الروض الأنف ت السلامي

حديث بنيان الكعبة وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش في وضع الحجر:
سبب بنيان قريش للكعبة:
قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت ردما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنزا للكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويكا مولى لبني
ـــــــ
بنيان الكعبة:
ففي خبرها أنها كانت رضما فوق القامة. الرضم أن تنضد الحجارة بعضها على بعض من غير ملاط1 كما قال:
رزئتهم في ساعة جرعتهم ... كؤوس المنايا تحت صخر مرضم
وقوله فوق القامة كلام غير مبين لمقدار ارتفاعها إذ ذاك وذكر غيره أنها كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل ولم يكن لها سقف فلما بنتها قريش قبل الإسلام زادوا فيها تسع أذرع، فكانت ثماني عشرة ذراعا، ورفعوا بابها عن
ـــــــ
1 الطين يجعل بين ساقي ا لبناء، ويملط به الحائط.

(2/169)


مليح بن عمرو من خزاعة. قال ابن هشام: فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم، فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل1 قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتتشرق2 على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت3 وفتحت فاها، وكانوا يهابونها، فبينا هي ذات يوم تتشرق على جدار الكعبة، كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية.
ما حدث لأبي وهب عند بناء قريش الكعبة:
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم. قال ابن هشام: عائذ بن عمران بن مخزوم. فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه. فقال يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة عبد الله بن عمر بن مخزوم.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي:
أنه رأى ابنا لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو يطوف بالبيت فسأل عنه
ـــــــ
1 وكان اسم ذلك الرجل: باقوم، وقيل: باقوم. راجع "الإصابة".
2 تتشرق: تبرز للشمس، ويقال: تشرقت: إذا قعدت للشمس لا يحجبك عنها شيء.
3 احزألت: رفعت رأسها. وكشت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.

(2/170)


فقيل هذا ابن لجعدة بن هبيرة فقال عبد الله بن صفوان عند ذلك جد هذا، يعني: أبا وهب الذي أخذ حجرا من الكعبة حين أجمعت قريش لهدمها، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال عند ذلك يا معشر قريش: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبا. لا تدخلوا فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.
قرابة أبي وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وأبو وهب خال أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شريفا، وله يقول شاعر من العرب
ولو يأبى وهب أنخت مطيتي ... غدت من نداه رحلها غير خائب
بأبيض من فرعي لؤي بن غالب ... إذا حصلت أنسابها في الذوائب
أبي لأخذ الضيم يرتاح للندى ... توسط جداه فروع الأطايب
عظيم رماد القدر يملا جفانه ... من الخبز يعلوهن مثل السبائب
تجزئة الكعبة بين قريش، ونصيب كل فريق منها:
ثم إن قريشا جزأت1 الكعبة، فكان شق الباب2 لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ابني عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي، ولبني أسد بن العزى بن قصي، ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم3.
الوليد بن المغيرة وهدم الكعبة، وما وجدوه تحت الهدم:
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها، وهو يقول اللهم لم ترع4 - قال ابن هشام: ويقال لم نزغ - اللهم إنا لا نريد إلا الخير ثم هدم من ناحية الركنين فتربص
ـــــــ
1 في سائر الأصول: تجزأت: أي تقسمها بينهم.
2 الشق: الناحية والجانب.
3 قيل: سمي حطيماً، لأن الناس يزدحمون فيه حتى يحطم بعضهم بعضاً.
4 لم ترع: لم تفزع. والضمير يعود على مكة.

(2/171)


الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله صنعنا، فهدمنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها بعضا.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا من قريش، ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
__________
الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم وقد ذكرنا أول من عمل لها غلقا، وهو تبع. ثم لما بناها ابن الزبير زاد فيها تسع أذرع، فكانت سبعا وعشرين ذراعا، وعلى ذلك هي الآن وكان بناؤها في الدهر خمس مرات. الأولى: حين بناها شيث بن آدم والثانية حين بناها إبراهيم على القواعد الأولى، والثالثة حين بنتها قريش قبل الإسلام بخمسة أعوام والرابعة حين احترقت في عهد ابن الزبير بشرارة طارت من أبي قبيس، فوقعت في أستارها، فاحترقت وقيل إن امرأة أرادت أن تجمرها، فطارت شرارة من المجمر في أستارها، فاحترقت فشاور ابن الزبير في هدمها من حضره فهابوا هدمها، وقالوا: نرى أن تصلح ما وهى، ولا تهدم. فقال لو أن بيت أحدكم احترق لم يرض له إلا بأكمل صلاح. ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها. فهدمها حتى أفضى إلى قواعد إبراهيم فأمرهم أن يزيدوا في الحفر. فحركوا حجرا فرأوا تحته نارا وهولا. أفزعهم فأمرهم أن يقروا القواعد وأن يبنوا من حيث انتهى الحفر. وفي الخبر أنه سترها حين وصل إلى القواعد فطاف الناس بتلك الأستار فلم تخل قط من طائف حتى لقد ذكر أن يوم قتل ابن الزبير اشتدت الحرب واشتغل الناس فلم ير طائف يطوف بالكعبة إلا جمل يطوف بها، فلما استتم بنيانها، ألصق بابها بالأرض وعمل لها خلفا أي بابا آخر من ورائها، وأدخل الحجر فيها، وذلك لحديث حدثته به خالته عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألم تري قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم حين عجزت بهم النفقة" ثم قال عليه السلام: "لولا حدثان عهد قومك بالجاهلية

(2/172)


......................................................
ـــــــ
لهدمتها، وجعلت لها خلفا1 وألصقت بابها الأرض وأدخلت فيها الحجر" أو كما قال - عليه السلام - قال ابن الزبير فليس بنا اليوم عجز عن النفقة فبناها على مقتضى حديث عائشة فلما قام عبد الملك بن مروان، قال لسنا من تخليط أبي خبيب2 بشيء فهدمها وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ من بنيانها جاءه الحارث بن أبي ربيعة المعروف بالقباع3 وهو أخو عمر بن أبي ربيعة الشاعر ومعه رجل آخر فحدثاه عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث المتقدم فندم وجعل ينكت في الأرض بمخصرة في يده ويقول وددت أني تركت أبا خبيب وما تحمل من ذلك فهذه المرة الخامسة فلما قام أبو جعفر المنصور، وأراد أن يبنيها على ما بناها ابن الزبير وشاور في ذلك فقال مالك بن أنس: أنشدك الله يا أمير المؤمنين وأن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره4 فتذهب هيبته من قلوب الناس فصرفه عن رأيه فيه وقد قيل إنه بني في أيام جرهم مرة أو مرتين لأن السيل كان قد صدع حائطه ولم يكن ذلك بنيانا على نحو ما قدمنا، إنما كان إصلاحا لما وهى منه وجدارا بني بينه وبين السيل بناه عامر الجارود وقد تقدم هذا الخبر، وكانت الكعبة قبل أن يبنيها شيث عليه السلام خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس إليها ; لأنها أنزلت إليه من الجنة وكان قد حج إلى موضعها من الهند، وقد قيل إن آدم هو أول من بناها، ذكره ابن إسحاق في غير رواية البكائي. وفي الخبر أن موضعها كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض فلما بدأ الله
ـــــــ
1 وردت في معناه أحاديث رواها البخاري ومسلم وغيرها.
2 هو عبد الله بن الزبير ويقال عنه عن ابنه أو أخيه مصعب: الخبيبان.
3 القباع: مكيال ضخم.
4 نقل النووي وعياض أن هذا الحديث حصل للرشيد أو أبيه المهدي، وأن مالكاً قال: مالك يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها.

(2/173)


......................................................
ـــــــ
بخلق الأشياء خلق التربة قبل السماء فلما خلق السماء وقضاهن سبع سموات دحا الأرض أي بسطها، وذلك قوله سبحانه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 3] وإنما دحاها من تحت مكة ; ولذلك سميت أم القرى، وفي التفسير أن الله سبحانه حين قال للسموات والأرض {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] لم تجبه بهذه المقالة من الأرض إلا أرض الحرم، فلذلك حرمها. وفي الحديث أن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض فصارت حرمتها كحرمة المؤمن لأن المؤمن إنما حرم دمه وعرضه وماله بطاعته لربه وأرض الحرم لما قالت أتينا طائعين حرم صيدها وشجرها وخلاها إلا الإذخر فلا حرمة إلا لذي طاعة جعلنا الله ممن أطاعه.
سبب آخر لبنيان البيت:
وروي في سبب بنيان البيت خبر آخر وليس بمعارض لما تقدم وذلك أن الله سبحانه لما قال لملائكته {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30].
خافوا أن يكون الله عاتبا عليهم لاعتراضهم في علمه فطافوا بالعرش سبعا، يسترضون ربهم ويتضرعون إليه فأمرهم سبحانه أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا، قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا، كل بيت منها منا صاحبه أي في مقابلته لو سقطت لسقطت بعضها على بعض.
حول بناء الكعبة مرة أخرى:
روي أيضا أن الملائكة حين أسست الكعبة انشقت الأرض إلى منتهاها،

(2/174)


......................................................
ـــــــ
وقذفت فيها حجارة أمثال الإبل فتلك القواعد من البيت التي رفع إبراهيم وإسماعيل فلما جاء الطوفان رفعت وأودع الحجر الأسود أبا قبيس1.
وذكر ابن هشام أن الماء لم يعلها حين الطوفان ولكنه قام حولها، وبقيت في هواء إلى السماء2 وأن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت إنكم في حرم الله وحول بيته فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة وجعل بينهم وبين السماء حاجزا، فتعدى حام، فدعا عليه نوح أن يسود لون بنيه فاسود كوش بن حام ونسله إلى يوم القيامة وقد قيل في سبب دعوة نوح على حام غير هذا، والله أعلم.
وذكر في الخبر عن ابن عباس، قال أول من عاذ بالكعبة حوت صغير خاف من حوت كبير فعاذ منه بالبيت وذلك أيام الطوفان. ذكره يحيى بن سلام فلما نضب ماء الطوفان كان مكان البيت ربوة من مدرة وحج إليه هود وصالح ومن آمن معهما، وهو كذلك3.
ويذكر أن يعرب قال لهود عليه السلام ألا نبنيه؟ قال إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي يتخذه الرحمن خليلا، فلما بعث الله إبراهيم وشب إسماعيل بمكة أمر إبراهيم ببناء الكعبة، فدلته عليه السكينة وظللت له على موضع البيت فكانت عليه كالجحفة4 وذلك أن السكينة من شأن الصلاة فجعلت علما على قبلتها حكمة من الله سبحانه5، وبناه عليه السلام من خمسة أجبل كانت الملائكة تأتيه بالحجارة
ـــــــ
1 ليس لكل ما قاله عن الملائكة هنا سند صحيح، ولم يرد حديث طواف الملائكة هنا سوى أبو الفرج في كتابه "مثير الغرام"
2 كلام لا سند له.
3 لم يرد هذا في نقل صحيح.
4 بقية الماء في جوانب الحوض.
5 مرة أخرى يينى على أسطورة رأياً، وحديث السكينة له سند صحيح.

(2/175)


......................................................
ـــــــ
منها، وهي طور تينا، وطور زيتا اللذين بالشام والجودي وهو بالجزيرة1 ولبنان2 وحراء وهما بالحرم كل هذا جمعناه من آثار مروية. وانتبه لحكمة الله كيف جعل بناءها من خمسة أجبل فشاكل ذلك معناها ; إذ هي قبلة للصلاة الخمس وعمود الإسلام وقد بني على خمس وكيف دلت عليه السكينة إذ هو قبلة للصلاة والسكينة من شأن الصلاة. قال عليه السلام: "وأتوها وعليكم السكينة" فلما بلغ إبراهيم الركن جاءه جبريل بالحجر الأسود من جوف أبي قبيس وروى الترمذي عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال " أنزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم" وروى الترمذي أيضا من طريق عبد الله بن عمرو مرفوعا أن الركن الأسود والركن اليماني ياقوتتان من الجنة ولولا ما طمس من نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب وفي رواية غيره لأبرآ من استلمهما من الخرس والجذام والبرص وروى غير الترمذي من طريق علي رحمه الله أن العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين مسح ظهره ألا يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود ; ولذلك يقول المستلم له إيمانا بك، ووفاء بعهدك، وذكر هذا الخبر الزبير وزاد عليه أن الله سبحانه أجرى نهرا أطيب من اللبن وألين من الزبد فاستمد منه القلم الذي كتب العهد قال وكان أبو قبيس يسمى: الأمين لأن الركن كان مودعا فيه وأنه نادى إبراهيم حين بلغ بالبنيان إلى موضع الركن فأخبره عن الركن فيه ودله على موضعه منه وانتبه من هاهنا إلى الحكمة في أن سودته خطايا بني آدم دون غيره من حجارة الكعبة وأستارها، وذلك أن العهد الذي فيه هي الفطرة التي فطر الناس عليها من توحيد الله فكل مولود يولد على تلك الفطرة وعلى ذلك الميثاق فلولا أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه حتى يسود قلبه بالشرك لما حال عن العهد فقد صار قلب ابن آدم محلا لذلك العهد
ـــــــ
1 يعني جزيرة ابن عمر في شرقي دجلة من أعمال الموصل.
2 في "المراصد" لبنان جبلان قرب مكة يقال لهما، لبن الأسفل ولبن الأعلى.

(2/176)


......................................................
ـــــــ
والميثاق وصار الحجر محلا لما كتب فيه من ذلك العهد والميثاق فتناسبا، فاسود من الخطايا قلب ابن آدم بعدما كان ولد عليه من ذلك العهد واسود الحجر بعد ابيضاضه وكانت الخطايا سببا في ذلك حكمة من الله سبحانه فهذا ما ذكر في بنيان الكعبة ملخصا، منه ما ذكر الماوردي ومنه ما ذكره الطبري، ومنه ما وقع في كتاب التمهيد لأبي عمر ونبذ أخذتها من كتاب فضائل مكة لرزين بن معاوية ومن كتاب أبي الوليد الأزرقي في أخبار مكة، ومن أحاديث في المسندات المروية وسنورد في باقي الحديث بعض ما بلغنا في ذلك مستعينين بالله.
وأما الركن اليماني فسمي باليماني - فيما ذكر القتبي - لأن رجلا من اليمن بناه اسمه أبي بن سالم وأنشد:
لنا الركن من بيت الحرام وراثة ... بقية ما أبقى أبي بن سالم
حول بناء المسجد الحرام:
وأما المسجد الحرام فأول من بناه عمر بن الخطاب، وذلك أن الناس ضيقوا على الكعبة، وألصقوا دورهم بها، فقال عمر إن الكعبة بيت الله ولا بد للبيت من فناء وإنكم دخلتم عليها، ولم تدخل عليكم فاشترى تلك الدور من أهلها وهدمها، وبنى المسجد المحيط بها، ثم كان عثمان فاشترى دورا أخرى، وأغلى في ثمنها، وزاد في سعة المسجد فلما كان ابن الزبير زاد في إتقانه لا في سعته وجعل فيه عمدا من الرخام وزاد في أبوابه وحسنها، فلما كان عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع حائط المسجد وحمل إليه السواري في البحر إلى جدة، واحتملت من جدة على العجل إلى مكة، وأمر الحجاج بن يوسف فكساها الديباج وقد كنا قدمنا أن ابن الزبير كساها الديباج قبل الحجاج ذكره الزبير بن بكار، وذكرنا أيضا أن خالد بن جعفر بن كلاب ممن كساها الديباج قبل الإسلام ثم كان الوليد بن عبد الملك فزاد في حليها، وصرف في ميزابها وسقفها ما كان في مائدة

(2/177)


......................................................
ـــــــ
سليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة وكانت قد احتملت إليه من طليطلة من جزيرة الأندلس وكانت لها أطواق من ياقوت وزبرجد وكانت قد احتملت على بغل قوي فتفسخ تحتها، فضرب منها الوليد حلية للكعبة فلما كان أبو جعفر المنصور وابنه محمد المهدي زاد أيضا في إتقان المسجد وتحسين هيئته ولم يحدث فيه بعد ذلك عمل إلى الآن. وفي اشتراء عمر وعثمان الدور التي زادا فيها دليل على أن رباع أهل مكة ملك لأهلها، يتصرفون فيها بالبيع والشراء إذا شاءوا، وفي ذلك اختلاف.
كنز الكعبة والنجار القبطي:
فصل: وذكر ابن إسحاق دويكا الذي سرق كنز الكعبة، وتقدم أن سارقا سرق من مالها في زمن جرهم، وأنه دخل البئر التي فيها كنزها فسقط عليه حجر فحبسه فيها، حتى أخرج منها، وانتزع المال منه ثم بعث الله حية لها رأس كرأس الجدي بيضاء البطن سوداء المتن فكانت في بئر الكعبة خمسمائة عام فيما ذكر رزين وهي التي ذكرها ابن إسحاق، وكان لا يدنو أحد من بئر الكعبة إلا احزألت1 أي رفعت ذنبها، وكشت أي صوتت.وذكر ابن إسحاق أن سفينة رماها البحر إلى جدة، فتحطمت وذكر غيره عن ابن منبه أن سفينة خجتها الريح إلى الشعيبة وهو مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز، وهو كان مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. والشعيبة بضم الشين ذكره البكري، وفسر الخطابي خجتها: أي دفعتها بقوة من الريح الخجوج أي الدفوع.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة نجار قبطي، وذكر غيره أنه كان علجا2 في
ـــــــ
1 في الأصل، وفي "شرح السيرة" للخشني: احزألت بالخاء، وهو خطأ صوبته من "اللسان" و "القاموس".
2 الرجل من كفار العجم.

(2/178)


......................................................
ـــــــ
السفينة التي خجتها الريح إلى الشعيبة وأن اسم ذلك النجار ياقوم1 وكذلك روي أيضا في اسم النجار الذي عمل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرفاء الغابة، ولعله أن يكون هذا، فالله أعلم.
الحية والدابة:
فصل: وذكر خبر العقاب أو الطائر الذي اختطف الحية من بئر الكعبة، وقال غيره طرحها الطائر بالحجون فالتقمتها الأرض. وقال محمد بن الحسن المقري هذا القول ثم قال وهي الدابة التي تكلم الناس قبل يوم القيامة واسمها: أقصى فيما ذكر ومحمد بن الحسن المقري هو النقاش وهو من أهل العلم - والله أعلم بصحة ما قال غير أنه قد روي في حديث آخر أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم الناس فأخرجها له من الأرض فرأى منظرا هاله وأفزعه فقال أي رب ردها فردها2.
لم ترع:
وذكر ابن إسحاق حديث الحجر الذي أخذ من الكعبة، فوثب من يد آخذه حتى عاد إلى موضعه وقال غيره ضربوا بالمعول في حجر من أحجارها، فلمعت برقة كادت تخطف أبصارهم وأخذ رجل منهم حجرا، فطار من يده وعاد إلى موضعه. وذكر ابن إسحاق قولهم: اللهم لم ترع وهي كلمة تقال عند تسكين الروع والتأنيس وإظهار اللين والبر في القول ولا روع في هذا الموطن فينفى، ولكن
ـــــــ
1 وقيل: ياقوم أو باقول. وقد سبق. وانظر "شرح السيرة" للخشني. ص63
2 لا يروى في حقيقة صفات الدابة حديث يعتد به. والدابة تطلق على الإنسان فلنقف عند القرآن.

(2/179)


......................................................
ـــــــ
الكلمة تقتضي إظهار قصد البر فلذلك تكلموا بها، وعلى هذا يجوز التكلم بها في الإسلام وإن كان فيها ذكر الروع الذي هو محال في حق الباري تعالى، ولكن لما كان المقصود ما ذكرنا، جاز النطق بها1، وسيأتي في هذا الكتاب إن شاء الله زيادة بيان عند قوله فاغفر فداء لك ما اقتفينا.
ويروى أيضا: اللهم لم نزغ وهو جلي لا يشكل.
من تفسير حديث أبي لهب: وذكر قولهم: لا تدخلوا في هذا البيت مهر بغي وهي الزانية وهي فعول من البغاء فاندغمت الواو في الياء ولا يجوز عندهم أن يكون على وزن فعيل لأن فعيلا بمعنى: فاعل يكون بالهاء في المؤنث كرحيمة وكريمة وإنما يكون بغير هاء إذا كان في معنى: مفعول نحو امرأة جريح وقتيل.
وقوله ولا بيع ربا يدل على أن الربا كان محرما عليهم في الجاهلية كما كان الظلم والبغاء وهو الزنا محرما عليهم يعلمون ذلك ببقية من بقايا شرع إبراهيم عليه السلام كما كان بقي فيهم الحج والعمرة وشيء من أحكام الطلاق والعتق وغير ذلك. وفي قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] دليل على تقديم التحريم.
الحجر الذي كان مكتوبا:
فصل:
وذكر الحجر الذي وجد مكتوبا في الكعبة، وفيه أنا الله ذو بكة لحديث.
روى معمر بن راشد في الجامع عن الزهري أنه قال بلغني أن قريشا
ـــــــ
1 الروع: الفزع، ولا يجوز مطلقاً نسبته إلى الله، ولم يرد قول صحيح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(2/180)


قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو "أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن".
قال ابن هشام: أخشباها: جبلاها.
قال ابن إسحاق: وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه "مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل لا يحلها أول من أهلها".
قال ابن إسحاق: وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، - إن كان ما ذكر حقا - مكتوبا فيه: من يزرع خيرا، يحصد غبطة ومن يزرع شرا، يحصد ندامة. تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.
__________
حين بنوا الكعبة، وجدوا فيها حجرا، وفيه ثلاثة صفوح1 في الصفح الأول أنا الله ذو بكة صغتها يوم صغت2 الشمس والقمر إلى آخر كلام ابن إسحاق، وفي الصفح الثاني: "أنا الله ذو بكة3، خلقت الرحم واشتققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته"، وفي الصفح الثالث: "أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه" وفي حديث ابن إسحاق: لا يحلها أول من أهلها، يريد - والله أعلم - ما كان من استحلال قريش القتال فيها أيام ابن الزبير وحصين بن نمير ثم الحجاج بعده ولذلك قال ابن
ـــــــ
1 في "البداية": أصفح، وهو أنسب وصفحة الشيء: جانبه.
2 في "البداية": صنعتها وهو يناسب رواية:خلقتها التي في "السيرة".
3 في "البداية": "إني أنا الله" في جميع المواضع، والقصة ولا شك مشكوك بها، وراءها رجل من أهل الكتاب وفي كلام السهيلي وابن هشام ما يشير إلى ذلك، وإن كانت كلمات حق، أما قوله: "خلقت الرحم- إلى بتته" فحديث رواه أبو داود والترمذي.

(2/181)


اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة الدم:
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا ; وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا: لعقة الدم فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا.
إشارة أبي أمية بتحكيم أول داخل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال يا معشر قريش اجعلوا بينكم - فيما تختلفون فيه - أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا: فكان
ـــــــ
أبي ربيعة:
ألا من لقلب معنى غزل ... بحب المحلة أخت المحل
يعني بالمحل عبد الله بن الزبير لقتاله في الحرم.
حول الحجر الأسود وقواعد البيت:
فصل: وذكر اختلافهم في وضع الركن وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضعه بيده وذكر غيره أن إبليس كان معهم في صورة شيخ نجدي وأنه صاح بأعلى صوته يا معشر قريش: أرضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم غلام يتيم دون ذوي أسنانكم فكان يثير شرا فيما بينهم ثم سكنوا ذلك. وأما وضع الركن حين بنيت الكعبة في أيام ابن الزبير فوضعه في الموضع الذي هو فيه الآن حمزة بن عبد الله بن الزبير، وأبوه يصلي بالناس في المسجد اغتنم شغل الناس عنه بالصلاة

(2/182)


أول داخل عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم "هلم إلي ثوبا" , فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا" , ففعلوا، حتى إذا بلغوا موضعه وضعه هو بيده ثم بنى عليه".
شعر الزبير في الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
وكانت قريش تسمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين. فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس. شدت ... تهيبنا البناء. وقد تهاب
ـــــــ
لما أحس منهم التنافس في ذلك وخاف الخلاف فأقره أبوه. ذكر ذلك الزبير بن أبي بكر. وذكر ابن إسحاق أيضا أنهم أفضوا إلى قواعد البيت وإذا هي خضر كالأسنمة وليست هذه رواية السيرة إنما الصحيح في الكتاب كالأسنة وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق والله أعلم فإنه لا يوجد في غير هذا الكتاب بهذا اللفظ لا عند الواقدي ولا غيره وقد ذكر البخاري في بنيان الكعبة هذا الخبر، فقال فيه عن يزيد بن رومان: فنظرت إليها، فإذا هي كأسنمة الإبل وتشبيهها بالأسنة لا يشبه إلا في الزرقة وتشبيهها بأسنمة الإبل أولى، لعظمها، ولما تقدم في حديث بنيان الملائكة لها قبل هذا
ـــــــ
1 عند أبي ذر الخشني في تفسير تشبيهها بالأسنمة: أراد أن الحجارة دخل بعضها في بعض كما تدخل السنام بعضها في بعض، ومن رواه كالأسنة فهو جمع سنان ويعني الرمح شبهها بالأسنة في الخضرة.

(2/183)


فلما أن خشينا الرجز. جاءت ... عقاب تتلئب لها انصباب1
فضمتها إليها، ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مسوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب
قال ابن هشام: ويروى:
وليس على مساوينا ثياب
ارتفاع الكعبة وأول من كساها الديباج:
وكانت الكعبة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرة ذراعا، وكانت تكسى القباطي ثم كسيت البرود.
وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
__________
شعر الزبير بن عبد المطلب:
فصل: وذكر شعر الزبير بن عبد المطلب: عجبت لما تصوبت العقاب. إلى قوله تتلئب لها انصباب. قوله تتلئب، يقال اتلأب على طريقه إذا لم يعرج يمنة2 ولا يسرة وكأنه منحوت من أصلين كما تقدم في مثل هذا من تلا: إذا تبع، وألب إذا أقام وأب أيضا قريب من هذا المعنى. يقال أب إبابة - من كتاب العين - إذا استقام وتهيأ فكأنه مقيم مستمر على ما يتلوه ويتبعه مما هو بسبيله والاسم من اتلأب التلأبيبة على وزن الطمأنينة والقشعريرة قاله أبو عبيد.
وقوله وليس على مسوينا ثياب. أي مسوي البنيان. وهو في معنى الحديث الصحيح في نقلانهم الحجارة إلى الكعبة أنهم كانوا ينقلونها عراة ويرون ذلك دينا،
ـــــــ
1 الرجز: العذاب، ويروى: الزجر وهو المنع، تتلئب: تتابع في انقضاضها.
2 في "القاموس": استقام وانتصب.

(2/184)


ـــــــ
وأنه من باب التشمير والجد في الطاعة. وقول ابن هشام: ويروى: مساوينا، يريد السوآت فهو جمع مساءة مفعلة من السوءة والأصل مساوئ فسهلت الهمزة.

(2/185)