الروض الأنف ت السلامي

خبر الصحيفة:
تحالف الكفار ضد الرسول:
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وجعل الإسلام يفشو في القبائل اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم، وبني المطلب، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم فلما اجتمعوا لذلك كتبوه في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي - قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث - فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشل بعض أصابعه.
قال ابن إسحاق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بني هاشم: أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، إلى قريش، فظاهرهم.
__________
حديث الصحيفة التي كتبتها قريش:
ذكر فيه قول أبي لهب ليديه تبا لكما، لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد,

(3/174)


تهكم أبي لهب بالرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله فيه:
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا، فقال يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزى، وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما ؟ قالت نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة
قال ابن إسحاق: وحدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول يعدني محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يدي بعد ذلك ثم ينفخ في يديه ويقول تبا لكما، ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد فأنزل الله تعالى فيه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسند: 1]
__________
فأنزل الله <130> تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} هذا الذي ذكره ابن إسحاق يشبه أن يكون سببا لذكر الله سبحانه يديه حيث يقول {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وأما قوله وتب تفسيره ما جاء في الصحيح من رواية مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس، قال لما أنزل الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء 214] خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الصفا، فصعد عليه فهتف "يا صباحاه"، فلما اجتمعوا إليه قال "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي" ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" . فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} هكذا قرأ مجاهد والأعمش، وهي - والله أعلم - قراءة مأخوذة عن ابن مسعود لأن في قراءة ابن مسعود ألفاظا كثيرة تعين على التفسير قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباس، ما احتجت أن أسأله

(3/175)


قال ابن هشام: تبت خسرت. والتباب الخسران. قال حبيب بن خدرة الخارجي: أحد بني هلال بن عامر بن صعصعة:
يا طيب إنا في معشر ذهبت ... مسعاتهم في التبار والتبب
وهذا البيت في قصيدة له.
__________
عن كثير مما سألته، وكذلك زيادة قد في هذه الآية فسرت أنه خبر من الله تعالى، وأن الكلام ليس على جهة الدعاء كما قال تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة 35]، أي إنهم أهل أن يقال لهم هذا، فتبت يدا أبي لهب ليس من باب قاتلهم الله ولكنه خبر محض بأن قد خسر أهله وماله واليدان آلة الكسب وأهله وماله مما كسب فقوله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} تفسيره قوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] وولد الرجل من كسبه كما جاء في الحديث أي خسرت يداه هذا الذي كسبت، وقوله وتب تفسيره. {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] أي قد خسر نفسه بدخوله النار وقول أبي لهب تبا لكما، ما أرى فيكما شيئا، يعني: يديه سبب لنزول تبت يدا كما تقدم.
وقوله في الحديث الآخر تبا لك يا محمد سبب لنزول قوله سبحانه: {وَتُبْ} فالكلمتان في التنزيل مبنيتان على السببين والآيتان بعدهما تفسير للسببين. تباب يديه وتبابه هو في نفسه والتبب على وزن التلف لأنه في معناه والتباب كالهلاك والخسار وزنا ومعنى، ولذلك قيل فيه تبب وتباب.

(3/176)


شعر أبي طالب في قريش حين تظهارتوا على الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: فلما اجتمعت على ذلك قريش، وصنعوا فيه الذي صنعوا، قال أبو طالب:
ألا أبلغا عني على ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب
__________
من تفسير شعر أبي طالب
فصل: ذكر شعر أبي طالب:
ألا أبلغا عني على ذات بيننا
قال قاسم بن ثابت ذات بيننا، وذات يده وما كان نحوه صفة لمحذوف مؤنث كأنه يريد الحال التي هي ذات بينهم كما قال الله سبحانه {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال 1] فكذلك إذا قلت: ذات يده. يريد أمواله أو مكتسباته كما قال عليه السلام: "أرعاه على زوج في ذات يده" وكذلك إذا قلت: لقيته ذات يوم أي لقاءة أو مرة ذات يوم فما حذف الموصوف وبقيت الصفة صارت كالحال لا تتمكن ولا ترفع في باب ما لم يسم فاعله كما ترفع الظروف المتمكنة وإنما هو كقولك: سير عليه شديدا وطويلا، وقول الخثعمي - واسمه أنس بن مالك [مدرك] : عزمت على إقامة ذات صباح ليس هو عندي من هذا الباب وإن كان سيبويه قد جعلها لغة لخثعم ولكنه على معنى إقامة يوم وكل يوم هو ذو صباح كما تقول ما كلمني ذو شفة أي متكلم وما مررت بذي نفس فلا يكون من باب ذات مرة الذي لا يتمكن في الكلام وقد وجدت في حديث قيلة بنت مخرمة، وهو حديث طويل وقع في مسند ابن أبي شيبة: أن أختها قالت لبعلها: إن أختي تريد المسير مع

(3/177)


وأن عليه في العباد محبة ... ولا خير ممن خصه الله بالحب
__________
زوجها حريث بن حسان ذا صباح بين سمع الأرض وبصرها، فهذا يكون من باب ذات مرة وذات يوم غير أنه ورد مذكرا ; لأنه تشتغل تاء التأنيث مع الصاد وتوالي الحركات فحذفوها، فقالوا: لقيته ذا صباح وهذا لا يتمكن كما لا يتمكن ذات يوم وذات حين ولا يضاف إليه مصدر ولا غيره. وقول الخثعمي عزمت على إقامة ذي صباح قد أضاف إليه فكيف يضيف إليه ثم ينصبه أو كيف يضارع الحال مع إضافة المصدر إليه ؟ فكذلك خفضه وأخرجه عن نظائره إلا أن يكون سيبويه سمع خثعم يقولون سرت في ذات يوم أو سير عليه ذات يوم برفع التاء فحينئذ يسوغ له أن يقول لغة خثعم، وأما البيت الذي تقدم فالشاهد له فيه وما أظن خثعم، ولا أحدا من العرب يجيز التمكن في نحو هذا، وإخراجه عن النصب والله أعلم.
لا التي للتبرئة:
فصل : وفيه: ولا خير ممن خصه الله بالحب
وهو مشكل جدا لأن لا في باب التبرئة لا تنصب مثل هذا إلا منونا تقول لا خيرا من زيد في الدار ولا شرا من فلان وإنما تنصب بغير تنوين إذا كان الاسم غير موصول بما بعده كقوله تعالى: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف 92]. لأن عليكم ليس من صلة التثريب لأنه في موضع الخبر، وأشبه ما يقال في بيت أبي طالب أن خيرا مخفف من خير كهين وميت [من هين وميت] وفي التنزيل {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن 70] هو مخفف من خيرات.
عود إلى شرح شعر أبي طالب:
وقوله ممن. من متعلقة بمحذوف كأنه قال لا خير أخير ممن خصه الله وخير وأخير لفظان من جنس واحد فحسن الحذف استثقالا لتكرار اللفظ كما حسن {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة 177]. و {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}

(3/178)


وأن الذي ألصقتم من كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا، قبل أن يحفر الثرى ... ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا ... أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا، وربما ... أمر على من ذاقه جلب الحرب
فلسنا - ورب البيت - نسلم أحمدا ... لعزاء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبن منا، ومنكم سوالف ... وأيد أترت بالقساسية الشهب
بمعترك ضيق ترى كسر القنا ... به والنسور الطخم يعكفن كالشرب
__________
[البقرة 197] لما في تكرار الكلمة مرتين من الثقل على اللسان وأغرب من هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} [يونس 11] أي لو عجله لهم إذا استعجلوا به استعجالا مثل استعجالهم بالخير فحسن هذا الكلام لما في الكلام من ثقل التكرار وإذا حذفوا حرفا واحدا لهذه العلة كقولهم بلحرث بنون فلان وظللت وأحشت فأحرى أن يحذفوا كلمة من حروف فهذا أصل مطرد ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يكون حذف التنوين مراعاة لأصل الكلمة لأن خيرا من زيد إنما معناه أخير من زيد وكذلك شر من فلان إنما أصله أشر على وزن أفعل وحذفت الهمزة تخفيفا، وأفعل لا ينصرف فإذا انحذفت الهمزة انصرف ونون فإذا توهمتها غير ساقطة التفاتا إلى أصل الكلمة لم يبعد حذف التنوين على هذا الوجه مع ما يقويه من ضرورة الشعر. وقوله بالقساسية الشهب يعني: السيوف نسبها إلى قساس، وهو معدن حديد لبني أسد، وقيل اسم للجبل الذي فيه المعدن قال الراجز يصف فأسا:
أحضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحيد ذي الأضراس

(3/179)


كأن مجال الخيل في حجراته ... ومعمعة الأبطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ... ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفائظ والنهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرعب
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش.
__________
يرمى به في البلد الدهاس
وقال أبو عبيد في القساسية: لا أدري إلى أي شيء نسب والذي ذكرناه قاله المبرد وقوله ذي قساس كما حكى، ذو زيد أي صاحب هذا الاسم وفي أقيال حمير: ذو كلاع وذو عمرو، أضيف المسمى إلى اسمه كما قالوا: زيد بطة أضافوه إلى لقبه.
وذكر فيه النسور الطخمة، قيل هي السود الرءوس قاله صاحب العين وقال أيضا: الطخمة سواد في مقدم الأنف.
وقوله كراغية السقب يريد ولد الناقة التي عقرها قدار، فرغا ولدها، فصاح برغائه كل شيء له صوت فهلكت ثمود عند ذلك فضربت العرب ذلك مثلا في كل هلكة. كما قال علقمة [بن عبدة] :
رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكته لم يستلب وسليب

(3/180)


تعرض أبي جهل لحكيم بن حزام ، وتوسط أبي البختري:
وقد كان أبو جهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه في الشعب، فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ والله لا تبرح أنت وطعامك، حتى أفضحك بمكة. فجاءه أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد [بن عبد العزى]، فقال ما لك وله ؟ فقال يحمل الطعام إلى بني هاشم فقال أبو البختري طعام كان لعمته عنده بعثت إليه [فيه]، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطأ شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فيشمتوا بهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا، مناديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس.
ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه من الأذى:
ما أنزل الله في أبي لهب:
فجعلت قريش حين منعه الله منها، وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم ومنهم من سمي لنا ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار فكان ممن سمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته أم
__________
وقال آخر
لعمري لقد لاقت سليم وعامر ... على جانب الثرثار راغية البكر

(3/181)


جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب ؟ لأنها كانت - فيما بلغني - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يمر، فأنزل الله تعالى فيهما: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1-5] قال ابن هشام: الجيد العنق. قال أعشى بني قيس بن ثعلبة
يوم تبدي لنا قتيلة عن جيد أسيل ... تزينه الأطواق
وهذا البيت في قصيدة له. وجمعه أجياد. والمسد شجر يدق كما يدق الكتان فتفتل منه حبال. قال النابغة الذبياني - واسمه زياد بن عمرو بن معاوية:
مقذوفة بدخيس النحض بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
__________
ذكر أم جميل والمسد وعذابها:
فصل : وذكر أم جميل بنت حرب عمة معاوية وذكر أنها كانت تحمل الشوك وتطرحه في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فيها: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] قال المؤلف فلما كنى عن ذلك الشوك بالحطب والحطب لا يكون إلا في حبل من ثم جعل الحبل في عنقها، ليقابل الجزاء الفعل.
وقوله من مسد هو من مسدت الحبل إذا أحكمت فتله إلا أنه قال من مسد ولم يقل حبل مسد ولا ممسود لمعنى لطيف ذكره بعض أهل التفسير قال المسد يعبر به في العرف عن حبل الدلو وقد روي أنه يصنع بها في النار ما يصنع بالدلو ترفع بالمسد في عنقها إلى شفير جهنم ثم يرمى بها إلى قعرها هكذا أبدا، وقولهم أن المسد هو حبل الدلو في العرف صحيح فإنا لم نجده في كلام العرب إلا كذلك كقول [النابغة] الذبياني:
له صريف صريف القعو بالمسد

(3/182)


..................................................
__________
<136> وقال الآخر وهو يستقي على إبله:
يا مسد الخوص تعوذ مني ... إن تك لدنا لينا فإني
ما شئت من أشمط مقسئن
وقال آخر:
يا رب عبس لا تبارك في أحد ... في قائم منهم ولا فيمن قعد
غير الأولى شدوا بأطراف المسد
أي استقوا، وقال آخر وهو يستقي:
ومسد أمر من أيانق ... ليس بأنياب ولا حقائق
يريد جمع أينق وأينق جمع ناقة مقلوب وأصله أنوق فقلب وأبدلت الواو ياء لأنها قد أبدلت ياء للكسرة إذا قالوا: نياق وقلبوه فرارا من اجتماع همزتين لو قالوا: أنوق على الأصل يريد أن المسد من جلودها. وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في المدينة: "قد حرمتها إلا لعصفور قتب أو مسد" محالة والمحالة البكرة. وفي حديث آخر أنه حرمها بريدا في بريد إلا المنجدة أو مسد والمنجدة عصا الراعي. وقال أبو حنيفة في النبات كل مسد رشاء وأنشد:

(3/183)


......................................................
__________
وبكرة ومحورا صرارا ... ومسدا من أبق مغارا
والأبق القنب والزبر الكتان وأنشد أيضا:
أنزعها تمطيا ومثا ... بالمسد المثلوث أو يرمثا
فقد بان لك بهذا أن المسد حبل البئر وقد جاء في صفة جهنم - أعاذنا الله منها - أنها كطي البئر لها قرنان والقرنان من البئر كالدعامتين للبكرة فقد بان لك بهذا كله ما ذكره أهل التفسير من صفة عذابها أعاذنا الله من عذابه وأليم عقابه وبهذا تناسب الكلام وكثرت معانيه وتنزه عن أن يكون فيه حشو أو لغو - تعالى الله منزله فإنه كتاب عزيز.
وقول مجاهد: إنها السلسلة التي ذرعها سبعون ذراعا لا ينفي ما تقدم إذ يجوز أن يربق في تلك السلسلة أم جميل وغيرها، فقد قال أبو الدرداء لامرأته يا أم الدرداء إن لله سلسلة تغلي بها مراجل جهنم منذ خلق الله النار إلى يوم القيامة وقد نجاك من نصفها بالإيمان بالله فاجتهدي في النجاة من النصف الآخر بالحض على طعام المسكين وكذلك قول مجاهد: إنها كانت تمشي بالنمائم لا ينفي حملها الشوك وهو في كلام العرب سائغ أيضا، فقد قال ابن الأسلت لقريش حين اختلفوا:
ونبئتكم شرجين كل قبيلة ... لها زمل من بين مذك وحاطب
فالمذكي الذي يذكي نار العداوة والحاطب الذي ينم ويغري كالمحتطب

(3/184)


...................................................
__________
النار ومن هذا المعنى، وكأنه منتزع منه قول النبي - صلى الله عليه وسلم – "لا يدخل الجنة قتات" والقتات هو الذي يجمع القت وهو ما يوقد به النار من حشيش وحطب صغار.
عن الجيد والعنق:
وقوله في جيدها، ولم يقل في عنقها، والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الغل، أو الصفع كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} [يس: 8] ويذكر الجيد إذا ذكر الحلي أو الحسن فإنما حسن ههنا ذكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحبل المجعول في عنقها، فلما أقيم لها ذلك مقام الحلي ذكر الجيد معه فتأمله فإنه معنى لطيف ألا ترى إلى قول الأعشى:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جيد
ولم يقل عن عنق وقول الآخر:
وأحسن من عقد المليحة جيدها
و لم يقل عنقها، ولو قاله لكان غثا من الكلام فإنما يحسن ذكر الجيد حيث قلنا، وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] أي لا بشرى لهم إلا ذلك وقول الشاعر [عمرو بن معدي كرب] :
[وخيل قد دلفت لها بخيل] ... تحية بينهم كرب وجيع
أي لا تحية لهم. كذلك قوله في جيدها حبل من مسد أي ليس ثم جيد يحلى، إنما هو حبل المسد وانظر كيف قال وامرأته ولم يقل وزوجه لأنها

(3/185)


.................................................
__________
ليست بزوج له في الآخرة ولأن التزويج حلية شرعية وهو من أمر الدين يجردها من هذه الصفة كما جرد منها امرأة نوح وامرأة لوط، فلم يقل زوج نوح وقد قال لآدم {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة 35] وقال لنبيه عليه السلام {قُلْ لأَزْوَاجِكَ} وقال وأزواجه أمهاتهم إلا أن يكون مساق الكلام في ذكر الولادة والحمل ونحو ذلك فيكون حينئذ لفظ المرأة لائقا بذلك الموطن كقوله تعالى: {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً} [مريم: 5 - 8]، {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات 29] لأن الصفة التي هي الأنوثة هي المقتضية للحمل والوضع لا من حيث كان زوجا.
غلو في الوصف بالحسن:
فصل وأنشد شاهدا على الجيد قول الأعشى:
يوم تبدي لنا قتيلة عن ... جيد أسيل تزينه الأطواق
وقوله تزينه أي تزيده حسنا، وهذا من القصد في الكلام وقد أبى المولدون إلا الغلو في هذا المعنى، وأن يغلبوه فقال في الحماسة حسين بن مطير [الأسدي] :
مبللة الأطراف زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
وقال خالد القسري لعمر بن عبد العزيز من تكن الخلافة زينته فأنت زينتها، ومن تكن شرفته، فأنت شرفتها، وأنت كما قال [مالك ابن أسماء] :
وتزيدين أطيب الطيب طيبا ... إن تمسيه أين مثلك أينا
وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا
فقال عمر إن صاحبكم أعطى مقولا، ولم يعط معقولا، قال المؤلف وإنما لم يحسن هذا من خالد لما قصد به التملق. وإلا فقد صدر مثل هذا المعنى عن

(3/186)


................................................
__________
الصديق فحسن لما عضده من التحقيق والتحري للحق والبعد عن الملق والخلابة وذلك حين عهد إلى عمر بالخلافة ودفع إليه عهده مختوما، وهو لا يعرف ما فيه فلما عرف ما فيه رجع إليه حزينا كهيئة الثكلى: يقول حملتني عبئا ألا أضطلع به وأوردتني موردا لا أدري: كيف الصدر عنه فقال له الصديق ما آثرتك بها، ولكني آثرتها بك، وما قصدت مساءتك، ولكن رجوت إدخال السرور على المؤمنين بك، ومن هاهنا أخذ الحطيئة قوله
ما آثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الإثر
وقد سبك هذا المعنى في النسيب عبد الله بن عباس الرومي، فقال:
وأحسن من عقد المليحة جيدها ... وأحسن من سربالها المتجرد
ومما هو دون الغلو وفوق التقصير قول الرضي :
حليه جيده لا ما يقلده ... ... وكحله ما بعينيه من الكحل
ونحو منه ما أنشده الثعالبي:
وما الحلي إلا حيلة من نقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
فأما إذا كان الجمال موفرا ... فحسبك لم يحتج إلى أن يزورا
وسمعت القاضي أبا بكر محمد بن العربي يقول حج أبو الفضل الجوهري الزاهد ذات مرة فلما أشرف على الكعبة، ورأى ما عليها من الديباج تمثل وقال:

(3/187)


وهذا البيت في قصيدة له وواحدته مسدة.
أم الجميل ورد الله كيدها عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: فذكر لي: أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها، وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك، فقد بلغني أنه يهجوني ؟ والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه أما والله إني لشاعرة ثم قالت:
مذمما عصينا ... وأمره أبينا
ودينه قلينا
__________
ما علق الحلي على صدرها ... إلا لما يخشى من العين
تقول والدر على نحرها ... من علق الشين على الزين
وبيت الأعشى المتقدم بعده:
وشتيت كالأقحوان جلاه ... الطل فيه عذوبة واتساق
وأثيث جثل النبات تروي ... ه لعوب غريرة مفتاق
حرة طفلة الأنامل كالدم ... لا عانس ولا مهزاق
الفهر :
<140> وذكر قول أم جميل لأبي بكر لو وجدت صاحبك لشدخت رأسه بهذا الفهر. المعروف في الفهر التأنيث وتصغيره فهيرة ووقع هاهنا مذكرا.

(3/188)


ثم انصرفت، فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك ؟ فقال "ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني"
قال ابن هشام: قولها: "ودينه قلينا" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وكانت قريش إنما تسمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذمما، ثم يسبونه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريش، يسبون ويهجون مذمما، وأنا محمد"
ذكر ماكان يؤذي به أمية بن خلف رسول صلى الله عليه وسلم.
وأمية بن خلف بن وهب بن جذافة بن جمح كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه فأنزل الله تعالى فيه {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [همزة 1-9].
قال ابن هشام: الهمزة الذي يشتم الرجل علانية ويكسر عينيه عليه ويغمز به. قال حسان بن ثابت:
همزتك فاختضعت لذل نفس ... بقافية تأجج كالشواظ
__________
حول قولهم مذمم وحديث خباب
وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألا ترون إلى ما يدفع الله عني من أذى قريش، يشتمون ويهجون مذمما وأنا محمد" ؟ وأدخل النسوي هذا الحديث في كتاب الطلاق في باب من طلق بكلام لا يشبه الطلاق فإنه غير لازم وهو فقه حسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم "ألا ترون إلى ما يدفع الله عني" فجعل أذاهم مصروفا عنه لما سبوا مذمما، ومذمما لا يشبه أن يكون اسما له فكذلك إذا قال لها: كلي واشربي، وأراد به الطلاق لم يلزمه وكان مصروفا عنه لأن مثل هذا الكلام لا يشبه أن يكون عبارة عن الطلاق.

(3/189)


وهذا البيت في قصيدة له. وجمعه همزات. واللمزة الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم. قال رؤبة بن العجاج:
في ظل عصري باطلي ولمزي
وهذا البيت في أرجوزة له وجمعه لمزات.
ما كان يؤذي به العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل فيه:
إيذاء العاص للرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: والعاص بن وائل السهمي، كان خباب بن الأرت، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قينا بمكة يعمل السيوف وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا عملها له حتى كان له عليه مال فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم ؟ قال خباب بلى. قال فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله مني، ولا أعظم حظ في ذلك فأنزل الله تعالى فيه {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أطلع أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} إلى قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [هي وما قبلها من سورة مريم: 77 - 80].
__________
فصل وذكر حديث خباب مع العاص بن وائل وما أنزل الله فيه من قوله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا} [ مريم: 77] وقد تقدم الكلام على: أرأيت، وأنه لا يجوز أن يليها الاستفهام كما يلي: علمت ونحوها، وهي هاهنا: عاملة في الذي كفر وقد قدمنا من القول فيها ما يغني عن إعادته هاهنا، فلينظر في سورة اقرأ وحديث نزولها.

(3/190)


ما كان نؤذي به أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل فيه:
ولقي أبو جهل بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - فقال له والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا، أو لنسبن إلهك الذي تعبد. فأنزل الله تعالى فيه {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام 108] فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله.
__________
سد الذرائع:
فصل : وذكر قول أبي جهل لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك، فأنزل الله تعالى {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام 108] الآية. وهذه الآية أصل عند المالكية في إثبات الذرائع ومراعاتها في البيوع وكثير من الأحكام وذلك أن سب آلهتهم كان من الدين فلما كان سببا إلى سبهم الباري - سبحانه - نهى عن سب آلهتهم فكذلك ما يخاف منه الذريعة إلى الربا، ينبغي الزجر عنه ومن الذرائع ما يقرب من الحرام ومنها ما يبعد فتقع الرخصة والتشديد على حسب ذلك ولم يجعل الشافعي الذريعة إلى الحرام أصلا، ولا كره شيئا من البيوع التي تتقى فيها الذريعة إلى الربا، وقال تهمة المسلم وسوء الظن به حرام ومن حجتهم قول عمر بن الخطاب: إنما الربا على من قصد الربا، وقول النبي عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" فيه أيضا متعلق لهم وقالوا: ونهيه تعالى عن سب آلهتهم لئلا يسب الله تعالى ليس من هذا الباب لأنه لا تهمة فيه لمؤمن ولا تضييق عليه وكما تتقى الذريعة إلى تحليل ما حرم الله فكذلك ينبغي أن يتقى تحريم ما أحل الله فكلا الطرفين ذميم وأحل الله البيع وحرم الربا، والربا معلوم فما ليس من الربا فهو من البيع والكلام في هذه المسألة للطائفتين والاحتجاج للفريقين يتسع مجاله ويصدنا عن مقصودنا من الكتاب.

(3/191)


ما كان يؤذي به النضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل فيه:
والنضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا، فدعا فيه إلى الله تعالى، وتلا فيه القرآن وحذر قريشا ما أصاب الأمم الخالية خلفه في مجلسه إذا قام فحدثهم عن رستم السديد وعن إسفنديار، وملوك فارس، ثم يقول والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها. فأنزل الله فيه {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 5، 6]. ونزل فيه {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15] ونزل فيه {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} [الجاثية 7، 8]. {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7]
__________
عن النضر بن الحارث ورستم:
فصل حديث النضر بن الحارث وقال في نسبه كلدة بن علقمة وغيره من النساب يقول علقمة بن كلدة وكذلك ألفيته في حاشية كتاب الشيخ أبي بحر عن أبي الوليد وحديث النضر أنه تعلم أخبار رستم وإسفندياز، وكان يقول اكتتبتها كما اكتتبها محمد ووقع في الأصل اكتتبها كما اكتتبها محمد وفي الرواية الأخرى عن أبي الوليد اكتتبتها كما اكتتبها، ورستم الشيد بالفارسية معناه ذو الضياء والياء في الشيد والألف سواء ومنه أرفخشاذ وقد تقدم شرحه ومنه جم شاذ، وهو من أول ملوك الأرض وهو الذي قتله الضحاك بيوراسب، ثم عاش إلى مدة أفريذون وأبيه جم، وبين أفريذون وبين جم تسعة آباء وقال له

(3/192)


قال ابن هشام: الأفاك الكذاب. وفي كتاب الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات 151، 152]. قال رؤبة بن العجاج:
ما لامرئ أفك قولا إفكا
وهذا البيت في أرجوزة له.
قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما - فيما بلغني - مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس وفي المجلس غير واحد من قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء 98 - 100].
قال ابن هشام: حصب جهنم كل ما أوقدت به. قال أبو ذؤيب الهذلي واسمه خويلد بن خالد:
فأطفئ ولا توقد ولا تك محصبا ... لنار العداة أن تطير شكاتها
وهذا البيت في أبيات له. ويروى: ولا تك محضأ. قال الشاعر:
حضأت له ناري فأبصر ضوأها ... وما كان لولا حضأة النار يهتدي
مقالة ابن زبعرى، وما أنزل الله فيه:
قال ابن إسحاق: ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى
__________
حين قتله ما قتلتك بجم وما أنت له بكفء ولكن قتلتك بثور كان في داره وقد تقدم طرف من أخبار رستم وإسفندياز في الجزء قبل هذا.
حديث ابن الزبعرى وعزير:
وذكر حديث ابن الزبعرى، وقوله إنا نعبد الملائكة وأن النصارى تعبد

(3/193)


جلس فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبد الله بن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم عليهما السلام فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته" فأنزل الله تعالى عليه في ذلك {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء 101، 102] : أي عيسى ابن مريم، وعزيرا، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله.
ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء 26، 27]. إلى قوله {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء 29].
المسيح إلى آخر كلامه وما أنزل الله في ذلك من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء 101] الآية قال المؤلف ولو تأمل ابن الزبعرى وغيره من كفار قريش الآية لرأى اعتراضه غير لازم من وجهين:
أحدهما : أنه خطاب متوجه على الخصوص لقريش وعبدة الأصنام وقوله إنا نعبد الملائكة حيدة وإنما وقع الكلام والمحاجة في اللات والعزى وهبل وغير ذلك من أصنامهم.
والثاني : أن لفظ التلاوة {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الانبياء: 98] ولم يقل ومن

(3/194)


ونزل فيما ذكر من أمر عيسى ابن مريم أنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف 57]. أي يصدون عن أمرك بذلك من قولهم.
ثم ذكر عيسى ابن مريم فقال {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي
ـــــــ
تعبدون فكيف يلزم اعتراضه بالمسيح وعزير والملائكة وهم يعقلون والأصنام لا تعقل ومن ثم جاءت الآية بلفظ ما الواقعة على ما لا يعقل وإنما تقع ما على ما يعقل وتعلم بقرينة من التعظيم والإبهام ولعلنا نشرحها ونبينها فيما بعد إن قدر لنا ذلك وسبب عبادة النصارى للمسيح معروف وأما عبادة اليهود عزيرا، وقولهم فيه إنه ابن الله سبحانه وتعالى عن قولهم وسببه فيما ذكر عبد بن حميد الكشي أن التوراة لما احترقت أيام بخت نصر وذهب بذهابها دين اليهود، فلما ثاب إليهم أمرهم وجدوا لفقدها أعظم الكرب فبينما عزير يبكي لفقد التوراة، إذ مر بامرأة جاثمة على قبر قد نشرت شعرها، فقال لها عزير من أنت ؟ قالت أنا إيليا أم القرى أبكي على ولدي، وأنت تبكي على كتابك، وقالت له إذا كان غدا، فأت هذا المكان فلما أن جاء من الغد للساعة التي وعدته إذا هو بإنسان خارج من الأرض في يده كهيئة القارورة فيها نور فقال له افتح فاك، فألقاها في جوفه فكتب عزير التوراة - كما أنزلها الله ثم قدر على التوراة بعدما كانت دفنت أن ظهرت فعرضت التوراة، وما كان عزير كتب فوجدوه سواء فمنها قالوا: إنه ولد الله تعالى عن ذلك.
حصب جهنم:
وقوله حصب جهنم هو من باب القبض والنفض والحصب بسكون الصاد

(3/195)


إِسْرائيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف 59 - 61] أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
الأخنس بن شريق، وما أنزل الله فيه:
قال ابن إسحاق: والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرد عليه فأنزل الله تعالى فيه {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم 10، 11]. إلى قوله تعالى: {زَنِيمٍ} ولم يقل {زَنِيمٍ} لعيب في نسبه لأن الله لا يعيب أحدا بنسب ولكنه حقق بذلك نعته ليعرف. والزنيم العديد للقوم وقد قال الخطيم التميمي في الجاهلية:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ـــــــ
كالقبض والنفض ومنه الحاصب في قوله سبحانه {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك: 17] ويروى: حضب جهنم بضاد معجمة في شواذ القراءات وهو من حضبت النار بمنزلة حضأتها، يقال أرثتها وأثقبتها وحششتها وأذكيتها وفسر ابن إسحاق قوله يصدون ومن قرأ يصدون فمعناه يعجبون.
ما نزل في الأخنس:
فصل : وذكر ما أنزل الله تعالى في الأخنس بن شريق - واسمه أبي من قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13] وقد قيل نزلت في الوليد بن المغيرة،

(3/196)


الوليد بن المغيرة، وما أنزل الله تعالى فيه:
والوليد بن المغيرة، قال أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف، ونحن عظيما القريتين ؟ فأنزل الله تعالى فيه فيما بلغني: { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف 30]. إلى قوله تعالى: {مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزحرف:32].
أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وما أنزل الله فيهما :
وأبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح وعقبة بن أبي معيط، وكانا متصافيين حسنا ما بينهما. فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع منه فبلغ ذلك أبيا، فأتى عقبة فقال ألم يبلغني أنك جالست محمدا، وسمعت منه!
ـــــــ
وقد قيل في الأسود بن عبد يغوث الزهري، وقال ابن عباس: نزلت في رجل من قريش له زنمتان كزنمتي الشاة رواه البخاري بإسناده عنه. وفي رواية أخرى أنه قال الزنيم الذي له زنمتان من البشر يعرف بها، كما تعرف الشاة بزنمتها، وروي عن ابن عباس أيضا مثل ما قال ابن إسحاق أن الزنيم الملصق بالقوم وليس منهم قال ذلك ابن الأزرق الحروري وقال أما سمعت قول حسان زنيم تداعاه الرجال البيت وقد أنشد ابن هشام هذا البيت مستشهدا به ونسبه للخطيم التميمي، والأعرف أنه لحسان كما قال ابن عباس، وأما العتل فهو الغليظ الجافي من <147> قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان 47]. وقال عليه السلام "أنا أنبئكم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر جماع مناع"

(3/197)


وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل من ذلك عدو الله عقبة بن أبي معيط لعنه الله. فأنزل الله تعالى فيهما: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} إلى قوله تعالى: {لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 - 29].
ومشى أبي بن خلف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعظم بال قد ارفت فقال يا محمد أنت تزعم أن يبعث هذا بعد ما أرم ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك الله النار". فأنزل الله تعالى فيه {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 79، 80].
سبب نزول سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن
ـــــــ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
فصل : وذكر قولهم الذي أنزل الله فيه {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخرها فقال {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] أي في الحال {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون:4] أي في المستقبل وكذلك {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:5] فإن قيل كيف يقول لهم {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وهم قد قالوا: هلم فلنعبد ربك، وتعبد ربنا، كيف نفى عنهم ما أرادوا وعزموا عليه ؟ فالجواب من وجهين أحدهما: أنه علم أنهم لا يفعلون فأخبر بما علم. الثاني: أنهم لو عبدوه على الوجه الذي قالوه ما كانت عبادة ولا يسمى عابدا لله من عبده سنة وعبد غيره أخرى، فإن قيل كيف قال {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون:5] ولم يقل من أعبد وقد قال أهل العربية إن ما تقع على ما لا

(3/198)


المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه وإن كان ما نعبد خير مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه
ـــــــ
يعقل فكيف عبر بها عن الباري تعالى ؟ فالجواب أنا قد ذكرنا فيما قبل أن ما قد تقع على من يعقل بقرينة فهذا أوان ذكرها، وتلك القرينة الإبهام والمبالغة في التعظيم والتفخيم وهي في معنى الإبهام لأن من جلت عظمته حتى خرجت عن الحصر، وعجزت الأفهام عن كنه ذاته وجب أن يقال فيه هو ما هو كقول العرب: سبحان ما سبح الرعد بحمده ومنه قوله {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] فليس كونه عالما مما يوجب له من التعظيم ما يوجب له أنه بنى السموات ودحا الأرض فكان المعنى: إن شيئا بناها لعظيم أو ما أعظمه من شيء فلفظ ما في هذا الموضع يؤذن بالتعجب من عظمته كائنا ما كان هذا الفاعل لهذا، فما أعظمه وكذلك قوله تعالى في قصة آدم: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولم يقل لمن خلقت، وهو يعقل لأن السجود لم يجب له من حيث كان يعقل ولا من حيث كان لا يعقل ولكن من حيث أمروا بالسجود له فكائنا ما كان ذلك المخلوق فقد وجب عليهم ما أمروا به فمن هاهنا حسنت ما في هذا الموضع لا من جهة التعظيم له ولكن من جهة ما يقتضيه الأمر من السجود له فكائنا من كان وأما قوله تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] فواقعة على ما لا يعقل لأنهم كانوا يعبدون الأصنام وقوله {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] اقتضاها الإبهام وتعظيم المعبود مع أن الحس منهم مانع لهم أن يعبدوا معبوده كائنا ما كان فحسنت ما في هذا الموضع لهذه الوجوه فبهذه القرائن يحسن وقوع ما على أولي العلم وبقيت نكتة بديعة يتعين التنبيه عليها، وهو قوله تعالى: { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون:4]

(3/199)


فأنزل الله تعالى فيهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون 1 - 6]. <149> أي إن كنتم لا تعبدون إلا الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لي بذلك منكم لكم دينكم جميعا، ولي ديني.
ـــــــ
بلفظ الماضي، ثم قال: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:5] بلفظ المضارع في الآيتين جميعا، إذا أخبر عن نفسه قال ما أعبد ولم يقل ما عبدت، والنكتة في ذلك أن ما لما فيها من الإبهام - وإن كانت خبرية - تعطي معنى الشرط فكأنه قال مهما عبدتم شيئا، فإني لا أعبده والشرط يحول المستقبل إلى لفظ الماضي، تقول إذا قام زيد غدا فعلت كذا، <149> وإن خرج زيد غدا خرجت، فما: فيها رائحة الشرط من أجل إبهامها ; فلذلك جاء الفعل بعدها بلفظ الماضي، ولا يدخل الشرط على فعل الحال ولذلك قال في أول السورة ما تعبدون لأنه حال لأن رائحة الشرط معدومة فيها مع الحال وكذلك رائحة الشرط معدومة في قوله عابدون ما أعبد لأنه - عليه السلام - يستحيل أن يتحول عن عبادة ربه لأنه معصوم فلم يستقم تقديره بمهما، كما استقام ذلك في حقهم لأنهم في قبضة الشيطان يقودهم بأهوائهم فجائز أن يعبدوا اليوم شيئا، ويعبدوا غدا غيره ولكن مهما عبدوا شيئا، فالرسول عليه السلام لا يعبده فلذلك قال ولا أنتم عابدون ما أعبد في الحال وفي المآل لما علم من عصمة الله له ولما علم الله من ثباته على توحيده فلا مدخل لمعنى الشرط في حقه عليه السلام وإذا لم يدخل الشرط في الكلام بقي الفعل المستقبل على لفظه كما تراه ونظير هذه المسألة قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّا} [مريم:29] اضطربوا في إعرابها وتقديرها لما كانت من بمعنى الذي، وجاء بكان على لفظ الماضي، وفهمها الزجاج فأشار إلى أن من فيها طرف من معنى الشرط ولذلك جاءت كان بلفظ الماضي بعده فصار معنى الكلام من يكن صبيا، فكيف يكلم ؟ لما أشارت إلى الصبي أن كلموه ولو قالوا: كيف نكلم من هو في المهد الآن لكان الإنكار والتعجب مخصوصا به فلما قالوا: كيف نكلم من كان صار

(3/200)


أبو جهل وما أنزل الله فيه:
وأبو جهل بن هشام - لما ذكر الله عز وجل شجرة الزقوم تخويفا بها لهم قال يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد ؟ قالوا: لا، قال عجوة يثرب بالزبد والله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما. فأنزل الله تعالى فيه {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [الدخان 44 - 46]. أي ليس كما يقول.
قال ابن هشام: المهل كل شيء أذبته، من نحاس أو رصاص أو ما أشبه ذلك فيما أخبرني أبو عبيدة.
كيف فسر ابن مسعود المهل:
وبلغنا عن الحسن البصري أنه قال كان عبد الله بن مسعود واليا لعمر بن الخطاب على بيت مال الكوفة ، وأنه أمر يوما بفضة فأذيبت فجعلت تلون ألوانا، فقال هل بالباب من أحد ؟ قالوا: نعم قال فأدخلوهم فأدخلوا فقال إن أدنى ما أنتم راءون شبها بالمهل لهذا وقال الشاعر:
ـــــــ
الكلام أبلغ في الاحتجاج للعموم الداخل فيه. إلى هذا الغرض أشار أبو إسحاق وهو الذي أراد وإن لم يكن هذا لفظه فليس المقصود العبارات وإنما المقصود تصحيح المعاني المتلقاة من الألفاظ والإشارات.
الزقوم:
فصل : وذكر حديث أبي جهل حين ذكر شجرة الزقوم يقال إن هذه الكلمة لم تكن من لغة قريش، وأن رجلا أخبره أن أهل يثرب: يقولون تزقمت إذا أكلت التمر بالزبد فجعل بجهله اسم الزقوم من ذلك استهزاء وقيل إن هذا الاسم أصلا

(3/201)


يسقيه ربي حميم المهل يجرعه ... يشوي الوجوه فهو في بطنه صهر
ويقال إن المهل صديد الجسد.
استشهاد في تفسير {المهل} : بكلام لأبي بكر:
بلغنا أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما حضر أمر بثوبين لبيسين يغسلان فيكفن فيهما، فقالت له عائشة قد أغناك الله يا أبت عنهما، فاشتر كفنا، فقال إنما هي ساعة حتى يصير إلى المهل قال الشاعر:
شاب بالماء منه مهلا كريها ... ثم عل المنون بعد النهال
قال ابن إسحاق: فأنزل الله تعالى فيه {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء 60]
ابن مكتوم، ونزول سورة عبس:
ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وقد طمع
ـــــــ
في لغة اليمن ، وأن الزقوم عندهم كل ما يتقيأ منه. وذكر أبو حنيفة في النبات أن شجرة باليمن يقال لها: الزقوم لا ورق لها وفروعها أشبه شيء برءوس الحيات فهي كريهة المنظر وفي تفسير ابن سلام والماوردي أن شجرة الزقوم في الباب السادس من جهنم أعاذنا الله منها، وأن أهل النار ينحدرون إليها. قال ابن سلام وهي تحيا باللهب كما تحيا شجرة الدنيا بالمطر.
وقوله : {الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء 60] أي الملعون آكلها، وقيل بل هو وصف لها كما يقال يوم ملعون أي مشئوم.
حديث ابن أم مكتوم:
فصل : وذكر حديث ابن أم مكتوم، وذكر اسمه ونسبه. وأم مكتوم اسمها:

(3/202)


في إسلامه فبينا هو في ذلك إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن فشق ذلك منه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا، وتركه فأنزل الله تعالى فيه {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1-2] إلى قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13، 14] أي إنما بعثتك بشيرا ونذيرا، لم أخص بك أحدا دون أحد، فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصدين به لمن لا يريده.
ـــــــ
عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم.
وذكر الرجل الذي كان شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الوليد بن المغيرة، وقد قيل كان أمية بن خلف، وفي حديث الموطأ: عظيم من عظماء المشركين ولم يسمه وفي قوله سبحانه {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 2]من الفقه أن لا غيبة في ذكر الإنسان بما ظهر في خلقته من عمى أو عرج إلا أن يقصد به الازدراء فيلحق المأثم به لأنه من أفعال الجاهلين قال الله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة 67]. وفي ذكره إياه بالعمى من الحكمة والإشارة اللطيفة التنبيه على موضع العتب لأنه قال {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}فذكر المجيء مع العمى، وذلك ينبئ عن تجشم كلفة ومن تجشم القصد إليك على ضعفه فحقك الإقبال عليه لا الإعراض عنه فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتوبا على توليه عن الأعمى، فغيره أحق بالعتب مع أنه لم يكن آمن بعد ألا تراه يقول {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[ عبس:3] الآية ولو كان قد صح إيمانه وعلم ذلك منه لم يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو أعرض لكان العتب أشد والله أعلم وكذلك لم يكن ليخبر عنه ويسميه

(3/203)


قال ابن هشام: ابن أم مكتوم، أحد بني عامر بن لؤي، واسمه عبد الله ويقال عمرو.
ـــــــ
بالاسم المشتق من العمى، دون الاسم المشتق من الإيمان والإسلام لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك والله أعلم وإنما دخل فيه بعد نزول الآية ويدل على ذلك قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - استدنني يا محمد ولم يقل استدنني يا رسول الله مع أن ظاهر الكلام يدل على أن الهاء في {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} عائدة على الأعمى، لا على الكافر لأنه لم يتقدم له ذكر بعد ولعل تعطي الترجي والانتظار ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والانتظار للتزكي، والله أعلم.

(3/204)