الروض الأنف ت السلامي

ما دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين رؤساء قريش وتفسير لسورة الكهف
استمرار قريش على تعذيب من أٍسلم:
قال ابن إسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء وقريش تحبس من قدرت على حبسه وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة - كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير، وعن عكرمة مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
قال:
حديث رؤساء قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم
اجتمع عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، أخو بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام - لعنه الله - وعبد الله بن أبي أمية، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وأمية بن خلف، أو من اجتمع منهم. قال اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا له يا محمد إنا قد بعثنا إليك ; لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما
ـــــــ
طلب الآيات
فصل : وذكر ما سأله قومه من الآيات وإزالة الجبال عنهم وإنزال الملائكة عليه وغير ذلك جهلا منهم بحكمة الله تعالى في امتحانه الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل وأن يكون إيمانهم عن نظر وفكر في الأدلة فيقع الثواب على حسب ذلك

(3/62)


أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك أو كما قالوا له فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا فربما كان ذلك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم "ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم. ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا
__________
ولو كشف الغطاء وحصل لهم العلم الضروري، بطلت الحكمة التي من أجلها يكون الثواب والعقاب إذ لا يؤجر الإنسان على ما ليس من كسبه كما لا يؤجر على ما خلق فيه من لون وشعر ونحو ذلك وإنما أعطاهم من الدليل ما يقتضي النظر فيه العلم الكسبي وذلك لا يحصل إلا بفعل من أفعال القلب وهو النظر في الدليل وفي وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول وإلا فقد كان قادرا سبحانه أن يأمرهم بكلام يسمعونه ويغنيهم عن إرسال الرسل إليهم ولكنه سبحانه قسم الأمر بين الدارين فجعل الأمر يعلم في الدنيا بنظر واستدلال وتفكر واعتبار لأنها دار تعبد واختبار وجعل الأمر يعلم في الآخرة بمعاينة واضطرار لا يستحق به ثواب ولا جزاء وإنما يكون الجزاء فيها على ما سبق في الدار الأولى، حكمة دبرها، وقضية أحكمها، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء 59]. يريد - فيما قال أهل التأويل - إن التكذيب بالآيات نحو ما سألوه من إزالة الجبال عنهم وإنزال الملائكة يوجب في حكم الله ألا يلبث الكافرين بها، وأن يعاجلهم بالنقمة كما فعل بقوم صالح وبآل فرعون، فلو أعطيت قريش ما سألوه من

(3/63)


محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإن كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك، وصنعت ما سألناك، صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا - كما تقول - فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: "ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى، حتى يحكم الله بيني وبينكم" قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا" - أو كما قال – "فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم
ـــــــ
الآيات وجاءهم بما اقترحوا ثم كذبوا لم يلبثوا، ولكن الله أكرم محمدا في الأمة التي أرسله إليهم إذ قد سبق في علمه أن يكذب به من يكذب ويصدق به من يصدق وابتعثه رحمة للعالمين بر وفاجر أما البر فرحمته إياهم في الدنيا والآخرة وأما الفاجر فإنهم أمنوا من الخسف والغرق وإرسال حاصب عليهم من السماء. كذلك

(3/64)


في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك لو شاء فعل فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل" قالوا: يا محمد أفما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نملكك أو تهلكنا وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي بنات الله. وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله وبالملائكة قبيلا.
حديث عبد الله بن أبي أمية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما قالوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن
__________
قال بعض أهل التفسير في قوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء 107] مع أنهم لم يسألوا ما سألوا من الآيات إلا تعنتا واستهزاء لا على جهة الاسترشاد ودفع الشك فقد كانوا رأوا من دلائل النبوة ما فيه شفاء لمن أنصف قال الله سبحانه {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت 51] الآية وفي هذا المعنى قيل:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر
وقد ذكر ابن إسحاق في غير هذه الرواية أنهم سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الله لهم فنزل جبريل فقال لهم ما شئتم إن شئتم فعلت ما سألتم ثم لا نلبثكم إن كذبتم بعد معاينة الآية فقالوا: لا حاجة لنا بها.
عبد الله بن أبي أمية:
فصل: وذكر قول عبد الله بن أبي أمية له واسم أبي أمية حذيفة والله لا أومن

(3/65)


المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته فهو لعاتكة بنت عبد المطلب - فقال له يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا، ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وأيم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك، ثم انصرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه.
ما توعد به أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلما قام عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف، ما بدا لهم قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد.
ماحدث لأبي جهل حين هم بإلقاء الحجر على الرسول صلى الله عليه وسلم:
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره
__________
بك حتى تتخذ سلما إلى آخر الكلام وقد أسلم عبد الله بن أبي أمية قبل فتح مكة، وسيأتي ذكر إسلامه.
هم أبي جهل بإلقاء الحجر:
وذكر خبر أبي جهل، وما هم به من إلقاء الحجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو

(3/66)


وغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان يغدو، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل. فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما. منتقعا لونه مرعوبا. قد يبست يداه على حجره. حتى قذف الحجر من يده. وقامت إليه رجال قريش. فقالوا له ما لك يا أبا الحكم ؟ قال قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط. فهم بي أن يأكلني.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذلك جبريل عليه السلام، لو دنا لأخذه" .
__________
ساجد وقد رواه النسوي بإسناد إلى أبي هريرة قال قال أبو جهل وذكر الحديث إلى قوله فنكص أبو جهل على عقبيه فقالوا: ما لك ؟ فقال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" وخرجه أيضا مسلم وذكر النسوي أيضا بإسناده إلى ابن عباس أن أبا جهل قال له ألم أنهك ؟ فوالله ما بمكة ناد أعز من نادي فأنزل الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} إلى قوله {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق 9 - 18].
تفسير أرأيت:
قال محمد بن يزيد في الكلام حذف تقديره {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} أمصيب هو أو مخطئ ؟ وكذلك في قوله {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى}

(3/67)


نصيحة النضر لقريش بالتدبر فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم:
فلما قال لهم ذلك أبو جهل. قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف
قال ابن إسحاق: فقال يا معشر قريش. إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم. وأصدقكم حديثا. وأعظمكم أمانة. حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به. قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم وقلتم كاهن. لا والله ما هو بكاهن <52> قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها. هزجه ورجزه وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
__________
[العلق 11] كأنه قال أليس من ينهاه بضال وقوله {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} [العلق 15] أي لنأخذن بها إلى النار وقيل معنى السفع ههنا: إذلاله وقهره والنادي والندي والمنتدى بمعنى واحد وهو مجلس القوم الذين يتنادون إليه وقال أهل التفسير فيه أقوالا متقاربة قال بعضهم فليدع حيه وقال بعضهم عشيرته وقال بعضهم مجلسه وفي أرأيت معنى: أخبرني، ولذلك قال سيبويه: لم يجز إلغاؤها، كما تلغى: علمت إذا قلت: علمت أزيد عندك أم عمرو، ولا يجوز هذا في: أرأيت، ولا بد من النصب إذا قلت: أرأيت زيدا، أبو من هو ؟ قال سيبويه: لأن دخول معنى أخبرني فيها لا يجعلها بمنزلة أخبرني في جميع أحوالها، قال المؤلف وظاهر القرآن يقضي بخلاف ما قال سيبويه إلا بعد البيان وذلك أنها في القرآن ملغاة لأن الاستفهام هو مطلوبها، وعليه وقعت في قوله {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ} [العلق 13 ، 14]. فقوله {أَلَمْ يَعْلَمْ} ا ستفهام وعليه وقعت {أَرَأَيْتَ} ، وكذلك {أَرَأَيْتُمْ} ، و {أَرَأَيْتَكُمْ} في [الأنعام: 46، 47]

(3/68)


ما كان يؤذي به النضر بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسفندياذ، فكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا فذكر فيه بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال أنا والله يا معشر قريش، أحسن حديثا منه فهلم إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفندياذ. ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثا مني ؟
__________
فإن الاستفهام واقع بعدها نحو {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام 47]. وهذا هو الذي منع سيبويه في: أرأيت وأرأيتك أبو من أنت ؟ وأما البيان فالذي قاله سيبويه صحيح ولكن إذا ولى الاستفهام أرأيت، ولم يكن لها مفعول سوى الجملة وأما في هذه المواضع التي في التنزيل فليست الجملة المستفهم عنها هي مفعول أرأيت، إنما مفعولها محذوف يدل عليه الشرط ولا بد من الشرط بعدها في هذه الصور لأن المعنى: أرأيتم صنيعكم إن كان كذا، وكذا، كما يقول القائل أرأيت إن لقيت العدو أتقاتله أم لا ؟ تقدير الكلام أرأيت رأيك أو صنيعك إن لقيت العدو فحرف الشرط وهو إن دال على ذلك المحذوف ومرتبط به والجملة المستفهم عنها كلام مستأنف منقطع إلا أن فيه زيادة بيان لما يستفهم عنه ولو زال الشرط ووليها الاستفهام لقبح كما قال سيبويه، ويحسن في: علمت، وهل علمت وهل رأيت، وإنما قبحه مع أرأيت خاصة وهي التي دخلها معنى: أخبرني فتدبره.
الأساطير وشيء عن الفرس:
فصل: وذكر حديث النضر بن الحارث وما نزل فيه من قول الله تعالى: {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24] واحد الأساطير أسطورة كأحدوثة وأحاديث وهو ما سطره الأولون وقيل أساطير جمع أسطار وأسطار جمع:

(3/69)


قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأُنزل مثل ما أنزل الله .
قال ابن إسحاق: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول - فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن قول الله عز وجل {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم 15] وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن.
أرسلت قريش النضر وابن أبي معيط إلى أحبار يهود يسألانهم عن محمد صلى الله عليه وسلم:
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفا لهم أمره. وأخبراهم
ـــــــ
سطر بفتح الطاء وأما سطر بسكون الطاء فجمعه أسطر وجمع الجمع أساطر بغير ياء وذكر أن النضر بن الحارث كان يحدث قريشا بأحاديث رستم وإسفندياذ، وما تعلم في بلاد الفرس من أخبارهم وذكر ما أنزل الله في ذلك من قوله وقد قيل فيه نزلت سطر بفتح الطاء وأما سطر بسكون الطاء فجمعه أسطر وجمع الجمع أساطر بغير ياء وذكر أن النضر بن الحارث كان يحدث قريشا بأحاديث رستم وإسفندياذ، وما تعلم في بلاد الفرس من أخبارهم وذكر ما أنزل الله في ذلك من قوله وقد قيل فيه نزلت {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام 93]. وأما أحاديث رستم ففي تاريخ الطبري أن رستم بن ريسان كان يحارب كي يستاسب بن كي لهراسب، بعدما قتل أباه لطراسب ابن كي أجو. وكي في أوائل هذه الأسماء عبارة عن البهاء ويقال عبارة عن إدراك الثأر ويقال لهؤلاء الملوك الكينية من أجل هذا، وكان رستم الذي يقال له رستم سيد بني ريسان من ملوك الترك، وكان كي يستاسب قد غضب على ابنه فسجنه حسدا له على ما ظهر من وقائعه في الترك، حتى صار الذكر له فعندها ظهرت الترك على بلاد فارس، وسبوا بنتين ليستاسب، اسم إحداهما: خمانة، أو نحو هذا، فلما رأى يستاسب ألا يدين له بقتالهم أطلق ابنه من السجن وهو إسفندياذ، ورضي عنه وولاه أمر الجيوش فنهد إلى رستم وكانت

(3/70)


ببعض قوله. وقالا لهم إنكم أهل التوراة. وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل. وإن لم يفعل فالرجل متقول. فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر <54> الأول ما كان أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجب وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي. وإن لم يفعل فهو رجل متقول. فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي حتى قدما مكة على قريش. فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول. فروا فيه رأيكم.
سؤال قريش له صلى الله عليه وسلم عن أسئلة وإجابته لهم:
فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول
__________
بينهما ملاحم يطول ذكرها، لكنه قتل رستم واستباح عساكره ودوخ في بلاد الترك، واستخرج أختيه من أيديهم ثم مات إسفندياذ قبل أبيه وكان ملك أبيه نحوا من مائة عام ثم عهد إلى بهمن بن إسفندياذ، فولاه الأمر بعد موته وبهمن بلغتهم الحسن النية ودام ملكه نيفا على مائة عام وكان له ابنان ساسان ودارا، وقد أملينا في أول الكتاب طرفا من حديث ساسان وبنيه وهم الساسانية الذين قام عليهم الإسلام ورستم آخر مذكور أيضا قبل هذا <54> في أحاديث كي قباذ، وكان قبل عهد سليمان، ثم كان رستم وزيرا بعد كي قباذ لابنه كي قاووس، وكانت الجن قد سخرت له. يقال إن سليمان أمرهم بذلك فبلغ ملكه من العجائب ما لا يكاد أن يصدقه ذوو العقول لخروجها عن المعتاد لكن محمد بن جرير الطبري ذكر منها أخبارا عجيبة.

(3/71)


قد كانت لهم قصة عجب وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "أخبركم بما سألتم عنه غدا" ولم يستثن فانصرفوا عنه فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة. قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح.
ما أنزل الله في قريش حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغاب عنه الوحي مدة:
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل حين جاءه " لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت طنا" فقال له جبريل { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64]. فافتتح
__________
وذكر أنه هم بما هم به نمروذ من الصعود إلى السماء فطرحته الريح وضعضعت أركانه وهدمت بنيانه ثم ثاب إليه بعض جنوده فصار كسائر الملوك يغلب تارة ويغلب بخلاف ما كان قبل ذلك وسار بجنوده إلى اليمن فنهد إليه عمرو ذو الأذعار فهزمه عمرو، وأخذه أسيرا، وحبسه في محبس حتى جاء رستم وكان صاحب أمره فاستنقذه من عمرو، إما بطوع وإما بإكراه ورده إلى بلاد فارس. ولابنه شاوخش مع قراسيات ملك الترك خبر عجيب وكان رستم هو القيم على شاوخش والكافل له في <55> صغره وكان آخر أمر شاوخش بعد عجائب أن قتله قراسيات، وقام ابنه كي خسرو يطلب بثأره فدارت بينه وبين الترك وقائع لم يسمع

(3/72)


السورة - تبارك وتعالى - بحمده وذكر نبوة رسوله لما أنكروه عليه من ذلك فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ} [الكهف: 1 - 26] يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم إنك رسول مني: أي تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك. {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} أي معتدلا، لا اختلاف فيه. {لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ} أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة من عند ربك الذي بعثك رسولا. {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي دار الخلد لا يموتون فيها الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال. {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} يعني: قريشا في قولهم إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله. {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي لقولهم إن الملائكة بنات الله. { إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} يا محمد {عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم أي لا نفعل.
قال ابن هشام: {بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي مهلك نفسك، فيما حدثني أبو عبيدة قال ذو الرمة
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر
__________
بمثلها، وكان الظفر له فلما ظفروا رأى أمله في أعدائه ما ملأ عينه قرة وقلبه سرورا زهد في الدنيا، وأراد السياحة في الأرض فتعات به أبناء فارس، وحذرته من شتات الشمل بعده وشماتة العدو فاستخلف عليهم كي لهراسب، بن كي اجو، بن كي كينة بن كي قاووس المتقدم ذكره ولا أدري: هل رستم الذي قتله إسفندياذ هو رستم صاحب كي قاووس، أم غيره والظاهر أنه ليس به لأن مدة ما بين كي قاووس وكي يستاسب بعيدة جدا،وأحسبه كما قدمنا أنه كان من الترك، وهذا كله كان في مدة الكينية وعند اشتغالهم بقتال الترك استعملوا بختنصر البابلي على العراق ، فكان من أموره مع بني إسرائيل و إثخانه فيهم وهدمه لبيت المقدس وإحراقه للتوراة وقتله

(3/73)


وجمعه باخعون وبخعة. وهذا البيت في قصيدة له. وتقول العرب: قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له. {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال ابن إسحاق: أي أيهم أتبع لأمري، وأعمل بطاعتي. {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف:1-8] أي الأرض وإن ما عليها لفان وزائل وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها.
قال ابن هشام: الصعيد : الأرض وجمعه صعد. قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له.
والصعيد أيضا: الطريق. وقد جاء في الحديث:
__________
لأولاد الأنبياء واسترقاقه لنساء ملوكهم ولذراريهم مع عيشه في بلاد العرب حين جاس خلال ديارهم ما هو مشهور في كتب التفاسير ومعلوم عند أصحاب التواريخ.
فهذه جملة مختصرة تشرح لك ما وقع في كتاب ابن إسحاق من ذكر رستم وإسفندياذ، وكانت الكينية قبل مدة عيسى ابن مريم، أولهم في عهد أفريدون قبل موسى عليه السلام بمئين من السنين وآخرهم في مدة الإسكندر بن قليس والإسكندر هو الذي سلب ملكهم وقتل دارا بن دارا، وهو آخرهم ثم كانت

(3/74)


"إياكم والقعود على الصعدات" يريد الطرق. والجرز الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها: أجراز. ويقال سنة جرز وسنون أجراز وهي التي لا يكون فيها مطر وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة. قال ذو الرمة يصف إبلا:
طوى النحز والأجراز ما في بطونها ... فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
وهذا البيت في قصيدة له.
ما أنزل الله تعالى في قصة أصحاب الكهف:
قال ابن إسحاق: ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال:
__________
الأشغانية مع ملوك الطوائف أربعمائة وثمانين عاما، وقيل أقل من ذلك في قول الطبري، وقول المسعودي: خمسمائة وعشر سنين في خلال أمرهم بعث عيسى ابن مريم، ثم كانت الساسانية نحوا من ثلاثين ملكا حتى قام الإسلام ففض خدمتهم. وخضد شوكتهم وهدم هياكلهم وأطفأ نيرانهم التي كانوا يعبدون وذلك كله في خلافة عمر رضي الله عنه.
عن سورتي الكهف والفرقان - سبب نزول الكهف
فصل وذكر ابن إسحاق إرسال قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى يهود وما رجعا به من عندهم من الفصل بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الأمور الثلاثة التي قالت اليهود: إن أخبركم بها فهو نبي وإلا فهو متقول فقال لهم سأخبركم غدا، ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عنه الوحي في قول ابن إسحاق خمسة عشر يوما، وفي سير التيمي وموسى بن عقبة أن الوحي إنما أبطأ عنه ثلاثة أيام ثم جاء جبريل بسورة الكهف.

(3/75)


{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعجب من ذلك.
__________
لم قدم الحمد على الكتاب ؟!
وذكر افتتاح الرب سبحانه بحمد نفسه وذكر نبوة نبيه حمده لنفسه تعالى خبر باطنه الأمر والتعليم لعبده كيف يحمده إذ لولا ذلك لاقتضت الحال الوقوف عن تسميته والعبارات عن جلاله لقصور كل عبارة عما هنالك من الجلال وأوصاف الكمال ولما كان الحمد واجبا على العبد قدم في هذه الآية ليقترن في اللفظ بالحمد الذي هو واجب عليه وليستشعر العبد وجوب الحمد عليه وفي سورة الفرقان قال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وبدأ بذكر الفرقان الذي هو الكتاب المبارك.
قال الله سبحانه {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:92] فلما افتتح السورة ب {تَبَارَكَ الَّذِي} بدأ بذكر الفرقان وهو الكتاب المبارك ثم قال {عَلَى عَبْدِهِ} فانظر إلى تقديم ذكر عبده على الكتاب وتقديم ذكر الكتاب عليه في سورة الفرقان، وما في ذلك من تشاكل اللفظ والتئام الكلام نرى الإعجاز ظاهرا، والحكمة باهرة والبرهان واضحا، وأنشد لذي الرمة.
شرح شواهد شعرية:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به ... دبابة في عظام الرأس خرطوم
يصف ولد الظبية : والخرطوم : من أسماء الخمر أي كأنه من نشاطه دبت الخمر في رأسه. وأنشد له أيضا:

(3/76)


قال ابن هشام: والرقيم: الكتاب الذي رقم فيه بخبرهم وجمعه رقم. قال العجاج:
ومستقر المصحف المرقم
وهذا البيت في أرجوزة له.
__________
طوى النحز والأجراز. البيت. والنحز النخس والنحاز داء يأخذ الإبل والنحيزة الغريزة والنحيزة نسيجة كالحزام والضلوع الجراشع. هو جمع جرشع. قال صاحب العين. الجرشع العظيم الصدر فمعناه إذا في البيت على هذا: الضلوع من الهزال قد نتأت وبرزت كالصدر البارز.
الرقيم وأهل الكهف:
فصل: وذكر الرقيم وفيه سوى ما قاله أقوال. روي عن أنس أنه قال "الرقيم: الكلب" وعن كعب أنه قال هو اسم القرية التي خرجوا منها، وقيل هو اسم الوادي وقيل هو صخرة ويقال لوح كتب فيه أسماؤهم ودينهم وقصتهم وقال ابن عباس: كل القرآن أعلم إلا الرقيم والغسلين وحنانا والأواه وقد ذكرت أسماؤهم على الاختلاف في بعض ألفاظها وهي مليخا، كسليما، مرطوش بن أنس أريطانس، أيونس شاطيطوش. وقيل في اسم مدينتهم أفوس، واختلف في بقائهم إلى الآن فروي عن ابن عباس أنه أنكر أن يكون بقي شيء منهم بل صاروا ترابا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض أصحاب الأخبار غير هذا، وأن الأرض لم تأكلهم ولم تغيرهم وأنهم على مقربة من القسطنطينية، فالله أعلم. روي أنهم

(3/77)


<59> قال ابن إسحاق: ثم قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} ثم قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} أي بصدق الخبر عنهم. { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم.
__________
سيحجون البيت إذا نزل عيسى ابن مريم. ألفيت هذا الخبر في كتاب البدء لابن أبي خيثمة.
إعراب أحصى
وذكر قول الله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} [الكهف: 12] قد أملينا في إعراب هذه الآية نحوا من كراسة وذكرنا ما وهم فيه الزجاج من إعرابها ; حيث جعل أحصى اسما في موضع رفع على خبر المبتدأ وأمدا: تمييز وهذا لا يصح ; لأن التمييز هو الفاعل في المعنى، فإذا قلت: أيهم أعلم أبا، فالأب هو العالم وكذلك إذا قلت أيهم أفره عبدا، فالعبد هو الفاره فيلزم على قوله إذا أن يكون الأمد فاعلا بالإحصاء وهذا محال بل هو مفعول وأحصى: فعل ماض وهو الناصب له وذكرنا في ذلك الإملاء أن أيهم قد يجوز فيه النصب بما قبله إذا جعلته خبرا، وذلك على شروط بيناها هنالك لمن أراد الوقوف على حقيقتها، أي ومواضعها، وكشفنا أسرارها.
عن الضرب وتزاور الشمس وفائدة القصة:
وقوله سبحانه {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف: 11] أي أنمناهم وإنما قيل

(3/78)


قال ابن هشام: والشطط الغلو ومجاوزة الحق. قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
لا ينتهون ولا ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا البيت في قصيدة له.
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}
قال ابن إسحاق: أي بحجة بالغة.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ
__________
في النائم ضرب على <60> أذنه لأن النائم ينتبه من جهة السمع والضرب هنا مستعار من ضربت القفل على الباب وذكر قوله تعالى: {تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف: 17] الآية.
وقيل في {تَقْرِضُهُمْ} تحاذيهم وقيل تتجاوزهم شيئا فشيئا من القرض وهو القطع أي تقطع ما هنالك من الأرض وهذا كله شرح اللفظ وأما فائدة المعنى، فإنه بين أنهم في مقنوة من الأرض لا تدخل عليهم الشمس فتحرقهم وتبلي ثيابهم ويقلبون ذات اليمين وذات الشمال. لئلا تأكلهم الأرض والفائدة العظمى في هذه الصفة بيان كيفية حالهم في الكهف، وحال كلبهم وأين هو من الكهف ، وأنه بالوصيد منه وأن باب الكهف إلى جهة الشمال للحكمة التي تقدمت وأن هذا البيان لا يكاد يعرفه من رآهم فإن المطلع عليهم يملأ منهم رعبا، فلا يمكنه تأمل هذه الدقائق من أحوالهم والنبي عليه السلام لم يرهم قط، ولا سمع بهم ولا قرأ كتابا فيه صفتهم لأنه أمي في أمة أمية وقد جاءكم ببيان لا يأتي به من وصل إليهم حتى إن كلبهم قد ذكر وذكر موضعه وبسطه ذراعيه بالوصيد وهم في الفجوة وفي هذا كله برهان عظيم على نبوته ودليل واضح على صدقه وأنه غير متقول كما زعموا، فقف بقلبك على مضمون هذه الأوصاف والمراد بها تعصم إن

(3/79)


وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف:9-17]
قال ابن هشام: تزاور تميل وهو من الزور وقال امرؤ القيس بن حجر:
وإني زعيم إن رجعت مملكا ... بسير ترى منه الفرانق أزورا
وهذا البيت في قصيدة له. وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا:
جأب المندى عن هوانا أزور ... ينضي المطايا خمسه العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له. و تقرضهم ذات الشمال تجاوزهم
__________
شاء الله مما وقعت فيه الملحدة من الاستخفاف بهذه الآية من كتاب الله وقولهم أي فائدة في أن تكون الشمس تزاور عن كهفهم وهكذا هو كل بيت يكون في مقنوة أي بابه لجهة الشمال فنبه أهل المعاني على الفائدة الأولى المنبئة عن لطف الله بهم حيث جعلهم في مقنوة تزاور عنهم الشمس فلا تؤذيهم فقال لمن اقتصر من أهل التأويل على هذا: فما في ذكر الكلب وبسط ذراعيه من الفائدة وما فيه من معنى اللطف بهم ؟ فالجواب ما قدمناه من أن الله سبحانه لم يترك من بيان حالهم شيئا، حتى ذكر حال كلبهم مع أن تأملهم متعذر على من اطلع عليهم من أجل الرعب فكيف من لم يرهم ولا سمع بهم لولا الوحي الذي جاءه من الله سبحانه بالبيان الواضح الشافي، والبرهان الكافي، والرعب الذي كان يلحق المطلع عليهم قيل كان مما طالت شعورهم وأظفارهم. ومن الآيات في هذه القصة قوله سبحانه { فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف:17] أي في فضاء ومع أنهم في فضاء منه فلا تصيبهم الشمس.
قال ابن سلام فهذه آية. قال وكانوا يقلبون في السعة مرتين ومن فوائد الآية أنه أخرج الكلب عن التقليب فقال باسط ذراعيه ومع أنه كان لا يقلب لم تأكله الأرض لأن التقليب كان من فعل الملائكة بهم والملائكة أولياء المؤمنين في الحياة الدنيا وفي الآخرة والكلب خارج من هذه الآية. ألا تراه كيف قال:

(3/80)


وتتركهم عن شمالها. قال ذو الرمة:
إلى ظعن يقرضن أفواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس
وهذا البيت في قصيدة له. والفجوة السعة وجمعها: الفجاء قال الشاعر
ألبست قومك مخزاة ومنقصة ... حتى أبيحوا، وخلوا فجوة الدار
{ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الأعراف:26] أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} قال ابن هشام: الوصيد الباب. قال العبسي، واسمه عبيد بن وهب
بأرض فلاة لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له. والوصيد أيضا: الفناء وجمعه وصائد ووصد ووصدان وأصد وأصدان.
{لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا} إلى قوله
__________بالوصيد أي بفناء الغار لا داخلا معهم لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب فهذه فوائد جمة قد اشتمل عليها هذا الكلام. قال ابن سلام وإنما كانوا يقلبون في الرقدة الأولى قبل أن يبعثوا.
المتنازعون في أمرهم:
فصل وذكر قول الله سبحانه {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ

(3/81)


{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} أهل السلطان والملك منهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} {سَيَقُولُونَ} يعني: أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ} أي لا علم لهم {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً
ـــــــ
مَسْجِداً} [الكهف: 21] وقال يعني أصحاب السلطان فاستدل بعض أهل العلم على أنهم كانوا مسلمين بقوله {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} . وذكر الطبري أن أهل تلك المدينة تنازعوا قبل مبعثهم في الأجساد والأرواح. كيف تكون إعادتها يوم القيامة فقال قوم تعاد الأجساد كما كانت بأرواحها، كما يقوله أهل الإسلام وخالفهم آخرون وقالوا: تبعث الأرواح دون الأجساد كما يقوله النصارى، وشري بينهم الشر، واشتد الخلاف واشتد على ملكهم ما نزل بقومه من ذلك فلبس المسوح وافترش الرماد وأقبل على البكاء والتضرع إلى الله أن يريه الفصل فيما اختلفوا فيه فأحيا الله أصحاب الكهف عند ذلك فكان من حديثهم ما عرف وشهر فقال الملك لقومه هذه آية أظهرها الله لكم لتتفقوا، وتعلموا أن الله عز وجل كما أحيا هؤلاء وأعاد أرواحهم إلى أجسادهم فكذلك يعيد الخلق يوم القيامة كما بدأهم فرجع الكل إلى ما قاله الملك وعلموا أنه الحق.
عن واو الثمانية:
فصل: وذكر قول الله سبحانه {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] قد أفردنا للكلام على هذه الواو التي يسميها بعض الناس واو

(3/82)


ظَاهِراً} أي لا <63> تكابرهم. {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} فإنهم لا علم لهم بهم. {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} أي ولا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت
__________
الثمانية بابا طويلا، والذي يليق بهذا الموضع أن تعلم أن هذه الواو تدل على تصديق القائلين لأنها عاطفة على كلام مضمر تقديره نعم وثامنهم كلبهم وذلك أن قائلا لو قال إن زيدا شاعر فقلت له وفقيه كنت قد صدقته، كأنك قلت: نعم هو كذلك وفقيه أيضا، وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيتوضأ بما أفضلت الحمر فقال "وبما أفضلت السباع" . يريد نعم وبما أفضلت السباع. خرجه الدارقطني. وفي التنزيل {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة 126] هو من هذا الباب. فكذلك ما أخبره عنهم من قولهم {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ} فقال سبحانه {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]وليس كذلك سادسهم كلبهم ورابعهم كلبهم لأنه في موضع النعت لما قبله فهو داخل تحت قوله سبحانه {رَجْماً بِالْغَيْبِ} ولم يقل ذلك في آخر القصة.
آية الاستثناء:
فصل : وذكر قول الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} وفسره فقال أي استثن شيئة الله. الشيئة مصدر شاء يشاء كما أن الخيفة مصدر خاف يخاف ولكن هذا التفسير وإن كان صحيح المعنى، فلفظ الآية مشكل جدا ; لأن

(3/83)


في هذا: إني مخبركم غدا. واستثن مشيئة الله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي} لخير مما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا} أي سيقولون ذلك. {قُلِ اللَّهُ
__________
قوله. {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} [الكهف: 23] نهى عن أن يقول هذا الكلام ولم ينهه عن أن يصله بإلا أن يشاء الله فيكون العبد المنهي عن هذا القول منهيا أيضا عن أن يصله بقوله {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} هذا محال فقوله إذا: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء من الله راجع إلى أول الكلام وهذا أيضا إذا تأملته نقض لعزيمة النهي وإبطال لحكمه فإن السيد إذا قال لعبده لا تقم إلا أن يشاء الله أن تقوم فقد حل عقدة النهي لأن مشيئة الله للفعل لا تعلم إلا بالفعل فللعبد إذا أن يقوم ويقول قد شاء الله أن نقوم فلا يكون للنهي معنى على هذا، فإذا لم يكن رد حرف الاستثناء إلى النهي ولا هو من الكلام الذي نهى العبد عنه فقد تبين إشكاله والجواب أن في الكلام حذفا وإضمارا تقديره ولا تقولن: إني فاعل ذلك غدا إلا ذاكرا إلا أن يشاء الله، أو ناطقا بأن يشاء الله ومعناه إلا ذاكرا شيئة الله كما قال ابن إسحاق ; لأن الشيئة مصدر وأن مع الفعل في تأويل المصدر وإعراب ذلك المصدر مفعول بالقول المضمر والعرب تحذف القول وتكتفي بالمقول ففي التنزيل {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] أي يقال لهم أكفرتم فحذف القول وبقي الكلام المقول وكذلك قوله تعالى: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد 24] أي يقولون سلام عليكم وهو كثير وكذلك إذا قوله {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} هي من كلام الناهي له سبحانه ثم أضمر القول وهو الذكر الذي قدمناه وبقي المقول وهو أن يشاء الله وهذا القدر يكفي في هذا المقام وإن كان في الآية من البسط والتفتيش ما هو أكثر من هذا.
ولبثوا في كهفهم:
فصل: وفد فسر قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ} [الكهف: 25]فقال معناه

(3/84)


.................................................
__________
أي سيقولون ذلك وهو أحد التأويلات فيها. وعلى هذا القول قرأه ابن مسعود: وقالوا: لبثوا، بزيادة قالوا. ثم قال ابن إسحاق: قل ربي أعلم بما لبثوا، وهو وهم من المؤلف أو غيره وإنما التلاوة {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] وقد قيل إنه إخبار من الله تعالى عن مقدار لبثهم ولكن لما علم استبعاد قريش وغيرهم من الكفار لهذا المقدار وعلم أن فيه تنازعا بين الناس فمن ثم قال {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} وقوله {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف:25]أي إنها ثلاثمائة بحساب العجم، وإن حسبت الأهلة فقد زاد العدد تسعا، لأن ثلاثمائة سنة بحساب الشمس تزيد تسع سنين بحساب القمر فإن قيل فكيف قال ثلاثمائة سنين ولم يقل سنة وهو قياس العدد في العربية لأن المائة تضاف إلى لفظ الواحد فالجواب أن سنين في الآية بدل مما قبله ليس على حد الإضافة ولا التمييز ولحكمة عظيمة عدل باللفظ عن الإضافة إلى البدل وذلك أنه لو قال ثلاثمائة سنة لكان الكلام كأنه جواب لطائفة واحدة من الناس والناس فيهم طائفتان طائفة عرفوا طول لبثهم ولم يعلموا كمية السنين فعرفهم أنها ثلاثمائة وطائفة لم يعرفوا طول لبثهم ولا شيئا من خبرهم فلما قال ثلاثمائة معرفا للأولين بالكمية التي شكوا فيها، مبينا للآخرين أن هذه الثلاثمائة سنون وليست أياما ولا شهورا، فانتظم البيان للطائفتين من ذكر العدد وجمع المعدود وتبين أنه بدل إذ

(3/85)


أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:1-26] <65> أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه.
__________
البدل يراد به تبيين ما قبله ألا ترى أن اليهود قد كانوا عرفوا أن لأصحاب الكهف نبأ عجيبا، ولم يكن العجب إلا من طول لبثهم غير أنهم لم يكونوا على يقين من أنها ثلاثمائة أو أقل، فأخبر أن تلك السنين ثلاثمائة ثم لو وقف الكلام ههنا لقالت العرب، ومن لم يسمع بخبرهم ما هذه الثلاثمائة ؟ فقال كالمبين لهم سنين وقد روي معنى هذا التفسير عن الضحاك، ذكره النحاس.
السنة والعام:
فصل : وقال سنين ولم يقل أعواما، والسنة والعام وإن اتسعت العرب فيهما، واستعملت كل واحد منهما مكان الآخر اتساعا، ولكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقا، فخذه أولا من الاشتقاق فإن السنة من سنا يسنو إذا دار حول البئر والدابة هي السانية فكذلك السنة دورة من دورات الشمس وفد تسمى السنة دارا، ففي الخبر: إن بين آدم ونوح ألف دار أي ألف سنة هذا أصل الاسم ومن ثم قالوا: أكلتهم السنة فسموا شدة القحط سنة قال الله سبحانه {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف 130] ومن ثم قيل أسنت القوم إذا أقحطوا، وكأن وزنه أفعتوا، لا أفعلوا، كذلك قال بعضهم وجعل سيبويه التاء بدلا من الواو فهي عنده أفعلوا، لأن الجدوبة والخصب معتبر بالشتاء والصيف وحساب العجم إنما هو بالسنين الشمسية بها يؤرخون وأصحاب الكهف من أمة عجمية والنصارى يعرفون حديثهم ويؤرخون به فجاء اللفظ في القرآن بذكر السنين الموافقة لحسابهم وتمم الفائدة بقوله {وَازْدَادُوا تِسْعاً} ليوافق حساب العرب، فإن حسابهم بالشهور القمرية كالمحرم وصفر ونحوهما وانظر بعد هذا إلى قوله:

(3/86)


................................................
__________
{تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} [يوسف 47] الآية ولم يقل أعواما، نفيه شاهد لما تقدم غير أنه قال {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} ولم يقل سنة عدولا عن اللفظ المشترك فإن السنة قد يعبر بها عن الشدة والأزمة كما تقدم فلو قال سنة لذهب الوهم إليها ; لأن العام أقل أياما من السنة وإنما دلت الرؤيا على سبع سنين شداد وإذا انقضى العدد فليس بعد الشدة إلا رخاء وليس في الرؤيا ما يدل على مدة ذلك الرخاء ولا يمكن أن يكون أقل من عام والزيادة على العام مشكوك فيها، لا تقتضيها الرؤيا، فحكم بالأقل وترك ما يقع فيه الشك من الزيادة على العام فهاتان فائدتان في اللفظ بالعام في هذا الموطن وأما قوله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] فإنما ذكر السنين وهي أطول من الأعوام لأنه مخبر عن اكتهال الإنسان وتمام قوته واستوائه فلفظ السنين أولى بهذا الموطن لأنها أكمل من الأعوام وفائدة أخرى: أنه خبر عن السن والسن معتبر بالسنين لأن أصل السن في الحيوان لا يعتبر إلا بالسنة الشمسية لأن النتاج والحمل يكون بالربيع والصيف حتى قيل ربعي للبكير وصيفي للمؤخر قال الراجز:
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون
فاستعمله في الآدميين فلما قيل في الفصيل ونحوه ابن سنة وابن سنتين قيل ذلك في الآدميين وإن كان أصله في الماشية لما قدمنا، وأما قوله {وَفِصَالُهُ فِي

(3/87)


.........................................
__________
عَامَيْنِ} [لقمان:14] فلأنه قال سبحانه {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فالرضاع من الأحكام الشرعية وقد قصرنا فيها على الحساب بالأهلة وكذلك قوله {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [التوبة: 37] ولم يقل سنة لأنه يعني شهر المحرم وربيع إلى آخر العام ولم يكونوا يحسبون بأيلول ولا بتشرين ولا بينير، وهي الشهور الشمسية وقوله سبحانه {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259] إخبار منه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته وحسابهم بالأعوام والأهلة كما وقت لهم سبحانه وقوله سبحانه في قصة نوح {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 140] قيل إنما ذكر أولا السنين لأنه كان في شدائد مدته كلها إلا خمسين عاما منذ جاءه الفرج وأتاه الغوث، ويجوز أن يكون الله - سبحانه - علم أن عمره كان ألفا، إلا أن الخمسين منها، كانت أعواما، فيكون عمره ألف سنة تنقص منها ما بين السنين الشمسية والقمرية في الخمسين خاصة لأن خمسين عاما بحساب الأهلة أقل من خمسين سنة شمسية بنحو عام ونصف فإن كان الله سبحانه قد علم هذا من عمره فاللفظ موافق لهذا المعنى، وإلا ففي القول الأول مقنع والله أعلم بما أراد فتأمل هذا، فإن العلم بتنزيل الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها يفتح لك بابا من العلم بإعجاز القرآن وابن هذا الأصل تعرف المعنى في قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]. وقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحجر: 47] وأنه كلام ورد في معرض التكثير والتفخيم لطول ذلك اليوم والسنة أطول من العام كما تقدم فلفظها أليق بهذا المقام.

(3/88)


ما أنزل الله تعالى في خبر الرجال الطواف
وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطواف {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 83- 85] حتى انتهى إلى آخر قصة خبره.
__________
ذكر قصة الرجل الطواف ذي القرنين:
فصل : وذكر قصة الرجل الطواف والحديث الذي جاء فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ملكا مسح الأرض بالأسباب ولم يشرح معنى الأسباب. ولأهل التفسير فيه أقوال متقاربة قالوا في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] أي علما يتبعه وفي قوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85] أي طريقا موصلة وقال ابن هشام في غير هذا الكتاب السبب حبل من نور كان ملك يمشي به بين يديه فيتبعه وقد قيل في اسم ذلك الملك زياقيل، وهذا يقرب من قول من قال سببا أي طريقا، ويقرب أن يكون تفسيرا لقول النبي "مسح الأرض بالأسباب" ، واختلف في تسميته بذي القرنين كما اختلف في اسمه واسم أبيه فأصح ما جاء في ذلك ما روي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال سأل ابن الكواء علي بن أبي طالب، فقال أرأيت ذا القرنين أنبيا كان أم ملكا ؟ لا نبيا كان ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا دعا قومه إلى عبادة الله فضربوه على قرني رأسه ضربتين وفيكم مثله. يعني: نفسه وقيل كانت له ضفيرتان من شعر والعرب

(3/89)


وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتي ما لم يؤت أحد غيره فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق.
قال ابن إسحاق: حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم، فيما توارثوا من علمه أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر، اسمه مرزبان بن مرذبة اليوناني، من ولد يونان بن يافث بن نوح.
قال ابن هشام: واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية، فنسبت إليه.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي وكان رجلا قد أدرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذي القرنين فقال "ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب"
__________
تسمي الخصلة من الشعر قرنا، وقيل إنه رأى في المنام رؤيا طويلة أنه أخذ بقرني الشمس فكان التأويل أنه المشرق والمغرب وذكر هذا الخبر علي بن أبي طالب القيرواني العابد في كتاب البستان له قال وبهذا سمي ذا القرنين وأما اسمه فقال ابن هشام في هذا الكتاب اسمه مرزبى بن مرذبة بذال مفتوحة في اسم أبيه وزاي في اسمه وقيل فيه هرمس وقيل هرديس. وقال ابن هشام في غير هذا الكتاب اسمه الصعب بن ذي مراثد وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم عليه السلام في بئر السبع حين حاكم إليه فيها، وقيل إنه أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك، ويروى في <68> خطبة قيس بن ساعدة التي خطبها بسوق عكاظ، أنه قال فيها: يا معشر إباد أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين وأذل الثقلين وعمر ألفين ثم كان ذلك كلحظة عين وأنشد ابن هشام للأعشى:

(3/90)


..................................................
__________
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا ... بالحنو في جدث أميم مقيم
وقوله بالحنو يريد حنو قراقر الذي مات فيه ذو القرنين بالعراق وقول ابن هشام في السيرة إنه من أهل مصر، إنه الإسكندر الذي بنى الإسكندرية، فعرفت به قول بعيد مما تقدم ويحتمل أن يكون الإسكندر سمي ذا القرنين أيضا تشبيها له بالأول لأنه ملك ما بين المشرق والمغرب فيما ذكروا أيضا، وأذل ملوك فارس، وقتل دارا بن دارا، وأذل ملوك الروم وغيرهم وقال الطبري في الإسكندر وهو اسكندروس بن قليقوس، ويقال فيه ابن قليس وكانت أمه زنجية وكانت أهديت لدارا أكبر أو سباها، فوجد منها نكهة استثقلها، فعولجت ببقلة يقال لها: أندروس، فحملت منه بدارا الأصغر فلما وضعته ردها، فتزوجها والد الإسكندر فحملت منه بالإسكندروس، فاسمه عندهم مشتق من تلك البقلة التي طهرت أمه بها فيما ذكروا، وذكر عن الزبير أنه قال ذو القرنين هو عبد الله بن الضحاك بن معد [وقال ابن حبيب في] المحبر في ذكر ملوك الحيرة، قال الصعب بن قرين [بن الهمال] : هو ذو القرنين ويحتمل أن يكونوا ملوكا في أوقات شتى، يسمى كل واحد منهم ذا القرنين والله أعلم. والأول كان على عهد إبراهيم عليه السلام وهو صاحب الخضر حين طلب عين الحياة فوجدها الخضر ولم يجدها ذو القرنين حالت بينه وبينها الظلمات التي وقع فيها هو وأجناده في خبر طويل مذكور في بعض التفاسير مشهور عند الأخباريين.

(3/91)


وقال خالد سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول يا ذا القرنين فقال عمر اللهم غفرا، أما رضيتم أن تسموا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة ؟
قال ابن إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان أقال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ فإن كان قاله فالحق ما قال. __________
حكم التسمي بأسماء النبيين:
وأما قول عمر لرجل سمعه يقول يا ذا القرنين لم يكفكم أن تتسموا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة إن كان عمر قاله بتوقيف من الرسول عليه السلام فهو ملك لا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الحق وإن كان قاله بتأويل تأوله [فقد] خالفه علي في الخبر المتقدم والله أعلم أي الخبرين أصح نقلا، غير أن الرواية المتقدمة عن علي يقويها ما نقله أهل الأخبار عن ذي القرنين والله أعلم. وكان من مذهب عمر رحمه الله كراهية التسمي بأسماء <69> الأنبياء فقد أنكر على المغيرة تكنيته بأبي عيسى، وأنكر على صهيب تكنيته بأبي يحيى، فأخبر كل واحد منهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كناه بذلك فسكت وكان عمر إنما كره من ذلك الإكثار وأن يظن أن للمسلمين شرفا في الاسم إذا سمي باسم نبي أو أنه ينفعه ذلك في الآخرة فكأنه استشعر من رعيته هذا الغرض أو نحوه هو أعلم بما كره من ذلك. وإلا فقد سمى بمحمد طائفة من الصحابة منهم أبو بكر وعلي وطلحة وأبو حذيفة وأبو جهم بن حذيفة وخاطب وخطاب ابنا الحارث كل هؤلاء المحمدين كانوا يكنون بأبي القاسم إلا محمد بن خطاب وسمى أبو موسى ابنا له بموسى، فكان يكنى به وأسيد بن حضير سمى ابنه بيحيى، وعلم به النبي عليه السلام فلم ينكر عليه وكان لطلحة عشرة من الولد كلهم يسمى باسم نبي منهم موسى بن طلحة عيسى، وإسحاق ويعقوب

(3/92)


.....................................................
__________
وإبراهيم ومحمد وكان للزبير عشر كلهم يسمى باسم شهيد فقال له طلحة أنا أسميهم بأسماء الأنبياء وأنت تسميهم بأسماء الشهداء، فقال له الزبير فإني أطمع أن يكون بني شهداء ولا تطمع أنت أن يكون بنوك أنبياء ذكره ابن أبي خيثمة وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنه إبراهيم والآثار في هذا المعنى كثيرة وفي السنن لأبي داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سموا بأسماء الأنبياء"، وهذا محمول على الإباحة لا على الوجوب وأما التسمي بمحمد ففي مسند الحارث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل" وفي المعيطي عن مالك أنه سئل عمن اسمه محمد ويكنى أبا القاسم فلم ير به بأسا، فقيل له أكنيت ابنك أبا القاسم واسمه محمد ؟ فقال ما كنيته بها ولكن أهله يكنونه بها، ولم أسمع في ذلك نهيا، ولا أرى بذلك بأسا، وهذا يدل على أن مالكا لم يبلغه أو لم يصح عنده حديث النهي عن ذلك وقد رواه أهل الصحيح - فالله أعلم - ولعله بلغه حديث عائشة أنه عليه السلام - قال: "ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي" ؟ وهذا هو الناسخ لحديث النهي والله أعلم. وكان ابن سيرين يكره لكل أحد أن يتكنى بأبي القاسم كان اسمه محمدا، أو لم يكن. وطائفة إنما يكرهونه لمن اسمه محمد وفي المعيطي أيضا أنه سئل عن التسمية بمهدي فكرهه وقال وما علمه بأنه مهدي، وأباح التسمية بالهادي، وقال لأن الهادي هو الذي يهدي إلى الطريق وقد قدمنا كراهية مالك التسمي بجبريل. وقد ذكر ابن إسحاق كراهية عمر للتسمي بأسماء الملائكة وكره مالك التسمي بياسين.

(3/93)


ما أنزل الله في أمر الروح:
وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء 85].
__________
الروح والنفس:
فصل: وذكر سؤالهم عن الروح وما أنزل الله فيه من قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء 85] الآية وروي عن ابن إسحاق من غير طريق البكائي أنه قال في هذا الخبر: فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو جبريل وهذه الرواية عن ابن إسحاق تدل على خلاف ما روى غيره أن يهود قالت لقريش اسألوه عن الروح فإن أخبركم به فليس بنبي وإن لم يخبركم فهو نبي، وقال ابن إسحاق فيما تقدم من الحديث اسألوه عن الرجل الطواف وعن الفتية وعن الروح فإن أخبركم وإلا فالرجل متقول فسوى في الخبر بين الروح وغيره واختلف أهل التأويل في الروح المسئول عنه فقال بعضهم هو جبريل لأنه الروح الأمين وروح القدس، وعلى هذا رواية ابن إسحاق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش حين سألوه "هو جبريل"، وقالت طائفة الروح خلق من الملائكة على صور بني آدم وقالت طائفة الروح خلق يرون الملائكة ولا تراهم فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم وروي عن علي أنه قال الروح ملك له مائة ألف رأس لكل رأس مائة ألف وجه في كل وجه مائة ألف فم في كل فم مائة ألف لسان يسبح الله بلغات مختلفة وقالت طائفة الروح الذي سألت عنه يهود هو روح الإنسان ثم اختلف أصحاب هذا القول فمنهم من قال لم يجبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سؤالهم لأنهم سألوه تعنتا واستهزاء فقال الله له قل الروح من أمر ربي، ولم يأمره أن يبينه لهم وقالت طائفة بل قد أخبرهم الله به وأجابهم عما سألوا ; لأنه قال لنبيه قل الروح من أمر

(3/94)


سؤال يهود المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم عن المراد من قوله تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
قال ابن إسحاق: وحدثت عن ابن عباس، أنه قال لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، قالت أحبار يهود يا محمد أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
__________
ربي، وأمر الرب هو الشرع والكتاب الذي جاء به فمن دخل في الشرع وتفقه في الكتاب والسنة عرف الروح فكان معنى الكلام ادخلوا في الدين تعرفوا ما سألتم فإنه من أمر ربي، أي من الأمر الذي جئت به مبلغا عن ربي، وذلك أن الروح لا سبيل إلى معرفته من جهة الطبيعة ولا من جهة الفلسفة ولا من جهة الرأي والقياس وإنما يعرف من جهة الشرع فإذا نظرت إلى ما في الكتاب والسنة من ذكره نحو قوله سبحانه {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة 9] أي من روح الحياة والحياة من صفات الله سبحانه والنفخ في الحقيقة مضاف إلى ملك ينفخ فيه بأمر ربه وتنظر إلى ما أخبر به الرسول عليه السلام أن الأرواح جنود مجندة وأنها تتعارف وتتشام في الهواء وأنها تقبض من الأجساد بعد الموت وأنها تسأل في القبر فتفهم السؤال وتسمع وترى، وتنعم وتعذب وتلتذ وتألم وهذه كلها من صفات الأجسام فتعرف أنها أجسام بهذه الدلائل لكنها ليست كالأجساد في كثافتها وثقلها وإظلامها، إذ الأجساد خلقت من ماء وطين وحمإ مسنون فهو أصلها، والأرواح خلقت مما قال الله تعالى، وهو النفخ المتقدم المضاف إلى الملك. والملائكة خلقت من نور كما جاء في الصحيح وإن كان قد أضاف النفخ إلى نفسه فكذلك أضاف قبض الأرواح إلى نفسه فقال {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر 42] وأضاف ذلك إلى الملك أيضا فقال {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}

(3/95)


<72> إيانا تريد أم قومك ؟ قال: "كُلا" ، قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " إنها في علم الله قليل،وعندكم في ذلك ما
__________
[السجدة 11] والفعل مضاف إلى الملك مجازا، وإلى الرب حقيقة فهو أيضا جسم ولكنه من جنس الريح ولذلك سمي روحا من لفظ الريح ونفخ الملك في معنى الريح غير أنه ضم أوله لأنه نوراني، والريح هواء متحرك وإذا كان الشرع قد عرفنا من معاني الروح وصفاته بهذا القدر فقد عرف من جهة أمره كما قال سبحانه {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء:85] وقوله من أمر ربي أيضا، ولم يقل من أمر الله ولا من أمر ربكم يدل على خصوص وعلى ما قدمناه من أنه لا يعلمه إلا من أخذ معناه من قول الله سبحانه وقول رسوله بعد الإيمان بالله ورسوله واليقين الصادق والفقه في الدين فإن كان لم يخبر اليهود حين سألوه عنه فقد أحالهم على موضع العلم به.
الفرق بين الروح والنفس:
فصل : ومما يتصل بمعنى الروح وحقيقته أن تعرف هل هي النفس أو غيرها، وقد كثرت في ذلك الأقوال واضطربت المذاهب فتعلق قوم بظواهر من الأحاديث لا توجب القطع لأنها نقل آحاد وأيضا فإن ألفاظها محتملة للتأويل ومجازات العرف واتساعاتها في الكلام كثيرة فمما تعلقوا به في أن الروح هي النفس قول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك مع قول النبي عليه السلام "إن الله قبض أرواحنا"، وقوله - عز وجل – {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر:42] والمقبوضة هي

(3/96)


...............................................
__________
الأرواح ولم يفرقوا بين القبض والتوفي، ولا بين الأخذ في قول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك وبين قول النبي عليه السلام "قبض أرواحنا"، وتنقيح الأقوال وترجيحها يطول. وقد روى أبو عمر في التمهيد حديثا يدل على خلاف مذهبه في أن النفس هي الروح لكن علله فيه أن الله خلق آدم وجعل فيه نفسا وروحا، فمن الروح عفافه وفهمه وحلمه وسخاؤه ووفاؤه ومن النفس شهوته وطيشه وسفهه وغضبه ونحو هذا، وهذا الحديث معناه صحيح إذا تؤمل صح نقله أو لم يصح وسبيلك أن تنظر في كتاب الله أولا، لا إلى الأحاديث التي تنقل مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وتختلف فيها ألفاظ المحدثين فنقول قال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: من الآية29] ولم يقل من نفسي وكذلك قال {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة 9] ولم يقل من نفسه ولا يجوز أيضا أن يقال هذا، ولا خفاء فيما بينهما من الفرق في الكلام وذلك يدل على أن بينهما فرقا في المعنى، وبعكس هذا قوله سبحانه {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: من الآية116] ولم يقل تعلم ما في روحي، ولا أعلم ما في روحك، ولا يحسن هذا القول أيضا أن يقوله غير عيسى، ولو كانت النفس والروح اسمين لمعنى واحد كالليث والأسد لصح وقوع كل واحد منهما مكان صاحبه وكذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: من الآية8] ولا يحسن في الكلام يقولون في أرواحهم وقال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر: من الآية56] ولم يقل أن تقول روح <73> ولا يقوله أعرابي، فأين إذا كون النفس والروح بمعنى واحد لولا الغفلة عن تدبر كلام الله تعالى ؟ ولكن بقيت دقيقة يعرف معها السر والحقيقة ولا يكون بين القولين اختلاف

(3/97)


يكفيكم لو أقمتموه" . قال فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك {وَلَوْ أَنَّمَا
__________
متباين إن شاء الله فنقول وبالله التوفيق الروح مشتق من الريح وهو جسم هوائي لطيف به تكون حياة الجسد عادة أجراها الله تعالى ; لأن العقل يوجب ألا يكون للجسم حياة حتى ينفخ فيه ذلك الروح الذي هو في تجاويف الجسد كما قال ابن فورك وأبو المعالي وأبو بكر المرادي، وسبقهم إلى نحو منه أبو الحسن الأشعري، ومعنى كلامهم واحد أو متقارب.
الروح سبب الحياة:
فصل : فإذا ثبت أن الروح سبب الحياة عادة أجراها الله تعالى، فهو كالماء الجاري في عروق الشجرة صعدا، حتى تحيا به عادة فنسميه ماء باعتبار أوليته ونسمي أيضا هذا روحا باعتبار أوليته واعتبار النفخة التي هي ريح فما دام الجنين في بطن أمه حيا، فهو ذو روح فإذا نشأ واكتسب ذلك الروح أخلاقا وأوصافا لم تكن فيه وأقبل على مصالح الجسم كلفا به وعشق مصالح الجسد ولذاته ودفع المضار عنه سمي نفسا، كما يكتسب الماء الصاعد في الشجرة من الشجرة أوصافا لم تكن فيه فالماء في العنبة مثلا هو ماء باعتبار الأصل والبدأة ففيه من الماء الميوعة والرطوبة وفيه من العنبة الحلاوة وأوصاف أخر فتسميه مصطارا إن شئت، أو خمرا إن شئت، أو غير ذلك مما أوجبه الاكتساب لهذه الأوصاف فمن قال إن النفس هي الروح على الإطلاق من غير تقييد فلم يحسن العبارة وإنما فيها من الروح الأوصاف التي تقتضيها نفخة الملك والملك موصوف بكل خلق كريم ولذلك قال في الحديث: "فمن الروح عفافه وحلمه ووفاؤه وفهمه ومن النفس شهوته وغضبه وطيشه" وذلك أن الروح كما قدمنا مازج الجسد الذي فيه الدم ويسمى الدم

(3/98)


...........................................
__________
نفسا، وهو مجرى الشيطان وقد حكمت الشريعة بنجاسة الدم لسر لعله أن يفهم مما نحن بسبيله فمن يعرف جوهر الكلام وينزل الألفاظ منازلها، لا يسمي روحا إلا ما وقع به الفرق بين الجماد والحي والذي كان سببا للحياة كما في الكتاب العزيز عند ذكر إحياء النطفة ونفخ الروح فيها، ولا يقال نفخ النفس فيها إلا عند الاتساع في الكلام وتسمية الشيء بما يئول إليه ومن ههنا سمي جبريل عليه السلام: روحا، والوحي روحا، لأن به تكون حياة القلوب قال الله سبحانه {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: من الآية122] [الأنعام 122] وقال في الكفار {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل 21] وقال في <74> النفس ما تقدم وقال {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف 53] ولم يقل إن الروح لأمارة لأن الروح الذي هو سبب الحياة لا يأمر بسوء ولا يسمى أيضا نفسا، كما قدمنا حتى يكتسب من الجسد الأوصاف المذكورة وما كان نحوها، والماء النازل من السماء جنس واحد فإذا مازج أجساد الشجر كالتفاح والفرسك والحنظل والعشر وغير ذلك اختلفت أنواعه كذلك الروح الباطنة التي هي من عند الله هي جنس واحد وقد أضافها إلى نفسه تشريفا لها حين قال: { وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: من الآية9] ثم يخالط الأجساد التي خلقت من طين وقد كان في ذلك الطين طيب وخبيث فينزع كل فرع إلى أصله وينزع ذلك الأصل إلى ما سبق في أم الكتاب وإلى ما دبره وأحكمه الحكيم الخبير فعند ذلك تتنافر النفوس أو تتقارب وتتحاب أو تتباغض على حسب التشاكل في أصل الخلقة وهي معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم: "فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" . وقد كتب بعض الحكماء إلى صديق له: "إن نفسي غير مشكورة على الانقياد إليك بغير زمام فإنها صادفت عندك بعض جواهرها، والشيء يتبع بعضه بعضا".

(3/99)


فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان 27] أي إن التوراة في هذا من علم الله قليل.
ما أنزل الله تعالى بشأن طلبهم تسيير الجبال:
قال وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد: من الآية31] أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.
__________
الإنسان روح وجسد:
فصل : وقد يعبر بالنفس عن جملة الإنسان روحه وجسده فتقول عندي ثلاثة أنفس ولا تقول عندي ثلاثة أرواح لا يعبر بالروح إلا عن المعنى المتقدم ذكره وإنما اتسع في النفس وعبر بها عن الجملة لغلبة أوصاف الجسد على الروح حتى صار يسمى نفسا، وطرأ هذا الاسم بسبب الجسد كما يطرأ على الماء في الشجر أسماء على حسب اختلاف أنواع الشجر من حلو وحامض ومر وحريف وغير ذلك فتحصل من مضمون ما ذكرنا ألا يقال في النفس هي الروح على الإطلاق حتى تقيد بما تقدم ولا يقال في الروح هو النفس إلا كما يقال في المني هو الإنسان أو كما يقال للماء المغذي للكرمة هو الخمر أو الخل، على معنى أنه ستنضاف إليه أوصاف يسمى بها خمرا أو خلا، فتقييد الألفاظ هو معنى الكلام وتنزيل كل لفظ في موضعه هو معنى البلاغة فافهمه.
النفس:
فصل: وإذا ثبت هذا فلم يبق إلا قول بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، فذكر النفس لأنه معتذر من ترك عمل أمر به والأعمال مضافة إلى النفس لأن الأعمال جسدانية وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله قبض أرواحنا" فذكر الروح الذي هو الأصل لأنه أنسهم من فزعهم فأعلمهم أن خالق الأرواح يقبضها إذا شاء فلا

(3/100)


ما أنزل الله تعالى ردا قولهم للرسول صلى اله عليه وسلم خذ لنفسك.
وأنزل عليه في قولهم خذ لنفسك، ما سألوه أن يأخذ لنفسه أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا، ويبعث معه ملكا يصدقه بما يقول ويرد عنه {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ} أي من أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان: 7 - 10].
وأنزل عليه في ذلك من قولهم {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 20] أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفوا لفعلت.
ما أنزله تعالى ردا على قول ابن أبي أمية:
وأنزل الله عليه فيما قال عبد الله بن أبي أمية: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
__________
تنبسط انبساطها في اليقظة وروح النائم وإن وصف بالقبض فلا يدل لفظ القبض على انتزاعه بالكلية. كما لا يدل قوله سبحانه في الظل {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} [الفرقان: 46] على إعدام الظل بالكلية وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الفرقان: 42] فلم يقل الأرواح لأنه وعظ العباد الغافلين عنه فأخبر أنه يتوفى أنفسهم ثم يعيدها حتى يتوفاها، فلا يعيدها إلى الحشر لتزدجر النفوس بهذه العظة عن سوء أعمالها ; إذ الآية مكية والخطاب للكفار وقد تنزلت الألفاظ منازلها في الحديث والقرآن وذلك معنى الفصاحة وسر البلاغة.
ابن هرمة:
فصل : واستشهد ابن هشام بقول ابن هرمة ونسبه فقال فهري: وإنما هو

(3/101)


لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء 90 - 93].
قال ابن هشام: الينبوع ما نبع من الماء من الأرض وغيرها. وجمعه ينابيع. قال ابن هرمة. واسمه إبراهيم بن عبد الله الفهري:
وإذا هرقت بكل دار عبرة ... نزف الشؤون ودمعك الينبوع
__________
خلجي، والخلج اسمه قيس بن الحارث بن فهر، واختلف في تسمية بني قيس بن الحارث الخلج، فقيل لأنهم اختلجوا من قريش وسكان مكة ، وقيل لأنهم نزلوا بموضع فيه خلج من ماء ونسبوا إليه وابن هرمة واسمه إبراهيم بن علي بن هرمة وهو شاعر من شعراء الدولة العباسية وبيته:
وإذا هرقت بكل دار عبرة ... نزف الشؤون ودمعك الينبوع
والشؤون مجاري الدمع وهي أطباق الرأس وهي أربعة للرجل وثلاثة للمرأة كذلك ذكروا عن أهل التشريح وكذلك ذكر قاسم بن ثابت في الدلائل فالله أعلم.
من شرح الآيات:
وكل ما شرح ابن هشام من الآيات التي تلاها ابن إسحاق، فقد تقدم ما يحتاج بيانه منه وفي قوله سبحانه {بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء: 93] دليل على أن البيت

(3/102)


وهذا البيت في قصيدة له. والكسف القطع من العذاب. وواحدته كسفة. مثل سدرة وسدر. وهي أيضا: واحدة الكسف. والقبيل يكون مقابلة ومعاينة. وهو كقوله تعالى: {اَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} [الكهف:55] أي عيانا. وأنشدني أبو عبيدة لأعشى بني قيس بني ثعلبة:
أصالحكم حتى تبوؤوا بمثلها ... كصرخة حبلى يسرتها قبيلها
يعني: القابلة لأنها تقابلها، وتقبل ولدها. وهذا البيت في قصيدة له. ويقال القبيل جمعه قبل وهي الجماعات وفي كتاب الله تعالى: {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً} [الأنعام 111]. فقبل جمع قبيل مثل سبل جمع سبيل وسرر جمع سرير وقمص جمع قميص. والقبيل أيضا: في مثل من الأمثال وهو قولهم ما يعرف قبيلا من دبير أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر قال الكميت بن زيد:
تفرقت الأمور بوجهتيهم ... فما عرفوا الدبير من القبيل
وهذا البيت في قصيدة له ويقال إنما أريد بهذا: الفتل فما فتل إلى الذراع فهو القبيل وما فتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير وهو من الإقبال والإدبار الذي ذكرت. ويقال فتل المغزل. فإذا فتل إلى الركبة فهو القبيل وإذا فتل إلى الورك فهو الدبير. والقبيل أيضا: قوم الرجل. والزخرف الذهب. والمزخرف المزين بالذهب. قال العجاج:
من طلل أمسى تخال المصحفا ... رسومه والمذهب المزخرفا
__________
يراد به القصر والمنزل وإن كان عظيما، فإنه يسمى بيتا كما قدمنا في شرح بيت القصب في حديث خديجة رضي الله عنها.

(3/103)


وهذان البيتان في أرجوزة له ويقال أيضا لكل مزين مزخرف.
ما أنزل الله تعالى ردا على قولهم: إنما يعلمك رجل باليمامة: <76>
قال ابن إسحاق: وأنزل عليه في قولهم إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة. يقال له الرحمن. ولن نؤمن به أبدا: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد 30].
ما أنزله تعالى في أبي جهل وما هم به:
وأنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام - لعنه الله - وما هم به {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 9-19] سورة العلق.
قال ابن هشام: لنسفعا: لنجذبن ولنأخذن. قال الشاعر:
قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع
والنادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم وفي كتاب الله تعالى: { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} َ [العنكبوت 29] وهو الندي. قال عبيد بن الأبرص:
اذهب إليك فإني من بني أسد ... أهل الندي وأهل الجرد والنادي
وفي كتاب الله تعالى: {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} [مريم: 73]. وجمعه أندية. يقول فليدع أهل ناديه. كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف 82] يريد أهل القرية. قال سلامة بن جندل أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم:
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
__________
...........................................................

(3/104)


وهذا البيت في قصيدة له. وقال الكميت بن زيد:
لا مهاذير في الندي مكاثـ ... ـير ولا مصمتين بالإفحام
وهذا البيت في قصيدة له. ويقال النادي: الجلساء. والزبانية الغلاظ الشداد وهم في هذا الموضع خزنة النار. والزبانية أيضا في الدنيا: أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه والواحد زبنية. قال ابن الزبعرى في ذلك:
مطاعيم في المقرى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عظام حلومها
يقول شداد. وهذا البيت في أبيات له.
وقال صخر بن عبد الله الهذلي، وهو صخر الغي:
ومن كبير نفر زبانيه
وهذا البيت في أبيات له. قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ: 47].
استكبار قريش عن أن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم:
فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوا عنه حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا، ولجوا فيما هم عليه من الكفر فقال قائلهم {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] أي اجعلوه لغوا وباطلا، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم.
__________
....................................................

(3/105)


تهكم أبي جهل بالرسول صلى الله عليه وسلم وتنفير الناس عنه:
فقال أبو جهل يوما وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أكثر الناس عددا، وكثرة أفيعجز كل مائة رجل معكم عن رجل منهم ؟ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر 31] إلى آخر القصة فلما قال ذلك بعضهم لبعض جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي، يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي، استرق السمع دونهم فرقا معهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته
__________
خزنة جهنم وأبو الأشدين:
فصل : وذكر ابن إسحاق قول أبي جهل مستهزئا: يزعم محمد أن جنود ربه التي يخوفكم بها تسعة عشر وأنتم الناس إلى آخر القصة. وأهل التفسير يعزون هذه المقالة إلى أبي الأشدين الجمحي واسمه كلدة بن أسيد بن خلف وأبو دهبل الشاعر هو ابن أخيه واسمه وهب بن زمعة بن أسيد بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وكانت عند أبي دهبل التوأمة التي يعرف بها صالح مولى التوأمة وهي أخت عبد الله بن صفوان بن أمية، ولدت له عبد الرحمن قتل يوم الجمل وأنه قال اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر إعجابا منه بنفسه وكان بلغ من شدته - فيما زعموا - أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المصارعة.

(3/106)


فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه. <80>
سبب نزول آية: {وَلا تَجْهَرْ .....} الخ
قال ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين مولى عمرو بن عثمان، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حدثهم إنما أنزلت هذه الآية {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء 110]. من أجل أولئك النفر. يقول لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك، ولا تخافت بها، فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به.
أول من جهر بالقرآن
عبد الله بن مسعود وما ناله من قريش في سبيل جهره بالقرآن:
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
__________
وقال إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارا، ولم يؤمن وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب وسيأتي في الكتاب والله أعلم وأما ما قال أهل التأويل في خزنة جهنم التسعة عشر فروي عن كعب أنه قال بيد كل واحد منهم عمود له شعبتان وإنه ليدفع بالشعبة تسعين ألفا إلى النار وقد أملينا في معنى أبواب الجنة وأبواب النار فائدة عددها وتسميتها، وذكر الزبانية والحكمة في كونهم عددا قليلا مسألة في قريب من جزء فلتنظر هناك.
بهت الرسول صلى الله عليه وسلم أن بشرا يعلمه:
فصل : وذكر قول قريش: إنما يعلمه رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا لا نؤمن بالرحمن فأنزل الله سبحانه { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي}

(3/107)


اجتمع يوما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه قال دعوني فإن الله سيمنعني. قال فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رافعا بها صوته {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1-2] قال ثم استقبلها يقرؤها. قال فتأملوه فجعلوا يقولون. ماذا قال ابن أم عبد ؟ قال ثم قالوا: ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه فقالوا له هذا الذي خشينا عليك فقال ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون .
قصة استماع قريش إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
أبو سفيان وأبو جهل والأخنس، وحديث استماعهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا
__________
[الرعد:30] كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، ثم أحد بني الدول قد تسمى: الرحمن في الجاهلية وكان من المعمرين ذكر وثيمة بن موسى أن مسيلمة تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم
كبير :
وأنشد في تفسير الزبانية:

(3/108)


يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا. فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع <82> الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
ذهاب الأخنس إلى أبي سفيان يسأله عن معنى ما سمع:
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها
__________
ومن كبير نفر زبانيه
وجدت في حاشية كتاب الشيخ على هذا البيت كبير حي من هذيل قال المؤلف وفي أسد أيضا: كبير بن غنم بن دودان بن أسد، ومن ذريته بنو جحش بن ريان بن يعمر بن صبوة بن مرة بن كبير ولعل الراجز أن يكون أراد هؤلاء فإنهم أشهر والله أعلم وبنو كبير أيضا: بطن من بني غامد، وهم من الأزد، والذي تقدم ذكره من هذيل هو كبير بن طابخة بن لحيان بن سعد بن هذيل.
حول آيات من القرآن:
فصل: وذكر استماع أبي جهل وأبي سفيان والأخنس إلى قول أبي جهل فلما

(3/109)


ولا ما يراد بها، قال الأخنس وأنا والذي حلفت به كذلك
ذهاب الأخنس إلى أبي جهل يسأله عن معنى ما سمع:
قال ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه. قال فقام عنه الأخنس وتركه.
تعنت قريش في عدم استماعهم للرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزله تعالى :
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله قالوا يهزءون به {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] لا نفقه ما تقول {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} لا نسمع ما تقول {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} قد حال بيننا وبينك {فَاعْمَلْ} بما أنت عليه {إِنَّنَا عَامِلُونَ} بما نحن عليه إنا لا نفقه عنك شيئا، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قولهم {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} إلى قوله {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
__________
تجاذينا على الركب. وقع في الجمهرة الجاذي: المقعي على قدميه قال وربما جعلوا الجاذي والجاثي سواء.
وذكر قول الله سبحانه خبرا عنهم {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء 45] قال بعضهم مستور بمعنى: ساتر كما قال:

(3/110)


وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء 45 - 46] أي كيف فهموا توحيدك ربك إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وبينك وبينهم حجابا بزعمهم أي إني لم أفعل ذلك. {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} أي ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم. {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} أي أخطئوا المثل الذي ضربوا لك، فلا يصيبون به هدى، ولا يعتدل لهم فيه قول {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي قد جئت تخبرنا: أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا، وذلك ما لا يكون. {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء 47 - 51]. أي الذي خلقكم مما تعرفون فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال سألته عن قول الله تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} ما الذي أراد الله به ؟ فقال الموت.
__________
{كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم:61] أي آتيا، والصحيح أن مستورا هنا على بابه لأنه حجاب على القلب فهو لا يرى. وذكر حديث ابن عباس حين سئل عن قوله {أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء:51] فقال الموت وهو تفسير يحتاج إلى تفسير ورأيت لبعض المتأخرين فيه قال أراد ابن عباس أن الموت سيفنى كما يفنى كل شيء كما جاء

(3/111)


..............................................
__________
أنه يذبح على الصراط فكان المعنى أن لو كنتم حجارة أو حديدا لأدرككم الفناء والموت ولو كنتم الموت الذي هو كبير في صدوركم فلا بد لكم من الفناء - والله أعلم - بتأويل ذلك وقد بقي في نفسي من تأويل هذه الآية شيء حتى يكمل الله نعمته بفهمها إن شاء الله تعالى - وقوله سبحانه {وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الاسراء: من الآية46] يجوز أن يكون نفورا: جمع نافر فيكون نصبا على الحال ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لولوا. ومما أنزل الله في استماعهم {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس 42] ألا ترى كيف جمع يستمعون والحمل على اللفظ إذا قرب منه أحسن ألا ترى إلى قوله سبحانه {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} [لقمان:22] فأفرد حملا على لفظ من وقال في آخر الآية {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فجمع حملا على المعنى، لما بعد عن اللفظ وهكذا كان القياس في قوله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ} [يونس 42] ولكن لما كانوا جماعة ونزلت الآية فيهم بأعيانهم صار المعنى: ومنهم نفر يستمعون يعني أولئك النفر وهم أبو جهل وأبو سفيان والأخنس بن شريق، ألا ترى كيف قال بعد {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: من الآية43] فأفرد حملا على اللفظ لارتفاع السبب المتقدم والله أعلم.

(3/112)