الروض
الأنف ت السلامي
مبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
...
مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسليما:
قال ابن إسحاق: المطلبي قال فلما بلغ محمد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا،
وكان الله تبارك وتعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان
به والتصديق له والنصر له على من خالفه وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل
من آمن بهم وصدقهم فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه. يقول الله
تعالى لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
ـــــــ
كتاب المبعث:
متى بعث رسول الله؟
ذكر ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث على رأس أربعين
من مولده عليه السلام1 وهذا مروي عن ابن عباس، وجبير بن مطعم وقباث بن
أشيم وعطاء وسعيد بن المسيب، وأنس بن مالك وهو صحيح عند أهل السير
والعلم بالأثر وقد روي أنه نبئ لأربعين وشهرين من مولده وقيل لقباث بن
أشيم من أكبر أنت أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال رسول الله
"أكبر مني، وأنا أسن منه" وولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام
الفيل ووقفت بي أمي على روث الفيل ويروى: خزق الطير فرأيته أخضر محيلا،
أي قد أتى عليه حول وفي غير رواية البكائي من هذا الكتاب أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم – قال لبلال "لا يفتك صيام يوم الاثنين فإني قد
ولدت فيه وبعثت فيه وأموت فيه2" .
ـــــــ
1 اضطربت الأقوال حول سنه صلى الله عليه وسلم حين بعث, وتراوحت ما بين
الأربعين والثالث والأربعون.
2 في "مسلم" عن ابي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل النبي عن
صوم يوم الإثنين فقال: "ذلك يوم ولدت فيه وأنزل على فيه".
(2/250)
آتَيْتُكُمْ
مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي ثقل ما حملتكم من عهدي :
{قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]. فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا
بالتصديق له والنصر له ممن خالفه وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من
أهل هذين الكتابين.
أول ما بدئ به الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة:
قال ابن إسحاق: فذكر الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها
أنها حدثته أن: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة
حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصادقة لا يرى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح قالت وحبب
الله تعالى إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده.
ـــــــ
إعراب لما آتيتكم:
وذكر ابن إسحاق قول الله سبحانه {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران:
18] الآية1. وما في هذه الآية اسم مبتدأ بمعنى: الذي، والتقدير للذي
آتيناكم من كتاب وحكمة ولا يصح أن تكون في موضع نصب على إضمار فعل كما
ينتصب ما يشتغل عنه الفعل بضميره لأن ما بعد اللام الثانية لا يجوز أن
يعمل فيما قبلها، وما لا يجوز أن يعمل فيه ما قبله فلا يجوز أن يكون
تفسيرا لما يعمل فيه وقد قيل إن ما هذه شرط. والتقدير لمهما آتيتكم من
كتاب وحكمة لتؤمنن به وهو ظاهر قول سيبويه لأنه جعلها بمنزلة إن وقول
الخليل إنها بمنزلة الذي، أي إنها اسم لا حرف ويمكن الجمع بين قوليهما
على هذا، فتكون اسما، وتكون شرطا، ويحتمل أيضا أن تكون على قول الخليل
خبرية في موضع رفع بالابتداء ويكون الخبر لتؤمنن به ولتنصرنه وإن كان
الضميران عائدين على الرسول لا على الذي، ولكن لما قال {رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِمَا
ـــــــ
1 يقول طاوس والحسن البصري وقتادة في تفسير الآية: "أخذ الله ميثاق
النبيين أن يصدق بعضهم بعضا", وهذا التفسير حق, وتنكير كلمة رسول في
الآية يؤيده.
(2/251)
تسليم الحجارة
والشجر عليه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء
ابن جارية الثقفي، وكان واعية عن بعض أهل العلم:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراده الله بكرامته وابتدأه
بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب
مكة وبطون أوديتها، فلا يمر
ـــــــ
مَعَكُمْ} [آل عمران: 81] لما معكم ارتبط الكلام بعضه ببعض واستغنى
بالضمير العائد على الرسول عن ضمير يعود على المبتدأ وله نظير في
التنزيل منه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ}
[البقرة: 234] خبره {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: من
الآية228] ولم يعد على المبتدإ شيء لتشبث الكلام بعضه ببعض وقد لاح لي
بعد نظري الكتاب أن الذي قاله الخليل وقول سيبويه قول واحد غير أنه قال
ودخول اللام على ما، كدخولها على إن يعني: في الجزاء ولم يرد أن يعمل
ما جزاء وإنما تكلم على اللام خاصة والله أعلم.
النبوءة وأولو العزم:
وذكر قول ابن إسحاق والنبوءة أثقال ومؤنة لا يحملها ولا يستطيعها إلا
أهل القوة والعزم من الرسل ووقع في رواية يونس عن ابن إسحاق في هذا
الموضع عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال سمعت وهب بن منبه وهو في مسجد
منى - وذكر له يونس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كان عبدا صالحا،
وكان في خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوءة ولها أثقال تفسخ تحتها
تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل1 فألقاها عنه وخرج هاربا، وفي رواية عن
ابن إسحاق إن أولي العزم من الرسل منهم نوح وهود وإبراهيم أما نوح
فلقوله: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي
وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ} [يونس: 71] وأما هود فلقوله: {إِنِّي
أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
ـــــــ
1 الربع بضم الراء وفتح الباء: الفصبل, ينيتج في الربيع, وهو أول
الناتج والمقصود: ضعف وعجز.
(2/252)
رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله
قال فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله وعن يمينه وشماله وخلفه
فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك
يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من
كرامة الله وهو بحراء في شهر رمضان.
ابتداء نزول جبريل عليه السلام:
قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير. قال سمعت عبد الله
بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي حدثنا يا عبيد، كيف
كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه
جبريل عليه السلام؟ قال فقال عبيد - وأنا حاضر يحدث عبد الله بن
الزبير، ومن عنده من الناس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في
حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث
التبرز.
قال ابن إسحاق: وقال أبو طالب:
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى في حراء ونازل
بحث لغوي لابن هشام في معنى التحنث:
قال ابن هشام: تقول العرب: التحنث والتحنف يريدون الحنيفية فيبدلون
الفاء من الثاء كما قالوا: جدف وجدث يريدون القبر. قال رؤبة بن العجاج:
لو كان أحجاري مع الأجداف
يريد الأجداث وهذا البيت في أرجوزة له. وبيت أبي طالب في قصيدة له
سأذكرها إن شاء الله في موضعها.
ـــــــ
تُشْرِكُونَ} [هود: 54] وأما إبراهيم فلقوله هو والذين معه: {إِنَّا
بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
[اللممتحنة: 4] وأمر الله نبينا أن يصبر كما صبر هؤلاء1.
ـــــــ
1 من أشهر الأقوال عن أولى العزز أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد
صلى الله عليه وسلم, ودليله أن الله تعالى نص على أسمائهم في الأحزاب
[7] والشورى [13].
(2/253)
قال ابن هشام:
وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول فم في موضع ثم يبدلون الفاء من الثاء.
قال ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان قال قال عبيد [بن عمير]: فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
أول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من النبوءة:
فصل وذكر ابن إسحاق: ما بدئ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من
النبوءة إذ كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله1
وفي مصنف الترمذي ومسلم أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال
"إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن ينزل علي" وفي بعض المسندات
زيادة أن هذا الحجر الذي كان يسلم عليه هو الحجر الأسود، وهذا التسليم
الأظهر فيه أن يكون حقيقة وأن يكون الله أنطقه إنطاقا كما خلق الحنين
في الجذع2 ولكن ليس من شرط الكلام الذي هو صوت وحرف الحياة والعلم
والإرادة لأنه صوت كسائر الأصوات والصوت عرض في قول الأكثرين ولم يخالف
فيه إلا النظام فإنه زعم أنه جسم وجعله الأشعري اصطكاكا في الجواهر
بعضها لبعض وقال أبو بكر بن الطيب ليس الصوت نفس الاصطكاك ولكنه معنى
زائد عليه وللاحتجاج على القولين ولهما موضع غير هذا، ولو قدرت الكلام
صفة قائمة بنفس الحجر والشجر والصوت عبارة عنه لم يكن بد من اشتراط
الحياة والعلم مع الكلام والله أعلم أي ذلك كان أكان كلاما مقرونا
بحياة وعلم فيكون الحجر به مؤمنا، أو كان صوتا مجردا غير مقترن بحياة؟
وفي كلا الوجهين هو علم من أعلام النبوءة3 وأما حنين الجذع فقد سمي
حنينا، وحقيقة الحنين يقتضي شرط الحياة وقد يحتمل تسليم الحجارة أن
يكون مضافا في
ـــــــ
1 في "الترمذي" و "الدارمي": قال علي رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى
الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله جبل ولا شجر
ألا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله, وروى مثله الطبراني في
"الوسط", وفيه مجهول.
2 ورد حنين الجزع في حديث رواه البخاري والنسائي والترمذي.
3 ليس لأحد أن يتكلم عن حقيقة مثل هذا, فالله وحده هو أعلم بالحقيقة.
(2/254)
.....................................................
ـــــــ
الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن يعمرونها، فيكون مجازا من قوله
تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] والأول أظهر وإن كانت كل
صورة من هذه الصور التي ذكرناها فيها علم على نبوته - عليه السلام -
غير أنه لا يسمى معجزة في اصطلاح المتكلمين إلا ما تحدى به الخلق
فعجزوا عن معارضته.
مدلول تفعل:
وذكر حديث عبيد بن عمير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجاور
بغار حراء1 ويتحنث فيه قال والتحنث التبرز. تفعل من البر وتفعل يقتضي
الدخول في الفعل وهو الأكثر فيها مثل تفقه وتعبد وتنسك وقد جاءت في
ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء واطراحه كالتأثم والتحرج. والتحنث
بالثاء المثلثة لأنه من الحنث وهو الحمل الثقيل وكذلك التقذر إنما هو
تباعد عن القذر وأما التحنف بالفاء فهو من باب التبرر لأنه من الحنيفية
دين إبراهيم وإن كان الفاء مبدلة من الثاء فهو من باب التقذر والتأثم
وهو قول ابن هشام، واحتج بجدف وجدث وأنشد قول رؤبة:
لو كان أحجاري مع الأجداف
وفي بيت رؤبة هذا شاهد ورد على ابن جني حيث زعم في سر الصناعة أن جدف
بالفاء لا يجمع على أجداف واحتج بهذا لمذهبه في أن الثاء هي الأصل وقول
رؤبة رد عليه والذي نذهب إليه أن الفاء هي الأصل في هذا الحرف لأنه من
الجدف وهو القطع ومنه مجداف السفينة وفي حديث عمر في وصف الجن: شرابهم
الجدف وهي الرغوة لأنها تجدف عن الماء وقيل هي نبات يقطع ويؤكل.
ـــــــ
1 جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذهاب إلى منى.
(2/255)
يجاور ذات
الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به - إذا انصرف من جواره
- الكعبة، قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم
يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد
من كرامته من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه
أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته
ـــــــ
وقيل كل إناء كشف عنه غطاؤه جدف والجدف القبر من هذا، فله مادة وأصل في
الاشتقاق فأجدر بأن تكون الفاء هي الأصل والثاء داخلة عليها1.
حول مجاورته في حراء:
وقوله يجاور في حراء إلى آخر الكلام. الجوار بالكسر في معنى المجاورة
وهي الاعتكاف ولا فرق بين الجوار والاعتكاف إلا من وجه واحد وهو أن
الاعتكاف لا يكون إلا داخل المسجد والجوار قد يكون خارج المسجد كذلك
قال ابن عبد البر، ولذلك لم يسم جواره بحراء اعتكافا، لأن حراء ليس من
المسجد ولكنه من جبال الحرم، وهو الجبل الذي نادى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - حين قال له ثبير وهو على ظهره اهبط عني ; فإني أخاف أن
تقتل على ظهري فأعذب فناداه حراء: إلي إلي يا رسول الله2.
ـــــــ
1 الجدف بالذال والدال: القبر, وكذلك الجدث, وفي "القاموس" عن الجدف
أنه نبات باليمن يغني آكله عن شرب الماء عليه.
2 حديث يروى في السير, وذكره القاضي عياض في "الشفا" بلا سند فهي
أسطورة.
(2/256)
ورحم العباد
بها، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى. قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
ـــــــ
كيفية الوحي:
فصل: وذكر نزول جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في
الحديث فأتاني وأنا نائم وقال في آخره فهببت من نومي، فكأنما كتبت في
قلبي كتابا، وليس ذكر النوم في حديث عائشة ولا غيرها، بل في حديث عروة
عن عائشة ما يدل ظاهره على أن نزول جبريل حين نزل بسورة اقرأ كان في
اليقظة لأنها قالت في أول الحديث أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - الرؤيا الصادقة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم
حبب الله إليه الخلاء - إلى قولها - حتى جاءه الحق، وهو بغار حراء،
فجاءه جبريل. فذكرت في هذا الحديث أن الرؤيا كانت قبل نزول جبريل على
النبي - عليه السلام - بالقرآن وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن النبي
- صلى الله عليه وسلم - جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة
توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به لأن أمر النبوءة عظيم وعبؤها ثقيل والبشر
ضعيف وسيأتي في حديث الإسراء من مقالة العلماء ما يؤكد هذا ويصححه وقد
ثبت بالطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي
والشيء1 ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن والوحي فعلى هذا كان نزول الوحي
عليه - صلى الله عليه وسلم - في أحوال مختلفة فمنها: النوم كما في حديث
ابن إسحاق، وكما قالت عائشة أيضا : أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - الرؤيا الصادقة2 وقد قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي
أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}
[الصافات: 102] فقال له ابنه: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات 102]،
فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما يأتيهم في اليقظة.
ـــــــ
1 هذا مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
2 ورد هذا في حديث رواه الشيخان والترمذي.
(2/257)
"فجاءني جبريل
وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ قال قلت: ما
ـــــــ
ومنها: أن ينفث في روعه الكلام نفثا، كما قال عليه السلام "إن روح
القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا
الله وأجملوا في الطلب1" وقال مجاهد، وأكثر المفسرين في قوله سبحانه
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}
[الشورى: 51]. قال هو أن ينفث في روعه بالوحي.
ومنها: أن يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس2 وهو أشده عليه وقيل إن ذلك
ليستجمع قلبه عند تلك الصلصلة، فيكون أوعى لما يسمع وألقن لما يلقى.
ومنها: أن يتمثل له الملك رجلا، فقد كان يأتيه في صورة دحية3 بن خليفة
ويروى أن دحية إذا قدم المدينة لم تبق معصر4 إلا خرجت تنظر إليه لفرط
جماله. وقال ابن سلام في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ
لَهْواً} [الجمعة: 11]. قال كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله.
ومنها: أن يتراءى له جبريل في صورته التي خلقه الله فيها، له ستمائة
جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت.
ومنها: أن يكلمه الله من وراء حجاب إما في اليقظة كما كلمه في ليلة
الإسراء وإما في النوم كما قال في حديث معاذ الذي رواه الترمذي، قال
"أتاني ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: لا أدري.
فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثندوتي وتجلى لي علم كل شيء وقال يا
محمد
ـــــــ
1 رواه أبو نعيم في "الحلية" عن أبي أمامة, وعلم عليه السيوطي [أنه
ضعيف.
2 ورد هذا في حديث متفق عليه.
3 دحية –بكسر الدال وقد تفتح- بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن
امرئ القيس بن الخروج.
4 المرأة بلغت شبابها وأدركت.
(2/258)
.....................................................
ـــــــ
فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت: في الكفارات فقال وما هن؟ فقلت: الوضوء
عند الكريهات ونقل الأقدام إلى الحسنات وانتظار الصلوات بعد الصلوات
فمن فعل ذلك عاش حميدا، ومات حميدا، وكان من ذنبه كمن ولدته أمه" وذكر
الحديث. فهذه ستة أحوال وحالة سابعة قد قدمنا ذكرها، وهي نزول إسرافيل
عليه بكلمات من الوحي قيل جبريل فهذه سبع صور في كيفية نزول الوحي على
محمد - صلى الله عليه وسلم - لم أر أحدا جمعها كهذا الجمع وقد استشهدنا
على صحتها بما فيه غنية، وقد أملينا أيضا في حقيقة رؤيته عليه السلام
ربه في المنام على أحسن صورة ويروى: على صورة شاب مسألة بديعة كاشفة
لقناع اللبس فلتنظر هنالك.
من تفسير حديث الوحي:
فصل: وذكر في الحديث أن جبريل أتاه بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ
قال بعض المفسرين في قوله وقال ابن سلام في قوله تعالى: {الم ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1، 2] إنها إشارة إلى الكتاب
الذي جاءه به جبريل حين قال اقرأ وفي الآية أقوال غير هذه منها: أنها
إشارة إلى ما تضمنه قوله سبحانه {الم} ; لأن هذه الحروف المقطعة تضمنت
معاني الكتاب كله فهي كالترجمة له.
معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} :
وقوله "ما أنا بقارئ" أي إني أمي، فلا أقرأ الكتب قالها1 ثلاثا فقيل
له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي إنك لا تقرؤه بحولك، ولا بصفة نفسك،
ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا باسم2 ربك مستعينا به فهو يعلمك كما
خلقك وكما نزع عنك
ـــــــ
1 قيل إن ما استفهامية, لما ورد في رواية أبي الأسود عن عروة: كيف
أقرأ؟
2 أي ناويا بقراءته وجه الله تعالى.
(2/259)
أقرأ؟ قال
فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال قلت: ما أقرأ؟
قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت. ثم أرسلني، فقال اقرأ قال قلت: ماذا
أقرأ؟ قال فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال اقرأ قال فقلت:
ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي،
فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ
مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5]
قال فقرأتها ثم انتهى، فانصرف
ـــــــ
علق الدم ومغمز الشيطان بعدما خلقه فيك، كما خلقه في كل إنسان.
والآيتان المتقدمتان لمحمد والآخرتان لأمته وهما قوله تعالى: {الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:
4، 5] لأنها كانت أمة أمية لا تكتب فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم فتعلموا
القرآن بالقلم وتعلمه نبيهم تلقينا من جبريل نزله على قلبه بإذن الله
ليكون من المرسلين.
حول بسم الله:
فصل وفي قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} من الفقه وجوب استفتاح
القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم1 غير أنه أمر مبهم لم يبين له بأي اسم
من أسماء ربه يفتتح حتى جاء البيان بعد في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ
مَجْرَاهَا} [هود: 41] ثم قوله تعالى: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]. ثم كان بعد ذلك ينزل جبريل عليه
ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع من
الصحابة على ذلك وما ذكره البخاري من مصحف الحسن البصري، فشذوذ فهي على
هذا من القرآن إذ لا يكتب في المصحف ما ليس بقرآن ولا يلتزم قول
الشافعي أنها آية من كل سورة ولا أنها آية من الفاتحة بل نقول إنها آية
من كتاب الله تعالى، مقترنة مع السورة وهو قول داود وأبي حنيفة، وهو
قول بين القوة لمن أنصف،
ـــــــ
1 يقول ابن كثير: افتتح بها الصحابة كتاب الله, واتفق العلمخاء على
أنها بعض آية من سورة النمل.
(2/260)
عني، وهببت من
نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابا. قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من
الجبل سمعت صوتا من السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال
فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق
السماء يقول يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. قال فوقفت أنظر إليه
فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في
ناحية منها إلا رأيته كذلك فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، وما أرجع
ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة، ورجعوا إليها،
وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني.
ـــــــ
وحين نزلت بسم الله الرحمن الرحيم سبحت الجبال فقالت قريش: سحر محمد
الجبال ذكره النقاش وإن صح ما ذكره فلمعنى ما سبحت عند نزولها خاصة
وذلك أنها آية أنزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح مع داود، كما
قال الله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} [ص: 18] وقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].
وفي الحديث ذكر نمط الديباج من الكتاب وفيه دليل وإشارة إلى أن هذا
الكتاب يفتح على أمته ملك الأعاجم، ويسلبونهم الديباج والحرير الذي كان
زيهم وزينتهم وبه أيضا ينال ملك الآخرة ولباس الجنة وهو الحرير
والديباج وفي سير موسى بن عقبة، وسير سليمان بن المعتمر زيادة وهو أن
جبريل أتاه بدرنوك1 من ديباج منسوج بالدر والياقوت فأجلسه عليه غير أن
موسى بن عقبة قال ببساط ولم يقل درنوك، وقال في سير بن المعتمر إن الله
تعالى أنزل عليه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] الآيات
كأنه يشير به فمسح جبريل صدره وقال اللهم اشرح صدره وارفع ذكره وضع عنه
وزره ويصحح ما رواه ابن
ـــــــ
1 في "النهاية" لآبن الأثير: ستر له خمل وجمعه: درانك, ويقال درموك
أيضا, وفي "القاموس": ضرب من الثياب أو البسط كالدرنيك بكسر الدال.
(2/261)
.....................................................
ـــــــ
المعتمر أن الله تعالى أنزل عليه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}
[الشرح: 1] الآيات كأنه يشير إلى ذلك الدعاء الذي كان من جبريل والله
أعلم.
الغط:
وقوله في الحديث فغطني1، ويروى: فسأبني، ويروى: سأتني، وأحسبه أيضا
يروى: فذعتني2 وكلها بمعنى واحد وهو الخنق والغم، ومن الذعت حديثه
الآخر أن الشيطان عرض له وهو يصلي قال فذعته حتى وجدت برد لسانه على
يدي ثم ذكرت قول أخي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}
[ص: 35] الحديث وكان في ذلك إظهار للشدة والجد في الأمر وأن يأخذ
الكتاب بقوة ويترك الأناة فإنه أمر ليس بالهوينى، وقد انتزع بعض
التابعين وهو شريح القاضي من هذا: ألا يضرب الصبي على القرآن إلا ثلاثا
كما غط جبريل عليه السلام محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا، وعلى
رواية ابن إسحاق أن ذلك في نومه كان يكون في تلك الغطات الثلاث من
التأويل ثلاث شدائد يبتلى بها أولا، ثم يأتي الفرج والروح وكذلك كان
لقي هو وأصحابه شدة من الجوع في شعب الخيف، حين تعاقدت قريش ألا يبيعوا
منهم ولا يتركوا ميرة تصل إليهم وشدة أخرى من الخوف والإيعاد بالقتل
وشدة أخرى من الإجلاء عن أحب الأوطان إليه ثم كانت العاقبة للمتقين
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــ
1 غطني: ضمني وعصرني, والغث: حبس النفس.
2 ذعته: ذأته ومعكه في التراب, ودفعه دفعا عنيفا وتقال بالدال أيضا, و
السأب: العصر في الحلق, والسأب: الخنق.
(2/262)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقص على خديجة ما كان من أمر جبريل معه:
وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها،
فقالت يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا
مكة ورجعوا لي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت أبشر يا بن عم واثبت
فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
ـــــــ
ما أنا بقارئ:
وقوله في حديث ابن إسحاق: اقرأ قال ما أقرأ يحتمل أن تكون ما استفهاما،
يريد أي شيء أقرأ؟ ويحتمل أن تكون نفيا، ورواية البخاري ومسلم تدل على
أنه أراد النفي أي ما أحسن أن أقرأ كما تقدم من قوله ما أنا بقارئ1.
رؤية جبريل ومعنى اسمه:
وذكر رؤيته لجبريل وهو صاف قدميه وفي حديث جابر أنه رآه على رفرف2 بين
السماء والأرض ويروى: على عرش بين السماء والأرض وفي حديث البخاري الذي
ذكره في آخر الجامع أنه حين فتر عنه الوحي كان يأتي شواهق الجبال يهم
بأن يلقي نفسه منها، فكان جبريل يتراءى له بين السماء والأرض يقول له
أنت رسول الله وأنا جبريل. واسم جبريل سرياني، ومعناه عبد الرحمن أو
عبد العزيز. هكذا جاء عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا أيضا، والوقف أصله.
وأكثر الناس على أن آخر الاسم منه هو اسم الله وهو إيل وكان شيخنا رحمه
الله يذهب مذهب طائفة من أهل العلم في أن هذه الأسماء إضافتها مقلوبة
وكذلك الإضافة في كلام العجم، يقولون في غلام زيد زيد غلام فعلى
ـــــــ
1 فإن قيل: لم كرر ثلاثا؟ أجاب ابو شامة: بأن يحمل قوله أولا: ما أنا
بقارئ على الإمتناع, وثانيا: على الإحبار بالنفي المحض, وثالثا على
الإستفهام.
2 البساط أو الستر, أصله ما كان من الديباج وغيره رقيقا حسن الصنعة. ثم
توسع فيه.
(2/263)
خديجة بين يدي
ورقة تحدثه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد
العزى بن قصي، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل
التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه رأى وسمع فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس والذي نفس ورقة بيده لئن
كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى.
وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة، فطاف بها،
فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فقال يا بن أخي أخبرني بما رأيت
وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ورقة والذي نفسي
بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد
ـــــــ
هذا يكون إيل عبارة عن العبد ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء
الله تعالى، ألا ترى كيف قال في حديث ابن عباس: جبريل وميكائيل كما
تقول عبد الله وعبد الرحمن ألا ترى أن لفظ عبد يتكرر بلفظ واحد
والأسماء ألفاظها مختلفة.
حول معنى إل وخرافة الرهبان:
وأما إل بالتشديد من قوله تعالى: {إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 10]
فحذار حذار من أن تقول فيه هو اسم1 الله فتسمي الله باسم لم يسم به
نفسه ألا ترى أن جميع أسماء الله تعالى معرفة و "إل" نكرة وحاشا لله أن
يكون اسمه نكرة وإنما الأل كل ما له حرمة وحق، فمما له حق ويجب تعظيمه
القرابة والرحم والجوار والعهد وهو من أللت: إذا اجتهدت في الشيء
وحافظت عليه ولم تضيعه ومنه الأل في
ـــــــ
1 له الحق في أن يحذر من هذا, فهو ليس من الأسماء الحسنى, وإن كان
موجودا في بعض معاجم اللغة.
(2/264)
جاءك الناموس
الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتله ولئن أنا
أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
ـــــــ
السير وهو الجد، ومنه قول الكميت [يصف رجلا]:
وأنت ما أنت في غبراء مجدبة ... إذا دعت ألليها الكاعب الفضل1
يريد اجتهدت في الدعاء وإذا كان الأل بالفتح المصدر فالإل بالكسر الاسم
كالذبح في الذبح فهو إذا الشيء المحافظ عليه وقول الصديق [عن كلام
مسيلمة]: هذا كلام لم يخرج من إل ولا بر أي لم يصدر عن ربوبية لأن
الربوبية حقها واجب معظم وكذلك فسره أبو عبيد، واتفق في اسم جبريل عليه
السلام أنه موافق من جهة العربية لمعناه وإن كان أعجميا، فإن الجبر هو
إصلاح ما وهى، وجبريل موكل بالوحي وفي الوحي إصلاح ما فسد وجبر ما وهى
من الدين ولم يكن معروفا بمكة ولا بأرض العرب فلما أخبر النبي صلى الله
عليه وسلم خديجة به انطلقت تسأل من عنده علم من الكتاب كعداس ونسطور
الراهب2 فقال لها: قدوس قدوس أنى لهذا الاسم أن يذكر في هذه البلاد وقد
قدمنا هذا الخبر عنها، وهو في سير التيمي لما ذكرناه قبل وفي كتاب
المعيطي عن أشهب قال سئل مالك عن التسمي بجبريل أو من يسمي به ولده
فكره ذلك ولم يعجبه.
معنى الناموس:
وقول ورقة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. الناموس صاحب
سر الملك قال بعضهم هو صاحب سر الخير والجاسوس هو صاحب
ـــــــ
1 في الأصل: إليهما, والبيت في "اللسان" هو:
وأنت ما أنت في غبراء مظلمة ... إذا دعت الكيها الكعاعب الفضل.
2 عداس –كما قال- نصراني من نينوي وانظر قصته في "السيرة الحلبية":
1/278.
(2/265)
امتحان خديجة
برهان الوحي:
قال ابن إسحاق: وحدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير: أنه حدث عن
خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي ابن
عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال "نعم". قالت
فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل عليه السلام، كما كان يصنع فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة "يا خديجة هذا جبريل قد جاءني"،
قالت قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، قال فقام رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فجلس عليها، قالت هل تراه؟ قال "نعم"، قالت فتحول
فاجلس على فخذي اليمنى، قالت فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس
على فخذها اليمنى، فقالت هل تراه؟ قال "نعم"، قالت فتحول فاجلس في
حجري، قالت فتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس في حجرها،
قالت هل تراه؟ قال "نعم"، قال فتحسرت وألقت خمارها - ورسول الله صلى
الله عليه وسلم جالس في حجرها - ثم قالت له هل تراه؟ قال "لا", قالت يا
ابن عم اثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان .
قال ابن إسحاق: وقد حدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال قد سمعت أمي
فاطمة بنت حسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول أدخلت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل
فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا لملك وما هو بشيطان.
__________
سر الشر1 وقد فسره أبو عبيد وأنشد:
فأبلغ يزيد إن عرضت ومنذرا ... عمهما والمستشز المنامسا2
لم ذكر موسى ولم يذكر عيسى؟
وإنما ذكر ورقة موسى ولم يذكر عيسى، وهو أقرب لأن ورقة كان قد تنصر
ـــــــ
1 جزم البخاري أنه صاحب السر, وقال ابن دريد: صا حب الوحي, وأهل الكتاب
يسمون جبريل: الناموس الأكبر, والخشني يقول: أصل الناموس هو: صاحب السر
الرجل في خيره وشره.
2 البيت للكميت كما ذكر "اللسان".
(2/266)
.....................................................
ـــــــ
والنصارى لا يقولون في عيسى: إنه نبي يأتيه جبريل إنما يقولون فيه إن
أقنوما من الأقانيم1 الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح واتحد به على
اختلاف بينهم في ذلك الحلول وهو أقنوم الكلمة والكلمة عندهم عبارة عن
العلم فلذلك كان المسيح عندهم يعلم الغيب ويخبر بما في غد فلما كان هذا
من مذهب النصارى الكذبة على الله المدعين المحال عدل عن ذكر عيسى إلى
ذكر موسى لعلمه أو لاعتقاده أن جبريل كان ينزل على موسى، لكن ورقة قد
ثبت إيمانه بمحمد عليه السلام2 وقد قدمنا حديث الترمذي أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - رآه في المنام وعليه ثياب بيض إلى آخر الحديث.
حول هاء السكت والفعل تدرك:
وقول ورقة لتكذبنه ولتؤذينه ولا ينطق بهذه الهاء إلا ساكنة لأنها هاء
السكت وليست بهاء إضمار. وقوله إن أدرك ذلك اليوم أنصرك نصرا مؤزرا،
وقال في الحديث إن يدركني يومك وهو القياس لأن ورقة سابق بالوجود
والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده كما جاء في الحديث أشقى الناس من
أدركته الساعة وهو حي، ورواية ابن إسحاق أيضا لها وجه لأن المعنى: أترى
ذلك اليوم فسمى رؤيته إدراكا، وفي التنزيل: {لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أي لا تراه على أحد القولين. وقوله مؤزرا
من الأزر وهو القوة والعون.
شرح: أومخرجي؟
فصل وفي حديث البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لورقة:
"أومخرجي هم" لا بد من تشديد الياء في مخرجي لأنه جمع، والأصل مخرجوي
فأدغمت الواو في
ـــــــ
1 الاقنوم: كلمة رومية معناها: الأصل.
2 هذا بعيد عن الصواب, لأن الجن الذين سمعوا القرآن قالوا: {سَمِعْنَا
كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الاحقاف: 30] انظر الرد على
ذلك في "فتح الباري": 1/29.
(2/267)
.....................................................
ـــــــ
الياء وهو خبر ابتداء مقدم ولو كان المبتدأ اسما ظاهرا لجاز تخفيف
الياء ويكون الاسم الظاهر فاعلا لا مبتدأ كما تقول أضارب قومك، أخارج
إخوتك فتفرد لأنك رفعت به فاعلا، وهو حسن في مذهب سيبويه والأخفش ولولا
الاستفهام ما جاز الإفراد إلا على مذهب الأخفش فإنه يقول قائم الزيدون
دون استفهام فإن كان الاسم المبتدأ من المضمرات نحو أخارج أنت وأقائم
هو؟ لم يصح فيه إلا الابتداء لأن الفاعل إذا كان مضمرا لم يكن منفصلا
لا تقول قام أنا، ولا ذهب أنت وكذلك لا تقول أذاهب أنت على حد الفاعل
ولكن على المبتدإ وإذا كان على حد المبتدإ فلا بد من جمع الخبر، فعلى
هذا تقول أمخرجي هم تريد مخرجون ثم أضيف إلى الياء وحذفت النون وأدغمت
الواو كما يقتضي القياس.
حول اليافوخ والذهاب إلى ورقة:
فصل: وذكر أن ورقة بن نوفل لقي النبي عليه السلام فقبل يافوخه قد تقدم
ذكر اليافوخ وأنه يفعول مهموز وأنه لا يقال في رأس الطفل يافوخ حتى
يشتد وإنما يقال له الغاذية وذكرنا قول العجاج:
ضرب إذا أصاب اليآفيخ حفر.
ولو كان يافوخ فاعولا، كما ظن بعضهم لم يجز همزه في الواحد. ولا في
الجمع1 وفي رواية يونس عن ابن إسحاق بسنده إلى أبي ميسرة عمرو بن
شرحبيل2 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال لخديجة "إني إذا خلوت
وحدي سمعت نداء وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر" . قالت معاذ الله ما
كان الله ليفعل ذلك بك. فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم. وتصدق
الحديث فلما دخل أبو بكر، وليس [عندها] رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ثم ذكرت خديجة له ذلك فقالت يا عتيق اذهب مع
ـــــــ
1 هو في "اللسان" مادة: أفخ, وقال: هو موضع التقاء عظم مؤخره, وفي
"القاموس": أفخه: ضرب يافوخه والجمع: يوافيخ.
2 ذكره البخاري وغيره في التابعين, ووثقه ابن معين وآخرون.
(2/268)
.....................................................
ـــــــ
محمد إلى ورقة فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ أبو بكر
بيده. فقال انطلق بنا إلى ورقة بن نوفل. فقال "ومن أخبرك"؟ قال خديجة
فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا
محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض" فقال له لا تفعل إذا أتاك فاثبت
حتى تسمع ما يقول لك. ثم ائتني، فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد قل
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. حتى بلغ ولا الضالين.
قل لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة أبشر ثم أبشر
فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك
نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا. ولئن أدركني ذلك لأجاهدن
معك. فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت القس
في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني" يعني: ورقة وفي رواية
يونس أيضا أنه عليه السلام قال لرجل سب ورقة: "أما علمت أني رأيت لورقة
جنة أو جنتين" ، وهذا الحديث الأخير قد أسنده البزار1لقد خشيت على
نفسي:
فصل: وفي الصحيح أنه قال لخديجة: "لقد خشيت على نفسي" وتكلم العلماء في
معنى هذه الخشية بأقوال كثيرة فذهب أبو بكر الإسماعيلي2 إلى أن هذه
الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم بأن الذي جاءه ملك من عند الله
وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه مجنون ولم ير الإسماعيلي أن هذا محال في
مبدإ الأمر لأن العلم الضروري قد لا يحصل دفعة واحدة وضرب مثلا بالبيت
من الشعر تسمع أوله فلا تدري أنظم هو أم نثر فإذا استمر الإنشاد علمت
قطعا أنه قصد به قصد الشعر كذلك لما استمر الوحي واقترنت به القرائن
المقتضية للعلم
ـــــــ
1 ورواه الحاكم في "مستدركه". وهذه روايات ساقطة لا يعتد بها.
2 احمد بن إبراهيم بن العباس الإسماعيلي الجرجاني, قال الحاكم: كان
واحد عصره, وشيخ المحدثين والفقهاء. (ت: 371 هـ)
(2/269)
.....................................................
ـــــــ
القطعي حصل العلم القطعي، وقد أثنى الله تعالى عليه بهذا العلم فقال:
{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إلى قوله: {وملائكته
وكتبه ورسله} [البقرة: 285] فإيمانه بالله وبملائكته إيمان كسبي موعود
عليه بالثواب الجزيل كما وعد على سائر أفعاله المكتسبة كانت من أفعال
القلب أو أفعال الجوارح وقد قيل في قوله: "لقد خشيت على نفسي" أي خشيت
ألا أنهض بأعباء النبوة وأن أضعف عنها، ثم أزال الله خشيته ورزقه الأيد
والقوة والثبات والعصمة وقد قيل إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه ولا
غرو فإنه بشر يخشى من القتل والإذاية الشديدة ما يخشاه البشر ثم يهون
عليه الصبر في ذات الله كل خشية ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة وقد قيل
في معنى الخشية أقوال غير هذه رغبت عن التطويل بذكرها1.
ـــــــ
1 في "فتح الباري": اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا:
أولها: الجنون, وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة, وقد أبطله أبو بكر بن
العربي, وحق له أن يبطل.
ثانيها: الهاجس, وهنو باطل أيضا, لأن لا يستقر, وهذا استقر.
ثالثها: الموت من شدة الرعب.
رابعها: المرضو وقد جزم به ابن أبي جمرة.
خامسها: دوام المرض.
سادسها: العجز ع حمل أعباء النبوة.
سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب.
ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه.
تاسعها: الخوف من أن يقتلوه.
عاشرها: مفارقة الوطن.
حادي عشرها: تكذيبهم إياه.
ثاني عشرها: تعييرهم إياه.
وأولى هذه الأقوال وأسماها من الإرتياب: الثالث واللذان بعده, وما
عداها معترض واله أعلم.
(2/270)
|