الروض
الأنف ت السلامي
ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة
قسوة قريش على من أسلم:
قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله
عليه وسلم من
__________
المكره على الكفر والمعصية:
فصل : وذكر تعذيب من أسلم وطرحهم في الرمضاء وكانوا يلبسونهم أدراع
(3/112)
أصحابه فوثبت
كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب
والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم يفتنونهم
عن دينهم فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يصلب لهم
ويعصمه الله منهم.
ما كان يلقاه بلال بعد إسلامه، وما فعله أبوبكر في تخليصه:
وكان بلال مولى أبي بكر رضي الله عنهما، لبعض بني جمح مولدا من مولديهم
وهو بلال بن رباح، وكان اسم أمه حمامة وكان صادق الإسلام طاهر القلب
وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة
فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره
ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ;
فيقول وهو في ذلك البلاء أحد أحد.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال كان ورقة بن نوفل يمر
به وهو يعذب بذلك وهو يقول أحد أحد، فيقول أحد، أحد والله يا بلال ثم
يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول أحلف بالله
لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا، حتى مر به أبو بكر الصديق بن أبي
قحافة - رضي الله عنه - يوما، وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبي بكر في
بني جمح فقال لأمية بن خلف ألا تتقي الله في هذا المسكين ؟ حتى متى ؟
قال أنت الذي أفسدته، فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر أفعل عندي غلام
أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به قال قد قبلت فقال هو لك.
فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك وأخذه فأعتقه.
الحديد حتى أعطوهم بألسنتهم ما سألوا من كلمة الكفر إلا بلالا - رحمه
الله - وأنزل الله فيهم {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالأِيمَانِ} [النحل:102] ونزل في عمار وأبيه {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا
مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: من الآية28] ولما كان الإيمان أصله في
القلب رخص للمؤمن في حال الإكراه أن يقول بلسانه إذا خاف على نفسه حتى
يأمن. قال ابن
(3/113)
من أعتقهم أبو
بكر مع بلال:
ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب بلال سابعهم
عامر بن فهيرة، شهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأم شميس
وزنيرة، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات
والعزى ; فقالت كذبوا - وبيت الله - ما تضر اللات والعزى، وما تنفعان
فرد الله بصرها.
وأعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد
بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول والله لا أعتقكما أبدا، فقال أبو
بكر رضي الله عنه حلا يا أم فلان فقالت حل أنت أفسدتهما فأعتقهما ; قال
فبكم هما ؟ قالت بكذا وكذا، قال قد أخذتهما وهما حرتان أرجعا إليها
طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها ؟ قال وذلك إن
شئتما.
__________
مسعود ما من كلمة تدفع عني سوطين إلا قلتها هذا في القول فأما الفعل
فتنقسم فيه الحال فمنه ما لا خلاف في جوازه كشرب الخمر إذا خاف على
نفسه القتل وإن لم يخف إلا ما دون القتل فالصبر له أفضل وإن لم يخف في
ذلك إلا كسجن يوم أو طرف من الهوان خفيف فلا تحل له المعصية من أجل ذلك
وأما الإكراه على القتل فلا خلاف في حظره لأنه إنما رخص له فيما دون
القتل ليدفع بذلك قتل نفس مؤمنة وهي نفسه فأما إذا دفع عن نفسه بنفس
أخرى، فلا رخصة واختلف في الإكراه على الزنى، فذكر عن ابن الماجشون أنه
قال لا رخصة فيه لأنه لا ينتشر له إلا عن إرادة في القلب أو شهوة
وأفعال القلب لا تباح مع الإكراه وقال غيره بل يرخص في ذلك لمن خاف
القتل لأن انبعاث الشهوة عند المماسة بمنزلة انبعاث اللعاب عند مضغ
الطعام وقد يجوز أكل الحرام إذا أكره عليه.
فصل : واختلف الأصوليون في مسألة من الإكراه وهي هل المكره على الفعل
مخاطب بالفعل أم لا ؟ فقالت المعتزلة: لا يصح الأمر بالفعل مع الإكراه
عليه وقالت الأشعرية ذلك جائز لأن العزم إنما هو فعل القلب وقد يتصور
منه
(3/114)
ومر بجارية بني
مؤمل حي من بني عدي بن كعب، وكانت مسلمة وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك
الإسلام وهو يومئذ مشرك وهو يضربها، حتى إذا مل قال إني أعتذر إليك،
إني لم أترك إلا ملالة فتقول كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر
فأعتقها.
لام أبوقحافة ابنه لعتقه من أعتق فرد عليه:
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن عامر بن عبد
الله بن الزبير، عن بعض أهله قال:
قال أبو قحافة لأبي بكر يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ
فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك، ويقومون دونك ؟ قال فقال أبو
بكر رضي الله عنه يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل ، قال
فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال له أبوه {فَأَمَّا
مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل 5، 6]. إلى
قوله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل 19 -
21].
__________
في ذلك الحين العزم والنية وهي القصد إلى امتثال أمر الله تعالى، وإن
كان ظاهره أنه يفعله خوفا من الناس وذلك إذا أكره على فرض كالصلاة
مثلا، إذا قيل صل وإلا قتلت، وأما إذا قيل له إن صليت قتلت، فظن القاضي
أن الخلاف بيننا، وبين المعتزلة في ذلك وغلطه بعض أصحابه وقالوا: لا
خلاف في هذه المسألة أنه مخاطب بالصلاة مأمور بها، وإن رخص له في
تركها، فليس الترخيص مما يخرجه عن حكم الخطاب وإنما يرفع عنه الإكراه
المأثم ولا يخرجه عن أن يكون مخاطبا بها، وهذا الغلط المنسوب إلى
القاضي في هذه المسألة ليس بقول له وإنما حكاه في كتاب التقريب
والإرشاد عن طائفة من الفقهاء. قالوا: لا يتصور القصد والإرادة للفعل
مع الإكراه عليه. قال القاضي: وهذا باطل لأنه يتصور انكفافه عنه مع
الإكراه فكذلك يتصور منه القصد إلى الامتثال له وبه يتعلق التكليف
فإنما غلط
(3/115)
تعذيب قريش
لابن ياسر,وتصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم له:
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه -
وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر
بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول فيما بلغني: "صبرا آل ياسر
موعدكم الجنة" فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام.
ما كان يعذب به أبو جهل من أسلم:
وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إذا سمع بالرجل قد
أسلم، له شرف ومنعة أنبه وأخزاه وقال تركت دين أبيك وهو خير منك:
لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجرا، قال والله
لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
__________
من نسب إليه من الأصوليين هذا القول الذي أبطله وبين بطلانه وإنما ذكرت
ما قالوه قبل أن أرى كلامه في المسألة وأقف على حقيقة مذهبه وهو بريء
من الغلط فيها.
آل ياسر:
فصل: وذكر فيمن عذب في الله سمية أم عمار، وقد ذكرنا قتل أبي جهل لها،
وهي أول شهيد في الإسلام وروي أن عمارا قال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"صبرا أبا اليقظان" ثم قال: " اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار"
وسمية أمه وهي بنت خياط كانت مولاة لأبي حذيفة بن المغيرة واسمه مهشم
وهو عم أبي جهل وغلط ابن قتيبة فيها، فزعم أن الأزرق مولى الحارث بن
كلدة خلف عليها بعد ياسر فولدت له سلمة بن الأزرق وقال أهل
(3/116)
سئل ابن عباس
عن عذر من امتنع عن الإسلام لسبب تعذيبه فأجاز:
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال قلت لعبد
الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال نعم والله إن كانوا
ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة
الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له اللات
والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول نعم حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له
أهذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول نعم افتداء منهم مما يبلغون من
جهده.
__________
العلم بالنساء إنما سمية أم سلمة بن الأزرق سمية أخرى، وهي أم زياد بن
أبي سفيان لا أم عمار وعمار والحويرث وعبود بنو ياسر بن عامر بن مالك
بن كنانة بن قيس بن الحصين بن لوذين ويقال الوذيم بن ثعلبة بن عوف بن
عامر بن حارثة بن زيام بن عنس بن مالك بن أدد بن زيد العنسي المذحجي
حليف لبني مخزوم ومن ولد عمار عبد الله بن سعد بن الحسن بن عثمان بن
الحسن بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر وهو المقتول بالأندلس قتله
عبد الرحمن بن معاوية.
زنيرة وغيرها:
فصل: وذكر زنيرة التي أعتقها أبو بكر وأول اسمها: زاي مكسورة بعدها نون
مكسورة مشددة على وزن فعيلة هكذا صحت الرواية في الكتاب والزنيرة
(3/117)
رفض هشام تسليم
أخيه لقريش ليقتلوه على إسلامه،وشعره في ذلك:
قال ابن إسحاق: وحدثني الزبير بن عكاشة بن عبد الله بن أبي أحمد أنه
حدث أن رجلا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد حين أسلم أخوه
الوليد بن الوليد، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد
أسلموا، منهم سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة. قال فقالوا له - وخشوا
شرهم إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا،
فإنا نأمن بذلك في غيرهم. قال هذا، فعليكم به. فعاتبوه وإياكم ونفسه.
وأنشأ يقول:
ألا لا يقتلن أخي عييس ... فيبقى بيننا أبدا تلاحي
__________
واحدة الزنانير وهي الحصا الصغار قاله أبو عبيدة وبعضهم يقول فيها:
زنبرة بفتح الزاي وسكون النون وباء بعدها، ولا تعرف زنبرة في النساء
وأما في الرجال فزنبرة بن زبير بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن
تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وابنه خالد بن زنبرة
وهو الغرق قاله الدارقطني.
أم عميس:
فصل : وذكر أم عميس وكانت لبني تيم بن مرة أعتقها أبو بكر وذكر غير ابن
إسحاق هؤلاء الذين عذبوا في الله لما أعطوا بألسنتهم ما سئلوا من الكفر
جاءت قبيلة كل رجل منهم بأنطاع الأدم فيها الماء فوضعوهم فيها، وأخذوهم
بأطراف الأنطاع واحتملوهم إلا بلالا.
عن بلال:
وقول ورقة بن نوفل: لئن قتلتموه يعني: بلالا، وهو على هذا الحال
لأتخذنه
(3/118)
احذروا على
نفسه فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا. قال فقالوا: اللهم
العنه. من يغرر بهذا الخبيث فوالله لو أصيب في أيدينا لقتل أشرفنا
رجلا. قال فتركوه ونزعوا عنه قال وكان ذلك مما دفع الله به عنهم.
__________
حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما. والحنان: الرحمة وكان بلال رحمه
الله يكنى: أبا عبد الكريم وقيل أبا عبد الله وأخته غفرة وقد تقدم في
أول الكتاب ذكر عمر مولى غفرة، وهي هذه. والغفرة الأنثى من أولاد
الأراوي والذكر غفر.
(3/119)
|