع كما قال سبحانه خبرا عن إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} إلى قوله {وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم 37] وقرية النمل لا تحرث ولا تبذر وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب وفي مكة قال الله سبحانه {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل 112]. مع أن لفظ قرية النمل مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته، والرؤيا تعبر على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، فقد اجتمع اللفظ والمعنى في هذا التأويل - والله أعلم.
ـــــــ
1 قعد حجرة: أي ناحية.

(2/70)


....................................................
ـــــــ
من صفات زمزم:
وقد قيل لعبد المطلب في صفة زمزم: لا تنزف أبدا، ولا تذم1، وهذا برهان عظيم لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشي فنزحت من أجله فوجدوا ماءها يثور من ثلاثة أعين أقواها وأكثرها ماء من ناحية الحجر الأسود، وذكر هذا الحديث الدارقطني.
وقوله ولا تذم، فيه نظر وليس هو على ما يبدو من ظاهر اللفظ من أنها لا يذمها أحد، ولو كان من الذم لكان ماؤها أعذب المياه ولتضلع منه كل من يشربه، وقد تقدم في الحديث أنه لا يتضلع منها منافق فماؤها إذا مذموم عندهم وقد كان خالد بن عبد الله القسري أمير العراق يذمها، ويسميها: أم جعلان واحتفر بئرا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك وجعل يفضلها على زمزم، ويحمل الناس على التبرك بها دون زمزم جرأة منه على الله - عز وجل - وقلة حياء منه وهو الذي يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - على المنبر وإنما ذكرنا هذا، أنها قد ذمت فقوله إذا: لا تذم من قول العرب: بئر ذمة أي قليلة الماء فهو من أذممت البئر إذا وجدتها ذمة كما تقول أجبنت الرجل إذا وجدته جبانا، وأكذبته إذا وجدته كاذبا2، وفي التنزيل {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام 33] وقد فسر أبو عبيد في غريب الحديث قوله حتى مررنا ببئر ذمة. وأنشد:
مخيسة خزرا كأن عيونها ذمام ... الركايا أنكزتها المواتح3
ـــــــ
1 نزفت –بفتح النون والزاي- ماء البئر نزفاً: إذا نزحته كله، وعن ابن سيده: نزف البئر ينزفها وأنزفها بمعنى واحد، كلاهما نزحها.
2 يقول الطبري: أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب، وكذبته –بتضعيف الذال- إذا أخبرت أنه كاذب.
3 البيت لذي الرمة يصف إبلا غارت عيونها من الكلال.

(2/71)


عبد المطلب وابنه الحارث وما كان بينهما وبين قريش عند حفرهما زمزم:
قال ابن إسحاق: فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها. فلما بدا لعبد المطلب الطي، كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها. قال ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم فقالوا
ـــــــ
فهذا أولى ما حمل عليه معنى قوله. ولا تذم ; لأنه نفي مطلق وخبر صادق والله أعلم - وحديث البئر الذمة التي ذكرها أبو عبيد، حدثنا به أبو بكر بن العربي الحافظ قال أخبرنا القاضي أبو المطهر سعيد بن عبد الله بن أبي الرجاء قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة. قال حدثنا أبو النضر قال حدثنا سليمان عن حميد عن يونس عن البراء قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير فأتينا على ركي ذمة يعني: قليلة الماء قال فنزل فيها ستة - أنا سادسهم - ماحة فأدليت إلينا دلو قال ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الركي فجعلنا فيها نصفها، أو قريب ثلثيها، فرفعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فجئت بإنائي. هل أجد شيئا أجعله في حلقي، فما وجدت، فرفعت الدلو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغمس يده فيها، فقال ما شاء الله أن يقول - قال فأعيدت إلينا الدلو بما فيها، قال فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق. قال ثم ساحت يعني: جرت نهرا1.
اشتقاق مفازة:
وذكر حديث عبد المطلب في مسيره مع قريش إلى الكاهنة وذكر المفاوز التي
ـــــــ
1 أصل الحديث في الصحيح باختصار كثير في إحدى الغزوات، وهذا الذي في "الروض" رواه أحمد والطبراني، وقال الحافظ في "الفتح": قال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أثر عنه في عدة مواطن.

(2/72)


له فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا: كاهنة بني سعد هذيم قال نعم قال وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال والأرض إذ ذاك مفاوز. قال فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام، فني ماء عبد المطلب وأصحابه فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم من قبائل قريش، فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة - فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه - حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا، قالوا: نعم ما أمرت به. فقام كل واحد منهم فحفر حفرته ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا، لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها. فلما انبعثت به انفجرت من تحتها خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب، وكبر
ـــــــ
عطشوا فيها. المفاوز جمع مفازة وفي اشتقاق اسمها ثلاثة أقوال. روي عن الأصمعي أنها سميت مفازة على جهة التفاؤل لراكبها بالفوز والنجاة ويذكر عن ابن الأعرابي أنه قال سألت أبا المكارم لم سميت الفلاة مفازة؟ فقال لأن راكبها إذا قطعها وجاوزها فاز. وقال بعضهم معناها: مهلكة لأنه يقال فاز الرجل وفوز وفاد وفطس إذا هلك. وذكر في غير رواية علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - ثم ادع بالماء الروي غير الكدر يقال ماء روى بالكسر والقصر ورواء بالفتح والمد1 وفيه
ـــــــ
1 روي كغني: وروي مثل: إلي، ورواه مثل سماء: كثير مرو.

(2/73)


أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش، فقال هلم إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فجاءوا، فشربوا واستقوا. ثم قالوا: قد - والله - قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا. فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها.
قال ابن إسحاق: فهذا الذي بلغني من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في زمزم، وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:
ثم ادع بالماء الروي غير الكدر ... يسقي حجيج الله في كل مبر1
ليس يخاف منه شيء ما عمر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر لكم زمزم، فقالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال لا. قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك. فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتي فقيل له احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم وهي تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم
ـــــــ
الجمع واسم الجمع:
يسقى حجيج الله في كل مبر. الحجيج جمع حاج. وفي الجموع على وزن فعيل كثير كالعبيد والبقير والمعيز والأبيل وأحسبه اسما للجمع لأنه لو كان جمعا له واحد من لفظه لجرى على قياس واحد كسائر الجموع وهذا يختلف واحده فحجيج واحده حاج، وعبيد واحده عبد وبقير2 واحده بقرة [ومعيز واحده ماعز] إلى غير ذلك فجائز أن يقال إنه اسم للجمع غير أنه موضوع للكثرة ولذلك
ـــــــ
1 مبر: يريد مناسك الحج ومواضع الطاعة، وهو مفعل من البر.
2 في "اللسان": البقير اسم للجميع، أما الأبيل –بفتح الهمزة وكسر الباء- فالحزمة من الحشيش

(2/74)


تكون ميراثا وعقدا محكما، ليست كبعض ما قد تعلم وهي بين الفرث والدم.
قال ابن هشام: هذا الكلام والكلام الذي قبله من حديث علي في حفر زمزم من قوله "لا تنزف أبدا ولا تذم" إلى قوله "عند قرية النمل" عندنا سجع وليس شعرا.
قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال وأين هي؟ قيل له عند قرية النمل، حيث ينقر الغراب غدا. والله أعلم أي ذلك كان.
فعدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها. بين الوثنين إساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها. فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش حين رأوا جده فقالوا: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث ذد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به. فلما عرفوا أنه نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا، حتى بدا له الطي، فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من
ـــــــ
لا يصغر على لفظه كما تصغر أسماء الجموع فلا يقال في العبيد عبيد، ولا في النخيل: نخيل بل يرد إلى واحده كما ترد الجموع في التصغير فيقال نخيلات وعبيدون وإذا قلت: نخيل أو عبيد، فهو اسم يتناول الصغير والكبير من ذلك الجنس قال الله سبحانه {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} [الرعد: 4] وقال {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت 46] وحين ذكر المخاطبين منهم قال العباد وكذلك قال حين ذكر الثمر من النخيل: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] وقال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] فتأمل الفرق بين الجمعين في حكم البلاغة واختيار الكلام، وأما في مذهب أهل اللغة فلم يفرقوا هذا التفريق ولا نبهوا على هذا الغرض الدقيق.
ـــــــ
=والحطب، والإبيل بكسر الهمزة وتضعيف الباء مع كسرها: القطعة من الطير والخيل، وقيل هي مفرد أبابيل، وربما كانت إبلاً.

(2/75)


ذهب وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قلعية1 وأدراعا فقالت له قريش يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق، قال لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح قالوا: وكيف تصنع؟ قال أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن خرج له قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش ثم أعطوا صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل - وهبل صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم وهو الذي يعني أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين قال أعل هبل أي أظهر دينك - وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل فضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب وتخلف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب
__________
شروح:
وقوله: في كل مبر هو مفعل من البر يريد في مناسك الحج ومواضع الطاعة.
وقوله: مثل نعام جافل لم يقسم. الجافل من جفلت الغنم إذا انقلعت بجملتها، ولم يقسم أي لم يتوزع ولم يتفرق.
وقوله ليس يخاف منه شيء ما عمر. أي ما عمر هذا الماء فإنه لا يؤذي، ولا يخاف منه ما يخاف من المياه إذا أفرط في شربها، بل هو بركة على كل حال وعلى هذا يجوز أن يحمل قوله لا تنزف ولا تذم عاقبة شربها، وهذا تأويل سائغ أيضا على ما قدمناه من التأويل وكلاهما صحيح في صفتها.
وقوله: وضرب [في الباب] الغزالين2 حلية الكعبة، وهو أول ذهب حليت به
ـــــــ
1 قلعية: نسبة إلى القلعة: قيل: جبل بالشام، وقيل بالهند، وقيل نسبة إلى جزيرة في بحر الهند.
2 ما بين القوسين زيادة من "السيرة"

(2/76)


الأسياف بابا للكعبة وضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة - فيما يزعمون ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج.
ـــــــ
الكعبة، وقد قدمنا ذكر الغزالين ومن أهداهما إلى الكعبة، ومن دفنهما من جرهم، وتقدم أن أول من كسا الكعبة: تبع، وأنه أول من اتخذ لها غلقا إلى أن ضرب لها عبد المطلب باب حديد من تلك الأسياف واتخذ عبد المطلب حوضا لزمزم يسقى منه فكان يخرب له بالليل حسدا له فلما غمه ذلك قيل له في النوم قل لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل1 وقد كفيتم فلما أصبح قال ذلك فكان بعد من أرادها بمكروه رمي بداء في جسده حتى انتهوا عنه. ذكره الزهري في "سيره".
ـــــــ
1 بل: شفاء، وقيل: بل: مباح بلغة حمير.

(2/77)